أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية

ابن العربي

مقدمة الكتاب

[مُقَدِّمَة الْكتاب] . . . . الطَّبَرِيّ شَيْخ الدِّينِ فَجَاءَ فِيهِ بِالْعَجَبِ الْعُجَابِ، وَنَثَرَ فِيهِ أَلْبَابَ الْأَلْبَابِ، وَفَتَحَ فِيهِ لِكُلِّ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ إلَى مَعَارِفِهِ الْبَابَ؛ فَكُلُّ أَحَدٍ غَرَفَ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ إنَائِهِ، وَمَا نَقَصَتْ قَطْرَةٌ مِنْ مَائِهِ، وَأَعْظَمُ مَنْ انْتَقَى مِنْهُ الْأَحْكَامَ بَصِيرَةً: الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ، فَاسْتَخْرَجَ دُرَرَهَا، وَاسْتَحْلَبَ دِرَرَهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ غَيَّرَ أَسَانِيدَهَا لَقَدْ رَبَطَ مَعَاقِدَهَا، وَلَمْ يَأْتِ بَعْدَهُمَا مَنْ يَلْحَقُ بِهِمَا. وَلَمَّا مَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالِاسْتِبْصَارِ فِي اسْتِثَارَةِ الْعُلُومِ مِنْ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ حَسْبَ مَا مَهَّدَتْهُ لَنَا الْمَشْيَخَةُ الَّذِينَ لَقِينَا، نَظَرْنَاهَا مِنْ ذَلِكَ الْمَطْرَحِ، ثُمَّ عَرَضْنَاهَا عَلَى مَا جَلَبَهُ الْعُلَمَاءُ، وَسَبَرْنَاهَا بِعِيَارِ الْأَشْيَاخِ. فَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ النَّظَرُ أَثْبَتْنَاهُ، وَمَا تَعَارَضَ فِيهِ شَجَرْنَاهُ، وَشَحَذْنَاهُ حَتَّى خَلُصَ نُضَارُهُ وَوَرِقَ عِرَارُهُ. فَنَذْكُرُ الْآيَةَ، ثُمَّ نَعْطِفُ

عَلَى كَلِمَاتِهَا بَلْ حُرُوفِهَا، فَنَأْخُذُ بِمَعْرِفَتِهَا مُفْرَدَةً، ثُمَّ نُرَكِّبُهَا عَلَى أَخَوَاتِهَا مُضَافَةً، وَنَحْفَظُ فِي ذَلِكَ قِسْمَ الْبَلَاغَةِ، وَنَتَحَرَّزُ عَنْ الْمُنَاقَضَةِ فِي الْأَحْكَامِ وَالْمُعَارَضَةِ، وَنَحْتَاطُ عَلَى جَانِبِ اللُّغَةِ، وَنُقَابِلُهَا فِي الْقُرْآنِ بِمَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَنَتَحَرَّى وَجْهَ الْجَمِيعِ؛ إذْ الْكُلُّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا بُعِثَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ، وَنُعَقِّبُ عَلَى ذَلِكَ بِتَوَابِعَ لَا بُدَّ مِنْ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِهَا مِنْهَا، حِرْصًا عَلَى أَنْ يَأْتِيَ الْقَوْلُ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، إلَّا أَنْ يَخْرُجَ عَنْ الْبَابِ فَنُحِيلَ عَلَيْهِ فِي مَوْضُوعِهِ مُجَانِبِينَ لِلتَّقْصِيرِ وَالْإِكْثَارِ، وَبِمَشِيئَةِ اللَّهِ نَسْتَهْدِي، فَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي لَا رَبَّ غَيْرُهُ.

سورة الفاتحة فيها خمس آيات

[سُورَةُ الْفَاتِحَةِ فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم] ٍ الْآيَةُ الْأُولَى [قَوْله تَعَالَى]: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1]. اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّمْلِ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهَا فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَتْ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ بِآيَةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ اسْتِفْتَاحٌ لِيُعْلَمَ بِهَا مُبْتَدَؤُهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هِيَ آيَةٌ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ، قَوْلًا وَاحِدًا؛ وَهَلْ تَكُونُ آيَةً فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ؟ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ؛ فَأَمَّا الْقَدْرُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْخِلَافِ مِنْ قِسْمِ التَّوْحِيدِ وَالنَّظَرِ فِي الْقُرْآنِ وَطَرِيقِ إثْبَاتِهِ قُرْآنًا، وَوَجْهُ اخْتِلَافِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْهُ، فَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَأَشَرْنَا إلَى بَيَانِهِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَوَدِدْنَا أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ لَهُ فَفِيهَا إشْكَالٌ عَظِيمٌ. وَنَرْجُو أَنَّ النَّاظِرَ فِي كَلَامِنَا فِيهَا سَيَمْحِي عَنْ قَلْبِهِ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ سَدَلَ مِنْ إشْكَالٍ بِهِ.

فَائِدَةُ الْخِلَافِ: وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ يَقُولُ: إنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ، فَتَدْخُلُ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] فِي الْوُجُوبِ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ، أَوْ فِي الِاسْتِحْبَابِ [كَذَلِكَ]. وَيَكْفِيَك أَنَّهَا لَيْسَتْ بِقُرْآنٍ لِلِاخْتِلَافِ فِيهَا، وَالْقُرْآنُ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ، فَإِنَّ إنْكَارَ الْقُرْآنِ كُفْرٌ. فَإِنْ قِيلَ: وَلَوْ لَمْ تَكُنْ قُرْآنًا لَكَانَ مُدْخِلُهَا فِي الْقُرْآنِ كَافِرًا؛ قُلْنَا: الِاخْتِلَافُ فِيهَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ تَكُونَ آيَةً، وَيَمْنَعُ مِنْ تَكْفِيرِ مَنْ يَعُدُّهَا مِنْ الْقُرْآنِ؛ فَإِنَّ الْكُفْرَ لَا يَكُونُ إلَّا بِمُخَالَفَةِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فِي أَبْوَابِ الْعَقَائِدِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ تَجِبُ قِرَاءَتُهَا فِي الصَّلَاةِ؟ قُلْنَا: لَا تَجِبُ، فَإِنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَوَى «أَنَّهُ صَلَّى خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَقْرَأُ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] وَنَحْوَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ». فَإِنْ قِيلَ: الصَّحِيحُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: فَكَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَقْرَءُونَ شَيْئًا قَبْلَ الْفَاتِحَةِ. قُلْنَا: وَهَذَا يَكُونُ تَأْوِيلًا لَا يَلِيقُ بِالشَّافِعِيِّ لِعَظِيمِ فِقْهِهِ، وَأَنَسٍ وَابْنِ مُغَفَّلٍ إنَّمَا قَالَا هَذَا رَدًّا عَلَى مَنْ يَرَى قِرَاءَةَ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى جَمَاعَةٌ قِرَاءَتَهَا، وَقَدْ تَوَلَّى الدَّارَقُطْنِيُّ جَمِيعَ ذَلِكَ فِي جُزْءٍ صَحَّحَهُ. قُلْنَا: لَسْنَا نُنْكِرُ الرِّوَايَةَ، لَكِنَّ مَذْهَبَنَا يَتَرَجَّحُ بِأَنَّ أَحَادِيثَنَا؛ وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ فَإِنَّهَا أَصَحُّ، وَبِوَجْهٍ عَظِيمٍ وَهُوَ الْمَعْقُولُ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ الشَّرِيعَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

مسألة لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب

بِالْمَدِينَةِ انْقَضَتْ عَلَيْهِ الْعُصُورُ، وَمَرَّتْ عَلَيْهِ الْأَزْمِنَةُ مِنْ لَدُنْ زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى زَمَانِ مَالِكٍ، وَلَمْ يَقْرَأْ أَحَدٌ [قَطُّ] فِيهِ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ. بَيْدَ أَنَّ أَصْحَابَنَا اسْتَحَبُّوا قِرَاءَتَهَا فِي النَّفْلِ، وَعَلَيْهِ تُحْمَلُ الْآثَارُ الْوَارِدَةُ فِي قِرَاءَتِهَا. [مَسْأَلَةٌ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ يَقُولُ الْعَبْدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي يَقُولُ الْعَبْدُ: الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي يَقُولُ الْعَبْدُ: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يَقُولُ تَعَالَى: مَجَّدَنِي عَبْدِي يَقُولُ الْعَبْدُ: إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ يَقُولُ الْعَبْدُ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ يَقُولُ اللَّهُ: فَهَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ». فَقَدْ تَوَلَّى سُبْحَانَهُ قِسْمَةَ الْقُرْآنِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَبْدِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَلَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَهَذَا دَلِيلٌ قَوِيٌّ، مَعَ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ».

الآية الثانية الحمد لله رب العالمين والثالثة إياك نعبد وإياك نستعين

وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ ثَلَاثًا غَيْرَ تَمَامٍ». [الْآيَة الثَّانِيَة الْحَمْد لِلَّهِ رَبّ العالمين وَالثَّالِثَة إيَّاكَ نَعْبُد وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين] الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] اعْلَمُوا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ الْمُشْكِلَاتِ أَنَّ الْبَارِئَ تَعَالَى حَمِدَ نَفْسَهُ، وَافْتَتَحَ بِحَمْدِهِ كِتَابَهُ، وَلَمْ يَأْذَنْ فِي ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، بَلْ نَهَاهُمْ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ، فَقَالَ: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32] وَمَنَعَ بَعْضَ النَّاسِ مِنْ أَنْ يَسْمَعَ مَدْحَ بَعْضٍ لَهُ، أَوْ يَرْكَنَ إلَيْهِ، وَأَمَرَهُمْ بِرَدِّ ذَلِكَ، وَقَالَ: «اُحْثُوا فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ التُّرَابَ» رَوَاهُ الْمِقْدَادُ وَغَيْرُهُ.

وَكَأَنَّ فِي مَدْحِ اللَّهِ لِنَفْسِهِ وَحَمْدِهِ لَهَا وُجُوهًا مِنْهَا ثَلَاثٌ أُمَّهَاتٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَّمَنَا كَيْفَ نَحْمَدُهُ، وَكَلَّفَنَا حَمْدَهُ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ لَنَا سَبِيلٌ إلَيْهِ إلَّا بِهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ مَعْنَاهُ: قُولُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَيَكُونُ فَائِدَةُ ذَلِكَ التَّكْلِيفَ لَنَا، وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِنَصْبِ الدَّالِ فِي الشَّاذِّ. الثَّالِثُ: أَنَّ مَدْحَ النَّفْسِ إنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ لِمَا يُدْخِلُ عَلَيْهَا مِنْ الْعُجْبِ بِهَا، وَالتَّكَثُّرِ عَلَى الْخَلْقِ مِنْ أَجْلِهَا، فَاقْتَضَى ذَلِكَ الِاخْتِصَاصَ بِمَنْ يَلْحَقُهُ التَّغَيُّرُ، وَلَا يَجُوزُ مِنْهُ التَّكَثُّرُ، وَهُوَ الْمَخْلُوقُ، وَوَجَبَ ذَلِكَ لِلْخَالِقِ؛ لِأَنَّهُ أَهْلُ الْحَمْدِ. وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ، وَالْفَائِدَةُ الْمَقْصُودَةُ. الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَسْنَدْنَا لَكُمْ، «أَنَّهُ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ، أَنْزَلْتُ عَلَيْكَ سَبْعًا، ثَلَاثًا لِي وَثَلَاثًا لَك، وَوَاحِدَةً بَيْنِي وَبَيْنَك؛ فَأَمَّا الثَّلَاثُ الَّتِي لِي: فَ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] وَأَمَّا الثَّلَاثُ الَّتِي لَك فَ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] وَأَمَّا الْوَاحِدَةُ الَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَك فَ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]» يَعْنِي: مِنْ الْعَبْدِ الْعِبَادَةَ، وَمِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ الْعَوْنَ.

مسألة أقوال العلماء في قراءة المأموم الفاتحة

[مَسْأَلَةٌ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ الْفَاتِحَةَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ الْفَاتِحَةَ: قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ يَقْرَؤُهَا، وَإِنْ لَمْ يَقْرَأْهَا فَلَيْسَ لَهُ حَظٌّ فِي الصَّلَاةِ لِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ. وَلِعُلَمَائِنَا فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: يَقْرَؤُهَا إذَا أَسَرَّ خَاصَّةً قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَأَشْهَبُ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: لَا يَقْرَأُ. الثَّالِثُ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: يَقْرَؤُهَا خَلْفَ الْإِمَامِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَجْزَأَهُ، كَأَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا، وَالْمَسْأَلَةُ عَظِيمَةُ الْخَطَرِ، وَقَدْ أَمْضَيْنَا الْقَوْلَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ فِي دَلَائِلِهَا بِمَا فِيهِ غُنْيَةً. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي وُجُوبُ قِرَاءَتِهَا فِيمَا يُسِرُّ وَتَحْرِيمُهَا فِيمَا جَهَرَ إذَا سَمِعَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ، لِمَا عَلَيْهِ مِنْ فَرْضِ الْإِنْصَاتِ لَهُ، وَالِاسْتِمَاعِ لِقِرَاءَتِهِ؛ فَإِنْ كَانَ عَنْهُ فِي مَقَامٍ بَعِيدٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ صَلَاةِ السِّرِّ؛ لِأَنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقِرَاءَتِهَا عَامٌّ فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَحَالَةٍ، وَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ حَالَةَ الْجَهْرِ بِوُجُوبِ فَرْضِ الْإِنْصَاتِ، وَبَقِيَ الْعُمُومُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهَذِهِ نِهَايَةُ التَّحْقِيقِ فِي الْبَابِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الرَّابِعَة وَالْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ إِلَخْ] الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي عَدَدِ آيَاتِهَا: لَا خِلَافَ أَنَّ الْفَاتِحَةَ سَبْعُ آيَاتٍ، فَإِذَا عَدَدْتَ فِيهَا {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] آيَةً اطَّرَدَ الْعَدَدُ، وَإِذَا أَسْقَطْتهَا تَبَيَّنَ تَفْصِيلُ الْعَدَدِ فِيهَا. قُلْنَا: إنَّمَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أَهْلِ الْعَدَدِ فِي قَوْلِهِ: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] هَلْ هُوَ خَاتِمَةُ

مسألة التأمين خلف الإمام

آيَةٍ أَوْ نِصْفُ آيَةٍ؟ وَيُرَكَّبُ هَذَا الْخِلَافُ فِي عَدِّ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] وَالصَّحِيحُ أَنَّ قَوْلَهُ: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] خَاتِمَةُ آيَةٍ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ تَامٌّ مُسْتَوْفًى، فَإِنْ قِيلَ: فَلَيْسَ بِمُقَفًّى عَلَى نَحْوِ الْآيَاتِ [قَبْلَهُ] قُلْنَا: هَذَا غَيْرُ لَازِمٍ فِي تَعْدَادِ الْآيِ، وَاعْتَبِرْهُ بِجَمِيعِ سُوَرِ الْقُرْآنِ وَآيَاتِهِ تَجِدْهُ صَحِيحًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا قُلْنَا [مَسْأَلَةٌ التَّأْمِينُ خَلْفَ الْإِمَامِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: التَّأْمِينُ خَلْفَ الْإِمَامِ: ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا قَالَ الْإِمَامُ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فَقُولُوا: آمِينَ؛ فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». فَتَرْتِيبُ الْمَغْفِرَةِ لِلذَّنْبِ عَلَى أَرْبَعِ مُقَدِّمَاتٍ ذَكَرَ مِنْهَا ثَلَاثًا، وَأَمْسَكَ عَنْ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَهَا يَدُلُّ عَلَيْهَا:

مسألة الخلاف في قول آمين بعد الفاتحة

الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: تَأْمِينُ الْإِمَامِ. الثَّانِيَةُ: تَأْمِينُ مَنْ خَلْفَهُ. الثَّالِثَةُ: تَأْمِينُ الْمَلَائِكَةِ. الرَّابِعَةُ: مُوَافَقَةُ التَّأْمِينِ. فَعَلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ الْأَرْبَعِ تَتَرَتَّبُ الْمَغْفِرَةُ. وَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَنْ الثَّالِثَةِ اخْتِصَارًا لِاقْتِضَاءِ الرَّابِعَةِ لَهَا فَصَاحَةً؛ وَذَلِكَ يَكُونُ فِي الْبَيَانِ لِلِاسْتِرْشَادِ وَالْإِرْشَادِ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ مَعَ جَدَلِ أَهْلِ الْعِنَادِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. [مَسْأَلَةٌ الْخِلَاف فِي قَوْل آمِينَ بَعْد الْفَاتِحَة] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اُخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ: (آمِينَ)، فَقِيلَ: هُوَ عَلَى وَزْنِ فَاعِيلٍ، كَقَوْلِهِ: يَا مِينَ، وَقِيلَ فِيهِ: أَمِينٌ عَلَى وَزْنِ يَمِينٍ؛ الْأُولَى مَمْدُودَةٌ، وَالثَّانِيَةُ مَقْصُورَةٌ، وَكِلَاهُمَا لُغَةٌ، وَالْقَصْرُ أَفْصَحُ وَأَخْصَرُ، وَعَلَيْهَا مِنْ الْخَلْقِ الْأَكْثَرُ. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى لَفْظِ آمِينَ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَعْنَى لَفْظِ آمِينَ: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ: وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قِيلَ: إنَّهَا اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَصِحُّ نَقْلُهُ وَلَا ثَبَتَ قَوْلُهُ. الثَّانِي: قِيلَ مَعْنَاهُ اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ، وُضِعَتْ مَوْضِعَ الدُّعَاءِ اخْتِصَارًا. الثَّالِثُ: قِيلَ مَعْنَاهُ كَذَلِكَ يَكُونُ، وَالْأَوْسَطُ أَصَحُّ وَأَوْسَطُ. [مَسْأَلَةٌ مَا حَسَدَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ عَلَى شَيْءٍ كَمَا حَسَدُوكُمْ عَلَى قَوْلِكُمْ آمِينَ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: هَذِهِ كَلِمَةٌ لَمْ تَكُنْ لِمَنْ قَبْلَنَا، خَصَّنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهَا، فِي الْأَثَرِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: " مَا حَسَدَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ عَلَى شَيْءٍ كَمَا حَسَدُوكُمْ عَلَى قَوْلِكُمْ: آمِينَ ".

مسألة تأمين المصلي

[مَسْأَلَةٌ تَأْمِينُ الْمُصَلِّي] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: تَأْمِينُ الْمُصَلِّي: فِي تَأْمِينِ الْمُصَلِّي، وَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ إمَامًا أَوْ مَأْمُومًا أَوْ مُنْفَرِدًا، فَأَمَّا الْمُنْفَرِدُ فَإِنَّهُ يُؤَمِّنُ اتِّفَاقًا. وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَإِنَّهُ يُؤَمِّنُ فِي صَلَاةِ السِّرِّ لِنَفْسِهِ إذَا أَكْمَلَ قِرَاءَتَهُ، وَفِي صَلَاةِ الْجَهْرِ إذَا أَكْمَلَ الْقِرَاءَةَ إمَامُهُ يُؤَمِّنُ. وَأَمَّا الْإِمَامُ فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُؤَمِّنُ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ عِنْدَهُ إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ: إذَا بَلَغَ مَكَانَ التَّأْمِينِ، كَقَوْلِهِمْ: أَنْجَدَ الرَّجُلُ إذَا بَلَغَ نَجْدًا، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يُؤَمِّنُ. قَالَ ابْنُ بُكَيْر: هُوَ بِالْخِيَارِ، فَإِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: يُؤَمِّنُ الْمَأْمُومُ جَهْرًا، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ حَبِيبٍ يَقُولَانِ: يُؤَمِّنُ سِرًّا. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي تَأْمِينُ الْإِمَامِ جَهْرًا؛ فَإِنَّ ابْنَ شِهَابٍ قَالَ: «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ آمِينَ»، خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا. وَفِي الْبُخَارِيِّ: «حَتَّى إنَّ لِلْمَسْجِدِ لَلَجَّةً مِنْ قَوْلِ النَّاسِ آمِينَ». وَفِي كِتَابِ التِّرْمِذِيِّ: «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ آمِينَ، حَتَّى يُسْمَعَ مِنْ الصَّفِّ»، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرُوِيَ عَنْ وَائِلِ بْنِ الْأَوْزَاعِيِّ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ قَالَ: آمِينَ، يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ».

مسألة فضل الفاتحة

[مَسْأَلَةٌ فَضْلُ الْفَاتِحَةِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فَضْلُ الْفَاتِحَةِ: لَيْسَ فِي أُمِّ الْقُرْآنِ حَدِيثٌ يَدُلُّ عَلَى فَضْلِهَا إلَّا حَدِيثَانِ: أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ: «قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ». الثَّانِي: حَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: «لَأُعَلِّمَنَّك سُورَةً مَا أُنْزِلَ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا». وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ فِي فَضْلِ سُورَةٍ إلَّا قَلِيلٌ سَنُشِيرُ إلَيْهِ، وَبَاقِيهَا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْكُمْ أَنْ يَلْتَفِتَ إلَيْهَا.

سورة البقرة وفيها تسعون آية

[سُورَة الْبَقَرَةِ وَفِيهَا تِسْعُونَ آيَةً] [الْآيَةُ الْأُولَى الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ] سُورَة الْبَقَرَةِ اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ عُلَمَاءَنَا قَالُوا: إنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ أَعْظَمِ سُوَرِ الْقُرْآنِ؛ سَمِعْتُ بَعْضَ أَشْيَاخِي يَقُولُ: فِيهَا أَلْفُ أَمْرٍ، وَأَلْفُ نَهْيٍ، وَأَلْفُ حُكْمٍ، وَأَلْفُ خَبَرٍ، وَلِعَظِيمِ فِقْهِهَا أَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ثَمَانِي سِنِينَ فِي تَعَلُّمِهَا، وَقَدْ أَوْرَدْنَا ذَلِكَ عَلَيْكُمْ مَشْرُوحًا فِي الْكِتَابِ الْكَبِيرِ فِي أَعْوَامٍ، وَلَيْسَ فِي فَضْلِهَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ إلَّا مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ وَإِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ لَا يَدْخُلُهُ شَيْطَانٌ» خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَعَدَمُ الْهُدَى وَضَعْفُ الْقُوَى وَكَلَبُ الزَّمَانِ عَلَى الْخَلْقِ بِتَعْطِيلِهِمْ وَصَرْفِهِمْ عَنْ الْحَقِّ، وَاَلَّذِي حَضَرَ الْآنَ مِنْ أَحْكَامِهَا فِي هَذَا الْمَجْمُوعِ تِسْعُونَ آيَةً: الْآيَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: {يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 3]: قَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَمِنْهَا تُؤْخَذُ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حَقِيقَةُ الْغَيْبِ وَاخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ: قَوْلُهُ: {بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3]. وَحَقِيقَتُهُ مَا غَابَ عَنْ الْحَوَاسِّ مِمَّا لَا يُوصَلُ إلَيْهِ إلَّا بِالْخَبَرِ دُونَ النَّظَرِ، فَافْهَمُوهُ.

الآية الثانية قوله تعالى ويقيمون الصلاة

وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلِ: مَا ذَكَرْنَاهُ كَوُجُوبِ الْبَعْثِ، وَوُجُودِ الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا وَعَذَابِهَا وَالْحِسَابِ. الثَّانِي: بِالْقَدَرِ. الثَّالِثِ: بِاَللَّهِ تَعَالَى. الرَّابِعِ: يُؤْمِنُونَ بِقُلُوبِهِمْ الْغَائِبَةِ عَنْ الْخَلْقِ لَا بِأَلْسِنَتِهِمْ الَّتِي يُشَاهِدُهَا النَّاسُ، مَعْنَاهُ: لَيْسُوا بِمُنَافِقِينَ، وَكُلُّهَا قَوِيَّةٌ إلَّا الثَّانِي وَالثَّالِثَ فَإِنَّهُ يُدْرَكُ بِصَحِيحِ النَّظَرِ، فَلَا يَكُونُ غَيْبًا حَقِيقَةً، وَهَذَا الْأَوْسَطُ، وَإِنْ كَانَ عَامًّا فَإِنَّ مَخْرَجَهُ عَلَى الْخُصُوصِ. وَالْأَقْوَى هُوَ الْأَوَّلُ؛ أَنَّهُ الْغَيْبُ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِمَّا لَا تَهْتَدِي إلَيْهِ الْعُقُولُ، وَالْإِيمَانُ بِالْقُلُوبِ الْغَائِبَةِ عَنْ الْخَلْقِ، وَيَكُونُ مَوْضِعُ الْمَجْرُورِ عَلَى هَذَا رَفْعًا، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ نَصْبًا، كَقَوْلِك: مَرَرْت بِزَيْدٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ مُقَدَّرًا نَصْبًا، كَأَنَّهُ يَقُولُ: جَعَلْتُ قَلْبِي مَحَلًّا لِلْإِيمَانِ، وَذَلِكَ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ عَنْ الْخَلْقِ. وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي صَحِيحَةٌ لَا يُحْكَمُ لَهُ بِالْإِيمَانِ وَلَا بِحِمَى الذِّمَارِ، وَلَا يُوجِبُ لَهُ الِاحْتِرَامَ، إلَّا بِاجْتِمَاعِ هَذِهِ الثَّلَاثِ؛ فَإِنْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حُرْمَةٌ وَلَا يَسْتَحِقُّ عِصْمَةً. [الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ] َ} [البقرة: 3] فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فِي ذِكْرِ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ:

الآية الثالثة قوله تعالى ومما رزقناهم ينفقون

أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً عِنْدَهُمْ حَتَّى بَيَّنَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الثَّانِي: أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي مُتَنَاوَلِ الصَّلَاةِ حَتَّى خَصَّهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفِعْلِهِ الْمَعْلُومِ فِي الشَّرِيعَةِ. وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ عَرَبِيٍّ يَرِدُ مَوْرِدَ التَّكْلِيفِ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُجْمَلٌ مَوْقُوفٌ بَيَانُهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَحْدُودًا لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ اشْتِرَاكٌ؛ فَإِنْ تَطَرَّقَ إلَيْهِ اشْتِرَاكٌ، وَاسْتَأْثَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ بَيَانِهِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ طَلَبُ ذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى مُجْمَلِهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ، وَلَوْ فَرَضْنَا عَدَمَهُ لَارْتَفَعَ التَّكْلِيفُ بِهِ، وَذَلِكَ تَحَقَّقَ فِي مَوْضِعِهِ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي دُونِ هَذَا أَوْ مِثْلِهِ: " ثَلَاثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَهِدَ إلَيْنَا فِيهَا عَهْدًا نَنْتَهِي إلَيْهِ: الْجَدُّ، وَالْكَلَالَةُ، وَأَبْوَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا ". فَتَبَيَّنَ مِنْ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أُسْرِيَ بِهِ، وَفُرِضَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ، وَنَزَلَ سَحَرًا جَاءَهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عِنْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ فَصَلَّى بِهِ وَعَلَّمَهُ، ثُمَّ وَرَدَتْ الْآيَاتُ بِالْأَمْرِ بِهَا وَالْحَثِّ عَلَيْهَا؛ فَكَانَتْ وَارِدَةً بِمَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ، وَسَقَطَ مَا ظَنَّهُ هَؤُلَاءِ مِنْ الْمَوْهُومِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ {وَيُقِيمُونَ} [البقرة: 3]: فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: يُدِيمُونَ فِعْلَهَا فِي أَوْقَاتِهَا، مِنْ قَوْلِكَ: شَيْءٌ قَائِمٌ، أَيْ دَائِمٌ. وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ يُقِيمُونَهَا بِإِتْمَامِ أَرْكَانِهَا وَاسْتِيفَاءِ أَقْوَالِهَا وَأَفْعَالِهَا، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ عُمَرُ بِقَوْلِهِ: " مَنْ حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا حَفِظَ دِينَهُ، وَمَنْ ضَيَّعَهَا فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَضْيَعُ ". [الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ] َ} [البقرة: 3]

فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي اشْتِقَاقِ النَّفَقَةِ: وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِتْلَافِ، وَلِتَأْلِيفِ " نَفَقَ " فِي لِسَانِ الْعَرَبِ مَعَانٍ، أَصَحُّهَا الْإِتْلَافُ، وَهُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا، يُقَالُ نَفِقَ الزَّادُ يَنْفَقُ إذَا فَنِيَ، وَأَنْفَقَهُ صَاحِبُهُ: أَفْنَاهُ، وَأَنْفَقَ الْقَوْمُ: فَنِيَ زَادُهُمْ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ} [الإسراء: 100] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي وَجْهِ هَذَا الْإِتْلَافِ: وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا اتَّصَلَ بِالْمَدْحِ تَخَصَّصَ مِنْ إجْمَالِهِ جُمْلَةٌ. وَبَعْدَ ذَلِكَ التَّخْصِيصِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلِ: أَنَّهُ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ. الثَّالِثِ: صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ قَالَهُ الضَّحَّاكُ. الرَّابِعِ: أَنَّهُ وَفَاءُ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ الْعَارِضَةِ فِي الْمَالِ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ مَا عَدَا الزَّكَاةَ. الْخَامِسِ: أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِالزَّكَاةِ. التَّوْجِيهُ: أَمَّا وَجْهُ مَنْ قَالَ: " إنَّهُ الزَّكَاةُ " فَنَظَرَ إلَى أَنَّهُ قُرِنَ بِالصَّلَاةِ، وَالنَّفَقَةُ الْمُقْتَرِنَةُ [فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى] بِالصَّلَاةِ هِيَ الزَّكَاةُ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ النَّفَقَةُ عَلَى عِيَالِهِ فَلِأَنَّهُ أَفْضَلُ النَّفَقَةِ. رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: عِنْدِي دِينَارٌ: قَالَ: أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِك قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِكَ»، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَبَدَأَ بِالْأَهْلِ بَعْدَ النَّفْسِ.

وَفِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الصَّدَقَةَ عَلَى الْقَرَابَةِ صَدَقَةً وَصِلَةً» وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فَنَظَرَ إلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَأْتِي إلَّا بِلَفْظِهَا الْمُخْتَصِّ بِهَا، وَهُوَ الزَّكَاةُ، فَإِذَا جَاءَتْ بِلَفْظِ الصَّدَقَةِ احْتَمَلَتْ الْفَرْضَ وَالتَّطَوُّعَ، وَإِذَا جَاءَتْ بِلَفْظِ الْإِنْفَاقِ لَمْ يَكُنْ إلَّا التَّطَوُّعُ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ فِي الْحُقُوقِ الْعَارِضَةِ فِي الْأَمْوَالِ مَا عَدَا الزَّكَاةَ فَنَظَرَ إلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَرَنَهُ بِالصَّلَاةِ كَانَ فَرْضًا، وَلَمَّا عَدَلَ عَنْ لَفْظِهَا كَانَ فَرْضًا سِوَاهَا. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ مَنْسُوخٌ فَنَظَرَ إلَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ بِهَذَا الْوَجْهِ فَرْضًا سِوَى الزَّكَاةِ، وَجَاءَتْ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ فَنَسَخَتْ كُلَّ صَدَقَةٍ جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ، كَمَا نَسَخَ صَوْمُ رَمَضَانَ كُلَّ صَوْمٍ، وَنَسَخَتْ الصَّلَاةُ كُلَّ صَلَاةٍ. وَنَحْوُ هَذَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ التَّنْقِيحُ: إذَا تَأَمَّلَ اللَّبِيبُ الْمُنْصِفُ هَذِهِ التَّوْجِيهَاتِ تَحَقَّقَ أَنَّ الصَّحِيحَ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3]: كُلُّ غَيْبٍ أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَائِنٌ، وَقَوْلُهُ: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [البقرة: 3]: عَامٌّ فِي كُلِّ صَلَاةٍ فَرْضًا كَانَتْ أَوْ نَفْلًا. وَقَوْلُهُ: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] عَامٌّ فِي كُلِّ نَفَقَةٍ، وَلَيْسَ فِي قُوَّةِ هَذَا الْكَلَامِ الْقَضَاءُ بِفَرْضِيَّةِ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَإِنَّمَا عَلِمْنَا الْفَرْضِيَّةَ فِي الْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ وَالنَّفَقَةِ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ، وَهَذَا الْقَوْلُ بِمُطْلَقِهِ يَقْتَضِي مَدْحَ ذَلِكَ كُلِّهِ خَاصَّةً كَيْفَمَا كَانَتْ صِفَتُهُ.

الآية الرابعة قوله تعالى ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين

[الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ] َ} [البقرة: 8]. الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانُ، وَأَسَرُّوا الْكُفْرَ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ يَخْدَعُونَ اللَّهَ تَعَالَى، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوهُ، وَلَوْ عَرَفُوهُ لَعَرَفُوا أَنَّهُ لَا يُخْدَعُ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ. وَالْحُكْمُ الْمُسْتَفَادُ هَاهُنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقْتُلْ الْمُنَافِقِينَ مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ وَقِيَامِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ أَوْ عَلَى أَكْثَرِهِمْ. اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي سَبَبِ عَدَمِ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ حَالَهُمْ سِوَاهُ، وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْتُلُ بِعِلْمِهِ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ هَلْ يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ أَمْ لَا؟. الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُمْ لِمَصْلَحَةٍ وَتَأَلُّفِ الْقُلُوبِ عَلَيْهِ لِئَلَّا تَنْفِرَ عَنْهُ. وَقَدْ أَشَارَ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَقَالَ: «أَخَافُ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ». الثَّالِثُ: قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنَّمَا لَمْ يَقْتُلْهُمْ لِأَنَّ الزِّنْدِيقَ وَهُوَ الَّذِي يُسِرُّ الْكُفْرَ

وَيُظْهِرُ الْإِيمَانَ يُسْتَتَابُ وَلَا يُقْتَلُ. وَهَذَا وَهْمٌ مِنْ عُلَمَاءِ أَصْحَابِهِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْتَتِبْهُمْ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ: إنَّ اسْتِتَابَةَ الزِّنْدِيقِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ. وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعْرِضًا عَنْهُمْ، مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ، فَهَذَا الْمُتَأَخِّرُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الَّذِي قَالَ: إنَّ اسْتِتَابَةَ الزِّنْدِيقِ جَائِزَةٌ قَالَ مَا لَمْ يَصِحَّ قَوْلًا وَاحِدًا. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُمْ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِي الْحُدُودِ، فَقَدْ قَتَلَ بِالْمُجَذِّرِ بْنِ زِيَادٍ بِعِلْمِهِ الْحَارِثَ بْنَ سُوَيْد بْنِ الصَّامِتِ؛ لِأَنَّ الْمُجَذِّرَ قَتَلَ أَبَاهُ سُوَيْدًا يَوْمَ بُعَاثَ، فَأَسْلَمَ الْحَارِثُ، وَأَغْفَلَهُ يَوْمَ أُحُدٍ الْحَارِثُ فَقَتَلَهُ، فَأَخْبَرَ بِهِ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَتَلَهُ بِهِ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ كَانَ غِيلَةً، وَقَتْلُ الْغِيلَةِ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. الْقَوْلُ الصَّحِيحُ: وَالصَّحِيحُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا أَعْرَضَ عَنْهُمْ تَأَلُّفًا وَمَخَافَةً مِنْ سُوءِ الْمَقَالَةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّنْفِيرِ، كَمَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ. وَهَذَا كَمَا كَانَ يُعْطِي الصَّدَقَةَ لِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِسُوءِ اعْتِقَادِهِمْ تَأَلُّفًا لَهُمْ، أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَحْكَامَهُ عَلَى الْفَائِدَةِ الَّتِي سَنَّهَا إمْضَاءً لِقَضَايَاهُ بِالسُّنَّةِ الَّتِي لَا تَبْدِيلَ لَهَا.

الآية الخامسة قوله تعالى الذي جعل لكم الأرض فراشا

[الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ فِرَاشًا] } [البقرة: 22]. قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَوْ حَلَفَ رَجُلٌ لَا يَبِيتُ عَلَى فِرَاشٍ، وَلَا يَسْتَسْرِجُ سِرَاجًا، فَبَاتَ عَلَى الْأَرْضِ، وَجَلَسَ فِي الشَّمْسِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَرْجِعُ إلَيْهِمَا عُرْفًا. وَأَمَّا عُلَمَاؤُنَا فَبَنَوْهُ عَلَى أَصْلِهِمْ فِي الْأَيْمَانِ أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى النِّيَّةِ، أَوْ السَّبَبِ، أَوْ الْبِسَاطِ، الَّتِي جَرَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ، فَإِنْ عَدِمَ ذَلِكَ فَالْعُرْفُ، وَبَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى مُطْلَقِ اللَّفْظِ فِي اللُّغَةِ، وَذَلِكَ مُحَقَّقٌ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى». وَهَذَا عَامٌّ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ اجْتَمَعَتْ فِيهِ فَائِدَتَانِ:

الآية السادسة قوله تعالى هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا

إحْدَاهُمَا: تَأْسِيسُ الْقَاعِدَةِ. وَالثَّانِيَةُ: عُمُومُ اللَّفْظِ، فِي كُلِّ حُكْمٍ مَنْوِيٍّ. وَاَلَّذِي يَقُولُ إنَّهُ إنْ حَلَفَ أَلَّا يَفْتَرِشَ فِرَاشًا وَقَصَدَ بِيَمِينِهِ الِاضْطِجَاعَ، أَوْ حَلَفَ أَلَّا يَسْتَصْبِحَ، وَنَوَى أَلَّا يَنْضَافَ إلَى نُورِ عَيْنَيْهِ نُورٌ يَعْضُدُهُ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِافْتِرَاشِ الْأَرْضِ، وَالتَّنُّورِ بِالشَّمْسِ، وَهَذَا حُكْمٌ جَارٍ عَلَى الْأَصْلِ. [الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا] } [البقرة: 29]. لَمْ تَزَلْ هَذِهِ الْآيَةُ مَخْبُوءَةً تَحْتَ أَسْتَارِ الْمَعْرِفَةِ حَتَّى هَتَكَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِفَضْلِهِ لَنَا، وَقَدْ تَعَلَّقَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بِهَا فِي أَنَّ أَصْلَ الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ، إلَّا مَا قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ بِالْحَظْرِ، وَاغْتَرَّ بِهِ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ وَتَابَعَهُمْ عَلَيْهِ. وَقَدْ حَقَّقْنَاهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِمَا الْإِشَارَةُ إلَيْهِ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلِ: أَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا عَلَى الْحَظْرِ حَتَّى يَأْتِيَ دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ. الثَّانِي: أَنَّهَا كُلُّهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ حَتَّى يَأْتِيَ دَلِيلُ الْحَظْرِ. الثَّالِثِ: أَنْ لَا حُكْمَ لَهَا حَتَّى يَأْتِيَ الدَّلِيلُ بِأَيِّ حُكْمٍ اُقْتُضِيَ فِيهَا. وَاَلَّذِي يَقُولُ بِأَنَّ أَصْلَهَا إبَاحَةٌ أَوْ حَظْرٌ اخْتَلَفَ مَنْزَعُهُ فِي دَلِيلِ ذَلِكَ؛ فَبَعْضُهُمْ تَعَلَّقَ فِيهِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَعَلَّقَ بِالشَّرْعِ. وَاَلَّذِي يَقُولُ: إنَّ طَرِيقَ ذَلِكَ الشَّرْعُ قَالَ: الدَّلِيلُ عَلَى الْحُكْمِ بِالْإِبَاحَةِ قَوْله تَعَالَى:

{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] فَهَذَا سِيَاقُ الْقَوْلِ فِي الْمَسْأَلَةِ إلَى الْآيَةِ. فَأَمَّا سَائِرُ الْأَقْسَامِ الْمُقَدَّمَةِ فَقَدْ أَوْضَحْنَاهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَا حُكْمَ لِلْعَقْلِ، وَأَنَّ الْحُكْمَ لِلشَّرْعِ؛ وَلَكِنْ لَيْسَ لِهَذِهِ الْآيَةِ فِي الْإِبَاحَةِ وَدَلِيلِهَا مَدْخَلٌ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مُحَصِّلٌ. وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي مَعْرِضِ الدَّلَالَةِ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى طَرِيقِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَتَصْرِيفِ الْمَخْلُوقَاتِ بِمُقْتَضَى التَّقْدِيرِ وَالْإِتْقَانِ بِالْعِلْمِ وَجَرَيَانِهَا فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بِحُكْمِ الْإِرَادَةِ. وَعَاتَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْكُفَّارَ عَلَى جَهَالَتِهِمْ بِهَا، فَقَالَ: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت: 9] {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت: 10]. فَخَلْقُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْأَرْضَ، وَإِرْسَاؤُهَا بِالْجِبَالِ، وَوَضْعُ الْبَرَكَةِ فِيهَا، وَتَقْدِيرُ الْأَقْوَاتِ بِأَنْوَاعِ الثَّمَرَاتِ وَأَصْنَافِ النَّبَاتِ إنَّمَا كَانَ لِبَنِي آدَمَ؛ تَقْدِمَةً لِمَصَالِحِهِمْ، وَأُهْبَةً لِسَدِّ مَفَاقِرِهِمْ، فَكَانَ قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] مُقَابَلَةَ الْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ؛ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الْقُدْرَةِ الْمُهَيِّئَةِ لَهَا لِلْمَنْفَعَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَأَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ إنَّمَا هُوَ لِحَاجَةِ الْخَلْقِ؛ وَالْبَارِئُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْهُ مُتَفَضِّلٌ بِهِ. وَلَيْسَ فِي الْإِخْبَارِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ عَنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَا يَقْتَضِي حُكْمَ الْإِبَاحَةِ، وَلَا جَوَازَ التَّصَرُّفِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أُبِيحَ جَمِيعُهُ جَمِيعَهُمْ جُمْلَةً مَنْثُورَةَ النِّظَامِ لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى قَطْعِ الْوَصَائِلِ وَالْأَرْحَامِ، وَالتَّهَارُشِ فِي الْحُطَامِ.

الآية السابعة قوله تعالى وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات

وَقَدْ بَيَّنَ لَهُمْ طَرِيقَ الْمِلْكِ، وَشَرَحَ لَهُمْ مَوْرِدَ الِاخْتِصَاصِ، وَقَدْ اقْتَتَلُوا وَتَهَارَشُوا وَتَقَاطَعُوا؛ فَكَيْفَ لَوْ شَمَلَهُمْ التَّسَلُّطُ وَعَمَّهُمْ الِاسْتِرْسَالُ؛ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ إذَا سَمِعُوا هَذَا النِّدَاءَ أَنْ يَخِرُّوا سُجَّدًا؛ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى لِهَذِهِ الْحُرْمَةِ لِحَقِّ مَا ذَلِكَ مِنْ نِعَمِهِ، ثُمَّ يَتَوَكَّفُوا بَعْدَ ذَلِكَ سُؤَالَ وَجْهِ الِاخْتِصَاصِ لِكُلِّ وَاحِدٍ بِتِلْكَ الْمَنْفَعَةِ. وَنَظِيرُ هَذَا مِنْ الْمُتَعَارَفِ بَيْنَ الْخَلْقِ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ لِتَفْهِيمِ الْحَقِّ مَا قَالَ حَكِيمٌ لِبَنِيهِ: قَدْ أَعْدَدْت لَكُمْ مَا عِنْدِي مِنْ كُرَاعٍ وَسِلَاحٍ وَمَتَاعٍ وَعَرَضٍ وَقَرْضٍ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا لِتَسْلِيطِهِمْ عَلَيْهِ كَيْفَ شَاءُوا حَتَّى يَكُونَ مِنْهُ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ اخْتِصَاصِهِمْ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ، فَلَا يَصِلُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَيْهِ إلَّا بِتِبْيَانِ حَظِّهِ مِنْهُ وَتَعْيِينِ اخْتِصَاصِهِ بِهِ. [الْآيَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ] ِ} [البقرة: 25]. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الْبِشَارَةُ هِيَ: الْإِخْبَارُ عَنْ الْمَحْبُوبِ، وَالنِّذَارَةُ هِيَ: الْإِخْبَارُ بِالْمَكْرُوهِ، وَذَلِكَ فِي الْبِشَارَةِ يَقْتَضِي أَوَّلَ مُخْبِرٍ بِالْمَحْبُوبِ، وَيَقْتَضِي فِي النِّذَارَةِ كُلَّ مُخْبِرٍ.

الآية الثامنة قوله تعالى الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه

وَتَرَتَّبَ عَلَى هَذَا مَسْأَلَةٌ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِ الْمُكَلَّفِ: مَنْ بَشَّرَنِي مِنْ عَبِيدِي بِكَذَا فَهُوَ حُرٌّ. فَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ مُخْبِرٍ لَهُ بِهِ يَكُونُ عَتِيقًا دُونَ الثَّانِي. وَلَوْ قَالَ: مَنْ أَخْبَرَنِي مِنْ عَبِيدِي بِكَذَا فَهُوَ حُرٌّ، فَهَلْ يَكُونُ الثَّانِي مِثْلَ الْأَوَّلِ أَمْ لَا؟ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ؛ فَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: يَكُونُ حُرًّا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُخْبِرٌ. وَعِنْدَ عُلَمَائِنَا لَا يَكُونُ بِهِ حُرًّا؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ إنَّمَا قَصَدَ خَبَرًا يَكُونُ بِشَارَةً، وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالْأَوَّلِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ عُرْفًا، فَوَجَبَ صَرْفُ اللَّفْظِ إلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] فَاسْتَعْمَلَ الْبِشَارَةَ فِي الْمَكْرُوهِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ، وَبِحَسَبِ ذَلِكَ كَانَ نَظَرُهُمْ لِلْبُشْرَى، فَقِيلَ لَهُمْ: بِشَارَتُكُمْ عَلَى مُقْتَضَى اعْتِقَادِكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. فَخَرَجَ اللَّفْظُ عَلَى مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ مُحْسِنُونَ، وَبِحَسَبِ ذَلِكَ كَانَ نَظَرٌ لَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا} [الفرقان: 24] [الْآيَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ] ِ} [البقرة: 27] الْعَهْدُ عَلَى قِسْمَيْنِ:

الآية التاسعة قوله تعالى وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس

أَحَدِهِمَا: فِيهِ الْكَفَّارَةُ، وَالْآخَرُ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ، فَأَمَّا الَّذِي فِيهِ الْكَفَّارَةُ فَهُوَ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ عَلَى الِامْتِنَاعِ عَنْ الشَّيْءِ أَوْ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْعَهْدُ الثَّانِي: فَهُوَ الْعَقْدُ الَّذِي يَرْتَبِطُ بِهِ الْمُتَعَاقِدَانِ عَلَى وَجْهٍ يَجُوزُ فِي الشَّرِيعَةِ، وَيَلْزَمُ فِي الْحُكْمِ، إمَّا عَلَى الْخُصُوصِ بَيْنَهُمَا، وَإِمَّا عَلَى الْعُمُومِ عَلَى الْخَلْقِ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ حَلُّهُ، وَلَا يَحِلُّ نَقْضُهُ، وَلَا تَدْخُلُهُ كَفَّارَةٌ، وَهُوَ الَّذِي يُحْشَرُ نَاكِثُهُ غَادِرًا، يُنْصَبُ لَهُ لِوَاءٌ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ، يُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ. وَأَمَّا مَالِكٌ فَيَقُولُ: الْعَهْدُ بِالْيَمِينِ، لَمْ يَجُزْ حَلُّهُ؛ لِأَجْلِ الْعَقْدِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا} [النحل: 91] وَهَذَا مَا لَا اخْتِلَافَ فِيهِ. [الْآيَة التَّاسِعَة قَوْله تَعَالَى وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلَّا إبْلِيس] َ} [البقرة: 34] اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ السُّجُودَ لِآدَمَ لَمْ يَكُنْ سُجُودَ عِبَادَةٍ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا سَلَامُ الْأَعَاجِمِ بِالتَّكَفِّي وَالِانْحِنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ، وَإِمَّا وَضْعُهُ قِبْلَةً كَالسُّجُودِ لِلْكَعْبَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَهُوَ الْأَقْوَى؛ لِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29]. وَلَمْ يَكُنْ عَلَى مَعْنَى التَّعْظِيمِ؛ وَإِنَّمَا صَدَرَ عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ لِلْعِبَادَةِ، وَاِتِّخَاذِهِ قِبْلَةً، وَقَدْ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى جَمِيعَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ. [الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ قَوْله تَعَالَى وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ] َ} [البقرة: 35]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: جَاءَ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ أَنَّ إبْلِيسَ حَاوَلَ آدَمَ عَلَى أَكْلِهَا، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، وَحَاوَلَ حَوَّاءَ، فَخَدَعَهَا فَأَكَلَتْ فَلَمْ يُصِبْهَا مَكْرُوهٌ، فَجَاءَتْ آدَمَ فَقَالَتْ لَهُ: إنَّ الَّذِي تَكْرَهُ مِنْ الْأَكْلِ قَدْ أَتَيْته فَمَا نَالَنِي مَكْرُوهٌ. فَلَمَّا عَايَنَ ذَلِكَ آدَم اغْتَرَّ فَأَكَلَ، فَحَلَّتْ بِهِمَا النِّقْمَةُ وَالْعُقُوبَةُ، وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة: 35] فَجَمَعَهُمَا فِي النَّهْيِ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَنْزِلْ بِهِمَا الْعُقُوبَةُ حَتَّى وُجِدَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مِنْهُمَا جَمِيعًا. وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِزَوْجَتَيْهِ أَوْ أَمَتَيْهِ: إنْ دَخَلْتُمَا عَلَيَّ الدَّارَ فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ أَوْ حُرَّتَانِ أَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعِتْقَ لَا يَقَعُ بِدُخُولِ إحْدَاهُمَا. وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا تَطْلُقَانِ وَلَا تُعْتَقَانِ إلَّا بِاجْتِمَاعِهِمَا فِي الدَّارِ فِي الدُّخُولِ، حَمْلًا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَأَخْذًا بِمُقْتَضَى مُطْلَقِ اللَّفْظِ. وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: تُعْتَقَانِ جَمِيعًا، وَتَطْلُقَانِ جَمِيعًا بِوُجُودِ الدُّخُولِ مِنْ إحْدَاهُمَا؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْحِنْثِ حِنْثٌ، كَمَا لَوْ حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلَ هَذَيْنِ الرَّغِيفَيْنِ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِأَكْلِ أَحَدِهِمَا، بَلْ بِأَكْلِ لُقْمَةٍ مِنْهُمَا حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْمَسَائِلِ. وَقَالَ أَشْهَبُ: تُعْتَقُ وَتَطْلُقُ الَّتِي دَخَلَتْ وَحْدَهَا؛ لِأَنَّ دُخُولَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا شَرْطٌ فِي طَلَاقِهَا أَوْ عِتْقِهَا. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَوَّازِ فِيمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إنْ وَضَعْت فَأَنْتِ طَالِقٌ

مسألة كيف أكل آدم من الشجرة

وَهِيَ حَامِلٌ، فَوَضَعَتْ وَلَدًا، وَبَقِيَ فِي بَطْنِهَا آخَرُ: إنَّهَا لَا تَطْلُقُ حَتَّى تَضَعَ الْآخَرَ. وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: تَطْلُقُ بِوَضْعِ الْأَوَّلِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْيَمِينَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا نِيَّةٌ وَبِسَاطٌ يَقْتَضِي ذَلِكَ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَوْ بِسَاطٌ أَوْ نِيَّةٌ، فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ أَشْهَبَ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ عُلَمَائِنَا اخْتِلَافَ حَالٍ لَا اخْتِلَافَ قَوْلٍ؛ فَأَمَّا الْحُكْمُ بِطَلَاقِهِمَا أَوْ عِتْقِهِمَا مَعًا بِدُخُولِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَبَعِيدٌ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الشَّرْطِ لَا يَكُونُ شَرْطًا إجْمَاعًا، وَأَمَّا [الْحُكْمُ] بِالْحِنْثِ بِأَكْلِ بَعْضِ الرَّغِيفَيْنِ؛ فَلِأَنَّهُ مَحْلُوفٌ عَلَيْهِ، وَبَعْضُ الْحِنْثِ حِنْثٌ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الِاجْتِنَابَ الَّذِي عَقَدَهُ لَا يُوجَدُ مِنْهُ. [مَسْأَلَةٌ كَيْفَ أَكَلَ آدَم مِنْ الشَّجَرَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة: 35]: اخْتَلَفَ النَّاسُ كَيْفَ أَكَلَ آدَمُ مِنْ الشَّجَرَةِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلِ: أَنَّهُ أَكَلَهَا سَكْرَانَ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ. الثَّانِي: أَنَّهُ أَكَلَ مِنْ جِنْسِ الشَّجَرَةِ لَا مِنْ عَيْنِهَا، كَأَنَّ إبْلِيسَ غَرَّهُ بِالْأَخْذِ بِالظَّاهِرِ، وَهِيَ أَوَّلُ مَعْصِيَةٍ عَصَى اللَّهَ بِهَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَاجْتَنِبُوهُ؛ فَإِنَّ فِي اتِّبَاعِ الظَّاهِرِ عَلَى وَجْهِهِ هَدْمَ الشَّرِيعَةِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ، وَخُصُوصًا فِي كِتَابِ النَّوَاهِي عَنْ الدَّوَاهِي.

الثَّالِثِ: أَنَّهُ حَمَلَ النَّهْيَ عَلَى التَّنْزِيهِ دُونَ التَّحْرِيمِ. الرَّابِعِ: أَنَّهُ أَكَلَ مُتَأَوِّلًا؛ لِرَغْبَةِ الْخُلْدِ، وَلَا يَجُوزُ تَأْوِيلُ مَا يَعُودُ عَلَى الْمُتَأَوِّلِ بِالْإِسْقَاطِ. الْخَامِسِ: أَنَّهُ أَكَلَ نَاسِيًا. فَأَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ أَكَلَهَا سَكْرَانَ: فَتَعَلَّقَ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ فِي أَنَّ أَفْعَالَ السَّكْرَانِ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْأَحْكَامِ وَالْعُقُوبَاتِ، وَأَنَّهُ لَا يُعْذَرُ فِي فِعْلٍ؛ بَلْ يَلْزَمُهُ حُكْمُ كُلِّ فِعْلٍ، كَمَا يَلْزَمُ الصَّاحِي، كَمَا أَلْزَمَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ حُكْمَ الْخِلَافِ فِي الْمَعْصِيَةِ مَعَ السُّكْرِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي أَفْعَالِ السَّكْرَانِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ. الثَّانِي: أَنَّهَا لَغْوٌ. الثَّالِثِ: أَنَّ الْعُقُودَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ كَالنِّكَاحِ، وَأَنَّ الْحِلَّ مُعْتَبَرٌ كَالطَّلَاقِ، وَلِذَا إذَا أَكَلَ مِنْ جِنْسِهَا فَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلَ مِنْ هَذَا الْخُبْزِ فَأَكَلَ مِنْ جِنْسِهِ حَنِثَ. وَتَحْقِيقُ الْمَذَاهِبِ فِيهِ أَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ قَالُوا: لَا حِنْثَ عَلَيْهِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ: إنْ اقْتَضَى بِسَاطُ الْيَمِينِ تَعْيِينَ الْمُشَارِ إلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ جِنْسِهِ، وَإِنْ اقْتَضَى بِسَاطُ الْيَمِينِ أَوْ سَبَبُهَا أَوْ نِيَّتُهَا الْجِنْسَ حُمِلَ عَلَيْهِ، وَحَنِثَ بِأَكْلِ غَيْرِهِ، وَعَلَيْهِ حُمِلَتْ قِصَّةُ آدَمَ؛ فَإِنَّهُ نُهِيَ عَنْ شَجَرَةٍ عُيِّنَتْ لَهُ، وَأُرِيدَ بِهِ جِنْسُهَا، فَحَمَلَ الْقَوْلَ عَلَى اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي فَرْعٍ مِنْ هَذَا، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلَ هَذِهِ الْحِنْطَةَ فَأَكَلَ خُبْزًا مِنْهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: فَقَالَ فِي الْكِتَابِ: إنَّهُ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهَا هَكَذَا تُؤْكَلُ.

الآية الحادية عشرة قوله تعالى وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة

وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ حِنْطَةً، وَإِنَّمَا أَكَلَ خُبْزًا، فَرَاعَى الِاسْمَ وَالصِّفَةَ. وَلَوْ قَالَ فِي يَمِينِهِ: لَا آكُلُ مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ لَحَنِثَ بِأَكْلِ الْخُبْزِ الْمَعْمُولِ مِنْهَا. وَأَمَّا حَمْلُ النَّهْيِ عَلَى التَّنْزِيهِ فَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مَسْأَلَةً مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَوْضِعِهَا، فَقَدْ سَقَطَ ذَلِكَ هَاهُنَا فِيهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 35] فَقَرَنَ النَّهْيَ بِالْوَعِيدِ؛ وَلَا خِلَافَ مَعَ ذَلِكَ فِيهِ. وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لَهُ لَا تَأْكُلْهَا فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ، وَيَرْجُو أَنْ يَكُونَ مِنْ الْخَالِدِينَ؟ وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهُ أَكَلَهَا نَاسِيًا فَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ طَه إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. التَّنْقِيحُ: أَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ آدَمَ أَكَلَهَا سَكْرَانَ فَفَاسِدٌ نَقْلًا وَعَقْلًا: أَمَّا النَّقْلُ فَلِأَنَّ هَذَا لَمْ يَصِحَّ بِحَالٍ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّ الشَّجَرَةَ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا الْكَرْمُ "، فَكَيْفَ يُنْهَى عَنْهَا وَيُوقِعُهُ الشَّيْطَانُ فِيهَا، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ خَمْرَ الْجَنَّةِ بِأَنَّهَا لَا غَوْلٌ فِيهَا، فَكَيْفَ تُوصَفُ بِغَيْرِ صِفَتِهَا الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا عَنْهَا فِي الْقُرْآنِ. وَأَمَّا الْعَقْلُ؛ فَلِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ مُنَزَّهُونَ عَمَّا يُؤَدِّي إلَى الْإِخْلَالِ بِالْفَرَائِضِ وَاقْتِحَامِ الْجَرَائِمِ. وَأَمَّا سَائِرُ التَّوْجِيهَاتِ فَمُحْتَمَلَةٌ، وَأَظْهَرُهَا الثَّانِي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ] ِ} [الأعراف: 22]

رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا أَكَلَ آدَم مِنْ الشَّجَرَةِ سُلِخَ عَنْ كِسْوَتِهِ، وَخُلِعَ مِنْ وِلَايَتِهِ، وَحُطَّ عَنْ مَرْتَبَتِهِ، فَلَمَّا نَظَرَ إلَى سَوْأَتِهِ مُنْكَشِفَةً قَطَعَ الْوَرَقَ مِنْ الثِّمَارِ وَسَتَرَهَا، وَهَذَا هُوَ نَصُّ الْقُرْآنِ. وَفِي ذَلِكَ مَسْأَلَتَانِ: [الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى بِأَيِّ شَيْءٍ سَتَرَهَا؟]: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: سَتَرَهَا بِعَقْلِهِ حِينَ رَأَى ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ مُنْكَشِفًا، مِنْهُمْ: الْقَدَرِيَّةُ، وَبِهِ قَالَ أَقْضَى الْقُضَاةِ الْمَاوَرْدِيُّ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ سَتَرَهَا اسْتِمْرَارًا عَلَى عَادَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّمَا سَتَرَهَا بِأَمْرِ اللَّهِ. فَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ سَتَرَهَا بِعَقْلِهِ فَإِنَّهُ بَنَاهَا عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ يُوجِبُ وَيَحْظُرُ وَيُحَسِّنُ

وَيُقَبِّحُ، وَهُوَ جَهْلٌ عَظِيمٌ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَقَدْ وَهِيَ أَقْضَى الْقُضَاةِ فِي ذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَتَرَهَا مِنْ ذَاتِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوجِبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَيَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهُ سَتَرَهَا عَادَةً. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ سَتَرَهَا بِأَمْرِ اللَّهِ، فَذَلِكَ صَحِيحٌ لَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَّمَهُ الْأَسْمَاءَ وَعَرَّفَهُ الْأَحْكَامَ فِيهَا، وَأَسْجَلَ لَهُ بِالنُّبُوَّةِ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَحْكَامِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِمَّنْ سَتَرَهَا؟ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا أَهْلُهُ الَّذِينَ يَنْكَشِفُ عَلَيْهِمْ وَيَنْكَشِفُونَ عَلَيْهِ. ؟ وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ وُجُوبَ سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَأَحْكَامِهَا [وَمَحَلِّهَا]، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ آدَم سَتَرَهَا مِنْ زَوْجِهِ بِأَمْرٍ جَازِمٍ فِي شَرْعِهِ، أَوْ بِأَمْرِ نَدْبٍ، كَمَا هُوَ عِنْدَنَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا رَأَى سَتْرَهَا إلَّا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى كَشْفِهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ شَرْعِهِ أَنَّهُ لَا يَكْشِفُهَا إلَّا لِلْحَاجَةِ. وَيَجُوزُ أَنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِسَتْرِهَا فِي الْخَلْوَةِ، «وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَتْرِهَا فِي الْخَلْوَةِ، وَقَالَ: اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحَى مِنْهُ». وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ آدَمَ لَمْ يَأْتِ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا إلَّا بِأَمْرٍ مِنْ اللَّهِ لَا بِمُجَرَّدِ عَقْلٍ، إذْ قَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ اقْتِضَاءِ الْعَقْلِ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ.

الآية الثانية عشرة قوله تعالى وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين

[الْآيَة الثَّانِيَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ] َ} [البقرة: 43] كَانَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالرُّكُوعِ أَمْرٌ بِمَعْلُومٍ مُتَحَقِّقٍ سَابِقٍ لِلْفِعْلِ بِالْبَيَانِ، وَخَصَّ الرُّكُوعَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَثْقَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ فِعْلٍ. وَقِيلَ: إنَّهُ الِانْحِنَاءُ لُغَةً، وَذَلِكَ يَعُمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ ، وَقَدْ كَانَ الرُّكُوعُ أَثْقَلَ شَيْءٍ عَلَى الْقَوْمِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ مَنْ أَسْلَمَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَلَى أَلَّا أَخُرَّ إلَّا قَائِمًا، فَمَنْ تَأَوَّلَهُ: عَلَى أَلَّا أَرْكَعَ، فَلَمَّا تَمَكَّنَ الْإِسْلَامُ مِنْ قَلْبِهِ اطْمَأَنَّتْ بِذَلِكَ نَفْسُهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا أُمِرُوا بِالزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ فِي كُلِّ دِينٍ مِنْ الْأَدْيَانِ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 55] ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ مِقْدَارَ الْجُزْءِ الَّذِي يَلْزَمُ بَذْلُهُ مِنْ الْمَالِ. وَالزَّكَاةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ النَّمَاءِ، يُقَالُ: زَكَاةُ الزَّرْعِ إذَا نَمَا، وَمَأْخُوذَةٌ مِنْ الطَّهَارَةِ، يُقَالُ: زَكَاةُ الرَّجُلِ، إذَا تَطَهَّرَ عَنْ الدَّنَاءَاتِ. [الْآيَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ] ْ} [البقرة: 59] قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: قِيلَ لَهُمْ قُولُوا حِطَّةٌ، فَقَالُوا: سقماثاه أزه هَذَبًا، مَعْنَاهُ حَبَّةٌ مَقْلُوَّةٌ فِي شَعْرَةٍ مَرْبُوطَةٍ، اسْتِخْفَافًا مِنْهُمْ بِالدِّينِ وَمُعَانَدَةً لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْحَقِّ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْقُرْآنِ: إنَّ هَذَا الذَّمَّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَبْدِيلَ الْأَقْوَالِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا لَا يَجُوزُ.

وَهَذَا الْإِطْلَاقُ فِيهِ نَظَرٌ؛ وَسَبِيلُ التَّحْقِيقِ فِيهِ أَنْ نَقُولَ: إنَّ الْأَقْوَالَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا فِي الشَّرِيعَةِ لَا يَخْلُو أَنْ يَقَعَ التَّعَبُّدُ بِلَفْظِهَا، أَوْ يَقَعَ التَّعَبُّدُ بِمَعْنَاهَا، فَإِنْ كَانَ التَّعَبُّدُ وَقَعَ بِلَفْظِهَا فَلَا يَجُوزُ تَبْدِيلُهَا. وَإِنْ وَقَعَ التَّعَبُّدُ بِمَعْنَاهَا جَازَ تَبْدِيلُهَا بِمَا يُؤَدِّي ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَلَا يَجُوزُ تَبْدِيلُهَا بِمَا يَخْرُجُ عَنْهُ، وَلَكِنْ لَا تَبْدِيلَ إلَّا بِاجْتِهَادٍ. وَمِنْ الْمُسْتَقِلِّ بِالْمَعْنَى الْمُسْتَوْفِي لِذَلِكَ الْعَالِمِ بِأَنَّ اللَّفْظَيْنِ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ الْمَحْمُولُ عَلَيْهِ طِبْقُ الْمَعْنَى. وَبَنُو إسْرَائِيلَ قِيلَ لَهُمْ قُولُوا: حِطَّةٌ، أَيْ اللَّهُمَّ اُحْطُطْ عَنَّا ذُنُوبَنَا. فَقَالُوا اسْتِخْفَافًا: حَبَّةٌ مَقْلُوَّةٌ فِي شَعْرَةٍ [فَبَدَّلُوهُ بِمَا لَا يُعْطِي مَعْنَاهُ]. وَلَوْ بَدَّلُوهُ بِمَا لَا يُعْطَى مَعْنَاهُ جِدًّا لَمْ يَجُزْ؛ فَهَذَا أَعْظَمُ فِي الْبَاطِلِ وَهُوَ الْمَمْنُوعُ الْمَذْمُومُ مِنْهُمْ. وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَعْنَى نَقْلُ الْحَدِيثِ بِغَيْرِ لَفْظِهِ إذَا أَدَّى مَعْنَاهُ. وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ؛ فَالْمَرْوِيُّ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ جَوَازُهُ؛ قَالَ: لَيْسَ كُلُّ مَا أَخْبَرَنَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَنْقُلُهُ بِلَفْظِهِ؛ حَسْبُكُمْ الْمَعْنَى. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ؛ وَأَذْكُرُ لَكُمْ فِيهِ فَصْلًا بَدِيعًا؛ وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ إنَّمَا يَكُونُ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَمِنْهُمْ، وَأَمَّا مَنْ سِوَاهُمْ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ تَبْدِيلُ اللَّفْظِ بِالْمَعْنَى، وَإِنْ اسْتَوْفَى ذَلِكَ الْمَعْنَى؛ فَإِنَّا لَوْ جَوَّزْنَاهُ لِكُلِّ أَحَدٍ لَمَا كُنَّا عَلَى ثِقَةٍ مِنْ الْأَخْذِ بِالْحَدِيثِ؛ إذْ كُلُّ أَحَدٍ إلَى زَمَانِنَا هَذَا قَدْ بَدَّلَ مَا نَقَلَ، وَجَعَلَ الْحَرْفَ بَدَلَ الْحَرْفِ فِيمَا رَوَاهُ؛ فَيَكُونُ خُرُوجًا مِنْ الْإِخْبَارِ بِالْجُمْلَةِ. وَالصَّحَابَةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ اجْتَمَعَ فِيهِمْ أَمْرَانِ عَظِيمَانِ: أَحَدُهُمَا: الْفَصَاحَةُ وَالْبَلَاغَةُ؛ إذْ جِبِلَّتُهُمْ عَرَبِيَّةٌ، وَلُغَتُهُمْ سَلِيقَةٌ.

الآية الرابعة عشرة قوله تعالى إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة

وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ شَاهَدُوا قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلَهُ، فَأَفَادَتْهُمْ الْمُشَاهَدَةُ عَقْلَ الْمَعْنَى جُمْلَةً، وَاسْتِيفَاءَ الْمَقْصِدِ كُلِّهِ؛ وَلَيْسَ مَنْ أَخْبَرَ كَمَنْ عَايَنَ. أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ فِي كُلِّ حَدِيثٍ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَذَا، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كَذَا، وَلَا يَذْكُرُونَ لَفْظَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ خَبَرًا صَحِيحًا وَنَقْلًا لَازِمًا؛ وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَرِيبَ فِيهِ مُنْصِفٌ لِبَيَانِهِ. [الْآيَة الرَّابِعَة عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً] الْآيَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67] هَذِهِ الْآيَةُ عَظِيمَةُ الْمَوْقِعِ، مُشْكِلَةٌ فِي النَّظَرِ؛ لِتَعَلُّقِهَا بِالْأُصُولِ وَمِنْ الْفُرُوعِ بِالْكَلَامِ فِي الدَّمِ، وَفِي كُلِّ فَصْلٍ إشْكَالٌ، وَذَلِكَ يَنْحَصِرُ فِي خَمْسِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ ذَلِكَ: رُوِيَ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ كَانَ فِيهَا مَنْ قَتَلَ رَجُلًا غِيلَةً بِسَبَبٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ؛ وَطَرَحَهُ بَيْنَ قَوْمٍ، وَكَانَ قَرِيبُهُ، فَادَّعَى بِهِ عَلَيْهِمْ، تَرَافَعُوا إلَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ لَهُ الْقَاتِلُ: قَتَلَ قَرِيبِي هَذَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ، وَقَدْ وَجَدْتُهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَانْتَفُوا مِنْ ذَلِكَ، وَسَأَلُوا مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِرَغْبَةٍ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي تَبْيِينِ الْحَقِّ لَهُمْ؛ فَدَعَا مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَبَّهُ تَعَالَى؛ فَأَمَرَهُمْ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ وَأَخْذِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا يُضْرَبُ بِهِ الْمَيِّتُ فَيَحْيَا فَيُخْبِرُهُمْ بِقَاتِلِهِ؛ فَسَأَلُوا عَنْ أَوْصَافِهَا وَشَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ حَتَّى انْتَهَوْا إلَى صِفَتِهَا الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ، فَطَلَبُوا تِلْكَ الْبَقَرَةَ فَلَمْ يَجِدُوهَا إلَّا عِنْدَ رَجُلٍ بَرٍّ بِأَبَوَيْهِ أَوْ بِأَحَدِهِمَا؛ فَطَلَبَ مِنْهُمْ فِيهَا مِسْكَهَا مَمْلُوءًا ذَهَبًا، فَبَذَلُوهُ فِيهَا، فَاسْتَغْنَى ذَلِكَ الرَّجُلُ بَعْدَ فَقْرِهِ، وَذَبَحُوهَا فَضَرَبُوهُ بِبَعْضِهَا، فَقَالَ: فُلَانٌ قَتَلَنِي، لِقَاتِلِهِ.

مسألة الحديث عن بني إسرائيل

[مَسْأَلَةٌ الْحَدِيثِ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْحَدِيثِ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ: كَثُرَ اسْتِرْسَالُ الْعُلَمَاءِ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُمْ فِي كُلِّ طَرِيقٍ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ». وَمَعْنَى هَذَا [الْخَبَرِ] الْحَدِيثُ عَنْهُمْ بِمَا يُخْبِرُونَ [بِهِ] عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَقِصَصِهِمْ لَا بِمَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ أَخْبَارَهُمْ عَنْ غَيْرِهِمْ مُفْتَقِرَةٌ إلَى الْعَدَالَةِ وَالثُّبُوتِ إلَى مُنْتَهَى الْخَبَرِ، وَمَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ إقْرَارِ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ قَوْمِهِ؛ فَهُوَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ. وَإِذَا أَخْبَرُوا عَنْ شَرْعٍ لَمْ يَلْزَمْ قَوْلُهُ؛ فَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ «عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا أُمْسِكُ مُصْحَفًا قَدْ تَشَرَّمَتْ حَوَاشِيهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قُلْت: جُزْءٌ مِنْ التَّوْرَاةِ؛ فَغَضِبَ وَقَالَ: وَاَللَّهِ لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إلَّا اتِّبَاعِي». [مَسْأَلَةٌ هَلْ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ شَرْعٌ لَنَا حَتَّى يَثْبُتَ نَسْخُهُ أَمْ لَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَخْبَرَهُمْ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عَنْ حُكْمٍ جَرَى فِي زَمَنِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هَلْ يَلْزَمُنَا حُكْمُهُ أَمْ لَا؟:

اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ، وَالْمَسْأَلَةُ تُلَقَّبُ بِأَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ هَلْ هُوَ شَرْعٌ لَنَا حَتَّى يَثْبُتَ نَسْخُهُ أَمْ لَا؟ فِي ذَلِكَ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ شَرْعٌ لَنَا وَلِنَبِيِّنَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِالشَّرِيعَةِ مَعَنَا، وَبِهِ قَالَ طَوَائِفُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَقَوْمٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ؛ وَاخْتَارَهُ الْكَرْخِيُّ وَنَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ بُكَيْر الْقَاضِي مِنْ عُلَمَائِنَا. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: هُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ أُصُولُ مَالِكٍ وَمَنَازِعُهُ فِي كُتُبِهِ، وَإِلَيْهِ مَيْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. الثَّانِي: أَنَّ التَّعَبُّدَ وَقَعَ بِشَرْعِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. الثَّالِثُ: أَنَّا تَعَبَّدْنَا بِشَرْعِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. الرَّابِعُ: أَنَّا تَعَبَّدْنَا بِشَرْعِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. الْخَامِسُ: أَنَّا لَمْ نَتَعَبَّدْ بِشَرْعِ أَحَدٍ، وَلَا أُمِرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِلَّةِ بَشَرٍ، وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ. وَمَا مِنْ قَوْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ إلَّا وَقَدْ نَزَعَ فِيهِ بِآيَةٍ، وَتَلَا فِيهَا مِنْ الْقُرْآنِ حَرْفًا؛ وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الصَّحِيحَ الْقَوْلُ بِلُزُومِ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا لَنَا مِمَّا أَخْبَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُمْ دُونَ مَا وَصَلَ إلَيْنَا مِنْ غَيْرِهِ؛ لِفَسَادِ الطُّرُقِ إلَيْهِمْ؛ وَهَذَا هُوَ

مسألة القول بالقسامة

صَرِيحُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي أُصُولِهِ كُلِّهَا، وَسَتَرَاهَا مَوْرُودَةً بِالتَّبْيِينِ حَيْثُ تَصَفَّحْت الْمَسَائِلَ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا أَوْ غَيْرِهِ. وَنُكْتَةُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَنَا عَنْ قَصَصِ النَّبِيِّينَ، فَمَا كَانَ مِنْ آيَاتِ الِازْدِجَارِ وَذِكْرِ الِاعْتِبَارِ فَفَائِدَتُهُ الْوَعْظُ، وَمَا كَانَ مِنْ آيَاتِ الْأَحْكَامِ فَالْمُرَادُ بِهِ الِامْتِثَالُ لَهُ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] فَنَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ، وَبِهَذَا يَقَعُ الرَّدُّ عَلَى ابْنِ الْجُوَيْنِيِّ حَيْثُ قَالَ: إنَّ نَبِيَّنَا لَمْ يُسْمَعْ قَطُّ أَنَّهُ رَجَعَ إلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلَا بَاحَثَهُمْ عَنْ حُكْمٍ، وَلَا اسْتَفْهَمَهُمْ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لِفَسَادِ مَا عِنْدَهُمْ. أَمَّا الَّذِي نَزَلَ بِهِ عَلَيْهِ الْمَلَكُ فَهُوَ الْحَقُّ الْمُفِيدُ لِلْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَلَا مَعْنَى لَهُ غَيْرُهُ. [مَسْأَلَةٌ الْقَوْلِ بِالْقَسَامَةِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَمَّا ضَرَبَ بَنُو إسْرَائِيلَ الْمَيِّتَ بِتِلْكَ الْقِطْعَةِ مِنْ الْبَقَرَةِ قَالَ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ؛ فَتَعَيَّنَ قَتْلُهُ، وَقَدْ اسْتَدَلَّ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْقَسَامَةِ بِقَوْلِ الْمَقْتُولِ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ بِهَذَا، وَقَالَ مَالِكٌ: هَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ قَوْلَ الْمَيِّتِ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ مَقْبُولٌ وَيُقْسِمُ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: كَانَ هَذَا آيَةً وَمُعْجِزَةً عَلَى يَدِي مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبَنِي إسْرَائِيلَ

قُلْنَا: الْآيَةُ وَالْمُعْجِزَةُ إنَّمَا كَانَتْ فِي إحْيَاءِ الْمَيِّتِ، فَلَمَّا صَارَ حَيًّا كَانَ كَلَامُهُ كَسَائِرِ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ كُلِّهِمْ فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ، وَهَذَا فَنٌّ دَقِيقٌ مِنْ الْعِلْمِ لَا يَتَفَطَّنُ لَهُ إلَّا مَالِكٌ. وَلَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي كِتَابِ الْمُقْسِطِ فِي ذِكْرِ الْمُعْجِزَاتِ وَشُرُوطِهَا، فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّمَا قَتَلَهُ مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْآيَةِ. قُلْنَا: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ إذَا أَخْبَرَ وَجَبَ صِدْقُهُ، فَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِالْقَسَامَةِ مَعَهُ، أَوْ صَدَّقَهُ جِبْرِيلُ فَقَتَلَهُ مُوسَى بِعِلْمِهِ، كَمَا قَتَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَارِثَ بْنَ سُوَيْد، بِالْمُجَذِّرِ بْنِ زِيَادٍ بِإِخْبَارِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَهُ بِذَلِكَ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ كُبْرَى قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَوْضِعِهَا. وَرَوَى مُسْلِمٌ، وَفِي الْمُوَطَّإِ، وَغَيْرِهِ، «حَدِيثَ حُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ قَالَ فِيهِ: فَتَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَذَكَرَهُ إلَى قَوْلِهِ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ». وَفِي مُسْلِمٍ: «يَحْلِفُ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَيُدْفَعُ إلَيْكُمْ بِرُمَّتِهِ». وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ قَتَلَ رَجُلًا بِالْقَسَامَةِ مِنْ بَنِي نَصْرِ بْنِ مَالِكٍ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: نُسْخَةُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ

مسألة شددوا فشدد الله عليهم

أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ صَحِيحَةٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَاسْتَبْعَدَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، قَالُوا: كَيْفَ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الدَّمِ، وَهُوَ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي دِرْهَمٍ. وَإِنَّمَا تُسْتَحَقُّ بِالْقَسَامَةِ الدِّيَةُ، وَقَدْ أَحْكَمْنَا الْجَوَابَ وَالِاسْتِدْلَالَ فِي مَوْضِعِهِ، وَنُشِيرُ إلَيْهِ الْآنَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الَّتِي تَمْضِي وَتَرِدُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهَا، وَلَا تَنَاقُضَ فِيهَا، وَقَدْ تَلَوْنَا أَحَادِيثَهَا. الثَّانِي: أَنَّهُ مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يُقْبَلُ فِي دِرْهَمٍ قَدْ قُلْتُمْ: إنَّ قَتِيلَ الْمَحَلَّةِ يُقْسَمُ فِيهِ عَلَى الدِّيَةِ، وَلَيْسَ هُنَالِكَ قَوْلٌ لِأَحَدٍ، وَإِنَّمَا هِيَ حَالَةٌ مُحْتَمِلَةٌ لِلتَّأْوِيلِ وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، إذْ يَجُوزُ أَنْ يَقْتُلَهُ رَجُلٌ وَيَجْعَلَهُ عِنْدَ دَارِ آخَرَ؛ بَلْ هَذَا هُوَ الْغَالِبُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ، وَبَاقِي النَّظَرِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ مُسْتَطَرٌ. [مَسْأَلَةٌ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى حَصْرِ الْحَيَوَانِ [فِي الْمُعَيَّنِ] بِالصِّفَةِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ يَقُولُ: لَا يُحْصَرُ الْحَيَوَانُ بِصِفَةٍ وَلَا يَتَعَيَّنُ بِحِلْيَةٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ أَنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ لَمَّا قِيلَ لَهُمْ: اذْبَحُوا بَقَرَةً بَادَرُوا إلَى أَيِّ بَقَرَةٍ كَانَتْ فَذَبَحُوهَا لَأَجْزَأَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَامْتَثَلُوا مَا طُلِبَ، وَلَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَمَا زَالُوا يَسْأَلُونَ وَيُوصَفُ لَهُمْ حَتَّى تَعَيَّنَتْ. وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ، وَدَلِيلٌ مَلِيحٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

الآية الخامسة عشرة قوله تعالى واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان

[الْآيَة الْخَامِسَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ] الْآيَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة: 102] فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ فِي قَصَصِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ سُلَيْمَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا: الْجَرَادَةُ، تَكْرُمُ عَلَيْهِ وَيَهْوَاهَا، فَاخْتَصَمَ أَهْلُهَا مَعَ قَوْمٍ فَكَانَ صَغْوُ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَى أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ لِأَهْلِ الْجَرَادَةِ، فَعُوقِبَ، وَكَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الْخَلَاءَ أَوْ يَخْلُو بِإِحْدَى نِسَائِهِ أَعْطَاهَا خَاتَمَهُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ يَوْمًا فَأَلْقَى اللَّهُ تَعَالَى صُورَتَهُ عَلَى شَيْطَانٍ، فَجَاءَهَا فَأَخَذَ الْخَاتَمَ فَلَبِسَهُ، وَدَانَتْ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ لَهُ، وَجَاءَ سُلَيْمَانُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَعْدَ ذَلِكَ يَطْلُبُهُ، فَقَالَتْ: أَلَمْ تَأْخُذْهُ؟ فَعَلِمَ أَنَّهُ اُبْتُلِيَ، وَعَلِمَتْ الشَّيَاطِينُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُومُ لَهَا؛ فَاغْتَنَمَتْ الْفُرْصَةَ فَوَضَعَتْ أَوْضَاعًا مِنْ السِّحْرِ وَالْكُفْرِ وَفُنُونًا مِنْ النَّيْرَجَاتِ وَسَطَّرُوهَا فِي مَهَارِقَ، وَقَالُوا: هَذَا مَا كَتَبَ آصَفُ بْنُ بَرْخِيَا كَاتِبُ نَبِيِّ

اللَّهِ سُلَيْمَانَ، فَدَفَنُوهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ: وَعَادَ سُلَيْمَانُ إلَى حَالِهِ، وَاسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، فَقَالَتْ الشَّيَاطِينُ لِلنَّاسِ: إنَّمَا كَانَ سُلَيْمَانُ يَمْلِكُكُمْ بِأُمُورٍ أَكْثَرُهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، فِيهَا عُلُومٌ غَرِيبَةٌ؛ فَدُونَكُمْ فَاحْتَفِرُوا عَلَيْهَا، فَفَعَلُوا وَاسْتَثَارُوهَا، فَنَفَذَ عَلَيْهِمْ الْقَضَاءُ فَصَارَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَتَنَاقَلَتْهُ الْكَفَرَةُ وَالْفَلَاسِفَةُ عَنْهُمْ حَتَّى وَصَلَ ذَلِكَ إلَى يَهُودِ الْحِجَازِ، فَكَانُوا يَعْمَلُونَهُ وَيُعَلِّمُونَهُ وَيُصَرِّفُونَهُ فِي حَوَائِجِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ؛ وَكَانُوا بَيْنَ جَاهِلِيَّةٍ جَهْلَاءَ وَأُمَّةٍ عَمْيَاءَ؛ فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحَقِّ، وَنَوَّرَ الْقُلُوبَ، وَكَشَفَ قِنَاعَ الْأَلْبَابِ، لَجَأَتْ الْيَهُودُ إلَى أَنْ تُعَلِّقَ مَا كَانَ عِنْدَهَا مِنْ ذَلِكَ لِسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَتَزْعُمُ أَنَّهُ مِمَّا نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - عَلَى سُلَيْمَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ ذَلِكَ قَدْ حَمَلَ قَوْمًا قَبْلَ الْبَعْثِ عَلَى أَنْ يَتَبَرَّءُوا مِنْ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا مِمَّا فِيهِ الْحَرَجُ فِي ذِكْرِهِ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ إنَّمَا أَذِنَ لَنَا أَنْ نَتَحَدَّثَ عَنْهُمْ فِي حَدِيثٍ يَعُودُ إلَيْهِمْ، وَمَا كُنَّا لِنَذْكُرَ هَذَا لَوْلَا أَنَّ الدَّوَاوِينَ قَدْ شُحِنَتْ بِهِ. أَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ صَغُوهُ صِحَّةَ الْحُكْمِ لِقَوْمِ الْجَرَادَةِ، فَبَاطِلٌ قَطْعًا؛ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - لَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ إجْمَاعًا فَإِنَّهُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ الْكَبَائِرِ بِاتِّفَاقٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ بِأَنَّ شَيْطَانًا تَصَوَّرَ فِي صُورَةِ مَلَكٍ أَوْ نَبِيٍّ، فَأَخَذَ الْخَاتَمَ، فَبَاطِلٌ قَطْعًا؛ لِأَنَّ الشَّيَاطِينَ لَا تَتَصَوَّرُ عَلَى صُوَرِ الْأَنْبِيَاءِ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي " كِتَابِ النَّبِيِّ ". وَأَمَّا دَفْنُهَا تَحْتَ كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَيُمْكِنُ أَلَّا يَعْلَمَ بِذَلِكَ وَتَبْقَى حَتَّى يُفْتَتَنَ بِهَا الْخَلْقُ بَعْدَهُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَخَذَهَا وَدَفَنَهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، وَذَلِكَ مِمَّا

لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ سِحْرًا، أَمَّا لَوْ عَلِمَ أَنَّهَا سِحْرٌ فَحَقُّهَا أَنْ تُحْرَقَ أَوْ تُغْرَقَ، وَلَا تَبْقَى عُرْضَةً لِلنَّقْلِ وَالْعَمَلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّبَعُوا} [البقرة: 102]: قِيلَ: يَهُودُ زَمَانِ سُلَيْمَانَ، وَقِيلَ يَهُودُ زَمَانِنَا، وَاللَّفْظُ فِيهِمْ عَامٌّ، وَلِجَمِيعِهِمْ مُحْتَمِلٌ، وَقَدْ كَانَ الْكُلُّ مِنْهُمْ مُتَّبِعًا لِهَذَا الْبَاطِلِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} [البقرة: 102] اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حَرْفِ " مَا ": فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ نَفْيٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ مَفْعُولٌ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ نَفْيٌ، لَا فِي نِظَامِ الْكَلَامِ، وَلَا فِي صِحَّةِ الْمَعْنَى، وَلَا يَتَعَلَّقُ مِنْ كَوْنِهِ مَفْعُولًا سِيَاقُ الْكَلَامِ بِمُحَالٍ عَقْلًا، وَلَا يَمْتَنِعُ شَرْعًا. وَتَقْرِيرُهُ: وَاتَّبَعَ الْيَهُودُ مَا تَلَتْهُ الشَّيَاطِينُ مِنْ السِّحْرِ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ، أَيْ نَسَبَتْهُ إلَيْهِ وَأَخْبَرَتْ بِهِ عَنْهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] أَيْ إذَا تَلَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي تِلَاوَتِهِ مَا لَمْ يُلْقِهِ النَّبِيُّ، يُحَاكِيهِ وَيُلَبِّسُ عَلَى السَّامِعِينَ بِهِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ. وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ قَطُّ وَلَا سَحَرَ، وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا بِسِحْرِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يُعَلِّمُونَهُ النَّاسَ؛ وَمُعْتَقِدُ الْكُفْرِ كَافِرٌ، وَقَائِلُهُ كَافِرٌ، وَمُعَلِّمُهُ كَافِرٌ، وَيُعَلِّمُونَ النَّاسَ مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، وَمَا كَانَ الْمَلَكَانِ يُعَلِّمَانِ أَحَدًا حَتَّى يَقُولَا: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة: 102]

مسألة كيف أنزل الله تعالى الباطل والكفر

[مَسْأَلَة كَيْفَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْبَاطِلَ وَالْكُفْرَ] فَإِنْ قِيلَ: وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: كَيْفَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْبَاطِلَ وَالْكُفْرَ؟ قُلْنَا: كُلُّ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ أَوْ طَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ أَوْ إيمَانٍ أَوْ كُفْرٍ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى؛ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحِ: «مَاذَا فُتِحَ اللَّيْلَةَ مِنْ الْخَزَائِنِ؟ مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْفِتَنِ؟ أَيْقِظُوا صَوَاحِبَ الْحُجَرِ، رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَّةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَأَخْبَرَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ نُزُولِ الْفِتَنِ عَلَى الْخَلْقِ. [مَسْأَلَةُ كَيْفَ نَزَّلَ الْكُفْرَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وَهُمْ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فَإِنْ قِيلَ: وَكَيْفَ نَزَّلَ الْكُفْرَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وَهُمْ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، وَيُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ، فَأَنَّى يَصِحُّ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِالْكُفْرِ وَيُعَلِّمُوهُ؟ قُلْنَا: هَذَا الَّذِي أَشْكَلَ عَلَى بَعْضِهِمْ حَتَّى رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَرَأَ الْمَلِكَيْنِ بِكَسْرِ اللَّامِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ بِبَابِلَ عِلْجَانِ، وَقَدْ بَلَغَ التَّغَافُلُ أَوْ الْغَفْلَةُ بِبَعْضِهِمْ حَتَّى قَالَ: إنَّمَا هُمَا دَاوُد وَسُلَيْمَانُ، وَتَأَوَّلَ الْآيَةَ: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} [البقرة: 102] أَيْ فِي أَيَّامِهِمَا. وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} [البقرة: 102] يَعْنِي: الشَّيَاطِينَ. وَقَدْ رَوَى الْمُفَسِّرُونَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عُمَرَ: أَطَلَعَتْ الْحَمْرَاءُ؟ قُلْت: طَلَعَتْ. قَالَ: لَا مَرْحَبًا بِهَا وَلَا أَهْلًا، وَأَرَاهُ لَعَنَهَا. قُلْت: سُبْحَانَ اللَّهِ، نَجْمٌ مُسَخَّرٌ مُطِيعٌ تَلْعَنُهُ؟ قَالَ: مَا قُلْت لَك إلَّا مَا سَمِعْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ الْمَلَائِكَةَ عَجَّتْ مِنْ مَعَاصِي بَنِي آدَمَ فِي الْأَرْضِ، فَقَالَتْ: يَا رَبِّ، كَيْفَ

صَبْرُك عَلَى بَنِي آدَمَ فِي الْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ؟ فَأَعْلَمَهُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مَكَانَهُمْ، وَيَحُلُّ الشَّيْطَانُ مِنْ قُلُوبِهِمْ مَحَلَّهُ مِنْ بَنِي آدَمَ لَعَمِلُوا بِعَمَلِهِمْ، وَقَدْ أَعْطَيْت بَنِي آدَمَ عَشْرًا مِنْ الشَّهَوَاتِ فَبِهَا يَعْصُونَنِي. قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ: رَبَّنَا لَوْ أَعْطَيْتَنَا تِلْكَ الشَّهَوَاتِ، وَابْتَلَيْتَنَا، لَحَكَمْنَا بِالْعَدْلِ، وَمَا عَصَيْنَاك. فَأَمَرَهُمْ سُبْحَانَهُ أَنْ يَخْتَارُوا مِنْهُمْ مَلَكَيْنِ مِنْ أَفْضَلِهِمْ، فَتَعَرَّضَ لِذَلِكَ هَارُوتُ وَمَارُوتُ وَقَالَا: نَحْنُ نَنْزِلُ؛ وَأَعْطِنَا الشَّهَوَاتِ، وَكَلِّفْنَا الْحُكْمَ بِالْعَدْلِ. فَنَزَلَا بِبَابِلَ، فَكَانَا يَحْكُمَانِ حَتَّى إذَا أَمْسَيَا عَرَجَا إلَى مَكَانِهِمَا، فَفُتِنَا بِامْرَأَةٍ حَاكَمَتْ زَوْجَهَا اسْمُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ الزَّهْرَةُ وَبِالنَّبَطِيَّةِ بيرخت وَبِالْفَارِسِيَّةِ أقاهيد فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: إنَّهَا لَتُعْجِبُنِي. قَالَ لَهُ الْآخَرُ: لَقَدْ أَرَدْت أَنْ أَقُولَ لَك ذَلِكَ، فَهَلْ لَك فِي أَنْ تَعْرِضَ لَهَا؟ قَالَ لَهُ الْآخَرُ: كَيْفَ بِعَذَابِ اللَّهِ. قَالَ: إنَّا لَنَرْجُو رَحْمَةَ اللَّهِ. فَطَلَبَاهَا فِي نَفْسِهَا قَالَتْ: لَا حَتَّى تَقْضِيَا لِي عَلَى زَوْجِي؛ فَقَضَيَا لَهَا وَقَصَدَاهَا وَأَرَادَا مُوَاقَعَتَهَا، فَقَالَتْ لَهُمَا: لَا أُجِيبُكُمَا لِذَلِكَ حَتَّى تُعَلِّمَانِي كَلَامًا أَصْعَدُ بِهِ إلَى السَّمَاءِ، وَأَنْزِلُ بِهِ مِنْهَا؛ فَأَخْبَرَاهَا، فَتَكَلَّمَتْ فَصَعِدَتْ إلَى السَّمَاءِ فَمَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى كَوْكَبًا، فَلَمَّا أَرَادَا أَنْ يَصْعَدَا، لَمْ يُطِيقَا فَأَيْقَنَا بِالْهَلَكَةِ؛ فَخُيِّرَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا، فَعُلِّقَا بِبَابِلَ فَجَعَلَا يُكَلِّمَانِ النَّاسَ كَلَامَهُمَا، وَهُوَ السِّحْرُ. وَيُقَالُ: كَانَتْ الْمَلَائِكَةُ قَبْلَ ذَلِكَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا، فَلَمَّا وَقَعَا فِي الْخَطِيئَةِ اسْتَغْفَرُوا لِمَنْ فِي الْأَرْضِ». قَالَ الْقَاضِي: وَإِنَّمَا سُقْنَا هَذَا الْخَبَرَ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ رَوَوْهُ وَدَوَّنُوهُ فَخَشِينَا أَنْ يَقَعَ لِمَنْ يَضِلُّ بِهِ. وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهُ، وَلَكِنَّهُ جَائِزٌ كُلُّهُ فِي الْعَقْلِ لَوْ صَحَّ فِي النَّقْلِ، وَلَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ أَنْ تَقَعَ الْمَعْصِيَةُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، وَيُوجَدَ مِنْهُمْ خِلَافُ مَا كُلِّفُوهُ، وَتُخْلَقَ فِيهِمْ الشَّهَوَاتُ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُنْكِرُهُ إلَّا رَجُلَانِ: أَحَدُهُمَا: جَاهِلٌ لَا يَدْرِي الْجَائِزَ مِنْ الْمُسْتَحِيلِ، وَالثَّانِي: مَنْ شَمَّ وَرْدَ الْفَلَاسِفَةِ، فَرَآهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الْمَلَائِكَةَ رُوحَانِيُّونَ، وَإِنَّهُمْ لَا تَرْكِيبَ فِيهِمْ، وَإِنَّمَا هُمْ بَسَائِطُ، وَشَهَوَاتُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْجِمَاعِ لَا تَكُونُ

إلَّا فِي الْمُرَكَّبَاتِ مِنْ الطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ، وَهَذَا تَحَكُّمٌ فِي الْقَوْلَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَخْبَرُوا عَنْ الْمَلَائِكَةِ وَكَيْفِيَّتِهِمْ بِمَا لَمْ يُعَايِنُوهُ، وَلَا نُقِلَ إلَيْهِمْ، وَلَا دَلَّ دَلِيلُ الْعَقْلِ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ أَحَالُوا عَلَى الْبَسِيطِ أَنْ يَتَرَكَّبَ، وَذَلِكَ عِنْدَنَا جَائِزٌ؛ بَلْ يَجُوزُ عِنْدَنَا بِلَا خِلَافٍ أَنْ يَأْكُلَ الْبَسِيطُ وَيَشْرَبُ وَيَطَأُ، وَلَا يُوجَدُ مِنْ الْمُرَكَّبِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَهَذَا الَّذِي اطَّرَدَ فِي الْبَسِيطِ مِنْ عَدَمِ الْغِذَاءِ، وَفِي الْمُرَكَّبِ مِنْ وُجُودِ الْغِذَاءِ عَادَةً إلَّا أَنَّهُ غَايَةُ الْقُدْرَةِ، وَقَدْ مَكَّنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ وَمَهَّدْنَاهُ فِي الْأُصُولِ، وَخَبَرُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، صِدْقٌ لَا خِلَافَ فِيهِ، لَكِنَّهُ خَبَرٌ عَنْ حَالِهِمْ، وَهِيَ مَا يَجُوزُ أَنْ تَتَغَيَّرَ فَيَكُونُ الْخَبَرُ عَنْهَا بِذَلِكَ أَيْضًا، وَكُلُّ حَقٍّ صِدْقٌ لَا خِلَافَ فِيهِ. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّهُ خَبَرٌ عَامٌّ يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَهُ التَّخْصِيصُ، وَهَذَا صَحِيحٌ أَيْضًا. وَقَدْ رَوَى سُنَيْدٌ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ دُخِلَ إلَيْهِمَا فِي مَغَارِهِمَا وَكُلِّمَا، وَتُعُلِّمَ مِنْهُمَا فِي زَمَنِ الْإِسْلَامِ، وَلَيْسَ التَّعَلُّمُ مِنْهُمَا إلَّا سَمَاعَ كَلَامِهِمَا، وَهُمَا إذَا تَكَلَّمَا إنَّمَا يَقُولَانِ: إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ أَيْ لَا تَجْعَلْ مَا تَسْمَعُ مِنَّا سَبَبًا لِلْكُفْرِ، كَمَا جَعَلَ السَّامِرِيُّ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ أَثَرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ سَبَبًا لِاِتِّخَاذِ الْعِجْلِ إلَهًا مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَفِي هَذَا مِنْ الْعِبْرَةِ: الْخَشْيَةُ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ وَالْخَاتِمَةِ، وَعَدَمُ الثِّقَةِ بِظَاهِرِ الْحَالَةِ، وَالْخَوْفُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهَذَا بَلْعَامُ فِي الْآدَمِيِّينَ كَهَارُوتَ وَمَارُوتَ فِي الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، فَأَنْزِلُوا كُلَّ فَنٍّ فِي مَرْتَبَتِهِ، وَتَحَقَّقُوا مِقْدَارَهُ فِي دَرَجَتِهِ حَسْبَمَا رَوَيْنَاهُ، وَلَا تَذْهَلُوا عَنْ بَعْضٍ فَتَجْهَلُوا جَمِيعَهُ.

مسألة القول في السحر وحقيقته

[مَسْأَلَةُ الْقَوْلَ فِي السِّحْرِ وَحَقِيقَتِهِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102] وَقَدْ أَوْرَدْنَا فِي كِتَابِ " الْمُشْكَلَيْنِ " الْقَوْلَ فِي السِّحْرِ وَحَقِيقَتِهِ وَمُنْتَهَى الْعَمَلِ بِهِ عَلَى وَجْهٍ يَشْفِي الْغَلِيلَ، وَبَيَّنَّا أَنَّ مِنْ أَقْسَامِهِ فِعْلَ مَا يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، وَمِنْهُ مَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، وَيُسَمَّى التُّوَلَةُ، وَكِلَاهُمَا كُفْرٌ، وَالْكُلُّ حَرَامٌ، كُفْرٌ قَالَهُ مَالِكٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السِّحْرُ مَعْصِيَةٌ إنْ قَتَلَ بِهَا السَّاحِرُ قُتِلَ، وَإِنْ أَضَرَّ بِهَا أُدِّبَ عَلَى قَدْرِ الضَّرَرِ. وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ السِّحْرَ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ كَلَامٌ مُؤَلَّفٌ يُعَظَّمُ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَتُنْسَبُ إلَيْهِ فِيهِ الْمَقَادِيرُ وَالْكَائِنَاتُ. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ صَرَّحَ فِي كِتَابِهِ بِأَنَّهُ كُفْرٌ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102] مِنْ السِّحْرِ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ بِقَوْلِ السِّحْرِ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا بِهِ وَبِتَعْلِيمِهِ، وَهَارُوتُ وَمَارُوتُ يَقُولَانِ: إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِلْبَيَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102]

الآية السادسة عشرة قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا

يَعْنِي: بِحُكْمِهِ وَقَضَائِهِ لَا بِأَمْرِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، وَيَقْضِي عَلَى الْخَلْقِ بِهَا، وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة: 102] هُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ نَفْعٌ لِمَا يَتَعَجَّلُونَ بِهِ مِنْ بُلُوغِ الْغَرَضِ، وَحَقِيقَتُهُ مُضِرَّةٌ، لِمَا فِيهِ مِنْ عَظِيمِ سُوءِ الْعَاقِبَةِ؛ وَحَقِيقَةُ الضَّرَرِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ كُلُّ أَلَمٍ لَا نَفْعَ يُوَازِيهِ، وَحَقِيقَةُ النَّفْعِ كُلُّ لَذَّةٍ لَا يَتَعَقَّبُهَا عِقَابٌ، وَلَا تَلْحَقُ فِيهِ نَدَامَةٌ. وَالضَّرَرُ وَعَدَمُ الْمَنْفَعَةِ فِي السِّحْرِ مُتَحَقِّقٌ [الْآيَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا] وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة: 104] كَانَتْ الْيَهُودُ تَأْتِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَقُولُ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، رَاعِنَا، تُوهِمُ أَنَّهَا تُرِيدُ الدُّعَاءَ، مِنْ الْمُرَاعَاةِ، وَهِيَ تَقْصِدُ بِهِ فَاعِلًا مِنْ الرُّعُونَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَقُولُونَ: رَاعِنَا، مِنْ الرَّعْيِ، فَسَمِعَتْهُمْ الْيَهُودُ، فَقَالُوا: يَا رَاعِنَا كَمَا تَقَدَّمَ، فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ، لِئَلَّا يَقْتَدِيَ بِهِمْ الْيَهُودُ فِي اللَّفْظِ وَيَقْصِدُوا الْمَعْنَى الْفَاسِدَ مِنْهُ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَجَنُّبِ الْأَلْفَاظِ الْمُحْتَمِلَةِ الَّتِي فِيهَا التَّعَرُّضُ لِلتَّنْقِيصِ وَالْغَضِّ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ فَهْمُ التَّعْرِيضِ بِالْقَذْفِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: بِأَنَّهُ مُلْزِمٌ لِلْحَدِّ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ قَالَا: إنَّهُ قَوْلٌ مُحْتَمِلٌ لِلْقَذْفِ وَغَيْرِهِ، وَالْحَدُّ مِمَّا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ.

الآية السابعة عشرة قوله تعالى ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه

وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ قَوْلٌ يُفْهَمُ مِنْهُ الْقَذْفُ، فَوَجَبَ فِيهِ الْحَدُّ كَالتَّصْرِيحِ. وَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَبْلَغَ مِنْ التَّصْرِيحِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُرَادِ، وَإِنْكَارُ ذَلِكَ عِنَادٌ، وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [الْآيَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ] ُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114] فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِيمَنْ نَزَلَتْ؟ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ بُخْتُ نَصَّرَ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ مَانِعُو بَيْتِ الْمَقْدِسِ مِنْ النَّصَارَى اتَّخَذُوهُ كِظَامَةً. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ كُلُّ مَسْجِدٍ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ وَرَدَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ؛ فَتَخْصِيصُهُ بِبَعْضِ الْمَسَاجِدِ أَوْ بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ مُحَالٌ، فَإِنْ كَانَ فَأَمْثَلُهَا الثَّالِثَ. [مَسْأَلَةُ تَعْظِيمُ أَمْرِ الصَّلَاةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَائِدَةُ الْآيَةِ: فَائِدَةُ هَذِهِ الْآيَةِ تَعْظِيمُ أَمْرِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ وَأَعْظَمَهَا أَجْرًا

مسألة مفادة قوله تعالى مساجد الله

كَانَ مَنْعُهَا أَعْظَمَ إثْمًا، وَإِخْرَابُ الْمَسَاجِدِ تَعْطِيلٌ لَهَا وَقَطْعٌ بِالْمُسْلِمِينَ فِي إظْهَارِ شَعَائِرِهِمْ وَتَأْلِيفِ كَلِمَتِهِمْ. [مَسْأَلَةُ مُفَادَة قَوْله تَعَالَى مَسَاجِدَ اللَّهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إنَّ قَوْله تَعَالَى: {مَسَاجِدَ اللَّهِ} [البقرة: 114] يَقْتَضِي أَنَّهَا لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً، الَّذِينَ يُعَظِّمُونَ اللَّهَ تَعَالَى، وَذَلِكَ حُكْمُهَا بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ؛ عَلَى أَنَّ الْبُقْعَةَ إذَا عُيِّنَتْ لِلصَّلَاةِ خَرَجَتْ عَنْ جُمْلَةِ الْأَمْلَاكِ الْمُخْتَصَّةِ بِرَبِّهَا، فَصَارَتْ عَامَّةً لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِمَنْفَعَتِهَا وَمَسْجِدِيَّتِهَا، فَلَوْ بَنَى الرَّجُلُ فِي دَارِهٍ مَسْجِدًا وَحَجَزَهُ عَنْ النَّاسِ، وَاخْتَصَّ بِهِ لِنَفْسِهِ لَبَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ، وَلَمْ يَخْرُجْ إلَى حَدِّ الْمَسْجِدِيَّةِ، وَلَوْ أَبَاحَهُ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ لَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ الْعَامَّةِ، وَخَرَجَ عَنْ اخْتِصَاصِ الْأَمْلَاكِ. [مَسْأَلَةُ دُخُولُ الْكَافِرِ الْمَسْجِدِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ} [البقرة: 114] يَعْنِي إذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ، وَحَصَلَتْ تَحْتَ سُلْطَانِهِمْ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْكَافِرُ حِينَئِذٍ مِنْ دُخُولِهَا يَعْنِي إنْ دَخَلُوهَا فَعَلَى خَوْفٍ مِنْ إخْرَاجِ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ مِنْهَا وَأَذِيَّتِهِمْ عَلَى دُخُولِهَا؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْكَافِرِ دُخُولُ الْمَسْجِدِ بِحَالٍ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [الْآيَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ] ُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]

فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: وَفِي ذَلِكَ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ عَادَ فَصَلَّى إلَى الْكَعْبَةِ؛ فَاعْتَرَضَتْ عَلَيْهِ الْيَهُودُ، فَأَنْزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُ كَرَامَةً وَعَلَيْهِمْ حُجَّةً قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَخْيِيرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ لِيُصَلُّوا حَيْثُ شَاءُوا مِنْ النَّوَاحِي، قَالَهُ قَتَادَةُ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ، يَتَوَجَّهُ الْمُصَلِّي فِي السَّفَرِ إلَى حَيْثُ شَاءَ فِيهَا رَاكِبًا قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ. الرَّابِعُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ صَلَّى الْفَرِيضَةَ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ قَالَهُ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ. الْخَامِسُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ، آمَنَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُصَلِّ إلَى قِبْلَتِنَا قَالَهُ قَتَادَةُ. السَّادِسُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الدُّعَاءِ. السَّابِعُ: أَنَّ مَعْنَاهَا أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ مِنْ مَشْرِقٍ أَوْ مَغْرِبٍ فَلَكُمْ قِبْلَةٌ وَاحِدَةٌ تَسْتَقْبِلُونَهَا. قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْأَقْوَالُ السَّبْعَةُ لِقَائِلِيهَا تَحْتَمِلُ الْآيَةُ جَمِيعَهَا. فَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 142]

مسألة معنى قوله تعالى ولله المشرق والمغرب

وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، فَسَنَدٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ قَوِيٌّ فِي النَّظَرِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ كَانَ يُحْرِمُ فِي السَّفَرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، ثُمَّ يُصَلِّي حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ بَقِيَّةَ الصَّلَاةِ»، وَهُوَ صَحِيحٌ. وَأَمَّا قَوْلُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، فَقَدْ أُسْنِدَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُصَنِّفُونَ قَدْ رَوَوْهُ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ؛ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: تُجْزِئُهُ، بَيْدَ أَنَّ مَالِكًا رَأَى عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ فِي الْوَقْتِ اسْتِحْبَابًا. وَقَالَ الْمُغِيرَةُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ الْقِبْلَةَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ، فَلَا يَنْتَصِبُ الْخَطَأُ عُذْرًا فِي تَرْكِهَا، كَالْمَاءِ الطَّاهِرِ وَالْوَقْتِ. وَمَا قَالَهُ مَالِكٌ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ جِهَةَ الْقِبْلَةِ تُبِيحُ الضَّرُورَةُ تَرْكَهَا فِي الْمُسَايَفَةِ، وَتُبِيحُهَا أَيْضًا الرُّخْصَةُ حَالَةَ السَّفَرِ، فَكَانَتْ حَالَةَ عُذْرٍ أَشْبَهَ بِهَا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الطَّاهِرَ لَا يُبِيحُ تَرْكَهُ إلَى الْمَاءِ النَّجِسِ ضَرُورَةٌ فَلَا يُبِيحُهُ خَطَأٌ. [مَسْأَلَةُ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 115] أَيْ: ذَلِكَ لَهُ مِلْكٌ وَخَلْقٌ لِجَوَازِ الصَّلَاةِ إلَيْهِ وَإِضَافَتِهِ إلَيْهِ تَشْرِيفًا وَتَخْصِيصًا. [مَسْأَلَةُ نَفْيِ الْجِهَةِ وَالْمَكَانِ عَنْهُ تَعَالَى] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] قِيلَ: مَعْنَاهُ فَثَمَّ اللَّهُ، هَذَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْجِهَةِ وَالْمَكَانِ عَنْهُ تَعَالَى، لِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَان بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ فَثَمَّ قِبْلَةُ اللَّهِ، وَيَكُونُ الْوَجْهُ اسْمًا لِلتَّوَجُّهِ.

مسألة التوجه إلى جهة بيت المقدس

وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالصَّلَاةِ عِبَادَةً، وَفَرَضَ فِيهَا الْخُشُوعَ اسْتِكْمَالًا لِلْعِبَادَةِ، وَأَلْزَمَ الْجَوَارِحَ السُّكُونَ، وَاللِّسَانَ الصَّمْتَ إلَّا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَنَصْبَ الْبَدَنِ إلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَنْفَى لِلْحَرَكَاتِ، وَأَقْعَدَ لِلْخَوَاطِرِ، وَعُيِّنَتْ لَهُ جِهَةُ الْكَعْبَةِ تَشْرِيفًا لَهُ. وَقِيلَ لَهُ: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قِبَلَ وَجْهِك، مَعْنَاهُ أَنَّك قَصَدْت التَّوَجُّهَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ عُيِّنَ لَك هَذَا الصَّوْبُ، فَهُنَالِكَ تَجِدُ ثَوَابَك، وَتَحْمَدُ إيَابَك. [مَسْأَلَةُ التَّوَجُّهِ إلَى جِهَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي تَنْزِيلِ الْآيَةِ عَلَى الْأَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ: لَا يَخْفَى أَنَّ عُمُومَ الْآيَةِ يَقْتَضِي بِمُطْلَقِهِ جَوَازَ التَّوَجُّهِ إلَى جِهَتَيْ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ بِكُلِّ حَالٍ، لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَصَّ مِنْ ذَلِكَ جَوَازَ التَّوَجُّهِ إلَى جِهَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي وَقْتٍ، وَإِلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ فِي الْفَرْضِ وَالْحَضَرِ فِيهَا أَيْضًا، وَبَقِيَتْ عَلَى النَّافِلَةِ فِي السَّفَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ " النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ ". [الْآيَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى وَإِذْ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ] َّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] الْآيَةُ فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ابْتَلَى مَعْنَاهُ اخْتَبَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْمُشْكَلَيْنِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَاهُ أَمَرَ لِيَعْلَمَ مِنْ الِامْتِثَالِ أَوْ التَّقْصِيرِ مُشَاهَدَةً مَا عَلِمَ غَيْبًا، وَهُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، تَخْتَلِفُ الْأَحْوَالُ عَلَى الْمَعْلُومَاتِ، وَعِلْمُهُ لَا يَخْتَلِفُ، بَلْ يَتَعَلَّقُ بِالْكُلِّ تَعَلُّقًا وَاحِدًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {بِكَلِمَاتٍ} [البقرة: 124] هِيَ: جَمْعُ كَلِمَةٍ، وَيَرْجِعُ تَحْقِيقُهَا إلَى كَلَامِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ، لَكِنَّهُ تَعَالَى عَبَّرَ بِهَا عَنْ

الْوَظَائِفِ الَّتِي كَلَّفَهَا إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلَمَّا كَانَ تَكْلِيفُهَا بِالْكَلَامِ سُمِّيَتْ بِهِ، كَمَا يُسَمَّى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَلِمَةً؛ لِأَنَّهُ صَدَرَ عَنْ الْكَلِمَةِ، وَهِيَ: كُنْ، وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِمُقَدِّمَتِهِ أَحَدُ قِسْمِي الْمَجَازِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا تِلْكَ الْكَلِمَاتُ؟ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا اخْتِلَافًا كَثِيرًا، لُبَابُهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ، فَأَكْمَلَهَا إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَمَا قَامَ أَحَدٌ بِوَظَائِفِ الدِّينِ مِثْلُهُ يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَبْلَهُ؛ فَقَدْ قَامَ بِهَا بَعْدَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، وَخُصُوصًا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِمْ. الثَّانِي: أَنَّهَا الْفِطْرَةُ الَّتِي أَوْعَزَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا إلَيْهِ، وَرَتَّبَهَا عَلَيْهِ، وَرَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «عَشْرٌ مِنْ الْفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ وَالسِّوَاكُ وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ وَقَصُّ الْأَظْفَارِ وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ وَنَتْفُ الْإِبْطِ وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ». وَرَوَى عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ الْحَدِيثَ، وَقَالَ: «الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ»، وَزَادَ: «الْخِتَانُ»، وَذَكَرَ «الِانْتِضَاحُ» بَدَلَ «انْتِقَاصُ الْمَاءِ». وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: إنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ هُنَا: «مِنْ الْفِطْرَةِ» يَعْنِي مِنْ السُّنَّةِ، وَأَنَا أَقُولُ: إنَّهَا مِنْ الْمِلَّةِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ اُبْتُلِيَ بِهَا فَرْضًا، وَهِيَ لَنَا سُنَّةٌ، وَاَلَّذِي

يَصِحُّ أَنَّ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اُبْتُلِيَ بِهَا تَكْلِيفًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ مِنْ الْفَرْضِ أَوْ النَّدْبِ فِي جَمِيعِهَا أَوْ انْقِسَامِ الْحَالِ فِيهَا. وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْمِلَّةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَرَاتِبِهَا؛ فَأَمَّا قَصُّ الشَّارِبِ وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ فَمُخَالَفَةٌ لِلْأَعَاجِمِ فَإِنَّهُمْ يَقُصُّونَ لِحَاهُمْ، وَيُوَفِّرُونَ شَوَارِبَهُمْ، أَوْ يُوَفِّرُونَهُمَا مَعًا، وَذَلِكَ عَكْسُ الْجَمَالِ وَالنَّظَافَةِ. وَأَمَّا السِّوَاكُ وَالْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ فَلِتَنْظِيفِ الْفَمِ مِنْ الطَّعَامِ وَالْقَلَحِ. وَأَمَّا قَصُّ الْأَظْفَارِ فَلِتَنْزِيهِ الطَّعَامِ عَمَّا يَلْتَئِمُ مِنْ الْوَسَخِ فِيهَا وَالْأَقْذَارِ. وَأَمَّا غَسْلُ الْبَرَاجِمِ فَلِمَا يَجْتَمِعُ مِنْ الْأَوْسَاخِ فِي غُضُونِهَا. وَحَلْقُ الْعَانَةِ وَنَتْفُ الْإِبْطِ تَنْظِيفًا عَمَّا يَتَلَبَّدُ مِنْ الْوَسَخِ فِيهِمَا عَلَى شَعْرِهِمَا وَمِمَّا يَجْتَمِعُ مِنْ الرَّمَصِ فِيهِمَا، وَالِاسْتِنْجَاءُ لِتَنْظِيفِ ذَلِكَ الْمَحَلِّ وَتَطْبِيبِهِ عَنْ الْأَذَى وَالْأَدْوَاءِ. وَأَمَّا الْخِتَانُ فَلِنَظَافَةِ الْقُلْفَةِ عَمَّا يَجْتَمِعُ مِنْ أَذَى الْبَوْلِ فِيهَا، وَلَمْ يَخْتَتِنْ أَحَدٌ قَبْلَ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «أَنَّهُ اخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً». وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، فَرَأَى الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ سُنَّةٌ لِمَا قُرِنَ بِهِ مِنْ إخْوَتِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَرَأَى مَالِكٌ أَنَّهُ فَرْضٌ؛ لِأَنَّهُ تُكْشَفُ لَهُ الْعَوْرَةُ وَلَا يُبَاحُ الْحَرَامُ إلَّا لِلْوَاجِبِ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، فَلَمَّا أَتَمَّ إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هَذِهِ الْوَظَائِفَ أَثْنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37].

الآية الموفية عشرين قوله تعالى وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا

سَمِعْت بَعْضَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ: وَإِبْرَاهِيمُ الَّذِي وَفَّى بِمَالِهِ لِلضِّيفَانِ، وَبِبَدَنِهِ لِلنِّيرَانِ، وَبِقَلْبِهِ لِلرَّحْمَنِ. [الْآيَةُ الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ قَوْله تَعَالَى وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا] } [البقرة: 125] هَذَا تَنْبِيهٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ عَلَى فَضْلِهِ، وَتَعْدِيدٌ لِنِعَمِهِ الَّتِي مِنْهَا جَعَلَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ لِلْعَرَبِ عُمُومًا وَلِقُرَيْشٍ خُصُوصًا مَثَابَةً لِلنَّاسِ أَيْ مَعَادًا فِي كُلِّ عَامٍ لَا يَخْلُو مِنْهُمْ، يُقَالُ: ثَابَ إلَى كَذَا أَيْ: رَجَعَ وَعَادَ إلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ كُلُّ مَنْ جَاءَهُ عَادَ إلَيْهِ. قُلْنَا: لَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِمَنْ وَرَدَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ الْجُمْلَةِ، وَلَمْ يَعْدَمْ قَاصِدًا مِنْ النَّاسِ؛ وَكَذَلِكَ جَعَلَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَمْنًا يَلْقَى الرَّجُلُ فِيهِ قَاتِلَ وَلِيِّهِ فَلَا يُرَوِّعُهُ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] وَكَذَلِكَ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] وَهَذَا لِمَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ رَكَّبَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ تَعْظِيمِ الْبُقْعَةِ وَتَفْضِيلِ الْمَوْضِعِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَرْضِ الْمُشَابِهَةِ لَهُ فِي الصِّفَةِ، بِهَذِهِ الْخِصِّيصَى الْمُعَظَّمَةِ. وَقَدْ سَمِعْت أَنَّ الْكَلْبَ الْخَارِجَ مِنْ الْحَرَمِ لَا يُرَوِّعُ الصَّيْدَ بِهَا، وَهَذَا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا؛ وَهَذَا اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ وَرَدَ بِالْبَيْتِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْحَرَمُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ الْفَائِدَةَ فِيهِ كَانَتْ وَعَلَيْهِ دَامَتْ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِ الْأَمْنِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ أَمْنٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ دَخَلَهُ مُعَظِّمًا لَهُ

وَقَصَدَهُ مُحْتَسِبًا فِيهِ لِمَنْ تَقَدَّمَ إلَيْهِ. وَيَعْضُدُهُ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ». الثَّانِي: مَعْنَاهُ مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا مِنْ التَّشَفِّي وَالِانْتِقَامِ، كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ فِيمَنْ أَنَابَ إلَيْهِ مِنْ تَرْكِهَا لِحَقٍّ يَكُونُ لَهَا عَلَيْهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ أَمْنٌ مِنْ حَدٍّ يُقَامُ عَلَيْهِ، فَلَا يُقْتَلُ بِهِ الْكَافِرُ، وَلَا يُقْتَصُّ فِيهِ مِنْ الْقَاتِلِ، وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمُحْصَنِ وَالسَّارِقِ؛ قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَمِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ، وَسَيَأْتِي عَلَيْهِ الْكَلَامُ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ أَمْنٌ مِنْ الْقِتَالِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ أَوْ الْقَتْلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ». وَالصَّحِيحُ فِيهِ الْقَوْلُ الثَّانِي، وَهَذَا إخْبَارٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ مِنَّتِهِ عَلَى عِبَادِهِ، حَيْثُ قَرَّرَ فِي قُلُوبِ الْعَرَبِ تَعْظِيمَ هَذَا الْبَيْتِ، وَتَأْمِينَ مَنْ لَجَأَ إلَيْهِ؛ إجَابَةً لِدَعْوَةِ إبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أَنْزَلَ بِهِ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ، فَتَوَقَّعَ عَلَيْهِمْ الِاسْتِطَالَةَ، فَدَعَا أَنْ يَكُونَ أَمْنًا لَهُمْ فَاسْتُجِيبَ دُعَاؤُهُ.

الآية الحادية والعشرون قوله تعالى واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى

وَأَمَّا مَنْ قَالَهُ: إنَّهُ أَمْنٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَبَّهَ بِجَعْلِهِ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا عَلَى حُجَّتِهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَالْأَمْنُ فِي الْآخِرَةِ لَا تُقَامُ بِهِ حُجَّةٌ. وَأَمَّا امْتِنَاعُ الْحَدِّ فِيهِ فَقَوْلٌ سَاقِطٌ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ، وَبِهِ اعْتَصَمَ الْحَرَمُ، لَا يَمْنَعُ مِنْ إقَامَةِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ؛ وَأَمْرٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْأَصْلُ أَحْرَى أَلَا يَقْتَضِيهِ الْفَرْعُ. وَأَمَّا الْأَمْنُ عَنْ الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ [فَقَوْلٌ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ فِيهِ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ] بَعْدَ ذَلِكَ وَيَكُونُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ التَّحْلِيلِ لِلْقِتَالِ، فَلَا جَرَمَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا تَحْلِيلٌ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَا يَكُونُ لِعَدَمِ النُّبُوَّةِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ امْتِنَاعِ تَحْلِيلِ الْقِتَالِ شَرْعًا لَا عَنْ مَنْعِ وُجُودِهِ حِسًّا. [الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى وَاِتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى] } [البقرة: 125] فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَحْقِيقِ الْمَقَامِ: هُوَ مَفْعَلُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، مِنْ قَامَ، كَمَضْرَبٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْضًا، مِنْ ضَرَبَ؛ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى عُمُومِهِ فِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ؛ وَالتَّقْدِيرُ: " وَاِتَّخِذُوا مِنْ مَنَاسِكِ إبْرَاهِيمَ فِي الْحَجِّ عِبَادَةً وَقُدْوَةً ". وَالْأَكْثَرُ حَمَلَهُ عَلَى الْخُصُوصِ فِي بَعْضِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ: فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ الْحَجَرُ الَّذِي جَعَلَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ رِجْلَهُ حِينَ غَسَلَتْ زَوْجُ إسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - رَأْسَهُ. وَقَدْ رَأَيْت بِمَكَّةَ صُنْدُوقًا فِيهِ حَجَرٌ، عَلَيْهِ أَثَرُ قَدَمٍ قَدْ انْمَحَى وَاخْلَوْلَقَ، فَقَالُوا كُلُّهُمْ: هَذَا أَثَرُ قَدَمِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ مَوْضُوعٌ بِإِزَاءِ الْكَعْبَةِ.

الآية الثانية والعشرون قوله تعالى سيقول السفهاء من الناس

وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي دَعَا إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيهِ رَبَّهُ تَعَالَى حِينَ اسْتَوْدَعَ ذُرِّيَّتَهُ. فَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْعُمُومِ قَالَ: مَعْنَاهُ كَمَا قَدَّمْنَا مُصَلًّى: مَدْعَى أَيْ مَوْضِعًا لِلدُّعَاءِ. وَمَنْ خَصَّصَهُ قَالَ: مَعْنَاهُ مَوْضِعًا لِلصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ ثَبَتَ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ «أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ لَوْ اتَّخَذْت مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى فَنَزَلَتْ: وَاِتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى». الْحَدِيثَ، «فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَوَافَهُ مَشَى إلَى الْمَقَامِ الْمَعْرُوفِ الْيَوْمَ، وَقَرَأَ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] وَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ»، وَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَرْبَعَةَ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ هُوَ الْمَقَامُ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ. الثَّانِي: أَنَّهُ بَيَّنَ الصَّلَاةَ وَأَنَّهَا الْمُتَضَمِّنَةُ لِلرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَا مُطْلَقِ الدُّعَاءِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَرَّفَ وَقْتَ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَهُوَ عَقِبَ الطَّوَافِ، وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَوْقَاتِ مَأْخُوذٌ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ أَوْضَحَ أَنَّ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَاجِبَتَانِ، فَمَنْ تَرَكَهُمَا فَعَلَيْهِ دَمٌ. [الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ] ِ مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142] قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْيَهُودُ، عَابُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ رُجُوعَهُمْ إلَى الْكَعْبَةِ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّ أَوَّلًا أَنْ يَتَوَجَّهَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، حَتَّى إذَا دَانَى الْيَهُودَ فِي قِبْلَتِهِمْ كَانَ أَقْرَبَ إلَى إجَابَتِهِمْ، فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ حَرِيصًا عَلَى تَأْلِيفِ الْكَلِمَةِ، وَجَمْعِ النَّاسِ عَلَى الدِّينِ، فَقَابَلَتْ الْيَهُودُ هَذِهِ النِّعْمَةَ بِالْكُفْرَانِ، فَأَعْلَمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْجِهَاتِ كُلَّهَا لَهُ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ وَجْهُهُ، وَامْتِثَالُ أَمْرِهِ، فَحَيْثُمَا أُمِرَ بِالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ تَوَجَّهَ

الآية الثالثة والعشرون قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا

إلَيْهِ؛ وَصَحَّ ذَلِكَ فِيهِ. وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْ قَبْلُ. [الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا] } [البقرة: 143] الْوَسَطُ فِي اللُّغَةِ: الْخِيَارُ، وَهُوَ الْعَدْلُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مِنْ وَسَطِ الشَّيْءِ. ، وَلَيْسَ لِلْوَسَطِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى مُلْتَقَى الطَّرَفَيْنِ هَهُنَا دُخُولٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ آخِرُ الْأُمَمِ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْخِيَارَ الْعَدْلَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى بَعْدَهُ: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] فَأَنْبَأَنَا رَبُّنَا تَعَالَى بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْنَا مِنْ تَفْضِيلِهِ لَنَا بِاسْمِ الْعَدَالَةِ، وَتَوْلِيَتِهِ خُطَّةَ الشَّهَادَةِ عَلَى جَمِيعِ الْخَلِيقَةِ، فَجَعَلَنَا أَوَّلًا مَكَانًا، وَإِنْ كُنَّا آخِرًا زَمَانًا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ». وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ إلَّا الْعُدُولُ، وَلَا يَنْفُذُ عَلَى الْغَيْرِ قَوْلُ الْغَيْرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَدْلًا، وَذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ] ْ} [البقرة: 143]

اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ مَاتَ وَهُوَ يُصَلِّي إلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهَا؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْقِبْلَةِ وَتَصْدِيقِكُمْ لِنَبِيِّكُمْ قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ مُعْظَمُ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَالْأُصُولِيُّونَ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَأَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ صَلَاتُكُمْ، زَادَ أَشْهَبُ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: قَالَ مَالِكٌ: " أَقَامَ النَّاسُ يُصَلُّونَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا؛ ثُمَّ أُمِرُوا بِالْبَيْتِ، فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ أَيْ: فِي صَلَاتِكُمْ إلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ ". قَالَ: وَإِنِّي لَأَذْكُرُ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَ الْمُرْجِئَةِ: إنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ مِنْ الْإِيمَانِ فَلِمَ قَالَ مَالِكٌ: إنَّ تَارِكَهَا غَيْرُ كَافِرٍ. وَهَذَا تَنَاقُضٌ، فَحَقِّقُوا وَجْهَ التَّقَصِّي عَنْهُ. فَالْجَوَابُ: إنَّا وَإِنْ قُلْنَا إنَّ الصَّلَاةَ مِنْ الْإِيمَانِ لَمْ يَبْعُدْ ذَلِكَ تَسْمِيَةً، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] إلَى قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [الأنفال: 3] إلَى قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ} [الأنفال: 4] وَكَذَلِكَ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُسَمَّى تَارِكُهَا كَافِرًا. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ». وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا الْأُصُولِيُّونَ: فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ تَسْمِيَةُ الصَّلَاةِ إيمَانًا وَتَرْكُهَا كُفْرًا مَجَازًا. الثَّانِي: أَنْ يُرْجَعَ ذَلِكَ إلَى اعْتِقَادِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ أَوْ اعْتِقَادِ نَفْيِ وُجُوبِهَا؛ وَهَذَا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ؛ بَلْ يَقُولُ عُلَمَاؤُنَا مِنْ الْفُقَهَاءِ: إنَّهَا تُسَمَّى إيمَانًا، وَهِيَ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ وَعَهْدِ الْإِسْلَامِ. وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ وَالْمُرْجِئَةِ أَنَّ الْمُرْجِئَةَ قَالَتْ: لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ وَتَارِكُهَا فِي الْجَنَّةِ، وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ وَتَارِكُهَا فِي الْمَشِيئَةِ، وَعُلَمَاؤُنَا الْفُقَهَاءُ قَالُوا: هِيَ مِنْ الْإِيمَانِ وَتَارِكُهَا فِي الْمَشِيئَةِ، قَضَتْ بِذَلِكَ آيُ الْقُرْآنِ وَأَحَادِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ شَيْئًا مِنْهُنَّ اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ». فَقَضَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَهَذَا الْحَدِيثُ وَنَظَائِرُهُمَا عَلَى كُلِّ مُتَشَابِهٍ جَاءَ مُعَارِضًا فِي الظَّاهِرِ لَهُمَا؛ وَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ تُسَمَّى الصَّلَاةُ إيمَانًا فِي إطْلَاقِ اللَّفْظِ، وَيُحْكَمُ لِتَارِكِهَا بِالْمَغْفِرَةِ تَخْفِيفًا وَرَحْمَةً.

الآية الخامسة والعشرون قوله تعالى فول وجهك شطر المسجد الحرام

وَيُحْمَلُ مَا جَاءَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُكَفِّرَةِ؛ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ» وَنَحْوُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: عَلَى التَّغْلِيظِ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ فَعَلَ فِعْلَ الْكَافِرِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ أَبَاحَ دَمَهُ، كَمَا أَبَاحَهُ فِي الْكَافِرِ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ] ِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] الشَّطْرُ فِي اللُّغَةِ يُقَالُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ الشَّيْءِ، وَيُقَالُ عَلَى الْقَصْدِ، وَهَذَا خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُعَايِنًا لِلْبَيْتِ، وَمَنْ كَانَ غَائِبًا عَنْهُ. وَذَكَرَ الْبَارِي سُبْحَانَهُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْبَيْتُ، كَمَا ذَكَرَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125] الْكَعْبَةَ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَرَمُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَنَا بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَهِيَ تُعَبِّرُ عَنْ الشَّيْءِ بِمَا يُجَاوِرُهُ أَوْ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يُعَرِّفَ أَنَّ مَنْ بَعُدَ عَنْ الْبَيْتِ فَإِنَّهُ يَقْصِدُ النَّاحِيَةَ لَا عَيْنَ الْبَيْتِ، فَإِنَّهُ يَعْسُرُ [نَظَرُهُ وَ] قَصْدُهُ؛ بَلْ لَا يُمْكِنُ أَبَدًا إلَّا لِلْمُعَايِنِ، وَرُبَّمَا الْتَفَتَ الْمُعَايِنُ يَمِينًا أَوْ شِمَالًا فَإِذَا بِهِ قَدْ زَهَقَ عَنْهُ، فَاسْتَأْنَفَ الصَّلَاةَ؛ وَأَضْيَقُ مَا تَكُونُ الْقِبْلَةُ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْقِبْلَةِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ فَرْضُ الْغَائِبِ عَنْ الْكَعْبَةِ اسْتِقْبَالُ الْعَيْنِ؟ أَوْ

الآية السادسة والعشرون قوله تعالى ولكل وجهة هو موليها

اسْتِقْبَالُ الْجِهَةِ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: [فَرْضُهُ اسْتِقْبَالُ الْعَيْنِ]؛ وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ تَكْلِيفٌ لِمَا لَا يَصِلُ إلَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْجِهَةُ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْمُمْكِنُ الَّذِي يَرْتَبِطُ بِهِ التَّكْلِيفُ. الثَّانِي: أَنَّهُ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ، إذْ قَالَ: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْعُلَمَاءَ احْتَجُّوا بِالصَّفِّ الطَّوِيلِ الَّذِي يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ أَضْعَافُ عَرْضِ الْبَيْتِ، وَيَجِبُ أَنْ يُعَوَّلَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ؛ فَإِنَّ الصَّفَّ الطَّوِيلَ إذَا بَعُدَ عَنْ الْبَيْتِ أَوْ طَالَ وَعَرُضَ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً لَكَانَ مُمْكِنًا أَنْ يُقَابِلَ [جَمِيعَ] الْبَيْتِ. [الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا] } [البقرة: 148] وَهِيَ مُشْكِلَةٌ، لُبَابُ الْكَلَامِ فِيهَا فِي مَسْأَلَتَيْنِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ الْوِجْهَةَ هِيَ هَيْئَةُ التَّوَجُّهِ كَالْقِعْدَةِ بِكَسْرِ الْقَافِ: هَيْئَةُ الْقُعُودِ، وَالْجِلْسَةِ: هَيْئَةُ الْجُلُوسِ، وَفِي الْمُرَادِ بِهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْأَدْيَانِ؛ الْمَعْنَى لِأَهْلِ كُلِّ مِلَّةٍ حَالَةٌ فِي التَّوَجُّهِ إلَى الْقِبْلَةِ؛ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى لِكُلٍّ وِجْهَةٌ فِي الصَّلَاةِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَفِي الصَّلَاةِ إلَى الْكَعْبَةِ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ لِأَهْلِ كُلِّ جِهَةٍ مِنْ الْآفَاقِ وِجْهَةٌ مِمَّنْ

مسألة المبادرة والاستعجال إلى الطاعات

بِمَكَّةَ وَمِمَّنْ بَعُدَ، لَيْسَ بَعْضُهَا مُقَدَّمًا عَلَى الْبَعْضِ فِي الصَّوَابِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي وَلَّى جَمِيعَهَا وَشَرَعَ جُمْلَتَهَا، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مُتَعَارِضَةً فِي الظَّاهِرِ وَالْمُعَايَنَةِ، فَإِنَّهَا مُتَّفِقَةٌ فِي الْقَصْدِ وَامْتِثَالِ الْأَمْرِ. وَقُرِئَ: هُوَ مُوَلَّاهَا، يَعْنِي الْمُصَلِّيَ؛ التَّقْدِيرُ: الْمُصَلِّي هُوَ مُوَجَّهٌ نَحْوَهَا، وَكَذَلِكَ قَبْلُ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ هُوَ مُوَلِّيهَا؛ إنَّ الْمَعْنَى أَيْضًا أَنَّ الْمُصَلِّيَ هُوَ مُتَوَجِّهٌ نَحْوَهَا؛ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ فِي النَّظَرِ، وَأَشْهَرُ فِي الْقِرَاءَةِ وَالْخَبَرِ. [مَسْأَلَةُ الْمُبَادَرَةِ وَالِاسْتِعْجَالِ إلَى الطَّاعَاتِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] مَعْنَاهُ، افْعَلُوا الْخَيْرَاتِ، مِنْ السَّبْقِ، وَهُوَ الْمُبَادَرَةُ إلَى الْأَوَّلِيَّةِ، وَذَلِكَ حَثٌّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ وَالِاسْتِعْجَالِ إلَى الطَّاعَاتِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي الْجُمْلَةِ. وَفِي التَّفْضِيلِ اخْتِلَافٌ؛ وَأَعْظَمُ مُهِمٍّ اخْتَلَفُوا فِي تَفْضِيلِهِ الصَّلَاةُ؛ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَوَّلُ الْوَقْتِ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ؛ لِظَاهِرِ هَذِهِ وَغَيْرِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: آخِرُ الْوَقْتِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ وَقْتُ الْوُجُوبِ حَسْبَمَا مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. وَأَمَّا مَالِكٌ فَفَصَّلَ الْقَوْلَ؛ فَأَمَّا الصُّبْحُ وَالْمَغْرِبُ فَأَوَّلُ الْوَقْتِ فِيهِمَا أَفْضَلُ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ. وَأَمَّا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ فَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ: إنَّ أَوَّلَ الْوَقْتِ أَفْضَلُ لِلْفَذِّ، وَإِنَّ الْجَمَاعَةَ تُؤَخَّرُ " عَلَى مَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَالْمَشْهُورُ فِي الْعِشَاءِ أَنَّ تَأْخِيرَهَا أَفْضَلُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، فَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَّرَهَا لَيْلَةً حَتَّى رَقَدَ النَّاسُ

وَاسْتَيْقَظُوا، ثُمَّ قَالَ: لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَخَّرْتُهَا هَكَذَا». وَأَمَّا الظُّهْرُ فَإِنَّهَا تَأْتِي النَّاسَ عَلَى غَفْلَةٍ فَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا قَلِيلًا حَتَّى يَتَأَهَّبُوا وَيَجْتَمِعُوا. وَأَمَّا الْعَصْرُ فَتَقْدِيمُهَا أَفْضَلُ. وَلَا خِلَافَ فِي مَذْهَبِنَا أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ تَقْدِيمِهَا؛ فَإِنَّ فَضْلَ الْجَمَاعَةِ مُقَدَّرٌ مَعْلُومٌ، وَفَضْلَ أَوَّلِ الْوَقْتِ مَجْهُولٌ، وَتَحْصِيلُ الْمَعْلُومِ أَوْلَى. وَأَمَّا الصُّبْحُ فَتَقْدِيمُهَا أَفْضَلُ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي الصُّبْحِ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الصُّبْحَ فَتَنْصَرِفُ النِّسَاءُ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ مَا يُعْرَفْنَ مِنْ الْغَلَسِ». وَلِحَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -[فِي الصُّبْحِ أَيْضًا]: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا رَآهُمْ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ قَدْ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ، وَإِذَا رَآهُمْ أَبْطَئُوا أَخَّرَ». وَالصُّبْحُ كَانُوا أَوْ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّيهَا بِغَلَسٍ»؛ مَعْنَاهُ كَانُوا مُجْتَمَعِينَ أَوْ لَمْ يَكُونُوا مُجْتَمَعِينَ كَانَ يُغَلِّسُ بِهَا. وَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَلِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا عَلَى الصَّلَاةِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ اُقْتُدِيَ بِهِ فِي ذَلِكَ أَوْ اُمْتُثِلَ أَمْرُهُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يُعَادِلُ الْمُبَادَرَةَ إلَى أَوَّلِ الْوَقْتِ شَيْءٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84]

الآية السابعة والعشرون قوله تعالى ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء

وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ». قَالَ: رِضْوَانُ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ عَفْوِهِ؛ فَإِنَّ رِضْوَانَهُ لَلْمُحْسِنِينَ، وَعَفْوَهُ لَلْمُقَصِّرِينَ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ». وَلَعَلَّهُ فِي السَّفَرِ إذَا اجْتَمَعَ أَصْحَابُهُ، إذْ قَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «أَبْرِدُوا حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ». [الْآيَة السَّابِعَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ] ٌ} [البقرة: 154] وَفِي السُّورَةِ الَّتِي بَعْدَهَا: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: 169] تَعَلَّقَ بَعْضُهُمْ فِي أَنَّ الشَّهِيدَ لَا يُغَسَّلُ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ هُوَ الَّذِي يُفْعَلُ ذَلِكَ بِهِ، وَالشَّهِيدُ حَيٌّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَكَمَا أَنَّ الشَّهِيدَ فِي حُكْمِ الْحَيِّ فَلَا يُغَسَّلُ، فَكَذَلِكَ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ تَطْهِيرٌ، وَقَدْ طُهِّرَ بِالْقَتْلِ، فَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ شَفَاعَةٌ وَقَدْ أَغْنَتْهُ عَنْهَا الشَّهَادَةُ، يُؤَكِّدُهُ أَنَّ الطَّهَارَةَ إذَا سَقَطَتْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا سَقَطَتْ

الآية الثامنة والعشرون قوله تعالى إن الصفا والمروة من شعائر الله

الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّهَا شَرْطُهَا، وَسُقُوطُ الشَّرْطِ دَلِيلٌ عَلَى سُقُوطِ الْمَشْرُوطِ. وَمَا رُوِيَ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَيْهِمْ، لَا يَصِحُّ فِيهِ طَرِيقُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا سِوَاهُ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [الْآيَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ] ِ} [البقرة: 158] فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رَوَى شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ قَالَ: سَأَلْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنْ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَقَالَ: كَانَا مِنْ شَعَائِرِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ أَمْسَكُوا عَنْهُمَا، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ عُلَمَاءُ اللُّغَةِ: قَوْله تَعَالَى: {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] يَعْنِي مِنْ مَعَالِمِ اللَّهِ فِي الْحَجِّ، وَاحِدَتُهَا شَعِيرَةٌ، وَمِنْهُ إشْعَارُ الْهَدْيِ أَيْ إعْلَامُهُ بِالْجَرْحِ وَمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ عِنْدِي: مَا حَصَلَ بِهِ الْعِلْمُ لِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَشْعَرَ بِهِ إبْرَاهِيمُ، أَيْ أَعْلَمَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ} [البقرة: 158] الْجُنَاحُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَيْلِ كَيْفَمَا تَصَرَّفَ، وَلَكِنَّهُ خُصَّ بِالْمَيْلِ إلَى الْإِثْمِ، ثُمَّ عَبَّرَ بِهِ عَنْ الْإِثْمِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ اسْتَعْمَلَتْهُ الْعَرَبُ فِي الْهَمِّ وَالْأَذَى، وَجَاءَ فِي أَشْعَارِهَا وَأَمْثَالِهَا. [مَسْأَلَةُ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى {أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]

وَهِيَ مُعَارَضَةُ الْآيَةِ، وَرَوَى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ «عُرْوَةَ قُلْت لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] الْآيَةُ فَوَاَللَّهِ مَا عَلَى أَحَدٍ جُنَاحٌ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: بِئْسَ مَا قُلْت يَا ابْنَ أُخْتِي، إنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَلَى مَا تَأَوَّلْتَهَا لَكَانَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا، إنَّمَا كَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ عِنْدَ الْمُشَلَّلِ، فَكَانَ مَنْ أَهَلَّ لِمَنَاةَ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} [البقرة: 158] ثُمَّ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا»، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدَعَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَذَكَرْت ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: إنَّ هَذَا الْعِلْمُ، أَيْ مَا سَمِعْت بِهِ. تَحْقِيقُ هَذَا الْحَدِيثِ وَتَفْهِيمُهُ: اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: لَا جُنَاحَ عَلَيْك أَنْ تَفْعَلَ، إبَاحَةٌ لِلْفِعْلِ، وَقَوْلَهُ: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْك أَلَا تَفْعَلَ) إبَاحَةٌ لِتَرْكِ الْفِعْلِ؛ فَلَمَّا سَمِعَ عُرْوَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَوْلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] قَالَ: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الطَّوَافِ جَائِزٌ، ثُمَّ رَأَى الشَّرِيعَةَ مُطْبِقَةً عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ لَا رُخْصَةَ فِي تَرْكِهِ، فَطَلَبَ الْجَمْعَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: لَيْسَ قَوْله تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] دَلِيلًا عَلَى تَرْكِ الطَّوَافِ؛ إنَّمَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى تَرْكِهِ لَوْ كَانَ: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَلَّا يَطَّوَّفَ). فَلَمْ يَأْتِ هَذَا اللَّفْظُ لِإِبَاحَةِ تَرْكِ الطَّوَافِ، وَلَا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا جَاءَ لِإِفَادَةِ إبَاحَةِ الطَّوَافِ لِمَنْ كَانَ

يَتَحَرَّجُ مِنْهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ لِمَنْ كَانَ يَطُوفُ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَصْدًا لِلْأَصْنَامِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ؛ فَأَعْلَمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الطَّوَافَ لَيْسَ بِمَحْظُورٍ إذَا لَمْ يَقْصِدْ الطَّائِفَ قَصْدًا بَاطِلًا. فَأَدَّتْ الْآيَةُ إبَاحَةَ الطَّوَافِ بَيْنَهُمَا، وَسَلَّ سَخِيمَةَ الْحَرَجِ الَّتِي كَانَتْ فِي صُدُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] أَيْ مِنْ مَعَالِمِ الْحَجِّ وَمَنَاسِكِهِ وَمَشْرُوعَاتِهِ، لَا مِنْ مَوَاضِعِ الْكُفْرِ، وَمَوْضُوعَاتِهِ؛ فَمَنْ جَاءَ الْبَيْتَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا فَلَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ الطَّوَافِ بِهِمَا. وَهْمٌ وَتَنْبِيهٌ: [قَالَ الْفَرَّاءُ]: مَعْنَى قَوْلِهِ: (لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا) مَعْنَاهُ أَنْ يَطُوفَ، وَحَرْفُ " لَا " زَائِدَةٌ، وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ أَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ " لَا " زَائِدَةً. الثَّانِي: أَنَّهُ لَا لُغَوِيٌّ وَلَا فَقِيهٌ يُعَادِلُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَقَدْ قَرَرَتْهَا غَيْرَ زَائِدَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَتْ مَعْنَاهَا، فَلَا رَأْيَ لِلْفَرَّاءِ وَلَا غَيْرِهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهُ رُكْنٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ بِرُكْنٍ. وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ رُكْنٌ، وَفِي الْعُتْبِيَّةِ: يُجْزِئُ تَارِكَهُ الدَّمُ.

الآية التاسعة والعشرون قوله تعالى إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى

وَمُعَوَّلُ مَنْ نَفَى وُجُوبَهُ وَرُكْنِيَّتَهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا ذَكَرَهُ فِي رَفْعِ الْحَرَجِ خَاصَّةً كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ فَاسْعَوْا». صَحَّحَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَيَعْضُدُهُ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ شِعَارٌ لَا يَخْلُو عَنْهُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ، فَكَانَ رُكْنًا كَالطَّوَافِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ رَفْعِ الْحَرَجِ أَوْ تَرْكِهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} [البقرة: 158] تَعَلَّقَ بِهِ مَنْ يَنْفِي رُكْنِيَّةَ السَّعْيِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ قَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَفَعَ الْحَرَجَ عَنْ تَرْكِهِ، وَقَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا بِفِعْلِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْجُرُهُ. وَالتَّطَوُّعُ هُوَ مَا يَأْتِيهِ الْمَرْءُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، وَهَذَا لَيْسَ يَصِحُّ؛ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا إلَى أَيِّ مَعْنَى يَعُودُ رَفْعُ الْجُنَاحِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ} [البقرة: 158] إشَارَةً إلَى السَّعْيِ وَاجِبٌ، فَمَنْ تَطَوَّعَ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَشْكُرُ ذَلِكَ لَهُ. [الْآيَة التَّاسِعَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى] مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ} [البقرة: 159] اسْتَدَلَّ بِهَا عُلَمَاؤُنَا عَلَى وُجُوبِ تَبْلِيغِ الْحَقِّ وَبَيَانِ الْعِلْمِ عَلَى الْجُمْلَةِ. وَلِلْآيَةِ تَحْقِيقٌ هُوَ أَنَّ الْعَالِمَ إذَا قَصَدَ الْكِتْمَانَ عَصَى، وَإِذَا لَمْ يَقْصِدْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ التَّبْلِيغُ إذَا عَرَفَ أَنَّ مَعَهُ غَيْرَهُ. قَالَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ:

قَالَ عُرْوَةُ: الْآيَةَ {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ} [البقرة: 159] قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَاَللَّهِ لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ شَيْئًا، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَا يُحَدِّثَانِ بِكُلِّ مَا سَمِعَا مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ. وَكَانَ الزُّبَيْرُ أَقَلَّهُمْ حَدِيثًا مَخَافَةَ أَنْ يُوَاقِعَ الْكَذِبَ؛ وَلَكِنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ الْعِلْمَ عَمَّ جَمِيعَهُمْ فَسَيُبَلِّغُ وَاحِدٌ إنْ تَرَكَ آخَرُ. فَإِنْ قِيلَ: فَالتَّبْلِيغُ فَضِيلَةٌ أَوْ فَرْضٌ، فَإِنْ كَانَ فَرْضًا فَكَيْفَ قَصَّرَ فِيهِ هَؤُلَاءِ الْجِلَّةُ كَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَالزُّبَيْرِ، وَأَمْثَالِهِمْ، وَإِنْ كَانَ فَضِيلَةً فَلِمَ قَعَدُوا عَنْهَا؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ مَنْ سُئِلَ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّبْلِيغُ لِهَذِهِ الْآيَةِ؛ وَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُسْأَلْ فَلَا يَلْزَمُهُ التَّبْلِيغُ إلَّا فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ. وَقَدْ قَالَ سَحْنُونٌ: إنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَمْرٍو هَذَا إنَّمَا جَاءَ فِي الشَّهَادَةِ.

الآية الموفية ثلاثين قوله تعالى إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار

وَالصَّحِيحُ عِنْدِي مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ إنْ كَانَ هُنَاكَ مَنْ يُبَلِّغُ اُكْتُفِيَ بِهِ، وَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ، وَسَكَتَ الْخُلَفَاءُ عَنْ الْإِشَارَةِ بِالتَّبْلِيغِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْمَنْصِبِ مَنْ يَرُدُّ مَا يَسْمَعُ أَوْ يُمْضِيهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِعُمُومِ التَّبْلِيغِ فِيهِ، حَتَّى إنَّ عُمَرَ كَرِهَ كَثْرَةَ التَّبْلِيغِ، وَسَجَنَ مَنْ كَانَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي فَضِيلَةِ التَّبْلِيغِ أَنَّهُ قَالَ: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا». وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الْمُوَفِّيَةُ ثَلَاثِينَ قَوْله تَعَالَى إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ] ٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [البقرة: 161]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ لِي كَثِيرٌ مِنْ أَشْيَاخِي: إنَّ الْكَافِرَ الْمُعَيَّنَ لَا يَجُوزُ لَعْنُهُ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْمُوَافَاةِ لَا تُعْلَمُ، وَقَدْ شَرَطَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي إطْلَاقِ اللَّعْنَةِ الْمُوَافَاةَ عَلَى الْكُفْرِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعْنُ أَقْوَامٍ بِأَعْيَانِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلَانِ فَكَلَّمَاهُ بِشَيْءٍ فَأَغْضَبَاهُ فَلَعَنَهُمَا»؛ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِمَآلِهِمَا. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي جَوَازُ لَعْنِهِ لِظَاهِرِ حَالِهِ، كَجَوَازِ قِتَالِهِ وَقَتْلِهِ.

مسألة لعن العاصي

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اللَّهُمَّ إنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ هَجَانِي، قَدْ عَلِمَ أَنِّي لَسْت بِشَاعِرٍ فَالْعَنْهُ، اللَّهُمَّ وَاهْجُهُ عَدَدَ مَا هَجَانِي» فَلَعَنَهُ. وَقَدْ كَانَ إلَى الْإِسْلَامِ وَالدِّينِ وَالْإِيمَانِ مَآلُهُ، وَانْتَصَفَ بِقَوْلِهِ: «عَدَدَ مَا هَجَانِي». وَلَمْ يَزِدْ لَيُعَلِّمَ الْعَدْلَ وَالْإِنْصَافَ وَالِانْتِصَافَ، وَأَضَافَ الْهَجْوَ إلَى الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي بَابِ الْجَزَاءِ دُونَ الِابْتِدَاءِ بِالْوَصْفِ لَهُ بِذَلِكَ، كَمَا يُضَافُ إلَيْهِ الِاسْتِهْزَاءُ وَالْمَكْرُ وَالْكَيْدُ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «لَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ»، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ ذِمِّيًّا يَجُوزُ إصْغَارُهُ فَكَذَلِكَ لَعْنُهُ. [مَسْأَلَةُ لَعْنُ الْعَاصِي] (تَرْكِيبٌ) وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَأَمَّا الْعَاصِي الْمُعَيَّنُ، فَلَا يَجُوزُ لَعْنُهُ اتِّفَاقًا، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِيءَ إلَيْهِ بِشَارِبِ خَمْرٍ مِرَارًا، فَقَالَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ: مَا لَهُ لَعَنَهُ اللَّهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَكُونُوا أَعْوَانًا لِلشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ»؛ فَجَعَلَ لَهُ حُرْمَةَ الْأُخُوَّةِ، وَهَذَا يُوجِبُ الشَّفَقَةَ، وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَأَمَّا لَعْنُ الْعَاصِي مُطْلَقًا، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَيَجُوزُ إجْمَاعًا، لِمَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ».

الآية الحادية والثلاثون قوله تعالى إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير

وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ: إنَّ مَعْنَاهُ عَلَيْهِمْ اللَّعْنَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت: 25]. وَاَلَّذِي عِنْدِي صِحَّةُ لَعْنِهِ فِي الدُّنْيَا لِمَنْ وَافَى كَافِرًا بِظَاهِرِ الْحَالِ، وَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْكَفَرَةِ مِنْ لَعْنَتِهِمْ وَكُفْرِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ حَالَةٌ أُخْرَى، وَبَيَانٌ لِحُكْمٍ آخَرَ وَحَالَةٍ وَاقِعَةٍ تَعْضُدُ جَوَازَ اللَّعْنِ فِي الدُّنْيَا؛ وَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ لِجَوَازِ اللَّعْنِ فِي الدُّنْيَا، فَيَكُونُ لِلْآيَتَيْنِ مَعْنَيَانِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ تَحْكُمُونَ بِجَوَازِ لَعْنَةِ اللَّهِ لِمَنْ كَانَ عَلَى ظَاهِرِ الْكُفْرِ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى مُوَافَاتَهُ مُؤْمِنًا؟ قُلْنَا: كَذَلِكَ نَقُولُ، وَلَكِنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ لَهُ حُكْمُهُ بِجَوَازِ لَعْنِهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَخْذًا بِظَاهِرِ حَالِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَآلِهِ. [الْآيَة الْحَادِيَة وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ] ِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173]. فِيهَا خَمْسَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: إنَّمَا: وَهِيَ كَلِمَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْحَصْرِ تَتَضَمَّنُ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ؛ فَتُثْبِتُ مَا تَنَاوَلَهُ الْخِطَابُ وَتَنْفِي مَا عَدَاهُ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ. وَقَدْ حَصَرَتْ هَاهُنَا الْمُحَرَّمَ لَا سِيَّمَا وَقَدْ جَاءَتْ عَقِبَ الْمُحَلَّلِ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]. فَأَدَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْإِبَاحَةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، ثُمَّ عَقَّبَهَا بِالْمُحَرَّمِ بِكَلِمَةِ " إنَّمَا " الْحَاصِرَةِ؛ فَاقْتَضَى ذَلِكَ الْإِيعَابَ

مسألة ما مات من الحيوان حتف أنفه من غير قتل بذكاة

لِلْقِسْمَيْنِ؛ فَلَا مُحَرَّمَ يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ، وَأَكَّدَتْهَا الْآيَةُ الْأُخْرَى الَّتِي رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِعَرَفَةَ: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] إلَى آخِرِهَا فَاسْتَوَى الْبَيَانُ أَوَّلًا وَآخِرًا. [مَسْأَلَةُ مَا مَاتَ مِنْ الْحَيَوَانِ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ غَيْرِ قَتْلٍ بِذَكَاةٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {الْمَيْتَةَ} [البقرة: 173]. وَهِيَ الْإِطْلَاقُ عُرْفًا، وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ حُكْمًا مَا مَاتَ مِنْ الْحَيَوَانِ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ غَيْرِ قَتْلٍ بِذَكَاةٍ، أَوْ مَقْتُولًا بِغَيْرِ ذَكَاةٍ، وَكَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَسْتَبِيحُهُ فَحَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ فَجَادَلُوا فِيهِ فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْأَنْعَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي شَعْرِهَا وَصُوفِهَا وَقَرْنِهَا: وَيَأْتِي فِي سُورَةِ النَّحْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ وَخُصُوصِهَا: رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَالْمَيْتَتَانِ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ وَالدَّمَانِ الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ». ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَخْصِيصِ ذَلِكَ: فَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّصَهُ فِي الْجَرَادِ وَالسَّمَكِ، وَأَجَازَ أَكْلَهُمَا مِنْ غَيْرِ مُعَالَجَةٍ وَلَا ذَكَاةٍ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ فِي السَّمَكِ وَأَجَازَهُ فِي الْجَرَادِ، وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَمَعَ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي جَوَازِ تَخْصِيصِ عُمُومِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ

لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِحَدِيثٍ ضَعِيفٍ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِمَّا لَا يَصِحُّ سَنَدُهُ. وَلَكِنَّهُ وَرَدَ فِي السَّمَكِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ جِدًّا: فِي الصَّحِيحَيْنِ «عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ يَتَلَقَّى عِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَزَوَّدَنَا جِرَابًا مِنْ تَمْرٍ، فَانْطَلَقْنَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَرُفِعَ لَنَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ كَهَيْئَةِ الْكَثِيبِ الضَّخْمِ، فَأَتَيْنَاهُ فَإِذَا هِيَ دَابَّةٌ تُدْعَى الْعَنْبَرُ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَيْتَةٌ، ثُمَّ قَالَ: بَلْ نَحْنُ رُسُلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ اُضْطُرِرْتُمْ فَكُلُوا. قَالَ: فَأَقَمْنَا عَلَيْهِ شَهْرًا حَتَّى سَمِنَّا، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: هُوَ رِزْقٌ أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَكُمْ، فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ فَتُطْعِمُونَا؟ قَالَ: فَأَرْسَلْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ، فَأَكَلَهُ». وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ». فَهَذَا الْحَدِيثُ يُخَصِّصُ بِصِحَّةِ سَنَدِهِ عُمُومَ الْقُرْآنِ فِي تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ، وَهُوَ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ.

مسألة اتفاق العلماء على أن الدم حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به

وَيَعْضُدُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96]. فَصَيْدُهُ مَا صِيدَ وَتُكَلِّفُ أَخْذُهُ، وَطَعَامُهُ مَا طَفَا عَلَيْهِ، أَوْ جَزَرَ عَنْهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّصَهُ فِي السَّمَكِ خَاصَّةً، وَرَأَى أَكْلَ مَيْتَتِهِ، وَمَنَعَ مِنْ أَكْلِ الْجَرَادِ إلَّا بِذَكَاةٍ؛ قَالَهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ عُمُومَ الْآيَةِ يَجْرِي عَلَى حَالِهِ حَتَّى يُخَصِّصَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ، أَوْ الْآيَةُ الظَّاهِرَةُ، وَقَدْ وُجِدَ كِلَاهُمَا فِي السَّمَكِ، وَلَيْسَ فِي الْجَرَادِ حَدِيثٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي أَكْلِ مَيْتَتِهِ. أَمَّا أَكْلُ الْجَرَادِ فَجَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَفِيهِ أَخْبَارٌ مِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ أَبِي أَوْفَى: «غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبْعَ غَزَوَاتٍ نَأْكُلُ الْجَرَادَ مَعَهُ». وَرَوَى سَلْمَانُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «هُوَ أَكْثَرُ جُنُودِ اللَّهِ، لَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ»، وَلَمْ يَصِحَّ. بَيْدَ أَنَّ الْخُلَفَاءَ أَكَلَتْهُ، وَهُوَ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ ذَكَاةٍ عَلَى مَا يَأْتِي فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَالَ كَعْبُ: إنَّهُ نَتْرَةُ حُوتٍ. قُلْنَا: لَا يَنْبَنِي عَلَى قَوْل كَعْبٍ حُكْمٌ؛ لِأَنَّهُ يُحَدِّثُ عَمَّا يَلْزَمُنَا تَصْدِيقُهُ، وَلَا يَجُوزُ لَنَا تَكْذِيبُهُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. [مَسْأَلَةُ اتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الدَّمَ حَرَامٌ نَجِسٌ لَا يُؤْكَلُ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَالدَّمَ} [البقرة: 173]: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الدَّمَ حَرَامٌ نَجِسٌ لَا يُؤْكَلُ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَقَدْ عَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَاهُنَا مُطْلَقًا، وَعَيَّنَهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ مُقَيَّدًا بِالْمَسْفُوحِ، وَحَمَلَ الْعُلَمَاءُ هَاهُنَا الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ إجْمَاعًا. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا لَتَتَبَّعَ النَّاسُ مَا فِي الْعُرُوقِ؛ فَلَا تَلْتَفِتُوا فِي ذَلِكَ إلَى مَا يُعْزَى إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الدَّمِ.

مسألة لحم الخنزير

ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَخْصِيصِ هَذَا الْعُمُومِ فِي الْكَبِدِ وَالطِّحَالِ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَا تَخْصِيصَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ قَالَهُ مَالِكٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ مَخْصُوصٌ فِي الْكَبِدِ وَالطِّحَالِ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يُخَصَّصْ، وَأَنَّ الْكَبِدَ وَالطِّحَالَ لَحْمٌ، يَشْهَدُ بِذَلِكَ الْعِيَانُ الَّذِي لَا يُعَارِضُهُ بَيَانٌ وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى بُرْهَانٍ. [مَسْأَلَةُ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} [البقرة: 173]. اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ [لَحْمَ] الْخِنْزِيرِ حَرَامٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ. وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ اللَّحْمِ أَنَّهُ حَيَوَانٌ يُذْبَحُ لِلْقَصْدِ إلَى لَحْمِهِ، وَقَدْ شَغَفَتْ الْمُبْتَدَعَةُ بِأَنْ تَقُولَ: فَمَا بَالُ شَحْمِهِ، بِأَيِّ شَيْءٍ حُرِّمَ؟ وَهُمْ أَعَاجِمُ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مَنْ قَالَ لَحْمًا فَقَدْ قَالَ شَحْمًا، وَمَنْ قَالَ شَحْمًا فَلَمْ يَقُلْ لَحْمًا؛ إذْ كُلُّ شَحْمٍ لَحْمٌ، وَلَيْسَ كُلُّ لَحْمٍ شَحْمًا مِنْ جِهَةِ اخْتِصَاصِ اللَّفْظِ؛ وَهُوَ لَحْمٌ مِنْ جِهَةِ حَقِيقَةِ اللَّحْمِيَّةِ، كَمَا أَنَّ كُلَّ حَمْدٍ شُكْرٌ، وَلَيْسَ كُلُّ شُكْرٍ حَمْدًا مِنْ جِهَةِ ذِكْرِ النِّعَمِ، وَهُوَ حَمْدٌ مِنْ جِهَةِ ذِكْرِ فَضَائِلِ الْمُنْعِمِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي نَجَاسَتِهِ: فَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: إنَّهُ نَجِسٌ، وَقَالَ مَالِكٌ: إنَّهُ طَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ كُلُّ حَيَوَانٍ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الطَّهَارَةِ عِنْدَهُ هِيَ الْحَيَاةُ. وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ عِنْدَ مَسَائِلِ الْخِلَافِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَبَيَّنَّاهُ طَرْدًا وَعَكْسًا، وَحَقَّقْنَا مَا فِيهِ مِنْ الْإِحَالَةِ [وَالْمُلَاءَمَةِ] وَالْمُنَاسَبَةِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ وَمَنْ

مسألة حقيقة الضرر والمضطر

لَا يَرَاهُ بِمَا لَا مَطْعَن فِيهِ، وَهَذَا يُشِيرُ بِك إلَيْهِ، فَأَمَّا شَعْرُهُ فَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173] وَمَوْضِعُهَا سُورَةُ الْأَنْعَامِ. [مَسْأَلَةُ حَقِيقَة الضَّرَرِ وَالْمُضْطَرِّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ} [البقرة: 173]. وَتَصْرِيفُهُ اُفْتُعِلَ مِنْ الضَّرَرِ، كَقَوْلِهِ: اُفْتُتِنَ مِنْ الْفِتْنَةِ، أَيْ: أَدْرَكَهُ ضَرَرٌ، وَوُجِدَ بِهِ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي حَقِيقَةِ الضَّرَرِ وَالْمُضْطَرِّ فِي كِتَابِ " الْمُشْكَلَيْنِ " بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ. بَيَانُهُ: أَنَّ الضَّرَرَ هُوَ الْأَلَمُ الَّذِي لَا نَفْعَ فِيهِ يُوَازِيهِ أَوْ يُرْبِي عَلَيْهِ، وَهُوَ نَقِيضُ النَّفْعِ، وَهُوَ الَّذِي لَا ضَرَرَ فِيهِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُوصَفْ شُرْبُ الْأَدْوِيَةِ الْكَرِيهَةِ وَالْعِبَادَاتِ الشَّاقَّةِ بِالضَّرَرِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ النَّفْعِ الْمُوَازِي لَهُ أَوْ الْمُرْبِي عَلَيْهِ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ الْمُضْطَرَّ هُوَ الْمُكَلَّفُ بِالشَّيْءِ الْمُلْجَأُ إلَيْهِ، الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ اسْمُ الْمُكْرَهِ إلَّا لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الشَّيْءِ، وَمَنْ خَلَقَ اللَّهُ فِيهِ فِعْلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ قُدْرَةٌ، كَالْمُرْتَعِشِ وَالْمَحْمُومِ، لَا يُسَمَّى مُضْطَرًّا وَلَا مُلْجَأً، وَأَشَرْنَا إلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الْمُضْطَرُّ، وَقَدْ يَكُونُ [الْمُضْطَرُّ] الْمُحْتَاجُ، وَلَكِنَّ الْمُلْجَأَ مُضْطَرٌّ حَقِيقَةً، وَالْمُحْتَاجُ مُضْطَرٌّ مَجَازًا. وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ وَابْنُهُ: إنَّ الْمُضْطَرَّ هُوَ الَّذِي فَعَلَ فِيهِ غَيْرُهُ فِعْلًا، وَهَذَا تَنَازُعٌ

مسألة من يقع منه الضرر

يَرْجِعُ إلَى اللَّفْظِ وَمَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ هُوَ اللُّغَةُ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَالْمُرَادُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {فَمَنِ اضْطُرَّ} [البقرة: 173]: أَيْ خَافَ التَّلَفَ، فَسَمَّاهُ مُضْطَرًّا، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى التَّنَاوُلِ. وَيَرِدُ الْمُضْطَرُّ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مُكْتَسِبُ الضَّرَرِ، وَالثَّانِي مُكْتَسِبُ دَفْعِهِ، كَالْإِعْجَامِ يَرِدُ بِمَعْنَى الْإِفْهَامِ وَبِمَعْنَى نَفْيِهِ، فَالسُّلْطَانُ يَضْطَرُّهُ أَيْ يُلْجِئُهُ لِلضَّرَرِ، وَالْمُضْطَرُّ يَبِيعُ مَنْزِلَهُ، أَيْ يَدْفَعُ الضَّرَرَ الَّذِي يَلْحَقُهُ بِامْتِنَاعِهِ مِنْ بَيْعِ مَالِهِ. وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مَوْجُودٌ فِي مَسْأَلَتِنَا فَإِنَّهُ مُضْطَرٌّ بِمَا أَدْرَكَهُ مِنْ أَلَمِ الْجُوعِ، مُضْطَرٌّ بِدَفْعِهِ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ بِتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ؛ وَهُوَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ مَشْرُوطٌ، وَبِالْمَعْنَى الثَّانِي مَأْمُورٌ. [مَسْأَلَةُ مِنْ يَقَع مِنْهُ الضَّرَر] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: هَذَا الضَّرَرُ الَّذِي بَيَّنَّاهُ يَلْحَقُ إمَّا بِإِكْرَاهٍ مِنْ ظَالِمٍ، أَوْ بِجُوعٍ فِي مَخْمَصَةٍ، أَوْ بِفَقْرٍ لَا يَجِدُ فِيهِ غَيْرَهُ؛ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ يَرْتَفِعُ عَنْ ذَلِكَ بِحُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَيَكُونُ مُبَاحًا، فَأَمَّا الْإِكْرَاهُ فَيُبِيحُ ذَلِكَ كُلَّهُ إلَى آخِرِ الْإِكْرَاهِ. وَأَمَّا الْمَخْمَصَةُ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ دَائِمَةً فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الشِّبَعِ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ نَادِرَةً فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَأْكُلُ حَتَّى يَشْبَعَ وَيَتَضَلَّعَ قَالَهُ مَالِكٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَأْكُلُ عَلَى قَدْرِ سَدِّ الرَّمَقِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ؛ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ ضَرُورَةٌ فَتَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ الَّذِي أَلَّفَهُ بِيَدِهِ، وَأَمْلَاهُ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَأَقْرَأَهُ وَقَرَأَهُ

مسألة الاضطرار إلى الخمر

عُمُرَهُ كُلَّهُ: " يَأْكُلُ حَتَّى يَشْبَعَ ". وَدَلِيلُهُ أَنَّ الضَّرُورَةَ تَرْفَعُ التَّحْرِيمَ فَيَعُودُ مُبَاحًا، وَمِقْدَارُ الضَّرُورَةِ إنَّمَا هُوَ مِنْ حَالَةِ عَدَمِ الْقُوتِ إلَى حَالَةِ وُجُودِهِ حَتَّى يَجِدَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ ضَعِيفٌ. [مَسْأَلَةُ الِاضْطِرَار إلَى الْخَمْر] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: مَنْ اُضْطُرَّ إلَى خَمْرٍ، فَإِنْ كَانَ بِإِكْرَاهٍ شَرِبَ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ لِجُوعٍ أَوْ عَطَشٍ فَلَا يَشْرَبُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ فِي الْعُتْبِيَّةِ، وَقَالَ: لَا تَزِيدُهُ الْخَمْرُ إلَّا عَطَشًا، وَحُجَّتُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَمْرَ مُطْلَقًا، وَحَرَّمَ الْمَيْتَةَ بِشَرْطِ عَدَمِ الضَّرُورَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْمَيْتَةِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيُّ: إنْ رَدَّتْ الْخَمْرُ عَنْهُ جُوعًا أَوْ عَطَشًا شَرِبَهَا. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْخِنْزِيرِ: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] ثُمَّ أَبَاحَهُ لِلضَّرُورَةِ، وَقَالَ تَعَالَى أَيْضًا فِي الْخَمْرِ: إنَّهَا رِجْسٌ، فَتَدْخُلُ فِي إبَاحَةِ ضَرُورَةِ الْخِنْزِيرِ؛ فَالْمَعْنَى الْجَلِيُّ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْ الْقِيَاسِ؛ وَلَا بُدَّ أَنْ تَرْوِيَ وَلَوْ سَاعَةً وَتَرُدَّ الْجُوعَ وَلَوْ مُدَّةً. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: إذَا غَصَّ بِلُقْمَةٍ فَهَلْ يُجِيزُهَا [بِخَمْرٍ] أَمْ لَا؟ قِيلَ: لَا يُسِيغُهَا بِالْخَمْرِ مَخَافَةَ أَنْ يَدَّعِي ذَلِكَ

مسألة الباغي والعادي

وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يُسِيغُهَا؛ لِأَنَّهَا حَالَةُ ضَرُورَةٍ. وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَنْ اُضْطُرَّ إلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ فَلَمْ يَأْكُلْ دَخَلَ النَّارَ، إلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ أَعْيَانًا مَخْصُوصَةً فِي أَوْقَاتٍ مُطْلَقَةٍ، ثُمَّ دَخَلَ التَّخْصِيصُ بِالدَّلِيلِ فِي بَعْضِ الْأَعْيَانِ، وَتَطَرَّقَ التَّخْصِيصُ بِالنَّصِّ إلَى بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ، فَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة: 173]؛ فَرَفَعَتْ الضَّرُورَةُ التَّحْرِيمَ، وَدَخَلَ التَّخْصِيصُ أَيْضًا بِحَالِ الضَّرُورَةِ إلَى حَالِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حَمْلًا عَلَى هَذَا بِالدَّلِيلِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ، فَأَبَاحَتْهُ الضَّرُورَةُ كَالْمَيْتَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ يَقُولُ: إنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ لَا يَحِلُّ بِالضَّرُورَةِ ذَكَرَ أَنَّهَا لَا تَزِيدُهُ إلَّا عَطَشًا، وَلَا تَدْفَعُ عَنْهُ شِبَعًا؛ فَإِنْ صَحَّ مَا ذَكَرَهُ كَانَتْ حَرَامًا، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ وَهُوَ الظَّاهِرُ أَبَاحَتْهَا الضَّرُورَةُ كَسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ. وَأَمَّا الْغَاصُّ بِلُقْمَةٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَنَا فَإِنْ شَهِدْنَاهُ فَلَا يَخْفَى بِقَرَائِنِ الْحَالِ صُورَةُ الْغُصَّةِ مِنْ غَيْرِهَا، فَيُصَدَّقُ إذَا ظَهَرَ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ حَدَدْنَاهُ ظَاهِرًا وَسَلِمَ مِنْ الْعُقُوبَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بَاطِنًا. [مَسْأَلَة الْبَاغِي وَالْعَادِي] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة: 173]. فِيهَا أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ نُخْبَتُهَا اثْنَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْبَاغِيَ فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ الطَّالِبُ لِخَيْرٍ كَانَ أَوْ لِشَرٍّ، إلَّا أَنَّهُ خُصَّ هَاهُنَا بِطَالِبٍ الشَّرِّ، وَمِنْ طَالِبِ الشَّرِّ الْخَارِجُ عَلَى الْإِمَامِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ. وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى} [الحجرات: 9]. وَالْعَادِي، وَهُوَ: الْمُجَاوِزُ مَا يَجُوزُ إلَى مَا لَا يَجُوزُ، وَخُصَّ هَاهُنَا بِقَاطِعِ السَّبِيلِ، وَقَدْ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ

مسألة رخص السفر للعاصي بسفره

الثَّانِي: أَنَّ الْبَاغِيَ آكِلُ الْمَيْتَةِ فَوْقَ الْحَاجَةِ، وَالْعَادِي آكِلُهَا مَعَ وُجُودِ غَيْرِهَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ: مِنْهُمْ قَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ. وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعَادِيَ بَاغٍ، فَلَمَّا أَفْرَدَ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالذِّكْرِ تَعَيَّنَ لَهُ مَعْنًى غَيْرُ مَعْنَى الْآخَرِ، لِئَلَّا يَكُونَ تَكْرَارًا يَخْرُجُ عَنْ الْفَصَاحَةِ الْوَاجِبَةِ لِلْقُرْآنِ. وَالْأَصَحُّ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَنَّ مَعْنَاهُ غَيْرُ طَالِبٍ شَرًّا، وَلَا مُتَجَاوِزٍ حَدًّا، فَأَمَّا قَوْلُهُ: " غَيْرُ طَالِبٍ شَرًّا " فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ كُلُّ خَارِجٍ عَلَى الْإِمَامِ، وَقَاطِعٍ لِلطَّرِيقِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ. وَأَمَّا " غَيْرُ مُتَجَاوِزٍ حَدًّا " فَمَعْنَاهُ غَيْرُ مُتَجَاوِزٍ حَدَّ الضَّرُورَةِ إلَى حَدِّ الِاخْتِيَارِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَدْخُلَ تَحْتَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الشِّبَعِ، كَمَا قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ، وَلَكِنْ مَعَ النُّدُورِ لَا مَعَ التَّمَادِي؛ «فَإِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ وَأَصْحَابَهُ قَدْ أَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا مِمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّهُ مَيْتَةٌ حَتَّى أَخْبَرَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ حَلَالٌ»؛ لَكِنَّ وَجْهَ الْحُجَّةِ أَنَّهُمْ لَمَّا أَخْبَرُوهُ بِحَالِهِمْ جَوَّزَ لَهُمْ أَكْلَهُمْ شِبَعًا وَتَضَلُّعًا مَعَ اعْتِقَادِهِمْ لِضَرُورَتِهِمْ. [مَسْأَلَةُ رُخَص السَّفَرِ لِلْعَاصِيَّ بِسَفَرِهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَا يَسْتَبِيحُ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ رُخَصَ السَّفَرِ؛ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ؛ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تُبَاحُ لَهُ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ ذَلِكَ عَوْنًا، وَالْعَاصِي لَا يَحِلُّ أَنْ يُعَانَ، فَإِنْ أَرَادَ الْأَكْلَ فَلْيَتُبْ وَيَأْكُلْ، وَعَجَبًا مِمَّنْ يُبِيحُ ذَلِكَ لَهُ مَعَ التَّمَادِي عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَمَا أَظُنُّ أَحَدًا يَقُولُهُ؛ فَإِنْ قَالَهُ أَحَدٌ فَهُوَ مُخْطِئٌ قَطْعًا. [مَسْأَلَةُ وَجَدَ الْمُضْطَرُّ الْمُحْرِم مَيْتَةً وَدَمًا وَلَحْمَ خِنْزِيرٍ وَخَمْرًا وَصَيْدًا] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: إذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً وَدَمًا وَلَحْمَ خِنْزِيرٍ وَخَمْرًا وَصَيْدًا حَرَمِيًّا أَوْ صَيْدًا وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَهَذِهِ صُورَتَانِ:

مسألة التداوي بالميتة

الْأُولَى: الْحَلَالُ يَجِدُهَا، وَالثَّانِي الْحَرَامُ؛ فَإِنْ وَجَدَ مَيْتَةً وَخَمْرًا قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ حَلَالًا بِيَقِينٍ، وَالْخَمْرُ مُحْتَمِلَةٌ لِلنَّظَرِ؛ وَإِنْ وَجَدَ مَيْتَةً وَبَعِيرًا ضَالًّا أَكَلَ الْمَيْتَةَ قَالَهُ ابْنُ وَهْبٍ. فَإِنْ وَجَدَ مَيْتَةً وَكَنْزًا أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ أَكَلَ الْكَنْزَ قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ. فَإِنْ وَجَدَ ذَلِكَ تَحْتَ حِرْزٍ أَكَلَ الْمَيْتَةَ؛ وَلَوْ وَجَدَ مَيْتَةً وَخِنْزِيرًا قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، فَإِنْ وَجَدَ لَحْمَ بَنِي آدَمَ وَالْمَيْتَةَ أَكَلَ الْمَيْتَةَ؛ فَإِنَّهَا حَلَالٌ فِي حَالٍ، وَالْخِنْزِيرُ وَابْنُ آدَمَ لَا يَحِلُّ بِحَالٍ، وَلَا يَأْكُلُ ابْنَ آدَمَ وَلَوْ مَاتَ قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَأْكُلُ لَحْمَ ابْنِ آدَمَ. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: إذَا وَجَدَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا، وَمَيْتَةً؛ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَلَا يَأْكُلُ الصَّيْدَ. وَالضَّابِطُ لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ أَنَّهُ إذَا وَجَدَ مَيْتَةً وَلَحْمَ خِنْزِيرٍ قَدَّمَ الْمَيْتَةَ؛ لِأَنَّهَا تَحِلُّ حَيَّةً وَالْخِنْزِيرُ لَا يَحِلُّ، وَالتَّحْرِيمُ الْمُخَفَّفُ أَوْلَى أَنْ يُقْتَحَمَ مِنْ التَّحْرِيمِ الْمُثْقَلِ، كَمَا لَوْ أُكْرِهَ أَنْ يَطَأَ أُخْتَهُ أَوْ أَجْنَبِيَّةً وَطِئَ الْأَجْنَبِيَّةَ؛ لِأَنَّهَا تَحِلُّ لَهُ بِحَالٍ، وَإِذَا وَجَدَ مَيْتَةً وَخَمْرًا فَقَدْ تَقَدَّمَ، وَإِذَا وَجَدَ مَيْتَةً وَمَالَ الْغَيْرِ، فَإِنْ أَمِنَ الضَّرَرَ فِي بَدَنِهِ أَكَلَ مَالَ الْغَيْرِ، وَلَمْ يَحِلَّ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ، وَإِنْ لَمْ يَأْمَنْ أَكَلَ الْمَيْتَةَ، وَأَمِنَهُ إذَا كَانَ مَالُ الْغَيْرِ فِي الثِّمَارِ أَكْثَرَ مِنْ أَمْنِهِ إذَا كَانَ فِي الْجَرِينِ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْمَيْتَةِ وَالْآدَمِيِّ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَلَّا يَأْكُلَ الْآدَمِيَّ إلَّا إذَا تَحَقَّقَ أَنَّ ذَلِكَ يُنْجِيهِ وَيُحْيِيهِ. وَإِذَا وَجَدَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا وَمَيْتَةً أَكَلَ الصَّيْدَ، لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ مُؤَقَّتٌ، فَهُوَ أَخَفُّ وَتُقْبَلُ الْفِدْيَةُ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ، وَلَا فِدْيَةَ لِآكِلِ الْمَيْتَةِ. [مَسْأَلَةُ التَّدَاوِي بِالْمَيْتَةِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: إذَا احْتَاجَ إلَى التَّدَاوِي بِالْمَيْتَةِ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَحْتَاجَ إلَى اسْتِعْمَالِهَا قَائِمَةً بِعَيْنِهَا، أَوْ يَسْتَعْمِلَهَا مُحْرَقَةً؛ فَإِنْ تَغَيَّرَتْ بِالْإِحْرَاقِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهَا وَالصَّلَاةُ، وَخَفَّفَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَرْقَ تَطْهِيرٌ لِتَغَيُّرِ الصِّفَاتِ.

الآية الثانية والثلاثون قوله تعالى وآتى المال على حبه

وَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ فِي الْمَرْتَكِ يُصْنَعُ مِنْ عِظَامِ الْمَيْتَةِ إذَا جَعَلَهُ فِي جُرْحِهِ لَا يُصَلِّي بِهِ حَتَّى يَغْسِلَهُ. وَإِنْ كَانَتْ الْمَيْتَةُ بِعَيْنِهَا فَقَدْ قَالَ سَحْنُونٌ: لَا يَتَدَاوَى بِهَا بِحَالٍ وَلَا بِالْخِنْزِيرِ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَتَدَاوَى بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مِنْهُ عِوَضًا حَلَالًا، وَلَا يُوجَدُ فِي الْمَجَاعَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَعْيَانِ عِوَضٌ، حَتَّى لَوْ وَجَدَ مِنْهَا فِي الْمَجَاعَةِ عِوَضًا لَمْ يَأْكُلْهَا، كَمَا لَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهَا؛ لِوُجُودِ الْعِوَضِ، وَلَوْ أُحْرِقَتْ لَبَقِيَتْ نَجِسَةً؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ النَّجِسَةَ لَا تَطْهُرُ إلَّا بِالْمَاءِ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّرْعُ مُطَهِّرًا لِلْأَعْيَانِ النَّجِسَةِ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ الْخَمْرِ أَيُتَدَاوَى بِهَا؟ قَالَ: لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهَا دَاءٌ». [الْآيَة الثَّانِيَة وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ] ِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ قَدَّمْنَا فِيمَا قَبْلُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ، وَقَدْ كَانَ الشَّعْبِيُّ فِيمَا يُؤْثَرُ عَنْهُ يَقُولُ: فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ، وَيَحْتَجُّ بِحَدِيثٍ يُرْوَى عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ». وَهَذَا ضَعِيفٌ لَا يَثْبُتُ عَنْ

مسألة قوله تعالى والمساكين

الشَّعْبِيِّ، وَلَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ، وَإِذَا وَقَعَ أَدَاءُ الزَّكَاةِ وَنَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ حَاجَةٌ فَإِنَّهُ يَجِبُ صَرْفُ الْمَالِ إلَيْهَا بِاتِّفَاقٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: يَجِبُ عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِدَاءُ أَسَرَاهُمْ، وَإِنْ اسْتَغْرَقَ ذَلِكَ أَمْوَالَهُمْ، وَكَذَا إذَا مَنَعَ الْوَالِي الزَّكَاةَ، فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ إغْنَاءُ الْفُقَرَاءِ؟ مَسْأَلَةٌ فِيهَا نَظَرٌ، أَصَحُّهَا عِنْدِي وُجُوبُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَالْمَسَاكِينِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَالْمَسَاكِينَ} [البقرة: 177]: يَعْنِي: الَّذِينَ لَا يَسْأَلُونَ، وَالسَّائِلِينَ يَعْنِي الَّذِينَ كَشَفُوا وُجُوهَهُمْ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ». [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَفِي الرِّقَابِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177]: هُمْ عَبِيدٌ يُعْتَقُونَ قُرْبَةً قَالَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيِّ: أَنَّهُمْ الْمُكَاتَبُونَ يُعَانُونَ فِي فَكِّ رِقَابِهِمْ، وَذَلِكَ مُحْتَمَلٌ، وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ عَامٌّ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَآتَى الزَّكَاةَ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَآتَى الزَّكَاةَ} [البقرة: 177]. قِيلَ الْمُرَادُ بِإِيتَاءِ الْمَالِ فِي أَوَّلِهَا التَّطَوُّعُ أَوْ غَيْرُهُ مِمَّا قَدَّرْنَاهُ، وَبِالزَّكَاةِ هَاهُنَا الزَّكَاةُ الْمَعْرُوفَةُ.

الآية الثالثة والثلاثون قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى

وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِإِيتَاءِ الزَّكَاةِ هَاهُنَا تَفْسِيرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177]؛ فَبَيَّنَ الْمَالَ الْمُؤْتَى وَوَجْهَ الْإِيتَاءِ فِيهِ، وَهُوَ الزَّكَاةُ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُمَا فَائِدَتَانِ: الْإِيتَاءُ الْأَوَّلُ فِي وُجُوهِهِ، فَتَارَةً يَكُونُ نَدْبًا، وَتَارَةً يَكُونُ فَرْضًا؛ وَالْإِيتَاءُ الثَّانِي هُوَ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى] الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178]. فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: قَالَهَا الشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ: إنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ كَانَ مِنْ الْعَرَبِ لَا يَرْضَى أَنْ يَأْخُذَ بِعَبْدٍ إلَّا حُرًّا، وَبِوَضِيعٍ إلَّا شَرِيفًا، وَبِامْرَأَةٍ إلَّا رَجُلًا ذَكَرًا، وَيَقُولُونَ: الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ، فَرَدَّهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ إلَى الْقِصَاصِ، وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ مَعَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ، فَقَالَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 179] وَبَيْنَ الْكَلَامَيْنِ فِي الْفَصَاحَةِ وَالْعَدْلِ بَوْنٌ عَظِيمٌ. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله كُتِبَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: مَعْنَى {كُتِبَ} [البقرة: 178]: فُرِضَ وَأُلْزِمَ، وَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا وَالْقِصَاصُ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ لِخِيرَةِ الْوَلِيِّ؛ وَمَعْنَى ذَلِكَ كُتِبَ وَفُرِضَ إذَا أَرَدْتُمْ [اسْتِيفَاءَ]

مسألة الاختلاف في قوله تعالى كتب عليكم القصاص في القتلى

الْقِصَاصِ فَقَدْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ، كَمَا يُقَالُ كُتِبَ عَلَيْك إذَا أَرَدْت التَّنَفُّلَ الْوُضُوءُ؛ وَإِذَا أَرَدْت الصِّيَامَ النِّيَّةُ. [مَسْأَلَةٌ الِاخْتِلَافُ فِي قَوْله تَعَالَى كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]؛ فَقِيلَ: هُوَ كَلَامٌ عَامٌّ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ؛ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ سَائِرُهُمْ: لَا يَتِمُّ الْكَلَامُ هَاهُنَا؛ وَإِنَّمَا يَنْقَضِي عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: {وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} [البقرة: 178] وَهُوَ تَفْسِيرٌ لَهُ، وَتَتْمِيمٌ لِمَعْنَاهُ، مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. فَائِدَةٌ وَرَدَ عَلَيْنَا بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ فَقِيهٌ مِنْ عُظَمَاءِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ يُعْرَفُ بِالزَّوْزَنِيِّ زَائِرًا لِلْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه فَحَضَرْنَا فِي حَرَمِ الصَّخْرَةِ الْمُقَدَّسَةِ طَهَّرَهَا اللَّهُ مَعَهُ، وَشَهِدَ عُلَمَاءُ الْبَلَدِ، فَسُئِلَ عَلَى الْعَادَةِ عَنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ، فَقَالَ: يُقْتَلُ بِهِ قِصَاصًا؛ فَطُولِبَ بِالدَّلِيلِ، فَقَالَ: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]. وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ قَتِيلٍ. فَانْتَدَبَ مَعَهُ لِلْكَلَامِ فَقِيهُ الشَّافِعِيَّةِ بِهَا وَإِمَامُهُمْ عَطَاءٌ الْمَقْدِسِيُّ، وَقَالَ: مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّيْخُ الْإِمَامُ لَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] فَشَرَطَ الْمُسَاوَاةَ فِي الْمُجَازَاةِ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ؛ فَإِنَّ الْكُفْرَ حَطَّ مَنْزِلَتَهُ وَوَضَعَ مَرْتَبَتَهُ.

الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ رَبَطَ آخِرَ الْآيَةِ بِأَوَّلِهَا، وَجَعَلَ بَيَانَهَا عِنْدَ تَمَامِهَا، فَقَالَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} [البقرة: 178] فَإِذَا نَقَصَ الْعَبْدُ عَنْ الْحُرِّ بِالرِّقِّ، وَهُوَ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ فَأَحْرَى وَأَوْلَى أَنْ يَنْقُصَ عَنْهُ الْكَافِرُ. الثَّالِثُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178]؛ وَلَا مُؤَاخَاةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ؛ فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ دُخُولِهِ فِي هَذَا الْقَوْلِ. فَقَالَ الزَّوْزَنِيُّ: بَلْ ذَلِكَ دَلِيلٌ صَحِيحٌ، وَمَا اعْتَرَضْت بِهِ لَا يَلْزَمُنِي مِنْهُ شَيْءٌ. أَمَّا قَوْلُك: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ الْمُسَاوَاةَ فِي الْمُجَازَاةِ فَكَذَلِكَ أَقُولُ. وَأَمَّا دَعْوَاك أَنَّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ فِي الْقِصَاصِ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ فَغَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي الْحُرْمَةِ الَّتِي تَكْفِي فِي الْقِصَاصِ، وَهِيَ حُرْمَةُ الدَّمِ الثَّابِتَةُ عَلَى التَّأْبِيدِ؛ فَإِنَّ الذِّمِّيَّ مَحْقُونُ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَالْمُسْلِمَ مَحْقُونُ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَكِلَاهُمَا قَدْ صَارَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَاَلَّذِي يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمَ يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِ الذِّمِّيِّ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَالَ الذِّمِّيِّ قَدْ سَاوَى مَالَ الْمُسْلِمِ؛ فَدَلَّ عَلَى مُسَاوَاتِهِ لِدَمِهِ؛ إذْ الْمَالُ إنَّمَا يَحْرُمُ بِحُرْمَةِ مَالِكِهِ. وَأَمَّا قَوْلُك: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَبَطَ آخِرَ الْآيَةِ بِأَوَّلِهَا فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ عَامٌّ وَآخِرُهَا خَاصٌّ، وَخُصُوصُ آخِرِهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ عُمُومِ أَوَّلِهَا؛ بَلْ يَجْرِي كُلٌّ عَلَى حُكْمِهِ مِنْ عُمُومٍ أَوْ خُصُوصٍ. وَأَمَّا قَوْلُك: إنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ، فَلَا أُسَلِّمُ بِهِ؛ بَلْ يُقْتَلُ بِهِ عِنْدِي قِصَاصًا، فَتَعَلَّقْت بِدَعْوَى لَا تَصِحُّ لَك. وَأَمَّا قَوْلُك: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ يَعْنِي الْمُسْلِمَ، فَكَذَلِكَ أَقُولُ، وَلَكِنَّ هَذَا خُصُوصٌ فِي الْعَفْوِ؛ فَلَا يَمْنَعُ مِنْ عُمُومِ وُرُودِ الْقِصَاصِ، فَإِنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ مُتَبَايِنَتَانِ؛ فَعُمُومُ إحْدَاهُمَا لَا يَمْنَعُ مِنْ خُصُوصِ الْأُخْرَى، وَلَا خُصُوصَ هَذِهِ يُنَاقِضُ عُمُومَ

مسألة الحر لا يقتل بالعبد

تِلْكَ. وَجَرَتْ فِي ذَلِكَ مُنَاظَرَةٌ عَظِيمَةٌ حَصَّلْنَا مِنْهَا فَوَائِدَ جَمَّةً أَثْبَتْنَاهَا فِي " نُزْهَةِ النَّاظِرِ "، وَهَذَا الْمِقْدَارُ يَكْفِي هُنَا مِنْهَا. [مَسْأَلَةٌ الْحُرّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] تَعَلَّقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ بِهَذَا التَّنْوِيعِ وَالتَّقْسِيمِ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ نَظِيرَ الْحُرِّ وَمُسَاوِيهِ وَهُوَ الْحُرُّ، وَبَيَّنَ الْعَبْدَ وَمُسَاوِيهِ، وَهُوَ الْعَبْدُ، وَيَعْضُدُهُ مَا نَاقَضَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّهُ لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ طَرْفِ الْحُرِّ وَطَرْفِ الْعَبْدِ، وَلَا يَجْرِي الْقِصَاصُ مِنْهُمَا فِي الْأَطْرَافِ، فَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ أَنْ يَجْرِيَ فِي الْأَنْفُسِ، وَلَقَدْ بَلَغَتْ الْجَهَالَةُ بِأَقْوَامٍ أَنْ قَالُوا: يُقْتَلُ الْحُرُّ بِعَبْدِ نَفْسِهِ، وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ حَدِيثًا عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ» وَهَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] الْوَلِيُّ هَاهُنَا السَّيِّدُ، فَكَيْفَ يُجْعَلُ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنْ قِيلَ: جَعَلَهُ إلَى الْإِمَامِ، قِيلَ: إنَّمَا يَكُونُ لِلْإِمَامِ إذَا ثَبَتَ لِلْمُسْلِمِينَ مِيرَاثًا، فَيَأْخُذُهُ الْإِمَامُ نِيَابَةً عَنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلُهُمْ، وَنِيَابَتُهُ هَاهُنَا عَنْ السَّيِّدِ مُحَالٌ فَلَا يُقَادُ بِهِ. [مَسْأَلَةٌ قَتَلَ الذَّكَرُ بِالْأُنْثَى] فَإِنْ قِيلَ: وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} [البقرة: 178] [فَلَمْ يُقْتَلُ الذَّكَرُ بِالْأُنْثَى]. قُلْنَا: ذَلِكَ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ دَلِيلٌ آخَرُ، وَلَوْ تَرَكْنَا هَذَا التَّقْسِيمَ لَقُلْنَا: لَا يُقْتَلُ الذَّكَرُ بِالْأُنْثَى.

مسألة القصاص بين الحر والعبد

فَإِنْ قِيلَ: إذَا قَتَلَ الرَّجُلُ زَوْجَهُ لِمَ لَمْ تَقُولُوا: يَنْتَصِبُ النِّكَاحُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْقِصَاصِ عَنْ الزَّوْجِ كَمَا انْتَصَبَ النَّسَبُ الَّذِي هُوَ فَرْعُهُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْقِصَاصِ عَنْ النَّسَبِ؛ إذْ النِّكَاحُ ضَرْبٌ مِنْ الرِّقِّ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَنْتَصِبَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْقِصَاصِ. قُلْنَا: النِّكَاحُ يَنْعَقِدُ لَهَا عَلَيْهِ كَمَا يَنْعَقِدُ لَهُ عَلَيْهَا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَتَزَوَّجُ أُخْتَهَا وَلَا أَرْبَعًا سِوَاهَا، وَيَحِلُّ لَهَا مِنْهُ مَا يَحِلُّ لَهُ مِنْهَا، وَتُطَالِبُهُ مِنْ الْوَطْءِ بِمَا يُطَالِبُهَا، وَلَكِنْ لَهُ عَلَيْهَا فَضْلُ الْقَوَامِيَّةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لَهُ عَلَيْهَا بِمَا أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِ، أَيْ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ صَدَاقٍ وَنَفَقَةٍ، فَلَوْ أَوْرَثَ شُبْهَةً لَأَوْرَثَهَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقُولُوا كَمَا قَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: إنَّ الرَّجُلَ إذَا قَتَلَ امْرَأَتَهُ فَقَتَلَهُ وَلِيُّهَا لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ شَيْءٌ زَائِدٌ. وَلَوْ قَتَلَتْ امْرَأَةٌ رَجُلًا قُتِلَتْ، وَأُخِذَ مِنْ مَالِهَا نِصْفُ الْعَقْلِ. قُلْنَا: هُوَ مَسْبُوقٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مَحْجُوجٌ بِالْعُمُومِيَّاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْقِصَاصِ دُونَ اعْتِبَارِ شَيْءٍ مِنْ الدِّيَةِ فِيهِمَا. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْت فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ الْحُرَّةَ تُقْتَلُ بِالْحُرَّةِ، كَمَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْحُرِّ، وَالْأَمَةُ تُقْتَلُ بِالْأَمَةِ كَمَا يُقْتَلُ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ، وَالْقِصَاصُ أَيْضًا يَكُونُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ فِي النَّفْسِ وَالطَّرَفِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] وَهَذَا بَيِّنٌ، وَسَنَزِيدُهُ بَيَانًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ. [مَسْأَلَةٌ الْقِصَاص بَيْن الحر وَالْعَبْد] وَهَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: لِأَنَّ الْآيَةَ بِعُمُومِهَا تَقْتَضِي الْجُمْلَةَ بِالْجُمْلَةِ وَالْبَعْضَ بِالْبَعْضِ وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُؤْخَذُ طَرْفُ الْحُرِّ بِطَرْفِ الْعَبْدِ، وَتُؤْخَذُ نَفْسُهُ بِنَفْسِهِ، فَيَقُولُ: شَخْصَانِ لَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ مَعَ الِاسْتِوَاءِ فِي السَّلَامَةِ وَالْخِلْقَةِ فَلَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا فِي الْأَنْفُسِ.

مسألة قتل الأب بولده

وَقَالَ اللَّيْثُ: يُؤْخَذُ طَرْفُ الْعَبْدِ بِطَرْفِ الْحُرِّ، وَلَا يُؤْخَذُ طَرْفُ الْحُرِّ بِطَرْفِ الْعَبْدِ، وَهَذَا يَنْعَكِسُ عَلَيْهِ، وَيَلْزَمُهُ مِثْلُهُ فِي النَّفْسِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: الْقِصَاصُ جَارٍ بَيْنَهُمَا فِي الطَّرْفِ وَالنَّفْسِ، وَالتَّمْهِيدُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي صَدْرِ الْآيَةِ يُبْطِلُهُ، وَقَدْ حَقَّقْنَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شَرَطَ الْمُسَاوَاةَ فِي الْقَتْلَى، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ الَّذِي هُوَ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ يُدْخِلُهُ تَحْتَ ذُلِّ الرِّقِّ، وَيُسَلِّطُ عَلَيْهِ أَيْدِي الْمَالِكِينَ تَسْلِيطًا يَمْنَعُهُ مِنْ الْمُطَاوَلَةِ، وَيَصُدُّهُ عَنْ تَعَاطِي الْمُصَاوَلَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعَدَاوَةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الْإِتْلَافِ، كَدُخُولِ الْكَافِرِ تَحْتَ ذُلِّ الْعَهْدِ، وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ الْحَيَاةُ الَّتِي هِيَ مَعْنَى الْآدَمِيَّةِ، فَإِنَّ مَذَلَّةَ الْعُبُودِيَّةِ تُرْهِقُهُ كَمَذَلَّةِ الْكُفْرِ الْمُرْهِقَةِ لِلذِّمِّيِّ. [مَسْأَلَةٌ قَتْلُ الْأَبِ بِوَلَدِهِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ هَلْ يُقْتَلُ الْأَبُ بِوَلَدِهِ مَعَ عُمُومِ آيَاتِ الْقِصَاصِ؟ قَالَ مَالِكٌ: يُقْتَلُ بِهِ إذَا تَبَيَّنَ قَصْدُهُ إلَى قَتْلِهِ بِأَنْ أَضْجَعَهُ وَذَبَحَهُ، فَإِنْ رَمَاهُ بِالسِّلَاحِ أَدَبًا وَحَنَقًا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ، وَيُقْتَلُ الْأَجْنَبِيُّ بِمِثْلِ هَذَا، وَخَالَفَهُ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ، وَقَالُوا: لَا يُقْتَلُ بِهِ. سَمِعْت شَيْخَنَا فَخْرَ الْإِسْلَامِ أَبَا بَكْرٍ الشَّاشِيَّ يَقُولُ فِي النَّظَرِ: لَا يُقْتَلُ الْأَبُ بِابْنِهِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ كَانَ سَبَبَ وُجُودِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ هُوَ سَبَبَ عَدَمِهِ، وَهَذَا يَبْطُلُ بِمَا إذَا زَنَى بِابْنَتِهِ فَإِنَّهُ يُرْجَمُ وَكَانَ سَبَبَ وُجُودِهَا، وَتَكُونُ هِيَ سَبَبَ عَدَمِهِ؛ ثُمَّ أَيُّ فِقْهٍ تَحْتَ هَذَا؟ وَلِمَ لَا يَكُونُ سَبَبَ عَدَمِهِ إذَا عَصَى اللَّهَ تَعَالَى فِي ذَلِكَ، وَقَدْ أُثِرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُقَادُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ». وَهُوَ حَدِيثٌ

مسألة قتل الجماعة بالواحد

بَاطِلٌ، وَمُتَعَلِّقُهُمْ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَضَى بِالدِّيَةِ مُغَلَّظَةً فِي قَاتِلِ ابْنِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ، فَأَخَذَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ الْمَسْأَلَةَ مُسَجَّلَةً، وَقَالُوا: لَا يُقْتَلُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ، وَأَخَذَهَا مَالِكٌ مُحْكَمَةً مُفَصَّلَةً، فَقَالَ: إنَّهُ لَوْ حَذَفَهُ بِسَيْفٍ، وَهَذِهِ حَالَةٌ مُحْتَمَلَةٌ لِقَصْدِ الْقَتْلِ وَغَيْرِهِ، وَشَفَقَةُ الْأُبُوَّةِ شُبْهَةٌ مُنْتَصِبَةٌ شَاهِدَةٌ بِعَدَمِ الْقَصْدِ [إلَى الْقَتْلِ] تُسْقِطُ الْقَوَدَ، فَإِذَا أَضْجَعَهُ كَشَفَ الْغِطَاءَ عَنْ قَصْدِهِ فَالْتَحَقَ بِأَصْلِهِ. [مَسْأَلَةٌ قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ [قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ]: احْتَجَّ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي قَوْلِهِ: لَا تُقْتَلُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ فِي الْقِصَاصِ الْمُسَاوَاةَ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ، لَا سِيَّمَا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] الْجَوَابُ: أَنَّ مُرَاعَاةَ الْقَاعِدَةِ أَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ الْأَلْفَاظِ، وَلَوْ عَلِمَ الْجَمَاعَةُ أَنَّهُمْ إذَا قَتَلُوا وَاحِدًا لَمْ يُقْتَلُوا لَتَعَاوَنَ الْأَعْدَاءُ عَلَى قَتْلِ أَعْدَائِهِمْ بِالِاشْتِرَاكِ فِي قَتْلِهِمْ، وَبَلَغُوا الْأَمَلَ مِنْ التَّشَفِّي مِنْهُمْ. جَوَابٌ آخَرُ: وَذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِصَاصِ قَتْلُ مَنْ قَتَلَ، كَائِنًا مَنْ كَانَ، رَدًّا عَلَى الْعَرَبِ الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَ بِمَنْ قَتَلَ مِنْ لَمْ يَقْتُلْ، وَتَقْتُلَ فِي مُقَابَلَةِ الْوَاحِدِ مِائَةً افْتِخَارًا، وَاسْتِظْهَارًا بِالْجَاهِ وَالْمَقْدِرَةِ؛ فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْمُسَاوَاةِ وَالْعَدْلِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقْتَلَ مَنْ قَتَلَ. جَوَابٌ ثَالِثٌ: أَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] فَالْمَقْصُودُ هُنَاكَ بَيَانًا لِلْمُقَابَلَةِ فِي الِاسْتِيفَاءِ أَنَّ النَّفْسَ تُؤْخَذُ بِالنَّفْسِ، وَالْأَطْرَافَ بِالْأَطْرَافِ، رَدًّا عَلَى مَنْ تَبْلُغُ بِهِ الْحَمِيَّةُ إلَى أَنْ يَأْخُذَ نَفْسَ جَانٍ عَنْ طَرْفِ مَجْنِيٍّ عَلَيْهِ، وَالشَّرِيعَةُ تُبْطِلُ الْحَمِيَّةَ وَتَعْضُدُ الْحِمَايَةَ.

مسألة قوله تعالى فمن عفي له من أخيه شيء

[مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] إلَى آخِرِهَا: قَالَ الْقَاضِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هَذَا قَوْلٌ مُشْكِلٌ تَبَلَّدَتْ فِيهِ أَلْبَابُ الْعُلَمَاءِ، وَاخْتَلَفُوا فِي مُقْتَضَاهُ. فَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ: مُوجِبُ الْعَمْدِ الْقَوَدُ خَاصَّةً، وَلَا سَبِيلَ إلَى الدِّيَةِ إلَّا بِرِضًا مِنْ الْقَاتِلِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْهُ أَنَّ الْوَلِيَّ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إنْ شَاءَ قَتَلَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَكَاخْتِلَافِهِمْ اخْتَلَفَ مَنْ مَضَى مِنْ السَّلَفِ قَبْلَهُمْ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: " الْعَفْوُ أَنْ تُقْبَلَ الدِّيَةُ فِي الْعَمْدِ، فَيُتْبَعَ بِمَعْرُوفٍ وَتُؤَدَّى إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ " يَعْنِي يُحْسِنُ فِي الطَّلَبِ مِنْ غَيْرِ تَضْيِيقٍ، وَلَا تَعْنِيفٍ، وَيُحْسِنُ فِي الْأَدَاءِ مِنْ غَيْرِ مَطْلٍ وَلَا تَسْوِيفٍ. وَنَحْوُهُ عَنْ قَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَالسُّدِّيِّ زَادَ قَتَادَةُ: بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ زَادَ أَوْ ازْدَادَ بَعِيرًا يَعْنِي فِي إبِلِ الدِّيَةِ، فَمِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ»، وَكَأَنَّهُ يَعْنِي فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ لَا يُزَادُ عَلَى الدِّيَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الشَّرْعِ. وَقَالَ مَالِكٌ: تَفْسِيرُهُ مَنْ أُعْطِيَ مِنْ أَخِيهِ شَيْئًا مِنْ الْعَقْلِ فَلْيَتْبَعْهُ بِالْمَعْرُوفِ؛ فَعَلَى هَذَا الْخِطَابُ لِلْوَلِيِّ، قِيلَ لَهُ: إنْ أَعْطَاك أَخُوك الْقَاتِلُ الدِّيَةَ الْمَعْرُوفَةَ فَاقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ وَاتَّبِعْهُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: تَفْسِيرُهُ إذَا أَسْقَطَ الْوَلِيُّ الْقِصَاصَ، وَعَيَّنَ لَهُ مِنْ الْوَاجِبِينَ لَهُ الدِّيَةُ فَاتَّبِعْهُ عَلَى ذَلِكَ أَيُّهَا الْجَانِي عَلَى هَذَا الْمَعْرُوفِ، وَأَدِّ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ. وَهَذَا يَدُورُ عَلَى حَرْفٍ، وَهُوَ مَعْرِفَةُ تَفْسِيرِ الْعَفْوِ، وَلَهُ فِي اللُّغَةِ خَمْسَةُ مَوَارِدَ: الْأَوَّلُ: الْعَطَاءُ، يُقَالُ: جَادَ بِالْمَالِ عَفْوًا صَفْوًا، أَيْ مَبْذُولًا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ. الثَّانِي: الْإِسْقَاطُ، وَنَحْوُهُ: {وَاعْفُ عَنَّا} [البقرة: 286] «وَعَفَوْت لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ».

الثَّالِثُ: الْكَثْرَةُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف: 95] أَيْ كَثُرُوا، وَيُقَالُ: عَفَا الزَّرْعُ، أَيْ طَالَ. الرَّابِعُ: الذَّهَابُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: عَفَتْ الدِّيَارُ. الْخَامِسُ: الطَّلَبُ، يُقَالُ: عَفَّيْتُهُ وَأَعْفَيْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: مَا أَكَلَتْ الْعَافِيَةُ فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَطُوفُ الْعُفَاةُ بِأَبْوَابِهِ ... كَطَوْفِ النَّصَارَى بِبَيْتِ الْوَثَنِ وَإِذَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ هَذِهِ الْمَعَانِي الْمُتَعَدِّدَةِ وَجَبَ عَرْضُهَا عَلَى مَسَاقِ الْآيَةِ، وَمُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ؛ فَاَلَّذِي يَلِيقُ بِذَلِكَ مِنْهَا الْعَطَاءُ أَوْ الْإِسْقَاطُ؛ فَرَجَّحَ الشَّافِعِيُّ الْإِسْقَاطَ؛ لِأَنَّهُ ذُكِرَ قَبْلَهُ الْقِصَاصُ، وَإِذَا ذُكِرَ الْعَفْوُ بَعْدَ الْعُقُوبَةِ كَانَ فِي الْإِسْقَاطِ أَظْهَرُ. وَرَجَّحَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ الْعَطَاءَ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ إذَا كَانَ بِمَعْنَى الْإِسْقَاطِ وُصِلَ بِكَلِمَةِ " عَنْ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْفُ عَنَّا} [البقرة: 286] وَكَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَفَوْت لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ»، وَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى الْعَطَاءِ كَانَتْ صِلَتَهُ لَهُ؛ فَتَرَجَّحَ ذَلِكَ بِهَذَا؛ وَبِوَجْهٍ ثَانٍ، وَهُوَ أَنَّ تَأْوِيلَ مَالِكٍ هُوَ اخْتِيَارُ خَبَرِ الْقُرْآنِ، وَمَنْ تَابَعَهُ كَمَا تَقَدَّمَ؛ وَبِوَجْهٍ ثَالِثٍ، وَهُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ فِي الْجَزَاءِ أَنْ يَعُودَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الشَّرْطُ، وَالْجَزَاءُ عَائِدٌ إلَى الْوَلِيِّ، فَلْيَعُدْ إلَيْهِ الشَّرْطُ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِمَنْ، مَنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ بِالِاتِّبَاعِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {شَيْءٌ} [البقرة: 178] فَنَكَّرَ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْقِصَاصَ لَمَا نَكَّرَهُ، لِأَنَّهُ مُعَرَّفٌ؛ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ التَّنْكِيرُ فِي جَانِبِ الدِّيَةِ وَمَا دُونَهُ. وَيَنْفَصِلُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَنْ تَرْجِيحِ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ الْعِلَّةَ تَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ مَعْنَى عَفَا أَسْقَطَ؛ لِأَنَّ تَفْسِيرَهُ " تَرَكَ " وَكَلِمَةُ " لَهُ " تَتَّصِلُ بِتَرَكَ، كَمَا تَتَّصِلُ بِأَخَذَ

وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ؛ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ بِمِثْلِ قَوْلِنَا، وَأَمَّا الْجَزَاءُ فَقَدْ يَعُودُ عَلَى مَنْ لَا يَعُودُ عَلَيْهِ الشَّرْطُ، فَتَقُولُ: مَنْ دَخَلَ مِنْ عَبِيدِي الدَّارَ فَصَاحِبُهُ حُرٌّ، وَإِنْ دَخَلَ عَمْرٌو الدَّارَ فَعَبْدِي حُرٌّ، وَأَمَّا فَصْلُ النَّكِرَةِ فَغَيْرُ لَازِمٍ؛ فَإِنَّ الْقِصَاصَ قَدْ يَكُونُ نَكِرَةً وَهُوَ إذَا عَفَا أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ فَتَبَعَّضَ الْقِصَاصُ فَيَعُودُ الْبَعْضُ مُنَكَّرًا. وَهَذَا كَمَا تَرَوْنَ تَعَارُضٌ عَظِيمٌ، وَإِشْكَالٌ بَيِّنٌ، وَتَرْجِيحٌ مِنْ الْوَجْهَيْنِ ظَاهِرٌ، إلَّا أَنَّ رِوَايَةَ أَشْهَبَ أَظْهَرُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْأَثَرُ، وَالْآخَرُ النَّظَرُ؛ أَمَّا الْأَثَرُ فَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ؛ إمَّا أَنْ يَفْدِيَ وَإِمَّا أَنْ يَقْتُلَ». وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ كَيْفِيَّةَ الرِّوَايَاتِ وَاسْتِيفَاءَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَدِيثِ. وَلُبَابُهُ هَاهُنَا أَنَّ الْحَرْفَ الْأَوَّلَ فِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا: «فَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ». وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: «فَمَنْ قُتِلَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ». وَفِي الْحَرْفِ الثَّانِي سِتُّ رِوَايَاتٍ: الْأُولَى: «إمَّا أَنْ يَعْقِلَ وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ». الثَّانِيَةُ: «أَنْ يَعْقِلَ أَوْ يُقَادَ». الثَّالِثَةُ: «إمَّا أَنْ يَفْدِيَ وَإِمَّا أَنْ يَقْتُلَ». الرَّابِعَةُ: «إمَّا أَنْ يُعْطِيَ الدِّيَةَ أَوْ يُقَادَ أَهْلُ الْقَتِيلِ». الْخَامِسَةُ: «إمَّا أَنْ يَعْفُوَ أَوْ يُقْتَلَ». السَّادِسَةُ: «إمَّا أَنْ يُقْتَلَ أَوْ يُقَادَ». وَإِذَا نَزَلَتْ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَلَى الْأُولَى جَاءَ مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ تَنْزِيلًا:

مسألة التراضي على الدية

الْأَوَّلُ: «فَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ؛ إمَّا أَنْ يَعْقِلَ أَوْ يُقَادَ»، وَيَكُونَ مَعْنَاهُ: إمَّا أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ، وَإِمَّا أَنْ يَتَّفِقَ مَعَ صَاحِبِهِ عَلَى مُفَادَاةٍ مَعْلُومَةٍ. التَّنْزِيلُ الثَّانِي: فِي قَوْلِهِ: «يَعْقِلَ أَوْ يُقَادَ»، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ: إمَّا أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ أَوْ يَأْخُذَ الْقَوَدَ. التَّنْزِيلُ الثَّالِثُ: فِي قَوْلِهِ: «يَفْدِيَ أَوْ يَقْتُلَ مِثْلَهُ». التَّنْزِيلُ الرَّابِعُ: فِي قَوْلِهِ: «إمَّا أَنْ يُعْطِيَ الدِّيَةَ أَوْ يُقَادَ أَهْلُ الْقَتِيلِ»، يَكُونُ مَعْنَاهُ إمَّا أَنْ يُعْطِيَ الدِّيَةَ لَهُ أَوْ يُقَادَ: يُمَكَّنُ مِنْ الْقَوَدِ، وَكَذَا أَهْلُ الْقَتِيلِ؛ لِأَنَّهُ الْحَقِيقَةُ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْعِبَارَةِ عَنْهُ إنَّمَا كَانَ مَجَازًا فِي الْإِخْبَارِ بِهِ عَنْ وَلِيِّهِ. التَّنْزِيلُ الْخَامِسُ: فِي قَوْلِهِ: «إمَّا أَنْ يَعْفُوَ أَوْ يَقْتُلَ»، وَهِيَ رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ مُتْقَنَةٌ مَضْبُوطَةٌ مَفْهُومَةٌ جَلِيَّةٌ، وَتَكُونُ الْعِبَارَةُ عَنْهُ بِأَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ إنْ كَانَ جَرِيحًا حَقِيقَةً، أَوْ يُعَبَّرُ عَنْ وَلِيِّهِ بِهِ مَجَازًا؛ لِأَنَّهُ سُلْطَانُ الْأَمْرِ. قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33]. التَّنْزِيلُ السَّادِسُ: فِي قَوْلِهِ: «يُقْتَلَ أَوْ يُقَادَ»، تَقْدِيرُهُ إمَّا أَنْ يُقَادَ بِهِ الْقَاتِلُ بِرِضَاهُ أَوْ يُقْتَلَ، وَكَذَلِكَ تَتَنَزَّلُ التَّقْدِيرَاتُ السِّتَّةُ عَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ بِإِسْقَاطِ قَوْلِهِ: لَهُ قَتِيلٌ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: مَنْ قُتِلَ عِبَارَةً عَنْ فِعْلِهِ فِي حَالِ جُرْحِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، أَوْ يُعَبِّرُ عَنْ وَلِيِّهِ بِهِ، فَهَذَا وَجْهُ الِادِّكَارِ مِنْ الْأَثَرِ بِالنَّظَرِ. وَأَمَّا طَرِيقُ الْمَعْنَى وَالنَّظَرِ، فَإِنَّ الْوَلِيَّ أَوْ الْقَاتِلَ إذَا وَقَعَ الْعَفْوُ مِنْهُمَا بِالدِّيَةِ، فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْقَاتِلِ قَبُولُهُ دُونَ اعْتِبَارِ رِضَا الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّهُ عَرَضَ عَلَيْهِ بَقَاءَ نَفْسِهِ بِثَمَنِ مِثْلِهِ، كَمَا لَوْ عَرَضَ عَلَيْهِ بَقَاءَ نَفْسِهِ فِي الْمَخْمَصَةِ بِقِيمَةِ الطَّعَامِ لَلَزِمَهُ، يُؤَكِّدُهُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ إبْقَاءُ نَفْسِهِ بِمَالِ الْغَيْرِ إذَا وَجَدَهُ فِي الْمَخْمَصَةِ فَأَوْلَى أَنْ يَلْزَمَهُ إبْقَاءُ نَفْسِهِ بِمَالِهِ. [مَسْأَلَةٌ التَّرَاضِي عَلَى الدِّيَة] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَالَ الطَّبَرِيُّ: فِي قَوْله تَعَالَى: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178] دَلِيلٌ عَلَى عُمُومِ الْوُجُوبِ مِمَّنْ وَقَعَ، يُرِيدُ أَنَّ مَنْ ذَكَرَ الدِّيَةَ وَجَبَ قَبُولُهَا عَلَى الْآخَرِ مِنْ وَلِيٍّ أَوْ جَانٍ، ثُمَّ رَأَى أَنَّ

مسألة قوله تعالى فمن اعتدى بعد ذلك

هَذَا لَا يَسْتَمِرُّ فَعَقَّبَهُ بَعْدَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ إنْ عَرَضَهَا الْجَانِي اُسْتُحِبَّ قَبُولُهَا، وَإِنْ عَرَضَهَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَوْ وَلِيُّهُ وَجَبَ عَلَى الْجَانِي قَبُولُهَا، وَلَمَّا رَجَعَ إلَيْهِ اسْتَغْنَيْنَا عَنْ الِاعْتِنَاءِ بِهِ، وَفِي الْآيَةِ فُصُولٌ وَأَقْوَالٌ لَمْ نَتَفَرَّغْ لَهَا. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} [البقرة: 178]: الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَفَا عَمَّا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِمَنْ أَسْلَمَ الْآنَ، وَقَدْ بَيَّنَ لَهُ وَحُدَّتْ الْحُدُودُ، فَإِنْ تَجَاوَزَهَا بَعْدَ بَيَانِهَا فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ، بِالْقَتْلِ فِي الدُّنْيَا وَبِالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ. [الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ] الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 181] {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 182] فِيهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} [البقرة: 178]: وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَبَدِيعُ الْإِشَارَةِ فِيهِ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي كِتَابِ " الْمُشْكَلَيْنِ " الْمَحْفُوظِ الْمَعْنَى: ثَبَتَ عَلَيْكُمْ فِي اللَّوْحِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَا يَدْخُلُهُ نَسْخٌ وَلَا يَلْحَقُهُ تَبْدِيلٌ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ أَنَّ الْفُرُوضَ عَلَى قِسْمَيْنِ: فَرْضٌ مُبْتَدَأٌ، وَفَرْضٌ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِرَادَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا فَرْضٌ مُبْتَدَأٌ.

مسألة قوله تعالى إذا حضر أحدكم الموت

[مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [البقرة: 180]: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَيْسَ يُرِيدُ حُضُورَ الْمَوْتِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ لَا تُقْبَلُ لَهُ تَوْبَةٌ، وَلَا لَهُ فِي الدُّنْيَا حِصَّةٌ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ نَنْظِمَ مِنْ كَلَامِهَا لَفْظَةً، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ مَحْمُولًا عَلَيْهِ لَكَانَ تَكْلِيفٌ مُحَالٌ لَا يُتَصَوَّرُ؛ وَلَكِنْ يَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إذَا قَرُبَ حُضُورُ الْمَوْتِ، وَأَمَارَةُ ذَلِكَ كِبَرُهُ فِي السِّنِّ؛ أَوْ سَفَرٍ فَإِنَّهُ غَرَرٌ أَوْ تَوَقُّعُ أَمْرٍ طَارِئٍ غَيْرِ ذَلِكَ؛ أَوْ تَحَقُّقُ النَّفْسِ لَهُ بِأَنَّهَا سَبِيلٌ هُوَ آتِيهَا لَا مَحَالَةَ [إذْ الْمَوْتُ رُبَّمَا طَرَأَ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا]. الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ إذَا مَرِضَ؛ فَإِنَّ الْمَرَضَ سَبَبُ الْمَوْتِ، وَمَتَى حَضَرَ السَّبَبُ كَنَّتْ بِهِ الْعَرَبُ عَنْ الْمُسَبَّبِ قَالَ شَاعِرُهُمْ: وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا بِالْعُذْرِ وَالْتَمِسُوا ... قَوْلًا يُبَرِّئْكُمْ إنِّي أَنَا الْمَوْتُ [مَسْأَلَةٌ الْوَصِيَّةُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180]: هِيَ الْقَوْلُ الْمُبَيِّنُ لِمَا يَسْتَأْنِفُ عَمَلَهُ وَالْقِيَامَ بِهِ، وَهِيَ هَاهُنَا مَخْصُوصَةٌ بِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَكَذَلِكَ فِي الْإِطْلَاقِ وَالْعُرْفِ. [مَسْأَلَةٌ تَأْخِيرُ الْوَصِيَّةِ إلَى الْمَرَضِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ تَأْخِيرُ الْوَصِيَّةِ إلَى الْمَرَضِ مَذْمُومٌ شَرْعًا، رَوَى مُسْلِمٌ وَالْأَئِمَّةُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَنْ تَتَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ حَرِيصٌ تَأْمُلُ الْغِنَى وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْت: لِفُلَانٍ كَذَا، وَلِفُلَانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ كَذَا».

مسألة حكم الوصية

[مَسْأَلَةٌ حُكْمُ الْوَصِيَّة] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ فِي حُكْمِهَا وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهَا وَاجِبَةٌ لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ وَفِي رِوَايَةٍ ثَلَاثَ لَيَالٍ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ». وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ؛ وَاخْتَلَفُوا فِي نَسْخِهَا؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: نُسِخَ جَمِيعُهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: نُسِخَ بَعْضُهَا، وَهِيَ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ؛ وَالصَّحِيحُ نَسْخُهَا، وَأَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ إلَّا فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ بَيَانُهُ أَوْ الْخُرُوجُ بِأَدَاءٍ عَنْهُ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ اللَّفْظُ بِظَاهِرِهِ، وَذِكْرُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ الْحَقِّ الَّذِي يَقْتَضِي الْحَثَّ، وَيَشْمَلُ الْوَاجِبَ وَالنَّدْبَ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى إنْ تَرَكَ خَيْرًا] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180]: يَعْنِي مَالًا، وَقَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فِي تَقْدِيرِهِ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ والأحْكامِيُّونَ أَقْوَالًا كُلُّهَا دَعَاوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَخْتَلِفْ وَلَا يَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ الْمَالِ وَكَثْرَتِهِ، بَلْ يُوصِي مِنْ الْقَلِيلِ قَلِيلًا، وَمِنْ الْكَثِيرِ كَثِيرًا، وَحَيْثُ وَرَدَ ذِكْرُ الْمَالِ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ يُسَمَّى بِالْخَيْرِ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ. رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يَفْتَحُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْكُمْ مِنْ بَرَكَةِ الدُّنْيَا فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا

مسألة كيفية الوصية للوالدين والأقربين

يَأْتِي الْخَيْرُ إلَّا بِالْخَيْرِ، وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ إلَّا آكِلَةُ الْخَضِرِ أَكَلَتْ حَتَّى إذَا امْتَلَأَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ الشَّمْسَ فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ ثُمَّ عَادَتْ فَأَكَلَتْ». [مَسْأَلَةٌ كَيْفِيَّةِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ فِي كَيْفِيَّةِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ: وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، لُبَابُهُ: مَا صَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ، وَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَجَعَلَ لِلْوَالِدَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ، وَفَرَضَ لِلزَّوْجِ وَلِلزَّوْجَةِ فَرْضَيْهِمَا؛ وَهَذَا نَصٌّ لَا مَعْدَلَ لِأَحَدٍ عَنْهُ، فَمَنْ كَانَ مِنْ الْقَرَابَةِ وَارِثًا دَخَلَ مَدْخَلَ الْأَبَوَيْنِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا قِيلَ لَهُ: إنْ قَطْعَك مِنْ الْمِيرَاثِ الْوَاجِبِ إخْرَاجٌ لَك عَنْ الْوَصِيَّةِ الْوَاجِبَةِ، وَيَبْقَى الِاسْتِحْبَابُ لِسَائِرِ الْقَرَابَةِ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى بِالْمَعْرُوفِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْله تَعَالَى: {بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 180]: يَعْنِي: بِالْعَدْلِ الَّذِي لَا وَكْسَ فِيهِ وَلَا شَطَطَ وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مَوْكُولًا إلَى اجْتِهَادِ الْمَيِّتِ وَنَظَرِ الْمُوصِي، ثُمَّ تَوَلَّى اللَّهُ تَعَالَى تَقْدِيرَ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ: «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ»؛ فَصَارَ ذَلِكَ مِقْدَارًا شَرْعِيًّا مُبَيَّنًا حُكْمُهُ

مسألة قوله تعالى حقا على المتقين

بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنَّ اللَّهَ أَعْطَاكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ». وَقَدْ أَخْبَرَنَا ابْنُ يُوسُفَ مِنْ كِتَابِهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَفْصٍ الْقَاضِي الْحِيرِيُّ بِشَاغُورَ قِرَاءَةً عَلَيْهِ: أَنْبَأَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، سَمِعْت طَلْحَةَ بْنِ عُمَرَ الْمَكِّيِّ، سَمِعْت عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ، سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: «إنَّ اللَّهَ أَعْطَاكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ». [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: {حَقًّا} [البقرة: 180]: يَعْنِي ثَابِتًا ثُبُوتَ نَظَرٍ وَتَخْصِيصٍ، لَا ثُبُوتَ فَرْضٍ وَوُجُوبٍ، وَهَكَذَا وَرَدَ عَنْ عُلَمَائِنَا حَيْثُ جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْحَقَّ فِي اللُّغَةِ هُوَ الثَّابِتُ، وَقَدْ ثَبَتَ الْمَعْنَى فِي الشَّرِيعَةِ نَدْبًا، وَقَدْ ثَبَتَ فَرْضًا، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ فِي الْمَعْنَى. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى: {عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180]: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ نَدْبًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَرْضًا لَكَانَ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَتَّقِي، أَيْ يَخَافُ تَقْصِيرًا، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَمَا يُتَوَقَّعُ تَلَفُهُ إنْ مَاتَ فَتَلْزَمُهُ فَرْضًا الْمُبَادَرَةُ بِكَتْبِهِ، وَلَكِنْ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَمِمَّا صَحَّ مِنْ النَّظَرِ، وَأَنَّهُ إنْ سَكَتَ عَنْهُ كَانَ تَضْيِيعًا لَهُ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ} [البقرة: 181]: يَعْنِي: سَمِعَهُ مِنْ الْمُوصِي، أَوْ سَمِعَهُ مِمَّنْ ثَبَتَ بِهِ عِنْدَهُ، وَذَلِكَ عَدْلَانِ.

مسألة قوله تعالى فمن خاف من موص جنفا أو إثما

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} [البقرة: 181]: الْمَعْنَى: أَنَّ الْمُوصِيَ بِالْوَصِيَّةِ خَرَجَ عَنْ اللَّوْمِ وَتَوَجَّهَ عَلَى الْوَارِثِ أَوْ الْوَلِيِّ. قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ إذَا أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتُ خَرَجَ عَنْ ذِمَّتِهِ وَصَارَ الْوَلِيُّ مَطْلُوبًا بِهِ، لَهُ الْأَجْرُ فِي قَضَائِهِ، وَعَلَيْهِ الْوِزْرُ فِي تَأْخِيرِهِ؛ وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ الْمَيِّتُ لَمْ يُفَرِّطْ فِي أَدَائِهِ، وَأَمَّا إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَتَرَكَهُ، ثُمَّ وَصَّى بِهِ فَإِنَّهُ لَا يُزِيلُهُ عَنْ ذِمَّتِهِ تَفْرِيطُ الْوَلِيِّ فِيهِ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إثْمًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} [البقرة: 182]: الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ خَافَ} [البقرة: 182] لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، قِيلَ لَهُمْ: إنْ خِفْتُمْ مِنْ مُوصٍ مَيْلًا فِي الْوَصِيَّةِ، وَعُدُولًا عَنْ الْحَقِّ، وَوُقُوعًا فِي إثْمٍ، وَلَمْ يُخْرِجْهَا بِالْمَعْرُوفِ، فَبَادِرُوا إلَى السَّعْيِ فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ؛ فَإِذَا وَقَعَ الصُّلْحُ سَقَطَ الْإِثْمُ عَلَى الْمُصْلِحِ؛ لِأَنَّ إصْلَاحَ الْفَسَادِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَإِذَا قَامَ بِهِ أَحَدُهُمْ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا أَثِمَ الْكُلُّ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى الْحُكْمِ بِالظَّنِّ؛ لِأَنَّهُ إذَا ظَنَّ قَصْدَ الْفَسَادِ وَجَبَ السَّعْيُ فِي الصَّلَاحِ، وَإِذَا تَحَقَّقَ الْفَسَادُ لَمْ يَكُنْ صُلْحٌ، إنَّمَا يَكُونُ حُكْمٌ بِالدَّفْعِ وَإِبْطَالٌ لِلْفَسَادِ وَحَسْمٌ لَهُ. [الْآيَة الْخَامِسَة وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ] الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ

مسألة قوله تعالى كتب عليكم الصيام

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ - أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 183 - 184] فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} [البقرة: 183]: وَقَدْ تَقَدَّمَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {الصِّيَامُ} [البقرة: 183]: وَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةً عَنْ الْإِمْسَاكِ الْمُطْلَقِ لَا خِلَافَ فِيهِ وَلَا مَعْنَى لَهُ غَيْرَهُ، وَلَوْ كَانَ الْقَوْلُ هَكَذَا خَاصَّةً لَكَانَ فِيهِ كَلَامٌ فِي الْعُمُومِ وَالْإِجْمَالِ، كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي الصَّلَاةِ، فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] كَانَ تَفْسِيرًا لَهُ وَتَمْثِيلًا بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183]: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قِيلَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَقِيلَ: هُمْ النَّصَارَى. وَقِيلَ: هُمْ جَمِيعُ النَّاسِ. وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ سَاقِطٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ الصَّوْمُ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا بِإِمْسَاكِ اللِّسَانِ عَنْ الْكَلَامِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِنَا؛ فَصَارَ ظَاهِرُ الْقَوْلِ رَاجِعًا إلَى النَّصَارَى لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ الْأَدْنَوْنَ إلَيْنَا. الثَّانِي: أَنَّ الصَّوْمَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ كَانَ إذَا نَامَ الرَّجُلُ لَمْ يُفْطِرْ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِصَوْمِهِمْ. [مَسْأَلَةٌ التَّشْبِيهِ فِي قَوْله تَعَالَى كَمَا كُتِبَ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {كَمَا كُتِبَ} [البقرة: 183]

وَجْهُ التَّشْبِيهِ فِيهِ مُحْتَمِلٌ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ الزَّمَانُ، وَالْقَدْرُ، وَالْوَصْفُ، وَمُحْتَمِلٌ لِجَمِيعِهَا، وَمُحْتَمِلٌ لِاثْنَيْنِ مِنْهَا؛ فَإِنْ رَجَعَ إلَى الزَّمَانِ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّصَارَى كَانُوا يَصُومُونَ رَمَضَانَ، ثُمَّ اخْتَلَفَ عَلَيْهِمْ الزَّمَانُ فَكَانَ يَأْتِي فِي الْحَرِّ يَوْمًا طَوِيلًا، وَفِي الْبَرْدِ يَوْمًا قَصِيرًا؛ فَارْتَأَوْا بِرَأْيِهِمْ أَنْ يَرُدُّوهُ فِي الزَّمَانِ الْمُعْتَدِلِ. وَإِنْ رَجَعَ إلَى الْعَدَدِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ. الثَّانِي: أَنَّهُ يَوْمُ عَاشُورَاءَ، رُوِيَ فِي " الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَجَدَ النَّاسَ يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ أَنْجَى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَغْرَقَ فِيهِ فِرْعَوْنَ؛ فَقَالَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ، فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ»، فَكَانَ هُوَ الْفَرِيضَةَ، حَتَّى نَزَلَ رَمَضَانُ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَلَمْ يَكْتُبْ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَهُ». الثَّالِثُ: أَنَّهُ ثَلَاثُونَ يَوْمًا، كَمَا فُرِضَ عَلَى النَّصَارَى فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، ثُمَّ غَيَّرُوهُ لِأَسْبَابٍ مَرْوِيَّةٍ. وَإِنْ رَجَعَ إلَى الْوَصْفِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» وَقَدْ كَانَ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا

مسألة قوله تعالى لعلكم تتقون

يَصُومُونَ عَنْ الْكَلَامِ كُلِّهِ، وَفِي شَرْعِنَا الْأَمْرُ بِالصِّيَامِ عَنْ قَوْلِ الزُّورِ مُتَأَكَّدٌ عَلَى الْأَمْرِ بِهِ فِي غَيْرِ الصِّيَامِ. وَالْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّهُ التَّشْبِيهُ فِي الْفَرْضِيَّةِ خَاصَّةً؛ وَسَائِرُهُ مُحْتَمِلٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: " لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ": فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ فِعْلَهُ. الثَّانِي: لَعَلَّكُمْ تَضْعُفُونَ فَتَتَّقُونَ؛ فَإِنَّهُ كُلَّمَا قَلَّ الْأَكْلُ ضَعُفَتْ الشَّهْوَةُ، وَكُلَّمَا ضَعُفَتْ الشَّهْوَةُ قَلَّتْ الْمَعَاصِي. الثَّالِثُ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ مَا فَعَلَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ. رُوِيَ أَنَّ النَّصَارَى بَدَّلَتْهُ إلَى الزَّمَانِ الْمُعْتَدِلِ، وَزَادَتْ فِيهِ كَفَّارَةُ عَشْرَةِ أَيَّامٍ؛ وَكُلُّهَا صَحِيحَةٌ، وَمُرَادَةٌ بِالْآيَةِ، إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ [حَقِيقَةٌ، وَالثَّانِي مَجَازٌ حَسَنٌ، وَالْأَوَّلُ وَالثَّانِي مَعْصِيَةٌ]، وَالثَّالِثُ كُفْرٌ. وَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الشَّكِّ عَلَى مَعْنَى الِاحْتِيَاطِ لِلْعِبَادَةِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ إنَّمَا يُحْتَاطُ لَهَا إذَا وَجَبَتْ، وَقَبْلَ أَلَا تَجِبَ لَا احْتِيَاطَ شَرْعًا، وَإِنَّمَا تَكُونُ بِدْعَةً وَمَكْرُوهًا. وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنَبِّهًا عَلَى ذَلِكَ: «لَا تُقَدِّمُوا الشَّهْرَ بِيَوْمٍ وَلَا بِيَوْمَيْنِ خَوْفًا أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ: أَتَلَقَّى رَمَضَانَ بِالْعِبَادَةِ». وَقَدْ رُوِيَتْ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ عَدَمُ الزِّيَادَةِ فَقَالَ: «إذَا

مسألة قوله تعالى أياما معدودات

انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلَا يَصُمْ أَحَدٌ حَتَّى يَدْخُلَ رَمَضَانُ». وَقَدْ شَنَّعَ أَهْلُ الْجَهَالَةِ بِأَنْ يَقُولُوا نُشَيِّعُ رَمَضَانَ؛ وَلَا تُتَلَقَّى الْعِبَادَةُ وَلَا تُشَيَّعُ، إنَّمَا تُحْفَظُ فِي نَفْسِهَا وَتُحْرَسُ مِنْ زِيَادَةٍ فِيهَا أَوْ نُقْصَانٍ مِنْهَا. وَلِذَلِكَ كَرِهَ عُلَمَاءُ الدَّيْنِ أَنْ تُصَامَ الْأَيَّامُ السِّتَّةُ الَّتِي قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَسِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ كُلَّهُ» مُتَّصِلَةً بِرَمَضَانَ مَخَافَةَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَهْلُ الْجَهَالَةِ أَنَّهَا مِنْ رَمَضَانَ، وَرَأَوْا أَنَّ صَوْمَهَا مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ إلَى شَعْبَانَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا حَاصِلٌ بِتَضْعِيفِ الْحَسَنَةِ بِعَشْرَةِ أَمْثَالِهَا مَتَى فُعِلَتْ؛ بَلْ صَوْمُهَا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَفِي شَعْبَانَ أَفْضَلُ، وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ صَوْمَهَا مَخْصُوصٌ بِثَانِي يَوْمِ الْعِيدِ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ سَالِكٌ سُنَنَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الزِّيَادَاتِ، دَاخِلٌ فِي وَعِيدِ الشَّرْعِ حَيْثُ قَالَ: «لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ» الْحَدِيثَ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184]: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ رَمَضَانُ، لَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ فَقَدْ أَبْعَدَ؛ لِأَنَّهُ حَدِيثٌ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الصِّحَّةِ.

مسألة الوصال في الصيام

[مَسْأَلَةٌ الْوِصَال فِي الصِّيَام] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ هَذَا بِظَاهِرِهِ يَقْتَضِي الْوِصَالَ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِيهِ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ اقْتَضَى وِصَالًا غَيْرَ مَحْدُودٍ لَمَا تَحَصَّلَ لِأَحَدٍ تَقْدِيرُهُ، لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فِيهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ خَرَجَ عَلَى الْعُرْفِ، أَيْ أَنْ تَصُومُوا الْأَيَّامَ وَتُفْطِرُوا مِنْهَا زَمَنًا مَخْصُوصًا، وَكَانَ عِنْدَهُمْ مُتَعَيِّنًا إمَّا بِالْعُرْفِ الْمُتَقَدِّمِ، فَيَكُونُ الْخِطَابُ نَصًّا، وَإِمَّا بِبَيَانٍ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَيَكُونُ الْخِطَابُ مُجْمَلًا، حَتَّى بَيَّنَهُ الشَّارِعُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة: 184]: لِلْمَرِيضِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَلَّا يُطِيقَ الصَّوْمَ بِحَالٍ، فَعَلَيْهِ الْفِطْرُ وَاجِبًا. الثَّانِي أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الصَّوْمِ بِضَرَرٍ وَمَشَقَّةٍ؛ فَهَذَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْفِطْرُ، وَلَا يَصُومُ إلَّا جَاهِلٌ. وَقَدْ أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْأَزْدِيُّ، أَنْبَأَنَا الشَّيْخُ أَبُو مُسْلِمٍ عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ اللَّيْثِيُّ الْحَارِثِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ رَبِّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ، حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ النَّسَوِيُّ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي أَبُو حَسَّانَ صُهَيْبُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ: سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ يَقُولُ: اعْتَلَلْت بِنَيْسَابُورَ عِلَّةً خَفِيفَةً، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَعَادَنِي إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ لِي: أَفْطَرْت يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، فَقُلْت: نَعَمْ فَقَالَ: خَشِيتُ أَنْ أَضْعُفَ عَنْ قَبُولِ الرُّخْصَةِ قُلْت: أَنْبَأَنَا عَبْدَانُ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْت لِعَطَاءٍ: مِنْ أَيِّ الْمَرَضِ أُفْطِرُ؟ قَالَ: مِنْ أَيِّ مَرَضٍ كَانَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} [البقرة: 184]

قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَلَمْ يَكُنْ هَكَذَا الْحَدِيثُ عِنْدَ إِسْحَاقَ، وَهُوَ الثَّالِثُ. الثَّالِثُ: الْمُسَافِرُ: وَالسَّفَرُ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ الِانْكِشَافِ وَالْخُرُوجِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ؛ وَهُوَ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ خُرُوجٍ يَتَكَلَّفُ فِيهِ مُؤْنَةً، وَيَفْصِلُ فِيهِ بُعْدٌ فِي الْمَسَافَةِ، وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ مِنْ الشَّارِعِ نَصٌّ، وَلَكِنْ وَرَدَ فِيهِ تَنْبِيهٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الصَّحِيحِ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا». وَفِي تَقْدِيرِهِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ بَيَّنَّاهُ فِي الْمَسَائِلِ. وَالْعُمْدَةُ فِيهِ أَنَّ الْعِبَادَةَ تَثْبُتُ فِي الذِّمِّيَّةِ بِيَقِينٍ، فَلَا بَرَاءَةَ لَهَا إلَّا بِيَقِينٍ مُسْقِطٍ؛ وَقَدْرُ السَّفَرِ مَشْكُوكٌ فِيهِ حَتَّى يَكُونَ سَفَرًا ظَاهِرًا، فَيَسْقُطُ الْأَصْلُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَبَحْثُهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَتِنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا عَلَّقَ الْحُكْمَ بِالسَّفَرِ عَلِمَتْ الْعَرَبُ ذَلِكَ بِفَضْلِ عِلْمِهَا بِلِسَانِهَا، وَجَرْيِ عَادَتِهَا فِي أَعْمَالِهَا؛ فَلَمَّا جَاءَ الْأَمْرُ اقْتَصَرْنَا فِيهِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا الْأَمْرِ مَبْنَى الْخِلَافِ؛ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: أَقَلُّ السَّفَرِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَقَلُّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ سَفَرَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ». وَفِي حَدِيثٍ: «وَسَفَرُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» وَفِي آخَرَ وَذَكَرَ تَمَامَهُ؛ فَرَأَى أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ السَّفَرَ يَتَحَقَّقُ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ: يَوْمٍ يَتَحَمَّلُ فِيهِ عَنْ أَهْلِهِ، وَيَوْمٍ يَنْزِلُ فِيهِ فِي مُسْتَقَرِّهِ، وَالْيَوْمِ الْأَوْسَطِ هُوَ الَّذِي يَتَحَقَّقُ فِيهِ السَّيْرُ الْمُجَرَّدُ، بِتَحَمُّلٍ لَا عَنْ مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ، وَنُزُولٍ لَا فِي مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ. وَقُلْنَا لَهُ: إذَا كَانَ السَّفَرُ مُتَحَقِّقًا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي كَمَا سَرَدْت فَالْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِثْلُهُ، وَلَا عِبْرَةَ

مسألة قوله تعالى فعدة من أيام أخر

بِالتَّحَمُّلِ عَنْ الْأَهْلِ وَالْوَطَنِ، وَإِنَّمَا الْمُعَوَّلُ فِي تَحْقِيقِ السَّفَرِ عَلَى الْمَبِيتِ فِي غَيْرِ الْمَنْزِلِ، ثُمَّ التَّحْدِيدُ بِسِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ مِيلًا، أَوْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ مِيلًا مَرَاحِلُ لَا تُدْرَكُ بِتَحْقِيقٍ أَبَدًا، وَإِنَّمَا هِيَ ظُنُونٌ؛ فَرَجُلٌ احْتَاطَ وَزَادَ، وَرَجُلٌ تَرَخَّصَ، وَرَجُلٌ تَقَصَّرَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا الْقَوْلُ مِنْ لَطِيفِ الْفَصَاحَةِ، لِأَنَّ تَقْرِيرَهُ: فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196] تَقْدِيرُهُ فَحَلَقَ فَفِدْيَةٌ. وَقَدْ عُزِيَ إلَى قَوْمٍ: إنْ سَافَرَ فِي رَمَضَانَ قَضَاهُ، صَامَهُ أَوْ أَفْطَرَهُ، وَهَذَا لَا يَقُولُ بِهِ إلَّا ضُعَفَاءُ الْأَعَاجِمِ؛ فَإِنَّ جَزَالَةَ الْقَوْلِ وَقُوَّةَ الْفَصَاحَةِ تَقْتَضِي " فَأَفْطَرَ " وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ» قَوْلًا وَفِعْلًا. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]: يُعْطِي بِظَاهِرِهِ قَضَاءَ الصَّوْمِ مُتَفَرِّقًا، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ، مِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ. وَإِنَّمَا وَجَبَ التَّتَابُعُ فِي الشَّهْرِ لِكَوْنِهِ مُعَيَّنًا، وَقَدْ عُدِمَ التَّعْيِينُ فِي الْقَضَاءِ فَجَازَ بِكُلِّ حَالٍ.

مسألة قوله تعالى وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]: يَقْتَضِي وُجُوبَ الْقَضَاءِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لِزَمَانٍ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي التَّرَاخِيَ، فَإِنَّ اللَّفْظَ مُسْتَرْسِلٌ عَلَى الْأَزْمِنَةِ لَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: إنْ كَانَ لَيَكُونَ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ قَضَاءَهُ إلَّا فِي شَعْبَانَ لِلشُّغْلِ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَكَانَتْ تَصُومُ بِصِيَامِهِ؛ إذْ كَانَ صَوْمُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْثَرَ مَا كَانَ فِي شَعْبَانَ ". [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184]: وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ قِرَاءَاتٌ وَتَأْوِيلَاتٌ وَاخْتِلَافَاتٌ وَهِيَ بَيْضَةُ الْعُقْرِ. قُرِئَ يُطِيقُونَهُ بِكَسْرِ الطَّاءِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ، وَقُرِئَ بِفَتْحِ الطَّاءِ وَالْيَاءِ وَتَشْدِيدِهِمَا، وَقُرِئَ كَذَلِكَ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ الثَّانِيَةِ، لَكِنَّ الْأُولَى مَضْمُومَةٌ، وَقُرِئَ يَطُوقُونَهُ، وَالْقِرَاءَةُ هِيَ الْقِرَاءَةُ الْأُولَى، وَمَا وَرَاءَهَا وَإِنْ رُوِيَ وَأُسْنِدَ فَهِيَ شَوَاذٌّ، وَالْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا حُكْمٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا أَصْلٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ بَيَانًا شَافِيًا الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ كَذَلِكَ، رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَسَلَمَةَ، وَثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُمَا. وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ كَانَ صَحِيحًا مُقِيمًا لَزِمَهُ الصَّوْمُ، وَمَنْ كَانَ مُسَافِرًا أَوْ مَرِيضًا فَلَا صَوْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ صَحِيحًا مُقِيمًا وَلَزِمَهُ الصَّوْمُ، وَأَرَادَ تَرْكَهُ، فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] مُطْلَقًا.

مسألة قوله تعالى فمن تطوع خيرا فهو خير له

وَلِهَذَا الْمَعْنَى كَرَّرَهُ، وَلَوْلَا تَجْدِيدُ الْفَرْضِ فِيهِ وَتَحْدِيدُهُ وَتَأْكِيدُهُ مَا كَانَ لِتَكْرَارِ ذَلِكَ فَائِدَةٌ مَقْصُودَةٌ، وَهَذَا مُنْتَزَعٌ عَنْ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فَلْيُنْظَرْ فِيهِ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [البقرة: 184]: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا مَنْ زَادَ عَلَى طَعَامِ مِسْكِينٍ، وَقِيلَ: مَنْ صَامَ؛ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] مَعْنَاهُ الصَّوْمُ خَيْرٌ مِنْ الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ، وَخَيْرٌ مِنْ الْإِطْعَامِ. وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّوْمَ الْفَرْضَ خَيْرٌ مِنْ الْإِطْعَامِ النَّفْلِ، وَالصَّدَقَةَ النَّفَلَ خَيْرٌ مِنْ الصَّوْمِ النَّفْلِ. فَإِنْ قِيلَ: بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ الصَّوْمَ الْفَرْضَ خَيْرٌ مِنْ الْإِطْعَامِ الَّذِي هُوَ بَدَلُهُ، وَهُوَ فَرْضٌ؛ لِأَنَّهُ خُيِّرَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ. قُلْنَا قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] مُرْتَبِطٌ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالتَّأْوِيلَاتِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَصَوْمُكُمْ خَيْرٌ مِنْ إطْعَامِكُمْ الْفَرْضَ وَتَطَوُّعِهِ الزَّائِدِ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَصَوْمُكُمْ خَيْرٌ مِنْ إطْعَامِكُمْ الْبَدَلَ لَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَصَوْمُكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ تَطَوُّعِكُمْ الزَّائِدِ عَلَيْهِ وَبَدَلِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَصَوْمُكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ الزَّائِدِ عَلَيْهِ، فَرُبَّمَا رَغَّبَ فِي تَكْثِيرِ الْإِطْعَامِ، وَتَرْكِ الصِّيَامِ، فَأَعْلَمَ أَنَّ الصَّوْمَ خَيْرٌ لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُقَالُ: الْفَرْضُ خَيْرٌ مِنْ التَّطَوُّعِ، وَلَا يَسْتَوِيَانِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، وَحُكْمُ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي أَصْلِ التَّخْيِيرِ، ثُمَّ يَتَفَاضَلَا فِيهِ؟ قُلْنَا: الصَّوْمُ خَيْرٌ مِنْ الْفِطْرِ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ، فَصَارَ فِيهِ وَصْفٌ مِنْ النَّفْلِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: تَقْدِيمُهُ أَوْ فِعْلُهُ خَيْرٌ مِنْ الْإِطْعَامِ. [مَسْأَلَةٌ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: الصَّوْمُ خَيْرٌ مِنْ الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ قَالَهُ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْفِطْرُ

أَفْضَلُ، وَلِعُلَمَائِنَا مِثْلُهُ، وَلَهُمْ قَوْلٌ ثَالِثٌ: إنَّ الْفِطْرَ فِي الْغَزْوِ أَفْضَلُ؛ وَتَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ». وَصَحَّ أَنَّهُ كَانَ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْفِطْرُ فِي السَّفَرِ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانُوا يَأْخُذُونَ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَعَلَّقَ أَصْحَابُنَا فِي أَنَّ الْفِطْرَ فِي الْغَزْوِ أَفْضَلُ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ، فَأَفْطِرُوا» ". وَالصَّحِيحُ أَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ، لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184]؛ وَأَمَّا فِطْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ " أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: «إنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمْ الصِّيَامُ، وَإِنَّمَا يَنْتَظِرُونَ فِطْرَك، فَأَفْطَرَ». وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ مَنْ شَقَّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فَلَهُ الْفِطْرُ. وَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رَمَضَانَ فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ، مِنْ وَجَدَ قُوَّةً فَصَامَ فَذَلِكَ حَسَنٌ، وَمَنْ

الآية السادسة والثلاثون قوله تعالى شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن

وَجَدَ ضَعْفًا فَأَفْطَرَ فَذَلِكَ حَسَنٌ». فَأَمَّا عِنْدَ الْقُرْبِ مِنْ الْعَدُوِّ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي اسْتِحْبَابِ الْفِطْرِ اخْتِلَافٌ، قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ، وَبِهِ أَقُولُ. [الْآيَة السَّادِسَة وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ] الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185] فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ} [البقرة: 185]: تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]. ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ طَلْحَةَ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرَ الرَّأْسِ يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ وَلَا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنْ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ؛ فَقَالَ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ. قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ: لَا، إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ وَذَكَرَ شَهْرَ رَمَضَانَ قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: لَا، إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ». الْحَدِيثَ، فَجَاءَ هَذَا تَفْسِيرًا لِلْمَفْرُوضِ وَبَيَانًا لَهُ.

مسألة قوله تعالى شهر رمضان

[مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى شَهْرُ رَمَضَانَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ} [البقرة: 185]: يَعْنِي: هِلَالَ رَمَضَانَ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ [الشَّهْرُ] شَهْرًا لِشُهْرَتِهِ، فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَيْنَا الصَّوْمَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ، وَهَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ». فَفَرَضَ عَلَيْنَا عِنْدَ غُمَّةِ الْهِلَالِ إكْمَالُ عِدَّةِ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَإِكْمَالَ عِدَّةِ رَمَضَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا عِنْدَ غُمَّةِ هِلَالِ شَوَّالٍ، حَتَّى يَدْخُلَ فِي الْعِبَادَةِ بِيَقِينٍ، وَيَخْرُجَ عَنْهَا بِيَقِينٍ. وَكَذَلِكَ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُصَرَّحًا بِهِ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ». وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «احْصُوا هِلَالَ شَعْبَانَ لِرَمَضَانَ».

مسألة قوله تعالى فمن شهد منكم الشهر

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]: مَحْمُولٌ عَلَى الْعَادَةِ بِمُشَاهَدَةِ الشَّهْرِ، وَهِيَ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ، وَكَذَلِكَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ». وَقَدْ زَلَّ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ فَقَالَ: يُعَوَّلُ عَلَى الْحِسَابِ بِتَقْدِيرِ الْمَنَازِلِ، حَتَّى يَدُلَّ مَا يَجْتَمِعُ حِسَابُهُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحْوٌ لَرُئِيَ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ». مَعْنَاهُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ فَأَكْمِلُوا الْمِقْدَارَ، وَلِذَلِكَ قَالَ: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا». وَفِي رِوَايَةٍ: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا صَوْمَ ثَلَاثِينَ ثُمَّ أَفْطِرُوا» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَقَدْ زَلَّ أَيْضًا بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَحَكَى عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يُعَوَّلُ عَلَى الْحِسَابِ وَهِيَ عَثْرَةٌ لَا لَعًا لَهَا. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} [البقرة: 185] فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: مَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ، وَهُوَ مُقِيمٌ، ثُمَّ سَافَرَ لَزِمَهُ الصَّوْمُ فِي بَقِيَّتِهِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ.

مسألة صام في المصر ثم سافر في أثناء اليوم

الثَّانِي: مَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْ مِنْهُ مَا شَهِدَ وَلْيُفْطِرْ مَا سَافَرَ وَقَدْ سَقَطَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ بِالْإِجْمَاعِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ عَلَى الثَّانِي، وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ رَبُّنَا سُبْحَانَهُ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْ مِنْهُ مَا لَمْ يَشْهَدْ وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَافَرَ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ، فَأَفْطَرَ وَأَفْطَرَ الْمُسْلِمُونَ». [مَسْأَلَةٌ صَامَ فِي الْمِصْرِ ثُمَّ سَافَرَ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إذَا صَامَ فِي الْمِصْرِ، ثُمَّ سَافَرَ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ لَزِمَهُ إكْمَالُ الصَّوْمِ، فَلَوْ أَفْطَرَ قَالَ مَالِكٌ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ عُذْرٌ طَرَأَ، فَكَانَ كَالْمَرَضِ يَطْرَأُ عَلَيْهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَبِهِ أَقُولُ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ طَرَأَ بَعْدَ لُزُومِ الْعِبَادَةِ، وَيُخَالِفُ الْمَرَضَ وَالْحَيْضَ، لِأَنَّ الْمَرَضَ يُبِيحُ لَهُ الْفِطْرَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِ الصَّوْمَ، وَالسَّفَرُ لَا يُبِيحُ لَهُ ذَلِكَ؛ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِهَتْكِ حُرْمَتِهِ. [مَسْأَلَةٌ مِيعَادُ لُزُومِ الصَّوْمِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: لَا خِلَافَ أَنَّهُ يَصُومُهُ مَنْ رَآهُ، فَأَمَّا مَنْ أُخْبِرَ بِهِ فَيَلْزَمُهُ الصَّوْمُ؛ لِأَنَّ رُؤْيَتَهُ قَدْ تَكُونُ لَمْحَةً، فَلَوْ وَقَفَ صَوْمُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى رُؤْيَتِهِ لَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِسْقَاطِهِ، إذْ لَا يُمْكِنُ كُلُّ أَحَدٍ أَنْ يَرَاهُ وَقْتَ طُلُوعِهِ، وَإِنَّ وَقْتَ الصَّلَاةِ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِي دَرْكِهِ كُلُّ أَحَدٍ وَيَمْتَدُّ أَمَدُهُ يُعْلَمُ بِخَبَرِ الْمُؤَذِّنِ، فَكَيْفَ الْهِلَالُ الَّذِي يَخْفَى أَمْرُهُ وَيَقْصُرُ أَمَدُهُ،. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَجْهِ الْخَبَرِ عَنْهُ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُجْزِي فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ كَالصَّلَاةِ قَالَهُ أَبُو ثَوْرٍ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَاهُ مَجْرَى الشَّهَادَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ قَالَهُ مَالِكٌ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَى أَوَّلَهُ مَجْرَى الْإِخْبَارِ وَأَجْرَى آخِرَهُ مَجْرَى الشَّهَادَةِ، وَهُوَ الشَّافِعِيُّ؛ وَهَذَا تَحَكُّمٌ وَلَا عُذْرَ لَهُ فِي الِاحْتِيَاطِ لِلْعِبَادَةِ، فَإِنَّهُ يَحْتَاطُ لِدُخُولِهَا كَمَا يَحْتَاطُ لِخُرُوجِهَا، وَالِاحْتِيَاطُ لِدُخُولِهَا أَلَّا تَلْزَمَ إلَّا بِيَقِينٍ. وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ فَاسْتَظْهَرَ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ

مسألة أخبر مخبر عن رؤية بلد هلال رمضان

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَبْصَرْتُ الْهِلَالَ اللَّيْلَةَ، فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: يَا بِلَالُ؛ أَذِّنْ فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غَدًا». خَرَّجَهُ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: قَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَخْبَرْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنِّي رَأَيْت الْهِلَالَ، فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصِّيَامِ»، وَاعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ عَلَى خَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ رُوِيَ مُرْسَلًا تَارَةً وَتَارَةً مُسْنَدًا؛ وَهَذَا مِمَّا لَا يَقْدَحُ عِنْدَنَا فِي الْإِخْبَارِ، وَبِهِ قَالَ النَّظَّامُ؛ لِأَنَّ الرَّاوِيَ يُسْنِدُهُ تَارَةً وَيُرْسِلُهُ تَارَةً أُخْرَى، وَيُسْنِدُهُ رَجُلٌ وَيُرْسِلُهُ آخَرُ. وَقِيلَ: يَحْتَمِلُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنْ يَكُونَ رَآهُ غَيْرُهُ قَبْلَهُ، وَهَذَا تَحَكُّمٌ وَزِيَادَةٌ عَلَى السَّبَبِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا جَائِزًا لَبَطَلَ كُلُّ خَبَرٍ بِتَقْدِيرِ الزِّيَادَةِ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: نُؤَيِّدُهُ بِالْأَدِلَّةِ، قُلْنَا: لَا دَلِيلَ، إنَّمَا الصَّحِيحُ فِيهِ قَبُولُ الْخَبَرِ مِنْ الْعَدْلِ وَلُزُومُ الْعَمَلِ بِهِ. [مَسْأَلَةٌ أَخْبَرَ مُخْبِرٌ عَنْ رُؤْيَةِ بَلَدٍ هِلَال رَمَضَان] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: إذَا أَخْبَرَ مُخْبِرٌ عَنْ رُؤْيَةِ بَلَدٍ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَقْرُبَ أَوْ يَبْعُدَ؛ فَإِنْ قَرُبَ فَالْحُكْمُ وَاحِدٌ، وَإِنْ بَعُدَ فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: لِأَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ رُؤْيَتُهُمْ، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ كُرَيْبٍ، «أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ بَعَثَتْهُ إلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بِالشَّامِ قَالَ: فَقَدِمْت الشَّامَ فَقَضَيْت حَاجَتَهَا، وَاسْتَهَلَّ عَلَيَّ هِلَالُ رَمَضَانَ وَأَنَا بِالشَّامِ، فَرَأَيْت

مسألة قوله تعالى ولتكملوا العدة

الْهِلَالَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ قَدِمْت الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ، فَسَأَلَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ، ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلَالَ فَقَالَ: مَتَى رَأَيْته؟ فَقُلْت: لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: أَنْتَ رَأَيْته؟ قُلْت: نَعَمْ، وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ قَالَ: لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ، فَقُلْت لَهُ: أَوَلَا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ؟ قَالَ: لَا؛ هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». وَاخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا، فَقِيلَ: رَدَّهُ؛ لِأَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ، وَقِيلَ: رَدَّهُ؛ لِأَنَّ الْأَقْطَارَ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْمَطَالِعِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ كُرَيْبًا لَمْ يَشْهَدْ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ حُكْمٍ ثَبَتَ بِشَهَادَةٍ؛ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ بِالشَّهَادَةِ يُجْزَى فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ؛ وَنَظِيرُ مَا لَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ أَهَلَّ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِأَغْمَاتَ، وَأَهَلَّ بِإِشْبِيلِيَّةَ لَيْلَةَ السَّبْتِ، فَيَكُونُ لِأَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ رُؤْيَتُهُمْ؛ لِأَنَّ سُهَيْلًا يُكْشَفُ مِنْ أَغْمَاتَ وَلَا يُكْشَفُ مِنْ إشْبِيلِيَّةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} [البقرة: 185]: مَعْنَاهُ عِدَّةُ الْهِلَالِ، كَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

مسألة قوله تعالى ولتكبروا الله على ما هداكم

[مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] قَالَ عُلَمَاؤُنَا: مَعْنَاهُ تُكَبِّرُوا إذَا رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ، وَلَا يَزَالُ التَّكْبِيرُ مَشْرُوعًا حَتَّى تُصَلَّى صَلَاةُ الْعِيدِ، وَقَدْ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكَبِّرُ إذَا رَأَى الْهِلَالَ، وَيُكَبِّرُ فِي الْعِيدِ»، فَأَمَّا تَكْبِيرُهُ إذَا رَأَى الْهِلَالَ فَلَمْ يَثْبُتْ، أَمَّا إنَّهُ رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ عَنْ قَتَادَةَ بَلَاغًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ: أَحَدُهُمَا: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا رَأَى الْهِلَالَ أَعْرَضَ عَنْهُ». الثَّانِي: «أَنَّهُ كَانَ إذَا رَآهُ قَالَ: هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، آمَنْت بِاَلَّذِي خَلَقَك ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ذَهَبَ بِشَهْرِ كَذَا وَجَاءَ بِشَهْرِ كَذَا». قَالَ الْقَاضِي: وَلَقَدْ لُكْته فَمَا وَجَدْت لَهُ طَعْمًا. وَقَدْ أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ زَوْجِ الْحُرَّةِ [أَنْبَأَنَا النَّجِيُّ]، أَنْبَأَنَا ابْنُ مَحْبُوبٍ، أَنْبَأَنَا ابْنُ سَوْرَةَ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، أَنْبَأَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ سُفْيَانَ الْمَدَنِيُّ، أَنْبَأَنَا بِلَالُ بْنُ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ: اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْيُمْنِ وَالْإِيمَانِ وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ».

قَالَ ابْنُ سَوْرَةَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ أَثْبَتُ مِنْ الْمُتَقَدِّمِ. وَأَمَّا تَكْبِيرُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْعِيدِ فَهِيَ مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ مَا وَجَدْت فِيهَا شِفَاءً عِنْدَ أَحَدٍ، وَمِقْدَارُ الَّذِي تَحَصَّلَ بَعْدَ الْبَحْثِ أَنَّ لِلتَّكْبِيرِ ثَلَاثَ أَحْوَالٍ: حَالٌ فِي وَقْتِ الْبُرُوزِ إلَى صَلَاةِ الْعِيدِ، وَحَالَ الصَّلَاةِ، وَحَالٌ بَعْدَ الصَّلَاةِ. فَأَمَّا تَكْبِيرُ الْبُرُوزِ، فَأَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْأَزْدِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَمْلِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حُبَيْشٍ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَطَاءٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُكَبِّرُ يَوْمَ الْفِطْرِ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُصَلَّى». وَذَكَرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ حَتَّى يَأْتِيَ الْجَبَّانَةَ»، يُرِيدُ حِينَ يَبْرُزُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي التَّكْبِيرِ فِي الْفِطْرِ أَشَدَّ مِنْهُمْ فِي الْأَضْحَى. وَأَمَّا تَكْبِيرُهُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ سَلَفًا وَخَلَفًا، وَرَوَيْنَا فِي ذَلِكَ الْأَحَادِيثَ وَالْأَخْبَارَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْبَارًا عَنْ السَّلَفِ. فَأَمَّا الْأَحَادِيثُ، فَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ، وَأَبُو الْأَسْوَدِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَكَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ الْأَسْلَمِيُّ، وَغَيْرُهُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَاللَّفْظُ وَاحِدٌ:

«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُكَبِّرُ فِي الْفِطْرِ سَبْعًا فِي الْأُولَى وَخَمْسًا فِي الثَّانِيَةِ». وَأَمَّا أَخْبَارُ السَّلَفِ فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يُكَبِّرُ إحْدَى عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً، سِتًّا فِي الْأُولَى، وَخَمْسًا فِي الْآخِرَةِ، وَيُكَبِّرُ فِي الْأَضْحَى خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ، ثَلَاثًا فِي الْأُولَى وَثِنْتَيْنِ فِي الثَّانِيَةِ ". وَرَوَى أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً، سَبْعًا فِي الْأُولَى، وَخَمْسًا فِي الثَّانِيَةِ، سِوَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَتَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ ". وَقَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: " ثِنْتَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً مِثْلَهُ " وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ثَلَاثَ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً؛ سَبْعًا فِي الْأُولَى وَسِتًّا فِي الثَّانِيَةِ ". وَرُوِيَ عَنْهُ: " إنْ شِئْت سَبْعًا، أَوْ إحْدَى عَشْرَةَ، أَوْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ " وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: " يُكَبِّرُ تِسْعًا: خَمْسًا فِي الْأُولَى، وَأَرْبَعًا فِي الثَّانِيَةِ " وَمِثْلُهُ عَنْ حُذَيْفَةَ وَأَبِي مُوسَى؛ وَرُوِيَ عَنْهُمَا: " يُكَبِّرُ فِي الْعِيدَيْنِ أَرْبَعًا كَتَكْبِيرِ الْجَنَائِزِ ". وَقَدْ أَرْسَلَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ إلَى أَرْبَعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ، سَأَلَهُمْ عَنْ التَّكْبِيرِ فِي الْعِيدَيْنِ، فَقَالُوا: ثَمَانِي تَكْبِيرَاتٍ، فَذَكَرَهُ لِابْنِ سِيرِينَ، فَقَالَ: صَدَقَ، وَلَكِنَّهُ أَغْفَلَ تَكْبِيرَةَ فَاتِحَةِ الصَّلَاةِ. وَاخْتَلَفَ رَأْيُ الْفُقَهَاءِ؛ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَاللَّيْثُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو ثَوْرٍ: سَبْعًا فِي الْأُولَى، وَخَمْسًا فِي الثَّانِيَةِ. إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ: سَبْعًا فِي الْأُولَى بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: سِوَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ.

قَالَ أَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ: سِوَى تَكْبِيرَةِ الْقِيَامِ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يُكَبِّرُ خَمْسًا فِي الْأُولَى، وَأَرْبَعًا فِي الثَّانِيَةِ، سِتٌّ فِيهَا زَوَائِدُ، وَثَلَاثٌ أَصْلِيَّاتٌ بِتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ وَتَكْبِيرَتَيْ الرُّكُوعِ، لَكِنْ يُوَالِي بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ، وَيُقَدِّمُ التَّكْبِيرَ فِي الْأُولَى قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، وَيُقَدِّمُ الْقِرَاءَةَ فِي الثَّانِيَةِ قَبْلَ التَّكْبِيرِ. وَرَوَى أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَمَعَ الصَّحَابَةِ فَاتَّفَقُوا عَلَى مَذْهَبِهِمْ. وَظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ هَذَا كَأَعْدَادِ الْوُضُوءِ وَرَكَعَاتِ صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَهُوَ وَهْمٌ مِنْ قَائِلِهِ لَيْسَ فِي الْوُضُوءِ أَعْدَادٌ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا، وَلَا فِي قِيَامِ اللَّيْلِ رَكَعَاتٌ مُقَدَّرَةٌ؛ وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِلَافُ رِوَايَاتٍ فِي صَلَاةِ جَمَاعَاتٍ، فَهِيَ كَاخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ؛ وَإِنَّمَا يَتَرَجَّحُ فِيهَا عِنْدَ النَّظَرِ إلَيْهَا: أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْمَرْءَ مُخَيَّرٌ فِي كُلِّ رِوَايَةٍ، فَمَنْ فَعَلَ مِنْهَا شَيْئًا تَمَّ لَهُ الْمُرَادُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ نَفْسُ التَّكْبِيرِ لَا قَدْرُهُ. وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ رِوَايَةَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَرْجَحُ؛ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ بِالدِّينِ أَقْعَدُ فَإِنَّهُمْ شَاهَدُوهَا، فَصَارَ نَقْلُهُمْ كَالتَّوَاتُرِ لَهَا. وَيَتَرَجَّحُ قَوْلُ مَالِكٍ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ مَالِكًا رَأَى تَكْبِيرًا يَتَأَلَّفُ مِنْ مَجْمُوعِهِ وِتْرٌ، وَاَللَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ [وَإِلَيْهِ أَمِيلُ]. وَقَدْ يُمْكِنُ تَلْخِيصُ بَعْضِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ بِأَنْ يُقَالَ: إنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي عَدَّ الْأُصُولَ وَالزَّوَائِدَ مَرَّةً وَأَخْبَرَ عَنْهَا، فَيَأْتِيَ مِنْ مَجْمُوعِهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ، أَوْ يَقْتَصِرَ عَلَى الزَّوَائِدِ فِي الذِّكْرِ وَيَحْذِفَ الْأَصْلِيَّاتِ الثَّلَاثَ فَيَظْهَرُ هَاهُنَا التَّبَايُنُ أَكْثَرَ، وَلَكِنْ يَفْضُلُ الْكُلُّ مَا قَدَّمْنَا مِنْ الرُّجُوعِ إلَى أَعْمَالِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا تَكْبِيرُهُ مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ، فَرَوَى أَبُو الطُّفَيْلِ عَنْ عَلِيٍّ، وَعَمَّارٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُكَبِّرُ فِي دُبُرِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ غَدَاةَ عَرَفَةَ إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ آخِرَ

الآية السابعة والثلاثون قوله تعالى أحل لكم ليلة الصيام

أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يَوْمَ دَفْعَةِ النَّاسِ الْعُظْمَى». وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ جَابِرٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا صَلَّى الصُّبْحَ مِنْ غَدَاةِ عَرَفَةَ، وَأَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ يَقُولُ: عَلَى مَكَانِكُمْ، وَيَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ». وَرُوِيَ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ: " أَنَّهُمْ كَانُوا يُكَبِّرُونَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَلَا يُكَبِّرُونَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ " كَذَلِكَ فَعَلَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ مَحْصُورٌ. وَرَوَى رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: سَمِعْته يُكَبِّرُ فِي الصَّلَوَاتِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ: اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا. وَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ رِوَايَةَ أَبِي جَعْفَرٍ [عَنْ جَابِرٍ]، أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ، وَذَكَرَهَا ابْنُ الْجَلَّابِ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَاخْتَارَ عُلَمَاؤُنَا التَّكْبِيرَ الْمُطْلَقَ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، وَإِلَيْهِ أَمِيلُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَتْ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الْإِقْبَالَ عَلَى التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ، وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمَنَاسِكِ شُكْرًا عَلَى مَا أَوْلَى مِنْ الْهِدَايَةِ وَأَنْقَذَ بِهِ مِنْ الْغَوَايَةِ، وَبَدَلًا عَمَّا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ مِنْ التَّفَاخُرِ بِالْآبَاءِ، وَالتَّظَاهُرِ بِالْأَحْسَابِ، وَتَعْدِيدِ الْمَنَاقِبِ، عَلَى مَا يَأْتِي تِبْيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [الْآيَة السَّابِعَة وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ] الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187].

فِيهَا تِسْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رَوَى الْأَئِمَّةُ: الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ الْبَرَاءِ: «أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا إذَا حَضَرَ الْإِفْطَارُ فَنَامَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلَا يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ، وَأَنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا، فَلَمَّا حَضَرَ الْإِفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ، فَقَالَ: أَعِنْدَكِ طَعَامٌ؟ قَالَتْ: لَا، وَلَكِنِّي أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ، وَكَانَ يَعْمَلُ يَوْمَهُ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَدْ نَامَ قَالَتْ: خَيْبَةً لَك؛ فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -»، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ نَحْوَهُ، «وَأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَجَعَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ سَمَرَ عِنْدَهُ لَيْلَةً، فَوَجَدَ امْرَأَتَهُ قَدْ نَامَتْ فَأَرَادَهَا فَقَالَتْ: قَدْ نِمْتُ، فَقَالَ: مَا نِمْت، ثُمَّ وَقَعَ عَلَيْهَا، وَصَنَعَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ مِثْلَهُ. فَغَدَا عُمَرُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَعْتَذِرُ إلَى اللَّهِ وَإِلَيْك؟ فَإِنَّ نَفْسِي زَيَّنَتْ لِي مُوَاقَعَةَ أَهْلِي، فَهَلْ تَجِدُ لِي مِنْ رُخْصَةٍ؟ فَقَالَ لَهُ: لَمْ تَكُنْ بِذَلِكَ حَقِيقًا يَا عُمَرُ، فَلَمَّا بَلَغَ بَيْتَهُ أَرْسَلَ إلَيْهِ فَأَنْبَأَهُ بِعُذْرِهِ فِي آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ». وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي أَبْوَابِ الْأَذَانِ قَالَ: " جَاءَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَرَادَ أَهْلَهُ، فَقَالَتْ: إنِّي قَدْ نِمْت: فَظَنَّ أَنَّهَا تَعْتَلُّ، فَأَتَاهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ".

مسألة الرفث

[مَسْأَلَةٌ الرَّفَثِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي " الرَّفَثِ ": الرَّفَثُ يَكُونُ الْإِفْحَاشَ فِي الْمَنْطِقِ، وَيَكُونُ حَدِيثَ النِّسَاءِ، وَيَكُونُ مُبَاشَرَتَهُنَّ، وَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا الْمُبَاشَرَةُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْمُبَاشَرَةُ الْجَمْعُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِيمٌ يَكُنِّي، وَهَذَا يَعْضُدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] أَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَإِنَّهُمْ كَذَلِكَ يَصُومُونَ، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} [البقرة: 187]: الْمَعْنَى هُنَّ [سِتْرٌ] لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الثَّوْبِ وَيُفْضِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ إلَى صَاحِبِهِ، وَيَسْتَتِرُ بِهِ وَيَسْكُنُ إلَيْهِ. وَالْفِقْهُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنْ صَاحِبِهِ لِمُخَالَطَتِهِ إيَّاهُ وَمُبَاشَرَتِهِ لَهُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مُتَعَفِّفٌ بِصَاحِبِهِ مُسْتَتِرٌ بِهِ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَهُ مِنْ التَّعَرِّي مَعَ غَيْرِهِ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 187]: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ رِوَايَةِ عُمَرَ وَكَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ عَلِمَ الْخِيَانَةَ، وَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ مَا عَلِمَ مَوْجُودًا، وَإِنْ كَانَ عَلَى حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ صِرْمَةَ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فَتَقْدِيرُهُ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَرَخَّصَ لَكُمْ.

مسألة قوله تعالى فتاب عليكم

[مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى فَتَابَ عَلَيْكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 187] قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْأَمْرِ تَوْبَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ وَمَعْنَى وَصْفِهِ بِأَنَّهُ التَّوَّابُ، وَقَدْ تَابَ عَلَيْنَا رَبُّنَا هَاهُنَا بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَبُولُهُ تَوْبَةَ مَنْ اخْتَانَ نَفْسَهُ. وَالثَّانِي: تَخْفِيفُ مَا ثَقُلَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل: 20] أَيْ رَجَعَ إلَى التَّخْفِيفِ. قَالَ عُلَمَاءُ الزُّهْدِ: وَكَذَا فَلْتَكُنْ الْعِنَايَةُ وَشَرَفُ الْمَنْزِلَةِ، خَانَ نَفْسَهُ عُمَرُ فَجَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى شَرِيعَةً، وَخَفَّفَ لِأَجْلِهِ عَنْ الْأُمَّةِ فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187]: مَعْنَاهُ: قَدْ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ الْآيَةِ جِمَاعُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا جُوعُ قَيْسٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ السَّبَبُ جُوعَ قَيْسٍ لَقَالَ: فَالْآنَ كُلُوا، ابْتَدَأَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ الْمُهِمُّ الَّذِي نَزَلَتْ الْآيَةُ لِأَجْلِهِ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187]: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ الْحَلَالِ. الثَّانِي: مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ الْوَلَدِ. الثَّالِثُ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ. فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ عَامٌّ يَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ قَيْسٍ، وَالثَّانِي خَاصٌّ يَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ عُمَرَ، وَالثَّالِثُ عَامٌّ فِي الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ.

مسألة قوله تعالى وكلوا واشربوا

[مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَكُلُوا وَاشْرَبُوا] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [البقرة: 187]: هَذَا جَوَابُ نَازِلَةِ قَيْسِ بْنِ صِرْمَةَ، وَالْأَوَّلُ جَوَابُ نَازِلَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ وَبَدَأَ بِنَازِلَةِ عُمَرَ؛ لِأَنَّهُ الْمُهِمُّ فَهُوَ الْمُقَدَّمُ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]: رَوَى الْأَئِمَّةُ بِأَجْمَعِهِمْ: «قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَمَدْت إلَى عِقَالَيْنِ لِي أَسْوَدَ وَأَبْيَضَ، فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي، وَجَعَلْت أَنْظُرُ فِي اللَّيْلِ إلَيْهِمَا فَلَا يَسْتَبِينُ لِي فَعَمَدْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرْت ذَلِكَ، فَقَالَ: إنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ وَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]». وَرَوَى الْأَئِمَّةُ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَمْنَعَنَّكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ مِنْ سُحُورِكُمْ، فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، لِيُرْجِعَ قَائِمَكُمْ، وَيُوقِظَ نَائِمَكُمْ، وَلَيْسَ أَنْ يَقُولَ هَكَذَا وَصَوَّبَ يَدَهُ وَرَفَعَهَا حَتَّى يَقُولَ: هَكَذَا وَضَرَبَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ». [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]: فَشَرَطَ رَبُّنَا تَعَالَى إتْمَامَ الصَّوْمِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ اللَّيْلُ، كَمَا جَوَّزَ الْأَكْلَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ النَّهَارُ، وَلَكِنْ إذَا تَبَيَّنَ اللَّيْلُ فَالسُّنَّةُ تَعْجِيلُ الْفِطْرِ. وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ مِنْهُمْ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

مسألة تعجيل الفطر وتقديم الإمساك في الصيام

فِي سَفَرٍ؛ فَصَامَ حَتَّى أَمْسَى، فَقَالَ لِرَجُلٍ: انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي. قَالَ: لَوْ انْتَظَرْت حَتَّى تُمْسِيَ. قَالَ: انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي إذَا رَأَيْت اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ هَاهُنَا وَأَدْبَرَ مِنْ هَاهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ». [مَسْأَلَةٌ تَعْجِيلُ الْفِطْرِ وتَقْدِيمُ الْإِمْسَاكِ فِي الصِّيَام] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ كَمَا أَنَّ السُّنَّةَ تَعْجِيلُ الْفِطْرِ مُخَالَفَةً لِأَهْلِ الْكِتَابِ كَذَلِكَ السُّنَّةُ تَقْدِيمُ الْإِمْسَاكِ إذَا قَرُبَ الْفَجْرُ عَنْ مَحْظُورَاتِ الصِّيَامِ. وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَوَّزَ الْأَكْلَ مَعَ الشَّكِّ فِي الْفَجْرِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ؛ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالشَّافِعِيُّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ} [البقرة: 187] وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ»، وَكَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ رَجُلًا أَعْمَى لَا يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ: أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ. وَتَأَوَّلَهُ عُلَمَاؤُنَا: قَارَبْت الصَّبَاحَ، وَقَارَبْت تَبَيُّنَ الْخَيْطِ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِوَضْعِ الشَّرِيعَةِ وَحُرْمَةِ الْعِبَادَةِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يُوشِكُ مَنْ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى أَنْ يَقَعَ فِيهِ». وَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ فَأَكَلْت لَمْ تَخَفْ مُوَاقَعَةَ مَحْظُورٍ، وَإِذَا دَنَا الصَّبَاحُ لَمْ يَحِلَّ لَك الْأَكْلُ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَوْقَعَك فِي الْمَحْظُورِ غَالِبًا. [مَسْأَلَةٌ إيصَال الصَّوْم يَوْمٍ بِيَوْمٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ إذَا تَبَيَّنَ اللَّيْلُ سُنَّ الْفِطْرُ شَرْعًا، أَكَلَ أَوْ لَمْ يَأْكُلْ؛ فَإِنْ تَرَكَ الْأَكْلَ لِعُذْرٍ أَوْ

مسألة محظورات الصيام

لِشُغْلٍ جَازَ، وَإِنْ تَرَكَهُ قَصْدًا لِمُوَالَاةِ الصِّيَامِ قُرْبَةً اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ؛ فَمِمَّنْ رَآهُ جَائِزًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، كَانَ يَصُومُ الْأُسْبُوعَ وَيُفْطِرُ عَلَى الصَّبْرِ، وَرَآهُ الْأَكْثَرُ حَرَامًا لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الظَّاهِرِ وَالتَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِهِ مَعْرُوفَةٌ، وَهِيَ ضَعْفُ الْقُوَى وَإِنْهَاكُ الْأَبْدَانِ. وَرَوَى الْأَئِمَّةُ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الْوِصَالِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: فَإِنَّك تُوَاصِلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَأَيُّكُمْ مِثْلِي؟ إنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي. فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنْ الْوِصَالِ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا وَيَوْمًا، ثُمَّ رَأَوْا الْهِلَالَ، فَقَالَ: لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلَالُ لَزِدْتُكُمْ»، كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا، وَإِنَّمَا كَانَ شَفَقَةً عَلَيْهِمْ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقْبَلُوهُ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا فَعَلُوهُ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُوَاصِلُوا؛ فَأَيُّكُمْ أَرَادَ الْوِصَالَ فَلْيُوَاصِلْ، حَتَّى السَّحَرِ»، وَهَذِهِ إبَاحَةٌ لِتَأْخِيرِ الْفِطْرِ، وَمَنْعٌ مِنْ إيصَالِ يَوْمٍ بِيَوْمٍ. [مَسْأَلَةٌ مَحْظُورَاتِ الصِّيَامِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]:

بَيَّنَ بِذَلِكَ مَحْظُورَاتِ الصِّيَامِ؛ وَهِيَ الْأَكْلُ، وَالشُّرْبُ، وَالْجِمَاعُ. فَأَمَّا ظَاهِرُ الْمُبَاشَرَةِ الَّتِي هِيَ اتِّصَالُ الْبَشَرَةِ بِالْبَشَرَةِ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا حَرَامٌ. الثَّانِي: أَنَّهَا مُبَاحَةٌ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ. الرَّابِعُ: أَنَّهَا مُنْقَسِمَةٌ بَيْنَ مَنْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ التَّعَرُّضَ لِفَسَادِ الصَّوْمِ وَبَيْنَ مَنْ يَأْمَنُ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ. وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهَا: أَنَّهَا سَبَبٌ وَدَاعِيَّةٌ إلَى الْجِمَاعِ، وَذَرِيعَةٌ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ، فَيُخْتَلَفُ فِي حُكْمِهَا كَاخْتِلَافِهِمْ فِي تَحْرِيمِ الذَّرَائِعِ الَّتِي تَدْعُو إلَى الْمَحْظُورَاتِ؛ فَأَمَّا عُلَمَاءُ الْمَالِكِيَّةِ فَاعْتَبَرُوا حَالَ الرَّجُلِ وَخَوْفَهُ عَلَى صَوْمِهِ وَأَمْنَهُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُقَبِّلُ أَزْوَاجَهُ عَائِشَةَ وَغَيْرَهَا، وَهُوَ صَائِمٌ، وَيَأْمُرُ بِالْإِخْبَارِ بِذَلِكَ»؛ لَكِنَّ النَّبِيَّ كَانَ أَمْلَكَنَا لِإِرْبِهِ. وَقَدْ خَرَّجَ مُسْلِمٌ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْتَى عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ بِجَوَازِهَا وَهُوَ شَابٌّ»، فَدَلَّ أَنَّ الْمُعَوَّلَ فِيهَا مَا اعْتَبَرَ عُلَمَاؤُنَا مِنْ حَالِ الْمُقَبِّلِ، لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ تَجَاوَزَ فِي التَّفْصِيلِ حَدَّ الْفُتْيَا، وَنَحْنُ نَضْبِطُ بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى.

مسألة المراد بقوله تعالى الخيط الأبيض

فَنَقُولُ: أَمَّا إنْ أَفْضَى التَّقْبِيلُ وَالْمُبَاشَرَةُ إلَى الْمَذْيِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَهُ فِي الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى، وَأَمَّا إنْ خِيفَ إفْضَاؤُهُ إلَى الْمَنِيِّ فَذَلِكَ الْمَمْنُوعُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ إنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْخَيْطُ الأَبْيَضُ} [البقرة: 187] الْفَجْرَ وَيَتَأَخَّرُ الْبَيَانُ مَعَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ؟ وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ مَعَ بَقَاءِ التَّكْلِيفِ حَتَّى يَقَعَ الْخَطَأُ عَنْ الْمَقْصُودِ لَا يَجُوزُ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْبَيَانَ كَانَ مَوْجُودًا فِيهِ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ لَا يُدْرِكُهُ جَمِيعُ النَّاسِ؛ وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى وَجْهٍ يَخْتَصُّ بِهِ بَعْضُهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْبَيَانُ مَكْشُوفًا فِي دَرَجَةٍ يَطَّلِعُ عَلَيْهَا كُلُّ أَحَدٍ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِيهِ إلَّا عَدِيٌّ وَحْدَهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُعَنِّفْ عَدِيًّا، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْبَيَانَ فِيهِ جَلِيًّا. وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَدِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: «إنَّك لَعَرِيضُ الْقَفَا»، وَضَحِكَ؛ وَلَا يَضْحَكُ إلَّا عَلَى جَائِزٍ، وَلَيْسَ فِيمَا ذُكِرَ لَهُ إلَّا تَعْرِيضُهُ لِلْغَبَاوَةِ. [مَسْأَلَةٌ طُلُوعِ الْفَجْرِ عَلَى الصَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ إذَا جَوَّزْنَا لَهُ الْوَطْءَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ طُلُوعِ الْفَجْرِ عَلَيْهِ، وَهُوَ جُنُبٌ؛ وَذَلِكَ جَائِزٌ إجْمَاعًا؛ وَقَدْ كَانَ وَقَعَ فِيهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - كَلَامٌ، ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى أَنَّهُ مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَإِنَّ صَوْمَهُ صَحِيحٌ، وَبِهَذَا احْتَجَّ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَيْهِ، وَمِنْ هَاهُنَا أَخَذَهُ بِاسْتِنْبَاطِهِ، وَغَوْصِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]: الِاعْتِكَافُ فِي اللُّغَةِ هُوَ اللُّبْثُ، وَهُوَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَقَلُّهُ لَحْظَةٌ، وَلَا حَدَّ

مسألة الاعتكاف في أكثر من مسجد في رمضان واحد

لِأَكْثَرِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِأَنَّ الصَّوْمَ عِنْدَهُمَا مِنْ شَرْطِهِ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ الصَّائِمِينَ، وَهَذَا لَا يَلْزَمُ فِي الْوَجْهَيْنِ: أَمَّا اشْتِرَاطُ الصَّوْمِ فِيهِ بِخِطَابِهِ تَعَالَى لِمَنْ صَامَ فَلَا يَلْزَمُ بِظَاهِرِهِ وَلَا بَاطِنِهِ؛ لِأَنَّهَا حَالٌ وَاقِعَةٌ لَا مُشْتَرَطَةٌ. وَأَمَّا تَقْدِيرُهُ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ مِنْ شَرْطِهِ فَضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَكُونُ مُقَدَّرَةً بِشَرْطِهَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ فِي الصَّلَاةِ، وَتَنْقَضِي الصَّلَاةُ وَتَبْقَى الطَّهَارَةُ، وَقَدْ حَقَّقْنَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ دَلِيلَ وُجُوبِ الصَّوْمِ فِيهِ، وَيُغْنِي الْآنَ لَكُمْ عَنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعُمَرَ: اعْتَكِفْ وَصُمْ». وَكَانَ شَيْخُنَا فَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الشَّاشِيُّ إذَا دَخَلْنَا مَعَهُ مَسْجِدًا بِمَدِينَةِ السَّلَامِ لِإِقَامَةِ سَاعَةٍ يَقُولُ: انْوُوا الِاعْتِكَافَ تَرْبَحُوهُ. وَعَوَّلَ مَالِكٌ عَلَى أَنَّ الِاعْتِكَافَ اسْمٌ لُغَوِيٌّ شَرْعِيٌّ، فَجَاءَ الشَّرْعُ فِي حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِتَقْدِيرِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَكَانَ ذَلِكَ أَقَلَّهُ، وَجَاءَ فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاعْتِكَافِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، فَكَانَ ذَلِكَ الْمُسْتَحَبَّ فِيهِ. [مَسْأَلَةٌ الِاعْتِكَافِ فِي أَكْثَر مِنْ مَسْجِدٍ فِي رَمَضَان وَاحِد] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]: مَذْهَبُ مَالِكٍ الصَّرِيحُ الَّذِي لَا مَذْهَبَ لَهُ سِوَاهُ جَوَازُ الِاعْتِكَافِ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] فَعَمَّ الْمَسَاجِدَ كُلَّهَا؛ لَكِنَّهُ

مسألة معنى المباشرة للصائم

إذَا اعْتَكَفَ فِي مَسْجِدٍ لَا جُمُعَةَ فِيهِ لِلْجُمُعَةِ، فَمِنْ عُلَمَائِنَا مَنْ قَالَ: يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ، وَلَا نَقُولُ بِهِ؛ بَلْ يَشْرُفُ الِاعْتِكَافُ وَيَعْظُمُ. وَلَوْ خَرَجَ مِنْ الِاعْتِكَافِ مِنْ مَسْجِدٍ إلَى مَسْجِدٍ لَجَازَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ إجْمَاعًا، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ إلَى ذَلِكَ الْمَسْجِدِ أَوْ إلَى سِوَاهُ؟. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى الْمُبَاشَرَة للصائم] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: وَهِيَ بَدِيعَةٌ: فَإِنْ قِيلَ: قُلْتُمْ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187]: إنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِمَاعُ، وَقُلْتُمْ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187]: إنَّهُ اللَّمْسُ وَالْقُبْلَةُ، فَكَيْفَ هَذَا التَّنَاقُضُ؟ قُلْنَا: كَذَلِكَ نَقُولُ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187]: إنَّهَا الْمُبَاشَرَةُ بِأَسْرِهَا صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا؛ وَلَوْلَا أَنَّ السُّنَّةَ قَضَتْ عَلَى عُمُومِهَا مَا رَوَتْ عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ فِي جَوَازِ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَوْلِهِ، وَبِإِذْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ فِي الْقُبْلَةِ وَهُوَ صَائِمٌ فَخَصَصْنَاهَا. فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] فَقَدْ بَقِيَتْ عَلَى عُمُومِهَا وَعَضَّدَتْهَا أَدِلَّةٌ سِوَاهَا؛ وَهِيَ أَنَّ الِاعْتِكَافَ مَبْنِيٌّ عَلَى رُكْنَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَرْكُ الْأَعْمَالِ الْمُبَاحَةِ بِإِجْمَاعٍ. الثَّانِي: تَرْكُ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ سِوَاهُ مِمَّا يَقْطَعُهُ وَيَخْرُجُ بِهِ عَنْ بَابِهِ، فَإِذَا كَانَتْ الْعِبَادَاتُ تُؤَثِّرُ فِيهِ، وَالْمُبَاحَاتُ لَا تَجُوزُ مَعَهُ فَالشَّهَوَاتُ أَحْرَى أَنْ تُمْنَعَ فِيهِ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]: فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُبَاشَرَةَ فِي الْمَسْجِدِ، وَذَلِكَ يَحْرُمُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ مُلْتَزِمُونَ الِاعْتِكَافَ فِي الْمَسْجِدِ مُعْتَقِدُونَ لَهُ، فَهُوَ إذَا خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ مُلْتَزِمٌ لِلِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ مُعْتَقِدٌ لَهُ رَخَّصَ لَهُ فِي حَاجَةِ الْإِنْسَانِ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ، وَبَقِيَ سَائِرُ أَفْعَالِ الِاعْتِكَافِ كُلِّهَا عَلَى أَصْلِ الْمَنْعِ.

الآية الثامنة والثلاثون قوله تعالى ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل

[الْآيَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ] الْآيَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188] فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ، مِنْ قَوَاعِدِ الْمُعَامَلَاتِ، وَأَسَاسِ الْمُعَاوَضَاتِ يَنْبَنِي عَلَيْهَا، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: هَذِهِ الْآيَةُ، وقَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وَأَحَادِيثُ الْغَرَرِ، وَاعْتِبَارُ الْمَقَاصِدِ وَالْمَصَالِحِ، وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اعْلَمُوا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُتَعَلِّقُ كُلِّ مُؤَالِفٍ وَمُخَالِفٍ فِي كُلِّ حُكْمٍ يَدَّعُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، فَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] فَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ حَتَّى تُبَيِّنَهُ بِالدَّلِيلِ، وَحِينَئِذٍ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْعُمُومُ؛ فَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبَاطِلَ فِي الْمُعَامَلَاتِ لَا يَجُوزُ، وَلَيْسَ فِيهَا تَعْيِينُ الْبَاطِلِ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ} [البقرة: 188]: الْمَعْنَى: لَا يَأْكُلُ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61]: الْمَعْنَى: لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. وَلْيُسَلِّمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَوَجْهُ هَذَا الِامْتِزَاجِ أَنَّ أَخَا الْمُسْلِمِ كَنَفْسِهِ فِي الْحُرْمَةِ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْأَثَرُ وَالنَّظَرُ؛ أَمَّا الْأَثَرُ فَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إذَا اشْتَكَى عُضْوٌ مِنْهُ تَدَاعَى سَائِرُهُ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ».

مسألة قوله تعالى ولا تأكلوا

وَأَمَّا النَّظَرُ فَلِأَنَّ رِقَّةَ الْجِنْسِيَّةَ تَقْتَضِيهِ وَشَفَقَةَ الْآدَمِيَّةِ تَسْتَدْعِيهِ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَلَا تَأْكُلُوا] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا} [البقرة: 188]: مَعْنَاهُ: وَلَا تَأْخُذُوا وَلَا تَتَعَاطَوْا. وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ أَخْذِ الْمَالِ التَّمَتُّعَ بِهِ فِي شَهْوَتَيْ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا} [البقرة: 188] فَخَصَّ شَهْوَةَ الْبَطْنِ؛ لِأَنَّهَا الْأُولَى الْمُثِيرَةُ لِشَهْوَةِ الْفَرْجِ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى بِالْبَاطِلِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]: يَعْنِي: بِمَا لَا يَحِلُّ شَرْعًا وَلَا يُفِيدُ مَقْصُودًا؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ نَهَى عَنْهُ، وَمَنَعَ مِنْهُ، وَحَرَّمَ تَعَاطِيَهُ، كَالرِّبَا وَالْغَرَرِ وَنَحْوِهِمَا، وَالْبَاطِلُ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَفِي الْمَعْقُولِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَعْدُومِ، وَفِي الْمَشْرُوعِ عِبَارَةٌ عَمَّا لَا يُفِيدُ مَقْصُودًا. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَتُدْلُوا بِهَا إلَى الْحُكَّامِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة: 188]: أَيْ: تُورِدُونَ كَلَامَكُمْ فِيهَا: ضَرَبَ لِلْكَلَامِ الْمَوْرُودِ عَلَى السَّامِعِ مَثَلًا بِالدَّلْوِ الْمَوْرُودَةِ عَلَى الْمَاءِ، لِيَأْخُذَ الْمَاءَ وَحَقِيقَةُ اللَّفْظِ: وَتُدْلُوا كَلَامَكُمْ. أَوْ يَكُونُ الْكَلَامِ مُمَثَّلًا بِالْحَبْلِ، وَالْمَالُ الْمَذْكُورُ مُمَثَّلًا بِالدَّلْوِ؛ لِتَقْطَعُوا قِطْعَةً مِنْ أَمْوَالِ غَيْرِكُمْ، وَذَلِكَ الْغَيْرُ هُوَ الْمُخَاصِمُ. {بِالإِثْمِ} [البقرة: 188]: أَيْ مَقْرُونَةً بِالْإِثْمِ {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188]: تَحْرِيمَ ذَلِكَ.

مسألة مدار حكم الحاكم

[مَسْأَلَةٌ مَدَار حُكْمِ الْحَاكِمِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا النَّهْيُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّحْرِيمِ قَطْعًا غَيْرُ جَائِزٍ إجْمَاعًا، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ». الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ مَدَارَ حُكْمِ الْحَاكِمِ [هُوَ فِي الظَّاهِرِ] عَلَى كَلَامِ الْخَصْمَيْنِ لَا حَظَّ لَهُ فِي الْبَاطِنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْلُغُهُ عِلْمُهُ، فَلَا يَنْفُذُ فِيهِ حُكْمُهُ؛ وَإِنَّمَا يَحْكُمُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ الظَّاهِرُ الْبَاطِنُ سُبْحَانَهُ وَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُصْطَفَى لِلِاطِّلَاعِ عَلَى الْغَيْبِ يَتَبَرَّأُ مِنْ الْبَاطِنِ، وَيَتَنَصَّلُ مِنْ تَعَدِّي حُكْمِهِ إلَيْهِ، فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ مِنْ الْخَلْقِ؟. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ مُصِيبٌ فِي حُكْمِهِ فِي الظَّاهِرِ وَإِنْ أَخْطَأَ الصَّوَابَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْبَاطِنِ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا} [البقرة: 188] بِحُكْمِهِمْ {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188] بُطْلَانَ ذَلِكَ، وَالْحَاكِمُ فِي عَفْوِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ، وَالظَّالِمُ فِي سَخَطِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِقَابِهِ. [الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَهِلَّةِ] الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة: 189].

مسألة فائدة تخصيص الحج آخرا مع دخوله في عموم اللفظ الأول في قوله تعالى يسألونك عن الأهلة

فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَاسًا سَأَلُوا عَنْ زِيَادَةِ الْأَهِلَّةِ وَنُقْصَانِهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الثَّانِي: رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَ لِمَ جُعِلَتْ الْأَهِلَّةُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ». وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَيْنِ. وَفِي الْأَثَرِ أَنَّهُ وَكَّلَ بِهِمَا مَلَكَيْنِ؛ وَرَتَّبَ لَهُمَا مَطْلَعَيْنِ، وَصَرَّفَهُمَا بَيْنَهُمَا لِمَصْلَحَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا دُنْيَوِيَّةٌ وَهِيَ مَقْرُونَةٌ بِالشَّمْسِ، وَالْأُخْرَى دِينِيَّةٌ وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْقَمَرِ؛ وَلِهَذِهِ الْحِكْمَةِ جَعَلَ أَهْلُ تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا الشَّمْسَ مَلَكًا أَعْجَمِيًّا وَالْقَمَرَ مَلَكًا عَرَبِيًّا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 189]: يَعْنِي: فِي صَوْمِهِمْ وَإِفْطَارِهِمْ وَآجَالِهِمْ فِي تَصَرُّفَاتِهِمْ وَمَنَافِعَ كَثِيرَةٍ لَهُمْ. [مَسْأَلَة فَائِدَة تَخْصِيص الْحَجّ آخِرًا مَعَ دُخُوله فِي عُمُوم اللَّفْظ الْأَوَّل فِي قَوْله تَعَالَى يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَهِلَّةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]: مَا فَائِدَةُ تَخْصِيصِ الْحَجِّ آخِرًا مَعَ دُخُولِهِ فِي عُمُومِ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ؟ وَهِيَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَحُجُّ بِالْعَدَدِ وَتُبَدِّلُ الشُّهُورَ؛ فَأَبْطَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِعْلَهُمْ وَقَوْلَهُمْ، وَجَعَلَهُ مَقْرُونًا بِالرُّؤْيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِيقَاتٌ فَعَلَيْهِ يُعَوَّلُ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ»، فَإِنْ لَمْ يُرَ فَلْيُرْجَعْ إلَى الْعَدَدِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ، وَإِنْ جُهِلَ أَوَّلُ الشَّهْرِ عُوِّلَ عَلَى عَدَدِ الْهِلَالِ

مسألة إذا رئي الهلال كبيرا

قَبْلَهُ، وَإِنْ عُلِمَ أَوَّلُهُ بِالرُّؤْيَةِ بُنِيَ آخِرُهُ عَلَى الْعَدَدِ الْمُرَتَّبِ عَلَى رُؤْيَتِهِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ». وَرُوِيَ: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ ثُمَّ أَفْطِرُوا». [مَسْأَلَةٌ إذَا رُئِيَ الْهِلَالُ كَبِيرًا] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إذَا رَأَى أَحَدٌ الْهِلَالَ كَبِيرًا: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَا يُعَوَّلُ عَلَى كِبَرِهِ وَلَا عَلَى صِغَرِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ لَيْلَتِهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " إنَّ الْأَهِلَّةَ بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ بَعْدَ مَا تَزُولُ الشَّمْسُ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ ". وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ: أَنَّ هِلَالَ شَوَّالٍ رُئِيَ بِعَشِيٍّ فَلَمْ يُفْطِرْ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَتَّى أَمْسَى. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ قَالَ: قَدِمْنَا حُجَّاجًا حَتَّى إذَا كُنَّا بِالصِّفَاحِ رَأَيْنَا هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ كَأَنَّهُ ابْنُ خَمْسِ لَيَالٍ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ سَأَلْنَاهُ فَقَالَ: جَعَلَ اللَّهُ الْأَهِلَّةَ مَوَاقِيتَ يُصَامُ لِرُؤْيَتِهَا وَيُفْطَرُ لِرُؤْيَتِهَا. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إذَا رُئِيَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ: وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ، وَابْنُ وَهْبٍ، وَغَيْرُهُمَا: هُوَ لِلْمَاضِيَةِ. وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ ضَعِيفٌ عَنْ عُمَرَ، وَالصَّحِيحُ عَنْ عُمَرَ: " أَنَّ الْأَهِلَّةَ بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ، فَصُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ ". [مَسْأَلَةٌ الْمَنَاسِكَ مِنْ صَوْمٍ وَحَجٍّ تَنْبَنِي عَلَى حِسَابِ مَنَازِلِ الْقَمَرِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ قَوْمٌ: إنَّ الْمَنَاسِكَ مِنْ صَوْمٍ وَحَجٍّ تَنْبَنِي عَلَى حِسَابِ مَنَازِلِ الْقَمَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ. [مَسْأَلَةٌ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أشهر الْحَجّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: عِنْدَ عُلَمَائِنَا أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ

مسألة قوله تعالى وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها

وَتَعَلَّقَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] فَجَعَلَ جَمِيعَهَا مِيقَاتًا لِلْحَجِّ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَفَادَتْ بَيَانَ حِكْمَةِ الْأَهِلَّةِ فِي الْجُمْلَةِ، فَأَمَّا تَخْصِيصُ الْفَوَائِدِ بِالْأَهِلَّةِ وَتَعْيِينُهَا فَإِنَّمَا تُؤْخَذُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُصَامُ لِجَمِيعِهَا، فَكَذَلِكَ لَا يُحَجُّ لِجَمِيعِهَا. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي آيَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] فَبَيَّنَ أَنَّ أَهِلَّتَهُ مَعْلُومَةٌ مَخْصُوصَةٌ مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الْأَهِلَّةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة: 189]: كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا فِيمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ: «أَنَّ أُنَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ كَانُوا إذَا أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ شَيْءٌ، فَإِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ بَيْتِهِ فَرَجَعَ لِحَاجَةٍ لَا يَدْخُلُ مِنْ بَابِ الْحُجْرَةِ مِنْ أَجْلِ سَقْفِ الْبَيْتِ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ؛ فَيَقْتَحِمَ الْجِدَارَ مِنْ وَرَائِهِ؛ ثُمَّ يَقُومَ فِي حُجْرَتِهِ فَيَأْمُرَ بِحَاجَتِهِ، فَتَخْرُجَ إلَيْهِ مِنْ بَيْتِهِ، حَتَّى بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فَدَخَلَ حُجْرَتَهُ، فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى أَثَرِهِ كَانَ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنِّي أَحْمَسِيٌّ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكَانَتْ الْحُمْسُ لَا يُبَالُونَ ذَلِكَ قَالَ الْأَنْصَارِيُّ: وَأَنَا أَحْمَسِيٌّ يَعْنِي عَلَى دِينِك فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ». الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: فِي تَأْوِيلِهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا بُيُوتُ الْمَنَازِلِ.

مسألة تعلق النذر

الثَّانِي: أَنَّهَا النِّسَاءُ أَمَرَنَا بِإِتْيَانِهِنَّ مِنْ الْقُبُلِ لَا مِنْ الدُّبُرِ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا مَثَلٌ؛ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَأْتُوا الْأُمُورَ مِنْ وُجُوهِهَا. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: فِي تَحْقِيقِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ: أَمَّا الْقَوْلُ إنَّ الْمُرَادَ بِهَا النِّسَاءُ: فَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ، فَلَمْ يُوجَدْ وَلَا دَعَتْ إلَيْهِ حَاجَةٌ. وَأَمَّا كَوْنُهُ مَثَلًا فِي إتْيَانِ الْأُمُورِ مِنْ وُجُوهِهَا: فَذَلِكَ جَائِزٌ فِي كُلِّ آيَةٍ؛ فَإِنَّ لِكُلِّ حَقِيقَةٍ مَثَلًا مِنْهَا مَا يَقْرَبُ وَمِنْهَا مَا يَبْعُدُ. وَحَقِيقَةُ هَذِهِ الْآيَةِ الْبُيُوتُ الْمَعْرُوفَةُ، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ ذَكَرْنَا أَوْعَبَهَا عَنْ الزُّهْرِيِّ، فَحَقَّقَ أَنَّهَا الْمُرَادُ بِالْآيَةِ، ثُمَّ رَكَّبَ مِنْ الْأَمْثَالِ مَا يَحْمِلُهُ اللَّفْظُ وَيَقْرَبُ، وَلَا يُعَارِضُهُ شَيْءٌ. [مَسْأَلَةٌ تَعَلُّقُ النَّذْرِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَسْأَلَةٍ مِنْ الْفِقْهِ، وَهِيَ أَنَّ الْفِعْلَ بِنِيَّةِ الْعِبَادَةِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْمَنْدُوبَاتِ خَاصَّةً دُونَ الْمُبَاحِ وَدُونَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَاقْتِحَامُ الْبُيُوتِ مِنْ ظُهُورِهَا عِنْدَ التَّلَبُّسِ بِالْعُمْرَةِ لَمْ يَكُنْ نَدْبًا فَيُقْصَدُ بِهِ وَجْهُ الْقُرْبَةِ؛ وَلِذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ النَّذْرُ بِمُبَاحٍ وَلَا مَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ مَنْدُوبٍ؛ وَهَذَا أَصْلٌ حَسَنٌ. [الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ أَرْبَعِينَ قَوْله تَعَالَى وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ] الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ أَرْبَعِينَ قَوْله تَعَالَى {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي مُقَدَّمَةٍ لَهَا: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْبَيَانِ وَالْحُجَّةِ، وَأَوْعَزَ إلَى عِبَادِهِ عَلَى لِسَانِهِ بِالْمُعْجِزَةِ وَالتَّذْكِرَةِ، وَفَسَّحَ لَهُمْ فِي الْمَهْلِ، وَأَرْخَى لَهُمْ فِي الطِّيَلِ مَا شَاءَ مِنْ الْمُدَّةِ بِمَا

مسألة سبب نزول آية وقاتلوا في سبيل الله

اقْتَضَتْهُ الْمَقَادِيرُ الَّتِي أَنْفَذهَا، وَاسْتَمَرَّتْ بِهِ الْحِكْمَةُ، وَالْكُفَّارُ يُقَابِلُونَهُ بِالْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ، وَيَتَعَمَّدُونَهُ وَأَصْحَابَهُ بِالْعَدَاوَةِ وَالْإِذَايَةِ، وَالْبَارِئُ سُبْحَانَهُ يَأْمُرُ نَبِيَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَصْحَابَهُ بِاحْتِمَالِ الْأَذَى وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالْإِعْرَاضِ تَارَةً وَبِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ أُخْرَى، حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، إلَى أَنْ أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ فِي الْقِتَالِ. فَقِيلَ: إنَّهُ أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39] وَهِيَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ قَاتَلَ، وَلَكِنْ مَعْنَاهُ أُذِنَ لِلَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَعْتَقِدُونَ قِتَالَهُمْ وَقَتْلَهُمْ بِأَنْ يُقَاتِلُوهُمْ عَلَى اخْتِلَافِ الْقِرَاءَتَيْنِ، ثُمَّ صَارَ بَعْدَ ذَلِكَ فَرْضًا، فَقَالَ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190]. ثُمَّ أَمَرَ بِقِتَالِ الْكُلِّ، فَقَالَ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] الْآيَةَ، وَقِيلَ: إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ. وَالصَّحِيحُ مَا رَتَّبْنَاهُ؛ لِأَنَّ آيَةَ الْإِذْنِ فِي الْقِتَالِ مَكِّيَّةٌ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ مُتَأَخِّرَةٌ. [مَسْأَلَةٌ سَبَب نُزُولِ آيَة وَقَاتَلُوا فِي سَبِيل اللَّه] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سَارَ إلَى الْعُمْرَةِ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنْهَا، فَأَمَرَ بِقِتَالِهِمْ، فَبَايَعَ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ أُذِنَ لَهُ فِي الصُّلْحِ إلَى أَمْرٍ رَبُّك أَعْلَمُ بِهِ». [مَسْأَلَةٌ الْجِهَاد بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ جَمَاعَةٌ: إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ بَرَاءَةَ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ هَاهُنَا بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَ، وَكَذَلِكَ أَمَرَ بِذَا بَعْدَهُ، فَقَالَ تَعَالَى {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36] بَيْدَ أَنَّ أَشْهَبَ رَوَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْمُرَادَ هَاهُنَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ، أُمِرُوا بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَهُمْ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ خِطَابٌ لِلْجَمِيعِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ أَمَرَ كُلَّ أَحَدٍ أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ قَاتَلَهُ، إذْ لَا يُمْكِنُ سِوَاهُ؛ أَلَا تَرَاهُ كَيْفَ بَيَّنَهَا تَعَالَى فِي سُورَةِ بَرَاءَةِ بِقَوْلِهِ

{قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123]؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَوَّلًا كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ فَتَعَيَّنَتْ الْبِدَايَةُ بِهِمْ، وَبِكُلِّ مَنْ دُونَهُمْ أَوْ عَاوَنَهُمْ؛ فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ تَعَالَى مَكَّةَ كَانَ الْقِتَالُ لِمَنْ يَلِي مِمَّنْ كَانَ يُؤْذِي، حَتَّى تَعُمَّ الدَّعْوَةُ وَتَبْلُغَ الْكَلِمَةُ جَمِيعَ الْآفَاقِ، وَلَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ الْكَفَرَةِ، وَذَلِكَ مُتَمَادٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، مُمْتَدٌّ إلَى غَايَةٍ هِيَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: الْأَجْرُ وَالْغَنِيمَةُ». وَذَلِكَ لِبَقَاءِ الْقِتَالِ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193] وَقِيلَ غَايَتُهُ نُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَنْزِلُ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ

حَكَمًا مُقْسِطًا يَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ». وَذَلِكَ مُوَافِقٌ لِلْحَدِيثِ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ نُزُولَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَسَيُقَاتِلُ الدَّجَّالَ، وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَهُوَ آخِرُ الْأَمْرِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ: إنَّ الْجِهَادَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ لَيْسَ بِفَرْضٍ إلَّا أَنْ يَسْتَنْفِرَ الْإِمَامُ أَحَدًا مِنْهُمْ قَالَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: وَمَالَ إلَيْهِ سَحْنُونٌ، وَظَنَّهُ قَوْمٌ بِابْنِ عُمَرَ حِينَ رَأَوْهُ مُوَاظِبًا عَلَى الْحَجِّ تَارِكًا لِلْجِهَادِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا». ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُ. وَهَذَا هُوَ دَلِيلُنَا؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ الْجِهَادَ بَاقٍ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَإِنَّمَا رَفَعَ الْفَتْحُ الْهِجْرَةَ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193]؛ يَعْنِي كُفْرًا {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193]. وَمُوَاظَبَةُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ اعْتَقَدَ الْحَقَّ، وَهُوَ أَنَّ الْجِهَادَ فَرْضٌ

مسألة سقوط فرض الدعوة

عَلَى الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَأَى أَنَّهُ لَا يُجَاهِدُ مَعَ وُلَاةِ الْجَوْرِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي زَمَانِهِ عُدُولٌ وَجَائِرُونَ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مُؤْثِرٌ لِلْحَجِّ مُوَاظِبٌ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَةٌ سُقُوط فَرْضُ الدَّعْوَةِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَمَّا أَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو عَشَرَةَ أَعْوَامٍ أَوْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ عَامًا أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي مُدَّةِ مُقَامِهِ بِمَكَّةَ، ثُمَّ تَعَيَّنَ الْقِتَالُ بَعْدَ ذَلِكَ، سَقَطَ فَرْضُ الدَّعْوَةِ إلَّا عَلَى الَّذِينَ لَمْ تَبْلُغْهُمْ، وَبَقِيَتْ مُسْتَحَبَّةً. فَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ بَلَغَتْ الدَّعْوَةُ وَعَمَّتْ، وَظَهَرَ الْعِنَادُ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْبَابَ لَا يَنْقَطِعُ. رَوَى مُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اُدْعُهُمْ إلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ، فَإِنْ أَجَابُوك إلَيْهَا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ»، فَذَكَرَ الدُّعَاءَ إلَى الشَّهَادَةِ، ثُمَّ إلَى الْهِجْرَةِ أَوْ إلَى الْجِزْيَةِ، وَهَذَا إنَّمَا كَانَ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ الْجِزْيَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْفَتْحِ. وَصَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ وَهُمْ غَارُّونَ فَقَتَلَ وَسَبَى، فَعَلَّمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجَائِزَ وَالْمُسْتَحَبَّ. [مَسْأَلَةٌ مفاد قَوْله تَعَالَى وَلَا تَعْتَدُوا] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة: 190]: فِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَا تَقْتُلُوا مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] وَ {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]. الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة: 190] أَيْ لَا تُقَاتِلُوا عَلَى غَيْرِ الدِّينِ، كَمَا

قَالَ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] يَعْنِي دِينًا. الثَّالِثُ: أَلَّا يُقَاتَلَ إلَّا مَنْ قَاتَلَ، وَهُمْ الرِّجَالُ الْبَالِغُونَ؛ فَأَمَّا النِّسَاءُ وَالْوِلْدَانُ وَالرُّهْبَانُ فَلَا يُقْتَلُونَ؛ وَبِذَلِكَ أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ حِينَ أَرْسَلَهُ إلَى الشَّامِ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِهَؤُلَاءِ إذَايَةٌ. وَفِيهِ سِتُّ صُوَرٍ: الْأُولَى: النِّسَاءُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَا تَقْتُلُوا النِّسَاءَ إلَّا أَنْ يُقَاتِلْنَ؛ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِهِنَّ؛ خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالْأَئِمَّةُ، وَهَذَا مَا لَمْ يُقَاتِلْنَ، فَإِنْ قَاتَلْنَ قُتِلْنَ. قَالَ سَحْنُونٌ: فِي حَالَةِ الْمُقَاتَلَةِ. وَالصَّحِيحُ جَوَازُ قَتْلُهُنَّ، إذَا قَاتَلْنَ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي حَالَةِ الْمُقَاتَلَةِ وَبَعْدَهَا لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] وقَوْله تَعَالَى {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 191] وَلِلْمَرْأَةِ آثَارٌ عَظِيمَةٌ فِي الْقِتَالِ؛ مِنْهَا الْإِمْدَادُ بِالْأَمْوَالِ، وَمِنْهَا التَّحْرِيضُ عَلَى الْقِتَالِ، فَقَدْ كُنَّ يَخْرُجْنَ نَاشِرَاتٍ شُعُورَهُنَّ، نَادِبَاتٍ، مُثِيرَاتٍ لِلثَّأْرِ، مُعَيِّرَاتٍ بِالْفِرَارِ، وَذَلِكَ يُبِيحُ قَتْلَهُنَّ.

الثَّانِيَةُ: الصِّبْيَانُ؛ فَلَا يُقْتَلُ الصَّبِيُّ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِ الذُّرِّيَّةِ، خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ، فَإِنْ قَاتَلَ قُتِلَ حَالَةَ الْقِتَالِ، فَإِذَا زَالَ الْقِتَالُ فَفِي سَمَاعِ يَحْيَى فِي الْعُتْبِيَّةِ يُقْتَلُ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ، فَإِنَّهُ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِ، وَفِي ثَمَانِيَةِ أَبِي زَيْدٍ: لَا تُقْتَلُ الْمَرْأَةُ وَلَا الصَّبِيُّ إذَا قَاتَلَا، وَأُخِذَا بَعْدَ ذَلِكَ أَسِيرَيْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَا قَتَلَا، وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ هَاهُنَا لَيْسَ قِصَاصًا، وَإِنَّمَا هُوَ ابْتِدَاءٌ وَحَدٌّ، وَاَلَّذِي يُقَوِّي عِنْدِي قَتْلَ الْمَرْأَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمِنَّةِ، وَالْعَفْوِ عَنْ الصَّبِيِّ لِعَفْوِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَنْهُ فِي مَسَائِلِ الذُّنُوبِ. الثَّالِثَةُ: الرُّهْبَانُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَا يُقْتَلُونَ وَلَا يُسْتَرَقُّونَ؛ بَلْ يُتْرَكُ لَهُمْ مَا يَعِيشُونَ بِهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَهَذَا إذَا انْفَرَدُوا عَنْ أَهْلِ الْكُفْرِ، لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ: " وَسَتَجِدُ أَقْوَامًا حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ فَذَرْهُمْ وَمَا حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ، فَإِنْ كَانُوا مَعَ الْكُفَّارِ فِي الْكَنَائِسِ قُتِلُوا ". وَلَوْ تَرَهَّبَتْ الْمَرْأَةُ رَوَى أَشْهَبُ عَنْهُ أَنَّهَا لَا تُهَاجُ، وَقَالَ سَحْنُونٌ: لَا يُغَيِّرُ التَّرَهُّبُ حُكْمَهَا. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي رِوَايَةُ أَشْهَبَ؛ لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: فَذَرْهُمْ وَمَا حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ. الرَّابِعَةُ: الزَّمْنَى: قَالَ سَحْنُونٌ: يُقْتَلُونَ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: لَا يُقْتَلُونَ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنْ تُعْتَبَرَ أَحْوَالُهُمْ؛ فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ إذَايَةٌ قُتِلُوا، وَإِلَّا تُرِكُوا وَمَا هُمْ بِسَبِيلِهِ مِنْ الزَّمَانَةِ، وَصَارُوا مَالًا عَلَى حَالِهِمْ.

الْخَامِسَةُ: الشُّيُوخُ: قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: لَا يُقْتَلُونَ، وَرَأْيِي قَتْلُهُمْ؛ لِمَا رَوَى النَّسَائِيّ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اُقْتُلُوا الشُّيُوخَ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتَحْيُوا شَرْخَهُمْ». وَهَذَا نَصٌّ، وَيَعْضُدُهُ عُمُومُ الْقُرْآنِ وَوُجُودُ الْمَعْنَى فِيهِمْ مِنْ الْمُحَارَبَةِ وَالْقِتَالِ، إلَّا أَنْ يُدْخِلَهُمْ التَّشَيُّخُ وَالْكِبَرُ فِي حَدِّ الْهَرَمِ وَالْفَنَدِ، فَتَعُودُ زَمَانَةً، وَيَلْحَقُونَ بِالصُّورَةِ الرَّابِعَةِ وَهِيَ الزَّمْنَى، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْكُلِّ إذَايَةٌ بِالرَّأْيِ، وَنِكَايَةٌ بِالتَّدْبِيرِ فَيُقْتَلُونَ أَجْمَعُونَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسَةُ: الْعُسَفَاءُ: وَهُمْ الْأُجَرَاءُ وَالْفَلَّاحُونَ، وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ حَشْوَةٌ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِمْ؛ فَقَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: لَا يُقْتَلُونَ، وَفِي وَصِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ: " لَا تَقْتُلَنَّ عَسِيفًا ". وَالصَّحِيحُ عِنْدِي قَتْلُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ إنْ لَمْ يُقَاتِلُوا فَهُمْ رِدْءٌ لِلْمُقَاتِلِينَ، وَقَدْ اتَّفَقَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الرِّدْءَ يُحْكَمُ فِيهِ بِحُكْمِ الْمُقَاتِلِ، وَخَالَفَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ؛ وَقَدْ مَهَّدْنَا الدَّلِيلَ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَأَوْضَحْنَا وُجُوبَ قَتْلِهِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ بِمَا فِيهِ غُنْيَةً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

الآية الحادية والأربعون قوله تعالى واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم

[الْآيَة الْحَادِيَة وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخَرَجُوكُمْ] ْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 191] {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 192]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَعْنَى حَيْثُ أَخَذْتُمُوهُمْ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى قَتْلِ الْأَسِيرِ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَبَطَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ: خَيِّرْهُمْ يَعْنِي أَصْحَابَك فِي أَسْرَى بَدْرٍ: الْقَتْلَ أَوْ الْفِدَاءَ عَلَى أَنْ تَقْتُلَ مِنْهُمْ قَاتِلًا مِثْلَهُمْ. قَالُوا: الْفِدَاءَ، وَيُقْتَلُ مِنَّا». وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ؛ فَقِيلَ لَهُ: إنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: اُقْتُلُوهُ». [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: 191]: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُحْكَمٌ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ. الثَّانِي: أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193].

قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: وَقَدْ حَضَرْت فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ طَهَّرَهُ اللَّهُ بِمَدْرَسَةِ أَبِي عُتْبَةَ الْحَنَفِيِّ وَالْقَاضِي الرَّيْحَانِيِّ يُلْقِي عَلَيْنَا الدَّرْسَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ إذْ دَخَلَ عَلَيْنَا رَجُلٌ بَهِيُّ الْمَنْظَرِ عَلَى ظَهْرِهِ أَطْمَارٌ، فَسَلَّمَ سَلَامَ الْعُلَمَاءِ، وَتَصَدَّرَ فِي صَدْرِ الْمَجْلِسِ بِمَدَارِعِ الرِّعَاءِ، فَقَالَ لَهُ الرَّيْحَانِيُّ: مَنْ السَّيِّدُ؟ فَقَالَ لَهُ: رَجُلٌ سَلَبَهُ الشُّطَّارُ أَمْسِ، وَكَانَ مَقْصِدِي هَذَا الْحَرَمَ الْمُقَدَّسَ، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ صَاغَانَ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ فَقَالَ الْقَاضِي مُبَادِرًا: سَلُوهُ، عَلَى الْعَادَةِ فِي إكْرَامِ الْعُلَمَاءِ بِمُبَادَرَةِ سُؤَالِهِمْ. وَوَقَعَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْكَافِرِ إذَا الْتَجَأَ إلَى الْحَرَمِ، هَلْ يُقْتَلُ فِيهِ أَمْ لَا؟ فَأَفْتَى بِأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ، فَسُئِلَ عَنْ الدَّلِيلِ، فَقَالَ: قَوْله تَعَالَى {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: 191]. قُرِئَ: وَلَا تَقْتُلُوهُمْ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ، فَإِنْ قُرِئَ وَلَا تَقْتُلُوهُمْ فَالْمَسْأَلَةُ نَصٌّ، وَإِنْ قُرِئَ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ فَهُوَ تَنْبِيهٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا نَهَى عَنْ الْقِتَالِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْقَتْلِ كَانَ دَلِيلًا بَيِّنًا ظَاهِرًا عَلَى النَّهْيِ عَنْ الْقَتْلِ. فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْقَاضِي الرَّيْحَانِيُّ مُنْتَصِرًا لِلشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَإِنْ لَمْ يَرَ مَذْهَبَهُمَا عَلَى الْعَادَةِ، فَقَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]. فَقَالَ لَهُ الصَّاغَانِيُّ: هَذَا لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِ الْقَاضِي وَعِلْمِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي اعْتَرَضْت بِهَا عَلَيَّ عَامَّةٌ فِي الْأَمَاكِنِ، وَالْآيَةَ الَّتِي احْتَجَجْت بِهَا خَاصَّةٌ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ الْعَامَّ يَنْسَخُ الْخَاصَّ، فَأَبَهَتْ الْقَاضِي الرَّيْحَانِيُّ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الْكَلَامِ. وَقَدْ سَأَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَهْلَ بِلَادِنَا، فَقَالَ لَهُمْ: إنَّ الْعَامَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ

مسألة قوله تعالى فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين

يَنْسَخُ الْخَاصَّ، وَهَذَا الْبَائِسُ لَيْتَهُ سَكَتَ عَمَّا لَا يَعْلَمُ، وَأَمْسَكَ عَمَّا لَا يَفْهَمُ، وَأَقْبَلَ عَلَى مَسَائِلَ مُجَرَّدَةٍ. وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ». فَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ الْقِتَالِ فِيهَا قُرْآنًا وَسُنَّةً؛ فَإِنْ لَجَأَ إلَيْهَا كَافِرٌ فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ، وَأَمَّا الزَّانِي وَالْقَاتِلُ فَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ؛ إلَّا أَنْ يَبْتَدِئَ الْكَافِرُ بِالْقِتَالِ فِيهَا فَيُقْتَلُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 191]: هَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْكَافِرَ إذَا قَاتَلَ قُتِلَ بِكُلِّ حَالٍ، بِخِلَافِ الْبَاغِي الْمُسْلِمِ فَإِنَّهُ إذَا قَاتَلَ يُقَاتَلُ بِنِيَّةِ الدَّفْعِ، وَلَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ، وَلَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحٍ؛ وَهَذَا بَيِّنٌ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى فَإِنْ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 192]: يَعْنِي انْتَهَوْا بِالْإِيمَانِ فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُمْ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ، وَيَرْحَمُ كُلًّا مِنْهُمْ بِالْعَفْوِ عَمَّا اجْتَرَمَ. وَهَذَا مَا لَمْ يُؤْسَرْ، فَإِنْ أُسِرَ مَنَعَهُ الْإِسْلَامُ عَنْ الْقَتْلِ وَبَقِيَ عَلَيْهِ الرِّقُّ، لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، «أَنَّ ثَقِيفًا كَانَتْ حُلَفَاءَ لِبَنِي عَقِيلٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَقِيلٍ وَمَعَهُ نَاقَةٌ لَهُ، فَأَتَوْا بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ؛ بِمَ أَخَذْتَنِي وَأَخَذْت سَابِقَةَ الْحَاجِّ؟ قَالَ: أَخَذْتُك بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِك ثَقِيفٍ وَقَدْ كَانُوا أَسَرُوا رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمُرُّ بِهِ وَهُوَ مَحْبُوسٌ، فَيَقُولُ:

الآية الثانية والأربعون قوله تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله

يَا مُحَمَّدُ، إنِّي مُسْلِمٌ. قَالَ: لَوْ كُنْت قُلْت ذَلِكَ وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَك أَفْلَحْت كُلَّ الْفَلَاحِ فَفَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمْسَكَ النَّاقَةَ لِنَفْسِهِ». [الْآيَة الثَّانِيَة وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ] ِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193]: يَعْنِي كُفْرٌ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191] يَعْنِي الْكُفْرَ، فَإِذَا كَفَرُوا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَعَبَدُوا فِيهِ الْأَصْنَامَ، وَعَذَّبُوا فِيهِ أَهْلَ الْإِسْلَامِ لِيَرُدُّوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، فَكُلُّ ذَلِكَ فِتْنَةٌ؛ فَإِنَّ الْفِتْنَةَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْكُفْرُ فِتْنَةً؛ لِأَنَّ مَآلَ الِابْتِلَاءِ كَانَ إلَيْهِ، فَلَا تُنْكِرُوا قَتْلَهُمْ وَقِتَالَهُمْ؛ فَمَا فَعَلُوا مِنْ الْكُفْرِ أَشَدُّ مِمَّا عَابُوهُ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193]: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا قُوتِلُوا وَهُمْ الظَّالِمُونَ لَا عُدْوَانَ إلَّا عَلَيْهِمْ».

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ سَبَبَ الْقَتْلِ هُوَ الْكُفْرِ بِهَذِهِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193]؛ فَجَعَلَ الْغَايَةَ عَدَمَ الْكُفْرِ نَصًّا، وَأَبَانَ فِيهَا أَنَّ سَبَبَ الْقَتْلِ الْمُبِيحَ لِلْقِتَالِ الْكُفْرُ. وَقَدْ ضَلَّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ هَذَا، وَزَعَمُوا أَنَّ سَبَبَ الْقَتْلِ الْمُبِيحَ لِلْقِتَالِ هِيَ الْخَرْبَةُ، وَتَعَلَّقُوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْضِي عَلَيْهَا الَّتِي بَعْدَهَا؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ أَوَّلًا بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ سَبَبَ قِتَالِهِ وَقَتْلِهِ كُفْرُهُ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى الْقِتَالِ، وَأَمَرَ بِقِتَالِهِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِابْتِدَاءِ قِتَالٍ مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْمُبِيحُ لِلْقَتْلِ هُوَ الْكُفْرُ لَقُتِلَ كُلُّ كَافِرٍ وَأَنْتَ تَتْرُكُ مِنْهُمْ النِّسَاءَ وَالرُّهْبَانَ وَمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَعَهُمْ. فَالْجَوَابُ: أَنَّا إنَّمَا تَرَكْنَاهُمْ مَعَ قِيَامِ الْمُبِيحِ بِهِمْ لِأَجْلِ مَا عَارَضَ الْأَمْرَ مِنْ مَنْفَعَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ: أَمَّا الْمَنْفَعَةُ فَالِاسْتِرْقَاقُ فِيمَنْ يُسْتَرَقُّ؛ فَيَكُونُ مَالًا وَخَدَمًا، وَهِيَ الْغَنِيمَةُ الَّتِي أَحَلَّهَا اللَّهُ تَعَالَى لَنَا مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ. وَأَمَّا الْمَصْلَحَةُ فَإِنَّ فِي اسْتِبْقَاءِ الرُّهْبَانِ بَاعِثًا عَلَى تَخَلِّي رِجَالِهِمْ عَنْ الْقِتَالِ فَيُضْعِفُ حَرْبَهُمْ وَيُقِلُّ حِزْبَهُمْ فَيَنْتَشِرُ الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهِمْ.

مسألة قوله تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة

[مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193]: إبَاحَةٌ لِقِتَالِهِمْ وَقَتْلِهِمْ إلَى غَايَةٍ هِيَ الْإِيمَانُ؛ فَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَابْنُ وَهْبٍ: لَا تُقْبَلُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ جِزْيَةٌ. وَقَالَ سَائِرُ عُلَمَائِنَا: تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ كُلِّ كَافِرٍ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَسَمِعْت الشَّيْخَ الْإِمَامَ أَبَا عَلِيٍّ الْوَفَاءَ بْنَ عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيَّ إمَامَهُمْ بِبَغْدَادَ يَقُولُ فِي قَوْله تَعَالَى {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. إنَّ قَوْله تَعَالَى {قَاتِلُوا} [التوبة: 29] أَمْرٌ بِالْقَتْلِ. وقَوْله تَعَالَى {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29] سَبَبٌ لِلْقِتَالِ وقَوْله تَعَالَى {وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] إلْزَامٌ لِلْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ الثَّابِتِ بِالدَّلِيلِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 29] بَيَانُ أَنَّ فُرُوعَ الشَّرِيعَةِ كَأُصُولِهَا وَأَحْكَامَهَا كَعَقَائِدِهَا. وقَوْله تَعَالَى {وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} [التوبة: 29] أَمْرٌ بِخَلْعِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا إلَّا دَيْنَ الْإِسْلَامِ. وقَوْله تَعَالَى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة: 29] تَأْكِيدٌ لِلْحُجَّةِ، ثُمَّ بَيَّنَ الْغَايَةَ وَبَيَّنَ إعْطَاءَ الْجِزْيَةِ، وَثَبَتَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ». خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. «وَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فِي قِتَالِهِ لِفَارِسَ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَنَا أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى

الآية الثالثة والأربعون قوله تعالى الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص

تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ». «وَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِبُرَيْدَةَ: اُدْعُهُمْ إلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ، وَذَكَرَ الْجِزْيَةَ»، وَذَلِكَ كُلُّهُ صَحِيحٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يَكُونُ هَذَا نَسْخًا أَوْ تَخْصِيصًا؟ فَلَنَا: هُوَ تَخْصِيصٌ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَبَاحَ قِتَالَهُمْ وَأَمَرَ بِهِ حَتَّى لَا يَكُونَ كُفْرٌ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: [{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29]]؛ فَخَصَّصَ مِنْ الْحَالَةِ الْعَامَّةِ حَالَةً أُخْرَى خَاصَّةً، وَزَادَ إلَى الْغَايَةِ الْأُولَى غَايَةً أُخْرَى، وَهَذَا كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ». وَقَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ». ثُمَّ ذَكَرَ فِي حَدِيثِ آخَرَ الصَّوْمَ وَالْحَجَّ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَسْخًا، وَإِنَّمَا كَانَ بَيَانًا وَكَمَالًا. وَكَذَلِكَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٌ بَعْدَ إيمَانٍ، أَوْ زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ، أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ»، ثُمَّ بَيَّنَ الْقَتْلَ فِي مَوَاضِعَ لِعَشَرَةِ أَسْبَابٍ سَنُبَيِّنُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [الْآيَة الثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى الشَّهْر الحرام بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاص] ٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194].

فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: قِيلَ: إنَّهَا نَزَلَتْ سَنَةَ سَبْعٍ حِينَ قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمْرَتَهُ فِي ذِي الْقِعْدَةِ عَنْ الَّتِي صَدَّهُ عَنْهَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ سَنَةَ سِتٍّ فِي الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ، وَقَدْ أَخْلَتْهَا قُرَيْشٌ، وَقَضَى نُسُكَهُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الْمَعْنَى: شَهْرٌ بِشَهْرٍ وَحُرْمَةٌ بِحُرْمَةٍ، وَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي كُلِّ مُكَلَّفٍ قَطَعَ بِهِ عُذْرٌ أَوْ عَدُوٌّ عَنْ عِبَادَةٍ ثُمَّ قَضَاهَا أَنَّ الْحُرْمَةَ وَاحِدَةٌ وَالْمَثُوبَةَ سَوَاءٌ. وَقِيلَ: إنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: أَنُهِيتَ يَا مُحَمَّدُ عَنْ الْقِتَالِ فِي شَهْرِ الْحَرَامِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَرَادُوا قِتَالَهُ فِيهِ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ. الْمَعْنَى إنْ اسْتَحَلُّوا ذَلِكَ فِيهِ فَقَاتِلْهُمْ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْحُرْمَةَ بِالْحُرْمَةِ قِصَاصٌ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَك أَنْ تُبِيحَ دَمَ مَنْ أَبَاحَ دَمَك، وَتَحِلَّ مَالُ مَنْ اسْتَحَلَّ مَالَك، وَمَنْ أَخَذَ عِرْضَك فَخُذْ عِرْضَهُ بِمِقْدَارِ مَا قَالَ فِيك، وَلِذَلِكَ كُلِّهِ تَفْصِيلٌ: أَمَّا مَنْ أَبَاحَ دَمَك فَمُبَاحٌ دَمُهُ لَك، لَكِنْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ لَا بِاسْتِطَالَتِك وَأَخْذٍ لِثَأْرِك بِيَدِك، وَلَا خِلَافَ فِيهِ. وَأَمَّا مَنْ أَخَذَ مَالَك فَخُذْ مَالَهُ إذَا تَمَكَّنْت مِنْهُ، إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ مَالِك: طَعَامًا بِطَعَامٍ، وَذَهَبًا بِذَهَبٍ، وَقَدْ أَمِنْت مِنْ أَنْ تُعَدَّ سَارِقًا. وَأَمَّا إنْ تَمَكَّنْت مِنْ مَالِهِ بِمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَالِك فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ:

لَا يُؤْخَذُ إلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَتَحَرَّى قِيمَتَهُ وَيَأْخُذُ مِقْدَارَ ذَلِكَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي. وَأَمَّا إنْ أَخَذَ عِرْضَك فَخُذْ عِرْضَهُ لَا تَتَعَدَّاهُ إلَى أَبَوَيْهِ وَلَا إلَى ابْنِهِ أَوْ قَرِيبِهِ. لَكِنْ لَيْسَ لَك أَنْ تَكْذِبَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَذَبَ عَلَيْك، فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تُقَابَلُ بِالْمَعْصِيَةِ؛ فَلَوْ قَالَ لَك مَثَلًا: يَا كَافِرُ، جَازَ لَك أَنْ تَقُولَ لَهُ: أَنْتَ الْكَافِرُ؛ وَإِنْ قَالَ لَك: يَا زَانٍ، فَقِصَاصُك أَنْ تَقُولَ: يَا كَذَّابُ، يَا شَاهِدَ زُورٍ. وَلَوْ قُلْت لَهُ: يَا زَانٍ، كُنْت كَاذِبًا فَأَثِمْت فِي الْكَذِبِ، وَأَخَذْت فِيمَا نُسِبَ إلَيْك مِنْ ذَلِكَ، فَلَمْ تَرْبَحْ شَيْئًا، وَرُبَّمَا خَسِرْت. وَإِنْ مَطَلَك وَهُوَ غَنِيٌّ دُونَ عُذْرٍ قُلْ: يَا ظَالِمُ، يَا آكِلَ أَمْوَالِ النَّاسِ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحِ: «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ». أَمَّا عِرْضُهُ فَبِمَا فَسَّرْنَاهُ، وَأَمَّا عُقُوبَتُهُ فَبِالسَّجْنِ حَتَّى يُؤَدِّيَ. وَعِنْدِي أَنَّ الْعُقُوبَةَ هِيَ أَخْذُ الْمَالِ كَمَا أَخَذَ مَالَهُ، وَأَمَّا إنْ جَحَدَك وَدِيعَةً وَقَدْ اسْتَوْدَعَك أُخْرَى فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: اصْبِرْ عَلَى ظُلْمِهِ، وَأَدِّ إلَيْهِ أَمَانَتَهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك».

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: اجْحَدْهُ، كَمَا جَحَدَك؛ لَكِنْ هَذَا لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهُ، وَلَوْ صَحَّ فَلَهُ مَعْنًى صَحِيحٌ، وَهُوَ إذَا أَوْدَعَك مِائَةً وَأَوْدَعْته خَمْسِينَ فَجَحَدَ الْخَمْسِينَ فَاجْحَدْهُ خَمْسِينَ مِثْلَهَا، فَإِنْ جَحَدْت الْمِائَةَ كُنْت قَدْ خُنْت مَنْ خَانَك فِيمَا لَمْ يَخُنْك فِيهِ، وَهُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَبِهَذَا الْأَخِيرِ أَقُولُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]: هَذِهِ الْآيَةُ عُمُومٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَعُمْدَةٌ فِيمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَفِيمَا جَانَسَهُ.

مسألة قوله تعالى فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم

[مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]: هَذِهِ مَسْأَلَةٌ بِكْرٌ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: إنَّمَا سُمِّيَ الْفِعْلُ الثَّانِي اعْتِدَاءً، وَهُوَ مَفْعُولٌ بِحَقٍّ، حَمْلًا لِلثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ. قَالُوا: وَعَلَى هَذَا جَاءَ قَوْله تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]. وَاَلَّذِي أَقُولُ فِيهِ: إنَّ الثَّانِيَ كَالْأَوَّلِ فِي الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الِاعْتِدَاءِ فِي اللُّغَةِ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مَوْجُودٌ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي؛ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْمُتَعَلِّقُ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ؛ فَالْأَوَّلُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَالثَّانِي مَأْمُورٌ بِهِ، وَتَعَلُّقُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا يُغَيِّرُ الْحَقَائِقَ وَلَا يَقْلِبُ الْمَعَانِيَ؛ بَلْ إنَّهُ يُكْسِبُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْأَمْرُ وَصْفَ الطَّاعَةِ وَالْحُسْنِ، وَيُكْسِبُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ النَّهْيُ وَصْفَ الْمَعْصِيَةِ وَالْقُبْحِ؛ وَكِلَا الْفِعْلَيْنِ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَكِلَا الْفِعْلَيْنِ يَسُوءُ الْوَاقِعُ بِهِ: وَأَحَدُهُمَا حَقٌّ وَالْآخَرُ بَاطِلٌ. [مَسْأَلَةٌ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقِصَاصِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: تَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ؛ وَهِيَ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقِصَاصِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ صَحِيحٌ وَعُمُومٌ صَرِيحٌ؛ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا قَوَدَ إلَّا بِحَدِيدَةٍ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ، وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا قَوَدَ إلَّا بِحَدِيدَةٍ وَلَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ». الثَّانِي: أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ بِكُلِّ مَا قَتَلَ، إلَّا الْخَمْرَ وَآلَةَ اللِّوَاطِ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ. الثَّالِثُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يُقْتَلُ بِكُلِّ مَا قَتَلَ إلَّا فِي وَجْهَيْنِ وَصِفَتَيْنِ: أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَالْمَعْصِيَةُ كَالْخَمْرِ وَاللِّوَاطُ.

وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فَالسُّمُّ وَالنَّارُ لَا يُقْتَلُ بِهِمَا. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لِأَنَّهُ مِنْ الْمِثْلِ؛ وَلَسْت أَقُولُهُ؛ وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ الْعَذَابِ. وَقَدْ بَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ أَنَّ عَلِيًّا حَرَقَ نَاسًا ارْتَدُّوا عَنْ الْإِسْلَامِ؛ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ أَكُنْ لِأُحَرِّقَهُمْ بِالنَّارِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ»، وَلَقَتَلْتهمْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَالسُّمُّ نَارٌ بَاطِنَةٌ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ النَّارَيْنِ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الشَّهَادَةَ فِي سَبِيلِهِ. وَأَمَّا الْوَصْفَانِ فَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ: إنْ كَانَتْ الضَّرْبَةُ بِالْحَجَرِ مُجْهِزَةً قُتِلَ بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ ضَرَبَاتٍ فَلَا، وَقَالَ مَالِكٌ أَيْضًا: ذَلِكَ إلَى الْوَلِيِّ. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ يُضْرَبُ بِالْعَصَا حَتَّى يَمُوتَ، وَلَا يُطَوَّلُ عَلَيْهِ. وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ.

وَقَالَ أَشْهَبُ: إنْ رُجِيَ أَنْ يَمُوتَ بِالضَّرْبِ ضُرِبَ، وَإِلَّا أُقِيدَ مِنْهُ بِالسَّيْفِ. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: لَا يُقْتَلُ بِالنَّبْلِ وَلَا بِالرَّمْيِ بِالْحِجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ التَّعْذِيبِ. وَاتَّفَقَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّهُ إذَا قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ وَفَقَأَ عَيْنَهُ قَصْدَ التَّعْذِيبَ فُعِلَ ذَلِكَ بِهِ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَتْلِهِ الرِّعَاءَ حَسْبَمَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ، وَإِنْ كَانَ فِي مُدَافَعَةٍ وَمُضَارَبَةٍ قُتِلَ بِالسَّيْفِ. وَالصَّحِيحُ مِنْ أَقْوَالِ عُلَمَائِنَا أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ وَاجِبَةٌ، إلَّا أَنْ تَدْخُلَ فِي حَدِّ التَّعْذِيبِ فَلْتُتْرَكْ إلَى السَّيْفِ، وَإِلَى هَذَا يَرْجِعُ جَمِيعُ الْأَقْوَالِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَهُوَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَلَا يَصِحُّ لِوَجْهَيْنِ بَيَّنَّاهُمَا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي شِبْهِ الْعَمْدِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا لَا يَصِحُّ أَيْضًا. وَاَلَّذِي يَصِحُّ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُ، «عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: إنِّي لَقَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا رَجُلٌ يَقُودُ آخَرَ بِنِسْعَةٍ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ هَذَا قَتَلَ أَخِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَقَتَلْته؟ فَقَالَ: إنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ لَأَقَمْت عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ. قَالَ: نَعَمْ، قَتَلْته. قَالَ: كَيْفَ قَتَلْته؟ قَالَ: كُنْت أَنَا وَهُوَ نَحْتَطِبُ مِنْ شَجَرَةٍ فَسَبَّنِي فَأَغْضَبَنِي فَضَرَبْته بِالْفَأْسِ عَلَى قَرْنِهِ فَقَتَلْته.» وَرَوَى أَبُو دَاوُد: «وَلَمْ أُرِدْ قَتْلَهُ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ لَك مِنْ شَيْءٍ تُؤَدِّي عَنْ نَفْسِك؟ فَقَالَ: مَا لِي مَالٌ إلَّا كِسَائِي وَفَأْسِي. قَالَ: فَتَرَى قَوْمَك يَشْتَرُونَك؟ قَالَ: أَنَا أَهْوَنُ عَلَى قَوْمِي مِنْ هَذَا. قَالَ: فَرَمَى إلَيْهِ بِنِسْعَتِهِ، وَقَالَ: دُونَكَ صَاحِبَكَ، فَانْطَلَقَ بِهِ الرَّجُلُ؛ فَلَمَّا وَلَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ فَرَجَعَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلَغَنِي أَنَّك قُلْت كَذَا وَأَخَذْته بِأَمْرِك قَالَ: أَمَا تُرِيدُ أَنْ يَبُوءَ بِإِثْمِك وَإِثْمِ صَاحِبِك؟ قَالَ: لَعَلَّهُ. قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّ ذَاكَ كَذَلِكَ. قَالَ: فَرَمَى بِنِسْعَتِهِ وَخَلَّى سَبِيلَهُ».

الآية الرابعة والأربعون قوله تعالى وأنفقوا في سبيل

وَالْحَدِيثُ مُشْكِلٌ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَاَلَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ مَسْأَلَتِنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلَ، وَقَدْ قَتَلَ بِالْفَأْسِ. وَرَوَى الْأَئِمَّةُ «أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَخَ رَأْسَ جَارِيَةٍ عَلَى أَوْضَاحٍ لَهَا، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاعْتَرَفَ فَرَضَّ رَأْسَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ» اعْتِمَادًا لِلْمُمَاثَلَةِ وَحُكْمًا بِهَا. [الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ] ِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ التُّجِيبِيِّ قَالَ: كُنَّا بِمَدِينَةِ الرُّومِ، فَأَخْرَجُوا إلَيْنَا صَفًّا عَظِيمًا مِنْ الرُّومِ، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُهُمْ أَوْ أَكْثَرُ، وَعَلَى أَهْلِ مِصْرَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَعَلَى الْجَمَاعَةِ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ، فَحَمَلَ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ، فَصَاحَ النَّاسُ وَقَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ، يُلْقِي بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ، فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ فَقَالَ: يَأَيُّهَا النَّاسُ، إنَّكُمْ لَتَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ فَلَوْ أَقَمْنَا فِي أَمْوَالِنَا فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ يَرُدُّ عَلَيْنَا مَا قُلْنَا: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]

مسألة تفسير النفقة في سبيل الله

وَكَانَتْ التَّهْلُكَةُ الْإِقَامَةَ عَلَى الْأَمْوَالِ وَإِصْلَاحَهَا، وَتَرَكْنَا الْغَزْوَ؛ فَمَا زَالَ أَبُو أَيُّوبَ شَاخِصًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِأَرْضِ الرُّومِ. [مَسْأَلَةٌ تَفْسِيرِ النَّفَقَةِ فِي سَبِيل اللَّه] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ النَّفَقَةِ: فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ نَدَبَهُمْ إلَى النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ أَيْ هَلُمَّ». الثَّانِي: أَنَّهَا وَاجِبَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]. الثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَاهُ لَا تَخْرُجُوا بِغَيْرِ زَادٍ تَوَكُّلًا وَاتِّكَالًا. وَحَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَوْضِعِهَا، وَالِاتِّكَالُ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ لَا يَجُوزُ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ دَائِمٌ، وَالثَّانِي: قَدْ يُتَصَوَّرُ إذَا وَجَبَ الْجِهَادُ، وَالثَّالِثُ صَحِيحٌ لِأَنَّ إعْدَادَ الزَّادِ فَرْضٌ. [مَسْأَلَةٌ تَفْسِيرِ التَّهْلُكَةِ فِي قَوْله تَعَالَى وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَفْسِيرِ التَّهْلُكَةِ: فِيهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: لَا تَتْرُكُوا النَّفَقَةَ. الثَّانِي: لَا تَخْرُجُوا بِغَيْرِ زَادٍ، يَشْهَدُ لَهُ قَوْله تَعَالَى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197].

مسألة قوله تعالى وأحسنوا

الثَّالِثُ: لَا تَتْرُكُوا الْجِهَادَ. الرَّابِعُ: لَا تَدْخُلُوا عَلَى الْعَسَاكِرِ الَّتِي لَا طَاقَةَ لَكُمْ بِهَا. الْخَامِسُ: لَا تَيْأَسُوا مِنْ الْمَغْفِرَةِ؛ قَالَهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِهَا لَا تَنَاقُضَ فِيهِ، وَقَدْ أَصَابَ إلَّا فِي اقْتِحَامِ الْعَسَاكِرِ؛ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ. فَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ مِنْ عُلَمَائِنَا: لَا بَأْسَ أَنْ يَحْمِلَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ عَلَى الْجَيْشِ الْعَظِيمِ إذَا كَانَ فِيهِ قُوَّةٌ وَكَانَ لِلَّهِ بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ؛ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ قُوَّةٌ فَذَلِكَ مِنْ التَّهْلُكَةِ. وَقِيلَ: إذَا طَلَبَ الشَّهَادَةَ وَخَلَصَتْ النِّيَّةُ فَلْيَحْمِلْ؛ لِأَنَّ مَقْصِدَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207]. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي جَوَازُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: طَلَبُ الشَّهَادَةِ. الثَّانِي: وُجُودُ النِّكَايَةِ. الثَّالِثُ: تَجْرِيَةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ. الرَّابِعُ: ضَعْفُ نُفُوسِهِمْ لِيَرَوْا أَنَّ هَذَا صُنْعُ وَاحِدٍ، فَمَا ظَنَّك بِالْجَمِيعِ، وَالْفَرْضُ لِقَاءُ وَاحِدٍ اثْنَيْنِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ جَائِزٌ؛ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَأَحْسِنُوا] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَأَحْسِنُوا} [البقرة: 195]. فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

الآية الخامسة والأربعون قوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله

الْأَوَّلُ: أَحْسِنُوا الظَّنَّ بِاَللَّهِ؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ. الثَّانِي: فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. الثَّالِثُ: أَحْسِنُوا إلَى مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ. قَالَ الْقَاضِي: الْإِحْسَانُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْحُسْنِ، وَهُوَ كُلُّ مَا مُدِحَ فَاعِلُهُ. وَلَيْسَ الْحُسْنُ صِفَةً لِلشَّيْءِ؛ وَإِنَّمَا الْحُسْنُ خَبَرٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ بِمَدْحِ فَاعِلِهِ. وَقَدْ بَيَّنَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَصْلَهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَالَ لَهُ: «مَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك». [الْآيَة الْخَامِسَة وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ] ِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة: 196]. فِيهَا اثْنَتَانِ وَثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى {وَأَتِمُّوا} [البقرة: 196]: فِيهِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَحْرِمُوا بِهِمَا مِنْ دِيَارِكُمْ؛ قَالَهُ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَسُفْيَانُ. الثَّانِي: أَتِمُّوهُمَا إلَى الْبَيْتِ [قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ].

الثَّالِثُ: بِحُدُودِهِمَا وَسُنَنِهِمَا؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. الرَّابِعُ: أَلَّا يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا؛ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ. الْخَامِسُ: أَلَّا يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ. السَّادِسُ: إتْمَامُهُمَا إذَا دَخَلَ فِيهِمَا؛ قَالَهُ مَسْرُوقٌ. السَّابِعُ: أَلَا يَتَّجِرَ مَعَهُمَا. قَالَ الْقَاضِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: حَقِيقَةُ الْإِتْمَامِ لِلشَّيْءِ اسْتِيفَاؤُهُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَشُرُوطِهِ، وَحِفْظُهُ مِنْ مُفْسِدَاتِهِ وَمُنْقِصَاتِهِ، وَكُلُّ الْأَقْوَالِ مُحْتَمَلٌ فِي مَعْنَى الْآيَةِ؛ إلَّا أَنَّ بَعْضَهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: أَحْرِمْ بِهَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِك، فَإِنَّهَا مَشَقَّةٌ رَفَعَهَا الشَّرْعُ وَهَدَمَتْهَا السُّنَّةُ بِمَا وَقَّتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْمَوَاقِيتِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ إلَى الْبَيْتِ، فَذَلِكَ وَاجِبٌ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ، وَلَهُ شُرُوطٌ بَيَانُهَا فِي مَوْضِعِهَا. وَأَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ فَصَحِيحٌ. وَأَمَّا أَلَّا يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَالسُّنَّةُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، كَذَلِكَ فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. وَأَمَّا أَلَّا يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَهُوَ التَّمَتُّعُ. وَأَمَّا إتْمَامُهُمَا إذَا دَخَلَ فِيهِمَا فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِيهِمَا حَتَّى بَالَغُوا فَقَالُوا: يَلْزَمُهُ إتْمَامُهُمَا، وَإِنْ أَفْسَدَهُمَا. وَأَمَّا أَلَّا يَتَّجِرَ فِيهِمَا فَهُوَ مَذْهَبُ الْفُقَرَاءِ أَلَّا تَمْتَزِجَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ، وَهُوَ أَخْلَصُ فِي النِّيَّةِ وَأَعْظَمُ لِلْأَجْرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَرَامٍ؛ وَالْكُلُّ يُبَيَّنُ فِي مَوْضِعِهِ بِحَوْلِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ.

مسألة معنى الحج

[مَسْأَلَةٌ مَعْنَى الْحَجُّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْحَجُّ: وَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْقَصْدِ، وَخَصَّهُ الشَّرْعُ بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ وَبِمَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ عَلَى وَجْهٍ مُعَيَّنٍ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ، وَقَدْ كَانَ الْحَجُّ مَعْلُومًا عِنْدَ الْعَرَبِ، لَكِنَّهَا غَيَّرَتْهُ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَقِيقَتَهُ، وَأَعَادَ عَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صِفَتَهُ، وَحَثَّ عَلَى تَعَلُّمِهِ، فَقَالَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ». [مَسْأَلَةٌ الْعُمْرَةُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْعُمْرَةُ: وَهِيَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الزِّيَارَةِ، وَهِيَ فِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ زِيَارَةِ الْبَيْتِ، خَصَّصَتْهُ الشَّرِيعَةُ بِبَعْضِ مَوَارِدِهِ، وَقَصَرَتْهُ عَلَى مَعْنًى مِنْ مُطْلَقِهِ، عَلَى عَادَتِهَا فِي أَلْفَاظِهَا عَلَى سِيرَةِ الْعَرَبِ فِي لُغَاتِهَا، وَقَدْ بَيَّنَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَانَ الْحَجِّ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وُجُوبُ الْعُمْرَةِ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ الْعُمْرَةِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هِيَ وَاجِبَةٌ، وَيُؤْثَرُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: هِيَ تَطَوُّعٌ، وَإِلَيْهِ مَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُجَّةٌ لِلْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا قَرَنَهَا بِالْحَجِّ فِي وُجُوبِ الْإِتْمَامِ لَا فِي الِابْتِدَاءِ، فَإِنَّهُ ابْتَدَأَ إيجَابَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]. وَابْتَدَأَ بِإِيجَابِ الْحَجِّ فَقَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97]. وَلَمَّا ذَكَرَ الْعُمْرَةَ أَمَرَ بِإِتْمَامِهَا لَا بِابْتِدَائِهَا، فَلَوْ حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ أَوْ اعْتَمَرَ عَشْرَ عُمَرَ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ فِي جَمِيعِهَا، وَإِنَّمَا جَاءَتْ الْآيَةُ لِإِلْزَامِ الْإِتْمَامِ لَا لِإِلْزَامِ الِابْتِدَاءِ، وَقَدْ مَهَّدْنَا الْقَوْلَ فِيهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.

مسألة قوله تعالى لله

[مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى لِلَّهِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: لِلَّهِ: الْأَعْمَالُ كُلُّهَا لِلَّهِ، خَلْقٌ وَتَقْدِيرٌ، وَعِلْمٌ وَإِرَادَةٌ، وَمَصْدَرٌ وَمَوْرِدٌ، وَتَصْرِيفٌ وَتَكْلِيفٌ؛ وَفَائِدَةُ هَذَا التَّخْصِيصِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَقْصِدُ الْحَجَّ لِلِاجْتِمَاعِ وَالتَّظَاهُرِ، وَالتَّنَاضُلِ وَالتَّنَافُرِ، وَالتَّفَاخُرِ وَقَضَاءِ الْحَوَائِجِ، وَحُضُورِ الْأَسْوَاقِ؛ وَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهِ حَظٌّ يُقْصَدُ، وَلَا قُرْبَةٌ تُعْتَقَدُ؛ فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْقَصْدِ إلَيْهِ لِأَدَاءِ فَرْضِهِ وَقَضَاءِ حَقِّهِ، ثُمَّ سَامَحَ فِي التِّجَارَةِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. [مَسْأَلَةٌ قِرَاءَة قَوْله تَعَالَى الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: {الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [البقرة: 196]: رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ " وَالْعُمْرَةُ " بِالرَّفْعِ لِلْهَاءِ، وَحَكَى قَوْمٌ أَنَّهُ إنَّمَا فَرَّ مِنْ فَرْضِ الْعُمْرَةِ؛ وَهَذَا لَا يَصِحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقِرَاءَةَ يَنْبَنِي عَلَيْهَا الْمَذْهَبُ، وَلَا يُقْرَأُ بِحُكْمِ الْمَذْهَبِ. الثَّانِي: أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النَّصْبَ لَا يَقْتَضِي ابْتِدَاءَ الْفَرْضِ، فَلَا مَعْنَى لِقِرَاءَةِ الرَّفْعِ إلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يَقُولُ: يُقْرَأُ بِكُلِّ لُغَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة: 196]: هَذِهِ آيَةٌ مُشْكِلَةٌ عُضْلَةٌ مِنْ الْعُضْلِ، فِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مُنِعْتُمْ بِأَيِّ عُذْرٍ كَانَ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. الثَّانِي: [مُنِعْتُمْ] بِالْعَدُوِّ خَاصَّةً؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٌ، وَالشَّافِعِيُّ؛ وَهُوَ اخْتِيَارُ عُلَمَائِنَا، وَرَأْيُ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَمُحَصِّلِيهَا عَلَى أَنَّ أُحْصِرَ عُرِّضَ لِلْمَرَضِ، وَحُصِرَ نَزَلَ بِهِ الْحَصْرُ.

مسألة تحقيق جواب الشرط من قوله تعالى فإن أحصرتم

وَقَدْ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ سَنَةَ سِتٍّ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ صَدَّ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مَكَّةَ، وَمَا كَانُوا حَبَسُوهُ وَلَكِنْ حَبَسُوا الْبَيْتَ وَمَنَعُوهُ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْقِصَّةَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ فَقَالَ: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25]. وَقَدْ تَأْتِي أَفْعَالٌ يَكُونُ فِيهَا فَعَلَ وَأَفْعَلُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ، وَمَعْنَاهَا: فَإِنْ مُنِعْتُمْ. وَيُقَالُ: مُنِعَ الرَّجُلُ عَنْ كَذَا؟ فَإِنَّ الْمَنْعَ مُضَافٌ إلَيْهِ أَوْ إلَى الْمَمْنُوعِ عَنْهُ. وَحَقِيقَةُ الْمَنْعِ عِنْدَنَا الْعَجْزُ الَّذِي يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْفِعْلُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَاَلَّذِي يَصِحُّ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمَمْنُوعِ بِعُذْرٍ، وَأَنَّ لَفْظَهَا فِي كُلِّ مَمْنُوعٍ، وَمَعْنَاهَا يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ. [مَسْأَلَةٌ تَحْقِيقِ جَوَابِ الشَّرْطِ مِنْ قَوْله تَعَالَى فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فِي تَحْقِيقِ جَوَابِ الشَّرْطِ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة: 196] وَظَاهِرُهُ قَوْلُهُ: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وَبِهَذَا قَالَ أَشْهَبُ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ عَنْ مَالِكٍ، وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّهُ لَا هَدْيَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَفْرِيطٌ؛ وَإِنَّمَا الْهَدْيُ عَلَى ذِي التَّفْرِيطِ؛ وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]؛ فَهُوَ تَرْكٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَتَعَلُّقٌ بِالْمَعْنَى. الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْدَى عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ أَصْحَابِهِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةُ عَنْ سَبْعَةٍ. وَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَمَلَ الْهَدْيَ تَطَوُّعًا، وَكَذَلِكَ كَانَ؛ فَأَمَّا ظَاهِرُ الْقُرْآنِ فَلَا كَلَامَ فِيهِ. وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجْعَلَ الْبَارِي تَعَالَى الْهَدْيَ وَاجِبًا مَعَ التَّفْرِيطِ وَمَعَ عَدَمِهِ عِبَادَةً مِنْهُ لِسَبَبٍ وَلِغَيْرِ سَبَبٍ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا. وَمِنْ عُلَمَائِنَا مَنْ قَالَ، وَهُوَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْهَدْيُ مَنْ أُحْصِرَ بِمَرَضٍ فَإِنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِالْعُمْرَةِ وَيُهْدِي.

مسألة قوله تعالى ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَتَحَلَّلُ بِالْمَرَضِ فِي مَوْضِعِهِ. وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا مَعْنَى لِلْآيَةِ إلَّا حَصْرَ الْعَدُوِّ، أَوْ الْحَصْرَ مُطْلَقًا، فَكَيْفَ يَرْجِعُ الْجَوَابُ إلَى مُقْتَضَى الشَّرْطِ، أَمَّا أَنَّهُ إنْ رَجَعَ إلَى بَعْضِهِ كَانَ جَائِزًا لِدَلِيلٍ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَقْوَالِ عُلَمَائِنَا. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]: قَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «خَرَجْنَا مُعْتَمِرِينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَنَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَدَنَةً وَحَلَقَ رَأْسَهُ». الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: إنْ قَدَّمَ الْحَلْقَ عَلَى النَّحْرِ لَمْ يَكُنْ مُسِيئًا؛ لِمَا رَوَى الْأَئِمَّةُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: حَلَقْت قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ. قَالَ: انْحَرْ وَلَا حَرَجَ». [مَسْأَلَةٌ الْحَلْقُ وَالتَّقْصِيرُ فِي الْحَجّ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: الْحِلَاقُ نُسُكٌ مَقْصُودٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ إلْقَاءُ تَفَثٍ، وَمَا قُلْنَاهُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَهُ وَرَتَّبَهُ عَلَى نُسُكٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ فِي الصَّحِيحِ مَمْدُوحٌ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ. قِيلَ: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ. قِيلَ: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ. قِيلَ: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَالْمُقَصِّرِينَ».

مسألة معنى قوله تعالى فإن أحصرتم

[مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: فِي تَأْكِيدِ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة: 196] وَتَتْمِيمُهُ: وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {أُحْصِرْتُمْ} [البقرة: 196] مُنِعْتُمْ؛ فَإِنْ كَانَ الْمَنْعُ بِعَدُوٍّ فَفِيهِ نَزَلَتْ الْآيَةُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ يَحِلُّ فِي مَوْضِعِهِ، وَيَحْلِقُ رَأْسَهُ، وَيَنْحَرُ هَدْيًا إنْ كَانَ مَعَهُ، أَوْ يَسْتَأْنِفُ هَدْيًا كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ كَانَ الْمَنْعُ بِمَرَضٍ لَمْ يَحِلَّهُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا إلَّا الْبَيْتُ، فَخِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، حَيْثُ أَجْرَى الْآيَةَ عَلَى عُمُومِهَا أَخْذًا بِمُطْلَقِ الْمَنْعِ. وَزَادَ أَصْحَابُهُ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُ يُقَالُ: حَصَرَهُ الْعَدُوُّ وَأَحْصَرَهُ الْمَرَضُ؛ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَالْكِسَائِيُّ. قُلْنَا: قَالَ غَيْرُهُمَا عَكْسَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ. وَحَقِيقَتُهُ هَاهُنَا مَنْعُ الْعَدُوِّ؛ فَإِنَّهُ مَنَعَهُمْ، وَلَمْ يَحْبِسْهُمْ، وَالْمَنْعُ كَانَ مُضَافًا إلَى الْبَيْتِ، فَلِذَلِكَ حَلَّ فِي مَوْضِعِهِ، وَهَذَا الْمَرِيضُ الْمَنْعُ مُضَافٌ إلَيْهِ، فَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يَصِيرَ إلَى مَوْضِعِ الْحِلِّ. وَلِلْقَوْمِ أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ، وَآثَارٌ عَنْ السَّلَفِ أَكْثَرُهَا مُعَنْعَنٌ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [مَسْأَلَةٌ الْإِحْصَار فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: لَا خِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّ الْإِحْصَارَ عَامٌّ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لَا إحْصَارَ فِي الْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ.

مسألة إذا منع المحرم الإحصار في الحج

قُلْنَا: وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُؤَقَّتَةٍ، لَكِنْ فِي الصَّبْرِ إلَى زَوَالِ الْعَدُوِّ ضَرَرٌ؛ وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ الْآيَةُ، وَبِهِ جَاءَتْ السُّنَّةُ فَلَا مَعْدَلَ عَنْهَا. [مَسْأَلَةٌ إذَا مُنِعَ الْمُحْرِم الْإِحْصَار فِي الْحَجّ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: إذَا مَنَعَهُ الْعَدُوُّ يَحِلُّ فِي مَوْضِعِهِ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ خَاصَّةً، وَلَمْ يَذْكُرْ قَضَاءً. وَمُتَعَلِّقُهُمْ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي الْعَامِ الْآخَرِ. قُلْنَا: إنَّمَا قَضَاهَا؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ عَلَى ذَلِكَ إرْغَامًا لِلْمُشْرِكِينَ، وَإِتْمَامًا لِلرُّؤْيَا، وَتَحْقِيقًا لِلْمَوْعِدِ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ ابْتِدَاءُ عُمْرَةٍ أُخْرَى؛ وَسُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ، مِنْ الْمُقَاضَاةِ لَا مِنْ الْقَضَاءِ. الثَّانِي: الْمَعْنَى قَالُوا: تَحَلَّلَ مِنْ نُسُكِهِ قَبْلَ تَمَامِهِ؛ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ قَضَائِهِ كَالْفَائِتِ وَالْمُفْسَدِ. قُلْنَا: الْفَاسِدُ هُوَ فِيهِ مَلُومٌ، وَالْفَائِتُ هُوَ فِيهِ مَنْسُوبٌ إلَى التَّقْصِيرِ؛ وَهَذَا مَغْلُوبٌ، وَلَا فَائِدَةَ فِي اتِّبَاعِ الْمَعْنَى مَعَ مَا قُلْنَاهُ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ. [مَسْأَلَةٌ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الْحَاصِرُ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الْحَاصِرُ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا؛ فَإِنْ كَانَ كَافِرًا لَمْ يَجُزْ قِتَالُهُ، وَلَوْ وَثِقَ بِالظُّهُورِ؛ وَيَتَحَلَّلُ فِي مَوْضِعِهِ، وَلَوْ سَأَلَ الْكَافِرُ جُعْلًا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَهْنٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ الْحَاصِرُ مُسْلِمًا لَمْ يَجُزْ قِتَالُهُ بِحَالٍ، وَوَجَبَ التَّحَلُّلُ، فَإِنْ طَلَبَ شَيْئًا وَيَتَخَلَّى عَنْ الطَّرِيقِ جَازَ دَفْعُهُ، وَلَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إتْلَافِ الْمُهَجِ، وَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ فِي أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ، فَإِنَّ الدِّينَ أَسْمَحُ. وَأَمَّا بَذْلُ الْجُعْلِ فَلِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ أَعْظَمِ الضَّرَرَيْنِ بِأَهْوَنِهِمَا؛ وَلِأَنَّ الْحَجَّ مِمَّا يُنْفَقُ فِيهِ الْمَالُ، فَيُعَدُّ هَذَا مِنْ النَّفَقَةِ.

مسألة إذا حل المحصر

[مَسْأَلَةٌ إذَا حَلَّ الْمُحْصَرُ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: إذَا حَلَّ الْمُحْصَرُ نَحَرَ هَدْيَهُ حَيْثُ حَلَّ؛ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحُدَيْبِيَةِ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ تَابِعٌ لِلْمُهْدِي، وَالْمُهْدِي حَلَّ بِمَوْضِعِهِ، فَالْهَدْيُ أَيْضًا يَحِلُّ مَعَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وَمَحِلُّهُ الْبَيْتُ الْعَتِيقُ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25]. قُلْنَا: كَذَلِكَ كَانَ صَاحِبُ الْهَدْيِ، وَهُوَ الْمُهْدِي مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَنْسَكَهُ، وَلَكِنْ حَلَّ فِي مَوْضِعِهِ، كَذَلِكَ هَدْيُهُ يَجِبُ أَنْ يَحِلَّ مَعَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ نَاجِيَةَ بْنَ جُنْدُبٍ صَاحِبَ بُدْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْعَثْ مَعِي الْهَدْيَ أَنْحَرْهُ فِي الْحَرَمِ. قَالَ: فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: أُخْرِجُهُ فِي أَوْدِيَةٍ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ؛ فَانْطَلَقَ بِهِ حَتَّى نَحَرَهُ فِي الْحَرَمِ». قُلْنَا هَذَا حَدِيثٌ لَمْ يَصِحَّ. [مَسْأَلَةٌ عَقَدَ الْإِحْرَامَ فَصَدَّهُ الْعَدُوُّ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: إذَا عَقَدَ الْإِحْرَامَ فَصَدَّهُ الْعَدُوُّ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُمْ يَمْنَعُونَهُ أَوْ لَا يَعْلَمَ، فَإِنْ تَحَقَّقَ أَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى الْبَيْتِ فَإِحْرَامُهُ مُلْزِمٌ لَهُ أَلَّا يَحِلَّ إلَّا بِالْبَيْتِ أَبَدًا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَلَّ بِمَنْعِهِمْ لَهُ، فَإِنْ شَكَّ لَمْ يَحِلَّ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ. وَقَدْ أَحْرَمَ ابْنُ عُمَرَ بِالْحَجِّ، ثُمَّ قِيلَ لَهُ: إنَّهُ كَائِنٌ هَذَا الْعَامَ بَيْنَ النَّاسِ قِتَالٌ، فَقَالَ: إنْ صُدِدْنَا عَنْ الْبَيْتِ صَنَعْنَا كَمَا صَنَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَحْرَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، فَحَلَّ حِينَ مُنِعَ، وَأَحْرَمَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى الشَّكِّ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُمْنَعْ.

مسألة صد عن عرفة أو البيت في الحج أو أحدهما ومكن من الآخر

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: إنْ مُنِعَ مِنْ الطَّرِيقِ خَاصَّةً فَلْيَأْخُذْ فِي أُخْرَى إنْ كَانَتْ آمِنَةً، وَكَانَ الْمَنْعُ مُتَطَاوِلًا، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا صَبَرَ حَتَّى يَنْجَلِيَ، وَإِنْ كَانَ حَاجًّا فَلَا يَحِلُّ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ الْحَجَّ قَدْ فَاتَ. وَقَالَ أَشْهَبُ: يَحِلُّ يَوْمَ النَّحْرِ، وَهَذَا فِيمَنْ كَانَ فِي الْمَنَاسِكِ، وَأَمَّا الْيَائِسُ فَيَحِلُّ إذَا تَحَقَّقَ يَأْسُهُ. [مَسْأَلَةٌ صُدَّ عَنْ عَرَفَةَ أَوْ الْبَيْت فِي الْحَجّ أَوْ أَحَدهمَا ومكن مِنْ الْآخِر] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: إذَا صُدَّ عَنْ عَرَفَةَ فِي الْحَجِّ لَزِمَهُ أَنْ يَصِلَ إلَى الْبَيْتِ وَيَتَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ، وَلَوْ صُدَّ عَنْ الْبَيْتِ وَمُكِّنَ مِنْ عَرَفَةَ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ، وَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَهَدْيٌ فِي مَشْهُورِ الْقَوْلَيْنِ. وَقِيلَ: الْحَجُّ بَاطِلٌ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ أَوْ كَانَ الْحَجُّ مَضْمُونًا، فَأَمَّا إنْ كَانَ التَّطَوُّعُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْحَالَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. [مَسْأَلَةٌ أَحْصِرْ عَنْ الْحَجِّ وَمَعَهُ هَدْيٌ] الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ: إذَا كَانَ الْإِحْصَارُ عَنْ الْحَجِّ وَمَعَهُ هَدْيٌ نَحَرَهُ فِي مَوْضِعِهِ حِينَئِذٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَسُفْيَانُ: لَا يَنْحَرُ إلَّا يَوْمَ النَّحْرِ مُرَاعَاةً لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَهُوَ وَقْتُ الْحِلِّ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ وَقْتَهُ وَقْتُ حَلِّ الْمُهْدِي، وَقَدْ حَلَّ بِالْيَأْسِ عَنْ الْبُلُوغِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ يَوْمَ النَّحْرِ، وَإِذَا سَقَطَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فَسُقُوطُ الِاسْتِقْرَاءِ أَوْلَى. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196]: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: «مَرَّ بِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَنَا أُوقِدُ تَحْتَ قِدْرٍ لِي وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ مِنْ رَأْسِي فَقَالَ: أَيُؤْذِيك هَوَامُّك؟ قُلْت: نَعَمْ.

مسألة جعل الهدي نسكا

فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَحْلِقَ وَلَمْ يَأْمُرْ غَيْرَهُ»، وَهُمْ عَلَى طَمَعٍ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْآيَةَ. فَكُلُّ مَنْ كَانَ مَرِيضًا وَاحْتَاجَ إلَى فِعْلِ مَحْظُورٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فَعَلَهُ وَافْتَدَى، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ؛ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ: «أَطْعِمْ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، أَوْ اهْدِ شَاةً، أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ»، وَفِي الْحَدِيثِ خِلَافٌ وَكَلَامٌ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ: هُوَ صَوْمُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ. قَالُوا: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الصِّيَامَ هَاهُنَا مُطْلَقًا، وَقَيَّدَهُ فِي التَّمَتُّعِ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ، فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ. قُلْنَا: هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُطْلَقَ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ إلَّا بِدَلِيلٍ فِي نَازِلَةٍ وَاحِدَةٍ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ؛ وَهَاتَانِ نَازِلَتَانِ. الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ بَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ قَدْرَ الصِّيَامِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ. [مَسْأَلَةٌ جَعْلُ الْهَدْيَ نُسُكًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يُجْزِئُ [الطَّعَامِ] فِي كُلِّ مَوْضِعٍ. وَقِيلَ: لَا يَخْتَصُّ مِنْهَا بِمَكَّةَ إلَّا الْهَدْيُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الطَّعَامُ كَالْهَدْيِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْهَدْيِ لِمَسَاكِينِ مَكَّةَ؛ فَالطَّعَامُ الَّذِي هُوَ عِوَضُهُ كَذَلِكَ. وَإِذَا قُلْنَا: إنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ فَيَخْتَصُّ بِمَكَّةَ، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي فَيَأْتِي بِهِمَا حَيْثُ شَاءَ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَأَمَّا الْهَدْيُ فَإِنَّمَا جَاءَ الْقُرْآنُ فِيهِ بِلَفْظِ النُّسُكِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَذْبَحَ حَيْثُ شَاءَ؛ فَإِنَّ لَفْظَ النُّسُكِ عَامٌّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ.

مسألة قوله تعالى فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَثَرِ: «مَنْ وُلِدَ لَهُ فَأَحَبَّ أَنْ يُنْسَكَ عَنْهُ فَلْيَفْعَلْ». وَفِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: أَوْ اُنْسُكْ بِشَاةٍ»، فَحُمِلَ هَذَا اللَّفْظُ هَاهُنَا وَهُوَ الْهَدْيُ عَلَى أَنَّهُ إنْ شَاءَ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا النُّسُكَ هَدْيًا جَعَلَهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْهَدْيَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ نُسُكًا، وَالنُّسُكُ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ هَدْيًا. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196]: قَالَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَائِنَا: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة: 196] إنَّهُ إحْصَارُ الْعَدُوِّ؛ لِأَنَّ الْأَمْنَ يَكُونُ مِنْ خَوْفِ الْعَدُوِّ، وَالْبُرْءُ يَكُونُ مِنْ الْمَرَضِ، وَإِلَيْهِ مَالَ مَنْ احْتَجَّ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ بِأَنْ لَا هَدْيَ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَلَا نَقُولُ هَكَذَا، بَلْ زَوَالُ كُلِّ أَلَمٍ مِنْ مَرَضٍ، وَهُوَ أَمْنٌ، وَجَاءَ بِلَفْظِ الْأَمْنِ، وَهُوَ عَامٌّ، كَمَا جَاءَ بِلَفْظِ " أُحْصِرَ " وَهُوَ عَامٌّ فِي الْعَدُوِّ وَالْمَرَضِ؛ لِيَكُونَ آخِرُ الْكَلَامِ عَلَى نِظَامِ أَوَّلِهِ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196]: الْمَعْنَى أَكْمِلُوا مَا بَدَأْتُمْ بِهِ مِنْ عِبَادَةٍ، مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، إلَّا أَنْ يَمْنَعَكُمْ مَانِعٌ؛ فَإِنْ كَانَ مَانِعٌ حَلَلْتُمْ حَيْثُ حُبِسْتُمْ وَتَرَكْتُمْ مَا مُنِعْتُمْ مِنْهُ، وَيَجْزِيكُمْ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ بَعْدَ حَلْقِ رُءُوسِكُمْ؛ فَإِذَا أَمِنْتُمْ أَيْ زَالَ الْمَانِعُ، وَقَدْ كُنْتُمْ حَلَلْتُمْ عَنْ عُمْرَةٍ فَحَجَجْتُمْ، فَعَلَيْكُمْ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ. وَالتَّمَتُّعُ يَكُونُ بِشُرُوطٍ ثَمَانِيَةٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ. الثَّانِي: فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ. الثَّالِثُ: فِي عَامٍ وَاحِدٍ. الرَّابِعُ: فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ.

مسألة خلاف الناس فيما استيسر من الهدي

الْخَامِسُ: تَقْدِيمُ الْعُمْرَةِ. السَّادِسُ: أَلَّا يَجْمَعَهُمَا؛ بَلْ يَكُونُ إحْرَامُ الْحَجِّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعُمْرَةِ. السَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ الْعُمْرَةُ وَالْحَجُّ عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ. الثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ. وَمِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ مَا هُوَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَمِنْهَا مُسْتَنْبَطٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ} [البقرة: 196] يَعْنِي: مَنْ انْتَفَعَ بِضَمِّ الْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ؛ وَذَلِكَ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ مَكَّةَ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَرَّتَيْنِ بِقَصْدَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ، فَإِذَا انْتَفَعَ بِاتِّحَادِهِمَا، وَذَلِكَ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ؛ وَهَذِهِ الشُّرُوطُ كُلُّهَا انْتِفَاعٌ إلَّا قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] فَإِنَّهُ نَصٌّ. [مَسْأَلَةٌ خِلَاف النَّاس فِيمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ بَدَنَةٌ، مِنْهُمْ عَائِشَةُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٌ، وَعُرْوَةُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ شَاةٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ شَاةٌ أَوْ بَدَنَةٌ أَوْ شِرْكٌ فِي دَمٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالشَّافِعِيُّ. فَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ بَدَنَةٌ فَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْهَدْيَ اسْمٌ فِي اللُّغَةِ لِلْإِبِلِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: كَمْ هَدْيُ فُلَانٍ، أَيْ إبِلُهُ. وَيُقَالُ فِي وَصْفِ السَّنَةِ: هَلَكَ الْهَدْيُ وَجَفَّ الْوَادِي. فَيُقَالُ لَهُ: إنْ كُنْت تَجْعَلُ أَيْسَرَ الْهَدْيِ بَدَنَةً وَأَكْثَرَهُ مَا زَادَ مِنْ الْعَدَدِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حَدٍّ فَيَلْزَمُك أَلَّا يَجُوزَ هَدْيٌ بِشَاةٍ. وَقَدْ أَهْدَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْغَنَمَ، وَأَهْدَى أَصْحَابُهُ، وَلَوْ كَانَ أَيْسَرُهُ بَدَنَةً مَا جَازَتْ شَاةٌ. وَمَا ذَكَرُوهُ عَنْ الْعَرَبِ فَإِنَّمَا سَمَّتْ الْإِبِلَ هَدْيًا؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ يَكُونُ مِنْهَا فِي الْأَغْلَبِ أَوْ لِأَنَّهَا أَعْلَاهُ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ أَيْسَرَ الْهَدْيِ شِرْكٌ فِي دَمٍ، فَاحْتَجَّ «بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحَرَ عَامَ

مسألة قوله تعالى فمن تمتع بالعمرة

الْحُدَيْبِيَةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ». رَوَاهُ جَابِرٌ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ، فَأَمَرَنَا أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرَةِ، كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا فِي بَدَنَةٍ»، وَهَذَا لَا غُبَارَ عَلَيْهِ وَلَا مَطْمَعَ فِيهِ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ} [البقرة: 196]: يَعْنِي انْتَفَعَ، وَقَدْ رُوِيَتْ مُتْعَتَانِ: إحْدَاهُمَا: مَا كَانَ مِنْ فَسْخِ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ. وَالثَّانِيَةُ: مَا كَانَ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي إحْرَامٍ أَوْ سَفَرٍ وَاحِدٍ. فَأَمَّا فَسْخُ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ فَرَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحُرُمِ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ، وَيَقُولُونَ: إذَا بَرَأَ الدَّبَرُ، وَعَفَا الْأَثَرُ، وَانْسَلَخَ صَفَرُ حَلَّتْ الْعُمْرَةُ لِمَنْ اعْتَمَرَ. «فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صُبْحَ رَابِعَةٍ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً؛ فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْحِلِّ؟ قَالَ: الْحِلُّ كُلُّهُ». وَهَذِهِ الْمُتْعَةُ قَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَرْكِهَا بَعْدَ خِلَافٍ يَسِيرٍ كَانَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ ثُمَّ زَالَ. وَأَمَّا مُتْعَةُ الْقِرَانِ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَلَيْهَا فِي حَجِّهِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ السُّنَّةُ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا مُفْرِدًا، وَهُوَ الْأَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ لَا دَمَ فِيهِ وَلَا انْتِفَاعَ بِإِسْقَاطِ عَمَلٍ وَلَا سَفَرٍ. وَتَعَلَّقَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا: أَنَّ عَلِيًّا شَاهَدَ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَةِ، وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَلِيٌّ أَهَلَّ بِهِمَا، وَقَالَ: مَا كُنْت أَدَعُ سُنَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْلِ أَحَدٍ.

وَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: مَا تُرِيدُ أَنْ تَنْهَى عَنْ أَمْرٍ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ. وَتَعَلَّقَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ بِحَدِيثِ جَابِرٍ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْرَدَ الْحَجَّ». وَمَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَعَلَهُ، أَيْ أَمَرَ بِفِعْلِهِ، وَقَدْ حَقَّقْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كُتُبِ شَرْحِ الْحَدِيثِ. وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ، وَهِيَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ فَقَالَ أَحْمَدُ: إنَّهَا الْأَفْضَلُ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً». رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّمَا أَشْفَقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى تَرْكِ الْأَرْفَقِ لَا عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى، وَالْأَرْفَقِ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً شَقَّ عَلَيْهِمْ خِلَافُهُمْ لَهُ فِي الْفِعْلِ، فَقَالَ: «إنِّي لَبَّدْت رَأْسِي، وَقَلَّدْت هَدْيِي، فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ الْهَدْيَ»؛ مُعْتَذِرًا إلَيْهِمْ مُبَيِّنًا عِنْدَهُمْ.

مسألة لا يلزم المكي دم متعة

وَقَالَ، لَمَّا رَأَى مَنْ شَفَقَتِهِمْ وَلِمَا رَجَاهُ مِنْ امْتِثَالِهِمْ وَاقْتِدَائِهِمْ، وَسَلِّ سَخِيمَةِ الْجَاهِلِيَّةِ عَنْ أَهْوَائِهِمْ: «لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت مَا سُقْت الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً كَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ». وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ لَفْظُ الْآيَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ إضَافَةُ الْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] وَلَا يَصْلُحُ هَذَا اللَّفْظُ لِفَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ، وَإِذَا امْتَنَعَ هَذَا فِي الْآيَةِ لَمْ يَبْقَ إلَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَالْآيَةُ بَعْدُ مُحْتَمِلَةٌ لِلْقِرَانِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا إمَّا فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَمِرِينَ فَصَدَّهُمْ الْعَدُوُّ فَحَلُّوا؛ وَذَلِكَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ الَّتِي مَنْ اعْتَمَرَ فِيهَا، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ الشُّرُوطِ؛ فَيَكُونُ مُتَمَتِّعًا؛ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لَهُ. وَكَأَنَّ الْمَعْنَى أَنْتُمْ قَدْ اعْتَمَرْتُمْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَلَوْ حَجَجْتُمْ فِي هَذَا الْعَامِ لَكُنْتُمْ مُتَمَتِّعِينَ، وَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ صُدِدْتُمْ؛ لِأَنَّ عُمْرَتَكُمْ مَعَ حِلِّكُمْ قَبْلَ الْبُلُوغِ إلَى الْبَيْتِ عُمْرَةٌ صَحِيحَةٌ كَامِلَةٌ تَكُونُ إضَافَةُ الْحَجِّ إلَيْهَا مُتْعَةً. [مَسْأَلَةٌ لَا يَلْزَمُ الْمَكِّيَّ دَمُ مُتْعَةٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَا يَلْزَمُ الْمَكِّيَّ دَمُ مُتْعَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَرَفَّهْ بِإِسْقَاطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ، فَإِنَّ ذَلِكَ بَلَدُهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَتَمَتَّعُ وَلَا يَقْرِنُ مَنْ كَانَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَإِنْ تَمَتَّعَ أَوْ قَرَنَ فَهُوَ مُخْطِئٌ وَعَلَيْهِ دَمٌ لَا يَأْكُلُ مِنْهُ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196]: الْمَعْنَى: أَنَّ جَمْعَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لَيْسَ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الدَّمَ لَقَالَ تَعَالَى: ذَلِكَ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِمَا قَدَّمْنَاهُ. [وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ مَشْرُوعٌ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ].

مسألة المتمتع إذا رمى جمرة العقبة

[مَسْأَلَةٌ الْمُتَمَتِّعِ إذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يَجِبُ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ الْهَدْيُ إذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ حِينَئِذٍ يَتِمُّ وَيَصِحُّ مِنْهُ وَصْفُ التَّمَتُّعِ، وَمَا لَمْ يُتِمَّ الْحَجَّ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ هَلْ يَخْلُصُ بِهِ أَوْ يَقْطَعُ دُونَهُ قَاطِعٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْهَدْيُ إذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ وَجَبَ عَلَيْهِ بِضَمِّ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ، وَإِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَأَوَّلُ الْحَجِّ كَآخِرِهِ، وَهَذِهِ دَعْوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا فَسَادَهَا، وَلَوْ ذَبَحَهُ قَبْلَ النَّحْرِ لَمْ يُجْزِهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُجْزِيهِ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وَلَا يَجُوزُ الْحَلْقُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت مَا سُقْت الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً». وَلَوْ كَانَ ذَبْحُ الْهَدْيِ جَائِزًا قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ لَذَبَحَهُ وَجَعَلَهَا حِينَئِذٍ عُمْرَةً. وَقَالَ: «إنِّي لَبَّدْت رَأْسِي وَقَلَّدْت هَدْيِي فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ». [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ] الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ ثَلَاثِينَ: إذَا لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَذَلِكَ بِأَنْ يَصُومَ مِنْ إحْرَامِهِ بِالْحَجِّ إلَى يَوْمِ عَرَفَةَ، هَذِهِ حَقِيقَتُهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصُومُهُ فِي إحْرَامِهِ بِالْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ إحْرَامَيْ الْمُتَمَتِّعِ، فَجَازَ صَوْمُ الْأَيَّامِ فِيهِ كَإِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ. وَدَلِيلُنَا {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] فَإِذَا صَامَهُ فِي الْعُمْرَةِ فَقَدْ أَدَّاهُ قَبْلَ وَقْتِهِ فَلَمْ يُجْزِهِ. قَالَ الْقَاضِي: إذَا ثَبَتَ هَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يَصُومُهَا قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ لِيَكُونَ يَوْمَ عَرَفَةَ

مُفْطِرًا، فَذَلِكَ اتِّبَاعٌ لِلسُّنَّةِ وَأَقْوَى عَلَى الْعِبَادَةِ. وَلَا يَخْلُو الْمُتَمَتِّعُ أَنْ يَجِدَ الْهَدْيَ أَوْ لَا يَجِدَهُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ وَعَلِمَ اسْتِمْرَارَ الْعَدَمِ إلَى آخِرِ الْحَجِّ صَامَ مِنْ أَوَّلِهِ؛ وَإِنْ رَجَاهُ آخِرَهُ إلَى مِقْدَارِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ قَبْلَ عَرَفَةَ فَيَصُومُهُ حِينَئِذٍ لِتَقَعَ الْأَيَّامُ مُصَوَّمَةً فِي الْحَجِّ، وَيَخْلُوَ يَوْمَ عَرَفَةَ عَنْ الصَّوْمِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عِنْدِي عَلَى أَصْلٍ؛ وَهُوَ مَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَيَّامَ الْحَجِّ، وَيَحْتَمِلُ مَوْضِعَ الْحَجِّ؛ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ أَيَّامَ الْحَجِّ فَهَذَا الْقَوْلُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ آخِرَ أَيَّامِ الْحَجِّ يَوْمُ النَّحْرِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ أَيَّامِ الْحَجِّ أَيَّامَ الرَّمْيِ؛ لِأَنَّ الرَّمْيَ مِنْ عَمَلِ الْحَجِّ خَالِصًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَرْكَانِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَوْضِعَ الْحَجِّ صَامَهُ مَا دَامَ بِمَكَّةَ فِي أَيَّامِ مِنًى، وَهُوَ قَوْلُ عُرْوَةَ، وَيَقْوَى جِدًّا، وَقَدْ رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ: " كَانَتْ عَائِشَةُ تَصُومُ أَيَّامَ مِنًى، وَكَانَ أَبِي يَصُومُهَا "، وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَعَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَا: " لَمْ يُرَخَّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ إلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ ". خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ إقَامَتِهِ إلَّا بِمِقْدَارِهَا؛ يُؤَكِّدُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ أَيَّامَ الْحَجِّ لَقَالَ: إذَا أَحْلَلْتُمْ أَوْ فَرَغْتُمْ، فَكَانَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] أَيْ: عَنْ مَوْضِعِ الْحَجِّ بِإِتْمَامِ أَفْعَالِهِ. وَبِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ وُجُوبُ الصَّوْمِ لِعَدَمِ الْهَدْيِ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ مُنَادِيًا يُنَادِي أَنَّ أَيَّامَ مِنًى أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ». قُلْنَا: إنْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَامًّا فَقَدْ جَاءَ الْخَبَرُ الصَّحِيحُ بِالتَّخْصِيصِ لِلْمُتَمَتِّعِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ.

مسألة قوله تعالى إذا رجعتم

[مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى إذَا رَجَعْتُمْ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى: {إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196]: يَعْنِي إلَى بِلَادِكُمْ فِي قَوْلِ مَالِكٍ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْكِتَابِ: إذَا رَجَعَ مِنْ مِنًى. قَالَ الْقَاضِي: وَتَحْقِيقُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] إنْ كَانَ تَخْفِيفًا وَرُخْصَةً فَيَجُوزُ تَقْدِيمُ الرُّخَصِ وَتَرْكُ الرِّفْقِ فِيهَا إلَى الْعَزِيمَةِ إجْمَاعًا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ تَوْقِيتًا فَلَيْسَ فِيهِ نَصٌّ وَلَا ظَاهِرٌ أَنَّهُ أَرَادَ الْبِلَادَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ فِي الْأَغْلَبِ وَالْأَظْهَرِ فِيهِ أَنَّهُ الْحَجُّ. [مَسْأَلَةٌ حَاضِرُو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ: مَنْ حَاضِرُو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؟ فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَهْلُ الْحَرَمِ. الثَّانِي: مَكَّةُ وَمَا قَرُبَ مِنْهَا كَذِي طُوًى. الثَّالِثُ: أَهْلُ عَرَفَةَ؛ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ. الرَّابِعُ: مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ. الْخَامِسُ: مَنْ هُوَ فِي مَسَافَةِ لَا تُقْصَرُ الصَّلَاةُ فِيهَا؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ. وَلِكُلٍّ وَجْهٌ سَرَدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَالْفُرُوعِ. وَالصَّحِيحُ فِيهِ مَنْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ فَهُوَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ] ٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 197]. فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَعْدِيدِ أَشْهُرِ الْحَجِّ: وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: شَوَّالٌ، وَذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ كُلُّهُ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَقَتَادَةُ، وَطَاوُسٌ، وَمَالِكٌ. الثَّانِي: وَعَشْرَةُ أَيَّامٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ؛ قَالَهُ مَالِكٌ أَيْضًا، وَأَبُو حَنِيفَةَ. الثَّالِثُ: وَعَشْرُ لَيَالٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالشَّافِعِيُّ. الرَّابِعُ: إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛ قَالَهُ مَالِكٌ أَيْضًا. فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ ذُو الْحِجَّةِ كُلُّهُ أَخَذَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَالتَّعْدِيدُ لِلثَّلَاثَةِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ قَالَ: إنَّ الطَّوَافَ وَالرَّمْيَ فِي الْعَقَبَةِ رُكْنَانِ يُفْعَلَانِ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ. وَمَنْ قَالَ: عَشْرُ لَيَالٍ قَالَ: إنَّ الْحَجَّ يَكْمُلُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ لِصِحَّةِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَهُوَ الْحَجُّ كُلُّهُ. وَمَنْ قَالَ: آخِرَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ رَأَى أَنَّ الرَّمْيَ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَشَعَائِرِهِ، وَبَعْضُ الشَّهْرِ يُسَمَّى شَهْرًا لُغَةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَائِدَةُ مَنْ جَعَلَهُ ذَا الْحِجَّةِ كُلَّهُ أَنَّهُ إذَا أَخَّرَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ إلَى آخِرِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ بِهِ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ. وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَهَا وَتَنْصِيصِهِ عَلَيْهَا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَهَا كَذَلِكَ فِي مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَاسْتَمَرَّتْ عَلَيْهِ الْحَالُ إلَى أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَبَقِيَتْ كَذَلِكَ حَتَّى كَانَتْ الْعَرَبُ تَرَى أَنَّ الْعُمْرَةَ فِيهَا مِنْ

مسألة تقدير قوله تعالى الحج أشهر معلومات

أَفْجَرِ الْفُجُورِ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ تُغَيِّرُهَا فَتُنْسِئُهَا وَتُقَدِّمُهَا حَتَّى عَادَتْ يَوْمَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ إلَى حَدِّهَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَأْثُورِ الْمُنْتَقَى: «إنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا» الْحَدِيثَ. الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ التَّمَتُّعَ، وَهُوَ ضَمُّ الْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ بَيَّنَ أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ لَيْسَتْ جَمِيعَ الشُّهُورِ فِي الْعَامِ، وَإِنَّمَا هِيَ الْمَعْلُومَاتُ مِنْ لَدُنْ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَبَيَّنَ قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]. أَنَّ جَمِيعَهَا لَيْسَ الْحَجُّ تَفْصِيلًا لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ تَخْصِيصًا لِبَعْضِهَا بِذَلِكَ، وَهِيَ شَوَّالُ وَذُو الْقِعْدَةِ وَجَمِيعُ ذِي الْحِجَّةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَصَحِيحُ قَوْلِ عُلَمَائِنَا؛ فَلَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا مَنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْعَامِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا مَنْ أَتَى بِالْعُمْرَةِ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ الْمَخْصُوصَةِ. [مَسْأَلَةٌ تَقْدِيرُ قَوْله تَعَالَى الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِهَا؛ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَسِوَاهُ: تَقْدِيرُهَا الْحَجُّ حَجُّ أَشْهُرٍ مَعْلُومَاتٍ، وَهَذَا التَّقْدِيرُ مِنْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الْإِحْرَامَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ كَمَا لَا يَرَى أَحَدٌ الْإِحْرَامَ قَبْلَ وَقْتِ الصَّلَاةِ بِهَا. [وَقَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ: أَشْهُرُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ]، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ لُغَةً فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ وَعَيَّنَّاهُ فِقْهًا [فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ أَنَّ النِّيَّةَ تَكْفِي بَاطِنًا فِي الْتِزَامِهِ].

مسألة قوله تعالى فمن فرض فيهن الحج

[مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197]: الْمَعْنَى الْتَزَمَهُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ فَرَضَ عَلَيْهِ بِالنِّيَّةِ قَصْدًا بَاطِنًا، وَبِالْإِحْرَامِ فِعْلًا ظَاهِرًا، وَبِالتَّلْبِيَةِ نُطْقًا مَسْمُوعًا؛ قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي التَّلْبِيَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ أَنَّ النِّيَّةَ تَكْفِي بَاطِنًا فِي الْتِزَامِهِ عَنْ فِعْلٍ أَوْ نُطْقٍ، وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ كَمَا قَدَّمْنَا مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ: إنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَ الْإِحْرَامِ بِهَذِهِ الْأَشْهُرِ، فَلَا يُقَدَّمُ عَلَيْهَا، وَأَبَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ. وَالْمَسْأَلَةُ مُشْكِلَةٌ مُعْضِلَةٌ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْبَيَانَ فِيهَا، وَأَوْضَحْنَا لُبَابَهُ فِي كِتَابِ التَّلْخِيصِ، وَأَنَّ الْقَوْلَ فِيهَا دَائِرٌ مِنْ قِبَلِ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ رُكْنٌ مِنْ الْحَجِّ مُخْتَصٌّ بِزَمَانِهِ، وَمُعَوَّلُنَا عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ، وَهُنَاكَ تَبَيَّنَ التَّرْجِيحُ بَيْنَ النَّظَرَيْنِ، وَظَهَرَ أَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ فِي الْآيَةِ مِنْ الْقَوْلَيْنِ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} [البقرة: 197]: الرَّفَثُ: كُلُّ قَوْلٍ يَتَعَلَّقُ بِذِكْرِ النِّسَاءِ؛ يُقَالُ: رَفَثَ يَرْفُثُ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَضَمِّهَا. وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ مِنْ الْجِمَاعِ وَالْمُبَاشَرَةِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ يَرَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ إلَّا إذَا رُوجِعَ بِهِ النِّسَاءُ، وَأَمَّا إذَا ذَكَرَهُ الرَّجُلُ مُفْرِدًا عَنْهُنَّ لَمْ يَدْخُلْ فِي النَّهْيِ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّ الْحَجَّ مُنِعَ فِيهِ مِنْ التَّلَفُّظِ بِالنِّكَاحِ، وَهِيَ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، فَكَيْفَ بِالِاسْتِرْسَالِ عَلَى الْقَوْلِ يُذْكَرُ كُلُّهُ، وَهَذِهِ بَدِيعَةٌ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} [البقرة: 197]: أَرَادَ نَفْيَهُ مَشْرُوعًا لَا مَوْجُودًا، فَإِنَّا نَجِدُ الرَّفَثَ فِيهِ وَنُشَاهِدُهُ. وَخَبَرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ بِخِلَافِ مُخْبِرِهِ، فَإِنَّمَا يَرْجِعُ النَّفْيُ إلَى وُجُودِهِ مَشْرُوعًا لَا إلَى وُجُودِهِ مَحْسُوسًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228].

مسألة حصول الوطء في الحج

مَعْنَاهُ شَرْعًا لَا حِسًّا، فَإِنَّا نَجِدُ الْمُطَلَّقَاتِ لَا يَتَرَبَّصْنَ، فَعَادَ النَّفْيُ إلَى الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، لَا إلَى الْوُجُودِ الْحِسِّيِّ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] إذَا قُلْنَا: إنَّهُ وَارِدٌ فِي الْآدَمِيِّينَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَمَسُّهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِشَرْعٍ؛ فَإِنْ وُجِدَ الْمَسُّ فَعَلَى خِلَافِ حُكْمِ الشَّرْعِ، وَهَذِهِ الدَّقِيقَةُ هِيَ الَّتِي فَاتَتْ الْعُلَمَاءَ فَقَالُوا: إنَّ الْخَبَرَ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى النَّهْيِ، وَمَا وُجِدَ ذَلِكَ قَطُّ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُوجَدَ فَإِنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً وَيَتَضَادَّانِ وَصْفًا. [مَسْأَلَةٌ حُصُول الْوَطْءُ فِي الْحَجِّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: إذَا وَقَعَ الْوَطْءُ فِي الْحَجِّ أَفْسَدَهُ؛ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ كَالْأَكْلِ فِي الصَّوْمِ أَوْ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ؛ فَإِنْ وَقَعَتْ الْمُبَاشَرَةُ لَمْ تُفْسِدْهُ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا لِكَوْنِهَا دَاعِيَةً إلَى الْجِمَاعِ، كَمَا حَرَّمَ الطِّيبَ وَالنِّكَاحَ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ وَلَا يَخْطُبُ»، وَلَوْ وُجِدَ الطِّيبُ وَالنِّكَاحُ لَمْ يَفْسُدْ الْحَجُّ، فَكَذَلِكَ بِالْمُبَاشَرَةِ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَلَا فُسُوقَ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا فُسُوقَ} [البقرة: 197]: فِيهِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ؛ أُمَّهَاتُهَا ثَلَاثٌ: الْأَوَّلُ: جَمِيعُ الْمَعَاصِي قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ».

الثَّانِي: أَنَّهُ قَتْلُ الصَّيْدِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ الذَّبْحُ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَخْلُو عَنْ ذَبْحٍ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَذْبَحُونَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ فِسْقًا، فَشَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِوَجْهِهِ نُسُكًا. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ جَمِيعُهَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحِ: «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ». وَقَالَ: «الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الْجَنَّةُ». فَقَالَ الْفُقَهَاءُ: الْحَجُّ الْمَبْرُورُ، هُوَ الَّذِي لَمْ يَعْصِ اللَّهَ فِي أَثْنَاءِ أَدَائِهِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْحَجُّ الْمَبْرُورُ هُوَ الَّذِي لَمْ يَعْصِ اللَّهُ بَعْدَهُ. وَقَدْ رَوَيْنَا فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي ذَرٍّ: «مَنْ حَجّ ثُمَّ لَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ» بِقَوْلِهِ: ثُمَّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة قوله تعالى ولا جدال في الحج

[مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]: أَرَادَ لَا جِدَالَ فِي وَقْتِهِ؛ فَإِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَعَادَ بِذَلِكَ إلَى يَوْمِهِ وَوَقْتِهِ. وَقِيلَ: لَا جِدَالَ فِي مَوْضِعِهِ؛ فَإِنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ كَانَ مِنْ الْحُمْسِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحٌ. وَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْجِدَالَ فِي الْوَجْهَيْنِ بَيْنَ الْخَلْقِ، فَلَا يَكُونُ إلَى الْقِيَامَةِ؛ وَلِهَذَا قَرَأَهُ الْعَامَّةُ وَحْدَهُ بِنَصَبِ اللَّامِ عَلَى التَّبْرِئَةِ دُونَ الْكَلِمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ " مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ ". [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]. أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّزَوُّدِ مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ؛ فَإِنْ كَانَ ذَا حِرْفَةٍ تَنْفُقُ فِي الطَّرِيقِ، أَوْ سَائِلًا فَلَا خِطَابَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا خَاطَبَ اللَّهُ تَعَالَى أَهْلَ الْأَمْوَالِ الَّذِينَ كَانُوا يَتْرُكُونَ أَمْوَالَهُمْ وَيَخْرُجُونَ بِغَيْرِ زَادٍ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ؛ وَالتَّوَكُّلُ لَهُ شُرُوطٌ بَيَانُهَا فِي مَوْضِعِهَا يَخْرُجُ مَنْ قَامَ بِهَا بِغَيْرِ زَادٍ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْخِطَابِ. [وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ] فَإِنَّهُ خَرَجَ عَلَى الْأَغْلَبِ مِنْ الْخَلْقِ وَهُمْ الْمُقَصِّرُونَ عَنْ دَرَجَةِ التَّوَكُّلِ الْغَافِلُونَ عَنْ حَقَائِقِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة السَّابِعَة وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ] ْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 198]. فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ:

مسألة قوله تعالى فإذا أفضتم من عرفات

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " كَانَتْ عُكَاظٌ وَمَجَنَّةُ وَذُو الْمَجَازِ أَسْوَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَتَأَثَّمُوا فِي الْإِسْلَامِ أَنْ يَتَّجِرُوا فِيهَا، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] يَعْنِي: فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التِّجَارَةِ فِي الْحَجِّ لِلْحَاجِّ مَعَ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ، وَأَنَّ الْقَصْدَ إلَى ذَلِكَ لَا يَكُونُ شِرْكًا، وَلَا يَخْرُجُ بِهِ الْمُكَلَّفُ عَنْ رَسْمِ الْإِخْلَاصِ الْمُفْتَرَضِ عَلَيْهِ، خِلَافًا لِلْفُقَرَاءِ أَنَّ الْحَجَّ دُونَ تِجَارَةٍ أَفْضَلُ أَجْرًا. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة: 198]: الْإِفَاضَةُ: السُّرْعَةُ بِالدَّفْعِ، هَذَا أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ، لَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ هَاهُنَا دَفْعٌ، وَهِيَ حَقِيقَةُ الْإِفَاضَةِ، وَالْإِسْرَاعُ هَيْئَةٌ فِي الْإِفَاضَةِ لَا حَقِيقَةَ لَهَا، ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «كَانَ إذَا دَفَعَ يَسِيرُ الْعَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ». وَرُوِيَ «عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ فَسَمِعَ وَرَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِالْإِبْضَاعِ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ». [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى مِنْ عَرَفَاتٍ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة: 198]: مَوْضِعٌ مَعْلُومُ الْحُدُودِ، مَشْهُورٌ عَظِيمُ الْقَدْرِ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْحَجُّ عَرَفَةَ ثَلَاثًا، مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ». وَرَوَيَا وَمَعَهُمَا أَبُو دَاوُد أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ مُضَرِّسٍ الطَّائِيَّ قَالَ: «أَتَيْت النَّبِيَّ

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَوْقِفِ يَعْنِي بِجَمْعٍ فَقُلْت: جِئْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ جَبَلِ طَيِّئٍ، أَكَلَلْت مَطِيَّتِي، وَأَتْعَبْت نَفْسِي، وَاَللَّهِ مَا تَرَكْت مِنْ جَبَلٍ إلَّا وَقَفْت عَلَيْهِ، فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ أَدْرَكَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ، وَأَتَى عَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ». وَهَذَا صَحِيحٌ يَلْزَمُ الْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا إخْرَاجُهُ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ، وَسَتَرَوْنَهُ هُنَالِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: هَذَا الْقَوْلُ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ يَقْتَضِي جَوَازَ عُمُومِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ كُلِّهَا وَإِجْزَاءَهُ، وَقَدْ «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَقَفْت هَاهُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ. وَنَحَرْت هَاهُنَا وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، وَوَقَفْت هَاهُنَا وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ» خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَى النَّسَائِيّ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ عَلَى قُزَحَ، فَقَالَ: هَذَا قُزَحُ، وَهَذَا الْمَوْقِفُ، وَجَمْعٌ، كُلُّهَا مَوْقِفٌ». وَرَوَى مُسْلِمٌ «أَنَّ قُبَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى إذَا زَاغَتْ الشَّمْسُ خَرَجَ، فَرُحِلَتْ لَهُ، فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي فَخَطَبَ النَّاسَ. الْحَدِيثَ». وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ».

مسألة وقت الإفاضة

[مَسْأَلَةٌ وَقْتَ الْإِفَاضَةِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: لَمْ يُبَيِّنْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ «وَقْتَ الْإِفَاضَةِ، وَبَيَّنَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفِعْلِهِ، فَإِنَّهُ وَقَفَ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ قَلِيلًا، وَذَهَبَتْ الصُّفْرَةُ، وَغَابَ الْقُرْصُ». خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ؛ فَكَانَ بَيَانًا لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَقَالَتْ الْمَالِكِيَّةُ: الْفَرْضُ الْوُقُوفُ بِاللَّيْلِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: الْوُقُوفُ بِالنَّهَارِ. وَقَالَ ابْنُ حَنْبَلٍ: لَيْلًا أَوْ نَهَارًا عَلَى حَدِيثِ عُرْوَةَ. وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَغَيْرِهَا. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة: 198]: رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِي الصَّحِيحِ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ بِعَرَفَةَ حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ، ثُمَّ دَفَعَ فَأَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى فِيهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ لَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، فَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ الصُّبْحَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَدَعَا وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ وَوَحَّدَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا، ثُمَّ دَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ» خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْد المشعر الْحَرَامِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَالَ قَوْمٌ: قَوْله تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198]: إشَارَةٌ إلَى الصَّلَاةِ بِهِ دُونَ أَنْ تُفْعَلَ فِي الطَّرِيقِ؛ فَإِنْ الْوَقْتُ أَخَذَهُ بِعَرَفَةَ وَتَمَادَى عَلَيْهِ الْوُجُوبُ فِي الطَّرِيقِ، فَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُصَلِّيَ، وَكَذَلِكَ «قَالَ أُسَامَةُ: الصَّلَاةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الصَّلَاةُ أَمَامَك حَتَّى نَزَلَ الْمُزْدَلِفَةَ فَجَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِيهَا»، خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ، حَتَّى قَالَ عُلَمَاؤُنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ: إنْ صَلَّاهَا قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ تَجُزْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصَّلَاةُ أَمَامَك»، فَجَعَلَهُ لَهَا حَدًّا.

مسألة المبيت بالمزدلفة

[مَسْأَلَةٌ الْمَبِيتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَيْسَ الْمَبِيتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ رُكْنًا فِي الْحَجِّ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ: هُوَ رُكْنٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198]؛ وَهَذَا لَا يَصْلُحُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْمَبِيتِ، وَإِنَّمَا فِيهِ مُجَرَّدُ الذِّكْرِ. الثَّانِي: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ لِعُرْوَةِ بْنِ مُضَرِّسٍ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ إجْزَاءَ الْحَجِّ مَعَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ دُونَ الْمَبِيتِ بِالْمُزْدَلِفَةِ». [مَسْأَلَةٌ مَكَان الْوُقُوف فِي الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ كُلُّهُ مَوْقِفٌ إلَّا بَطْنَ مُحَسِّرٍ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفُ، وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ». رَوَاهُ مَالِكٌ بَلَاغًا، وَأَسْنَدَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ، وَمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ، وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ». [الْآيَةُ الثَّامِنَةُ وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ] قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: «فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إلَى مِنًى، فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ، وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ، ثُمَّ

مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ، وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعْرٍ فَضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا تَشُكُّ قُرَيْشٌ إلَّا أَنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصْنَعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا. .» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْإِفَاضَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مِنْ عَرَفَاتٍ مُخَالَفَةً لِقُرَيْشٍ؛ قَالَهُ الْجَمَاعَةُ. الثَّانِي: الْمُرَادُ بِهِ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ إلَى مِنًى؛ قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَإِنَّمَا صَارَ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ رَأَى اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْإِفَاضَةَ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْوُقُوفَ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَالْإِفَاضَةُ الَّتِي بَعْدَ الْوُقُوفِ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ هِيَ الْإِفَاضَةُ إلَى مِنًى. وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا بِأَرْبَعَةِ أَجْوِبَةً: الْأَوَّلُ: أَنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، التَّقْدِيرُ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ مَعَ النَّاسِ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ. وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ؛ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. الثَّانِي: أَنْ ثُمَّ بِمَعْنَى الْوَاوِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد: 17]. الثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَاهُ: ثُمَّ ذَكَرْنَا لَكُمْ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، فَيَرْجِعُ التَّعْقِيبُ إلَى ذِكْرِ وُجُودِ الشَّيْءِ لَا إلَى نَفْسِ وُجُودِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} [الأنعام: 154]. الْمَعْنَى: ثُمَّ أَخْبَرْنَاكُمْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ؛ فَيَكُونُ التَّعْقِيبُ فِي الْإِخْبَارِ لَا فِي الْإِيتَاءِ. الرَّابِعُ: وَهُوَ التَّحْقِيقُ أَنَّ الْمَعْنَى فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ: يَا مَعْشَرَ مَنْ حَلَّ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ. وَأَخَّرَ اللَّهُ تَعَالَى الْخِطَابَ إلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ لِيَعُمَّ مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ وَمَنْ لَمْ يَقِفْ حَتَّى يَمْتَثِلَهُ مَعَ مَنْ وَقَفَ.

الآية التاسعة والأربعون قوله تعالى فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله

[الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ] َ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة: 200]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ حَقِيقَةَ الْقَضَاءِ وَالْأَدَاءِ، وَخُصُوصًا فِي رِسَالَةِ نُزُولِ الْوَافِدِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَدَاءِ؛ وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ الْعِبَادَاتِ فِي وَقْتِهَا، وَهِيَ حَقِيقَتُهُ الَّتِي خَفِيَتْ عَلَى النَّاسِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْمَنَاسِكِ هَاهُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الذَّبْحُ. الثَّانِي: أَنَّهَا شَعَائِرُ الْحَجِّ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهَا الرَّمْي أَوْ جَمِيعُ مَعَانِي الْحَجِّ، «لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ». وَالْمَعْنَى بِالْآيَةِ كُلِّهَا: إذَا فَعَلْتُمْ مَنْسَكًا مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ فَاذْكُرُوا اللَّهَ تَعَالَى: كَالتَّلْبِيَةِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَالتَّكْبِيرِ عِنْدَ الرَّمْيِ، وَالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ. [الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ خَمْسِينَ قَوْله تَعَالَى وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ] ٍ} [البقرة: 203] فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ هَاهُنَا التَّكْبِيرُ. وَأَمَّا التَّلْبِيَةُ فَاعْلَمُوا أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ إلَى رَمْيِ الْجَمْرَةِ بِالْعَقَبَةِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ».

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَحْدِيدِ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَتَعْيِينِهَا، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ غَرِيبَةٌ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: أَيَّامُ الرَّمْيِ مَعْدُودَاتٌ، وَأَيَّامُ النَّحْرِ مَعْلُومَاتٌ؛ فَالْيَوْمُ الْأَوَّلُ مَعْلُومٌ غَيْرُ مَعْدُودٍ، وَالْيَوْمَانِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ مَعْلُومَانِ مَعْدُودَانِ، وَالْيَوْمُ الرَّابِعُ مَعْدُودٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ؛ وَاَلَّذِي أَصَارَهُمْ إلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] بَعْدَ قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] أَنَّهَا أَيَّامُ مِنًى، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ التَّكْبِيرُ عِنْدَ الرَّمْيِ فِيهَا. وَاعْلَمُوا أَنَّ أَيَّامَ مِنًى ثَلَاثَةٌ، رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ. أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ، فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ»، فَلَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة: 198] وَذَلِكَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَذَلِكَ الْغَدُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَسْبَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ أَفِيضُوا يَعْنِي: إلَى مِنًى عَلَى التَّقْدِيرِ الْمُتَقَدِّمِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْآيَةِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، فَصَارَ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَوَّلُهُ لِلْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَآخِرُهُ لِمِنًى، فَلَمَّا لَمْ يَخْتَصَّ بِمِنًى لَمْ يُعَدَّ فِيهَا، وَصَارَتْ أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةً سِوَى يَوْمِ النَّحْرِ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ الْجَمْعِ فِي الْأَظْهَرِ عِنْدً الْإِطْلَاقِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ بِالْعَمَلِ الَّذِي يَرْفَعُ الْإِشْكَالَ قَالَ حِينَئِذٍ عُلَمَاؤُنَا: الْيَوْمُ الْأَوَّلُ غَيْرُ مَعْدُودٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْأَيَّامِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِمِنًى فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] وَلَا مِنْ الَّتِي عَنَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ»، وَكَانَ مَعْلُومًا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 28]. وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّحْرُ، وَكَانَ النَّحْرُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ يَوْمُ الْأَضْحَى وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الرَّابِعِ نَحْرٌ؛ فَكَانَ الرَّابِعُ غَيْرَ مُرَادٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28]؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْحَرُ فِيهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ، وَكَانَ مِمَّا يُرْمَى فِيهِ؛ فَصَارَ مَعْدُودًا فِي ذَلِكَ لِأَجْلِ الرَّمْيِ، غَيْرَ مَعْلُومٍ لِعَدَمِ النَّحْرِ فِيهِ.

وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ مَعْدُودٌ بِالرَّمْيِ مَعْلُومٌ بِالذَّبْحِ، لَكِنَّهُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا لَيْسَ مُرَادًا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203]. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا يَكُونُ كَمَا قُلْتُمْ يَوْمُ النَّحْرِ مُرَادًا فِي الْمَعْدُودَاتِ وَتَكُونُ الْمَعْدُودَاتُ أَرْبَعَةً وَالْمَعْلُومَاتُ ثَلَاثَةً؟ وَكَمَا يُعْطِي ذِكْرُ الْأَيَّامِ ثَلَاثَةً كَذَلِكَ يَقْتَضِي أَرْبَعَةً. فَالْجَوَابُ: أَنَّا لَا نَمْنَعُ أَنْ يُسَمَّى بِمَعْدُودٍ وَلَا بِمَعْلُومٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَعْدُودٍ مَعْلُومٌ، وَكُلَّ مَعْلُومٍ مَعْدُودٌ، لَكِنْ يُمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِذِكْرِ الْمَعْدُودَاتِ هَاهُنَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ كَمَا قَدَّمْنَا قَدْ اسْتَحَقَّ أَوَّلُهُ الْوُقُوفَ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَمِنْهُ تَكُونُ الْإِفَاضَةُ إلَى مِنًى؛ فَصَارَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ الْإِفَاضَةِ، وَبَعْدَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ». وَلَوْ كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ مَعْدُودًا مِنْهَا لَاقْتَضَى مُطْلَقُ هَذَا الْقَوْلِ لِمَنْ نَفَرَ فِي يَوْمِ ثَانِي النَّحْرِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْدُودٍ فِيهَا لَا قُرْآنًا وَلَا سُنَّةً، وَهَذَا مُنْتَهَى بَدِيعٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ الْعَشْرِ، وَرَوَوْا ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدْفَعُهُ؛ فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الذِّكْرِ: لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهِ هُوَ الْحَاجُّ، خُوطِبَ بِالتَّكْبِيرِ عِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ، فَأَمَّا غَيْرُ الْحَاجِّ فَهَلْ يَدْخُلُ فِيهِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ هُوَ أَيْضًا خِطَابٌ لِلْحَاجِّ بِغَيْرِ التَّكْبِيرِ عِنْدَ الرَّمْيِ؟ فَنَقُولُ: أَجْمَعَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ وَالْمَشَاهِيرُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّكْبِيرُ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَخُصُوصًا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ؛ فَيُكَبِّرُ عِنْدَ انْقِضَاءِ كُلِّ صَلَاةٍ، كَانَ الْمُصَلِّي فِي جَمَاعَةٍ أَوْ وَحْدَهُ يُكَبِّرُ تَكْبِيرًا ظَاهِرًا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ. لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُكَبِّرُ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ عَرَفَةَ إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛ قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ صَاحِبُهُ [وَالْمُزَنِيُّ]. وَالثَّانِي: مِثْلُهُ فِي الْأَوَّلِ، وَيَقْطَعُ الْعَصْرَ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. الثَّالِثُ: يُكَبِّرُ مِنْ ظُهْرِ يَوْمِ النَّحْرِ إلَى عَصْرِ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛ قَالَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ. الرَّابِعُ: يُكَبِّرُ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ إلَى بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. فَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ يُكَبِّرُ عَرَفَةَ وَيَقْطَعُ الْعَصْرَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] وَأَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ، وَقَدْ قَالَ هَؤُلَاءِ: يُكَبِّرُ فِي يَوْمَيْنِ؛ فَتَرَكُوا الظَّاهِرَ لِغَيْرِ دَلِيلٍ ظَاهِرٍ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ فَقَالَ: إنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة: 198] فَذِكْرُ عَرَفَاتٍ دَاخِلٌ فِي ذِكْرِ الْأَيَّامِ، وَهَذَا كَانَ يَصِحُّ لَوْ قَالَ يُكَبِّرُ مِنْ الْمَغْرِبِ يَوْمَ عَرَفَةَ، لِأَنَّ وَقْتَ الْإِفَاضَةِ حِينَئِذٍ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: يُكَبِّرُ يَوْمَ عَرَفَةَ مِنْ الظُّهْرِ، فَهُوَ ظَاهِرٌ فِي مُتَعَلِّقِ قَوْله تَعَالَى: {فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] لَكِنْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ عِنْدَ الْحُلُولِ بِمِنًى. وَمِنْ قَصَرَهُ عَلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَقَدْ بَيَّنَّا مَأْخَذَهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. وَالتَّحْقِيقِ أَنَّ التَّحْدِيدَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ظَاهِرٌ، وَأَنَّ تَعَيُّنَهَا ظَاهِرٌ أَيْضًا بِالرَّمْيِ، وَأَنَّ سَائِرَ أَهْلِ الْآفَاقِ تَبَعٌ لِلْحَاجِّ فِيهَا، وَلَوْلَا الِاقْتِدَاءُ بِالسَّلَفِ لَضَعُفَ مُتَابَعَةُ الْحَاجِّ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ أَهْلِ الْآفَاقِ إلَّا فِي التَّكْبِيرِ عِنْدَ الذَّبْحِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.

الآية الحادية والخمسون قوله تعالى ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا

[الْآيَة الْحَادِيَة وَالْخَمْسُونَ قَوْله تَعَالَى وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدنيا] وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204] فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: قَالَ قَوْمٌ: نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شُرَيْقٍ الثَّقَفِيِّ حَلِيفِ بَنِي زُهْرَةَ: وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ، وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، ثُمَّ خَرَجَ، وَقَالَ: اللَّهُ يَعْلَمُ إنِّي لَصَادِقٌ، ثُمَّ خَرَجَ وَمَرَّ بِزَرْعٍ لِقَوْمٍ وَحُمُرٍ، فَأَحْرَقَ الزَّرْعَ وَعَقَرَ الْحُمُرَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ صِفَةُ الْمُنَافِقِ، وَهُوَ أَقْوَى. [مَسْأَلَةٌ الْحَاكِمَ لَا يَعْمَلُ عَلَى ظَاهِرِ أَحْوَالِ النَّاسِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا دَلِيلٌ عَلَى أَنْ الْحَاكِمَ لَا يَعْمَلُ عَلَى ظَاهِرِ أَحْوَالِ النَّاسِ، وَمَا يَبْدُو مِنْ إيمَانِهِمْ وَصَلَاحِهِمْ حَتَّى يَبْحَثَ عَنْ بَاطِنِهِمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ مَنْ الْخَلْقِ مَنْ يُظْهِرُ قَوْلًا جَمِيلًا وَهُوَ يَنْوِي قَبِيحًا. وَأَنَا أَقُولُ: إنَّهُ يُخَاطِبُ بِذَلِكَ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ حَاكِمٍ وَغَيْرِهِ، وَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ أَلَّا يُقْبِلُ أَحَدٌ عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِ أَحَدٍ حَتَّى يَتَحَقَّقَ بِالتَّجْرِبَةِ، وَيَخْتَبِرُ بِالْمُخَالَطَةِ أَمْرَهُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلَه إلَّا اللَّهُ». وَفِي رِوَايَةٍ: «إنَّمَا أُمِرْت بِالظَّاهِرِ وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ».

مسألة قوله تعالى وهو ألد الخصام

فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْكَفِّ عَنْهُ وَعِصْمَتِهِ، فَإِنَّهُ يُكْتَفَى بِالظَّاهِرِ مِنْهُ فِي حَالَتِهِ، كَمَا قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: «فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا». وَأَمَّا فِي [حَدِيثِ] حَقِّ ثُبُوتِ الْمَنْزِلَةِ بِإِمْضَاءِ قَوْلِهِ عَلَى الْغَيْرِ فَلَا يُكْتَفَى بِظَاهِرِهِ حَتَّى يَقَعَ الْبَحْثُ عَنْهُ، وَيُخْتَبَرُ فِي تَقَلُّبَاتِهِ وَأَحْوَالِهِ. جَوَابٌ آخَرُ: وَذَلِكَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ حَيْثُ كَانَ إسْلَامُهُمْ سَلَامَتَهُمْ؛ فَأَمَّا وَقَدْ عَمَّ النَّاسَ الْفَسَادُ فَلَا. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204]: يَعْنِي: ذَا جِدَالٍ إذَا كَلَّمَك وَرَاجَعَك رَأَيْت لِكَلَامِهِ طَلَاوَةً وَبَاطِنُهُ بَاطِلٌ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِدَالَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِمَا ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ سَوَاءٌ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَبْغَضُ الرِّجَالِ إلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ». [الْآيَة الثَّانِيَة وَالْخَمْسُونَ قَوْله تَعَالَى وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّه] الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْخَمْسُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207] فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: نَزَلَتْ فِي الْجِهَادِ. الثَّانِي: فِيمَنْ يَقْتَحِمُ الْقِتَالَ؛ أَرْسَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَيْشًا فَحَاصَرُوا حِصْنًا

مسألة تعريض النفس للإذاية أو الهلكة في سبيل الله

فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ عَلَيْهِ فَقَاتَلَ فَقُتِلَ، فَقَالَ النَّاسُ: أَلْقَى بِيَدِهِ لِلتَّهْلُكَةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرُ فَقَالَ: كَذَبُوا؛ أَوْ لَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207] وَحَمَلَ هِشَامُ بْنُ عَامِرٍ عَلَى الصَّفِّ حَتَّى شَقَّهُ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207]. الثَّالِثُ: نَزَلَتْ فِي الْهِجْرَةِ وَتَرْكِ الْمَالِ وَالدِّيَارِ لِأَجْلِهَا؛ رُوِيَ أَنْ صُهَيْبًا أَخَذَهُ أَهْلُهُ وَهُوَ قَاصِدٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَافْتَدَى مِنْهُمْ بِمَالِهِ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ آخَرُ فَافْتَدَى مِنْهُ بِبَقِيَّةِ مَالِهِ، وَغَيْرُهُ عَمِلَ عَمَلَهُ فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ. الرَّابِعُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ قَالَهُ عُمَرُ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَاسْتَرْجَعَ، وَقَالَ: قَامَ رَجُلٌ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ فَقُتِلَ. وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ إذَا صَلَّى الصُّبْحَ دَخَلَ مِرْبَدًا لَهُ، فَأَرْسَلَ إلَى فِتْيَانٍ قَدْ قَرَءُوا الْقُرْآنَ، مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ أَخِي عَنْبَسَةَ فَقَرَءُوا الْقُرْآنَ، فَإِذَا كَانَتْ الْقَائِلَةُ انْصَرَفُوا. قَالَ: فَمَرُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ - وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 206 - 207] فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِبَعْضِ مَنْ كَانَ إلَى جَانِبِهِ: اقْتَتَلَ الرَّجُلَانِ. فَسَمِعَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا قَالَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ قُلْت؟ قَالَ: لَا شَيْءَ. قَالَ: مَاذَا قُلْت؟ قَالَ: فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: أَرَى هَذَا أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ مِنْ أَمْرِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَيَقُولُ هَذَا: وَأَنَا أَشْرِي نَفْسِي ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَيُقَاتِلُهُ، فَاقْتَتَلَ الرَّجُلَانِ. فَقَالَ عُمَرُ: لِلَّهِ تِلَادُك يَا ابْنَ عَبَّاسٍ. [مَسْأَلَة تعريض النَّفْسِ لِلْإِذَايَةِ أَوْ الْهَلَكَةِ فِي سَبِيل اللَّه] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذَا كُلُّهُ مِنْ الْأَقْوَالِ، لَا امْتِنَاعَ فِي أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِالْآيَةِ، دَاخِلًا فِي عُمُومِهَا، إلَّا أَنَّ مِنْهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، وَمِنْهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ؛ أَمَّا الْقَوْلُ: إنَّهَا فِي الْجِهَادِ وَالْهِجْرَةِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ.

الآية الثالثة والخمسون قوله تعالى يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين

وَأَمَّا اقْتِحَامُ الْقِتَالِ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّحِيحَ جَوَازُهُ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ إذَا خَافَ مِنْهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ سَقَطَ فَرْضُهُ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَهَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ اقْتِحَامُ الْغَرَرِ فِيهِ وَتَعْرِيضُ النَّفْسِ لِلْإِذَايَةِ أَوْ الْهَلَكَةِ؟ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. وَعُمُومُ هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [الْآيَة الثَّالِثَةُ وَالْخَمْسُونَ قَوْله تَعَالَى يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خير فَلِلْوَالِدِينَ] ِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 215] فِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الزَّكَاةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهَا؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ [كَانَتْ] مَوْضُوعَةً أَوَّلًا فِي الْأَقْرَبِينَ، ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ مَصْرِفَهَا فِي الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ. الثَّانِي: أَنَّهَا مُبَيِّنَةٌ مَصَارِفَ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، وَهُوَ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ النَّسْخَ دَعْوَى، وَشُرُوطُهُ مَعْدُومَةٌ هُنَا؛ وَصَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فِي الْأَقْرَبِينَ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي غَيْرِهِمْ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ؛ تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ. فَقَالَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ لِزَوْجِهَا: أَرَاك خَفِيفَ ذَاتِ الْيَدِ، فَإِنْ أَجْزَأَتْ عَنِّي فِيك صَرَفْتهَا إلَيْك. فَأَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَتْهُ، فَقَالَتْ: أَتُجْزِئُ الصَّدَقَةُ مِنِّي عَلَى زَوْجِي وَأَيْتَامٍ فِي حِجْرِي؟ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَك أَجْرَانِ: أَجْرُ الصَّدَقَةِ، وَأَجْرُ الْقَرَابَةِ». وَفِي رِوَايَةٍ: «زَوْجُك وَوَلَدُك أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْت عَلَيْهِمْ». وَرَوَى النَّسَائِيّ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا: أُمَّكَ وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، وَأَدْنَاك أَدْنَاك».

الآية الرابعة والخمسون قوله تعالى كتب عليكم القتال وهو كره لكم

وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «ابْدَأْ بِنَفْسِك فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا» وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحُنُوَّ عَلَى الْقَرَابَةِ أَبْلَغُ، وَمُرَاعَاةُ ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ أَوْقَعُ فِي الْإِخْلَاصِ. وَتَمَامُ الْمَسْأَلَةِ يَأْتِي بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [الْآيَة الرَّابِعَة وَالْخَمْسُونَ قَوْله تَعَالَى كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ] ْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهَا نَزَلَتْ فِي الصَّحَابَةِ وَهُمْ الْمُخَاطَبُونَ وَالْمَكْتُوبُ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ؛ قَالَهُ عَطَاءٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ. الثَّانِي: أَنَّهُ مَكْتُوبٌ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، لَكِنْ يَخْتَلِفُ الْحَالُ فِيهِ؛ فَإِنْ كَانَ الْإِسْلَامُ ظَاهِرًا فَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَإِنْ كَانَ الْعَدُوُّ ظَاهِرًا عَلَى مَوْضِعٍ؛ كَانَ الْقِتَالُ فَرْضًا عَلَى الْأَعْيَانِ، حَتَّى يَكْشِفَ اللَّهُ تَعَالَى مَا بِهِمْ؛ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ مُجَاشِعٍ قَالَ: «أَتَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَا وَأَخِي فَقُلْت: بَايِعْنِي عَلَى الْهِجْرَةِ. فَقَالَ: مَضَتْ الْهِجْرَةُ لِأَهْلِهَا. قُلْت: عَلَامَ تُبَايِعُنَا؟ قَالَ: عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ».

الآية الخامسة والخمسون قوله تعالى يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه

وَرَوَى الْأَئِمَّةُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا»، وَهَذِهِ الْآيَةُ كَانَتْ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ إبَاحَةِ الْقِتَالِ وَالْإِذْنِ فِيهِ، كَمَا تَقَدَّمَ. [الْآيَة الْخَامِسَة وَالْخَمْسُونَ قَوْله تَعَالَى يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْر الحرام قِتَالٍ فِيهِ] ِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217] اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي نَسْخِ هَذِهِ الْآيَةِ؛ فَكَانَ عَطَاءٌ يَحْلِفُ أَنَّهَا ثَابِتَةٌ؛ لِأَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي بَعْدَهَا عَامَّةٌ فِي الْأَزْمِنَةِ وَهَذَا خَاصٌّ؛ وَالْعَامُّ لَا يُنْسَخُ بِالْخَاصِّ بِاتِّفَاقٍ. وَقَالَ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ؛ وَاخْتَلَفُوا فِي النَّاسِخِ؛ فَقَالَ الزُّهْرِيُّ: نَسَخَهَا قَوْله تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36] وَقَالَ غَيْرُهُ: نَسَخَتْهَا: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] وَقَالَ غَيْرُهُ: نَسَخَهَا «غَزْوُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَقِيفًا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَإِغْزَاؤُهُ أَبَا عَامِرٍ إلَى أَوْطَاسَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ»؛ وَهَذِهِ أَخْبَارٌ ضَعِيفَةٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: نَسَخَتْهَا بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ عَلَى الْقِتَالِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ، وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلَغَهُ أَنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ بِمَكَّةَ، وَأَنَّهُمْ عَازِمُونَ عَلَى حَرْبِهِ، فَبَايَعَ عَلَى دَفْعِهِمْ لَا عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: نَسَخَهَا قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]

الآية السادسة والخمسون قوله تعالى ومن يرتدد منكم عن دينه

يَعْنِي أَشْهُرَ التَّسْيِيرِ، فَلَمْ يَجْعَلْ حُرْمَةً إلَّا لِزَمَانِ التَّسْيِيرِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ رَدٌّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ حِينَ أَعْظَمُوا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقِتَالَ وَالْحِمَايَةَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ؛ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ} [البقرة: 217] وَهِيَ الْكُفْرُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ؛ فَإِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ تَعَيَّنَ قِتَالُكُمْ فِيهِ. [الْآيَة السَّادِسَة وَالْخَمْسُونَ قَوْله تَعَالَى وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ] ِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217] اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْمُرْتَدِّ، هَلْ يُحْبِطُ عَمَلَهُ نَفْسُ الرِّدَّةِ أَمْ لَا يَحْبَطُ إلَّا عَلَى الْمُوَافَاةِ عَلَى الْكُفْرِ؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَحْبَطُ لَهُ عَمَلٌ إلَّا بِالْمُوَافَاةِ كَافِرًا. وَقَالَ مَالِكٌ: يَحْبَطُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ. وَيَظْهَرُ الْخِلَافُ فِي الْمُسْلِمِ إذَا حَجَّ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُهُ الْحَجُّ لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ حَبَطَ بِالرِّدَّةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ عَمَلَهُ بَاقٍ. وَاسْتَظْهَرَ عَلَيْهِ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] وَقَالُوا هُوَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُرَادُ بِهِ أُمَّتُهُ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَحِيلُ مِنْهُ الرِّدَّةُ شَرْعًا. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: بَلْ هُوَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى طَرِيقِ التَّغْلِيظِ عَلَى الْأَمَةِ، وَبَيَانُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى شَرَفِ مَنْزِلَتِهِ لَوْ أَشْرَكَ لَحَبِطَ عَمَلُهُ، فَكَيْف أَنْتُمْ؟ لَكِنَّهُ لَا يُشْرِكُ لِفَضْلِ مَرْتَبَتِهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30]؛ وَذَلِكَ لِشَرَفِ مَنْزِلَتِهِنَّ

الآية السابعة والخمسون قوله تعالى يسألونك عن الخمر والميسر

وَإِلَّا فَلَا يُتَصَوَّرُ إتْيَانُ فَاحِشَةٍ مِنْهُنَّ، صِيَانَةً لِصَاحِبِهِنَّ الْمُكَرَّمِ الْمُعَظَّمِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، حِينَ قَرَأَ: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم: 10]؛ وَاَللَّهِ مَا بَغَتْ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ، وَلَكِنَّهُمَا كَفَرَتَا. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّمَا ذَكَرَ الْمُوَافَاةَ شَرْطًا هَاهُنَا، لِأَنَّهُ عَلَّقَ عَلَيْهَا الْخُلُودَ فِي النَّارِ جَزَاءً، فَمَنْ وَافَى كَافِرًا خَلَّدَهُ اللَّهُ فِي النَّارِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَمَنْ أَشْرَكَ حَبِطَ عَمَلُهُ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى، فَهُمَا آيَتَانِ مُفِيدَتَانِ لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَحُكْمَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ، وَمَا خُوطِبَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ لِأَمَتِهِ حَتَّى يَثْبُتَ اخْتِصَاصُهُ بِهِ، وَمَا وَرَدَ فِي أَزْوَاجِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ فِيهِنَّ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ لَوْ تُصُوِّرَ لَكَانَ هَتْكًا لِحُرْمَةِ الدِّينِ وَحُرْمَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِكُلِّ هَتْكٍ حُرْمَةُ عِقَابٍ، وَيُنَزَّلُ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ مَنْ عَصَى فِي شَهْرٍ حَرَامٍ، أَوْ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ، أَوْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَإِنَّ الْعَذَابَ يُضَاعَفُ عَلَيْهِ بِعَدَدِ مَا هَتَكَ مِنْ الْحُرُمَاتِ، وَاَللَّهُ الْوَاقِي لَا رَبَّ غَيْرُهُ. [الْآيَة السَّابِعَة وَالْخَمْسُونَ قَوْله تَعَالَى يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ] ِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ عُمَرَ وَالصَّحِيحُ مُرْسَلٌ دُونَ ذِكْرِ " عَنْ " وَقَالَ بَدَلَهَا: عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانَ شِفَاءٍ " فَنَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219] فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانَ شِفَاءٍ " فَنَزَلَتْ الْآيَة الَّتِي فِي النِّسَاءِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]

مسألة تحقيق اسم الخمر ومعناه

فَدُعِيَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانَ شِفَاءٍ " فَنَزَلَتْ الْآيَة الَّتِي فِي الْمَائِدَة: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة: 91] فَدُعِيَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: انْتَهَيْنَا. [مَسْأَلَةٌ تَحْقِيقِ اسْمِ الْخَمْرِ وَمَعْنَاهُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَحْقِيقِ اسْمِ الْخَمْرِ وَمَعْنَاهُ: وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخَمْرَ شَرَابٌ يُعْتَصَرُ مِنْ الْعِنَبِ خَاصَّةً، وَمَا اُعْتُصِرَ مِنْ غَيْرِ الْعِنَبِ كَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ وَغَيْرِهِمَا يُقَالُ لَهُمَا نَبِيذٌ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ. الثَّانِي: أَنَّ الْخَمْرَ كُلُّ شَرَابٍ مَلَذٌّ مُطْرِبٌ، قَالَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ مَكَّةَ؛ وَتَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَحَادِيثَ لَيْسَ لَهَا خَطْمٌ وَلَا أَزْمَةٌ ذَكَرْنَاهَا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ، وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا. وَالصَّحِيحُ مَا رَوَى الْأَئِمَّةُ أَنَّ أَنَسًا قَالَ: " حُرِّمَتْ الْخَمْرُ يَوْمَ حُرِّمَتْ وَمَا بِالْمَدِينَةِ خَمْرُ الْأَعْنَابِ إلَّا قَلِيلٌ، وَعَامَّةُ خَمْرِهَا الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ ". خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى رِوَايَةٍ أَنَّ الصَّحَابَةَ إذْ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ يَوْمَئِذٍ خَمْرُ عِنَبٍ؛ وَإِنَّمَا كَانُوا يَشْرَبُونَ خَمْرَ النَّبِيذِ، فَكَسَرُوا دِنَانَهُمْ، وَبَادَرُوا الِامْتِثَالَ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ خَمْرٌ. وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: " إنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ نَزَلَ، وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ: الْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْعَسَلِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ ". وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْقَوْلَ فِي الْمَسْأَلَةِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ اشْتِقَاقًا وَأُصُولًا وَقُرْآنًا وَأَخْبَارًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمَيْسِرُ: مَا كُنَّا نَشْتَغِلُ بِهِ بَعْدَ أَنْ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَمَا حَرَّمَ اللَّهُ فِعْلَهُ وَجَهِلْنَاهُ حَمِدْنَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَشَكَرْنَاهُ.

مسألة قوله تعالى قل فيهما إثم كبير

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَلْ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَمْ لَا؟ قَالَ الْحَسَنُ: حُرِّمَتْ الْخَمْرُ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَتْ الْجَمَاعَةُ: حُرِّمَتْ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ آيَةَ الْمَائِدَةِ حَرَّمَتْهَا. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219]: وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ عُلَمَائِنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219] وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ} [الأعراف: 33] فَلَمَّا تَنَاوَلَ التَّحْرِيمُ الْإِثْمَ، وَكَانَ الْإِثْمُ مِنْ صِفَاتِ الْخَمْرِ وَجَبَ تَحْرِيمُهَا. وَهَذَا إنَّمَا كَانَ يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِهِ لَوْ كَانَ نُزُولُ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} [الأعراف: 33] فَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ بِتَحْرِيمٍ. [مَسْأَلَةٌ الْإِثْمُ فِي شَرب الْخَمْر] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: مَا هَذَا الْإِثْمُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِثْمَ مَا بَعْدَ التَّحْرِيمِ، وَالْمَنْفَعَةُ قَبْلَ التَّحْرِيمِ. الثَّانِي: أَنَّ إثْمَهَا كَانُوا إذَا شَرِبُوا سَكِرُوا فَسَبُّوا وَجَرَحُوا وَقَتَلُوا. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا إثْمٌ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَتَمَامُهَا فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219]: فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا رِبْحُ التِّجَارَةِ. وَالثَّانِي: السُّرُورُ وَاللَّذَّةُ. وَالثَّالِثُ: قَالَ قَوْمٌ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ: مَا فِيهَا مِنْ مَنْفَعَةِ الْبَدَنِ؛ لِحِفْظِ الصِّحَّةِ الْقَائِمَةِ أَوْ جَلْبِ الصِّحَّةِ الْفَانِيَةِ بِمَا تَفْعَلُهُ مِنْ تَقْوِيَةِ الْمَعِدَةِ وَسَرَيَانِهَا فِي الْأَعْصَابِ وَالْعُرُوقِ،

وَتَوَصُّلِهَا إلَى الْأَعْضَاءِ الْبَاطِنَةِ الرَّئِيسِيَّةِ، وَتَجْفِيفِ الرُّطُوبَةِ، وَهَضْمِ الْأَطْعِمَةِ الثِّقَالِ وَتَلْطِيفِهَا. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ هِيَ الرِّبْحُ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْلِبُونَهَا مِنْ الشَّامِ بِرُخْصٍ فَيَبِيعُونَهَا فِي الْحِجَازِ بِرِبْحٍ كَثِيرٍ. وَأَمَّا اللَّذَّةُ: فَهِيَ مُضِرَّةٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ؛ لِأَنَّ مَا تَجْلِبُهُ مِنْ اللَّذَّةِ لَا يَفِي بِمَا تُذْهِبُهُ مِنْ التَّحْصِيلِ وَالْعَقْلِ، حَتَّى إنَّ الْعَبِيدَ الْأَدْنِيَاءَ وَأَهْلَ النَّقْصِ كَانُوا يَتَنَزَّهُونَ عَنْ شُرْبِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ إذْهَابِ شَرِيفِ الْعَقْلِ، وَإِعْدَامُهَا فَائِدَةُ التَّحْصِيلِ وَالتَّمْيِيزِ. وَأَمَّا مَنْفَعَةُ إصْلَاحِ الْبَدَنِ: فَقَدْ بَالَغَ فِيهَا الْأَطِبَّاءُ حَتَّى إنِّي تَكَلَّمَتْ يَوْمًا مَعَ بَعْضِهِمْ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لِي: لَوْ جُمِعَ سَبْعُونَ عَقَارًا مَا وَفَى بِالْخَمْرِ فِي مَنَافِعِهَا، وَلَا قَامَ فِي إصْلَاحِ الْبَدَنِ مَقَامَهَا. وَهَذَا مِمَّا لَا نَشْتَغِلُ بِهِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الَّذِينَ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ عَلَيْهِمْ لَمْ يَكُونُوا يَقْصِدُونَ بِهِ التَّدَاوِيَ حَتَّى نَعْتَذِرَ عَنْ ذَلِكَ لَهُمْ. الثَّانِي: أَنَّ الْبِلَادَ الَّتِي نَزَلَ أَصْلُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فِيهَا كَانَتْ بِلَادَ جُفُوفٍ وَحَرٍّ؛ وَضَرَرُ الْخَمْرِ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَتِهَا؛ وَإِنَّمَا يَصْلُحُ الْخَمْرُ عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ لِلْأَرْيَافِ وَالْبِطَاحِ وَالْمَوَاضِعِ الرَّطْبَةِ، وَإِنْ كَانَتْ فِيهَا مَنْفَعَةٌ مِنْ طَرِيقِ الْبَدَنِ فَفِيهَا مَضَرَّةٌ مِنْ طَرِيقِ الدِّينِ، وَالْبَارِي تَعَالَى قَدْ حَرَّمَهَا مَعَ عِلْمِهِ بِهَا فَقَدِّرْهَا كَيْفَ شِئْت، فَإِنَّ خَالِقَهَا وَمَصْرِفَهَا قَدْ حَرَّمَهَا. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ «طَارِقِ بْنِ سُوَيْد الْجُعْفِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْخَمْرِ فَنَهَاهُ وَكَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا. قَالَ: إنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ. قَالَ: لَيْسَ بِدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهُ دَاءٌ». وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَ عَنْ الْخَمْرِ: أَتُتَّخَذُ خَلًّا؟ قَالَ: لَا.» وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ.

مسألة استعمال طعام أو دواء استهلكت الخمر فيه

فَإِنْ قِيلَ: وَكَيْف يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِتَحْرِيمِ مَا لَا غِنَى عَنْهُ وَلَا عِوَضَ مِنْهُ؟ هَذَا مُنَاقِضٌ لِلْحِكْمَةِ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّا لَا نَقُولُ إنَّهُ لَا غِنَى عَنْهَا وَلَا عِوَضَ مِنْهَا؛ بَلْ لِلْمَرِيضِ عَنْهَا أَلْفُ غِنًى، وَلِلصَّحِيحِ وَالْمَرِيضِ مِنْهَا عِوَضٌ مِنْ الْخَلِّ وَنَحْوِهِ. الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: لَوْ كَانَتْ لَا غِنَى عَنْهَا وَلَا عِوَضَ مِنْهَا لَامْتَنَعَ تَحْرِيمُهَا، وَلَا اسْتَحَالَ أَنْ يَمْنَعَ الْبَارِي تَعَالَى الْخَلْقَ مِنْهَا لِثَلَاثَةِ أَدِلَّةٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ لِلْبَارِي تَعَالَى أَنْ يَمْنَعَ الْمَرَافِقَ كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا، وَأَنْ يُبِيحَهَا، وَقَدْ آلَمَ الْحَيَوَانَ وَأَمْرَضَ الْإِنْسَانَ. الثَّانِي: أَنَّ التَّطَبُّبَ غَيْرُ وَاجِبٍ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْأُمَّةِ، ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ طُرُقٍ أَنَّهُ قَالَ: «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ غَيْرِ حِسَابٍ، وَهُمْ الَّذِينَ لَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ». الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهَا صَلَاحُ بَدَنٍ لَكَانَتْ فِيهَا ضَرَاوَةٌ وَذَرِيعَةٌ إلَى فَسَادِ الْعَقْلِ، فَتَقَابَلَ الْأَمْرَانِ، فَغَلَبَ الْمَنْعُ لِمَا لَنَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ الْمُنَبَّهِ عَلَيْهَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ. [مَسْأَلَةٌ اسْتِعْمَالُ طَعَام أَوْ دَوَاء اُسْتُهْلِكَتْ الْخَمْر فِيهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا لَوْ اُسْتُهْلِكَتْ فِي الْأَطْعِمَةِ وَالْأَدْوِيَةِ؛ هَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ الطَّعَامِ أَوْ ذَلِكَ الدَّوَاءِ أَمْ لَا؟ فَأَجَازَهُ ابْنُ شِهَابٍ، وَمَنَعَهُ غَيْرُهُ، وَتَرَدَّدَ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ.

مسألة قوله تعالى وإثمهما أكبر من نفعهما

وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّهَا لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهَا دَاءٌ». [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]: وَفِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِثْمَ بَعْدَ التَّحْرِيمِ أَكْبَرُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّانِي: أَنَّ الْإِثْمَ فِيمَا يَكُونُ عَنْهَا مِنْ فَسَادِ الْعَمَلِ عِنْدَ ذَهَابِ الْعَقْلِ أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَةِ اللَّذَّةِ وَالرِّبْحِ؛ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَزَادَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَمَّا نَزَلَ تَوَرَّعَ عَنْهَا قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَشَرِبَهَا آخَرُونَ لِلْمَنْفَعَةِ يَعْنِي لِأَجْلِ الْمَنْفَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهَا لَا لِمَنْفَعَةِ الْبَدَنِ كَمَا قَدَّمْنَا، حَتَّى نَزَلَتْ: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] فَإِنْ قِيلَ: كَيْف شُرِبَتْ بَعْدَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219] وَبَعْدَ قَوْلِهِ: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] وَكَيْف تَعَاطَى مُسْلِمٌ مَا فِيهِ مَأْثَمٌ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَرَادَ بِالْإِثْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يُؤَوَّلُ إلَيْهِ شُرْبُهَا لَا نَفْسُ شُرْبِهَا. فَمَنْ فَعَلَ حِينَئِذٍ ذَلِكَ الَّذِي يُؤَوَّلُ إلَيْهِ فَقَدْ أَثِمَ بِمَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ لَا بِنَفْسِ الشُّرْبِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ الَّذِي يُؤَوَّلُ إلَيْهِ لَمَا كَانَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ إثْمٌ؛ فَكَانَ هَذَا مَقْصَدَ الْقَوْلِ عَلَى وَجْهِ الْوَرَعِ لَا عَلَى وَجْهِ التَّحْرِيمِ؛ فَقَبِلَهُ قَوْمٌ فَتَوَرَّعُوا، وَأَقْدَمَ آخَرُونَ عَلَى الشُّرْبِ حَتَّى حَقَّقَ اللَّهُ تَعَالَى التَّحْرِيمَ، فَامْتَنَعَ الْكُلُّ، وَلَوْ أَرَادَ رَبُّك التَّحْرِيمَ لَقَالَ لِعُمَرَ أَوَّلًا مَا قَالَ لَهُ آخِرًا حَتَّى قَالَ: انْتَهَيْنَا. الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ مَا فِيهَا مِنْ الْإِثْمِ الْمُوجِبِ لِلِامْتِنَاعِ وَقَرَنَهُ بِمَا فِيهَا مِنْ الْمَنْفَعَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْإِقْدَامِ فَهِمَ قَوْمٌ مِنْ ذَلِكَ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ، وَلَوْ تَدَبَّرُوا قَوْله تَعَالَى: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] لَغَلَبَ الْوَرَعُ؛ فَأَقْدَمَ مَنْ أَقْدَمَ، وَتَوَرَّعَ مَنْ تَوَرَّعَ، حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ التَّحْرِيمِ الْبَاحِثَةِ الْكَاشِفَةِ لِتَحْقِيقِهِ، فَفَهِمَهَا النَّاسُ، وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: انْتَهَيْنَا، «وَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنَادِيَهُ فَنَادَى بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ».

الآية الثامنة والخمسون قوله تعالى ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو

[الْآيَة الثَّامِنَة وَالْخَمْسُونَ قَوْله تَعَالَى وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ] َ} [البقرة: 219] اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَا فَضَلَ عَنْ الْأَهْلِ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّانِي: الْوَسَطُ مِنْ غَيْرِ تَبْذِيرٍ وَلَا إسْرَافٍ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ. الثَّالِثُ: مَا سَمَحَتْ بِهِ النَّفْسُ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا. الرَّابِعُ: الصَّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ غِنًى؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. الْخَامِسُ: صَدَقَةُ الْفَرْضِ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ أَيْضًا. السَّادِسُ: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الزَّكَاةِ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا. التَّنْقِيحُ: قَدْ بَيَّنَّا أَقْسَامَ الْعَفْوِ فِي مَوْرِدِ اللُّغَةِ عِنْدَمَا فَسَّرْنَا قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ. وَأَسْعَدُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ [بِالتَّحْقِيقِ] وَبِالصِّحَّةِ مَا عَضَّدَتْهُ اللُّغَةُ، وَأَقْوَاهَا عِنْدِي الْفَضْلُ، لِلْأَثَرِ الْمُتَقَدِّمِ. [وَلِلنَّظَرِ]، وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا تَصَدَّقَ بِالْكَثِيرِ نَدِمَ وَاحْتَاجَ، فَكِلَاهُمَا مَكْرُوهٌ شَرْعًا، فَإِعْطَاءُ الْيَسِيرِ حَالَةً بَعْدَ حَالَةٍ أَوْقَعُ فِي الدِّينِ وَأَنْفَعُ فِي الْمَالِ؛ وَقَدْ «جَاءَ أَبُو لُبَابَةَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجَمِيعِ مَالِهِ، وَكَذَلِكَ كَعْبٌ، فَقَالَ لَهُمَا: الثُّلُثُ». [الْآيَة التَّاسِعَة وَالْخَمْسُونَ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى] الْآيَة التَّاسِعَة وَالْخَمْسُونَ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 220]

مسألة حقيقة اليتيم

فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] الْآيَةَ تَحَرَّجَ النَّاسُ عَنْ مُخَالَطَتِهِمْ فِي الْأَمْوَالِ وَاعْتَزَلُوهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220] يَعْنِي: قَصْدُ إصْلَاحِ أَمْوَالِهِمْ خَيْرٌ مِنْ اعْتِزَالِهِمْ: فَكَانَ إذْنًا فِي ذَلِكَ مَعَ صِحَّةِ الْقَصْدِ فِي أَنْ يَكُونَ الْمَقْصِدُ رِفْقَ الْيَتِيمِ لَا أَنْ يَقْصِدَ رِفْقَ نَفْسِهِ. [مَسْأَلَةٌ حَقِيقَة الْيَتِيمِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْبَحْثِ عَنْ الْيَتِيمِ: هُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُنْفَرِدِ مِنْ أَبِيهِ، وَقَدْ يُطْلَقُ فِيهَا عَلَى الْمُنْفَرِدِ مِنْ أُمِّهِ. وَالْأَوَّلُ: أَظْهَرُ لُغَةً، وَعَلَيْهِ وَرَدَتْ الْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ، وَلِأَنَّ الَّذِي فَقَدَ أَبَاهُ عَدِمَ النُّصْرَةَ، وَاَلَّذِي فَقَدَ أُمَّهُ عَدِمَ الْحَضَانَةَ، وَقَدْ تَنْصُرُ الْأُمُّ لَكِنَّ نُصْرَةَ الْأَبِ أَكْثَرُ، وَقَدْ يَحْضُنُ الْأَبُ لَكِنَّ الْأُمُّ أَرْفَقُ حَضَانَةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إذَا بَلَغَ الْيَتِيمُ زَالَ عَنْهُ اسْمُ الْيُتْمِ لُغَةً، وَبَقِيَ عَلَى حُكْمِ الْيُتْمِ فِي عَدَمِ الِاسْتِبْدَادِ بِالتَّصَرُّفِ حَتَّى يُؤْنَسَ مِنْهُ الرُّشْدُ؛ وَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. [مَسْأَلَةٌ التَّصَرُّفُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَمَّا أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى لِلنَّاسِ فِي مُخَالَطَةِ الْأَيْتَامِ مَعَ قَصْدِ الْإِصْلَاحِ بِالنَّظَرِ لَهُمْ وَفِيهِمْ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ لِلْأَيْتَامِ كَمَا يُتَصَرَّفُ لِلْأَبْنَاءِ، وَفِي الْأَثَرِ: " مَا كُنْت تُؤَدِّبُ مِنْهُ وَلَدَك فَأَدِّبْ مِنْهُ يَتِيمَك " وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: إنَّهُ يَجُوزُ لِلْحَاضِنِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ تَصَرُّفَ الْوَصِيِّ فِي الْبَيْعِ وَالْقِسْمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ، وَبِهِ أَقُولُ وَأَحْكُمُ، فَيَنْفُذُ بِنُفُوذِ فِعْلِهِ لَهُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِهَذِهِ الْآيَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة كفل الرجل اليتيم ولم يقدمه وال عليه

[مَسْأَلَةٌ كَفَلَ الرَّجُلُ الْيَتِيمَ ولَمْ يُقَدِّمْهُ وَالٍ عَلَيْهِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إذَا كَفَلَ الرَّجُلُ الْيَتِيمَ وَحَازَهُ وَكَانَ فِي نَظَرِهِ، جَازَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَإِنْ لَمْ يُقَدِّمْهُ وَالٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ مُطْلَقَةٌ، وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ وِلَايَةٌ عَامَّةٌ. وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَمْ يُؤْثَرْ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْخُلَفَاءِ أَنَّهُ قَدَّمَ أَحَدًا عَلَى يَتِيمٍ مَعَ وُجُودِهِمْ فِي أَزْمِنَتِهِمْ؛ وَإِنَّمَا كَانُوا يَقْتَصِرُونَ عَلَى كَوْنِهِمْ عِنْدَهُمْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي اللَّقِيطِ هُوَ حُرٌّ، لَك وَلَاؤُهُ، وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ " يَعْنِي بِالْوَلَاءِ الْوِلَايَةَ، لَيْسَ الْمِيرَاثَ، كَمَا تَوَهَّمَهُ قَوْمٌ. [مَسْأَلَةٌ وِلَايَةَ النِّكَاحِ بِالْكَفَالَةِ وَالْحَضَانَةُ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا جَعَلْتُمْ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ تَصَرُّفَهُ فِي مَالِ ابْنِهِ بِوِلَايَةِ الْكَفَالَةِ كَمَا قَدَّمْتُمْ بَيَانَهُ إنْ كَانَ بِتَقْدِيمِ وَالٍ عَلَيْهِ، فَهَلْ يُنْكِحُ نَفْسَهُ مِنْ يَتِيمَتِهِ أَوْ يَشْتَرِي مِنْ مَالِ يَتِيمَتِهِ؟ قُلْنَا: إنَّ مَالِكًا جَعَلَ وِلَايَةَ النِّكَاحِ بِالْكَفَالَةِ وَالْحَضَانَةُ أَقْوَى مِنْهَا بِالْقَرَابَةِ، حَتَّى قَالَ فِي الْأَعْرَابِ الَّذِينَ يُسَلِّمُونَ أَوْلَادَهُمْ فِي أَعْوَامِ الْمَجَاعَةِ إلَى الْكَفَلَةِ: إنَّهُمْ يُنْكِحُونَهُمْ إنْكَاحَهُمْ. فَأَمَّا إنْكَاحُ الْكَافِلِ مِنْ نَفْسِهِ فَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا الشِّرَاءُ مِنْهُ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَشْتَرِي فِي مَشْهُورِ الْأَقْوَالِ إذَا كَانَ نَظَرًا لَهُ، وَهُوَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِصْلَاحِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ وَلَا فِي الْبَيْعِ؛ وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. فَأَمَّا مَا نَزَعَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ مَنْعِ النِّكَاحِ فَلَهُ فِيهَا طُرُقٌ بَيَانُهَا فِي مَوْضِعِهَا هُنَالِكَ؛ وَأَمَّا الشِّرَاءُ فَطَرِيقُهُ فِيهَا ضَعِيفٌ جِدًّا إلَّا أَنْ يَدْخُلَ مَعَنَا فِي مُرَاعَاةِ الذَّرَائِعِ وَالتُّهَمِ فَيَنْقُضُ أَصْلَهُ فِي تَرْكِهَا. فَإِنَّ قِيلَ: فَلِمَ تَرَكَ مَالِكٌ أَصْلَهُ فِي التُّهْمَةِ وَالذَّرَائِعِ، وَجَوَّزَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ مَعَ يَتِيمَتِهِ؟ قُلْنَا: إنَّمَا نَقُولُ يَكُونُ ذَرِيعَةً لِمَا يُؤَدِّي مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُبَاحَةِ إلَى مَحْظُورٍ مَنْصُوصٍ

الآية الموفية ستين قوله تعالى ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن

عَلَيْهِ، وَأَمَّا هَاهُنَا فَقَدْ أَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي صُورَةِ الْمُخَالَطَةِ، وَوَكَّلَ الْحَاضِنِينَ فِي ذَلِكَ إلَى أَمَانَتِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] وَكُلُّ أَمْرٍ مَخُوفٍ وَكَّلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ الْمُكَلَّفَ إلَى أَمَانَتِهِ لَا يُقَالُ فِيهِ إنَّهُ يَتَذَرَّعُ إلَى مَحْظُورٍ فَيُمْنَعُ مِنْهُ، كَمَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ النِّسَاءَ مُؤْتَمَنَاتٍ عَلَى فُرُوجِهِنَّ، مَعَ عِظَمِ مَا يَتَرَكَّبُ عَلَى قَوْلِهِنَّ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَيَرْتَبِطُ بِهِ مِنْ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ وَالْأَنْسَابِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكْذِبْنَ. وَهَذَا فَنٌّ بَدِيعٌ فَتَأْمُلُوهُ وَاِتَّخِذُوهُ دُسْتُورًا فِي الْأَحْكَامِ وَأَمِّلُوهُ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ بِرَحْمَتِهِ. [الْآيَة الْمُوفِيَة سِتِّينَ قَوْله تَعَالَى وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ] َّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة: 221] فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ بِنِكَاحٍ عَلَى مُشْرِكَةٍ كَانَتْ كِتَابِيَّةً أَوْ غَيْرَ كِتَابِيَّةٍ؛ قَالَهُ عُمَرُ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ إذَا كَانَتْ أَمَةً. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ وَطْءُ مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ مِنْ الْمَجُوسِ وَالْعَرَبِ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]. قَالَ الْقَاضِي: وَدَرَسَنَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنُ الْحَسَنِ الشَّاشِيُّ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ قَالَ: احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ بِقَوْلِهِ

تَعَالَى: {وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ} [البقرة: 221]؛ وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَايَرَ بَيْنَ نِكَاحِ الْأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ وَالْمُشْرِكَةِ، فَلَوْلَا أَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ الْمُشْرِكَةِ جَائِزٌ لَمَا خَايَرَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمُخَايَرَةَ إنَّمَا هِيَ بَيْنَ الْجَائِزَيْنِ، لَا بَيْنَ الْجَائِزِ وَالْمُمْتَنَعِ، وَلَا بَيْنَ الْمُتَضَادَّيْنِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّك لَا تَقُولُ: الْعَسَلُ أَحْلَى مِنْ الْخَلِّ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَجُوزُ الْمُخَايَرَةُ بَيْنَ الْمُتَضَادَّيْنِ لُغَةً وَقُرْآنًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا} [الفرقان: 24] وَلَا خَيْرَ عِنْدَ أَهْلِ النَّارِ. وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِسَالَتِهِ إلَى أَبِي مُوسَى: " الرُّجُوعُ إلَى الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ ". الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} [البقرة: 221] ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَجُزْ نِكَاحُ الْعَبْدِ الْمُشْرِكِ لِلْمُؤْمِنَةِ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُسْلِمِ لِلْمُشْرِكَةِ؛ إذْ لَوْ دَلَّ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ عَلَى الْمُرَادِ لَدَلَّ الْآخَرُ عَلَى مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُمَا إنَّمَا سِيقَتَا فِي الْبَيَانِ مَسَاقًا وَاحِدًا. الثَّالِثُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلأَمَةٌ} [البقرة: 221] لَمْ يُرِدْ بِهِ الرَّقِيقَ الْمَمْلُوكَ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ: الْآدَمِيَّةُ وَالْآدَمِيَّاتُ، وَالْآدَمِيُّونَ بِأَجْمَعِهِمْ عَبِيدُ اللَّهِ وَإِمَاؤُهُ؛ قَالَهُ الْقَاضِي بِالْبَصْرَةِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْجُرْجَانِيُّ. التَّنْقِيحُ: كُلُّ كَافِرٍ بِالْحَقِيقَةِ مُشْرِكٌ؛ وَلِذَلِكَ يُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَرِهَ نِكَاحَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة، وَقَالَ: أَيُّ شِرْكٍ أَعْظَمُ مِمَّنْ يَقُولُ: عِيسَى هُوَ اللَّهُ أَوْ وَلَدُهُ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. فَإِنْ حَمَلْنَا اللَّفْظَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَهُوَ عَامٌّ خَصَّصَتْهُ آيَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ وَلَمْ تَنْسَخْهُ؛ وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْعُرْفِ فَالْعُرْفُ إنَّمَا يَنْطَلِقُ فِيهِ لَفْظُ الْمُشْرِكِ عَلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ كِتَابٌ مِنْ

مسألة قوله تعالى ولو أعجبكم

الْمَجُوسِ وَالْوَثَنِيِّينَ مِنْ الْعَرَبِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 105] وَقَالَ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} [البينة: 1] فَلَفْظُ الْكُفْرِ يَجْمَعُهُمْ، وَيَخُصُّهُمْ ذَلِكَ التَّقْسِيمُ. فَإِنْ قِيلَ: إنْ كَانَ اللَّفْظُ خَاصًّا كَمَا قُلْتُمْ فَالْعِلَّةُ تَجْمَعُهُمْ، وَهِيَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [البقرة: 221]؛ وَهَذَا عَامٌّ فِي الْكِتَابِيِّ وَالْوَثَنِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ. قُلْنَا: لَا نَمْنَعُ فِي الشَّرْعِ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ عَامَّةً وَالْحُكْمُ خَاصًّا أَوْ أَزَيْدُ مِنْ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّهَا دَلِيلٌ فِي الشَّرْعِ وَأَمَارَاتٌ، وَلَيْسَتْ بِمُوجِبَاتٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [البقرة: 221] يَرْجِعُ إلَى الرِّجَالِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} [البقرة: 221] لَا إلَى النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُسْلِمَةَ لَوْ تَزَوَّجَتْ كَافِرًا حُكِمَ عَلَيْهَا حُكْمُ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَتَمَكَّنَ مِنْهَا وَدَعَاهَا إلَى الْكُفْرِ، وَلَا حُكْمَ لِلْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ؛ فَلَا يَدْخُلُ هَذَا فِيهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة: 221]: قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ وَإِنْ أَعْجَبَكُمْ، وَإِنَّمَا أَوْقَعَهُ فِي ذَلِكَ عِلْمُهُ بِأَنْ " لَوْ " تَفْتَقِرُ إلَى جَوَابٍ، وَنَسِيَ أَنَّ " إنْ " أَيْضًا تَفْتَقِرُ إلَى جَزَاءٍ. وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: لَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ ابْتِدَاءً وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ حُسْنُهُنَّ، كَمَا تَقُولُ، لَا تُكَلِّمَ زَيْدًا وَإِنْ أَعْجَبَك مَنْطِقُهُ. [مَسْأَلَةٌ النِّكَاحُ بِوَلِيٍّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ: النِّكَاحُ بِوَلِيٍّ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى؛ ثُمَّ قَرَأَ: وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ بِضَمِّ التَّاءِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ بَدِيعَةٌ وَدَلَالَةٌ صَحِيحَةٌ. [الْآيَة الْحَادِيَة وَالسِّتُّونَ قَوْله تَعَالَى وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ] ِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]

فِيهَا اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: سَبَبُ السُّؤَالِ: وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: «كَانَتْ الْيَهُودُ إذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ مِنْهُمْ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا وَلَمْ يُشَارِبُوهَا وَلَمْ يُجَامِعُوهَا فِي الْبُيُوتِ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُؤَاكِلُوهُنَّ وَيُشَارِبُوهُنَّ، وَأَنْ يَكُونُوا فِي الْبَيْتِ مَعَهُنَّ، وَأَنْ يَفْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ مَا خَلَا النِّكَاحَ. فَقَالَتْ الْيَهُودُ: مَا يُرِيدُ مُحَمَّدٌ أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إلَّا خَالَفَنَا فِيهِ، فَجَاءَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ، وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ، فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَلَا نُخَالِفُ الْيَهُودَ فَنَطَأُ النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ وَجَدَ عَلَيْهِمَا. قَالَ: فَقَامَا فَخَرَجَا عَنْهُ فَاسْتَقْبَلَتْهُمْ اهَدِيَّةٌ مِنْ لَبَنٍ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمَا فَسَقَاهُمَا، فَعَلِمَا أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ عَلَيْهِمَا.» وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَانَ غَضَبُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِمَا لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ؛ إمَّا كَرَاهِيَةٌ مِنْ كَثْرَةِ الْأَسْئِلَةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَقُولُ: «ذَرُونِي مَا تَرَكَتْكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ».

مسألة المحيض

وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَرِهَ الْأَطْمَاعَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالرَّذَائِلِ، وَإِنْ كَانَتْ مُقْتَرِنَةً بِاللَّذَّاتِ؛ وَالْوَطْءُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ رَذِيلَةٌ يَسْتَدْعِي عُزُوفَ النَّفْسِ. وَعُلُوُّ الْهِمَّةِ الِانْكِفَافَ عَنْهُ لَوْ كَانَ مُبَاحًا، كَيْفَ وَقَدْ وَقَعَ النَّهْيُ عَنْهُ لَا سِيَّمَا مِمَّنْ تَحَقَّقَ فِي الدِّينِ عِلْمُهُ، وَثَبَتَ فِي الْمُرُوءَةِ قَدَمُهُ كَأُسَيْدٍ وَعَبَّادٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: «كَانُوا يَأْتُونَ النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ فِي الْمَحِيضِ فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ» وَهَذَا ضَعِيفٌ يَأْتِي الْقَوْلُ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَةٌ الْمَحِيضِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَفْسِيرِ الْمَحِيضِ وَهُوَ مَفْعَلُ، مِنْ حَاضَ يَحِيضُ إذَا سَالَ حَيْضًا، تَقُولُ الْعَرَبُ: حَاضَتْ الشَّجَرَةُ وَالسَّمُرَةُ: إذَا سَالَتْ رُطُوبَتُهَا، وَحَاضَ السَّيْلُ: إذَا سَالَ قَالَ الشَّاعِرُ: أَجَالَتْ حَصَاهُنَّ الذَّوَارِي وَحَيَّضَتْ ... عَلَيْهِنَّ حَيْضَاتُ السُّيُولِ الطَّوَاحِمِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الدَّمِ الَّذِي يُرْخِيهِ الرَّحِمُ فَيَفِيضُ، وَلَهَا ثَمَانِيَةُ أَسْمَاءٍ: الْأَوَّلُ: حَائِضٌ. الثَّانِي: عَارِكٌ. الثَّالِثُ: فَارِكٌ. الرَّابِعُ: طَامِسٌ. الْخَامِسُ: دَارِسٌ. السَّادِسُ: كَابِرٌ. السَّابِعُ: ضَاحِكٌ. الثَّامِنُ: طَامِثٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَضَحِكَتْ} [هود: 71] يَعْنِي حَاضَتْ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَيَهْجُرُهَا يَوْمًا إذَا هِيَ ضَاحِكٌ وَقَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} [يوسف: 31] يَعْنِي حِضْنَ، وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ:

يَأْتِي النِّسَاءَ عَلَى أَطْهَارِهِنَّ وَلَا ... يَأْتِي النِّسَاءَ إذَا أَكْبَرْنَ إكْبَارًا . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمَحِيضُ، مَفْعَلُ، مِنْ حَاضَ، فَعَنْ أَيِّ شَيْءٍ كَوْنُ. عِبَارَةٌ عَنْ الزَّمَانِ أَمْ عَنْ الْمَكَانِ أَمْ عَنْ الْمَصْدَرِ حَقِيقَةٌ أَمْ مَجَازٌ؟ وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ زَمَانِ الْحَيْضِ وَعَنْ مَكَانِهِ، وَعَنْ الْحَيْضِ نَفْسِهِ. وَتَحْقِيقُهُ عِنْدَ مَشْيَخَةِ الصَّنْعَةِ قَالُوا: إنَّ الِاسْمَ الْمَبْنِيَّ مِنْ فَعَلَ يَفْعِلُ لِلْمَوْضِعِ مَفْعَلُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ كَالْمَبِيتِ وَالْمَقِيلِ، وَالِاسْمُ الْمَبْنِيُّ مِنْهُ عَلَى مَفْعَلُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْمَصْدَرِ كَالْمَضْرَبِ، تَقُولُ: إنَّ فِي أَلْفِ دِرْهَمٍ لَمَضْرَبًا، أَيْ ضَرْبًا وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 11] أَيْ عَيْشًا. وَقَدْ يَأْتِي الْمَفْعِلُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ لِلزَّمَانِ، كَقَوْلِنَا: مَضْرِبُ النَّاقَةِ أَيْ زَمَانُ ضِرَابِهَا. وَقَدْ يُبْنَى الْمَصْدَرُ أَيْضًا عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّ الْأَصْلَ مَا تَقَدَّمَ. وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ} [المائدة: 48] أَيْ رُجُوعُكُمْ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] أَيْ عَنْ الْحَيْضِ. وَإِذَا عَلِمْت هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ، فَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ لَا بُدَّ لِكُلِّ مُتَعَلِّقٍ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهِ مِنْ بِنَاءٍ يَخْتَصُّ بِهِ قَصْدًا لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمَعَانِي بِالْأَلْفَاظِ الْمُخْتَصَّةِ بِهَا، وَهِيَ سَبْعَةٌ: الْفَاعِلُ، وَالْمَفْعُولُ، وَالزَّمَانُ، وَالْمَكَانُ، وَأَحْوَالُ الْفِعْلِ الثَّلَاثَةِ مِنْ مَاضٍ، وَمُسْتَقْبَلٍ، وَحَالٍ، وَيَتَدَاخَلَانِ، ثُمَّ يَتَفَرَّعُ إلَى عَشَرَةٍ وَإِلَى أَكْثَرَ مِنْهَا بِحَسَبِ تَزَايُدِ الْمُتَعَلِّقَاتِ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَبْنِيَةِ يَتَمَيَّزُ بِخُصُصِيَّتِهِ اللَّفْظِيَّةِ عَنْ غَيْرِهِ تُمَيِّزُهُ بِمَعْنَاهُ، وَقَدْ يَتَمَيَّزُ بِبِنَائِهِ فِي حَرَكَاتِهِ وَتَرَدُّدَاتِهِ الْمُتَّصِلَةِ وَتَرَدُّدَاتِهِ الْمُنْفَصِلَةِ، كَقَوْلِك: مَعَهُ، وَلَهُ، وَبِهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. فَإِذَا وَضَعَ الْعَرَبِيُّ أَحَدَهُمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ جَازَ، وَهَذَا عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعَارَةِ، وَهَذَا بَيِّنٌ لِلْمُنْصِفِ اسْتَقْصَيْنَاهُ مِنْ كِتَابِ مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ "؛ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَقُلْت مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]

مسألة الدماء التي ترخيها الرحم

زَمَانِ الْحَيْضِ صَحَّ، وَيَكُونُ حِينَئِذٍ مَجَازًا عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السَّبَبُ الَّذِي كَانَ السُّؤَالُ بِسَبَبِهِ، تَقْدِيرُهُ: وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْوَطْءِ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ. وَإِنْ قُلْت: إنَّ مَعْنَاهُ مَوْضِعُ الْحَيْضِ كَانَ مَجَازًا فِي مَجَازٍ عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفَيْنِ تَقْدِيرُهُ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] أَيْ: عَنْ الْوَطْءِ فِي مَوْضِعِ الْحَيْضِ حَالَةَ الْحَيْضِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ اسْمِ الْمَوْضِعِ يَبْقَى عَلَيْهِ وَإِنْ زَالَ الَّذِي لِأَجْلِهِ سُمِّيَ بِهِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ تَحْقِيقٍ فِي هَذَا الِاحْتِمَالِ، لِظُهُورِ الْمَجَازِ فِيهِ. وَإِنْ قُلْت مَعْنَاهُ: وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْحَيْضِ، كَانَ مَجَازًا عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ وَاحِدٍ، تَقْدِيرُهُ: وَيَسْأَلُونَك عَنْ مَنْعِ الْحَيْضِ؛ وَهَذَا كُلُّهُ مُتَصَوَّرٌ مُتَقَرِّرٌ عَلَى رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ وَثَابِتِ بْنِ الدَّحْدَاحَةِ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ مُتَقَدِّرٌ عَلَيْهَا كُلِّهَا تَقْدِيرًا صَحِيحًا؛ فَيَتَبَيَّنُ عِنْدَ التَّنْزِيلِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى بَسْطِهِ بِتَطْوِيلٍ. [مَسْأَلَةٌ الدِّمَاءُ الَّتِي تُرْخِيهَا الرَّحِمُ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي اعْتِبَارِهِ شَرْعًا الدِّمَاءُ الَّتِي تُرْخِيهَا الرَّحِمُ دَمُ عَادَةٍ، وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ، وَدَمُ عِلَّةٍ يُعْتَبَرُ غَالِبًا عِنْدَ عُلَمَائِنَا، وَفِيهِ خِلَافٌ؛ وَكِلَاهُمَا مَعْرُوفٌ؛ وَالْأَرْحَامُ الَّتِي تُرْخِيهَا ثِنْتَانِ: حَامِلٌ، وَحَائِلٌ [وَالْحَائِلُ] تَنْقَسِمُ إلَى أَرْبَعَةٍ: مُبْتَدَأَةٌ، وَمُعْتَادَةٌ، وَمُخْتَلِطَةٌ، وَمُسْتَحَاضَةٌ، ثُمَّ تَتَفَرَّعُ بِالْأَحْوَالِ وَالزَّمَانِ إلَى ثَلَاثِينَ قِسْمًا، بَيَانُهَا فِي كِتَابِ الْمَسَائِلِ، وَلِكُلِّ حَالٍ مِنْهَا حُكْمٌ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى قُلْ هُوَ أَذًى] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222]: فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَذِرٌ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ. الثَّانِي: دَمٌ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. الثَّالِث: نَجِسٌ. الرَّابِعُ: مَكْرُوهٌ يُتَأَذَّى بِرِيحِهِ وَضَرَرِهِ أَوْ نَجَاسَتِهِ.

مسألة دم الحيض

وَالصَّحِيحُ هَذَا الرَّابِعُ، بِدَلِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَعُمُّهَا. الثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ} [النساء: 102] وَيَصِحُّ رُجُوعُهُ إلَى الِاحْتِمَالَاتِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَتَقْدِيرُهُ: يَسْأَلُونَك عَنْ مَوْضِعِ الْحَيْضِ، قُلْ: هُوَ أَذًى؛ فَيَكُونُ رُجُوعُهُ إلَى حَقِيقَةِ الْمَحِيضِ مَجَازًا، وَيَكُونُ رُجُوعُهُ إلَى مَجَازِهِ حَقِيقَةً، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ التَّقْدِيرِ. [مَسْأَلَةٌ دَمِ الْحَيْضِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي دَمِ الْحَيْضِ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ كَسَائِرِ الدِّمَاءِ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ فِي التَّحْرِيمِ، رَوَاهُ أَبُو ثَابِتٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ سِيرِينَ عَنْ مَالِكٍ، وَجْهُ الْأَوَّلِ عُمُومٌ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْكَثِيرَ دُونَ الْقَلِيلِ. وَوَجْهُ الثَّانِي قَوْله تَعَالَى: {قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] وَهَذَا يَعُمُّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، وَيَتَرَجَّحُ هَذَا الْعُمُومُ عَلَى الْآخَرِ بِأَنَّهُ عُمُومٌ فِي خُصُوصِ عَيْنٍ. وَذَلِكَ الْأَوَّلُ هُوَ عُمُومٌ فِي خُصُوصِ حَالٍ، وَحَالُ الْمُعَيَّنِ أَرْجَحُ مِنْ حَالِ الْحَالِ، وَهَذَا مِنْ غَرِيبِ فُنُونِ التَّرْجِيحِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَهُوَ مِمَّا لَمْ نُسْبَقْ إلَيْهِ وَلَمْ نُزَاحَمْ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَةٌ مَا يَمْنَعُ مِنْهُ الْحَيْضُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: جُمْلَةُ مَا يَمْنَعُ مِنْهُ الْحَيْضُ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ خَمْسَةٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ كُلِّ فِعْلٍ يُشْتَرَطُ لِجَوَازِهِ الطَّهَارَةُ. الثَّانِي: دُخُولُ الْمَسْجِدِ. الثَّالِثُ: الصَّوْمُ. الرَّابِعُ: الْوَطْءُ. الْخَامِسُ: إيقَاعُ الطَّلَاقِ.

مسألة قوله تعالى فاعتزلوا النساء في المحيض

وَيَنْتَهِي بِالتَّفْصِيلِ إلَى سِتَّةَ عَشْرَ حُكْمًا تَفْسِيرُهَا فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]: مَعْنَاهُ افْعَلُوا الْعَزْلَ أَيْ اكْتَسَبُوهُ، وَهُوَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمُجْتَمِعَيْنِ عَارِضًا لَا أَصْلًا. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَوْرِدِ الْعَزْلِ وَمُتَعَلِّقِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: جَمِيعُ بَدَنِهَا. فَلَا يُبَاشِرُهُ بِشَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ فِي قَوْلٍ، وَعَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ. الثَّالِثُ: الْفَرْجُ؛ قَالَتْهُ حَفْصَةُ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَصْبَغُ. الرَّابِعُ: الدُّبُرُ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ مَعْنَاهُ. فَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ جَمِيعُ بَدَنِهَا فَتَعَلَّقَ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {النِّسَاءَ} [البقرة: 222]؛ وَهَذَا عَامُّ فِيهِنَّ فِي جَمِيعِ أَبْدَانِهِنَّ، وَالْمَرْوِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَضْطَجِعُ مَعِي وَأَنَا حَائِضٌ وَبَيْنِي وَبَيْنَهُ ثَوْبٌ». وَقَالَتْ أَيْضًا: «كَانَتْ إحْدَانَا إذَا كَانَتْ حَائِضًا، أَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَأْتَزِرَ فِي فَوْرِ حَيْضَتِهَا ثُمَّ يُبَاشِرَهَا». قَالَتْ: «وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إرْبَهُ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْلِكُ إرْبَهُ»؟ وَهَذَا يَقْتَضِي خُصُوصَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذِهِ الْحَالَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ «بَدْرَةَ مَوْلَاةِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَتْ: بَعَثَتْنِي مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ وَحَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ إلَى امْرَأَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ مِنْ جِهَةِ النِّسَاءِ. فَوَجَدَتْ فِرَاشَهُ مُعْتَزِلًا فِرَاشَهَا، فَظَنَنْت أَنَّ ذَلِكَ عَنْ الْهُجْرَانِ، فَسَأَلْتهَا فَقَالَتْ: إذَا طَمَثْت اعْتَزَلَ فِرَاشِي؛ فَرَجَعْت فَأَخْبَرْتُهَا بِذَلِكَ فَرَدَّتْنِي إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَتْ: تَقُولُ لَك أُمُّك: أَرَغِبْت عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنَامُ مَعَ الْمَرْأَةِ

مسألة قوله تعالى النساء

مِنْ نِسَائِهِ وَإِنَّهَا حَائِضٌ، وَمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إلَّا ثَوْبٌ مَا يُجَاوِزُ الرُّكْبَتَيْنِ». وَهَذَا إنْ صَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى الرَّاحَةِ مِنْ مُضَاجَعَةِ الْمَرْأَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مَا بَيْنَ السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ فَهُوَ الصَّحِيحُ، وَدَلِيلُهُ «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَوَابِ السَّائِلِ عَمَّا يَحِلُّ مِنْ الْحَائِضِ. فَقَالَ: لِتَشُدَّ عَلَيْهَا إزَارَهَا ثُمَّ شَأْنُهُ بِأَعْلَاهَا». وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ الْفَرْجُ خَاصَّةً فَقَوْلُهُ فِي الصَّحِيحِ: «افْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ إلَّا النِّكَاحَ». وَأَيْضًا فَإِنَّهُ حَمَلَ الْآيَةَ عَلَى حِمَايَةِ الذَّرَائِعِ، وَخَصَّ الْحُكْمَ وَهُوَ التَّحْرِيمُ بِمَوْضِعِ الْعِلَّةِ وَهُوَ الْفَرْجُ؛ لِيَكُونَ الْحُكْمُ طِبْقًا لِلْعِلَّةِ يَتَقَرَّرُ بِتَقَرُّرِ الْعِلَّةِ إذَا أَوْجَبَتْهُ خَاصَّةً، فَإِذَا أَثَارَتْ الْعِلَّةُ نُطْقًا تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالنُّطْقِ وَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْعِلَّةِ، كَمَا بَيَّنَّا فِي السَّعْيِ مِنْ قَبْلُ؛ فَإِنَّهُ كَانَ الرَّمَلُ فِيهِ لِعِلَّةِ إظْهَارِ الْجَلَدِ لِلْمُشْرِكَيْنِ؛ ثُمَّ زَالَتْ، وَلَكِنْ شَرَعَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَائِبًا يَثْبُتُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مُسْتَمِرًّا، وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ فِي الْفُرُوعِ وَأَدِلَّةٌ فِي الْأُصُولِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: الدُّبُرُ، فَرَوَى الْمُقَصِّرُونَ الْغَافِلُونَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: " إذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ حَرُمَ حِجْرُهَا "، وَهَذَا بَاطِلٌ ذَكَرْنَاهُ لِنُبَيِّن حَاله. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: «افْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ إلَّا النِّكَاحَ»، فَمَعْنَاهُ الْإِذْنُ فِي الْجِمَاعِ؛ وَلَمْ يُبَيِّنْ مَحِلَّهُ، وَقَوْلُهُ: «شَأْنُك بِأَعْلَاهَا»، بَيَانٌ لِمَحِلِّهِ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى النِّسَاءَ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {النِّسَاءَ} [البقرة: 222]: فَذَكَرَهُنَّ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْجِنْسِ وَالْعَهْدِ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، فَإِنَّ حَمَلْتهَا عَلَى الْعَهْدِ صَحَّ؛ لِأَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَنْ مَعْهُودٍ مِنْ الْأَزْوَاجِ، فَعَادَ

مسألة قوله تعالى ولا تقربوهن

الْجَوَابُ عَلَيْهِ طِبْقًا، وَإِنْ حَمَلْتهَا عَلَى الْجِنْسِ جَازَ وَيَكُونُ الْجَوَابُ أَعَمُّ مِنْ السُّؤَالِ، فَيَكُونُ قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ} [البقرة: 222] عَامًّا فِي كُلِّ امْرَأَةٍ زَوْجًا أَوْ غَيْرَ زَوْجٍ، خَاصًّا فِي حَالِ الْحَيْضِ، وَتَكُونُ الزَّوْجَةُ مُحَرَّمَةً فِي حَالِ الْحَيْضِ بِالْحَيْضِ، وَتَكُونُ الْأَجْنَبِيَّاتُ مُحَرَّمَاتٍ فِي حَالِ الْحَيْضِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَبِالْحَيْضِ جَمِيعًا، وَيَتَعَلَّقُ التَّحْرِيمُ بِالْعِلَّتَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ جَوَازَ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِعِلَّتَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: {فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]: وَهُوَ مُرَتَّبٌ عَلَى الْأَوَّلِ فِي جَمِيعِ وُجُوهِهِ، فَاعْتَبِرْهُ بِمَا فِيهِ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ} [البقرة: 222]: سَمِعْت فَخْرَ الْإِسْلَامِ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ الشَّاشِيَّ فِي مَجْلِسِ النَّظَرِ يَقُولُ: إذَا قِيلَ لَا تَقْرَبْ بِفَتْحِ الرَّاءِ كَانَ مَعْنَاهُ لَا تَلَبَّسَ بِالْفِعْلِ، وَإِذَا كَانَ بِضَمِّ الرَّاءِ كَانَ مَعْنَاهُ لَا تَدْنُ مِنْهُ. وَأَمَّا مَوْرِدُهُ فَهُوَ مَوْرِدُ {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ} [البقرة: 222] وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ وُجُوهِهِ، لَكِنْ بِإِضْمَارٍ بَعْدَ إضْمَارٍ، كَقَوْلِك مَثَلًا: فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ، أَيْ فِي مَكَانِ الْحَيْضِ، وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ فِيهِ، وَرَكَّبُوا عَلَيْهَا بَاقِيَهَا. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى حَتَّى يَطْهُرْنَ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]: حَتَّى بِمَعْنَى الْغَايَةِ، وَهُوَ انْتِهَاءُ الشَّيْءِ وَتَمَامُهُ، وَفَرْقٌ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْقَاطِعِ لِلشَّيْءِ قَبْلَ تَمَامِهِ كَثِيرٌ، مِثَالُهُ أَنَّ اللَّيْلَ يَنْتَهِي بِإِقْبَالِهِ الصَّوْمُ، وَبِالسَّلَامِ تَنْتَهِي الصَّلَاةُ، وَبِوَطْءِ الزَّوْجِ الثَّانِي يَنْتَهِي تَحْرِيمُ النِّكَاحِ عَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَتَحْقِيقُهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: فِي حُكْمِ الْغَايَةِ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهَا مُخَالِفًا لِمَا قَبْلَهَا، وَقَدْ تَرَدَّدَ فِي ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا، وَالْمَسْأَلَةُ مُشْكِلَةٌ جِدًّا، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَوْضِعِهَا مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى حَتَّى يَطْهُرْنَ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]:

وَالْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222]: وَهُمَا مُلْتَزِمَتَانِ، وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا نُطِيلُ النَّفَسَ فِيهِ قَلِيلًا؛ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]؛ حَتَّى يَنْقَطِعَ دَمُهُنَّ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَلَكِنَّهُ نَاقَضَ فِي مَوْضِعَيْنِ؛ قَالَ: إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا لِأَكْثَرِ الْحَيْضِ حِينَئِذٍ تَحِلُّ، وَإِنْ انْقَطَعَ دَمُهَا لِأَقَلِّ الْحَيْضِ لَمْ تَحِلَّ حَتَّى يَمْضِيَ وَقْتُ صَلَاةٍ كَامِلٌ. الثَّانِي: لَا يَطَؤُهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ بِالْمَاءِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ؛ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ وَرَبِيعَةُ وَاللَّيْثُ وَمَالِكٌ وَإِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ. الثَّالِثُ: تَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ؛ قَالَهُ طَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ. فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيُنْقَضُ قَوْلُهُ بِمَا نَاقَضَ فِيهِ فَإِنَّهُ تَعَلَّقَ بِأَنَّ الدَّمَ إذَا انْقَطَعَ لِأَقَلِّ الْحَيْضِ لَمْ يُؤْمَنْ عَوْدَتُهُ. قُلْنَا: وَلَا تُؤْمَنُ عَوْدَتُهُ إذَا مَضَى وَقْتُ صَلَاةٍ، فَبَطَلَ مَا قُلْته. وَالتَّعَلُّقُ بِالْآيَةِ يُدْفَعُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] مُخَفَّفًا. وَقُرِئَ " حَتَّى يَطَّهَّرْنَّ " مُشَدَّدًا. وَالتَّخْفِيفُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَإِنَّ التَّشْدِيدَ فِيهِ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]؛ فَجَعَلَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي الْإِبَاحَةِ وَغَايَةً لِلتَّحْرِيمِ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] حَتَّى يَنْقَطِعَ عَنْهُنَّ الدَّمُ؛ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ التَّشْدِيدُ مَوْضِعَ التَّخْفِيفِ، فَيُقَالُ: تَطَهَّرَ بِمَعْنَى طَهُرَ، كَمَا يُقَالُ: قَطَعَ وَقَطَّعَ، وَيَكُونُ هَذَا أَوْلَى، لِأَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى إضْمَارٍ، وَمَذْهَبُكُمْ يَفْتَقِرُ إلَى إضْمَارِ قَوْلِك بِالْمَاءِ. قُلْنَا: لَا يُقَالُ اطَّهَرَتْ الْمَرْأَةُ بِمَعْنَى انْقَطَعَ دَمُهَا، وَلَا يُقَالُ قَطَّعَ مُشَدَّدًا بِمَعْنَى قَطَعَ مُخَفَّفًا، وَإِنَّمَا التَّشْدِيدُ [بِمَعْنَى] تَكْثِيرُ التَّخْفِيفِ.

جَوَابٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ بَعْدَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ، فَقَالَ: " فَإِذَا تَطَهَّرْنَ " وَالْمُرَادُ بِالْمَاءِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ فِي الشَّرْطِ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْغَايَةِ قَبْلَهَا، فَيَكُونُ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] مُخَفَّفًا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ " يَطَّهَّرْنَ " مُشَدَّدًا بِعَيْنِهِ، وَلَكِنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ فِي الْآيَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108] وَقَالَ الْكُمَيْتُ: وَمَا كَانَتْ الْأَبْصَارُ فِيهَا أَذِلَّةً ... وَلَا غُيَّبًا فِيهَا إذَا النَّاسُ غُيَّبُ وَقِيلَ: إنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222] ابْتِدَاءُ كَلَامٍ لَا إعَادَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ كَانَ إعَادَةً لَاقْتَصَرَ عَلَى الْأَوَّلِ فَقَالَ: حَتَّى يَطْهُرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ خَاصَّةً، فَلَمَّا زَادَ عَلَيْهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ اسْتِئْنَافُ حُكْمٍ آخَرَ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ؛ فَإِنَّ الْمَعَادَ فِي الشَّرْطِ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْغَايَةِ، بِدَلِيلِ ذِكْرِهِ بِالْفَاءِ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَهُ لِذِكْرِهِ بِالْوَاوِ. وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ فَلَا تُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ بِعَيْنِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: لَا تُعْطِ هَذَا الثَّوْبَ زَيْدًا حَتَّى يَدْخُلَ الدَّارَ، فَإِذَا دَخَلَ فَأَعْطِهِ الثَّوْبَ وَمِائَةَ دِرْهَمٍ، لَكَانَ هُوَ بِعَيْنِهِ، وَلَوْ أَرَادَ غَيْرَهُ لَقَالَ: لَا تُعْطِهِ حَتَّى يَدْخُلَ الدَّارَ، فَإِذَا دَخَلَ وَجَلَسَ فَافْعَلْ كَذَا وَكَذَا؛ هَذَا طَرِيقُ النَّظْمِ فِي اللِّسَانِ. جَوَابٌ آخَرُ: وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُمْ: إنَّا لَا نَفْتَقِرُ فِي تَأْوِيلِنَا إلَى إضْمَارٍ؛ وَأَنْتُمْ تَفْتَقِرُونَ إلَى إضْمَارٍ. قُلْنَا: لَا يَقَعُ بِمِثْلِ هَذَا تَرْجِيحٌ؛ فَإِنَّ هَذَا الْإِضْمَارَ مِنْ ضَرُورَةِ الْكَلَامِ، فَهَذَا كَالْمَنْطُوقِ بِهِ. جَوَابٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ الْمُتَعَلِّقُ الثَّانِي مِنْ الْآيَةِ: إنَّا نَقُولُ: نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] أَنَّ مَعْنَاهُ حَتَّى يَنْقَطِعَ دَمُهُنَّ، لَكِنَّهُ لَمَّا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ، مَعْنَاهُ فَإِذَا اغْتَسَلْنَ بِالْمَاءِ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ عَلَى شَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: انْقِطَاعُ الدَّمِ.

الثَّانِي: الِاغْتِسَالُ بِالْمَاءِ. فَوَقَفَ الْحُكْمُ وَهُوَ جَوَازُ الْوَطْءِ عَلَى الشَّرْطَيْنِ، وَصَارَ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] فَعَلَّقَ الْحُكْمَ وَهُوَ جَوَازُ دَفْعِ الْمَالِ عَلَى شَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بُلُوغُ النِّكَاحِ، وَالثَّانِي: إينَاسُ الرُّشْدِ. فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا وَلَمْ يَصِحَّ ثُبُوتُهُ بِأَحَدِهِمَا، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ثُمَّ جَاءَتْ السُّنَّةُ بِاشْتِرَاطِ الْوَطْءِ؛ فَوَقَفَ التَّحْلِيلُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، وَهُمَا انْعِقَادُ النِّكَاحِ، وَوُقُوعُ الْوَطْءِ، وَعَلَى هَذَا عَوَّلَ الْجُوَيْنِيُّ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ فَإِنَّهُ مَدَّ التَّحْرِيمَ إلَى غَايَةٍ، وَهِيَ انْقِطَاعُ الدَّمِ، وَمَا بَعْدَ الْغَايَةِ مُخَالِفٌ لِمَا قَبْلَهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ الْجَوَازُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ لِسَبَبِ حُكْمِ الْغَايَةِ. قُلْنَا: إنَّمَا يَكُونُ حُكْمُ الْغَايَةِ مُخَالِفًا لِمَا قَبْلَهَا إذَا كَانَتْ مُطْلَقَةً، فَأَمَّا إذَا انْضَمَّ إلَيْهَا شَرْطٌ آخَرُ فَإِنَّمَا يَرْتَبِطُ الْحُكْمُ بِمَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِ مِنْ الشَّرْطِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6]؛ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وَكَمَا بَيَّنَّاهُ. فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ هَذَا تَجْدِيدَ شَرْطٍ زَائِدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ إعَادَةٌ لِلْكَلَامِ، كَمَا تَقُولُ: لَا تُعْطِ زَيْدًا شَيْئًا حَتَّى يَدْخُلَ الدَّارَ، فَإِذَا دَخَلَ فَأَعْطِهِ؛ وَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَحْفَظُ حُكْمَ الْغَايَةِ وَيُقِرُّهَا عَلَى أَصْلِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ لَفْظِ الشَّرْطِ أَنَّهُ الْمَذْكُورُ فِي الْغَايَةِ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ تِسْعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّا نَقُولُ: رَوَى عَطِيَّةُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: " فَإِذَا تَطَهَّرْنَ بِالْمَاءِ "، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ.

الثَّانِي: أَنَّ تَطَهَّرَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَا يَكْتَسِبُهُ الْإِنْسَانُ وَهُوَ الِاغْتِسَالُ بِالْمَاءِ، فَأَمَّا انْقِطَاعُ الدَّمِ فَلَيْسَ بِمُكْتَسَبٍ. فَإِنْ قِيلَ: بَلْ يُسْتَعْمَلُ تَفَعَّلَ فِي غَيْرِ الِاكْتِسَابِ، كَمَا يُقَالُ: تُقَطَّعَ الْحَبْلُ، وَكَمَا يُقَالُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: تَجَبُّرٌ وَتَكَبُّرٌ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ اكْتِسَابٌ وَلَا تَكَلُّفٌ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ اللُّغَةِ مَا قُلْنَاهُ، وَقَوْلُهُ: تَقَطَّعَ الْحَبْلُ نَادِرٌ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ حُكْمٌ. جَوَابٌ آخَرُ: هَبْكُمْ سَلَّمْنَا لَكُمْ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ، فَفِي مَسْأَلَتِنَا لَا يُسْتَعْمَلُ، فَلَا يُقَالُ تَطَهَّرَتْ الْمَرْأَةُ بِمَعْنَى انْقَطَعَ دَمُهَا. وَإِذَا لَمْ يَجُزْ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَسْأَلَتِنَا لَمْ يَقَعْ اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِهَا، وَهَذِهِ نُكْتَةٌ بَدِيعَةٌ مِنْ الْمَجَازِ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا يُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَى الشَّيْءِ إذَا كَانَ مُسْتَعْمَلًا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. وَأَمَّا مَجَازٌ اُسْتُعْمِلَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ طَرِيقًا إلَى تَأْوِيلِ اللَّفْظِ فِيمَا لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِيهِ؛ وَفِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْجَمَادَاتِ لَا تُوصَفُ بِالِاكْتِسَابِ لِلْأَفْعَالِ وَتَكَلُّفِهَا، وَلِذَلِكَ يَسْتَحِيلُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي أَفْعَالِهِ التَّكَلُّفُ، فَحُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى مَا وُضِعَ لَهُ مِنْ أَجْلِ الضَّرُورَةِ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ خُرُوجَهُ عَنْ مُقْتَضَاهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ. وَهَذَا جَوَابُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ. جَوَابٌ ثَالِثٌ: قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ: {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] فَمَدَحَهُنَّ وَأَثْنَى عَلَيْهِنَّ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ انْقِطَاعَ الدَّمِ مَا كَانَ فِيهِ مَدْحٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ غَيْرِ عَمَلِهِنَّ، وَالْبَارِي سُبْحَانَهُ قَدْ ذَمَّ عَلَى مِثْلِ هَذَا فَقَالَ: {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [آل عمران: 188]. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ، وَلَيْسَ بِرَاجِعٍ إلَى مَا تَقَدَّمَ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة: 222]؛ وَلَمْ يَجْرِ لِلتَّوْبَةِ ذِكْرٌ. قُلْنَا: سَيَأْتِي الْجَوَابُ عَنْهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ.

جَوَابٌ رَابِعٌ عَنْ أَصْلِ السُّؤَالِ: وَهُوَ قَوْلُهُمْ: إنَّمَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى هَذَا كَمَا قَدْ حَفِظْنَا مُوجِبَ الْغَايَةِ وَمُقْتَضَاهَا، فَهَذَا لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الْغَايَةِ، فَأَمَّا إذَا قُرِنَ بِهَا الشَّرْطُ فَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ كَمَا تَقَدَّمَ. جَوَابٌ خَامِسٌ: وَهُوَ أَنَّا نَقُولُ: إنْ كُنَّا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا مُوجَبَ الْغَايَةِ فَقَدْ حَمَلْتُمْ أَنْتُمْ اللَّفْظَ عَلَى التَّكْرَارِ، فَتَرَكْتُمْ فَائِدَةَ عَوْدِهِ، وَإِذَا أَمْكَنَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى فَائِدَةٍ مُجَدَّدَةٍ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى التَّكْرَارِ فِي كَلَامِ النَّاسِ، فَكَيْف كَلَامُ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ؟ جَوَابٌ سَادِسٌ: لَيْسَ حَمْلُكُمْ قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222] عَلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] بِأَوْلَى مِنْ حَمْلِنَا قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] عَلَى قَوْلِهِ: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222]؛ فَوَجَبَ أَنْ يُقْرَنَ كُلُّ لَفْظٍ مِنْهُ عَلَى مُقْتَضَاهُ؛ هَذَا جَوَابُ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ. جَوَابٌ سَابِعٌ: وَذَلِكَ أَنَّا إذَا حَمَلْنَا اللَّفْظَ عَلَى الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ كُنَّا قَدْ حَفِظْنَا الْآيَةَ مِنْ التَّخْصِيصِ وَالْأَدِلَّةَ مِنْ التَّنَاقُضِ؛ وَإِذَا حَمَلْنَا {تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222] عَلَى انْقِطَاعِ الدَّمِ كُنَّا قَدْ خَصَّصْنَا الْآيَةَ وَتَحَكَّمْنَا عَلَى مَعْنَى لَفْظِهَا بِمَا لَا يَقْتَضِيه وَلَا يَشْهَدُ لَهُ فَرْقٌ فِيهِ، وَتَنَاقَضْنَا فِي الْأَدِلَّةِ؛ وَاَلَّذِي قُلْنَاهُ أَوْلَى. هَذَا جَوَابُ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ. وَجَوَابٌ ثَامِنٌ: وَهُوَ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ التَّطَهُّرُ بِالْمَاءِ؛ فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ هُنَا جَوَابُ الطُّوسِيِّ وَهُوَ أَضْعَفُهَا؛ وَقَدْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَهُ ضَعِيفَةً عِنْدَ لِقَائِنَا لَهُ، وَقَدْ حَصَّلْنَا فِيهَا الْقُوَّةَ وَالنُّصْرَةَ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كُلِّ إمَامٍ وَفِي كُلِّ طَرِيقٍ. جَوَابٌ تَاسِعٌ: قَوْلُهُمْ: إنَّ الظَّاهِرَ مِنْ اللَّفْظِ الْمَعَادِ فِي الشَّرْطِ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْغَايَةِ إنَّمَا ذَلِكَ إذَا كَانَ مَعَادًا بِلَفْظِ الْأَوَّلِ؛ أَمَّا إذَا كَانَ مَعَادًا بِغَيْرِ لَفْظِهِ فَلَا، وَهُوَ قَدْ قَالَ هَاهُنَا: حَتَّى " يَطْهُرْنَ " مُخَفَّفًا، ثُمَّ قَالَ فِي الَّذِي بَعْدَهُ: " فَإِذَا تَطَهَّرْنَ " مُشَدَّدًا، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ كَانَ كَلَامُنَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ كَمَا فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ.

فَإِنْ قِيلَ وَهُوَ آخِرُ أَسْئِلَةِ الْقَوْمِ، وَأَعْمَدُهَا: الْقِرَاءَتَانِ كَالْآيَتَيْنِ، فَيَجِبُ أَنْ يُعْمَلَ بِهِمَا، وَنَحْنُ نَحْمِلُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى مَعْنًى فَتُحْمَلُ الْمُشَدَّدَةُ عَلَى مَا إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا لِلْأَقَلِّ، فَإِنَّا لَا نُجَوِّزُ وَطْأَهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ، وَتُحْمَلُ الْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى عَلَى مَا إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا لِلْأَكْثَرِ، فَنُجَوِّزُ وَطْأَهَا وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِلْ. قُلْنَا: قَدْ جَعَلْنَا الْقِرَاءَتَيْنِ حُجَّةً لَنَا، وَبَيَّنَّا وَجْهَ الدَّلِيلِ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا؛ فَإِنَّ قِرَاءَةَ التَّشْدِيدِ تَقْتَضِي التَّطَهُّرَ بِالْمَاءِ، وَقِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ أَيْضًا مُوجِبَةٌ لِذَلِكَ كَمَا بَيَّنَّاهُ. جَوَابٌ ثَانٍ: وَذَلِكَ أَنَّ إحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ أَوْجَبَتْ انْقِطَاعَ الدَّمِ، وَالْأُخْرَى أَوْجَبَتْ الِاغْتِسَالَ بِالْمَاءِ، كَمَا أَنَّ الْقُرْآنَ اقْتَضَى تَحْلِيلَ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ بِالنِّكَاحِ، وَاقْتَضَتْ السُّنَّةُ التَّحْلِيلَ بِالْوَطْءِ، فَجَمَعْنَا بَيْنَهُمَا. فَإِنْ قِيلَ: إذَا اعْتَبَرْتُمْ الْقِرَاءَتَيْنِ هَكَذَا كُنْتُمْ قَدْ حَمَلْتُمُوهَا عَلَى فَائِدَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِذَا اعْتَبَرْنَاهَا نَحْنُ كَمَا قُلْنَا حَمَلْنَاهَا عَلَى فَائِدَتَيْنِ مُتَجَدِّدَتَيْنِ، وَهِيَ اعْتِبَارُ انْقِطَاعِ الدَّمِ فِي قَوْله تَعَالَى: {تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222] فِي أَكْثَرِ الْحَيْضِ، وَاعْتِبَارُ قَوْلِهِ: يَطْهُرُ فِي الْأَقَلِّ. قُلْنَا: نَحْنُ وَإِنْ كُنَّا قَدْ حَمَلْنَاهُمَا عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ فَقَدْ وَجَدْنَا لِذَلِكَ مِثَالًا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَحَفِظْنَا نُطْقَ الْآيَةِ وَلَمْ نَخُصَّهُ، وَحَفِظْنَا الْأَدِلَّةَ فَلَمْ نَنْقُضْهَا؛ فَكَانَ تَأْوِيلُنَا يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ؛ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَأْوِيلٍ آخَرَ يَخْرُجُ عَنْهَا. جَوَابٌ آخَرُ: وَذَلِكَ أَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ الْجَمْعِ يَقْتَضِي إبَاحَةَ الْوَطْءِ عِنْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ لِلْأَكْثَرِ، وَمَا قُلْنَا يَقْتَضِي الْحَظْرَ؛ وَإِذَا تَعَارَضَ بَاعِثُ الْحَظْرِ وَبَاعِثُ الْإِبَاحَةِ غَلَبَ بَاعِثُ الْحَظْرِ، كَمَا قَالَ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ: " أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ، وَالتَّحْرِيمُ أَوْلَى ". فَإِنْ قِيلَ: قَوْله تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] ثُمَّ قَالَ: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] وَهُوَ زَمَانُ الْحَيْضِ، وَمَتَى انْقَطَعَ الدَّمُ لِدُونِ أَكْثَرِ الْحَيْضِ فَالزَّمَانُ بَاقٍ، فَبَقِيَ النَّهْيُ، وَهَذَا اعْتِرَاضُ أَبِي الْحَسَنِ الْقُدُورِيِّ.

أَجَابَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ فَقَالَ: [الْمَحِيضُ] هُوَ الْحَيْضُ بِعَيْنِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُقَالُ: حَاضَتْ الْمَرْأَةُ تَحِيضُ حَيْضًا وَمَحِيضًا، فَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ. وَأَجَابَ عَنْهُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ بِأَنْ قَالَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: " الْمَحِيضِ " نَفْسَ الْحَيْضِ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] فَإِنْ قِيلَ: بِهَذَا نَحْتَجُّ فَإِنَّهُ إذَا زَالَ الدَّمُ زَالَ الْأَذَى؛ فَجَازَ الْوَطْءُ؛ فَإِنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ لِعِلَّةٍ زَالَ بِزَوَالِهَا. قُلْنَا: هَذَا يُنْتَقَضُ بِمَا إذَا انْقَطَعَ الدَّمُ لِأَقَلِّ الْحَيْضِ؛ فَإِنْ زَالَتْ الْعِلَّةُ وَلَمْ يَزُلْ الْحُكْمُ؛ وَذَلِكَ لِفِقْهٍ؛ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ، وَهُوَ وُجُودُ الْأَذَى، ثُمَّ لَمْ يَرْبِطْ زَوَالَ الْحُكْمِ بِزَوَالِ الْعِلَّةِ حَتَّى ضَمَّ إلَيْهِ شَرْطًا آخَرَ، وَهُوَ الْغُسْلُ بِالْمَاءِ؛ وَذَلِكَ فِي الشَّرْعِ كَثِيرٌ. وَأَمَّا طَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ فَالْكَلَامُ مَعَهُمَا سَهْلٌ؛ لِأَنَّهُ خِلَافٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا، وَهُمَا تَفْسِيرُ الطُّهْرِ بِالِانْقِطَاعِ أَوْ الِاغْتِسَالِ؛ وَلِذَلِكَ حَمَلْنَا قَوْله تَعَالَى: {فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] عَلَى الِاغْتِسَالِ فِي الْجُمْلَةِ؛ فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ أَوْ الْمَسْأَلَتَيْنِ؟ وَيَدُلُّ عَلَيْهِمَا مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنْ نَقُولَ: الْحَيْضُ مَعْنًى يَمْنَعُ الصَّوْمَ؛ فَكَانَ الطُّهْرُ الْوَارِدُ فِيهِ مَحْمُولًا عَلَى جَمِيعِ الْجَسَدِ أَصْلُهُ الْجَنَابَةُ. وَأَمَّا دَاوُد فَإِنَّا لَمْ نُرَاعِ خِلَافَهُ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ يَقُولُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَيُضَلِّلُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ الْقِيَاسَ كَفَّرْنَاهُ؛ فَإِنْ رَاعِينَا إشْكَالَ سُؤَالِهِ، قُلْنَا: هَذَا الْكَلَامُ هُوَ عَكْسُ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] وَهَذَا ضَمِيرُ النِّسَاءِ؛ فَكَيْف يَصِحُّ أَنْ يَسْمَعَ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] فَيَقُولُ: إنَّ وَطْأَهَا جَائِزٌ، مَعَ أَنَّ الطَّهَارَةَ عَلَيْهَا وَاجِبَةٌ؛ فَيُبِيحُ الْوَطْءَ قَبْلَ وُجُودِ غَايَتِهِ الَّتِي عَلَّقَ جَوَازَ الْوَطْءِ عَلَيْهَا. وَاعْتَبَرَ ذَلِكَ بِعِطْفٍ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ} [البقرة: 222]؛ عَلَى قَوْله تَعَالَى

مسألة قوله تعالى فأتوهن

{فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ} [البقرة: 222] تَجِدُهُ صَحِيحًا؛ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ اعْتَزِلُوا جُمْلَةَ الْمَرْأَةِ كَانَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ} [البقرة: 222] عَامًّا فِيهَا، فَيَكُونُ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] رَاجِعًا إلَى جُمْلَتِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا} [البقرة: 222] أَسْفَلَهَا مِنْ السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ: حَتَّى يَطْهُرَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ كُلُّهُ؛ وَلَا يَصِحُّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ نِظَامُ الْكَلَامِ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ حَتَّى يُطَهِّرْنَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ فَاعْتَزِلُوا الْفَرْجَ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ. فَإِنْ قِيلَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] فَإِذَا زَالَ الْأَذَى جَازَ الْوَطْءُ. قُلْنَا: عَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الِاعْتِبَارُ بِزَوَالِ الْأَذَى مَا وَجَبَ غَسْلُ الْفَرْجِ عِنْدَك، لِأَنَّ الْأَذَى قَدْ زَالَ بِالْجُفُوفِ أَوْ الْقَصَّةِ الْبَيْضَاءِ، فَغَسْلُ الْفَرْجِ إذْ ذَاكَ يَكُونُ وَقَدْ زَالَتْ الْعِلَّةُ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ أَثَرٌ، فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَدَلَّ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحُكْمِ الْحَيْضِ لَا بِوُجُودِهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَّلَ بِكَوْنِهِ أَذًى، ثُمَّ مَنَعَ الْقُرْبَانَ حَتَّى تَكُونَ الطَّهَارَةُ مِنْ الْأَذَى، وَهَذَا بَيِّنٌ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى فَأْتُوهُنَّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222]: مَعْنَاهُ فَجِيئُوهُنَّ، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ الْوَطْءِ، كَمَا كَنَّى عَنْهُ بِالْمُلَامَسَةِ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " إنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَعْفُو وَيُكَنِّي، كَنَّى بِاللَّمْسِ عَنْ الْجِمَاعِ ". وَأَمَّا مَوْرِدُهُ فَقَدْ كَانَ يَتَرَكَّبُ عَلَى قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا} [البقرة: 222] لَوْلَا قَوْلُهُ: " مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ " فَإِنَّهُ خَصَّصَهُ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: وَفِيهَا سِتَّةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: مِنْ حَيْثُ نُهُوا عَنْهُنَّ. الثَّانِي: الْقُبُلُ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. الثَّالِثُ: مِنْ جَمِيعِ بَدَنِهَا؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا.

مسألة قوله تعالى يحب أي محبة الله

الرَّابِعُ: مِنْ قَبْلِ طُهْرِهِنَّ؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ. الْخَامِسُ: مِنْ قَبْلِ النِّكَاحِ؛ قَالَهُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ. السَّادِسُ: مِنْ حَيْثُ أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى لَكُمْ الْإِتْيَانَ، لَا صَائِمَاتٍ وَلَا مُحْرِمَاتٍ وَلَا مُعْتَكِفَاتٍ؛ قَالَهُ الْأَصَمُّ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ قَوْلٌ مُجْمَلٌ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَكَيْفَمَا كَانَ النَّهْيُ جَاءَتْ الْإِبَاحَةُ عَلَيْهِ؛ فَبَقِيَ تَحْقِيقُ مَوْرِدِ النَّهْيِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: الْقُبُلُ، فَهُوَ مَذْهَبُ أَصْبَغَ وَغَيْرِهِ؛ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: وَهُوَ جَمِيعُ بُدْنِهَا فَالشَّاهِدُ لَهُ قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ} [البقرة: 222]؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَأَمَّا الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ طُهْرِهِنَّ؛ فَيَعْنِي بِهِ إذَا طَهُرْنَ؛ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ بِالْفَرْجِ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الطَّهَارَةِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْفَرْجِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ صَحِيحِ الْأَقْوَالِ، وَإِنْ شِئْت فَرَكِّبْهُ عَلَى الْأَقْوَالِ كُلِّهَا يَتَرَكَّبْ؛ فَمَا صَحَّ فِيهَا صَحَّ فِيهِ. وَأَمَّا الْخَامِسُ: وَهُوَ النِّكَاحُ، فَضَعِيفٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {النِّسَاءَ} [البقرة: 222] إنَّمَا يُرِيدُ بِهِ الْأَزْوَاجَ اللَّوَاتِي يَخْتَصُّ التَّحْرِيمُ فِيهِنَّ بِحَالَةِ الْحَيْضِ. وَأَمَّا السَّادِسُ: فَصَحِيحٌ فِي الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ ذُكِرَ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ وَطْئِهِ، وَلَكِنْ عُلِمَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِأَدِلَّتِهَا؛ وَإِنَّمَا اخْتَصَّتْ الْآيَةُ بِحَالِ الطُّهْرِ، كَمَا اخْتَصَّ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] يَعْنِي: فِي حَالَةِ الصَّوْمِ وَالِاعْتِكَافِ، وَلَا يُقَالُ: إنَّ هَذَا كُلَّهُ يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنَّهَا مُرَادَةٌ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا لَهُ؛ فَلَيْسَ كُلُّ مُحْتَمَلٍ فِي اللَّفْظِ مُرَادًا بِهِ فِيهِ، وَهَذَا مِنْ نَفِيسِ عِلْمِ الْأُصُولِ، فَافْهَمْهُ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى يُحِبُّ أَيْ مَحَبَّةُ اللَّهِ] الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ: قَوْله تَعَالَى: {يُحِبُّ} [البقرة: 222]: مَحَبَّةُ اللَّهِ هِيَ إرَادَتُهُ ثَوَابَ الْعَبْدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ بَيَانُهُ.

مسألة قوله تعالى المتطهرين

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {التَّوَّابِينَ} [البقرة: 222]: التَّوْبَةُ: هِيَ رُجُوعُ الْعَبْدِ عَنْ حَالَةِ الْمَعْصِيَةِ إلَى حَالَةِ الطَّاعَةِ؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ بِشُرُوطِهَا. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى الْمُتَطَهِّرِينَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]: وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: الْمُتَطَهِّرِينَ بِالْمَاءِ لِلصَّلَاةِ. الثَّانِي: الَّذِينَ لَا يَأْتُونَ النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. الثَّالِثُ: الَّذِينَ لَا يَنْقُضُونَ التَّوْبَةَ، طَهَّرُوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ الْعَوْدِ إلَى مَا رَجَعُوا عَنْهُ مِنْ الْبَاطِلِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَاللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ فَالْأَوَّلُ بِهِ أَخَصُّ، وَهُوَ فِيهِ أَظْهَرُ، وَعَلَيْهِ حَمَلَهُ أَهْلُ التَّأْوِيلِ، وَهُوَ الْمُنْعَطِفُ عَلَى سَابِقِ الْآيَةِ الْمُنْتَظِمُ مَعَهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الثَّانِيَة وَالسِّتُّونَ قَوْله تَعَالَى نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ] الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالسِّتُّونَ قَوْله تَعَالَى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 223] فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: وَفِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ: قَالَ جَابِرٌ: " كَانَتْ الْيَهُودُ تَقُولُ: مَنْ أَتَى امْرَأَتَهُ فِي قُبُلِهَا مِنْ دُبُرِهَا جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ ". وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ.

مسألة نكاح المرأة في دبرها

الثَّانِيَةُ: قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْله تَعَالَى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 223] قَالَ: يَأْتِيهَا مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً إذَا كَانَتْ فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. الثَّالِثَةُ: رَوَى التِّرْمِذِيُّ، «أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ: هَلَكْت. قَالَ: وَمَا أَهْلَكَك؟ قَالَ: حَوَّلْت رَحْلِي الْبَارِحَةَ. فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا حَتَّى نَزَلَتْ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 223]: فَقَالَ: أَقْبِلْ وَأَدْبِرْ، وَاتَّقِ الدُّبُرَ». [مَسْأَلَةٌ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا؛ فَجَوَّزَهُ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ جَمَعَ ذَلِكَ ابْنُ شَعْبَانَ فِي كِتَابِ جِمَاعُ النِّسْوَانِ وَأَحْكَامُ الْقُرْآنِ " وَأَسْنَدَ جَوَازَهُ إلَى زُمْرَةٍ كَرِيمَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَإِلَى مَالِكٍ مِنْ رِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: " كَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ، فَأَخَذْت عَلَيْهِ يَوْمًا فَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ حَتَّى انْتَهَى إلَى مَكَان قَالَ: أَتَدْرِي فِيمَ نَزَلَتْ؟ قُلْت: لَا. قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ مَضَى، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِحَدِيثِ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]. قَالَ: يَأْتِيهَا فِي. . وَلَمْ يَذْكُرْ بَعْدَهُ شَيْئًا. وَيُرْوَى عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: " وَهَلَ الْعَبْدُ " فِيمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ النَّسَائِيّ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ أَنَّهُ قَالَ لِنَافِعِ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ: " قَدْ أُكْثِرُ عَلَيْك الْقَوْلَ، إنَّك تَقُولُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ إنَّهُ أَفْتَى بِأَنْ يَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ. قَالَ نَافِعٌ: لَقَدْ

الآية الثالثة والستون قوله تعالى ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم

كَذَبُوا عَلَيَّ، وَلَكِنْ سَأُخْبِرُك كَيْف كَانَ الْأَمْرُ؛ إنَّ ابْنَ عُمَرَ عَرَضَ الْمُصْحَفَ يَوْمًا وَأَنَا عِنْدَهُ حَتَّى بَلَغَ {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] قَالَ: يَا نَافِعُ، هَلْ تَعْلَمُ مَا أَمْرُ هَذِهِ الْآيَةِ؟ قُلْت: لَا. قَالَ لَنَا: كُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَجِيءُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ وَنَكَحْنَا نِسَاءَ الْأَنْصَارِ أَرَدْنَا مِنْهُنَّ مَا كُنَّا نُرِيدُ مِنْ نِسَائِنَا وَإِذَا هُنَّ قَدْ كَرِهْنَ ذَلِكَ وَأَعْظَمْنَهُ، وَكَانَتْ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ إنَّمَا يُؤْتَيْنَ عَلَى جُنُوبِهِنَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]. قَالَ الْقَاضِي: وَسَأَلْت الْإِمَامَ الْقَاضِيَ الطُّوسِيَّ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ وَطْءُ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا بِحَالٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْفَرْجَ حَالَ الْحَيْضِ لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ الْعَارِضَةِ، فَأَوْلَى أَنْ يُحَرِّمَ الدُّبُرَ بِالنَّجَاسَةِ اللَّازِمَةِ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ وَالسِّتُّونَ قَوْله تَعَالَى وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ] ْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 224] فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي شَرْحِ الْعُرْضَةِ: اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ " عُرْضَ " فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يَتَصَرَّفُ عَلَى مَعَانٍ، مَرْجِعُهَا إلَى الْمَنْعِ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ اعْتَرَضَ فَقَدْ مَنَعَ، وَيُقَالُ لِمَا عَرَضَ فِي السَّمَاءِ مِنْ السَّحَابِ عَارِضٌ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ مِنْ رُؤْيَتِهَا، وَمِنْ رُؤْيَةِ الْبَدْرَيْنِ وَالْكَوَاكِبِ. وَقَدْ يُقَالُ هَذَا عُرْضَةٌ لَك أَيْ عُدَّةٌ تَبْتَذِلُهُ فِي كُلِّ مَا يَعِنُّ لَك. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: " الصَّمَدْ لِأَيَّامِ الْحُرُوبِ، وَهَذِهِ لِلْهَوَى، وَهَذِهِ عُرْضَةٌ لِارْتِحَالِنَا ". [مَسْأَلَةٌ الْحَلِفَ بِاَللَّهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْمَعْنَى: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: الْأَوَّلُ: لَا تَجْعَلُوا الْحَلِفَ بِاَللَّهِ عِلَّةً يَعْتَلُّ بِهَا الْحَالِفُ فِي بِرٍّ أَوْ حِنْثٍ؛ وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ

مسألة قوله تعالى أن تبروا

النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَأَنْ يَلِجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَنْ يُعْطِيَ عَنْهَا كَفَّارَةً» قَالَ ذَلِكَ قَتَادَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَطَاوُسٌ. الثَّانِي: لَا يَمْتَنِعُ مِنْ فِعْلِ خَيْرٍ بِأَنْ يَقُولَ: عَلَيَّ يَمِينٌ أَنْ لَا يَكُونَ. الثَّالِثُ: لَا تُكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ عُرْضٍ يَعْرِضُ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ} [القلم: 10] فَذَمَّ كَثْرَةَ الْحَلِفِ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى أَنْ تَبَرُّوا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أَنْ تَبَرُّوا} [البقرة: 224]: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَجْعَلُوا الْيَمِينَ مَانِعًا مِنْ الْبِرِّ، وَهُوَ مَعْنَى الْحَدِيثِ: «لَأَنْ يَلَجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَةً عَنْهَا» وَتَحْقِيقُ الْمَعْنَى أَنَّهُ إنْ حَلَفَ أَوَّلًا كَانَ الْمَعْنَى أَنْ تَبَرُّوا بِالْيَمِينِ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ كَانَ الْمَعْنَى أَنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا، وَيَدْخُلُ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فَيَجْتَمِعَانِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ يَأْتِي فِي سُورَةِ النُّورِ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور: 22] إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ».

الآية الرابعة والستون قوله تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم

وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ يَكُونُ الْمَعْنَى أَنْ تَبَرُّوا، أَيْ إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ عَنْ كَثْرَةِ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى. [الْآيَة الرَّابِعَة وَالسِّتُّونَ قَوْله تَعَالَى لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ] ْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 225] فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اللَّغْوُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَخْصُوصٌ بِكُلِّ كَلَامٍ لَا يُفِيدُ، وَقَدْ يَنْطَلِقُ عَلَى مَا لَا يَضُرُّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْمُرَادِ بِذَلِكَ: وَفِيهِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: مَا يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، كَقَوْلِهِ: لَا وَاَللَّهِ، وَبَلَى وَاَللَّهِ؛ قَالَتْهُ عَائِشَةُ، وَالشَّافِعِيُّ. الثَّانِي: مَا يَحْلِفُ فِيهِ عَلَى الظَّنِّ، فَيَكُونُ بِخِلَافِهِ قَالَهُ مَالِكٌ. الثَّالِثُ: يَمِينُ الْغَضَبِ. الرَّابِعُ: يَمِينُ الْمَعْصِيَةِ. الْخَامِسُ: دُعَاءُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ، كَقَوْلِهِ: إنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا فَيَلْحَقُ بِي كَذَا وَنَحْوُهُ. وَالسَّادِسُ: الْيَمِينُ الْمُكَفِّرُ. السَّابِعُ: يَمِينُ النَّاسِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي تَنْقِيحِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ: اعْلَمُوا أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ السَّبْعَةِ الْأَقْوَالِ لَا تَخْلُو مِنْ قِسْمَيْ اللَّغْوِ اللَّذَيْنِ بَيَّنَّاهُمَا، وَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى جَمِيعِهَا مُمْتَنِعٌ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ قَامَ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِبَعْضِهَا، وَفِي ذَلِكَ آيَاتٌ وَأَخْبَارٌ وَآثَارٌ لَوْ تَتَبَّعْنَاهَا لَخَرَجْنَا عَنْ مَقْصُودِ الِاخْتِصَارِ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ مِنْ الْإِكْثَارِ

الآية الخامسة والستون قوله تعالى للذين يؤلون من نسائهم

وَاَلَّذِي يَقْطَعُ بِهِ اللَّبِيبُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرِ الْآيَةِ: لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِمَا لَا مَضَرَّةَ فِيهِ عَلَيْكُمْ، إذْ قَدْ قَصَدَ هُوَ الْإِضْرَارَ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ الْمُؤَاخَذَةَ بِالْقَصْدِ، وَهُوَ كَسْبُ الْقَلْبِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّغْوَ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَخَرَجَ مِنْ اللَّفْظِ يَمِينُ الْغَضَبِ وَيَمِينُ الْمَعْصِيَةِ، وَانْتَظَمَتْ الْآيَةُ قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ كَسَبَهُ الْقَلْبُ، فَهُوَ الْمُؤَاخَذُ بِهِ، وَقِسْمٌ لَا يَكْسِبُهُ الْقَلْبُ، فَهُوَ الَّذِي لَا يُؤَاخَذُ بِهِ، وَخَرَجَ مِنْ قِسْمِ الْكَسْبِ يَمِينُ الْحَالِفِ نَاسِيًا، فَأَمَّا الْحَانِثُ نَاسِيًا فَهُوَ بَابٌ آخَرَ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ، كَمَا خَرَجَ مِنْ قِسْمِ الْكَسْبِ أَيْضًا الْيَمِينُ عَلَى شَيْءٍ يَظُنُّهُ، فَخَرَجَ بِخِلَافِهِ، لِأَنَّهُ مِمَّا لَمْ يَقْصِدْهُ، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ طَوِيلٌ بَيَانُهُ فِي الْمَسَائِلِ. [الْآيَة الْخَامِسَة وَالسِّتُّونَ قَوْله تَعَالَى لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ] الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالسِّتُّونَ: قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: وَهِيَ آيَةٌ عَظِيمَةُ الْمَوْقِعِ جِدًّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُكْمٌ كَبِيرٌ اخْتَلَفَ فِيهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، وَدَقَّتْ مَدَارِكُهَا حَسْبَمَا تَرَوْنَهَا مِنْ جُمْلَتِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: " كَانَ إيلَاءُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَوَفَّتْ لَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ "؛ فَمَنْ آلَى أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلَيْسَ بِإِيلَاءٍ حُكْمِيٍّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِيلَاءُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ هُوَ الْحَلِفُ، وَالْفَيْءُ هُوَ الرُّجُوعُ، وَالْعَزْمُ هُوَ تَجْرِيدُ الْقَلْبِ عَنْ الْخَوَاطِرِ الْمُتَعَارِضَةِ فِيهِ إلَى وَاحِدٍ مِنْهَا.

مسألة ما يقع به الإيلاء

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: نَظْمُ الْآيَةِ: لِلَّذِينَ يَعْتَزِلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ بِالْأَلِيَّةِ، فَكَانَ مِنْ عَظِيمِ الْفَصَاحَةِ أَنْ اُخْتُصِرَ، وَحُمِّلَ آلَى مَعْنَى اعْتَزَلَ النِّسَاءَ بِالْأَلِيَّةِ حَتَّى سَاغَ لُغَةَ أَنْ يَتَّصِلَ آلَى بِقَوْلِك مِنْ، وَنَظْمُهُ فِي الْإِطْلَاقِ أَنْ يَتَّصِلَ بِآلَى قَوْلُك عَلَى، تَقُولُ الْعَرَبُ: اعْتَزَلْت مِنْ كَذَا وَعَنْ كَذَا، وَآلَيْت وَحَلَفَتْ عَلَى كَذَا، وَكَذَلِكَ عَادَةُ الْعَرَبِ أَنْ تَحْمِلَ مَعَانِيَ الْأَفْعَالِ عَلَى الْأَفْعَالِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الِارْتِبَاطِ وَالِاتِّصَالِ، وَجَهِلَتْ النَّحْوِيَّةُ هَذَا فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ: إنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ يُبْدَلُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، وَيَحْمِلُ بَعْضُهَا مَعَانِيَ الْبَعْضِ، فَخَفِيَ عَلَيْهِمْ وَضْعُ فِعْلٍ مَكَانَ فِعْلٍ، وَهُوَ أَوْسَعُ وَأَقْيَسُ، وَلَجُّوا بِجَهْلِهِمْ إلَى الْحُرُوفِ الَّتِي يَضِيقُ فِيهَا نِطَاقُ [الْكَلَامِ] وَالِاحْتِمَالِ. [مَسْأَلَة مَا يَقَعُ بِهِ الْإِيلَاءُ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِيمَا يَقَعُ بِهِ الْإِيلَاءُ: قَالَ قَوْمٌ: لَا يَقَعُ الْإِيلَاءُ إلَّا بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ، وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. الثَّانِي: أَنَّ الْإِيلَاءَ يَقَعُ بِكُلِّ يَمِينٍ عَقَدَ الْحَالِفُ بِهَا قَوْلَهُ، وَذَلِكَ بِالْتِزَامِ مَا لَمْ يَكُنْ لَازِمًا قَبْلَ ذَلِكَ. وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بَنَوْهُ عَلَى الْحَدِيثِ: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ» وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ أَنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا جَاءَ لِبَيَانِ الْأَوْلَى، لَا لِإِسْقَاطِ سِوَاهُ مِنْ الْأَيْمَانِ؛ بَلْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ نَصِّ كَلَامِنَا مَا يُوجِبُ أَنَّهَا كُلَّهَا أَيْمَانٌ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ كَانَ حَالِفًا». ثُمَّ إذَا كَانَ حَالِفًا وَجَبَ أَنْ تَنْعَقِدَ يَمِينُهُ.

مسألة ما يقع عليه الإيلاء

وَأَمَّا أَصْحَابُ الْقَوْلِ الثَّانِي، وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَيَقُولُونَ: كُلُّ يَمِينٍ أَلْزَمَهَا نَفْسَهُ مِمَّا لَمْ تَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ لَازِمَةً لَهُ عَلَى فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ، فَهُوَ بِهَا مُولٍ؛ لِأَنَّهُ حَالِفٌ، وَذَلِكَ لَازِمٌ صَحِيحٌ شَرِيعَةً وَلُغَةً. [مَسْأَلَةٌ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْإِيلَاءُ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِيمَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْإِيلَاءُ وَذَلِكَ هُوَ تَرْكُ الْوَطْءِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي حَالِ الرِّضَا أَوْ الْغَضَبِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ اللَّيْثُ وَالشَّعْبِيُّ: لَا يَكُونُ إلَّا عِنْدَ الْغَضَبِ؛ وَالْقُرْآنُ عَامٌّ فِي كُلِّ حَالٍ، فَتَخْصِيصُهُ دُونَ دَلِيلٍ لَا يَجُوزُ. وَهَذَا الْخِلَافُ انْبَنَى عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ مَفْهُومَ الْآيَةِ قَصْدُ الْمُضَارَّةِ بِالزَّوْجَةِ وَإِسْقَاطُ حَقِّهَا مِنْ الْوَطْءِ، فَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْوَطْءِ قَصْدًا لِلْإِضْرَارِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ: مَرَضٍ أَوْ رَضَاعٍ وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُولِي، وَتَرْفَعُهُ إلَى الْحَاكِمِ إنْ شَاءَتْ، وَيُضْرَبُ لَهُ الْأَجَلُ مِنْ يَوْمِ رَفْعِهِ، لِوُجُودِ مَعْنَى الْإِيلَاءِ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْإِيلَاءَ لَمْ يَرِدْ لَعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ لِمَعْنَاهُ؛ وَهُوَ الْمُضَارَّةُ وَتَرْكُ الْوَطْءِ، حَتَّى قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ حَلَفَ أَلَّا يَقْرَبَهَا لِأَجَلِ الرَّضَاعِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا، لِأَنَّهُ قَصْدٌ صَحِيحٌ لَا إضْرَارَ فِيهِ. [مَسْأَلَةٌ حَلَفَ عَلَى مَنْعِ الْكَلَامِ أَوْ الْإِنْفَاقِ إيلاءا] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إذَا حَلَفَ عَلَى مَنْعِ الْكَلَامِ أَوْ الْإِنْفَاقِ، اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُولٍ؛ لِوُجُودِ الْمَعْنَى السَّابِقِ بَيَانُهُ مِنْ الْمُضَارَّةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]. [مَسْأَلَةٌ حَلَفَ بِاَللَّهِ أَلَّا يَطَأهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: إذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ أَلَّا يَطَأهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَكُونُ مُولِيًا. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ: لَيْسَ بِمُولٍ. وَهَذَا الْخِلَافُ يَنُبْنِي عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ مَعْرِفَةُ فَائِدَةِ الِاسْتِثْنَاءِ؛ فَرَأَى ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّ

مسألة مدة الإيلاء

الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَحِلُّ الْيَمِينَ، وَإِنَّمَا هُوَ بَدَلٌ مِنْ الْكَفَّارَةِ، وَرَأَى ابْنُ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ يَحِلُّهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ يَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّهُ غَيْرُ عَازِمٍ عَلَى الْفِعْلِ، وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ قَالَ مَالِكٌ: إنَّهُ إذَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ: " إنْ شَاءَ اللَّهُ " مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} [الكهف: 23] {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 24] وَمَوْرِدُ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا إلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا ثُنْيَا لَهُ، لِأَنَّ الْحَالَ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ وَقَصَدَ بِهَذَا الْقَوْلِ حَلَّ الْيَمِينِ فَإِنَّهَا تَنْحَلُّ عَنْهُ. [مَسْأَلَةٌ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَالَ الْأَكْثَرُ: الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرُ فُسْحَةٌ لِلزَّوْجِ، لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيهَا وَلَا كَلَامَ مَعَهُ لَأَجَلِهَا؛ فَإِنْ زَادَ عَلَيْهَا حِينَئِذٍ يَكُونُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ، وَيُوَقَّتُ لَهُ الْأَمَدُ، وَتُعْتَبَرُ حَالُهُ عِنْدَ انْقِضَائِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: يَمِينُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مُوجِبٌ الْحُكْمَ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهَا لِمَنْ آلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ تَقْدِيرَاتٍ: الْأَوَّلُ: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ؛ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. الثَّانِي: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرِ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. الثَّالِثُ: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. فَالثَّالِثُ بَاطِلٌ قَطْعًا، وَالْأَوَّلُ مُرَادٌ قَطْعًا، وَالثَّانِي مُحْتَمِلٌ لِلْمُرَادِ احْتِمَالًا بَعِيدًا؛ وَالْأَصْلُ عَدَمِ الْحُكْمِ فِيهِ؛ فَلَا يُقْضَى بِهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلِلزَّوْجِ أَنْ يَقُول: حَلَفْت عَلَى مُدَّةٍ هِيَ لِي، فَلَا كَلَامَ مَعِي، وَلَيْسَ عَنْ هَذَا جَوَابٌ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى فَإِنْ فَاءُوا] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: 226]: وَالْمَعْنَى: إنْ رَجَعُوا، وَالرُّجُوعُ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ مَرْجُوعٍ عَنْهُ، وَقَدْ كَانَ تَقَدَّمَ مِنْهُ يَمِينٌ وَاعْتِقَادٌ؛ فَأَمَّا الْيَمِينُ فَيَكُونُ الرُّجُوعُ عَنْهَا بِالْكَفَّارَةِ، لِأَنَّهَا تَحِلُّهَا، وَأَمَّا الِاعْتِقَادُ فَيَكُونُ الرُّجُوعُ عَنْهُ بِالْفِعْلِ؛ لِأَنَّ اعْتِقَادَهُ مُسْتَتِرٌ لَا يَظْهَرُ إلَّا بِمَا يُكْشَفُ عَنْهُ مِنْ فِعْلٍ

مسألة قوله تعالى وإن عزموا الطلاق

يَتَبَيَّنُ بِهِ؛ كَحِلِّ الْيَمِينِ بِالْكَفَّارَةِ أَوْ إتْيَانِ مَا امْتَنَعَ مِنْهُ؛ فَأَمَّا مُجَرَّدُ قَوْلِهِ: رَجَعْت فَلَا يُعَدُّ فَيْئًا؛ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا التَّحْقِيقُ فَلَا مَعْنَى بَعْدَهُ لِقَوْلِ إبْرَاهِيمَ وَأَبِي قِلَابَةَ: إنَّ الْفَيْءَ قَوْلُهُ رَجَعْت. أَمَّا أَنَّهُ تَبْقَى هُنَا نُكْتَةٌ وَهِيَ أَنْ يَحْلِفَ فَيَقُولُ: وَاَللَّهِ لَقَدْ رَجَعْت فَهَلْ تَنْحَلُّ الْيَمِينُ الَّتِي قَبْلَهَا أَمْ لَا؟ قُلْنَا: لَا يَكُونُ فَيْئًا، لِأَنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ تُوجِبُ كَفَّارَةً أُخْرَى فِي الذِّمَّةِ، وَتَجْتَمِعُ مَعَ الْيَمِينِ الْأَوَّلِ، وَلَا يُرْفَعُ الشَّيْءُ إلَّا بِمَا يُضَادُّهُ وَهَذَا تَحْقِيقٌ بَالِغٌ. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: إذَا كَانَ ذَا عُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ مَغِيبٍ فَقَوْلُهُ: رَجَعْت فَيْءٌ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُقَالُ لَهُ كَفِّرْ أَوْ أَوْقِعْ مَا حَلَفْت عَلَيْهِ؛ فَإِنْ فَعَلَ، وَإِلَّا طَلُقَتْ عَلَيْهِ. وَعَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ يَكْفِي فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ قَوْلُهُ: رَجَعْت، ثُمَّ إذَا أَمْكَنَهُ الْوَطْءُ، فَلَمْ يَطَأْ طُلِّقَ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَفَّرَ ثُمَّ أَمْكَنَهُ الْوَطْءُ لِزَوَالِ الْعُذْرِ لَمْ تَطْلُقْ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُسْتَأْنَفُ لَهُ الْمُدَّةُ إذَا انْقَضَتْ، وَهُوَ مَغِيبٌ أَوْ مَرِيضٌ ثُمَّ زَالَ عُذْرُهُ. قُلْنَا لِأَبِي حَنِيفَةَ: لَا تُسْتَأْنَفُ لَهُ مُدَّةٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعُذْرَ لَا يَمْنَعُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ؛ فَإِنْ كَانَ فِعْلًا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا بِالْخُرُوجِ فَيَفْعَلُهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ " الْمَسَائِلِ " مُسْتَوْفَاةَ الْحُجَجِ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: إذَا تَرَكَ الْوَطْءَ مُضَارًّا بِغَيْرِ يَمِينٍ فَلَا تَظْهَرُ فَيْئَتُهُ عِنْدَنَا إلَّا بِالْفِعْلِ، لِأَنَّ اعْتِقَادَ الْكَرَاهَةِ قَدْ ظَهَرَ بِالِامْتِنَاعِ، فَلَا يَظْهَرُ اعْتِقَادُهُ لِلْإِرَادَةِ إلَّا بِالْإِقْدَامِ؛ وَهَذَا تَحْقِيقٌ بَالِغٌ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة: 227]: اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، هَذَا وَهُمْ الْقُدْوَةُ الْفُصَحَاءُ اللُّسْنُ الْبُلَغَاءُ مِنْ الْعَرَبِ الْعُرْبِ، فَإِذَا أَشْكَلَتْ عَلَيْهِمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي تَتَّضِحُ لَهُ مِنَّا بِالْأَفْهَامِ الْمُخْتَلِفَةِ وَاللُّغَةِ الْمُعْتَلَّةِ، وَلَكِنْ إنْ أَلْقَيْنَا الدَّلْوَ فِي الدِّلَاءِ لَمْ نَعْدَمْ بِعَوْنِ اللَّهِ الدَّوَاءَ، وَلَمْ نُحْرَمْ الِاهْتِدَاءَ فِي الِاقْتِدَاءِ.

قَالَ عُلَمَاؤُنَا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة: 227] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُضِيَّ الْمُدَّةِ لَا يُوقِعُ فُرْقَةً؛ إذْ لَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ قَصْدِهِ وَاعْتِبَارِ عَزْمِهِ. وَقَالَ الْمُخَالِفُ، وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: إنَّ عَزِيمَةَ الطَّلَاقِ تُعْلَمُ مِنْهُ بِتَرْكِ الْفَيْئَةِ مَدَى التَّرَبُّصِ. أَجَابَ عُلَمَاؤُنَا بِأَنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْمَاضِي مُحَالٌ، وَحُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى الْوَاقِعُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ عَزِيمَةٌ مِنَّا. وَتَحْقِيقُ الْأَمْرُ أَنَّ تَقْرِيرَ الْآيَةَ عِنْدَنَا: " لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ فَاءُوا بَعْدَ انْقِضَائِهَا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ". وَتَقْرِيرُهَا عِنْدَهُمْ: " لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ فَاءُوا فِيهَا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ بِتَرْكِ الْفَيْئَةِ فِيهَا فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ". وَهَذَا احْتِمَالٌ مُتَسَاوٍ، وَلِأَجَلِ تَسَاوِيهِ تَوَقَّفَتْ الصَّحَابَةُ فِيهِ، فَوَجَبَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ اعْتِبَارُ الْمَسْأَلَةِ مِنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ بَحْرٌ مُتَلَاطِمُ الْأَمْوَاجِ، وَلَقَدْ كُنْت أَقَمْت بِالْمَدْرَسَةِ التَّاجِيَّةِ مُدَّةً لِكَشْفِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالْمُنَاظَرَةِ، ثُمَّ تَرَدَّدْت فِي الْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ آخِرًا لِأَجْلِهَا. فَاَلَّذِي انْتَهَى إلَيْهِ النَّظَرُ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّ أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ قَالُوا: كَانَ الْإِيلَاءُ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَزَادَ فِيهِ الشَّرْعُ الْمُدَّةَ وَالْمُهْلَةَ، فَأَقَرَّهُ طَلَاقًا بَعْدَ انْقِضَائِهَا. قُلْنَا: هَذِهِ دَعْوَى. قَالُوا: وَتَغْيِيرُهَا دَعْوَى. قُلْنَا: أَمَّا شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا فَرُبَّمَا قُلْنَا إنَّهُ شَرْعٌ لَنَا مَعَكُمْ أَوْ وَحْدَنَا وَأَمَّا أَحْكَامُ الْجَاهِلِيَّةِ فَلَيْسَتْ بِمُعْتَبَرَةِ، وَهَذَا مَوْقِفٌ مُشْكِلٌ جِدًّا، وَعَلَيْهِ اعْتِرَاضٌ عَظِيمٌ بَيَانُهُ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ، الِاعْتِرَاضُ حَدِيثُ عَائِشَةَ: «كَانَ النِّكَاحُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ، فَأَقَرَّ الْإِسْلَامُ وَاحِدًا». وَأَمَّا عُلَمَاؤُنَا فَرَأَوْا أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ ضَرَرٌ حَادِثٌ بِالزَّوْجَةِ؛ فَضُرِبَتْ لَهُ فِي

مسألة إيلاء الكافر

رَفْعِهِ مُدَّةٌ، فَإِنْ رُفِعَ الضَّرَرُ وَإِلَّا رَفَعَهُ الشَّرْعُ عَنْهَا؛ وَذَلِكَ يَكُونُ بِالطَّلَاقِ كَمَا يَحْكُمُ فِي كُلِّ ضَرَرِ يَتَعَلَّقُ بِالْوَطْءِ كَالْجُبِّ وَالْعُنَّةِ وَغَيْرِهِمَا، وَهَذَا غَايَةُ مَا وَقَفَ عَلَيْهِ الْبَيَانُ هَاهُنَا؛ وَاسْتِيفَاؤُهُ فِي الْمَسَائِلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ إيلَاءِ الْكَافِرِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: هَذِهِ الْآيَةُ بِعُمُومِهَا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ إيلَاءِ الْكَافِرِ. قُلْنَا: نَحْنُ نَقُولُ بِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرْعِ بِلَا خِلَافٍ فِيهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلَكِنْ لَا عِبْرَةَ بِهِ عِنْدَنَا بِفِعْلِ الْكَافِرِ حَتَّى يُقَدِّمَ عَلَى فِعْلِهِ شَرْطَ اعْتِبَارِ الْأَفْعَالِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ، كَمَا لَا يُنْظَرُ فِي صَلَاتِهِ حَتَّى يُقَدِّمَ شَرْطَهَا؛ لِأَنَّ زَوْجَتَهُ إنْ قُدِّرَتْ مُسْلِمَةً لَمْ يَصِحَّ بِحَالٍ، وَإِنْ قُدِّرَتْ كَافِرَةً فَمَا لَنَا وَلَهُمْ؟ وَكَيْفَ نَنْظُرُ فِي أَنْكِحَتِهِمْ؟ وَلَعَلَّ الْمُولَى فِيهَا هِيَ الْخَامِسَةُ أَوْ بِنْتُ أَخِيهِ أَوْ أُخْتِهِ؛ فَهَذَا لَغْوٌ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ. [مَسْأَلَةٌ إذَا كَفَّرَ الْمُولِي] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إذَا كَفَّرَ الْمُولِي سَقَطَ عَنْهُ الْإِيلَاءُ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ فِي الْمَذْهَبِ، وَذَلِكَ إجْمَاعٌ فِي مَسْأَلَةِ الْإِيلَاءِ، وَدَلِيلٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي غَيْرِ مَسْأَلَةِ الْإِيلَاءِ؛ إذْ لَا يَرَى جَوَازَ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ. [مَسْأَلَةٌ إيلَاء النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نِسَائِهِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا، وَصَارَ فِي مَشْرَبَةٍ لَهُ، فَلَمَّا أَكْمَلَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ نَزَلَ عَلَى أَزْوَاجِهِ صَبِيحَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: إنَّك آلَيْتَ شَهْرًا. فَقَالَ: إنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ» أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قَاسِمٍ الْعُثْمَانِيُّ غَيْرَ مَرَّةٍ: وَصَلْت الْفُسْطَاطَ مَرَّةً، فَجِئْت مَجْلِسَ الشَّيْخِ أَبِي الْفَضْلِ الْجَوْهَرِيِّ، وَحَضَرْت كَلَامَهُ عَلَى النَّاسِ، فَكَانَ مِمَّا قَالَ فِي أَوَّلِ

مَجْلِسٍ جَلَسْت إلَيْهِ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلَّقَ وَظَاهَرَ وَآلَى، فَلَمَّا خَرَجَ تَبِعْته حَتَّى بَلَغْت مَعَهُ إلَى مَنْزِلِهِ فِي جَمَاعَةٍ، فَجَلَسَ مَعَنَا فِي الدِّهْلِيزِ، وَعَرَّفَهُمْ أَمْرِي، فَإِنَّهُ رَأَى إشَارَةَ الْغُرْبَةِ وَلَمْ يَعْرِفْ الشَّخْصَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْوَارِدِينَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا انْفَضَّ عَنْهُ أَكْثَرُهُمْ قَالَ لِي: أَرَاك غَرِيبًا، هَلْ لَك مِنْ كَلَامٍ؟ قُلْت: نَعَمْ. قَالَ لِجُلَسَائِهِ: أَفْرِجُوا لَهُ عَنْ كَلَامِهِ. فَقَامُوا وَبَقِيت وَحْدِي مَعَهُ. فَقُلْت لَهُ: حَضَرْت الْمَجْلِسَ الْيَوْمَ مُتَبَرِّكًا بِك، وَسَمِعْتُك تَقُولُ: آلَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَدَقْت، وَطَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَدَقْت. وَقُلْت: وَظَاهَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا لَمْ يَكُنْ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ؛ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَضَمَّنِي إلَى نَفْسِهِ وَقَبَّلَ رَأْسِي، وَقَالَ لِي: أَنَا تَائِبٌ مِنْ ذَلِكَ، جَزَاك اللَّهُ عَنِّي مِنْ مُعَلِّمٍ خَيْرًا. ثُمَّ انْقَلَبْت عَنْهُ، وَبَكَّرْت إلَى مَجْلِسِهِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، فَأَلْفَيْته قَدْ سَبَقَنِي إلَى الْجَامِعِ، وَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمَّا دَخَلْت مِنْ بَابِ الْجَامِعِ وَرَآنِي نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: مَرْحَبًا بِمُعَلِّمِي؛ أَفْسِحُوا لِمُعَلِّمِي، فَتَطَاوَلَتْ الْأَعْنَاقُ إلَيَّ، وَحَدَّقَتْ الْأَبْصَارُ نَحْوِي، وَتَعْرِفنِي: يَا أَبَا بَكْرٍ يُشِيرُ إلَى عَظِيمِ حَيَائِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ إذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ أَوْ فَاجَأَهُ خَجِلَ لِعَظِيمِ حَيَائِهِ، وَاحْمَرَّ حَتَّى كَأَنَّ وَجْهَهُ طُلِيَ بِجُلَّنَارٍ قَالَ: وَتَبَادَرَ النَّاسُ إلَيَّ يَرْفَعُونَنِي عَلَى الْأَيْدِي وَيَتَدَافَعُونِي حَتَّى بَلَغْت الْمِنْبَرَ، وَأَنَا لِعَظْمِ الْحَيَاءِ لَا أَعْرِفُ فِي أَيْ بُقْعَةٍ أَنَا مِنْ الْأَرْضِ، وَالْجَامِعُ غَاصٌّ بِأَهْلِهِ، وَأَسَالَ الْحَيَاءُ بَدَنِي عَرَقًا، وَأَقْبَلَ الشَّيْخُ عَلَى الْخَلْقِ، فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا مُعَلِّمُكُمْ، وَهَذَا مُعَلِّمِي؛ لَمَّا كَانَ بِالْأَمْسِ قُلْت لَكُمْ: آلَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَطَلَّقَ، وَظَاهَرَ؛ فَمَا كَانَ أَحَدٌ مِنْكُمْ فَقُهَ عَنِّي وَلَا رَدَّ عَلَيَّ، فَاتَّبَعَنِي إلَى مَنْزِلِي، وَقَالَ لِي كَذَا وَكَذَا؛ وَأَعَادَ مَا جَرَى بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَأَنَا تَائِبٌ عَنْ قَوْلِي بِالْأَمْسِ، وَرَاجِعٌ عَنْهُ إلَى الْحَقِّ؛ فَمَنْ سَمِعَهُ مِمَّنْ حَضَرَ فَلَا يُعَوِّلْ عَلَيْهِ. وَمَنْ غَابَ فَلْيُبَلِّغْهُ مَنْ حَضَرَ؛ فَجَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا؛ وَجَعَلَ يَحْفُلُ فِي الدُّعَاءِ، وَالْخَلْقُ يُؤَمِّنُونَ. فَانْظُرُوا رَحِمَكُمْ اللَّهُ إلَى هَذَا الدِّينِ الْمَتِينِ، وَالِاعْتِرَافِ بِالْعِلْمِ لِأَهْلِهِ عَلَى رُءُوسِ الْمَلَإِ مِنْ رَجُلٍ ظَهَرَتْ رِيَاسَتُهُ، وَاشْتُهِرَتْ نَفَاسَتُهُ، لِغَرِيبٍ مَجْهُولِ الْعَيْنِ لَا يُعْرَفُ مَنْ وَلَا مِنْ أَيْنَ، فَاقْتَدُوا بِهِ تَرْشُدُوا.

الآية السادسة والستون قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226]: يَقْتَضِي أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذَنْبٌ، وَهُوَ الْإِضْرَارُ بِالْمَرْأَةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْوَطْءِ، وَلِأَجَلِ هَذَا قُلْنَا: إنَّ الْمُضَارَّةَ دُونَ يَمِينٍ تُوجِبُ مِنْ الْحُكْمِ مَا يُوجِبُ الْيَمِينُ إلَّا فِي أَحْكَامِ الْمَرْأَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة السَّادِسَة وَالسِّتُّونَ قَوْله تَعَالَى وَالْمُطَلَّقَات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ] ٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 228] هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَشْكَلِ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْأَحْكَامِ، تَرَدَّدَ فِيهَا عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ، وَاخْتَلَفَ فِيهَا الصَّحَابَةُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَلَوْ شَاءَ رَبُّك لَبَيَّنَ طَرِيقَهَا وَأَوْضَحَ تَحْقِيقَهَا، وَلَكِنَّهُ وَكَّلَ دَرْكَ الْبَيَانِ إلَى اجْتِهَادِ الْعُلَمَاءِ لِيَظْهَرَ فَضْلُ الْمَعْرِفَةِ فِي الدَّرَجَاتِ الْمَوْعُودِ بِالرَّفْعِ فِيهَا؛ وَقَدْ أَطَالَ الْخَلْقُ فِيهَا النَّفْسَ، فَمَا اسْتَضَاءُوا بِقَبَسٍ، وَلَا حَلُّوا عُقْدَةَ الْجَلْسِ؛ وَالضَّابِطُ لِأَطْرَافِهَا يَنْحَصِرُ فِي إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةٍ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يَنْظِمُهَا ثَلَاثَةُ فُصُولٍ: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: كَلِمَةُ الْقُرْءِ كَلِمَةٌ مُحْتَمِلَةٌ لِلطُّهْرِ وَالْحَيْضِ احْتِمَالًا وَاحِدًا، وَبِهِ تَشَاغَلَ النَّاسُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا مِنْ فُقَهَاءٍ وَلُغَوِيِّينَ فِي تَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ؛ وَأُوصِيكُمْ أَلَّا تَشْتَغِلُوا الْآنَ بِذَلِكَ لِوُجُوهٍ؛ أَقْرَبُهَا أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقُرْءَ الْوَقْتُ، يَكْفِيك هَذَا فَيْصَلًا بَيْنَ الْمُتَشَعِّبِينَ وَحَسْمًا لِدَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ؛ فَإِذَا أَرَحْت نَفْسَك مِنْ هَذَا وَقُلْت: الْمَعْنَى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ أَوْقَاتٍ، صَارَتْ الْآيَةُ مُفَسَّرَةً فِي الْعَدَدِ مُحْتَمِلَةٌ فِي الْمَعْدُودِ، فَوَجَبَ طَلَبُ بَيَانِ الْمَعْدُودِ مِنْ غَيْرِهَا، وَقَدْ اخْتَلَفْنَا فِيهَا؛ وَلَنَا أَدِلَّةٌ وَلَهُمْ

أَدِلَّةٌ اسْتَوْفَيْنَاهَا فِي تَلْخِيصِ الطَّرِيقَتَيْنِ عَلَى وَجْهٍ بَدِيعٍ، وَخَلَصْنَا بِالسَّبْكِ مِنْهَا فِي تَخْلِيصِ التَّلْخِيصِ مَا يُغْنِي عَنْ جَمْعِهِ اللَّبِيبَ؛ وَأَقْرَبُهَا الْآنَ إلَى الْغَرَضِ أَنْ تُعْرِضَ عَنْ الْمَعَانِي لِأَنَّهَا بِحَارٌ تَتَقَامَسُ أَمْوَاجُهَا، وَتُقْبِلُ عَلَى الْأَخْبَارِ فَإِنَّهَا أَوَّلٌ وَأَوْلَى، وَلَهُمْ خَبَرٌ وَلَنَا خَبَرٌ. فَأَمَّا خَبَرُهُمْ، فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ». وَالْمَطْلُوبُ مِنْ الْحُرَّةِ فِي اسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْأَمَةِ بِعَيْنِهِ؛ فَنَصَّ الشَّارِعُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَّ بَرَاءَةَ الرَّحِمِ الْحَيْضُ، وَبِهِ يَقَعُ الِاسْتِبْرَاءُ بِالْوَاحِدِ فِي الْأَمَةِ، فَكَذَلِكَ فَلْيَكُنْ بِالثَّلَاثَةِ فِي الْحُرَّةِ. وَأَمَّا خَبَرُنَا فَالصَّحِيحُ الثَّابِتُ فِي كُلِّ أَمْرٍ «أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُرَاجِعَهَا، ثُمَّ يُمْسِكَهَا حَتَّى تَحِيضَ وَتَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ وَتَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ»، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ الْعِدَّةِ طُهْرٌ فَمَجْمُوعُهَا أَطْهَارٌ. [وَالتَّنْقِيحُ] وَالتَّرْجِيحُ: خَبَرُنَا أَوْلَى مِنْ خَبَرِهِمْ؛ لِأَنَّ خَبَرَنَا ظَاهِرٌ قَوِيٌّ فِي أَنَّ الطُّهْرَ قَبْلَ الْعِدَّةِ وَاحِدُ أَعْدَادِهَا لَا غُبَارَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا إشْكَالُ خَبَرِهِمْ فَيَرْفَعُهُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَالِكَ أَيْضًا هُوَ الطُّهْرُ، لَكِنَّ الطُّهْرَ لَا يَظْهَرُ إلَّا بِالْحَيْضِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّهَا تَحِلُّ بِالدَّمِ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي: مِنْ عُلَمَائِنَا مَنْ زَاحَمَ عَلَى الْآيَةِ بِعَدَدٍ، وَاسْتَنَدَ فِيهَا إلَى رُكْنٍ، وَتَعَلَّقَ مِنْهَا بِسَبَبٍ مَتِينٍ؛ قَالُوا: يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقُرْءَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ جَمِيعًا، وَالْمُرَادُ أَحَدُهُمَا، فَيَجِبُ إذَا قَعَدَتْ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا هَذَا الِاسْمُ أَنْ يَصِحَّ لَهَا قَضَاءُ التَّرَبُّصِ. الثَّانِي: أَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِأَوَائِلِ الْأَسْمَاءِ كَمَا قُلْنَا فِي الشَّفَقَيْنِ وَاللَّمْسَيْنِ وَالْأَبَوَيْنِ: إنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِالشَّفَقِ الْأَوَّلِ، وَالْوُضُوءُ يَجِبُ بِاللَّمْسِ الْأَوَّلِ قَبْلَ الْوَطْءِ، وَإِنَّ الْحَجْبَ يَكُونُ لِلْأَبِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي وَهُوَ الْجَدُّ؛ وَهُمْ مُخَالِفُونَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ أَجْمَعِهِ فِي مَوْضِعِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فَذَكَرَهُ وَأَثْبَتَ الْهَاءَ فِي الْعَدَدِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الطُّهْرَ الْمُذَكَّرَ، وَلَوْ أَرَادَ الْحَيْضَةَ الْمُؤَنَّثَةَ لَأَسْقَطَ الْهَاءَ، وَقَالَ: ثَلَاثَ قُرُوءٍ؛ فَإِنَّ الْهَاءَ تَثْبُتُ فِي عَدَدِ الْمُذَكَّرِ مِنْ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ وَتَسْقُطُ فِي عَدَدِ الْمُؤَنَّثِ. الرَّابِعُ: أَنَّ مُطَلَّقَ الْأَمْرِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ مَحْمُولٌ عَلَى الْفَوْرِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا عَلَى رَأَيْنَا فِي أَنَّ الْقُرْءَ الطُّهْرُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُطَلِّقُ فِي الطُّهْرِ لَا فِي الْحَيْضِ، فَلَوْ طَلَّقَ فِي الطُّهْرِ وَلَمْ تَعْتَدَّ إلَّا بِالْحَيْضِ الْآتِي بَعْدَهُ لَكَانَ ذَلِكَ تَرَاخِيًا عَنْ الِامْتِثَالِ لِلْأَمْرِ؛ وَهَذِهِ الْوُجُوهُ وَإِنْ كَانَتْ قَوِيَّةً فَإِنَّهَا تَفْتَحُ مِنْ الْأَسْئِلَةِ أَبْوَابًا رُبَّمَا عَسُرَ إغْلَاقُهَا، فَأَوْلَى لَكُمْ التَّمَسُّكُ بِمَا تَقَدَّمَ. الْفَصْلُ الثَّالِثُ: قَالُوا: إذَا جَعَلْتُمْ الْأَقْرَاءَ الْأَطْهَارَ فَقَدْ تَرَكْتُمْ نَصَّ الْآيَةِ فِي جَعْلِهَا ثَلَاثَةً، لِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ فِي طُهْرٍ لَمْ يَمَسَّهَا فِيهِ قَبْل الْحَيْضِ بِلَيْلَةٍ لَكَانَ عِنْدَكُمْ قُرْءًا مُعْتَدًّا بِهِ وَلَيْسَ بِعَدَدٍ. قُلْنَا لَهُ: أَمَا إذَا بَلَغْنَا لِهَذَا الْمُنْتَهَى فَالْمَسْأَلَةُ لَنَا، وَمَأْخَذُ الْقَوْلِ فِي الْمَسْأَلَةِ سَهْلٌ؛ لِأَنَّ الْبَعْضَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ يُطْلَقُ عَلَى الْكُلِّ فِي إطْلَاقِ الْعَدَدِ وَغَيْرِهِ لُغَةً مَشْهُورَةً عِنْدَ الْعَرَبِ، وَقُرْآنًا: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] وَهِيَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَبَعْضُ ذِي الْحِجَّةِ، فَالْمُخَالِفُ إنْ رَاعَى ظَاهِرَ الْعَدَدِ

مسألة معنى قوله تعالى ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن

فَمُرَاعَاةُ ظَاهِرِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مُطَلَّقَةٍ، لَكِنَّ الْقُرْآنَ خَصَّ مِنْهَا الْآيِسَةَ وَالصَّغِيرَةَ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ بِالْأَشْهُرِ، وَخَصَّ مِنْهَا الَّتِي لَمْ يُدْخَلْ بِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] وَعُرِضَتْ هَاهُنَا مَسْأَلَةٌ رَابِعَةٌ وَهِيَ الْأَمَةُ، فَإِنَّ عِدَّتَهَا حَيْضَتَانِ، خَرَجَتْ بِالْإِجْمَاعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ جَمَاعَةٌ: قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]: خَبَرٌ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ، وَهَذَا بَاطِلٌ؛ بَلْ هُوَ خَبَرٌ عَنْ حُكْمِ الشَّرْعِ؛ فَإِنْ وُجِدَتْ مُطَلَّقَةٌ لَا تَتَرَبَّصُ فَلَيْسَ مِنْ الشَّرْعِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ وُقُوعُ خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى خِلَافَ مَخْبَرَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ بَيَانًا شَافِيًا. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228]: فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: الْحَيْضُ. الثَّانِي: الْحَمْلُ. الثَّالِثُ: مَجْمُوعُهُمَا. وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهَا أَمِينَةً عَلَى رَحِمِهَا، فَقَوْلُهَا فِيهِ مَقْبُولٌ؛ إذْ لَا سَبِيلَ إلَى عِلْمِهِ إلَّا بِخَبَرِهَا، وَقَدْ شَكَّ فِي ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ لِقُصُورِ فَهْمِهِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّ الْعَمَلَ عَلَى قَوْلِهَا فِي دَعْوَى الشَّغْلِ لِلرَّحِمِ أَوْ الْبَرَاءَةِ، مَا لَمْ يَظْهَرْ كَذِبُهَا، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إذَا حِضْت أَوْ حَمَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ؛ فَقَالَتْ: حِضْت أَوْ حَمَلْت، هَلْ يُعْتَبَرُ قَوْلُهَا فِي ذَلِكَ أَمْ لَا؟ فَمَنْ قَالَ مِنْ عُلَمَائِنَا بِوُقُوفِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ: هَلْ يُعْتَبَرُ قَوْلُهَا فِي ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَالْعِدَّةُ لَا خِلَافَ فِيهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا.

مسألة قوله تعالى وبعولتهن أحق بردهن فيه ثلاث فوائد

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى: {إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة: 228]: هَذَا وَعِيدٌ عَظِيمٌ شَدِيدٌ لِتَأْكِيدِ تَحْرِيمِ الْكِتْمَانِ وَإِيجَابِ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ الرَّحِمِ بِحَقِيقَةِ مَا فِيهِ، وَخَرَجَ مَخْرَجَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النور: 2]؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ» فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ. وَفَائِدَةُ تَأْكِيدِ الْوَعِيدِ هَاهُنَا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: حَقُّ الزَّوْجِ فِي الرَّجْعَةِ بِوُجُوبِ ذَلِكَ لَهُ فِي الْعِدَّةِ أَوْ سُقُوطِهِ عِنْدَ انْقِضَائِهَا. [الثَّانِي:] مُرَاعَاةُ حَقِّ الْفِرَاشِ بِصِيَانَةِ الْأَنْسَابِ عَنْ اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ. [مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِيهِ ثَلَاثُ فَوَائِدَ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] فِيهِ ثَلَاثُ فَوَائِدَ: الْفَائِدَةُ الْأُولَى: أَنَّ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ} [البقرة: 228] عَامٌّ فِي كُلِّ مُطَلَّقَةٍ فِيهَا رَجْعَةٌ أَوْ لَا رَجْعَةَ فِيهَا. الثَّانِيَةُ: أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ} [البقرة: 228] يَقْتَضِي أَنَّهُنَّ أَزْوَاجٌ بَعْدَ الطَّلَاقِ. وقَوْله تَعَالَى: {بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] يَقْتَضِي زَوَالَ الزَّوْجِيَّةِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا عَسِيرٌ، إلَّا أَنَّ عُلَمَاءَنَا قَالُوا: إنَّ الرَّجْعِيَّةَ مُحَرِّمَةٌ لِلْوَطْءِ، فَيَكُونُ الرَّدُّ عَائِدًا إلَى الْحِلِّ. وَأَمَّا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ يَقُولُ بِقَوْلِهِمَا فِي أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ مُحَلَّلَةُ الْوَطْءِ

مسألة ادعاء المرأة المطلقة انقضاء العدة

فَيَرَوْنَ أَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فَائِدَتُهُ تَنْقِيصُ الْعَدَدِ الَّذِي جُعِلَ لَهُ، وَهُوَ الثَّلَاثَةُ خَاصَّةً، وَأَنَّ أَحْكَامَ الزَّوْجِيَّةِ لَمْ يَنْحَلَّ مِنْهَا شَيْءٌ وَلَا اخْتَلَّ، فَيَعْسُرُ عَلَيْهِ بَيَانُ فَائِدَةِ الرَّدِّ؛ لِكَوْنِهِمْ قَالُوا: إنَّ أَحْكَامَ الزَّوْجِيَّةِ وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فَإِنَّ الْمَرْأَةَ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ سَائِرَةٌ فِي سَبِيلِ الرَّدِّ، وَلَكِنْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَالرَّجْعَةُ رَدٌّ عَنْ هَذِهِ السَّبِيلِ الَّتِي أَخَذْت فِي سُلُوكِهَا وَهُوَ رَدٌّ مَجَازِيٌّ، وَالرَّدُّ الَّذِي حَكَمْنَا بِهِ رَدٌّ حَقِيقِيٌّ؛ إذْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ زَوَالٌ مُنْجَزٌ يَقَعُ الرَّدُّ عَنْهُ حَقِيقَةً. الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى {فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228]: يَعْنِي فِي وَقْتِ التَّرَبُّصِ، وَهُوَ أَمَدُ الْعِدَّةِ. [مَسْأَلَةٌ ادِّعَاء الْمَرْأَة الْمُطَلَّقَة انْقِضَاء الْعِدَّة] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: يَتَرَكَّبُ عَلَيْهِ إذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ: انْقَضَتْ عِدَّتِي قُبِلَ قَوْلُهَا فِي مُدَّةٍ تَنْقَضِي فِي مِثْلِهَا الْعِدَّةُ عَادَةً مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ. فَإِنْ أَخْبَرَتْ بِانْقِضَائِهَا فِي مُدَّةِ تَقَعُ نَادِرًا فَقَوْلَانِ: قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: إذَا قَالَتْ: حِضْت ثَلَاثَ حِيَضٍ فِي شَهْرٍ صُدِّقَتْ إذَا صَدَّقَهَا النِّسَاءُ. وَقَالَ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: لَا تُصَدَّقُ فِي شَهْرٍ وَلَا فِي شَهْرٍ وَنِصْفٍ، وَكَذَلِكَ إنْ طَوَّلَتْ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ، فِي الْمُطَلَّقَةِ تُقِيمُ سَنَةً لِتَقُولَ لَمْ أَحِضْ إلَّا حَيْضَةً: لَمْ تُصَدَّقْ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَكَرَتْ ذَلِكَ وَكَانَتْ غَيْرَ مُرْضِعٍ. قَالَ ابْنُ مُزَيْنٍ: إذَا ادَّعَتْ تَأَخُّرَ حَيْضِهَا بَعْدَ الْفِطَامِ سَنَةً حَلَفَتْ بِاَللَّهِ مَا حَاضَتْ، وَهَذَا إذَا لَمْ تُعْلَمْ لَهَا عَادَةٌ. قَالَ الْقَاضِي: وَعَادَةُ النِّسَاءِ عِنْدَنَا مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي الشَّهْرِ، وَقَدْ قَلَّتْ الْأَدْيَانُ فِي الذُّكْرَانِ فَكَيْفَ بِالنِّسْوَانِ؟، فَلَا أَرَى أَنْ تُمَكَّنَ الْمُطَلَّقَةُ مِنْ الزَّوَاجِ إلَّا بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ الطَّلَاقِ، وَلَا يُسْأَلُ عَنْ الطَّلَاقِ كَانَ فِي أَوَّلِ الطُّهْرِ أَوْ آخِرِهِ.

مسألة قال أخبرتني بانقضاء عدتها فكذبته

[مَسْأَلَةٌ قَالَ أَخْبَرَتْنِي بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَكَذَّبَتْهُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: إذَا قَالَ: أَخْبَرَتْنِي بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَكَذَّبَتْهُ حَلَفَتْ وَبَقِيَتْ الْعِدَّةُ، فَإِنْ قَالَ: رَاجَعْتهَا فَقَالَتْ: قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهَا بَعْدَ الْقَوْلِ. وَقِيلَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهَذَا تَفْسِيرُ عُلَمَائِنَا. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى إنْ أَرَادُوا إصْلَاحًا] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة: 228]: الْمَعْنَى إنْ قَصَدَ بِالرَّجْعَةِ إصْلَاحَ حَالِهِ مَعَهَا، وَإِزَالَةَ الْوَحْشَةِ بَيْنَهُمَا، لَا عَلَى وَجْهِ الْإِضْرَارِ وَالْقَطْعِ بِهَا عَنْ الْخَلَاصِ مِنْ رِبْقَةِ النِّكَاحِ، فَذَلِكَ لَهُ حَلَالٌ، وَإِلَّا لَمْ تَحِلَّ لَهُ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا أَمْرًا بَاطِنًا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الثَّلَاثَ عَلَمًا عَلَيْهِ، وَلَوْ تَحَقَّقْنَا نَحْنُ ذَلِكَ الْمَقْصِدَ مِنْهُ لَطَلَّقَنَا عَلَيْهِ. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]: يَعْنِي: مِنْ قَصْدِ الْإِصْلَاحِ وَمُعَاشَرَةِ النِّكَاحِ. الْمَعْنَى: أَنَّ بُعُولَتَهُنَّ لَمَّا كَانَ لَهُمْ عَلَيْهِنَّ حَقُّ الرَّدِّ كَانَ لَهُنَّ عَلَيْهِمْ إجْمَالُ الصُّحْبَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] بِذَلِكَ تَفْسِيرٌ لِهَذَا الْمُجْمَلِ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228]: هَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهُ مُفَضَّلٌ عَلَيْهَا مُقَدَّمٌ فِي حُقُوقِ النِّكَاحِ فَوْقَهَا، لَكِنَّ الدَّرَجَةَ هَاهُنَا مُجْمَلَةٌ غَيْرُ مُبَيَّنٍ مَا الْمُرَادُ بِهَا مِنْهَا؟ وَإِنَّمَا أُخِذَتْ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى سِوَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى النِّسَاءَ هَاهُنَا أَنَّ الرِّجَالَ فَوْقَهُنَّ، ثُمَّ بَيَّنَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ ذَلِكَ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الدَّرَجَةِ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ؛ فَقِيلَ: هُوَ الْمِيرَاثُ، وَقِيلَ: هُوَ الْجِهَادُ، وَقِيلَ: هُوَ اللِّحْيَةُ؛ فَطُوبَى لِعَبْدٍ أَمْسَكَ عَمَّا لَا يَعْلَمُ، وَخُصُوصًا فِي كِتَابِ اللَّهِ الْعَظِيمِ. وَلَا يَخْفَى عَلَى لَبِيبٍ فَضْلُ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا أَنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ الرَّجُلِ فَهُوَ أَصْلُهَا. لَكِنَّ الْآيَةَ لَمْ تَأْتِ لِبَيَانِ دَرَجَةٍ مُطْلَقَةٍ حَتَّى

الآية السابعة والستون قوله تعالى الطلاق مرتان

يُتَصَرَّفَ فِيهَا بِتَعْدِيدِ فَضَائِلِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ؛ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَطْلُبَ ذَلِكَ بِالْحَقِّ فِي تَقَدُّمِهِنَّ فِي النِّكَاحِ؛ فَوَجَدْنَاهَا عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: وُجُوبُ الطَّاعَةِ، وَهُوَ حَقٌّ عَامٌّ. الثَّانِي: حَقُّ الْخِدْمَةِ، وَهُوَ حَقٌّ خَاصٌّ، وَلَهُ تَفْصِيلٌ، بَيَانُهُ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ. الثَّالِثُ: حَجْرُ التَّصَرُّفِ إلَّا بِإِذْنِهِ. الرَّابِعُ: أَنْ تُقَدِّمَ طَاعَتَهُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي النَّوَافِلِ، فَلَا تَصُومُ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا تَحُجُّ إلَّا مَعَهُ. الْخَامِسُ: بَذْلُ الصَّدَاقِ. السَّادِسُ: إدْرَارُ الْإِنْفَاقِ. السَّابِعُ: جَوَازُ الْأَدَبِ لَهُ فِيهَا. وَهَذَا مُبَيَّنٌ فِي قَوْله تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالسِّتُّونَ قَوْله تَعَالَى الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ] ِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] فِيهَا ثَمَانِي عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِهَا: ثَبَتَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ لِلطَّلَاقِ عَدَدٌ، وَكَانَتْ عِنْدَهُمْ الْعِدَّةُ مَعْلُومَةً مُقَدَّرَةً، فَرَوَى عُرْوَةُ قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يُرَاجِعُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، فَغَضِبَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ: لَا أَقْرَبُك وَلَا تَحِلِّينَ مِنِّي. قَالَتْ لَهُ: كَيْفَ؟ قَالَ: أُطَلِّقُك حَتَّى إذَا جَاءَ أَجَلُك رَاجَعْتُك، فَشَكَتْ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

مسألة عدد الطلاق

فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229]» الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي مَقْصُودِ الْآيَةِ: قَالَ الْبُخَارِيُّ: بَابُ جَوَازِ الثَّلَاثِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] إشَارَةٌ إلَى أَنَّ هَذَا التَّعْدِيدَ إنَّمَا هُوَ فُسْحَةٌ لَهُمْ، فَمَنْ ضَيَّقَ عَلَى نَفْسِهِ لَزِمَهُ. [مَسْأَلَةٌ عَدَدِ الطَّلَاقِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لِبَيَانِ عَدَدِ الطَّلَاقِ؛ وَقِيلَ: جَاءَتْ لِبَيَانِ سُنَّةِ الطَّلَاقِ. وَالْقَوْلَانِ صَحِيحَانِ؛ فَإِنَّ بَيَانَ الْعَدَدِ بَيَانُ السُّنَّةِ فِي الرَّدِّ، وَبَيَانَ سُنَّةِ الْوُقُوعِ بَيَانُ الْعَدَدِ. وَتَحْقِيقُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الطَّلَاقَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِعْلًا مُهْمَلًا كَسَائِرِ أَفْعَالِهَا، فَشَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى أَمَدَهُ، وَبَيَّنَ حَدَّهُ، وَأَوْضَحَ فِي كِتَابِهِ حُكْمَهُ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ تَمَامَهُ وَشَرْحَهُ، فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا [رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ]: طَلَاقُ السُّنَّةِ مَا اجْتَمَعَتْ فِيهِ ثَمَانِيَةُ شُرُوطٍ، بَيَانُهَا فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ: أَحَدُهَا: تَفْرِيقُ الْإِيقَاعِ وَمَنْعُ الِاجْتِمَاعِ، تَوَلَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ طَلْقَتَيْنِ مُتَفَرِّقَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا إنْ كَانَتَا مُجْتَمَعَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ مَرَّتَيْنِ. وَرَأَى الشَّافِعِيُّ أَنَّ جَمْعَ الثَّلَاثَةِ مُبَاحٌ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]. وَكَذَلِكَ يَقْتَضِي حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمُ سِيَاقُهُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَفْرِيقُ الْإِيقَاعِ. وَالثَّانِي: كَيْفِيَّةُ الِاسْتِدْرَاكِ بِالِارْتِجَاعِ، وَهِيَ أَيْضًا تَفْسِيرُ الْمُرَادِ بِالْكِتَابِ لِقَوْلِهِ: فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ.

مسألة تحقيق القول في قوله مرة

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عُرِّفَ فِيهَا الطَّلَاقُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ؛ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِ التَّعْرِيفِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ الطَّلَاقُ الْمَشْرُوعُ [مَرَّتَانِ]، فَمَا جَاءَ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَلَيْسَ بِمَشْرُوعٍ؛ يُرْوَى عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَالرَّافِضَةِ قَالُوا: لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا بُعِثَ لِبَيَانِ الشَّرْعِ، فَمَا جَاءَ عَلَى غَيْرِهِ فَلَيْسَ بِمَشْرُوعٍ. الثَّانِي: مَعْنَاهُ الطَّلَاقُ الَّذِي فِيهِ الرَّجْعَةُ مَرَّتَانِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كَانَتْ تُطَلِّقُ وَتَرُدُّ أَبَدًا، فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الرَّدَّ إنَّمَا يَكُونُ فِي طَلْقَتَيْنِ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]. الثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَاهُ الطَّلَاقُ الْمَسْنُونُ مَرَّتَانِ؛ قَالَهُ مَالِكٌ. الرَّابِعُ: مَعْنَاهُ الطَّلَاقُ الْجَائِزُ مَرَّتَانِ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ. فَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ مَعْنَاهُ الطَّلَاقُ الْمَشْرُوعُ فَصَحِيحٌ؛ لَكِنَّ الشَّرْعَ يَتَضَمَّنُ الْفَرْضَ وَالسُّنَّةَ وَالْجَائِزَ وَالْحَرَامَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى بِكَوْنِهِ مَشْرُوعًا أَحَدُ أَقْسَامِ الْمَشْرُوعِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهُوَ الْمَسْنُونُ؛ وَقَدْ كُنَّا نَقُولُ بِأَنَّ غَيْرَهُ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ، لَوْلَا تَظَاهُرُ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ وَانْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ مِنْ الْأُمَّةِ بِأَنَّ مَنْ طَلَّقَ طَلْقَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ لَهُ، وَلَا احْتِفَالَ بِالْحَجَّاجِ وَإِخْوَانِهِ مِنْ الرَّافِضَةِ، فَالْحَقُّ كَائِنٌ قَبْلَهُمْ. فَأَمَّا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّهُ حَرَامٌ فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِهِ هَاهُنَا فَإِنَّهُ مُتَّفِقٌ مَعَنَا عَلَى لُزُومِهِ إذَا وَقَعَ. وَقَدْ حَقَقْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [مَسْأَلَةٌ تَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ مَرَّةٌ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي تَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ: (مَرَّةٌ): وَهِيَ عِبَارَةٌ فِي اللُّغَةِ عَنْ الْفَعْلَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الْأَصْلِ، لَكِنْ غَلَبَ عَلَيْهَا الِاسْتِعْمَالُ

مسألة قوله تعالى فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان

فَصَارَتْ ظَرْفًا، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ " مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ ". [مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]: قِيلَ: الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ الرَّجْعَةُ الثَّانِيَةُ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ، وَالتَّسْرِيحُ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ. وَقِيلَ: التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانِ الْإِمْسَاكُ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ، وَكِلَاهُمَا مُمْكِنٌ مُرَادٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] يَعْنِي: إذَا قَارَبْنَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ فَرَاجِعُوهُنَّ أَوْ فَارِقُوهُنَّ. وَقَدْ يَكُونُ الْفِرَاقُ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ الَّذِي قَالَهُ حِينَئِذٍ. وَقَدْ يَكُونُ إذَا رَاجَعَهَا وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ بِالسُّكُوتِ عَنْ الرَّجْعَةِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ؛ فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَنَاقُضٌ. وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: إنَّ التَّسْرِيحَ بِإِحْسَانٍ هِيَ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ، وَوَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ هِيَ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ» وَلَمْ يَصِحَّ. [مَسْأَلَةٌ طَلَاقَ الرَّقِيقِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي أَنَّ الطَّلَاقَ ثَلَاثٌ فِي كُلِّ زَوْجَيْنِ، إلَّا أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إنْ كَانَا مَمْلُوكَيْنِ فَذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَخْصُوصٌ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ طَلَاقَ الرَّقِيقِ طَلْقَتَانِ؛ فَالْأُولَى فِي حَقِّهِ مَرَّةٌ، وَالثَّانِيَةُ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ، لَكِنْ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: يُعْتَبَرُ عَدَدُهُ بِرِقِّ الزَّوْجِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْتَبَرُ عَدَدُهُ بِرِقِّ الزَّوْجَةِ. وَقَدْ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ وَالْعِدَّةُ بِالنِّسَاءِ». وَالتَّقْدِيرُ: الطَّلَاقُ مُعْتَبَرٌ بِالرِّجَالِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الطَّلَاقُ مَوْجُودٌ بِالرِّجَالِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُشَاهَدٌ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَمِدَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْبَيَانِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُد أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «طَلَاقُ الْأَمَةِ

مسألة موقع السراح من ألفاظ الطلاق

طَلْقَتَانِ، وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ.» قُلْنَا: يَرْوِيه مُظَاهِرُ بْنُ أَسْلَمَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَعَلَ فِيهِ اعْتِبَارَ الْعِدَّةِ وَالطَّلَاقِ بِالنِّسَاءِ جَمِيعًا، وَلَا يَقُولُ السَّلَفُ بِهَذَا؛ فَقَدْ رَوَى النَّسَائِيّ، وَأَبُو دَاوُد عَنْ «ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَمْلُوكٍ كَانَتْ تَحْتَهُ مَمْلُوكَةٌ فَطَلَّقَهَا طَلْقَتَيْنِ ثُمَّ أُعْتِقَا: أَيَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَضَى بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». وَلِأَنَّ كُلَّ مِلْكٍ إنَّمَا يُعْتَبَرُ بِحَالٍ الْمَالِكِ لَا بِحَالِ الْمَمْلُوكِ. وَبَيَانُهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [مَسْأَلَةٌ مَوْقِع السَّرَاحَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: يُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ السَّرَاحَ مِنْ صَرِيحِ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ الَّذِي لَا يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ، وَلَيْسَ مَأْخُوذًا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا. وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ كَمَا بَيَّنَّا، وَيَكُونُ قَوْله تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] بَيَانًا لِحُكْمِ [الْحُرَّةِ] الْوَاقِعِ عَلَيْهَا، وَهُوَ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ بِعَيْنِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِنَا وَتَفْسِيرِ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الثَّانِي. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229]: ظَنَّ جَهَلَةٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ الْفَاءَ هُنَا لِلتَّعْقِيبِ، وَفَسَّرَ أَنَّ الَّذِي يَعْقُبُ الطَّلَاقَ مِنْ الْإِمْسَاكِ الرَّجْعَةُ؛ وَهَذَا جَهْلٌ بِالْمَعْنَى وَاللِّسَانِ:

أَمَّا جَهْلُ الْمَعْنَى فَلَيْسَتْ الرَّجْعَةُ عَقِيبَ الطَّلْقَتَيْنِ، وَإِنَّمَا هِيَ عَقِيبُ الْوَاحِدَةِ كَمَا هِيَ عَقِيبُ الثَّانِيَةُ، وَلَوْ لَزِمَتْ حُكْمَ التَّعْقِيبِ فِي الْآيَةِ لَاخْتَصَّتْ بِالطَّلْقَتَيْنِ. وَأَمَّا الْإِعْرَابُ فَلَيْسَتْ الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ هُنَا، وَلَكِنْ ذَكَرَ أَهْلُ الصِّنَاعَةِ فِيهَا مَعَانِيَ، أُمَّهَاتُهَا ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا لِلتَّعْقِيبِ، وَذَلِكَ فِي الْعَطْفِ، تَقُولُ: خَرَجَ زَيْدٌ فَعَمْرٌو. الثَّانِي: السَّبَبُ، وَذَلِكَ فِي الْجَزَاءِ، تَقُولُ: إنْ تَفْعَلْ خَيْرًا فَاَللَّهُ يُجْزِيك؛ فَهُوَ بَعْدَهُ؛ لَكِنْ لَيْسَ مُعَقِّبًا عَلَيْهِ. الثَّالِثَةُ: زَائِدَةٌ، كَقَوْلِك: زَيْدٌ فَمُنْطَلِقٌ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَقَائِلَةٍ خَوْلَانَ فَانْكِحْ فَتَاتَهُمْ ... وَأُكْرُومَةُ الْحَيَّيْنِ خُلْوٌ كَمَا هِيَا وَهَذَا لَمْ يُصَحِّحْهُ سِيبَوَيْهِ. وَاَلَّذِي قَالَهُ صَحِيحٌ مِنْ أَنَّ الْفَاءَ هَاهُنَا لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي مَعْنَى الْجَوَابِ لِلْجُمْلَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: هَذِهِ خَوْلَانَ فَانْكِحْ فَتَاتهمْ. كَمَا تَقُولُ: هَذَا زَيْدٌ فَقُمْ إلَيْهِ، وَيَرْجِعُ عِنْدِي إلَى مَعْنَى التَّسَبُّبِ، فَيَكُونُ مَعْنَيَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إذَا وَطِئَ بِنِيَّةِ الرَّجْعَةِ جَازَ، وَكَانَ مِنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ: قَدْ رَاجَعْتُك كَانَ مَعْرُوفًا جَائِزًا، فَالْوَطْءُ أَجْوَزُ. فَإِنْ قِيلَ: هِيَ مُحَرَّمَةٌ بِالطَّلَاقِ، فَكَيْفَ يُبَاحُ لَهُ الْوَطْءُ؟ قُلْنَا: الْإِبَاحَةُ تَحْصُلُ بِنِيَّةِ الرَّجْعَةِ، كَمَا تَحْصُلُ بِقَوْلِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]؛ وَالْإِشْهَادُ يُتَصَوَّرُ عَلَى الْقَوْلِ وَلَا يُتَصَوَّرُ عَلَى الْوَطْءِ. قُلْنَا: بِتَصَوُّرِ الْإِشْهَادِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْوَطْءِ.

مسألة قوله تعالى ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا

فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا يَشْهَدُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِفِعْلِهِ بَعْدَ فِعْلِهِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الْوَطْءَ لَا يَحِلُّ إلَّا بَعْدَ الْإِشْهَادِ. قُلْنَا: لَيْسَ فِي الْآيَةِ إيقَافُ الْحِلِّ عَلَى الْإِشْهَادِ، إنَّمَا فِيهِ إلْزَامُ الْإِشْهَادِ، وَذَلِكَ يَتَبَيَّنُ عِنْدَ ذِكْرِ الْآيَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} [البقرة: 229]: قَالَ قَوْمٌ: يَعْنِي مِنْ الصَّدَاقِ؛ وَعِنْدِي أَنَّهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَعْطَاهَا؛ فَإِنَّ الصَّدَاقَ وَإِنْ كَانَ نِحْلَةً شَرْطِيَّةً فَمَا نَحَلَهَا بَعْدَهُ مِثْلَهُ؛ لِكَوْنِهِ نِحْلَةً عَنْ نِيَّةٍ، عَامٌّ فِي كُلِّ حَالَةٍ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ طَلَاقٍ، عَامٌّ فِي كُلِّ وَجْهٍ مِنْ ابْتِدَاءِ أَخْذِ الزَّوْجِ لَهُ أَوْ إعْطَائِهَا هِيَ إيَّاهُ لَهُ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْ نِكَاحِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] وَفِي ذَلِكَ تَأْوِيلَاتٌ كُلُّهَا أَبَاطِيلُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَظُنَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنَفْسِهِ أَلَّا يُقِيمَ حَقَّ النِّكَاحِ لِصَاحِبِهِ حَسْبَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ لِكَرَاهِيَةٍ يَعْتَقِدُهَا، فَلَا حَرَجَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَفْتَدِيَ وَلَا عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَ. وَقَدْ أَكَّدَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَنْعَ حَالَةَ الْفِرَاقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 20] وَذَلِكَ لِأَنَّهَا حَالَةٌ تَشْرَهُ النُّفُوسَ فِيهَا إلَى أَنْ يَأْخُذَ الزَّوْجُ مَا نَحَلَهُ الزَّوْجَةَ فِي حَالَةِ النِّكَاحِ؛ إذْ يَخْطُرُ لَهُ أَنَّك إنَّمَا كُنْت أُعْطِيت عَلَى النِّكَاحِ، وَقَدْ فَارَقْت فَأَنْتَ مَعْذُورٌ فِي أَخْذِك؛ فَمَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19] وَجَوَّزَهُ عِنْدَ مُسَامَحَةِ الْمَرْأَةِ بِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ} [النساء: 4] وَحَلَّلَ أَخْذَ النِّصْفِ بِوُقُوعِ الْفِرَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] وَطِيبُهُ عِنْدَ عَفْوِهَا أَوْ عَفْوِ صَاحِبِ الْعُقْدَةِ عَنْ جَمِيعِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]

مسألة أحوال الخلع

عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَةٌ أَحْوَالُ الْخُلْعِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: تُعَلَّقُ مَنْ رَأَى اخْتِصَاصَ الْخُلْعِ بِحَالَةِ الشِّقَاقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] فَشُرِطَ ذَلِكَ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْهُ عَلَى جِهَةِ الشَّرْطِ؛ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ مِنْ أَحْوَالِ الْخُلْعِ؛ فَخَرَجَ الْقَوْلُ عَلَى الْغَالِبِ وَلَحِقَ النَّادِرُ بِهِ، كَالْعِدَّةِ وُضِعَتْ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ، ثُمَّ لَحِقَ بِهَا الْبَرِيَّةُ الرَّحِمِ وَهِيَ الصَّغِيرَةُ وَالْيَائِسَةُ، وَاَلَّذِي يَقْطَعُ الْعُذْرَ وَيُوجِبُ الْعِلْمَ قَوْلُهُ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] فَإِذَا أَعْطَتْك مَالَهَا بِرِضَاهَا مِنْ صَدَاقٍ وَغَيْرِهِ فَخُذْهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ، خِلَافًا لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ إنَّهُ فَسْخٌ. وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّهُ إنْ كَانَ فَسْخًا لَمْ يُعَدَّ طَلْقَةً. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الطَّلَاقَ مَرَّتَيْنِ، وَذَكَرَ الْخُلْعَ بَعْدَهُ، وَذَكَرَ الثَّالِثَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كُلُّ مَذْكُورٍ فِي مَعْرِضِ هَذِهِ الْآيَاتِ لَا يُعَدُّ طَلَاقًا لِوُقُوعِ الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثِ لَمَا كَانَ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] طَلَاقًا، لِأَنَّهُ يَزِيدُ بِهِ عَلَى الثَّلَاثِ، وَلَا يَفْهَمُ هَذَا إلَّا غَبِيٌّ أَوْ مُتَغَابٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] فَإِنْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الطَّلَاقِ بِعِوَضٍ كَانَ ذَلِكَ رَاجِعًا إلَى الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ دُونَ الثَّالِثَةِ الَّتِي هِيَ {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] حَسْبَمَا تَقَدَّمَ؛ فَلَا جُنَاح عَلَيْهِ فِيهِ، فَإِنَّ طَلَّقَهَا ثَالِثَةً فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْره كَانَ بِفِدْيَةٍ أَوْ بِغَيْرِ فِدْيَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قِيلَ: هِيَ فِي النِّكَاحِ خَاصَّةً، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ.

مسألة الخلع بجميع ما أعطاها

الثَّانِي: أَنَّهَا الطَّاعَةُ، يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ لَا يُطِيعُ اللَّهَ تَعَالَى وَلَا يُطِيعُ صَاحِبَهُ فِي اللَّهِ فَلَا خَيْرَ لَهُمَا فِي الِاجْتِمَاعِ، وَبِهِ أَقُولُ. [مَسْأَلَةٌ الْخُلْعُ بِجَمِيعِ مَا أَعْطَاهَا] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَالَ مَالِكٌ: الْمُبَارِئَةُ الْمُخَالِعَةُ بِمَالِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَالْمُخَالِعَةُ إذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَالْمُفْتَدِيَةُ الْمُخَالِعَةُ بِبَعْضِ مَالِهَا، وَهَذَا اصْطِلَاحٌ يَدْخُلُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ. وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ؛ فَالْأَكْثَرُ أَنَّهُ يَجُوزُ الْخُلْعُ بِالْبَعْضِ مِنْ مَالِهَا، وَبِالْكُلِّ بِأَنْ تَزِيدَهُ عَلَى مَا لَهَا عَلَيْهِ مِنْ مَالِهَا الْمُخْتَصُّ بِهَا مَا شَاءَتْ إذَا كَانَ الضَّرَرُ مِنْ جِهَتِهَا. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا، مِنْهُمْ الشَّعْبِيُّ وَابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ مِثْلَهُ، وَنَصُّ الْحَدِيثِ فِي قِصَّةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْخُلْعِ بِجَمِيعِ مَا أَعْطَاهَا، وَعُمُومُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] فَكُلُّ مَا كَانَ فِدَاءً فَجَائِزٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] بَيَّنَ تَعَالَى أَحْكَامَ النِّكَاحِ وَالْفِرَاقِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: تِلْكَ حُدُودِي الَّتِي أَمَرْت بِامْتِثَالِهَا فَلَا تَعْتَدُوهَا، كَمَا بَيَّنَ تَحْرِيمَاتِ الصِّيَامِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، ثُمَّ قَالَ: تِلْكَ حُدُودِي فَلَا تَقْرَبُوهَا، فَقَسَّمَ الْحُدُودَ قِسْمَيْنِ: مِنْهَا حُدُودُ الْأَمْرِ بِالِامْتِثَالِ، وَحُدُودُ النَّهْيِ بِالِاجْتِنَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: احْتَجَّ مَشْيَخَةُ خُرَاسَانَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ يَلْحَقَهَا الطَّلَاقُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] قَالُوا: فَشَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى صَرِيحَ الطَّلَاقِ بَعْدَ الْمُفَادَاةِ بِالطَّلَاقِ؛ وَإِنَّمَا قُلْنَا بَعْدَهَا لِأَنَّ الْفَاءَ حَرْفُ تَعْقِيبٍ.

قُلْنَا: مَعْنَاهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا وَلَمْ تَعْتَدَّ، لِأَنَّهُ شَرَعَ قَبْلَ الِابْتِدَاءِ بِطَلَاقَيْنِ فَيَكُونُ الِابْتِدَاءُ ثَالِثَةً، وَلَا طَلَاقَ بَعْدَهَا لِيَكُونَ مُرَتَّبًا عَلَيْهَا، وَيَكُونُ مُعَقِّبًا بِهِ، فَالصَّرِيحُ الْمَذْكُورُ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَاقَبَةِ مَعْنَاهُ إنْ لَمْ يَكُنْ فِدَاءً وَلَكِنْ كَانَ صَرِيحًا، وَدَلِيلُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ طَلْقَتَيْنِ صَرِيحَتَيْنِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُمَا إمْسَاكًا بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحًا بِإِحْسَانٍ، إمَّا بِالتَّرْكِ لِتَبِينَ، وَإِمَّا بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ، فَيَكُونُ تَمْلِيكًا لِلثَّالِثَةِ؛ فَإِنْ افْتَدَتْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهَا فِيهِ، وَإِنْ لَمْ تَفْتَدِ وَطَلَّقَهَا كَانَ كَذَا، كَمَا أَخْبَرَ بِهِ، فَيَكُونُ بَيَانًا لِكَيْفِيَّةِ التَّصَرُّفِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ مِلْكِ الثَّالِثَةِ. فَإِنْ قِيلَ: حَرْفُ الْفَاءِ يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ وَقَدْ رُتِّبَ الصَّرِيحُ عَلَى الْفِدَاءِ فَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] ثُمَّ قَالَ: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] أَيْ فِيمَا فَدَتْ بِهِ نَفْسَهَا مِنْ نِكَاحِهَا بِمَالِهَا، وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ طَلَاقٍ فَتَكُونُ الْمُفَادَاةُ طَلَاقًا بِمَالٍ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] حَتَّى لَا يَلْزَمَنَا تَرْكُ الْقَوْلِ بِالتَّرْتِيبِ الَّذِي يَقْتَضِيه حَرْفُ الْفَاءِ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ مَسَاقُ الْآيَةِ، لِأَنَّهَا سِيقَتْ لِبَيَانِ عَدَدِ الطَّلَاقِ وَأَحْكَامِ الْوَاقِعِ مِنْهُ؛ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْعَدَدَ ثَلَاثٌ، وَأَنَّ الصَّرِيحُ لَا يَمْنَعَ وُقُوعَ آخَرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَقْطَعُ الرَّجْعَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229] وَلَا إيقَاعَ الثَّالِثَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] لَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْوُقُوعَ بِبَدَلٍ وَلَا حُكْمِ مَا بَعْدَهُ، فَتَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] أَنَّ الِافْتِدَاءَ بِالْمَالِ عَنْ النِّكَاحِ جَائِزٌ، وَطَلَاقٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَنَّهُ لَا رَجْعَةَ بَعْدَهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ بَعْدَهُ رَجْعَةً؛ فَالْآيَةُ سِيقَتْ لِبَيَانِ جُمْلَةٍ، فَيَكُونُ التَّرْكُ بَيَانًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] فَبَيَّنَ أَنَّ الصَّرِيحَ يَقَعُ بَعْدَ الطَّلَاقِ بِمَالٍ. قُلْنَا: هَذَا تَطْوِيلٌ لَيْسَ وَرَاءَهُ تَحْصِيلٌ؛ إنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229] بِمَا قَدْ تَرَدَّدَ فِي كَلَامِنَا. جُمْلَتُهُ أَنَّ الطَّلَاقَ مَحْصُورٌ فِي ثَلَاثٍ، وَأَنَّ لِلزَّوْجِ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثَةِ الرَّجْعَةَ، وَأَنَّ الثَّالِثَةَ تُحَرِّمُهَا إلَى غَايَةٍ، وَتُبَيِّنَ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ تَحْرِيمَ أَخْذِ الصَّدَاقِ

الآية الثامنة والستون قوله تعالى فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره

إلَّا بَعْدَ رِضَا الْمَرْأَةِ لِمَا قَدْ اسْتَوْفَى مِنْهَا وَاسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، وَأَحْكَمَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُ فِي أَنْ يَقُولَ: تَأْخُذُ بِمِقْدَارِ مُتْعَتِي، وَآخُذُ بِمَا بَقِيَ لِي، وَأَوْضَحَ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَفُكَّ نَفْسَهَا مِنْ رِقِّ النِّكَاحِ بِمَالِهَا مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ أَخَذَهُ فِي الْأُولَى أَوْ الثَّانِيَةِ؛ أَوْ الثَّالِثَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ أَعْدَادِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَالْمَرَّتَيْنِ وَالتَّسْرِيحِ: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] كَيْفَمَا كَانَ الْفِدَاءُ؛ فَكَانَ بَيَانًا لِجَوَازِ الْفِدَاءِ فِي الْجُمْلَةِ كُلِّهَا لَا فِي مَحِلٍّ مَخْصُوصٍ مِنْهَا بِأُولَى أَوْ ثَانِيَةٍ أَوْ ثَالِثَةٍ. جَوَابٌ آخَرُ: وَأَمَّا تَحْرِيمُ الرَّجْعَةِ فِي طَلَاقِ الْخُلْعِ فَلَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، إنَّمَا اقْتَضَتْ الْآيَةُ تَحْرِيمَهَا بِالثَّالِثَةِ، أَوْ بِالثَّلَاثِ، فَأَمَّا سُقُوطُ الرَّجْعَةِ فِي الْمُفَادَاةِ فَمَأْخُوذٌ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ، وَهُوَ حَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَأْنِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ فَمَعْنَاهُ وَفَرَّقَهُ. جَوَابٌ ثَالِثٌ: أَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الصَّرِيحَ يَقَعُ بَعْدَ الطَّلَاقِ، فَنَقُولُ: نَعَمْ، وَلَكِنْ فِي مَحَلِّهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِدَّةَ لَوْ انْقَضَتْ لَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ ثَانٍ، وَلَا يَقَعُ إذَا خَالَعَهَا فِي الْأُولَى وَلَا فِي الثَّانِيَةِ. جَوَابٌ رَابِعٌ: قَدْ بَيَّنَّا قَبْلَ هَذَا تَقْدِيرَ الْآيَةِ وَنَظْمَ مَسَاقِهَا بِمَا يَقْتَضِيه لَفْظُهَا، لَا بِمَا لَا يَقْتَضِيه وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَمَا فَعَلُوا؛ فَقَارِنُوا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ تَجِدُوا الْبَوْنَ بَيِّنًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [الْآيَة الثَّامِنَة وَالسِّتُّونَ قَوْله تَعَالَى فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ] ُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 230] وَفِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} [البقرة: 230] قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: تَحِلُّ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا لِلْأَوَّلِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ مِنْ الثَّانِي وَإِنْ لَمْ يَطَأْهَا الثَّانِي؛ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وَالنِّكَاحُ الْعَقْدُ.

مسألة المرأة تزوج نفسها

قَالَ: وَهَذَا لَا يَصِحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ لَهُ: بَلْ هُوَ الْوَطْءُ، وَلَفْظُ النِّكَاحِ قَدْ وَرَدَ بِهِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى جَمِيعًا، فَمَا بَالُهُ خَصَّصَهُ هَاهُنَا بِالْعَقْدِ. فَإِنْ قِيلَ: فَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ الْإِنْزَالَ وَأَنْتُمْ لَا تَشْتَرِطُونَهُ إنَّمَا شَرَطَ ذَوْقَ الْعُسَيْلَةِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، هَذَا لُبَابُ كَلَامِ عُلَمَائِنَا. قَالَ الْقَاضِي: مَا مَرَّ بِي فِي الْفِقْهِ مَسْأَلَةٌ أَعْسَرُ مِنْهَا؛ وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْحُكْمَ هَلْ يَتَعَلَّقُ بِأَوَائِلِ الْأَسْمَاءِ أَوْ بِأَوَاخِرِهَا؟ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَفِي بَعْضِ مَا تَقَدَّمَ. فَإِنَّا قُلْنَا: إنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِأَوَائِلِ الْأَسْمَاءِ لَزَمَنَا مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَإِنَّ قُلْنَا: إنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِأَوَاخِرِ الْأَسْمَاءِ لَزِمَنَا أَنَّ نَشْتَرِطَ الْإِنْزَالُ مَعَ مَغِيبِ الْحَشَفَةِ فِي الْإِحْلَالِ، لِأَنَّهُ آخِرُ ذَوْقِ الْعُسَيْلَةِ، وَلِأَجَلِ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْزِلَ عَنْ الْحُرَّةِ إلَّا بِإِذْنِهَا؛ فَصَارَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي هَذَا الْحَدِّ مِنْ الْإِشْكَالِ، وَأَصْحَابُنَا يُهْمِلُونَ ذَلِكَ وَيَمْحُونَ الْقَوْلَ عَلَيْهِ، وَقَدْ حَقَقْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [مَسْأَلَةٌ الْمَرْأَةَ تُزَوِّجُ نَفْسَهَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تُزَوِّجُ نَفْسَهَا؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَيْهَا، وَلَنَا لَوْ كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ يَرَى هَذَا مَعَ قَوْلِهِ: إنَّ النِّكَاحَ الْعَقْدُ لَجَازَ لَهُ؛ وَأَمَّا نَحْنُ وَأَنْتُمْ الَّذِينَ نَرَى أَنَّ النِّكَاحَ هَاهُنَا هُوَ الْوَطْءُ فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال لَكُمْ مَعَنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ. فَإِنْ قِيلَ: الْقُرْآنُ اقْتَضَى تَحْرِيمَهَا إلَى الْعَقْدِ، وَالسُّنَّةُ لَمْ تُبَدِّلْ لَفْظَ النِّكَاحِ وَلَا نَقَلَتْهُ عَنْ الْعَقْدِ إلَى الْوَطْءِ، إنَّمَا زَادَتْ شَرْطًا آخَرَ وَهُوَ الْوَطْءُ. قُلْنَا: إذَا احْتَمَلَ اللَّفْظُ فِي الْقُرْآنِ مَعْنَيَيْنِ فَأَثْبَتَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا فَلَا يُقَالُ إنَّ الْقُرْآنَ اقْتَضَى أَحَدَهُمَا وَزَادَتْ السُّنَّةُ الثَّانِيَ؛ إنَّمَا يُقَالُ: إنَّ السُّنَّةَ أَثْبَتَتْ الْمُرَادَ مِنْهُمَا، وَالْعُدُولُ عَنْ هَذَا جَهْلٌ بِالدَّلِيلِ أَوْ مُرَاغَمَةٌ وَعِنَادٌ فِي التَّأْوِيلِ.

الآية التاسعة والستون وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف

[الْآيَة التَّاسِعَة وَالسِّتُّونَ وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ] قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231] فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: بَلَغْنَ: مَعْنَاهُ قَارَبْنَ الْبُلُوغَ؛ لِأَنَّ مَنْ بَلَغَ أَجَلَهُ بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ وَانْقَطَعَتْ رَجْعَتُهُ؛ فَلِهَذِهِ الضَّرُورَةِ جُعِلَ لَفْظُ بَلَغَ بِمَعْنَى قَارَبَ، كَمَا يُقَالُ: إذَا بَلَغْت مَكَّةَ فَاغْتَسِلْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231]: هُوَ الرَّجْعَةُ مَعَ الْمَعْرُوفِ مُحَافَظَةً عَلَى حُدُودِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الْقِيَامِ بِحُقُوقِ النِّكَاحِ. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231]: يَعْنِي طَلِّقُوهُنَّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: هَذَا مِنْ أَلْفَاظِ التَّصْرِيحِ فِي الطَّلَاقِ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ: طَلَاقٌ، وَسَرَاحٌ، وَفِرَاقٌ. وَفَائِدَتُهَا عِنْدَهُ أَنَّهَا لَا تُفْتَقَرُ إلَى النِّيَّةِ؛ بَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِذَكَرِهَا مُجَرَّدَةً عَنْ النِّيَّةِ. وَعِنْدَنَا أَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ الَّذِي لَا يُفْتَقَرُ إلَى النِّيَّةِ نَيَّفَ عَلَى عَشَرَةِ أَلْفَاظٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لِيُبَيِّنَ بِهَا عَدَدَ الصَّرِيحِ؛ وَإِنَّمَا دَخَلَتْ لِبَيَانِ أَحْكَامٍ عُلِّقَتْ عَلَى الطَّلَاقِ، فَلَا تُسْتَفَادُ مِنْهُ، مَا لَمْ يَذْكُرْ لِأَجَلِهِ وَلَا فِي مَوْضِعِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْمَسَائِلِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ هَاهُنَا: {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ} [البقرة: 231] صَرِيحًا فِي الطَّلَاقِ قَطْعًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] أَيْ أَرْجِعُوهُنَّ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمَعْنَى {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ} [البقرة: 231] أَيْ اُتْرُكُوا الِارْتِجَاعَ، فَسَتُسَرَّحُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ

مسألة حكم الإمساك بالمعروف

بِالطَّلَاقِ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ إحْدَاثَ طَلَاقٍ بِحَالٍ، وَقَدْ يَكُونُ الطَّلَاقُ الَّذِي كَانَتْ عَنْهُ الْعِدَّةُ مَكَانَهُ، فَلَا يَكُونُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَرِّحُوهُنَّ} [البقرة: 231] مَعْنًى. [مَسْأَلَةٌ حُكْمُ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: حُكْمُ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ: أَنَّ لِلزَّوْجِ إذَا لَمْ يَجِدْ مَا يُنْفِقُ عَلَى الزَّوْجَةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا؛ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْمَعْرُوفِ، فَيُطَلِّقُهَا عَلَيْهِ الْحَاكِمُ مِنْ أَجْلِ الضَّرَرِ اللَّاحِقِ لَهَا فِي بَقَائِهَا عِنْدَ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى نَفَقَتِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ هَذَا الْعَاجِزُ عَنْ النَّفَقَةِ لَا يُمْسِكُ بِالْمَعْرُوفِ، فَكَيْفَ تُكَلِّفُونَهُ أَنْتُمْ غَيْرَ الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ الْإِنْفَاقُ، وَلَا يَجُوزُ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ؟ قُلْنَا: إذَا لَمْ يُطِقْ الْإِنْفَاقَ بِالْمَعْرُوفِ أَطَاقَ الْإِحْسَانَ بِالطَّلَاقِ، وَإِلَّا فَالْإِمْسَاكُ مَعَ عَدَمِ الْإِنْفَاقِ ضِرَارُ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِلْبُخَارِيِّ: «تَقُولُ لَك زَوْجُك: أَنْفِقْ عَلَيَّ وَإِلَّا طَلِّقْنِي. وَيَقُولُ لَك عَبْدُك: أَنْفِقْ عَلَيَّ وَإِلَّا بِعْنِي. وَيَقُولُ لَك ابْنُك: أَنْفِقْ عَلَيَّ، إلَى مَنْ تَكِلُنِي.» [مَسْأَلَةٌ الرَّجْعَةَ لَا تَكُونُ إلَّا بِقَصْدِ الرَّغْبَةِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَكُونُ إلَّا بِقَصْدِ الرَّغْبَةِ، فَإِنْ قَصَدَ أَنْ يَمْنَعَهَا النِّكَاحَ وَيَقْطَعَ بِهَا فِي أَمَلِهَا مِنْ غَيْرِ رَغْبَةِ اعْتِدَاءٍ عَلَيْهَا فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، فَلَوْ عَرَفْنَا ذَلِكَ نَقَضْنَا رَجْعَتَهُ، وَإِذَا لَمْ نَعْرِفْ نَفَذَتْ، وَاَللَّهُ حَسِيبُهُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231] قَالَ عُلَمَاؤُنَا: مَعْنَاهُ لَا تَأْخُذُوا أَحْكَامَ اللَّهِ فِي طَرِيقِ الْهُزْءِ، فَإِنَّهَا جَدٌّ كُلُّهَا، فَمَنْ هَزَأَ بِهَا لَزِمَتْهُ.

الآية الموفية سبعين قوله تعالى وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن

وَهَذَا اللَّفْظُ لَا يَسْتَعْمِلُ إلَّا بِطَرِيقِ الْقَصْدِ إلَى اتِّخَاذِهَا هُزُوًا؛ فَأَمَّا لُزُومُهَا عِنْدَ اتِّخَاذِهَا هُزُوًا فَلَيْسَتْ مِنْ قُوَّةِ اللَّفْظِ؛ وَإِنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. وَمِنْ اتِّخَاذِ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ مِائَةً. فَقَالَ: يَكْفِيك مِنْهَا ثَلَاثٌ، وَالسَّبْعَةُ وَالتِّسْعُونَ اتَّخَذْت بِهَا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا. فَمِنْ اتِّخَاذِهَا هُزُوًا عَلَى هَذَا مُخَالَفَةُ حُدُودِهَا فَيُعَاقَبُ بِإِلْزَامِهَا، وَعَلَى هَذَا يَتَرَكَّبُ طَلَاقُ الْهَازِلِ؛ وَلَسْت أَعْلَمُ خِلَافًا فِي الْمَذْهَبِ فِي لُزُومِهِ؛ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي نِكَاحِ الْهَازِلِ؛ فَقَالَ عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ: لَا يَلْزَمُ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَرِّجَ عَلَى هَذَا طَلَاقَ الْهَازِلِ فَهُوَ ضَعِيفُ النَّظَرِ؛ لِأَنَّ إبْطَالَ نِكَاحِ الْهَازِلِ يُوجِبُ إلْزَامَ طَلَاقِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَغْلِيبَ التَّحْرِيمِ فِي الْبُضْعِ عَلَى التَّحْلِيلِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ فِيهِ إذَا عَارَضَتْهُ. [الْآيَة الْمُوفِيَة سَبْعِينَ قَوْله تَعَالَى وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ] َّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232] فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة: 232] وَالْبُلُوغُ هَاهُنَا حَقِيقَةٌ لَا مَجَازَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْنَاهُ قَارَبْنَ الْبُلُوغَ كَمَا فِي الْآيَةِ قَبْلِهَا لَمَا خَرَجَتْ بِهِ الزَّوْجَةُ عَنْ حُكْمِ الزَّوْجِ فِي الرَّجْعَةِ، فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: 232] تَبَيَّنَ أَنَّ الْبُلُوغَ قَدْ وَقَعَ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَأَنَّ الزَّوْجَ قَدْ سَقَطَ حَقُّهُ مِنْ الرَّجْعَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: 232] الْعَضْلُ يَتَصَرَّفُ عَلَى وُجُوهٍ مَرْجِعُهَا إلَى الْمَنْعِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا؛ فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى أَوْلِيَاءَ الْمَرْأَةِ مِنْ مَنْعِهَا عَنْ نِكَاحِ مَنْ تَرْضَاهُ. وَهَذَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا حَقَّ لَهَا

الآية الحادية والسبعون قوله تعالى والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين

فِي مُبَاشَرَةِ النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا هُوَ حَقُّ الْوَلِيِّ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْ مَنْعِهَا. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ كَانَتْ لَهُ أُخْتٌ فَطَلَّقَهَا زَوْجُهَا، فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا خَطَبَهَا، فَأَبَى مَعْقِلٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقٌّ لَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَا كَلَامَ لِمَعْقِلٍ فِي ذَلِكَ. وَفِي الْآيَةِ أَسْئِلَةٌ كَثِيرَةٌ يَقْطَعُهَا هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ، خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ. فَإِنْ قِيلَ: السَّبَبُ الَّذِي رَوَيْتُمْ يُبْطِلُ نَظْمَ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ إذَا كَانَ هُوَ الْمُنْكِحَ فَكَيْفَ يُقَالُ لَهُ: لَا تَمْتَنِعُ مِنْ فِعْلِ نَفْسِك، وَهَذَا مُحَالٌ. قُلْنَا: لَيْسَ كَمَا ذَكَرْتُمْ، لِلْمَرْأَةِ حَقُّ الطَّلَبِ لِلنِّكَاحِ، وَلِلْوَلِيِّ حَقُّ الْمُبَاشَرَةِ لِلْعِقْدِ؛ فَإِذَا أَرَادَتْ مَنْ يُرْضَى حَالُهُ، وَأَبَى الْوَلِيُّ مِنْ الْعَقْدِ فَقَدْ مَنَعَهَا مُرَادَهَا، وَهَذَا بَيِّنٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232] يَعْنِي إذَا كَانَ لَهَا كُفُؤًا، لِأَنَّ الصَّدَاقَ فِي الثَّيِّبِ الْمَالِكَةِ أَمْرَ نَفْسِهَا لَا حَقَّ لِلْوَلِيِّ فِيهِ، وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي ثَيِّبٍ مَالِكَةٍ أَمْرَ نَفْسِهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَعْرُوفَ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ هُوَ الْكَفَاءَةُ، وَفِيهَا حَقٌّ عَظِيمٌ لِلْأَوْلِيَاءِ، لَمَا فِي تَرْكِهَا مِنْ إدْخَالِ الْعَارِ عَلَيْهِمْ؛ وَذَلِكَ إجْمَاعٌ مِنْ الْأُمَّةِ. [الْآيَة الْحَادِيَة وَالسَّبْعُونَ قَوْله تَعَالَى وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ] ِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]

مسألة زادت المرأة في رضاعها على مدة الحولين

هَذِهِ الْآيَةُ عُضْلَةٌ وَلَا يُتَخَلَّصُ مِنْهَا إلَّا بِجُرَيْعَةِ الذَّقَنِ مَعَ الْغَصَصِ بِهَا بُرْهَةً مِنْ الدَّهْرِ؛ وَفِيهَا خَمْسَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةٍ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَقَلُّ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] فَإِذَا أَسْقَطَتْ حَوْلَيْنِ مِنْ ثَلَاثِينَ شَهْرًا بَقِيَتْ مِنْهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ؛ وَهِيَ مُدَّةُ الْحَمْلِ؛ وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الِاسْتِنْبَاطِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي فَائِدَةِ هَذَا التَّقْدِيرِ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ إذَا وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَرْضَعَتْ حَوْلَيْنِ، وَإِنْ وَلَدَتْ لِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ أَرْضَعَتْ وَاحِدًا وَعِشْرِينَ شَهْرًا، وَهَكَذَا تَتَدَاخَلُ مُدَّةُ الْحَمْلِ وَمُدَّةُ الرَّضَاعِ، وَيَأْخُذُ الْوَاحِدُ مِنْ الْآخَرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إذَا اخْتَلَفَ الْأَبَوَانِ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ فَالْفَصْلُ فِي فِصَالِهِ مِنْ الْحَاكِمِ حَوْلَانِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا حَدَّ لِأَقَلِّهِ، وَأَكْثَرُهُ مَحْدُودٌ بِحَوْلَيْنِ مَعَ التَّرَاضِي بِنَصِّ الْقُرْآنِ. [مَسْأَلَةٌ زَادَتْ الْمَرْأَةُ فِي رَضَاعِهَا عَلَى مُدَّةِ الْحَوْلَيْنِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إذَا زَادَتْ الْمَرْأَةُ فِي رَضَاعِهَا عَلَى مُدَّةِ الْحَوْلَيْنِ؛ وَقَعَ الرَّضَاعُ مَوْقِعَهُ إلَى أَنْ يَسْتَقِلَّ الْوَلَدُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: لَوْ زَادَتْ لَحْظَةً مَا اُعْتُبِرَ ذَلِكَ فِي حُكْمٍ، وَلَوْ كَانَ هَذَا حَدًّا مُؤَقَّتًا لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَلَا تُعْتَبَرُ إنْ وُجِدَتْ لَمَا أَوْقَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْإِرَادَةِ كَسَائِرِ الْأَعْدَادِ الْمُؤَقَّتَةِ فِي الشَّرِيعَةِ.

مسألة نفقة الولد

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُرِيدُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ. وَقَالَ زُفَرُ: ثَلَاثَ سِنِينَ؛ وَهَذَا كُلُّهُ تَحَكُّمٌ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَا قَرُبَ مِنْ أَمَدِ الْفِطَامِ عُرْفًا لَحِقَ بِهِ وَمَا بَعُدَ مِنْهُ خَرَجَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ؛ وَفِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ تَتِمَّةُ ذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ نَفَقَةِ الْوَلَدِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ لِعَجْزِهِ وَضَعْفِهِ؛ فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَلَى يَدَيْ أَبِيهِ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَشَفَقَتِهِ عَلَيْهِ؛ وَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْأُمَّ لِأَنَّ الْغِذَاءَ يَصِلُ إلَيْهِ بِوَسَاطَتِهَا فِي الرَّضَاعَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] لِأَنَّ الْغِذَاءَ لَا يَصِلُ إلَى الْحَمْلِ إلَّا بِوَسَاطَتِهِنَّ فِي الرَّضَاعَةِ؛ وَهَذَا بَابٌ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَهُوَ أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ وَاجِبٌ مِثْلُهُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] يَعْنِي عَلَى قَدْرِ حَالِ الْأَبِ مِنْ السَّعَةِ وَالضِّيقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] وَمِنْ هَذِهِ النُّكْتَةِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا جَوَازَ إجَارَةِ الظِّئْرِ بِالنَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَنْكَرَهُ صَاحِبَاهُ، لِأَنَّهَا إجَارَةٌ مَجْهُولَةٌ فَلَمْ تَجُزْ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ بِهِ عَلَى عَمَلِ الْآخَرِ، وَذَلِكَ عِنْد أَبِي حَنِيفَةَ اسْتِحْسَانٌ، وَهُوَ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَصْلٌ فِي الِارْتِضَاعِ، وَفِي كُلِّ عَمَلٍ، وَحُمِلَ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْعَمَلُ. وَلَوْلَا أَنَّهُ مَعْرُوفٌ مَا أَدْخَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَعْرُوفِ. فَإِنْ قِيلَ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ أَنَّهُ قُدِّرَ بِحَالِ الْأَبِ مِنْ عُسْرٍ وَيُسْرٍ، وَلَوْ كَانَ عَلَى رَسْمِ الْأُجْرَةِ لَمْ يَخْتَلِفْ كَبَدَلِ سَائِرِ الْأَعْوَاضِ. قُلْنَا: قَدَّرُوهُ بِالْمَعْرُوفِ أَصْلًا فِي الْإِجَارَاتِ، وَنَوْعُهُ بِالْيَسَارِ وَالْإِقْتَارِ رِفْقًا؛ فَانْتَظَمَ الْحُكْمَانِ، وَاطَّرَدَتْ الْحِكْمَتَانِ. وَفِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ تَرَى تَمَامَ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

مسألة الرضاع هل هو حق للأم أم هو حق عليها

[مَسْأَلَةٌ الرَّضَاع هَلْ هُوَ حَقٌّ لِلْأُمِّ أَمْ هُوَ حَقٌّ عَلَيْهَا] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ هُوَ حَقٌّ لَهَا أَمْ هُوَ حَقٌّ عَلَيْهَا؟ وَاللَّفْظُ مُحْتَمَلٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ التَّصْرِيحَ بِقَوْلِهِ (عَلَيْهَا) لَقَالَ: وَعَلَى الْوَالِدَاتِ إرْضَاعُ أَوْلَادِهِنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة: 233] لَكِنَّ هُوَ عَلَيْهَا فِي حَالِ الزَّوْجِيَّةِ، وَهُوَ عَلَيْهَا إنْ لَمْ يَقْبَلْ غَيْرُهَا، وَهُوَ عَلَيْهَا إذَا عُدِمَ الْأَبُ لِاخْتِصَاصِهَا بِهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَقُولُ لَك الْمَرْأَةُ: أَنْفِقْ عَلَيَّ وَإِلَّا طَلِّقْنِي، وَيَقُولُ لَك الْعَبْدُ: أَطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْنِي، وَيَقُولُ لَك ابْنُك: أَنْفِقْ عَلَيَّ، إلَى مَنْ تَكِلُنِي». وَلِمَالِكٍ فِي الشَّرِيفَةِ رَأْيٌ خَصَّصَ بِهِ الْآيَةَ فَقَالَ: إنَّهَا لَا تُرْضِعُ إذَا كَانَتْ شَرِيفَةً. وَهَذَا مِنْ بَابِ الْمُصْلِحَةِ الَّتِي مَهَّدْنَاهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الْحَضَانَةُ بِدَلِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ لِلْأُمِّ وَالنُّصْرَةُ لِلْأَبِ، لِأَنَّ الْحَضَانَةَ مَعَ الرَّضَاعِ، وَمَسَائِلُ الْبَابِ تَأْتِي فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْله تَعَالَى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233] الْمَعْنَى لَا تَأْبَى الْأُمُّ أَنْ تُرْضِعَهُ إضْرَارًا بِأَبِيهِ، وَلَا يَحِلُّ لِلْأَبِ أَنْ يَمْنَعَ الْأُمَّ مِنْ ذَلِكَ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ عِنْدَ الطَّلَاقِ؛ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذِكْرَ ذَلِكَ جَاءَ عِنْدَ ذِكْرِ الطَّلَاقِ، فَكَانَ بَيَانًا لِبَعْضِ أَحْكَامِهِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ. الثَّانِي: أَنَّ النِّكَاحَ إذَا كَانَ بَاقِيًا ثَابِتًا فَالنَّفَقَةُ وَاجِبَةٌ لِأَجَلِهِ، وَلَا تُسْتَوْجَبُ الْأُمُّ زِيَادَةٌ عَلَيْهَا لِأَجَلِ رَضَاعِهِ. [مَسْأَلَةٌ أَرَادَ الْأَبُ أَنْ يُرْضِعَ الِابْنَ غَيْرَ الْأُمِّ وَهِيَ فِي الْعِصْمَةِ لِتَتَفَرَّغَ لَهُ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إذَا أَرَادَ الْأَبُ أَنْ يُرْضِعَ الِابْنَ غَيْرُ الْأُمّ وَهِيَ فِي الْعِصْمَةِ لِتَتَفَرَّغَ لَهُ جَازَ ذَلِكَ

مسألة قوله تعالى وعلى الوارث مثل ذلك هل هي منسوخة

وَلَمْ يَجُزْ لَهَا أَنْ تَخْتَصَّ بِهِ إذَا كَانَ يَقْبَلُ غَيْرَهَا، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْأَبِ؛ بَلْ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ غِيَالِ الِابْنِ، فَاجْتِمَاعُ الْفَائِدَتَيْنِ يُوجِبُ عَلَى الْأُمِّ إسْلَامَ الْوَلَدِ إلَى غَيْرِهَا، وَلِمَا فِي الْآيَةِ مِنْ الِاحْتِمَالِ فِي أَنَّهُ حَقٌّ لَهَا أَوْ عَلَيْهَا. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ هَلْ هِيَ مَنْسُوخَة] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْلُهُ: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ، وَهَذَا كَلَامُ تَشْمَئِزُّ مِنْهُ قُلُوبُ الْغَافِلِينَ، وَتَحَارُ فِيهِ أَلْبَابُ الشَّادِينَ، وَالْأَمْرُ فِيهِ قَرِيبٌ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: لَوْ ثَبَتَتْ مَا نَسَخَهَا إلَّا مَا كَانَ فِي مَرْتَبَتِهَا، وَلَكِنَّ وَجْهَهُ أَنَّ عُلَمَاءَ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ كَانُوا يُسَمُّونَ التَّخْصِيصَ نَسْخًا؛ لِأَنَّهُ رَفْعٌ لِبَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْعُمُومُ وَمُسَامَحَةٌ، وَجَرَى ذَلِكَ فِي أَلْسِنَتِهِمْ حَتَّى أَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، وَهَذَا يَظْهَرُ عِنْدَ مِنْ ارْتَاضَ بِكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَثِيرًا. وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] إشَارَةٌ إلَى مَا تَقَدَّمَ؛ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ رَدَّهُ إلَى جَمِيعِهِ مِنْ إيجَابِ النَّفَقَةِ وَتَحْرِيمِ الْإِضْرَارِ، مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَمِنْ السَّلَفِ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ، وَيُسْنَدُ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَوْجَبُوا عَلَى قَرَابَةِ الْمَوْلُودِ الَّذِينَ يَرِثُونَهُ نَفَقَتَهُ إذَا عَدِمَ أَبُوهُ فِي تَفْصِيلٍ طَوِيلٍ لَا مَعْنَى لَهُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءَ: إنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] لَا يَرْجِعُ إلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ كُلِّهِ؛ وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إلَى تَحْرِيمِ الْإِضْرَارِ. الْمَعْنَى: وَعَلَى الْوَارِثِ مِنْ تَحْرِيمِ الْإِضْرَارِ بِالْأُمِّ مَا عَلَى الْأَبِ. وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ؛ فَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ يُرْجِعُ الْعَطْفَ فِيهِ إلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ؛ وَهُوَ يَدَّعِي عَلَى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مَا لَيْسَ مِنْهَا، وَلَا يُوجَدُ لَهُ نَظِيرٌ فِيهَا. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا} [البقرة: 233] الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا جَعَلَ مُدَّةَ الرَّضَاعِ حَوْلَيْنِ بَيَّنَ أَنَّ فِطَامَهَا هُوَ الْفِطَامُ،

مسألة مدة الحضانة للأم في الولد

وَفِصَالَهَا هُوَ الْفِصَالُ، لَيْسَ لِأَحَدٍ عَنْهُ مَنْزَعٌ، إلَّا أَنْ يَتَّفِقَ الْأَبَوَانِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الْعَدَدِ مِنْ غَيْرِ مُضَارَّةٍ بِالْوَلَدِ؛ فَذَلِكَ جَائِزٌ بِهَذَا الْبَيَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِلْوَالِدَيْنِ التَّشَاوُرَ وَالتَّرَاضِيَ فِي الْفِطَامِ فَيَعْمَلَانِ عَلَى مُوجِبِ اجْتِهَادِهِمَا فِيهِ، وَتَتَرَتَّبُ الْأَحْكَامُ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ} [البقرة: 233] هَذَا عِنْدَ خِيفَةِ الضَّيْعَةِ عَلَى الْوَلَدِ عِنْد الْأُمِّ وَالتَّقْصِيرِ أَوْ الْإِضْرَارِ بِالْوَلَدِ فِي اشْتِغَالِ الْأُمِّ عَنْ حَقِّهِ بِوَلَدِهَا، أَوْ الْإِضْرَارِ بِالْوَلَدِ فِي الِاغْتِيَالِ وَنَحْوِهِ؛ فَإِنْ اخْتَلَفُوا نُظِرَ لِلصَّبِيِّ، فَإِنْ أَوْجَبَ النَّظَرُ أَنْ يُسْتَرْضَعَ لَهُ اُسْتُرْضِعَ، إذَا أَعْطَى الْمُرْضَعَ حَقَّهُ مِنْ أُمٍّ أَوْ ظِئْرٍ. [مَسْأَلَةٌ مُدَّة الْحَضَانَةُ لِلْأُمِّ فِي الْوَلَدِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إذَا كَانَتْ الْحَضَانَةُ لِلْأُمِّ فِي الْوَلَدِ تَمَادَتْ إلَى الْبُلُوغِ فِي الْغُلَامِ وَإِلَى النِّكَاحِ فِي الْجَارِيَةِ؛ وَذَلِكَ حَقٌّ لَهَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا عَقَلَ مَيَّزَ وَخَيَّرَ بَيْنَ أَبَوَيْهِ، لِمَا رَوَى النَّسَائِيّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ لَهُ: زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْنِي، وَقَدْ نَفَعَنِي وَسَقَانِي مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ. فَجَاءَ زَوْجُهَا فَقَالَ: مَنْ يُحَاقُّنِي فِي ابْنِي؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا غُلَامُ؛ هَذَا أَبُوك، وَهَذِهِ أُمُّك؛ فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْت. فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ». وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اسْتَهِمَا عَلَيْهِ. فَلَمَّا قَالَ زَوْجُهَا: مَنْ يُحَاقُّنِي عَلَيْهِ؟ خَيَّرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَاخْتَارَ أُمَّهُ.»

مسألة من لا يلزمها رضاع ولدها

وَرَوَى أَبُو دَاوُد أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: إنَّ ابْنِي كَانَ ثَدْيِي لَهُ سِقَاءً، وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً؛ وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي، وَأَرَادَ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنِّي. فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي.» وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِي ابْنَةِ حَمْزَةَ لِلْخَالَةِ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ، وَالْأُمُّ أَحَقُّ بِهِ مِنْهَا. وَالْمَعْنَى يَعْضِدهُ؛ فَإِنَّ الِابْنَ قَدْ أَنِسَ بِهَا فَنَقْلُهُ عَنْهَا إضْرَارٌ بِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مِنْ لَا يَلْزَمُهَا رَضَاعُ وَلَدِهَا] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: مُعْضِلَةٌ قَالَ مَالِكٌ: كُلُّ أُمٍّ يَلْزَمُهَا رَضَاعُ وَلَدِهَا بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حُكْمِ الشَّرِيعَةِ فِيهَا، إلَّا أَنَّ مَالِكًا دُونَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ اسْتَثْنَى الْحَسِيبَةَ، فَقَالَ: لَا يَلْزَمُهَا إرْضَاعُهُ، فَأَخْرَجَهَا مِنْ الْآيَةِ، وَخَصَّهَا فِيهَا بِأَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْمَصْلَحَةِ ، وَهَذَا فَنٌّ لَمْ يَتَفَطَّنْ لَهُ مَالِكِيٌّ. وَقَدْ حَقَقْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَالْأَصْلُ الْبَدِيعُ فِيهِ هُوَ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي ذَوِي الْحَسَبِ، وَجَاءَ الْإِسْلَامُ عَلَيْهِ فَلَمْ يُغَيِّرْهُ؛ وَتَمَادَى ذَوُو الثَّرْوَةِ وَالْأَحْسَابِ عَلَى تَفْرِيغِ الْأُمَّهَاتِ لِلْمُتْعَةِ بِدَفْعِ الرُّضَعَاءِ إلَى الْمَرَاضِعِ إلَى زَمَانِهِ، فَقَالَ بِهِ، وَإِلَى زَمَانِنَا؛ فَحَقَقْنَاهُ شَرْعًا. [الْآيَة الثَّانِيَة وَالسَّبْعُونَ قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا] يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 234] فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:

مسألة مدة التربص

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي نَسْخِهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] وَكَانَتْ عِدَّةُ الْوَفَاةِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ حَوْلًا، كَمَا كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ؛ قَالَهُ الْأَكْثَرُ. الثَّانِي: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} [البقرة: 240] تَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ؛ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ. وَالْأَصَحُّ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّل كَمَا حَقَّقْنَاهُ فِي الْقِسَمِ الثَّانِي مِنْ " النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ " عَلَى وَجْهِ نُكْتَتِهِ عَلَى مَا رَوَى الْأَئِمَّةُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ لِعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ} [البقرة: 240] نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الْأُخْرَى فَلِمَ تَكْتُبْهَا؟ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي؛ لَا أُغَيِّرَ مِنْهُ شَيْئًا عَنْ مَكَانِهِ، وَقَدْ قَالَ الْأَئِمَّةُ إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لِلْفُرَيْعَةِ بِنْتِ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ حِينَ قُتِلَ زَوْجُهَا: اُمْكُثِي فِي بَيْتِك حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ» فَتَقَرَّرَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا كَانَتْ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا وَبَيْنَ أَنْ تَبْقَى بِآيَةِ الْإِخْرَاجِ، ثُمَّ نَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْآيَةِ الَّتِي فِيهَا التَّرَبُّصُ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَمْرِهِ لِلْفُرَيْعَةِ بِالْمُكْثِ فِي بَيْتِهَا؛ فَكَانَ ذَلِكَ بَيَانًا لِلسُّكْنَى لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا قُرْآنًا وَسُنَّةً. [مَسْأَلَةٌ مُدَّة التَّرَبُّصُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذَا لَفْظُهُ لَفْظُ الْخَبَرِ، وَمَعْنَاهُ أَيْضًا مَعْنَى الْخَبَرِ كَمَا تَقَدَّمَ. الْمَعْنَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] يَعْنِي شَرْعًا؛ فَمَا وُجِدَ مِنْ

مُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَمْ تَتَرَبَّصْ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الشَّرْعِ " فَجَرَى الْخَبَرُ عَلَى لَفْظِهِ، وَثَبَتَ كَلَامُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى صِدْقِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي التَّرَبُّصِ بِالْقُرْءِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: التَّرَبُّصُ: هُوَ الِانْتِظَارُ، وَمُتَعَلَّقُهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: النِّكَاحُ، وَالطِّيبُ وَالتَّنَظُّفُ، وَالتَّصَرُّفُ وَالْخُرُوجُ. أَمَّا النِّكَاحُ، فَإِذَا وَضَعَتْ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَلَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِلَحْظَةٍ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا قَدْ حَلَّتْ. الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَحِلُّ إلَّا بِانْقِضَاءِ الْأَشْهُرِ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا لَا تَحِلُّ إلَّا بَعْدَ الطُّهْرِ مِنْ النِّفَاسِ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَقَدْ كَانَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ظَاهِرًا لَوْلَا حَدِيثُ «سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ أَنَّهَا وَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَدْ حَلَلْت، فَانْكِحِي مَنْ شِئْت» صَحَّتْ رِوَايَةُ الْأَئِمَّةِ لَهُ وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ هَذَا الْحَدِيثُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَمَا صَحَّ رَأْيُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي آخِرِ الْأَجَلَيْنِ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ إذَا وُضِعَ فَقَدْ سَقَطَ الْأَجَلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وَسَقَطَ الْمَعْنَى الْمَوْضُوعُ لِأَجَلِهِ الْأَجَلُ، وَهُوَ مَخَافَةُ شَغْلِ الرَّحِمِ؛ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي الْأَشْهُرِ؟ وَإِذَا تَمَّتْ الْأَشْهُرُ وَبَقِيَ الْحَمْلُ فَلَيْسَ يَقُولُ أَحَدٌ: إنَّهَا تَحِلُّ؛ وَهَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ حَدِيثَ سُبَيْعَةَ جَلَاءٌ لِكُلِّ غُمَّةٍ، وَعَلَا عَلَى كُلِّ رَأْيٍ وَهِمَّةٍ. وَأَمَّا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ فَيَرُدُّهُ قَوْله تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وَلَمْ يَشْتَرِطْ الطَّهَارَةَ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]

مسألة كون العدة أقصى الأجلين

الْمُطَلَّقَاتُ؛ لِأَنَّهُ فِيهِنَّ وَرَدَ، وَعَلَى ذِكْرِهِنَّ انْعَطَفَ. قُلْنَا: عَطْفُهُ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ لَا يُسْقِطُ عُمُومَهُ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ الْحِكْمَةِ فِي إيجَابِ الْعِدَّةِ مِنْ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَأَنَّهَا قَدْ وُجِدَتْ قَطْعًا. [مَسْأَلَةٌ كَوْنُ الْعِدَّة أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَدْ يَزْدَحِمُ عَلَى الرَّحِمِ وَطْآنِ فَتَكُونُ الْعِدَّةُ فِيهِمَا أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ فِي مَسَائِلَ: مِنْهَا الْمَنْعِيُّ لَهَا يَقْدَمُ ثُمَّ يَمُوتُ وَهِيَ حَامِلٌ مِنْ الثَّانِي؛ فَلَا بُدَّ مِنْ أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَدِمَ وَهِيَ حَامِلٌ فَطَلَّقَهَا الْأَوَّلُ فَلَا يُبْرِئُهَا الْوَضْعُ، وَلْتَأْتَنِفْ ثَلَاثَ حِيَضٍ بَعْدَهُ، وَهُوَ أَمْرٌ بَيِّنٌ. [مَسْأَلَة الطَّيِّب وَالزِّينَة فِي فَتْرَة الْإِحْدَاد] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَمَّا الطِّيبُ وَالزِّينَةُ: فَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ جَوَّزَ ذَلِكَ لَهَا احْتِجَاجًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لِأَسْمَاءِ بِنْتِ عُمَيْسٍ حِينَ مَاتَ جَعْفَرٌ: أَمْسِكِي ثَلَاثًا، ثُمَّ افْعَلِي مَا بَدَا لَك» وَهَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ. رَوَى الْأَئِمَّةُ بِأَجْمَعِهِمْ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَيْهِ فَقَالَتْ لَهُ: إنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَقَدْ اشْتَكَتْ عَيْنَيْهَا أَفَتُكْحِلُهُمَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: إنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ وَقَدْ كَانَتْ إحْدَاكُنَّ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ». قَالَتْ زَيْنَبُ: وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ إذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا لَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا، وَدَخَلَتْ حِفْشًا فَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ، ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ، حِمَارٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ طَيْرٍ فَتَفْتَضُّ بِهِ، فَقَلَّ مَا تَفْتَضُّ بِشَيْءٍ إلَّا مَاتَ، ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعْرَةً فَتَرْمِي بِهَا، ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْدُ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ وَغَيْرِهِ.

وَلَوْ صَحَّ حَدِيثُ أَسْمَاءَ فَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّ التَّسَلُّبَ هُوَ لِبَاسُ الْحُزْنِ، وَهُوَ مَعْنًى غَيْرُ الْإِحْدَادِ. وَأَمَّا الْخُرُوجُ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: خُرُوجُ انْتِقَالٍ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ آيَةَ الْإِخْرَاجِ لَمْ تُنْسَخْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ. الثَّانِي: خُرُوجُ الْعِبَادَةِ، كَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ: يَحْجُجْنَ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ عَلَيْهِنَّ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ: لَا يَحْجُجْنَ؛ وَقَدْ كَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَرُدُّ الْمُعْتَدَّاتِ مِنْ الْبَيْدَاءِ يَمْنَعُهُنَّ الْحَجَّ؛ فَرَأْيُ عُمَرَ فِي الْخُلَفَاءِ وَرَأْيُ مَالِكٍ فِي الْعُلَمَاءِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ عُمُومَ فَرْضِ التَّرَبُّصِ فِي زَمَنِ الْعِدَّةِ مُقَدَّمٌ عَلَى عُمُومِ زَمَانِ فَرْضِ الْحَجِّ، لَا سِيَّمَا إنْ قُلْنَا إنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي. وَإِنْ قُلْنَا عَلَى الْفَوْرِ فَحَقُّ التَّرَبُّصِ آكَدُ مِنْ حَقِّ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْعِدَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى ثُمَّ لِلْآدَمِيِّ فِي صِيَانَةِ مَائِهِ وَتَحْرِيرِ نَسَبِهِ؛ وَحَقُّ الْحَجِّ خَاصٌّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ. الثَّالِثُ: خُرُوجُهَا بِالنَّهَارِ لِلتَّصَرُّفِ وَرُجُوعُهَا بِاللَّيْلِ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ، وَيَكُونُ خُرُوجُهَا فِي السَّحَرِ وَرُجُوعُهَا عِنْدَ النَّوْمِ، فَرَاعُوا الْمَبِيتَ الَّذِي هُوَ عُمْدَةُ السُّكْنَى وَمَقْصُودُهُ، وَإِلَيْهِ تَرْجِعُ حَقِيقَةُ الْمَأْوَى. فَإِنْ قِيلَ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: لَمْ يَرَ أَحَدٌ مَبِيتَ لَيْلَةٍ أَوْ ثَلَاثٍ سُكْنَى لِلْبَائِتِ حَيْثُ بَاتَ، وَلَا خُرُوجًا عَنْ السُّكْنَى، فَمَا بَالُهُمْ فِي الْعِدَّةِ قَالُوا: خُرُوجُ لَيْلَةٍ خُرُوجٌ؟ قُلْنَا: الْمَعْنَى فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ حَقَّ الْخُرُوجِ مُتَعَلَّقُ الْمَبِيتِ فَاحْتِيطَ لَهُ، وَالْحَيُّ يَحْمِي شَوْلَهُ مَعْقُولًا، فَلَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ فِيهِ.

مسألة مات الزوج ولم تعلم المرأة بذلك إلا بعد مضي مدة العدة

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مُتَزَوِّجَةٍ، مَدْخُولٍ بِهَا أَوْ غَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا، صَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ، أَمَةٍ أَوْ حُرَّةٍ، حَامِلٍ أَوْ غَيْرِ حَامِلٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَهِيَ خَاصَّةٌ فِي الْمُدَّةِ؛ فَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَتَعْتَدُّ نِصْفَ عِدَّةِ الْحُرَّةِ إجْمَاعًا، وَإِلَّا مَا يُحْكَى عَنْ الْأَصَمِّ فَإِنَّهُ سَوَّى فِيهِ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ، وَقَدْ سَبَقَهُ الْإِجْمَاعُ، لَكِنْ لِصَمَمِهِ لَمْ يَسْمَعْ بِهِ، وَإِذَا انْتَصَفَ فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: إنَّهَا شَهْرَانِ وَخَمْسُ لَيَالٍ، وَهُوَ مَالِكٌ، وَرَأَيْت لِغَيْرِهِ مَا لَمْ أَرْضَ أَنْ أَحْكِيَهُ. [مَسْأَلَةٌ مَاتَ الزَّوْجُ وَلَمْ تَعْلَمْ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْعِدَّةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: إذَا مَاتَ الزَّوْجُ وَلَمْ تَعْلَمْ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْعِدَّةِ فَمَذْهَبُ الْجَمَاعَةِ أَنَّ الْعِدَّةَ قَدْ انْقَضَتْ، وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ الْعِدَّةَ مِنْ يَوْمِ عَلِمَتْ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ. وَقَالَ نَحْوًا مِنْهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالشَّعْبِيُّ إنْ ثَبَتَ الْمَوْتُ بِبَيِّنَةٍ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْعِدَّةَ عِبَادَةٌ بِتَرْكِ الزِّينَةِ، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِقَصْدٍ، وَالْقَصْدُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ، يُؤَكِّدُهُ أَنَّهَا لَوْ عَلِمَتْ بِمَوْتِهِ فَتَرَكَتْ الْإِحْدَادَ لَانْقَضَتْ الْعِدَّةُ؛ فَإِذَا تَرَكَتْ الْإِحْدَادَ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ فَهُوَ أَهْوَنُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّغِيرَ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا وَلَا إحْدَادَ عَلَيْهَا. [مَسْأَلَةٌ لَمْ تَحِضْ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ بَعْد مَوْت الزَّوْج] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إنْ لَمْ تَحِضْ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ فَلَا عِدَّةَ لَهَا عِنْدَنَا فِي أَشْهَرِ الْأَقْوَالِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا: لَا تَفْتَقِرُ إلَى الْحَيْضِ. وَدَلِيلُنَا أَنَّ تَأْخِيرَ الْحَيْضِ رِيبَةٌ تُوجِبُ أَنْ تَسْتَظْهِرَ لَهُ، إلَّا أَنَّ عُلَمَاءَنَا قَالُوا: إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا عَادَةٌ بِتَأْخِيرِ الْحَيْضِ وَلَمْ تَخْشَ رِيبَةً بَقِيَتْ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ وَفَاتِهِ. وَكَيْفِيَّةُ الِاسْتِظْهَارِ عِنْدَنَا تَكُونُ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ. [مَسْأَلَةٌ اعْتِدَادُ الزَّوْجَةِ الْكِتَابِيَّةِ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: إنْ كَانَتْ الزَّوْجَةُ كِتَابِيَّةً فَلِمَالِكٍ فِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا كَالْمُسْلِمَةِ.

مسألة المقصود من العدة

الثَّانِي: أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ؛ إذْ بِهَا يَبْرَأُ الرَّحِمُ؛ وَهَذَا مِنْهُ فَاسِدٌ جِدًّا؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهَا مِنْ عُمُومِ آيَةِ الْوَفَاةِ، وَهِيَ مِنْهَا، وَأَدْخَلَهَا فِي عُمُومِ آيَةِ الطَّلَاقِ، وَلَيْسَتْ مِنْهَا. [مَسْأَلَةٌ الْمَقْصُودُ مِنْ الْعِدَّةِ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: فِي تَنْزِيلِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ: اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الْعِدَّةِ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ مِنْ مَاءِ الزَّوْجِ؛ فَامْتِنَاعُ النِّكَاحِ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ الْمَاءِ الْوَاجِبِ صِيَانَتُهُ أَوَّلًا. وَامْتِنَاعُ عَقْدِ النِّكَاحِ إنَّمَا هُوَ لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِهِ شَرْعًا عَلَى مَحِلِّ لَا يُفِيدُ مَقْصُودَهُ فِيهِ وَهُوَ الْحِلُّ. وَامْتِنَاعُ الطِّيبِ وَالزِّينَةِ لِأَنَّهُ مِنْ دَوَاعِيه، فَقَطَعَتْ الذَّرِيعَةَ إلَيْهِ بِمَنْعِ مَا يَحْرِصُ عَلَيْهِ. وَامْتِنَاعُ الْخِطْبَةِ لِأَنَّ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ وَالتَّصْرِيحَ بِهِ أَقْوَى ذَرِيعَةً وَأَشَدُّ دَاعِيَةً مِنْ الطِّيبِ وَالزِّينَةِ، فَحُرِّمَ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى. وَامْتِنَاعُ الْخُرُوجِ لِبَقَاءِ الرَّقَبَةِ الْمُوجِبِ غَايَةَ الْحَفِيظَةِ وَالْعِصْمَةِ. وَحَقُّ أَمْرِ السُّكْنَى لِكَوْنِهِ فِي الدَّرَجَةِ الْخَامِسَةِ مِنْ الْحُرْمَةِ، فَأَسْقَطَ وُجُوبَهُ أَحْبَارٌ مِنْ الْأُمَّةِ، ثُمَّ رَخَّصَ اللَّهُ تَعَالَى فِي التَّعْرِيضِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة: 234] يَعْنِي انْقَضَتْ الْعِدَّةُ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ. هَذَا خِطَابٌ لِلْأَوْلِيَاءِ، وَبَيَانُ أَنَّ الْحَقَّ فِي التَّزْوِيجِ لَهُنَّ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ أَيْ مِنْ جَائِزٍ شَرْعًا، يُرِيدُ مِنْ اخْتِيَارِ أَعْيَانِ الْأَزْوَاجِ، وَتَقْدِيرِ الصَّدَاقِ دُونَ مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلْأَوْلِيَاءِ، كَمَا تَقَدَّمَ دُونَ وَضْعِ نَفْسِهَا فِي غَيْرِ كُفْءٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمَعْرُوفِ، وَفِيهِ الضَّرَرُ وَإِدْخَالُ الْعَارِ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ وَالسَّبْعُونَ قَوْله تَعَالَى وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ] ِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235]

فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى النِّكَاحَ فِي الْعِدَّةِ، وَأَوْجَبَ التَّرَبُّصَ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَقَدْ عَلِمَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْخَلْقَ لَا يَسْتَطِيعُونَ الصَّبْرَ عَنْ ذِكْرِ النِّكَاحِ وَالتَّكَلُّمِ فِيهِ، فَأَذِنَ فِي التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ مَعَ جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَأَذِنَ فِي ذِكْرِ ذَلِكَ بِالتَّعْرِيضِ مَعَ الْعَاقِدِ لَهُ، وَهُوَ الْمَرْأَةُ أَوْ الْوَلِيُّ؛ وَهُوَ فِي الْمَرْأَةِ آكَدُ. وَالتَّعْرِيضُ هُوَ الْقَوْلُ الْمُفْهِمُ لِمَقْصُودِ الشَّيْءِ، وَلَيْسَ بِنَصٍّ فِيهِ. وَالتَّصْرِيحُ هُوَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهِ وَالْإِفْصَاحُ بِذِكْرِهِ، مَأْخُوذٌ مِنْ عَرْضِ الشَّيْءِ وَهُوَ نَاحِيَتُهُ، كَأَنَّهُ يَحُومُ عَلَى النِّكَاحِ وَلَا يُسِفَّ عَلَيْهِ وَيَمْشِي حَوْلَهُ وَلَا يَنْزِلُ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ التَّعْرِيضِ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ السَّلَفِ فِيهِ كَثِيرٌ، جِمَاعُهُ عِنْدِي يَرْجِعُ إلَى قِسْمَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَذْكُرَهَا لِلْوَلِيِّ؛ يَقُولُ لَا تَسْبِقْنِي بِهَا. الثَّانِي: أَنْ يُشِيرَ بِذَلِكَ إلَيْهَا دُونَ وَاسِطَةٍ. فَإِنْ ذَكَرَ ذَلِكَ لَهَا بِنَفْسِهِ فَفِيهِ سَبْعَةُ أَلْفَاظٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَقُولَ لَهَا: إنِّي أُرِيدُ التَّزْوِيجَ. الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ لَهَا: لَا تَسْبِقِينِي بِنَفْسِك؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّالِثُ: أَنْ يَقُولَ لَهَا: إنَّك لَجَمِيلَةٌ، وَإِنَّ حَاجَتِي فِي النِّسَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَسَائِقٌ إلَيْك خَيْرًا. الرَّابِعُ: أَنْ يَقُولَ لَهَا: إنَّك لَنَافِقَةٌ؛ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ.

الْخَامِسُ: إنَّ لِي حَاجَةً، وَأَبْشِرِي فَإِنَّك نَافِقَةٌ، وَتَقُولُ هِيَ: قَدْ أَسْمَعُ مَا تَقُولُ؛ وَلَا تَزِيدُ شَيْئًا؛ قَالَهُ عَطَاءٌ. السَّادِسُ: أَنْ يُهْدِيَ لَهَا. قَالَ إبْرَاهِيمُ: إذَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ مِثْلَهُ فِي: السَّابِعُ: وَلَا يَأْخُذُ مِيثَاقَهَا. قَالَتْ سُكَيْنَةُ بِنْتُ حَنْظَلَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ: دَخَلَ عَلَيَّ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَنَا فِي عِدَّتِي فَقَالَ: يَا بِنْتَ حَنْظَلَةَ، قَدْ عَلِمْت قَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَقَّ جَدِّي عَلِيٍّ. فَقُلْت: غَفَرَ اللَّهُ لَك أَبَا جَعْفَرٍ، تَخْطُبنِي فِي عِدَّتِي وَأَنْتَ يُؤْخَذُ عَنْك؟ فَقَالَ: أَوَقَدْ فَعَلْت، إنَّمَا أَخْبَرْتُك بِقَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَوْضِعِي. وَقَدْ «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَكَانَتْ عِنْدَ ابْنِ عَمِّهَا أَبِي سَلَمَةَ فَتُوُفِّيَ عَنْهَا، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَذْكُرُ لَهَا مَنْزِلَتَهُ مِنْ اللَّهِ»، وَهُوَ مُتَحَامِلٌ عَلَى يَدِهِ حَتَّى أَثَّرَ الْحَصِيرُ فِي يَدِهِ مِنْ شِدَّةِ تَحَامُلِهِ، فَمَا كَانَتْ تِلْكَ خِطْبَةً. فَانْتُحِلَ مِنْ هَذَا فَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَذْكُرَهَا لِنَفْسِهَا. الثَّانِي: أَنْ يَذْكُرَهَا لِوَلِيِّهَا أَوْ يَفْعَلَ فِعْلًا يَقُومُ مَقَامَ الذِّكْرِ كَأَنْ يَهْدِيَ لَهَا. وَاَلَّذِي مَالَ إلَيْهِ مَالِكٌ أَنْ يَقُولَ: إنِّي بِك لَمُعْجَبٌ، وَلَك مُحِبٌّ، وَفِيك رَاغِبٌ. وَهَذَا عِنْدِي أَقْوَى التَّعْرِيضِ، وَأَقْرَبُ إلَى التَّصْرِيحِ. وَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنْ يَقُولَ لَهَا: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَائِقٌ إلَيْك خَيْرًا، وَأَبْشِرِي وَأَنْتِ نَافِقَةٌ. فَإِنْ قَالَ لَهَا أَكْثَرَ فَهُوَ إلَى التَّصْرِيحِ أَقْرَبُ. أَلَا تَرَى إلَى مَا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ، وَإِلَى مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَمَّا إذَا ذَكَرَهَا لِأَجْنَبِيٍّ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ وَلَا حَرَجَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ فِي أَنْ يَقُولَ: إنَّ فُلَانًا يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجُك إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِوَاسِطَةٍ.

مسألة التصريح في النكاح بالخطبة

وَهَذَا التَّعْرِيضُ وَنَحْوُهُ مِنْ الذَّرَائِعِ الْمُبَاحَةِ؛ إذْ لَيْسَ كُلُّ ذَرِيعَةٍ مَحْظُورًا، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ بِالْحَظْرِ الذَّرِيعَةُ فِي بَابِ الرِّبَا، لِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فَدَعُوا الرِّبَا وَالرِّيبَةَ وَكُلُّ ذَرِيعَةٍ رِيبَةٌ؛ وَذَلِكَ لِعَظِيمِ حُرْمَةِ الرِّبَا وَشِدَّةِ الْوَعِيدِ فِيهِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى. [مَسْأَلَةٌ التَّصْرِيحِ فِي النِّكَاحِ بِالْخُطْبَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَمَّا رَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَرَجَ فِي التَّعْرِيضِ فِي النِّكَاحِ قَالَ عُلَمَاءُ الشَّافِعِيَّةِ: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ بِالْقَذْفِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ التَّعْرِيضَ فِي النِّكَاحِ مَقَامَ التَّصْرِيحِ؛ فَأَوْلَى أَلَّا يَكُونَ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ. وَهَذَا سَاقِطٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْذَنْ فِي التَّصْرِيحِ فِي النِّكَاحِ بِالْخُطْبَةِ، وَأَذِنَ فِي التَّعْرِيضِ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْهُ النِّكَاحُ؛ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ بِهِ يُفْهَمُ مِنْهُ الْقَذْفُ، وَالْأَعْرَاضُ يَجِبُ صِيَانَتُهَا كَمَا تَجِبُ صِيَانَةُ الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ حَدَّ الْمُعَرِّضِ، لِئَلَّا يَتَطَرَّقَ الْفَسَقَةُ إلَى أَخْذِ الْأَعْرَاضِ بِالتَّعْرِيضِ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْهُ مَا يُفْهَمُ بِالتَّصْرِيحِ. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 235] يَعْنِي: سَتَرْتُمْ وَأَخْفَيْتُمْ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ ذِكْرِهِنَّ، وَالْعَزِيمَةِ عَلَى نِكَاحِهِنَّ؛ فَرَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَرَجَ فِي ذَلِكَ؛ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ تَفَضُّلًا مِنْهُ حِينَ عَلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِنَّ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة: 235] الْمَعْنَى قَدْ مُنِعْتُمْ التَّصْرِيحَ بِالنِّكَاحِ وَعَقْدِهِ، وَأُذِنَ لَكُمْ فِي التَّعْرِيضِ؛ فَإِيَّاكُمْ أَنْ يَقَعَ بَيْنَكُمْ مُوَاعَدَةٌ فِي النِّكَاحِ، حِينَ مُنِعْتُمْ الْعَقْدَ فِيهِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي السِّرِّ الْمُرَادِ هَاهُنَا عَلَى ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الزِّنَا. الثَّانِي: الْجِمَاعُ. الثَّالِثُ: التَّصْرِيحُ. وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ أَنَّهُ الزِّنَا؛ لِقَوْلِ الْأَعْشَى:

مسألة الوعد في العدة بالنكاح

فَلَا تَقْرَبَنَّ جَارَةً إنَّ سِرَّهَا ... عَلَيْك حَرَامٌ فَانْكِحْنَ أَوْ تَأَبَّدَا وَالسِّرُّ فِي اللُّغَةِ يَتَصَرَّفُ عَلَى مَعَانٍ: أَحَدُهَا: مَا تَكَلَّمَ بِهِ فِي سِرِّهِ وَأَخْفَى مِنْهُ مَا أَضْمَرَ. الثَّانِي: سِرُّ الْوَادِي أَيْ شَطُّهُ. الثَّالِثُ: سِرُّ الشَّيْءِ: خِيَارُهُ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ الزِّنَا. الْخَامِسُ: أَنَّهُ الْجِمَاعُ. السَّادِسُ: أَنَّهُ فَرْجُ الْمَرْأَةِ. السَّابِعُ: سَرَرَ الشَّهْرُ: مَا اُسْتُسِرَّ الْهِلَالُ فِيهِ مِنْ لَيَالِيِهِ. وَهَذِهِ الْإِطْلَاقَاتُ يَدْخُلُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَيَرْجِعُ الْمَعْنَى إلَى الْخَفَاءِ، فَيَعُمُّ بِهِ تَارَةً وَيَخُصُّ أُخْرَى، وَتَرَى سِرَّ الشَّيْءِ خِيَارَهُ إنَّمَا هُوَ لِأَنَّهُ يُخْفَى وَيُضَنُّ بِهِ، وَتَرَى أَنَّ سِرَّ الْوَادِيَ شَطَّهُ؛ لِأَنَّهُ أَشْرَفُهُ؛ لِأَنَّ حُسْنَ الْوَادِي إنَّمَا يَكُونُ بِالْجُلُوسِ عَلَيْهِ لَا فِيهِ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ السُّرِّيَّةُ لِأَنَّهَا تُتَّخَذُ لِلْوَطْءِ، إذْ الْخَدَمُ يُتَّخَذُونَ لِلتَّصَرُّفِ وَالْوَطْءِ، فَسُمِّيَتْ الْمُتَّخَذَةُ لِلْوَطْءِ سَرِيَّةً مِنْ السُّرُورِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ فَرْجُ الْمَرْأَةِ سِرًّا لِأَنَّهُ مَوْضِعُهُ. فَالْمَعْنَى هَاهُنَا: لَا تُوَاعِدُوهُنَّ نِكَاحًا وَلَا وَطْئًا، فَهُوَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ فِي الْعِدَّةِ، لِأَنَّهُ حُرِّمَ عَلَيْهِنَّ النِّكَاحُ فِي الْعِدَّةِ إلَى وَقْتٍ مُحَرَّمٍ عَلَيْهِنَّ ضَرْبُ الْوَعْدِ فِيهِ؛ وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ. [مَسْأَلَةٌ الْوَعْدُ فِي الْعِدَّةِ بِالنِّكَاحِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إذَا حُرِّمَ الْوَعْدُ فِي الْعِدَّةِ بِالنِّكَاحِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى تَحْرِيمِ الْوَعْدِ فِي التَّقَابُضِ فِي الصَّرْفِ فِي وَقْتٍ لَا يَجُوزُ إلَى وَقْتٍ يَجُوزُ فِيهِ التَّقَابُضُ. وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَإِنْ اسْتَنْظَرَك إلَى أَنْ يَلِجَ بَيْتَهُ فَلَا تُنْظِرْهُ؛ وَهَذَا

مسألة واعد في العدة بالنكاح ونكح بعدها

بَيِّنٌ، فَإِنَّ الرِّبَا مِثْلُ الْفَرْجِ فِي التَّحْرِيمِ، وَهَذَا بَيِّنٌ عِنْد التَّأَمُّلِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا} [البقرة: 235] وَهُوَ التَّعْرِيضُ الْجَائِزُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] فَهَذِهِ عَامَّةٌ لِلْبَيَانِ أَيْ لَا تُوَاعِدُوا نِكَاحًا، وَلَا تَعْقِدُوهُ، حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ. [مَسْأَلَةٌ وَاعَدَ فِي الْعِدَّة بالنكاح وَنَكَحَ بَعْدَهَا] د الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: لَوْ وَاعَدَ فِي الْعِدَّةِ وَنَكَحَ بَعْدَهَا اسْتَحَبَّ لَهُ مَالِكٌ الْفِرَاقُ بِطَلْقَةٍ تَوَرُّعًا، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ خِطْبَتَهَا، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ أَشْهَبُ الْفِرَاقُ؛ وَهُوَ الْأَصَحُّ. [مَسْأَلَةٌ نَكَحَ فِي الْعِدَّةِ وَبَنَى] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: إذَا نَكَحَ فِي الْعِدَّةِ وَبَنَى فَسَخَ وَلَمْ يَنْكِحْهَا أَبَدًا [قَالَهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالشَّعْبِيُّ]، وَبِهِ قَضَى عُمَرُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَلَّ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ فَحُرِمَهُ، كَالْقَاتِلِ فِي حِرْمَانِ الْمِيرَاثِ. وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ دَلِيلًا، وَفِي كُتُبِ الْفُرُوعِ تَفْرِيعًا. [الْآيَة الرَّابِعَة وَالسَّبْعُونَ قَوْله تَعَالَى لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ] قَوْله تَعَالَى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَقْدِيرِهَا؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهَا لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ الْمَفْرُوضَ لَهُنَّ الصَّدَاقُ مِنْ قَبْلِ الدُّخُولِ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ وَغَيْرَ الْمَفْرُوضِ لَهُنَّ قَبْلَ الْفَرْضِ؛ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ وَاخْتَارَهُ.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهَا إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ وَلَمْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً، وَتَكُونُ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، تَقْدِيرُهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَرَضْتُمْ أَوْ لَمْ تَفْرِضُوا، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ تَرْجِعُ إلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تُقَدَّرُ بِهِ الْآيَةُ، وَتَبْقَى أَوْ عَلَى بَابِهَا، وَتَكُونُ بِمَعْنَى التَّفْصِيلِ وَالتَّقْسِيمِ وَالْبَيَانِ، وَلَا تَرْجِعُ إلَى مَعْنَى الْوَاوِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] فَإِنَّهَا لِلتَّفْصِيلِ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: إنَّهَا بِمَعْنَى الْوَاوِ بِأَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ الْمَفْرُوضَ لَهُنَّ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] فَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ لِبَيَانِ طَلَاقِ الْمَفْرُوضِ لَهُنَّ قَبْلَ الْمَسِيسِ لَمَا كَرَّرَهُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ " مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ " ذَلِكَ. وَلَا فَرْقَ فِي قَانُونِ الْعَرَبِيَّةِ بَيْنَ تَقْدِيرِ حَذْفٍ، أَوْ تَكُونُ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ؛ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ تَتَمَيَّزُ بِذَلِكَ، وَالْأَحْكَامُ تَتَفَصَّلُ، فَإِنَّ الْمُطَلَّقَةَ الَّتِي لَمْ تُمَسَّ، وَلَمْ يُفْرَضْ لَهَا لَا تَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: مُطَلَّقَةٌ قَبْلَ الْمَسِّ وَبَعْدَ الْفَرْضِ. الثَّانِي: مُطَلَّقَةٌ بَعْدَ الْمَسِيسِ وَالْفَرْضِ. الثَّالِثُ: مُطَلَّقَةٌ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَبَعْدَ الْفَرْضِ. الرَّابِعُ: مُطَلَّقَةٌ بَعْدَ الْمَسِّ، وَقَبْلَ الْفَرْضِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمُتْعَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ دَائِرَةٍ مَعَ الْأَرْبَعَةِ الْأَقْسَامِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ فِي هَذَا الْحُكْمِ إلَّا قِسْمَيْنِ: مُطَلَّقَةٌ قَبْلَ الْمَسِّ وَقَبْلَ الْفَرْضِ، وَمُطَلَّقَةٌ قَبْلَ الْمَسِّ وَبَعْدَ الْفَرْضِ؛ فَجَعَلَ لِلْأُولَى الْمُتْعَةَ، وَجَعَلَ لِلثَّانِيَةِ نِصْفَ

الصَّدَاقِ، وَآلَتْ الْحَالُ إلَى أَنَّ الْمُتْعَةَ لَمْ يُبَيِّنْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وُجُوبَهَا إلَّا لِمُطَلَّقَةٍ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَالْفَرْضِ. وَأَمَّا مَنْ طَلُقَتْ وَقَدْ فُرِضَ لَهَا فَلَهَا قَبْلَ الْمَسِيسِ نِصْفُ الْفَرْضِ، وَلَهَا بَعْدَ الْمَسِيسِ جَمِيعُ الْفَرْضِ أَوْ مَهْرُ مِثْلِهَا. وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَابَلَ الْمَسِيسَ بِالْمَهْرِ الْوَاجِبِ وَنِصْفَهُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الْمَسِيسِ، لِمَا لَحِقَ الزَّوْجَةَ مِنْ رَحْضِ الْعَقْدِ، وَوَصْمِ الْحِلِّ الْحَاصِلِ لِلزَّوْجِ بِالْعَقْدِ، فَإِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الْمَسِيسِ وَالْفَرْضِ أَلْزَمَهُ اللَّهُ الْمُتْعَةَ كُفُؤًا لِهَذَا الْمَعْنَى؛ وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ الْمُتْعَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ رَآهَا وَاجِبَةً لِظَاهِرِ الْأَمْرِ بِهَا، وَلِلْمَعْنَى الَّذِي أَبْرَزْنَاهُ مِنْ الْحِكْمَةِ فِيهَا. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُقَدِّرْهَا، وَإِنَّمَا وَكَّلَهَا إلَى اجْتِهَادِ الْمُقَدِّرِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَكَّلَ التَّقْدِيرَ فِي النَّفَقَةِ إلَى الِاجْتِهَادِ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ، فَقَالَ: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِيهَا: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَأَطْلَقَهَا عَلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ؛ فَتَعْلِيقُهَا بِالْإِحْسَانِ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَبِالتَّقَوِّي وَهُوَ مَعْنًى خَفِيٌّ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا اسْتِحْبَابٌ، يُؤَكِّدُهُ أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى فِي الْعَفْوِ عَنْ الصَّدَاقِ: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] فَأَضَافَهُ إلَى التَّقْوَى وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ وَذَلِكَ أَنَّ لِلتَّقْوَى أَقْسَامًا بَيَّنَّاهَا فِي كُتُبِ الْفُقَرَاءِ؛ وَمِنْهَا وَاجِبٌ، وَ [مِنْهَا] مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241] فَذَكَرَهَا لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ؟ قُلْنَا: عَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَتَاعَ هُوَ كُلُّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ، فَمَنْ كَانَ لَهَا مَهْرٌ فَمَتَاعُهَا مَهْرُهَا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَهْرٌ فَمَتَاعُهَا مَا تَقَدَّمَ.

الآية الخامسة والسبعون قوله تعالى وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن

الثَّانِي: أَنَّ إحْدَى الْآيَتَيْنِ حَقِيقَةٌ دُونَ الْأُخْرَى، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [الْآيَة الْخَامِسَة وَالسَّبْعُونَ قَوْله تَعَالَى وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ] َّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] فِيهَا ثَمَانِي مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا الْقِسْمُ هُوَ أَحَدُ الْأَقْسَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهُوَ مُطَلَّقَةٌ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَبَعْدَ الْفَرْضِ، فَلَهَا نِصْفُ الْمَفْرُوضِ وَاجِبًا، كَمَا أَنَّ لِلْمُتَقَدِّمَةِ الْمُتْعَةَ مُسْتَحَبَّةً. [مَسْأَلَةٌ الْمُطَلَّقَة قَبْلَ الْمَسِيسِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إنَّ الْمُطَلَّقَةَ قَبْلَ الْمَسِيسِ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ، وَإِنْ خَلَا بِهَا، وَلَا تَضُرُّ الْخَلْوَةُ بِالْمَهْرِ، إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا مَسِيسٌ فِي مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَتَقَرَّرُ الْمَهْرُ بِالْخَلْوَةِ؛ وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ. فَإِنْ قِيلَ: الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ خَلَا وَقَبَّلَ وَلَمَسَ قُلْتُمْ لَا يَتَقَرَّرُ الْمَهْرُ. قُلْنَا: الْمَسِيسُ هَاهُنَا كِنَايَةٌ عَنْ الْوَطْءِ بِإِجْمَاعٍ؛ لِأَنَّ عِنْدَكُمْ أَنَّهُ لَوْ خَلَا وَلَمْ يَلْمِسْ وَلَا قَبَّلَ يَتَقَرَّرُ الْمَهْرُ، وَلَمْ يُوجَدْ هُنَا مَسٌّ وَلَا وَطْءٌ؛ وَهَذَا خِلَافُ الْآيَةِ وَمُرَاغَمَةُ الظَّاهِرِ. [مَسْأَلَةٌ عُقِدَ النِّكَاحُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الصَّدَاقِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَمَّا قَسَّمَ اللَّهُ تَعَالَى حَالَ الْمُطَلَّقَةِ إلَى قِسْمَيْنِ؛ مُطَلَّقَةٌ سُمِّيَ لَهَا فَرْضٌ، وَمُطَلَّقَةٌ لَمْ يُسَمَّ لَهَا فَرْضٌ دَلَّ عَلَى أَنَّ نِكَاحَ التَّفْوِيضِ جَائِزٌ، وَهُوَ كُلُّ نِكَاحٍ عُقِدَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الصَّدَاقِ؛ وَلَا خِلَافَ فِيهِ؛ وَيُفْرَضُ بَعْدَ ذَلِكَ الصَّدَاقُ. فَإِنْ فُرِضَ الْتَحَقَ بِالْعَقْدِ وَجَازَ، وَإِنْ لَمْ يُفْرَضْ لَهَا وَكَانَ الطَّلَاقُ لَمْ يَجِبْ صَدَاقٌ إجْمَاعًا، وَإِنْ فُرِضَ بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَقَبْلَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ بِالْعَقْدِ، وَهَذَا

مسألة مات زوجها قبل أن يفرض لها صداقا

خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] وَخِلَافُ الْقِيَاسِ أَيْضًا؛ فَإِنَّ الْفَرْضَ بَعْدَ الْعَقْدِ يَلْحَقُ بِالْعَقْدِ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَصَّفَ بِالطَّلَاقِ أَصْلُهُ الْفَرْضُ الْمُقْتَرِنُ بِالْعَقْدِ. [مَسْأَلَةٌ مَاتَ زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ لَهَا صَدَاقًا] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فَإِنْ وَقَعَ الْمَوْتُ قَبْلَ الْفَرْضِ فَقَالَ مَالِكٌ: لَهَا الْمِيرَاثُ دُونَ الصَّدَاقِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، فَقَالُوا: يَجِبُ لَهَا الصَّدَاقُ وَالْمِيرَاثُ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَى جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ النَّسَائِيّ، وَأَبُو دَاوُد «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ وَقَدْ مَاتَ زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ لَهَا بِالْمَهْرِ وَالْمِيرَاثِ وَالْعِدَّةِ»، وَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ " لِأَنَّ رَاوِيَهُ مَجْهُولٌ؛ وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ فِرَاقٌ فِي نِكَاحٍ قَبْلَ الْفَرْضِ فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ صَدَاقٌ أَصْلُهُ الطَّلَاقُ، وَقَدْ خَرَّجَ الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ أَبُو عِيسَى، وَقَالَ: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ. [الْوَاجِبُ لَهُنَّ مِنْ الصَّدَاقِ أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُنَّ فِي إسْقَاطِهِ بَعْدَ وُجُوبِهِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] الْوَاجِبُ لَهُنَّ مِنْ الصَّدَاقِ أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُنَّ فِي إسْقَاطِهِ بَعْدَ وُجُوبِهِ؛ إذْ جَعَلَهُ خَالِصَ حَقِّهِنَّ يَتَصَرَّفْنَ بِالْإِمْضَاءِ وَالْإِسْقَاطِ كَيْفَ شِئْنَ إذَا مَلَكْنَ أَمْرَ أَنْفُسِهِنَّ فِي الْأَمْوَالِ وَرَشَدْنَ. [مَسْأَلَةٌ مِنْ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] وَهِيَ مُعْضِلَةٌ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا: فَقِيلَ: هُوَ الزَّوْجُ؛ قَالَهُ عَلِيٌّ وَشُرَيْحٌ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ وَمُجَاهِدٌ وَالثَّوْرِيُّ، وَاخْتَارَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ الْوَلِيُّ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَطَاوُسٌ، وَعَطَاءٌ، وَأَبُو الزِّنَادِ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَرَبِيعَةُ، وَعَلْقَمَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَابْنُ شِهَابٍ، وَأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ، وَشُرَيْحٌ الْكِنْدِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: إنَّهُ الزَّوْجُ بِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، لُبَابُهَا ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الصَّدَاقَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرًا مُجْمَلًا مِنْ الزَّوْجَيْنِ، فَحُمِلَ عَلَى الْمُفَسَّرِ فِي غَيْرِهَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] فَأَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى لِلزَّوْجِ فِي قَبُولِ الصَّدَاقِ إذَا طَابَتْ نَفْسُ الْمَرْأَةِ بِتَرْكِهِ. وَقَالَ أَيْضًا: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 20] فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى الزَّوْجَ أَنْ يَأْخُذَ مِمَّا أَتَى الْمَرْأَةَ إنْ أَرَادَ طَلَاقَهَا. الثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] يَعْنِي النِّسَاءَ، أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ: يَعْنِي الزَّوْجَ، مَعْنَاهُ يَبْذُلُ جَمِيعَ الصَّدَاقِ، يُقَالُ: عَفَا بِمَعْنَى بَذَلَ، كَمَا يُقَالُ: عَفَا بِمَعْنَى أَسْقَطَ. وَمَعْنَى ذَلِكَ وَحِكْمَتُهُ: أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا أَسْقَطَتْ مَا وَجَبَ لَهَا مِنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ تَقُولُ هِيَ: لَمْ يَنَلْ مِنِّي شَيْئًا وَلَا أَدْرَكَ مَا بَذَلَ فِيهِ هَذَا الْمَالَ بِإِسْقَاطِهِ، وَقَدْ وَجَبَ إبْقَاءً لِلْمُرُوءَةِ وَاتِّقَاءً فِي الدِّيَانَةِ. وَيَقُولُ الزَّوْجُ: أَنَا أَتْرُكُ الْمَالَ لَهَا لِأَنِّي قَدْ نِلْتُ الْحِلَّ وَابْتَذَلْتُهَا بِالطَّلَاقِ فَتَرْكُهُ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، وَأَخْلَصُ مِنْ اللَّائِمَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] وَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِي هِبَةِ مَالٍ لِآخَرَ فَضْلٌ؛ وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِيمَا يَهَبُهُ الْمُفْضِلُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ حَقٌّ فِي الصَّدَاقِ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: إنَّهُ الْوَلِيُّ بِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ؛ نُخْبَتُهَا أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ: قَالُوا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ الْوَلِيُّ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ قَدْ طَلَّقَ؛ فَلَيْسَ بِيَدِهِ

عُقْدَةٌ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] وَهَذَا يَسْتَمِرُّ مَعَ الشَّافِعِيِّ دُونَ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي لَا يَرَى عُقْدَةَ النِّكَاحِ لِلْوَلِيِّ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْأَزْوَاجَ لَقَالَ: إلَّا أَنْ تَعْفُوا أَوْ تَعْفُونَ، فَلَمَّا عَدَلَ مِنْ مُخَاطَبَةِ الْحَاضِرِ الْمَبْدُوءِ بِهِ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ إلَى لَفْظِ الْغَائِبِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُهُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] يَعْنِي يُسْقِطْنَ. وقَوْله تَعَالَى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] لَا يُتَصَوَّرُ الْإِسْقَاطُ فِيهِ إلَّا مِنْ الْوَلِيِّ؛ فَيَكُونُ مَعْنَى اللَّفْظِ الثَّانِي هُوَ مَعْنَى اللَّفْظِ الْأَوَّلِ بِعَيْنِهِ، وَذَلِكَ أَنْظَمُ لِلْكَلَامِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] يَعْنِي يُسْقِطْنَ، أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ يَعْنِي يُسْقِطُ؛ فَيَرْجِعُ الْقَوْلُ إلَى النِّصْفِ الْوَاجِبِ بِالطَّلَاقِ الَّذِي تُسْقِطُهُ الْمَرْأَةُ، فَأَمَّا النِّصْفُ الَّذِي لَمْ يَجِبْ فَلَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فِي الْمُخْتَارِ: وَاَلَّذِي تَحَقَّقَ عِنْدِي بَعْدَ الْبَحْثِ وَالسَّبْرِ أَنَّ الْأَظْهَرَ هُوَ الْوَلِيُّ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] فَذَكَرَ الْأَزْوَاجَ وَخَاطَبَهُمْ بِهَذَا الْخِطَابِ، ثُمَّ قَالَ: {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] فَذَكَرَ النِّسْوَانَ {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] فَهَذَا ثَالِثٌ؛ فَلَا يُرَدُّ إلَى الزَّوْجِ الْمُتَقَدِّمِ إلَّا لَوْ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ وُجُودٌ، وَقَدْ وُجِدَ وَهُوَ الْوَلِيُّ، فَلَا يَجُوزُ بَعْدَ هَذَا إسْقَاطُ التَّقْدِيرِ بِجَعْلِ الثَّلَاثِ اثْنَيْنِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ. الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] وَلَا إشْكَالَ فِي أَنَّ الزَّوْجَ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ لِنَفْسِهِ، وَالْوَلِيُّ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ لِوَلِيَّتِهِ، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الَّذِي يُبَاشِرُ الْعَقْدَ الْوَلِيُّ؛ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ أُصُولُ الْعَفْوِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا قَبْلُ، وَشَرَحْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. فَقَدْ ثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الْوَلِيَّ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، فَهُوَ الْمُرَادُ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَيْنِ يَتَرَاضَيَانِ فَلَا

يَنْعَقِدُ لَهُمَا أَمْرٌ إلَّا بِالْوَلِيِّ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْعُقُودِ، فَإِنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَسْتَقِلَّانِ بِعَقْدِهِمَا. الثَّالِثُ: إنَّ مَا قُلْنَا أَنْظَمُ فِي الْكَلَامِ، وَأَقْرَبُ إلَى الْمَرَامِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ امْرَأَةٍ تَعْفُو، فَإِنَّ الصَّغِيرَةَ أَوْ الْمَحْجُورَةَ لَا عَفْوَ لَهَا، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى الْقِسْمَيْنِ، وَقَالَ: {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] إنْ كُنَّ لِذَلِكَ أَهْلًا، أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ إلَيْهِ. وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ الْأَبُ فِي ابْنَتِهِ الْبِكْرِ، وَالسَّيِّدُ فِي أَمَتِهِ؛ لِأَنَّ هَذَيْنِ هُمَا اللَّذَانِ يَتَصَرَّفَانِ فِي الْمَالِ وَيَنْفُذُ لَهُمَا الْقَوْلُ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا يَتَصَرَّفُ الْوَلِيُّ فِي الْمَالِ بِمَا يَكُونُ حَظًّا لِابْنَتِهِ، فَأَمَّا الْإِسْقَاطُ فَلَيْسَ بِحَظٍّ وَلَا نَظَرٍ. قُلْنَا: إذَا رَآهُ كَانَ؛ فَإِنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ عَقَدَ نِكَاحَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِهَا نَفَذَ؛ وَهَذَا إسْقَاطٌ مَحْضٌ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ نَظَرًا مَضَى. فَإِنْ قِيلَ: فَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ وَلِيٍّ، فَلِمَ خَصَصْتُمُوهُ بِهَذَيْنِ؟ قُلْنَا: كَمَا هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ زَوْجَةٍ وَخُصَّ فِي الصَّغِيرَةِ وَالْمَحْجُورَةِ. وَأَمَّا مُتَعَلِّقُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ الزَّوْجُ فَضَعِيفٌ، أَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الْأَزْوَاجَ فِي الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ اسْتَشْهَدُوا بِهِمَا فَقَدْ ذَكَرَ الْوَلِيَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَجَاءَتْ الْأَحْكَامُ كُلُّهَا مُبَيَّنَةً وَالْفَوَائِدُ الثَّلَاثَةُ مُعْتَبَرَةٌ، وَعَلَى قَوْلِهِمْ يَسْقُطُ بَعْضُ الْبَيَانِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ الثَّانِي فَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ مَجِيءَ الْعَفْوِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ مِنْ الْجِهَتَيْنِ أَبْلَغُ فِي الْفَصَاحَةِ وَأَوْفَى فِي الْمَعْنَى مِنْ مَجِيئِهِ بِمَعْنَيَيْنِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إسْقَاطَ أَحَدِ الْعَافِيَيْنِ، وَهُوَ الْوَلِيُّ الْمُسْتَفَادُ إذَا كَانَ الْعَفْوُ بِمَعْنَى الْإِسْقَاطِ. وَأَمَّا نَدْبُ الزَّوْجِ إلَى إعْطَاءِ الصَّدَاقِ كُلِّهِ فِي الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرُوا فَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُمَيِّزَ الْوَلِيَّ عَنْ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ بِمَعْنًى يَخُصُّهُ، فَكَنَّى عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] بِكِنَايَةٍ مُسْتَحْسَنَةٍ، فَكَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي الْفَصَاحَةِ، وَأَتَمَّ فِي الْمَعْنَى، وَأَجْمَعَ لِلْفَوَائِدِ.

مسألة هبة المشاع في الصداق

وَأَمَّا الرَّابِعُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] وَتَعَلُّقُهُمْ بِأَنَّ الْإِفْضَالَ لَا يَكُونُ بِمَالِ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا الْإِفْضَالُ يَكُونُ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا يَكُونُ بِبَذْلِ مَا تَمْلِكُهُ يَدُهُ. وَالثَّانِي بِإِسْقَاطِ مَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ، كَمَا يَتَفَضَّلُ عَلَيْهِ بِأَنْ يُزَوِّجَهُ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ. [مَسْأَلَةٌ هِبَةُ الْمُشَاعِ فِي الصَّدَاقِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَى صِحَّةِ الْمُشَاعِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ لِلْمَرْأَةِ بِالطَّلَاقِ نِصْفَ الصَّدَاقِ، فَعَفْوُهَا لِلرَّجُلِ عَنْ جَمِيعِهِ كَعَفْوِ الرَّجُلِ، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ مُشَاعٍ وَمَقْسُومٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَصِحُّ هِبَةُ الْمُشَاعِ إلَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ، وَاَلَّذِي انْفَصَلَ بِهِ الْمَهْرُ عَنْ عُمُومِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا بَيَّنَ تَكْمِيلًا ثَبَتَ بِنَفْسِ الْعَفْوِ دُونَ شَرْطِ قَبْضِ ذَلِكَ فِي عَفْوِ الْمَرْأَةِ، وَالْمَهْرُ دَيْنٌ؛ أَوْ فِي عَفْوِ الرَّجُلِ، وَالْمَهْرُ مَقْبُوضٌ دَيْنٌ عَلَى الْمَرْأَةِ. فَأَمَّا الْمُعَيَّنُ فَلَا يَكْمُلُ الْعَفْوُ فِيهِ إلَّا بِقَبْضٍ مُتَّصِلٍ بِهِ، أَوْ قَبْضٍ قَائِمٍ يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الْهِبَةِ، وَلَئِنْ حُمِلَتْ الْآيَةُ عَلَى عَفْوٍ بِشَرْطِ زِيَادَةِ الْقَبْضِ، فَنَحْنُ لَا نَشْتَرِطُ إلَّا تَمَامَهُ، وَتَمَامُهُ بِالْقِسْمَةِ، فَآلَ الِاخْتِلَافُ إلَى كَيْفِيَّةِ الْقَبْضِ. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا الِانْفِصَالُ إنَّمَا يَسْتَمِرُّ بِظَاهِرِهِ عَلَى أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الَّذِينَ يَشْتَرِطُونَ فِي الْهِبَةِ الْقَبْضَ. فَأَمَّا نَحْنُ فَلَا نَرَى ذَلِكَ؛ فَلَا يَصِحُّ لَهُمْ هَذَا الِانْفِصَالُ مَعَنَا، فَإِنَّ نَفْسَ الْعَفْوِ مِمَّنْ عَفَا يَخْلُصُ مِلْكًا لِمَنْ عُفِيَ لَهُ. وَأَمَّا أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فَلَا يَصِحُّ لَهُمْ هَذَا مَعَهُمْ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ الْآيَةَ بِمُطْلَقِهَا تُفِيدُ صِحَّةَ هِبَةِ الْمُشَاعِ، مَعَ كَوْنِهِ مُشَاعًا، وَافْتِقَارُ الْهِبَةِ إلَى الْقَبْضِ نَظَرٌ يُؤْخَذُ مِنْ دَلِيلٍ يَخُصُّ تِلْكَ النَّازِلَةَ، فَمُشْتَرِطُ الْقِسْمَةِ مُفْتَقِرٌ إلَى دَلِيلٍ، وَلَمَّا يَجِدُوهُ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى يَنْبَنِي عَلَى اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ؛ وَنَحْنُ لَا نُسَلِّمُهُ، وَلَيْسَ التَّمْيِيزُ مِنْ الْقَبْضِ أَصْلًا فِي وِرْدٍ وَلَا صَدَرٍ، فَصَحَّ تَعَلُّقُنَا بِالْآيَةِ وَعُمُومِهَا وَسَلِمَتْ مِنْ تَشْغِيبِهِمْ. [الْآيَة السَّادِسَة وَالسَّبْعُونَ قَوْله تَعَالَى حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى] وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]

مسألة تخصيص الصلاة الوسطى

فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى {حَافِظُوا} [البقرة: 238] الْمُحَافَظَةُ: هِيَ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى الشَّيْءِ وَالْمُوَاظَبَةُ، وَذَلِكَ بِالتَّمَادِي عَلَى فِعْلِهَا، وَالِاحْتِرَاسُ مِنْ تَضْيِيعِهَا، أَوْ تَضْيِيعِ بَعْضِهَا. وَحِفْظُ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ مُرَاعَاةُ أَجْزَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَمِنْهُ كِتَابُ عُمَرَ: مَنْ حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا حَفِظَ دِينَهُ، فَيَجِبُ أَوَّلًا حِفْظُهَا ثُمَّ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا، بِذَلِكَ يَتِمُّ الدِّينُ. [مَسْأَلَةٌ تَخْصِيص الصَّلَاةِ الْوُسْطَى] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَا شَكَّ فِي انْتِظَامِ قَوْله تَعَالَى " الصَّلَوَاتِ " لِلصَّلَاةِ الْوُسْطَى لَكِنَّهُ خَصَّصَهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلَى شَرَفِهَا فِي جِنْسِهَا وَمِقْدَارِهَا فِي أَخَوَاتِهَا. كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] تَنْبِيهًا عَلَى شَرَفِ الْمَلَكَيْنِ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] تَنْبِيهًا عَلَى وَجْهِ الزِّيَادَةِ فِي مِقْدَارِهِمَا بَيْنَ الْفَاكِهَةِ. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى تَسْمِيَتِهَا بِالصَّلَاةِ الْوُسْطَى] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي مَعْنَى تَسْمِيَتِهَا وُسْطَى: وَفِي ذَلِكَ احْتِمَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا وُسْطَى مِنْ الْوَسَطِ، وَهُوَ الْعَدْلُ وَالْخِيَارُ وَالْفَضْلُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] وقَوْله تَعَالَى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} [القلم: 28] يَعْنِي: الْأَفْضَلَ فِي الْآيَتَيْنِ. الثَّانِي: أَنَّهَا وَسَطٌ فِي الْعَدَدِ؛ لِأَنَّهَا خَمْسُ صَلَوَاتٍ تَكْتَنِفُهَا اثْنَتَانِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا وَسَطٌ مِنْ الْوَقْتِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: قَالَ مَالِكٌ: الصُّبْحُ هِيَ الْوُسْطَى؛ لِأَنَّ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فِي النَّهَارِ، وَالْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ فِي اللَّيْلِ، وَالصُّبْحُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَهِيَ أَقَلُّ الصَّلَوَاتِ قَدْرًا. وَالظُّهْرُ وَالْعَصْرُ تُجْمَعَانِ، وَالْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ تُجْمَعَانِ، وَلَا تُجْمَعُ الصُّبْحُ مَعَ شَيْءٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ، وَهِيَ كَثِيرًا مَا تَفُوتُ النَّاسَ وَيَنَامُونَ عَنْهَا، وَقَالَ نَحْوَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ فِي تَوَسُّطِ الْوَقْتِ.

مسألة تحقيق الصلاة الوسطى

وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا الْوُسْطَى؛ لِأَنَّهَا تُصَلَّى فِي سَوَادٍ مِنْ اللَّيْلِ وَبَيَاضٍ مِنْ النَّهَارِ، وَكَثِيرًا مَا تَفُوتُ النَّاسَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: وَقَدْ قُنِتَ فِي الصُّبْحِ: هَذِهِ هِيَ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] [مَسْأَلَةٌ تَحْقِيقُ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي تَحْقِيقِهَا: يَبْعُدُ فِي الشَّرِيعَةِ أَنْ تُسَمَّى وُسْطَى بِعَدَدٍ أَوْ وَقْتٍ وَمَا الْعَدَدُ وَالزَّمَانُ مِنْ الْحَظِّ فِي الْوَسَطِ وَالتَّخْصِيصِ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ اللَّبِيبُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُبْدِئَ فِي ذَلِكَ وَيُعِيدَ، إلَّا أَنَّهُ تَكَلُّفٌ، وَالْحَقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238] مَعْنَاهُ لِفَضْلِهِنَّ، وَخُصُّوا الْفُضْلَى مِنْهُنَّ بِزِيَادَةِ مُحَافَظَةٍ أَيْ الزَّائِدَةَ الْفَضْلِ، وَتَعْيِينُهَا مُتَعَذَّرٌ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا عَلَى سَبْعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا الظُّهْرُ؛ قَالَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ. الثَّانِي: أَنَّهَا الْعَصْرُ قَالَ عَلِيٌّ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ. الثَّالِثُ: الْمَغْرِبُ؛ قَالَهُ الْبَرَاءُ. الرَّابِعُ: أَنَّهَا الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ. الْخَامِسُ: أَنَّهَا الصُّبْحُ؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو أُمَامَةَ، وَالرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ عَنْ عَلِيٍّ. السَّادِسُ: أَنَّهَا الْجُمُعَةُ. السَّابِعُ: أَنَّهَا غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ. وَكُلُّ قَوْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُسْتَنِدٌ إلَى مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِالدَّلِيلِ: أَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا الظُّهْرُ، فَلِأَنَّهَا أَوَّلُ صَلَاةٍ فُرِضَتْ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا الْعَصْرُ، فَتَعَلَّقَ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ، مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا».

وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا الْمَغْرِبُ؛ فَلِأَنَّهَا وِتْرٌ بَيْنَ أَشْفَاعٍ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: الْعِشَاءُ؛ فَلِأَنَّهَا وُسْطَى صَلَاةِ اللَّيْلِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالصُّبْحِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا الصُّبْحُ؛ فَلِأَنَّهَا فِي وَقْتٍ مُتَوَسِّطٍ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ؛ قَالَهُ مَالِكٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ غَيْرُهُمَا: هِيَ مَشْهُودَةٌ، وَالْعَصْرُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَهَا فَتَزِيدُ الصُّبْحُ عَلَيْهَا بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا أَثْقَلُ الصَّلَوَاتِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ. وَالثَّانِي: أَنَّ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَائِشَةَ: «حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ». وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى غَيْرُ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَيُعَارِضُ حَدِيثَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَيُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهَا كَانَتْ وُسْطَى بَيْنَ مَا فَاتَ وَبَقِيَ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: الْجُمُعَةُ: فَلِأَنَّهَا تَخْتَصُّ بِشُرُوطٍ زَائِدَةٍ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شَرَفِهَا وَفَضْلِهَا. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، فَلِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَعَدَمِ التَّرْجِيحِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ خَبَّأَهَا فِي الصَّلَوَاتِ كَمَا خَبَّأَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ، وَخَبَّأَ السَّاعَةَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَخَبَّأَ الْكَبَائِرَ فِي السَّيِّئَاتِ؛ لِيُحَافِظَ الْخَلْقُ عَلَى الصَّلَوَاتِ، وَيَقُومُوا جَمِيعَ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَيَلْزَمُوا الذِّكْرَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ كُلِّهِ، وَيَجْتَنِبُوا جَمِيعَ الْكَبَائِرِ وَالسَّيِّئَاتِ.

مسألة القول بأن الوتر واجب

[مَسْأَلَةٌ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَائِدَةٌ؛ وَهِيَ الرَّدُّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ: إنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ الْوَسَطَ إنَّمَا يُعَدُّ فِي عَدَدٍ وِتْرٍ؛ لِيَكُونَ الْوَسَطُ شَفْعًا يُحِيطُ بِهِ مِنْ جَانِبَيْهِ؛ وَإِذَا عُدَّتْ الصَّلَوَاتُ الْوَاجِبَاتُ سِتًّا لَمْ تَكُنْ الْوَاحِدَةُ وَسَطًا؛ لِأَنَّهَا بَيْنَ صَلَاتَيْنِ مِنْ جِهَةٍ، وَبَيْنَ ثَلَاثِ صَلَوَاتٍ مِنْ أُخْرَى، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْوَسَطَ مُعْتَبَرٌ بِالْعَدَدِ أَوْ بِالْوَقْتِ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ لَا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِهِ دَلِيلٌ. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْقُنُوتَ يَرِدُ عَلَى مَعَانٍ، أُمَّهَاتُهَا أَرْبَعٌ: الْأَوَّلُ: الطَّاعَةُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّانِي: الْقِيَامُ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَقَرَأَ: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر: 9] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ». الثَّالِثُ: إنَّهُ السُّكُوتُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَفِي الصَّحِيحِ قَالَ زَيْدٌ: " كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَتْ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ ". الرَّابِعُ: أَنَّ الْقُنُوتَ الْخُشُوعُ. وَهَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا مُرَادًا؛ لِأَنَّهُ لَا تَنَافُرَ فِيهِ إلَّا الْقِيَامُ، فَإِنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْآيَةِ: وَقُومُوا لِلَّهِ قَائِمِينَ، إلَّا عَلَى تَكَلُّفٍ. وَقَدْ صَلَّى ابْنُ عَبَّاسٍ الصُّبْحَ وَقَنَتَ فِيهَا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا قَالَ: هَذِهِ هِيَ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى، وَقَرَأَ الْآيَةَ إلَى قَوْله تَعَالَى: {قَانِتِينَ} [البقرة: 238]

مسألة الكلام في الصلاة

وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ؛ لِأَنَّهَا نَصٌّ ثَابِتٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مُحْتَمَلٍ سِوَاهَا. [مَسْأَلَةٌ الْكَلَامَ فِي الصَّلَاةِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُنُوتِ هَاهُنَا السُّكُوتُ، فَإِذَا تَكَلَّمَ الْمُصَلِّي فَلَا يَخْلُو أَنْ يَتَكَلَّمَهَا سَاهِيًا أَوْ عَامِدًا، فَإِنْ تَكَلَّمَ سَاهِيًا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ الصَّلَاةِ وَلَا زَالَ عَنْ امْتِثَالِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ السَّهْوَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ؛ وَهَذَا قَوِيٌّ جِدًّا. وَقَدْ عَارَضَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ الْفِطْرَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي الصَّوْمِ إذَا وَقَعَ سَهْوًا أَبْطَلَهُ، فَيُنْتَقَضُ هَذَا الْأَصْلُ. فَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ الْفِطْرَ ضِدُّ الصَّوْمِ، وَإِذَا وُجِدَ ضِدُّ الْعِبَادَةِ أَبْطَلَهَا، كَانَ سَهْوًا أَوْ عَمْدًا كَالْحَدَثِ فِي الصَّلَاةِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا؛ فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي الصَّلَاةِ مَحْظُورٌ غَيْرُ مُضَادٍّ، فَكَانَ ذَلِكَ مُعَلَّقًا بِالْقَصْدِ، وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ " تَلْخِيصِ مَسَائِلِ الْخِلَافِ ". وَأَمَّا مَنْ تَكَلَّمَ عَامِدًا، فَإِنْ كَانَ عَابِثًا أَبْطَلَ الصَّلَاةَ، وَإِنْ كَانَ لِإِصْلَاحِهَا كَتَنْبِيهِ الْإِمَامِ جَازَ عِنْدَ عُلَمَائِنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ. وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ الْمَشْهُورُ الصَّحِيحُ: «تَكَلَّمُوا فِيهِ لِإِصْلَاحِ الصَّلَاةِ فَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُمْ». وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَكُتُبِ الْحَدِيثِ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ فَفِيهِ الشِّفَاءُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. [الْآيَة السَّابِعَة وَالسَّبْعُونَ قَوْله تَعَالَى فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا] فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 239] أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ صِحَّةٍ وَمَرَضٍ، وَحَضَرٍ وَسَفَرٍ، وَقُدْرَةٍ وَعَجْزٍ، وَخَوْفٍ وَأَمْنٍ، لَا تَسْقُطُ عَنْ الْمُكَلَّفِ بِحَالٍ، وَلَا يَتَطَرَّقُ إلَى فَرْضِيَّتِهَا اخْتِلَالٌ.

الآية الثامنة والسبعون قوله تعالى ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم

وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ». وَقَالَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ فِي حَالِ الْخَوْفِ: «فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ صَلُّوا قِيَامًا وَرُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا». «وَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْخَوْفَ مِرَارًا مُتَعَدِّدَةً بِصِفَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ»، وَقَدْ مَهَّدْنَاهَا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَفْعَلَ الصَّلَاةَ كَيْفَمَا أَمْكَنَ، وَلَا تَسْقُطُ بِحَالٍ حَتَّى لَوْ لَمْ يَتَّفِقْ فِعْلُهَا إلَّا بِالْإِشَارَةِ بِالْعَيْنِ لَلَزِمَ فِعْلُهَا؛ كَذَلِكَ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى حَرَكَةِ سَائِرِ الْجَوَارِحِ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى تَمَيَّزَتْ عَنْ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ كُلَّهَا تَسْقُطُ بِالْأَعْذَارِ، وَيُتَرَخَّصُ فِيهَا بِالرُّخَصِ الضَّعِيفَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ عُظْمَى: إنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ يُقْتَلُ؛ لِأَنَّهَا أَشْبَهَتْ الْإِيمَانَ الَّذِي لَا يَسْقُطُ بِحَالٍ. وَقَالُوا فِيهَا: إحْدَى دَعَائِمِ الْإِسْلَامِ، لَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا بِبَدَنٍ وَلَا مَالٍ، يُقْتَلُ تَارِكُهَا، وَأَصْلُهُ الشَّهَادَتَانِ. وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّ الْقِتَالَ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ الرَّدَّ عَلَيْهِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَيْهِ. [الْآيَة الثَّامِنَة وَالسَّبْعُونَ قَوْله تَعَالَى أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ] ْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [البقرة: 243]

مسألة الفرار من الطاعون

فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ لَمَّا سُلِّطَ عَلَيْهِمْ رِجْزُ الطَّاعُونِ، وَمَاتَ مِنْهُمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ، خَرَجُوا هَارِبِينَ مِنْ الْمَوْتِ، فَأَمَاتَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مُدَّةً، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ آيَةً، وَمِيتَةُ الْعُقُوبَةِ بَعْدَهَا حَيَاةٌ، وَمِيتَةُ الْأَجَلِ لَا حَيَاةَ بَعْدَهَا. الثَّانِي: رُوِيَ أَنَّهُ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ فَتَرَكُوهُ وَخَرَجُوا فَارِّينَ مِنْهُ [مَسْأَلَةٌ الْفِرَار مِنْ الطَّاعُونِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَصَحُّ وَالْأَشْهَرُ أَنَّ خُرُوجَهُمْ إنَّمَا كَانَ فِرَارًا مِنْ الطَّاعُونِ، وَهَذَا حُكْمٌ بَاقٍ فِي مِلَّتِنَا لَمْ يَتَغَيَّرْ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ». وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَجْهِ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ: أَمَّا الدُّخُولُ فَفِيهِ الْخِلَافُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: مَا فِيهِ مِنْ التَّعَرُّضِ لِلْبَلَاءِ؛ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ صِيَانَةَ النَّفْسِ عَنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ مَخُوفٍ وَاجِبٌ. الثَّانِي: إنَّمَا نَهَى عَنْ دُخُولِهِ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ عَنْ مُهِمَّاتِ دِينِهِ بِمَا يَكُونُ فِيهِ مِنْ الْكَرْبِ

الآية التاسعة والسبعون قوله تعالى وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم

وَالْخَوْفِ، بِمَا يُرَى مِنْ عُمُومِ الْآلَامِ وَشُمُولِ الْأَسْقَامِ. الثَّالِثُ: مَا يُخَافُ مِنْ السَّخَطِ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ بِهِ، وَذَهَابِ الصَّبْرِ عَلَى مَا يَنْزِلُ مِنْ الْقَضَاءِ. الرَّابِعُ: مَا يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْ سُوءِ الِاعْتِقَادِ، كَأَنْ يَقُولَ: لَوْلَا دُخُولِي فِي هَذَا الْبَلَدِ لَمَا نَزَلَ بِي مَكْرُوهٌ. وَأَمَّا الْخُرُوجُ فَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ الْمَرْضَى مُهْمَلِينَ مَعَ مَا يَنْتَظِمُ بِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة التَّاسِعَة وَالسَّبْعُونَ قَوْله تَعَالَى وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ٌ} [البقرة: 244] قَالَ قَوْمٌ مِنْ عُلَمَائِنَا: هَذِهِ الْآيَةُ مُجْمَلَةٌ وَهُوَ خَطَأٌ؛ بَلْ هِيَ عَامَّةٌ. قَالَ مَالِكٌ: سُبُلُ اللَّهِ كَثِيرَةٌ. قَالَ الْقَاضِي: مَا مِنْ سَبِيلٍ مِنْ سُبُلِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا يُقَاتَلُ عَلَيْهَا وَفِيهَا، وَأَوَّلُهَا وَأَعْظَمُهَا دِينُ الْإِسْلَامِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف: 108] وَزَادَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَمَامًا فَقَالَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ». وَبَعْدَ هَذَا فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الشَّرِيعَةِ إلَّا يَجُوزُ الْقِتَالُ عَلَيْهِ وَعَنْهُ، فَقَدْ صَحَّ الْعُمُومُ وَظَهَرَ تَأْكِيدُ التَّخْصِيصِ.

الآية الموفية ثمانين قوله تعالى من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا

فَإِنْ قِيلَ: فَمَنْ قَاتَلَ دُونَ مَالِهِ؟ قُلْنَا: هُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ». [الْآيَة الْمُوفِيَة ثَمَانِينَ قَوْله تَعَالَى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا] فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245] فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقَرْضُ فِي اللُّغَةِ: الْقَطْعُ، وَالْمَعْنَى مَنْ يَقْطَعُ اللَّهَ جُزْءًا مِنْ مَالِهِ فَيُضَاعَفُ لَهُ ثَوَابُهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، إلَّا أَنَّهُ فِي الشَّرْعِ مَخْصُوصٌ بِالسَّلَفِ عَلَى عَادَةِ الشَّرْعِ فِي أَنْ يَجْرِيَ عَلَى أُسْلُوبِ اللُّغَةِ فِي تَخْصِيصِ الِاسْمِ بِبَعْضِ مُحْتَمَلَاتِهِ، كَمَا أَنَّ الْقِرَاضَ مَخْصُوصٌ بِالْمُضَارَبَةِ؛ كَأَنَّ هَذَا سَلَفُ مَالِهِ، وَهَذَا سَلَفُ عَمَلِهِ فَصَارَا مُتَسَالِفَيْنِ، فَسُمِّيَ قِرَاضًا، وَقِيلَ مُتَقَارِضَانِ. [مَسْأَلَةٌ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى يُقْرِضُ اللَّهَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: جَاءَ هَذَا الْكَلَامُ فِي مَعْرِضِ النَّدْبِ وَالتَّحْضِيضِ عَلَى إنْفَاقِ الْمَالِ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى

مسألة انقسام الناس بعد نزول قوله تعالى من ذا الذي يقرض الله

عَلَى الْفُقَرَاءِ الْمُحْتَاجِينَ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنُصْرَةِ الدِّينِ، وَكَنَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ الْفَقِيرِ بِنَفْسِهِ الْعَلِيَّةِ الْمُنَزَّهَةِ عَنْ الْحَاجَاتِ تَرْغِيبًا فِي الصَّدَقَةِ، كَمَا كَنَّى عَنْ الْمَرِيضِ وَالْجَائِعِ وَالْعَاطِشِ بِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ عَنْ النَّقَائِصِ وَالْآلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى عَبْدِي مَرِضْت فَلَمْ تَعُدْنِي، يَقُولُ: وَكَيْفَ تَمْرَضُ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ فَيَقُولُ: مَرِضَ عَبْدِي فُلَانٌ وَلَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ، وَيَقُولُ: جَاعَ عَبْدِي فُلَانٌ وَلَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ، وَيَقُولُ: عَطِشَ عَبْدِي فُلَانٌ وَلَوْ سَقَيْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ». وَهَذَا كُلُّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّشْرِيفِ لِمَنْ كَنَّى عَنْهُ تَرْغِيبًا لِمَنْ خُوطِبَ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَهَا: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 190] فَهَذَا الْجِهَادُ بِالْبَدَنِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245] فَهَذَا الْجِهَادُ بِالْمَالِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا». وَالصَّحِيحُ عِنْدِي مَا قَالَهُ الْحَسَنُ مِنْ أَنَّهُ فِي أَبْوَابِ الْبِرِّ كُلِّهَا وَلَا يَرُدُّ عُمُومَهُ مَا تَقَدَّمَهُ مِنْ ذِكْرِ الْجِهَادِ. [مَسْأَلَةٌ انْقِسَام النَّاس بَعْد نُزُول قَوْله تَعَالَى مِنْ ذَا الَّذِي يُقْرِض اللَّه] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: انْقَسَمَ الْخَلْقُ بِحُكْمِ الْخَالِقِ وَحِكْمَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ حِينَ سَمِعُوا هَذِهِ الْآيَةَ أَقْسَامًا وَتَفَرَّقُوا فِرَقًا ثَلَاثَةً:

مسألة مما يكون القرض

الْفِرْقَةُ الْأُولَى: الرَّذْلَى، قَالُوا: إنَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ إلَيْنَا، وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ؛ وَهَذِهِ جَهَالَةٌ لَا تَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ، وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} [آل عمران: 181] وَالْعَجَبُ مِنْ مُعَانَدَتِهِمْ مَعَ خِذْلَانِهِمْ؛ وَفِي التَّوْرَاةِ نَظِيرُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ. الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ: لَمَّا سَمِعَتْ هَذَا الْقَوْلَ آثَرَتْ الشُّحَّ وَالْبُخْلَ، وَقَدَّمَتْ الرَّغْبَةَ فِي الْمَالِ؛ فَمَا أَنْفَقَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا فَكَّتْ أَسِيرًا، وَلَا أَغَاثَتْ أَحَدًا، تَكَاسُلًا عَنْ الطَّاعَةِ وَرُكُونًا إلَى هَذِهِ الدَّارِ. الْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ: لَمَّا سَمِعَتْ بَادَرَتْ إلَى امْتِثَالِهِ، وَآثَرَ الْمُجِيبُ مِنْهُمْ بِسُرْعَةٍ بِمَالِهِ، أَوَّلُهُمْ أَبُو الدَّحْدَاحِ لَمَّا سَمِعَ هَذَا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ؛ أَلَا أَرَى رَبَّنَا يَسْتَقْرِضُ مِمَّا أَعْطَانَا لِأَنْفُسِنَا، وَلِي أَرْضَانِ: أَرْضٌ بِالْعَالِيَةِ وَأَرْضٌ بِالسَّافِلَةِ، وَقَدْ جَعَلْت خَيْرَهُمَا صَدَقَةً. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَمْ عَذْقٍ مُذَلَّلٍ لِأَبِي الدَّحْدَاحِ فِي الْجَنَّةِ». فَانْظُرُوا إلَى حُسْنِ فَهْمِهِ فِي قَوْلِهِ: يَسْتَقْرِضُ مِمَّا أَعْطَانَا لِأَنْفُسِنَا، وَجُودِهِ بِخَيْرِ مَالِهِ وَأَفْضَلِهِ؛ فَطُوبَى لَهُ، طُوبَى لَهُ، ثُمَّ طُوبَى لَهُ، ثُمَّ طُوبَى لَهُ، [مَسْأَلَةٌ مِمَّا يَكُونُ الْقَرْضُ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْقَرْضُ يَكُونُ مِنْ الْمَالِ وَيَكُونُ مِنْ الْعِرْضِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَشْهُورِ الْآثَارِ: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كَأَبِي ضَمْضَمٍ، كَانَ إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي قَدْ تَصَدَّقْت بِعِرْضِي عَلَى عِبَادِك». وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَقْرِضْ مِنْ عِرْضِك لِيَوْمِ فَقْرِك يَعْنِي مَنْ سَبَّك فَلَا تَأْخُذْ مِنْهُ حَقًّا، وَلَا تُقِمْ عَلَيْهِ حَدًّا، حَتَّى تَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُوَفَّرَ الْأَجْرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ التَّصَدُّقُ بِالْعِرْضِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا فَاسِدٌ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحِ: «إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا».

الآية الحادية والثمانون قوله تعالى ومن لم يطعمه فإنه مني

وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ الثَّلَاثَ تَجْرِي مَجْرًى وَاحِدًا فِي كَوْنِهَا بِاحْتِرَامِهَا حَقًّا لِلْآدَمِيِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ. [الْآيَة الْحَادِيَة وَالثَّمَانُونَ قَوْله تَعَالَى وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي] } [البقرة: 249] فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إنَّ الْمَاءَ طَعَامٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ} [البقرة: 249] وَإِذَا كَانَ طَعَامًا كَانَ قُوتًا لِبَقَائِهِ وَاقْتِيَاتِ الْبَدَنِ بِهِ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَجْرِيَ فِيهِ الرِّبَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ؛ وَلِمَ لَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا وَهُوَ أَجَلُّ الْأَقْوَاتِ، وَإِنَّمَا هَانَ لِعُمُومِ وُجُودِهِ، وَإِنَّمَا عَمَّمَ اللَّهُ تَعَالَى وُجُودَهُ بِفَضْلِهِ؛ لِعَظِيمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَمِنْ شَرَفِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَطْعِمَةِ أَنَّهُ مُهَيَّأٌ مَخْلُوقٌ عَلَى صِفَةٍ لَا صَنْعَةَ لِأَحَدٍ فِيهَا لَا أَوَّلًا وَلَا آخِرًا. [مَسْأَلَةٌ الْفَرْقُ بَيْنَ الْكَرْعِ فِي النَّهْرِ وَبَيْنَ الشُّرْبِ بِالْيَدِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَنْ قَالَ: إنْ شَرِبَ عَبْدِي مِنْ الْفُرَاتِ فَهُوَ حُرٌّ؛ فَلَا يُعْتَقُ إلَّا أَنْ يَكْرَعَ فِيهِ؛ فَإِنْ شَرِبَ بِيَدِهِ أَوْ اغْتَرَفَ بِإِنَاءٍ مِنْهُ لَمْ يُعْتَقْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَّقَ بَيْنَ الْكَرْعِ فِي النَّهْرِ وَبَيْنَ الشُّرْبِ بِالْيَدِ. وَهَذَا فَاسِدٌ؛ فَإِذَا أَجْرَيْنَا الْأَيْمَانَ عَلَى الْأَلْفَاظِ، وَقُلْنَا بِهِ مَعَهُمْ؛ لِأَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ يَنْطَلِقُ عَلَى كُلِّ هَيْئَةٍ وَصِفَةٍ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ مِنْ غَرْفٍ بِالْيَدِ أَوْ كَرْعٍ بِالْفَمِ انْطِلَاقًا وَاحِدًا، فَإِذَا وُجِدَ الشُّرْبُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لُغَةً وَحَقِيقَةً حَنِثَ فَاعِلُهُ.

الآية الثانية والثمانون قوله تعالى لا إكراه في الدين

وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مَا لَزِمَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ مِعْيَارًا لِعَزَائِمِهِمْ وَإِظْهَارَ صَبْرِهِمْ فِي اللِّقَاءِ؛ فَكَانَ مَنْ كَسَرَ شَهْوَتَهُ عَنْ الْمَاءِ، وَغَلَبَ نَفْسَهُ عَلَى الْإِمْعَانِ فِيهِ إلَّا غَرْفَةً وَاحِدَةً يُطْفِئُ بِهَا سَوْرَتَهُ، وَيُسْكِنُ غَلِيلَهُ، مَوْثُوقًا بِهِ فِي الثَّبَاتِ عِنْدَ اللِّقَاءِ فِي الْحَرْبِ وَكَسْرِ النَّفْسِ عَنْ الْفِرَارِ عَنْ الْقِتَالِ، وَبِالْعَكْسِ مَنْ كَرَعَ فِي النَّهْرِ وَاسْتَوْفَى الشُّرْبَ مِنْهُ، وَهَذَا مَنْزَعٌ مَعْلُومٌ لَيْسَ مِنْ الْيَمِينِ فِي وِرْدٍ وَلَا صَدَرٍ. [الْآيَة الثَّانِيَة وَالثَّمَانُونَ قَوْله تَعَالَى لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ] قَوْله تَعَالَى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قِيلَ: إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ؛ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ. الثَّانِي: أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يُقَرُّونَ عَلَى الْجِزْيَةِ؛ وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ مَنْ رَأَى قَبُولَ الْجِزْيَةِ مِنْ جِنْسٍ تُحْمَلُ الْآيَةُ عَلَيْهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَنْصَارِ؛ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مِنْهُمْ إذَا لَمْ يَعِشْ لَهَا وَلَدٌ تَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إنْ عَاشَ أَنْ تُهَوِّدَهُ تَرْجُو بِهِ طُولَ عُمُرِهِ، فَلَمَّا أَجْلَى اللَّهُ تَعَالَى بَنِي النَّضِيرِ قَالُوا: كَيْفَ نَصْنَعُ بِأَبْنَائِنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى لَا إكْرَاهَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: (لَا إكْرَاهَ): عُمُومٌ فِي نَفْيِ إكْرَاهِ الْبَاطِلِ؛ فَأَمَّا الْإِكْرَاهُ بِالْحَقِّ فَإِنَّهُ مِنْ الدِّينِ؛ وَهَلْ يُقْتَلُ الْكَافِرُ إلَّا عَلَى الدِّينِ؛ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ». وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193]

مسألة الإكراه بغير حق

وَبِهَذَا يُسْتَدَلُّ عَلَى ضَعْفِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ جَازَ الْإِكْرَاهُ بِالدِّينِ عَلَى الْحَقِّ، وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُكْرَهِ أَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ مَا أَظْهَرَ؟. الْجَوَابُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو الْخَلْقَ إلَيْهِ، وَيُوَضِّحُ لَهُمْ السَّبِيلَ، وَيُبَصِّرُهُمْ الدَّلِيلَ، وَيَحْتَمِلُ الْإِذَايَةَ وَالْهَوَانَ فِي طَرِيقِ الدَّعْوَةِ وَالتَّبْيِينِ، حَتَّى قَامَتْ حُجَّةُ اللَّهِ، وَاصْطَفَى اللَّهُ أَوْلِيَاءَهُ، وَشَرَحَ صُدُورَهُمْ لِقَبُولِ الْحَقِّ؛ فَالْتَفَّتْ كَتِيبَةُ الْإِسْلَامِ، وَائْتَلَفَتْ قُلُوبُ أَهْلِ الْإِيمَانِ، ثُمَّ نَقَلَهُ مِنْ حَالِ الْإِذَايَةِ إلَى الْعِصْمَةِ، وَعَنْ الْهَوَانِ إلَى الْعِزَّةِ، وَجَعَلَ لَهُ أَنْصَارًا بِالْقُوَّةِ، وَأَمَرَهُ بِالدُّعَاءِ بِالسَّيْفِ؛ إذْ مَضَى مِنْ الْمُدَّةِ مَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ، وَكَانَ مِنْ الْإِنْذَارِ مَا حَصَلَ بِهِ الْإِعْذَارُ. جَوَابٌ ثَانٍ: وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُؤْخَذُونَ أَوَّلًا كُرْهًا، فَإِذَا ظَهَرَ الدِّينُ وَحَصَلَ فِي جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَمَّتْ الدَّعْوَةُ فِي الْعَالَمِينَ حَصَلَتْ لَهُمْ بِمُثَافَنَتِهِمْ وَإِقَامَةِ الطَّاعَةِ مَعَهُمْ النِّيَّةُ؛ فَقَوِيَ اعْتِقَادُهُ، وَصَحَّ فِي الدِّينِ وِدَادُهُ، إنْ سَبَقَ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى تَوْفِيقٌ، وَإِلَّا أَخَذْنَا بِظَاهِرِهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ. [مَسْأَلَةٌ الْإِكْرَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمًا، وَكَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَفِي ذَلِكَ تَفْرِيعٌ كَثِيرٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ " الْإِكْرَاهُ مِنْ الْمَسَائِلِ "، وَسَتَأْتِي مِنْهَا مَسْأَلَةُ إكْرَاهِ الطَّلَاقِ وَالْكُفْرِ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [الْآيَة الثَّالِثَةُ وَالثَّمَانُونَ قَوْله تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ] الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّمَانُونَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267]

مسألة المراد بالنفقة

فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَأْتِي بِالْقِنْوِ مِنْ الْحَشَفِ فَيُعَلِّقُهُ فِي الْمَسْجِدِ يَأْكُلُ مِنْهُ الْفُقَرَاءُ، فَنَزَلَتْ: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] [مَسْأَلَةٌ الْمُرَادِ بِالنَّفَقَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْمُرَادِ بِالنَّفَقَةِ: وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا صَدَقَةُ الْفَرْضِ؛ قَالَهُ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ وَغَيْرُهُ. الثَّانِي: أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي كُلِّ صَدَقَةٍ؛ فَمَنْ قَالَ: إنَّهَا فِي الْفَرْضِ تَعَلَّقَ بِأَنَّهَا مَأْمُورٌ بِهَا، وَالْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ، وَبِأَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ الرَّدِيءِ، وَذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالْفَرْضِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ كَانَ فِي التَّطَوُّعِ. الثَّانِي: أَنَّ لَفْظَ (أَفْعِلْ) صَالِحٌ لِلنَّدْبِ صَلَاحِيَّتُهُ لِلْفَرْضِ، وَالرَّدِيءُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي النَّفْلِ، كَمَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الْفَرْضِ، إلَّا أَنَّهُ فِي التَّطَوُّعِ نَدْبٌ فِي " (أَفْعِلْ) مَكْرُوهٌ فِي " لَا تَفْعَلْ " وَفِي الْفَرْضِ وَاجِبٌ فِي " (أَفْعِلْ) حَرَامٌ فِي " لَا تَفْعَلْ ". [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة: 267] قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ فِي الْفَرْضِ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا} [البقرة: 267] لَفْظٌ يَخْتَصُّ بِالدُّيُونِ الَّتِي لَا يُتَسَامَحُ فِي اقْتِضَاءِ الرَّدِيءِ فِيهَا عَنْ الْجَيِّدِ، وَلَا فِي أَخْذِ الْمَعِيبِ عَنْ السَّلِيمِ، إلَّا بِإِغْمَاضٍ، وَهَذِهِ غَفْلَةٌ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ نَازِلَةً فِي الْفَرْضِ لَمَا قَالَ: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة: 267] لِأَنَّ الرَّدِيءَ وَالْمَعِيبَ لَا يَجُوزُ أَخْذُهُ فِي الْفَرْضِ بِحَالٍ، لَا مَعَ تَقْدِيرِ الْإِغْمَاضِ وَلَا مَعَ عَدَمِهِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِإِغْمَاضٍ فِي النَّفْلِ.

مسألة قوله تعالى من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم

[مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] قَالَ عُلَمَاؤُنَا: قَوْله تَعَالَى: {مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] يَعْنِي: التِّجَارَةَ {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] يَعْنِي النَّبَاتَ. وَتَحْقِيقُ هَذَا أَنَّ الِاكْتِسَابَ عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهَا مَا يَكُونُ مِنْ بَطْنِ الْأَرْضِ وَهُوَ النَّبَاتَاتُ كُلُّهَا، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مِنْ الْمُحَاوَلَةِ عَلَى الْأَرْضِ كَالتِّجَارَةِ وَالنِّتَاجِ وَالْمُغَاوَرَةِ فِي بِلَادِ الْعَدُوِّ، وَالِاصْطِيَادِ؛ فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَغْنِيَاءَ مِنْ عِبَادِهِ بِأَنْ يُؤْتُوا الْفُقَرَاءَ مِمَّا آتَاهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [مَسْأَلَةٌ الزَّكَاة فِي النَّبَات] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي كُلِّ نَبَاتٍ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ نِصَابٍ وَلَا تَخْصِيصٍ بِقُوتٍ، وَعَضَّدُوهُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِنَضْحٍ أَوْ دَالِيَةٍ نِصْفُ الْعُشْرِ». وَهَذَا لَا مُتَعَلِّقَ فِيهِ مِنْ الْآيَةِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا جَاءَتْ لِبَيَانِ مَحَلِّ الزَّكَاةِ لَا لِبَيَانِ نِصَابِهَا، أَوْ مِقْدَارِهَا، وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النِّصَابَ بِقَوْلِهِ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ التَّمْرِ صَدَقَةٌ».

مسألة معنى الخبيث

وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَتَقَصَّيْنَا الْقَوْلَ عَلَى الْحَدِيثِ. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى الْخَبِيثِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَائِدَةٌ؛ وَهِيَ مَعْرِفَةُ مَعْنَى الْخَبِيثِ، فَإِنَّ جَمَاعَةً قَالُوا: إنَّ الْخَبِيثَ هُوَ الْحَرَامُ، وَزَلَّ فِيهِ صَاحِبُ الْعَيْنِ فَقَالَ: الْخَبِيثُ كُلُّ شَيْءٍ فَاسِدٍ، وَأَخَذَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ تَسْمِيَةِ الرَّجِيعِ خَبِيثًا. وَقَالَ يَعْقُوبُ: الْخَبِيثُ: الْحَرَامُ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ مِنْهُ لِلُّغَةِ بِالشَّرْعِ، وَهُوَ جَهْلٌ عَظِيمٌ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْخَبِيثَ يَنْطَلِقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ، كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ». الثَّانِي: مَا تُنْكِرُهُ النَّفْسُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] [الْآيَة الرَّابِعَة وَالثَّمَانُونَ قَوْله تَعَالَى إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ] َ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271] فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا صَدَقَةُ الْفَرْضِ. الثَّانِي: أَنَّهَا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ: جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى صَدَقَةَ السِّرِّ فِي التَّطَوُّعِ تَفْضُلُ صَدَقَةَ الْعَلَانِيَةِ بِسَبْعِينَ ضِعْفًا، وَجَعَلَ صَدَقَةَ الْعَلَانِيَةِ فِي الْفَرْضِ تَفْضُلُ صَدَقَةَ السِّرِّ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ ضِعْفًا.

الآية الخامسة والثمانون قوله تعالى ليس عليك هداهم

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَّا صَدَقَةُ الْفَرْضِ فَلَا خِلَافَ أَنَّ إظْهَارَهَا أَفْضَلُ، كَصَلَاةِ الْفَرْضِ وَسَائِرِ فَرَائِضِ الشَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ يُحْرِزُ بِهَا إسْلَامَهُ، وَيَعْصِمُ مَالَهُ. وَلَيْسَ فِي تَفْضِيلِ صَدَقَةِ الْعَلَانِيَةِ عَلَى السِّرِّ وَلَا فِي تَفْضِيلِ صَدَقَةِ السِّرِّ عَلَى الْعَلَانِيَةِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ الْإِجْمَاعُ الثَّابِتُ. فَأَمَّا صَدَقَةُ النَّفْلِ فَالْقُرْآنُ صَرَّحَ بِأَنَّهَا فِي السِّرِّ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي الْجَهْرِ؛ بَيْدَ أَنَّ عُلَمَاءَنَا قَالُوا: إنَّ هَذَا عَلَى الْغَالِبِ مَخْرَجُهُ. وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ الْحَالَ فِي الصَّدَقَةِ تَخْتَلِفُ بِحَالِ الْمُعْطِي لَهَا، وَالْمُعْطَى إيَّاهَا، وَالنَّاسِ الشَّاهِدِينَ لَهَا. أَمَّا الْمُعْطِي فَلَهُ فَائِدَةُ إظْهَارِ السُّنَّةِ وَثَوَابِ الْقُدْرَةِ، وَآفَتُهَا الرِّيَاءُ وَالْمَنُّ وَالْأَذَى. وَأَمَّا الْمُعْطَى إيَّاهَا فَإِنَّ السِّرَّ أَسْلَمُ لَهُ مِنْ احْتِقَارِ النَّاسِ لَهُ أَوْ نِسْبَتِهِ إلَى أَنَّهُ أَخَذَهَا مَعَ الْغِنَى عَنْهَا وَتَرَكَ التَّعَفُّفَ. وَأَمَّا حَالُ النَّاسِ فَالسِّرُّ عَنْهُمْ أَفْضَلُ مِنْ الْعَلَانِيَةِ لَهُمْ، مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ رُبَّمَا طَعَنُوا عَلَى الْمُعْطِي لَهَا بِالرِّيَاءِ، وَعَلَى الْآخِذِ لَهَا بِالِاسْتِثْنَاءِ؛ وَلَهُمْ فِيهَا تَحْرِيكُ الْقُلُوبِ إلَى الصَّدَقَةِ، لَكِنَّ هَذَا الْيَوْمَ قَلِيلٌ. [الْآيَة الْخَامِسَة وَالثَّمَانُونَ قَوْله تَعَالَى لَيْسَ عَلَيْك هُدَاهُمْ] ْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272] فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: وَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ:

مسألة صرف صدقة الفرض إلى الكفار

أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَصَدَّقُوا إلَّا عَلَى أَهْلِ دِينِكُمْ»، فَنَزَلَتْ: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة: 272] الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا لَا يَرْضَخُونَ لِقَرَابَاتِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَوَّلَ حَدِيثٌ بَاطِلٌ. الثَّانِي: «أَنَّ أَسْمَاءَ سَأَلَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنَّ أُمَّيْ قَدِمَتْ عَلَيَّ رَاغِبَةً وَهِيَ مُشْرِكَةٌ أَفَأَصِلُهَا؟ قَالَ: صِلِي أُمَّك»؛ فَإِنَّمَا شَكُّوا فِي جَوَازِ الْمُوَالَاةِ لَهُمْ وَالصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ فَسَأَلُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَذِنَ لَهُمْ. [مَسْأَلَةٌ صَرْفُ صَدَقَةِ الْفَرْضِ إلَى الْكُفَّارِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: لَا تُصْرَفُ إلَيْهِمْ صَدَقَةُ الْفَرْضِ؛ وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي التَّطَوُّعِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْت أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا عَلَى فُقَرَائِكُمْ». وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُصْرَفُ إلَيْهِمْ صَدَقَةُ الْفِطْرِ؛ لِحَدِيثٍ يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُعْطِي الرُّهْبَانَ مِنْ صَدَقَةِ الْفِطْرِ؛ وَهَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا أَصْلَ لَهُ. وَدَلِيلُنَا أَنَّهَا صَدَقَةُ طُهْرٍ وَاجِبَةٌ، فَلَا تُصْرَفُ إلَى الْكَافِرِ كَصَدَقَةِ الْمَاشِيَةِ وَالْعَيْنِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَغْنُوهُمْ عَنْ سُؤَالِ هَذَا الْيَوْمِ يَعْنِي يَوْمَ الْفِطْرِ».

مسألة صرف صدقة الفرض إلى المسلم العاصي

[مَسْأَلَةٌ صَرْفُ صَدَقَةِ الْفَرْضِ إلَى الْمُسْلِم الْعَاصِي] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إذَا كَانَ مُسْلِمًا عَاصِيًا فَلَا خِلَافَ أَنَّ صَدَقَةَ الْفَرْضِ تُصْرَفُ إلَيْهِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ يَتْرُكُ أَرْكَانَ الْإِسْلَامِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فَلَا تُصْرَفُ إلَيْهِ الصَّدَقَةُ حَتَّى يَتُوبَ، وَسَائِرُ الْمَعَاصِي تُصْرَفُ الصَّدَقَةُ إلَى مُرْتَكِبِهَا لِدُخُولِهِمْ فِي اسْمِ الْمُسْلِمِينَ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أَنَّ رَجُلًا خَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَدَفَعَهَا، فَقِيلَ تَصَّدَّقُ عَلَى سَارِقٍ؟ فَقَالَ: عَلَى سَارِقٍ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى: لَعَلَّهُ يَسْتَعِفُّ عَنْ سَرِقَتِهِ» الْحَدِيثَ. [الْآيَة السَّادِسَة وَالثَّمَانُونَ قَوْله تَعَالَى لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 273] فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا} [البقرة: 273] سَيَأْتِي تَحْقِيقُ الْفَقْرِ فِي آيَةِ الصَّدَقَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَنْ هُمْ؟ قِيلَ: هُمْ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَيُحْكَى عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تُعْطَى لِكَافِرٍ، وَمَعْنَاهُ صَدَقَةُ الْفَرْضِ. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ} [البقرة: 273] قِيلَ: هُوَ الْخُشُوعُ. وَقِيلَ: الْخَصَاصَةُ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْخُشُوعَ قَدْ يَكُونُ عَلَى الْغِنَى

مسألة قوله تعالى لا يسألون الناس إلحافا

قَالَ تَعَالَى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] فَعَمَّ الْفَقِيرَ وَالْغَنِيَّ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273] ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَإِنَّمَا الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلَا يَفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَلَا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ». [مَسْأَلَةٌ الْوَاجِبُ عَلَى مُعْطِي الصَّدَقَةِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْوَاجِبُ عَلَى مُعْطِي الصَّدَقَةِ كَانَ إمَامًا أَوْ مَالِكًا أَنْ يُرَاعِيَ أَحْوَالَ النَّاسِ، فَمَنْ عَلِمَ فِيهِ صَبْرًا عَلَى الْخَصَاصَةِ وَتَحَلِّيًا بِالْقَنَاعَةِ آثَرَ عَلَيْهِ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الصَّبْرَ، فَرُبَّمَا وَقَعَ فِي التَّسَخُّطِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحِ: «إنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ». [مَسْأَلَةٌ الْإِلْحَاف فِي الْمَسْأَلَة] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: {إِلْحَافًا} [البقرة: 273] مَعْنَاهُ الشُّمُولُ بِالْمَسْأَلَةِ إمَّا لِلنَّاسِ، وَإِمَّا فِي الْأَمْوَالِ؛ فَيَسْأَلُ مِنْ النَّاسِ جَمَاعَةً، وَيَسْأَلُ مِنْ الْمَالِ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَبِنَاءُ " لُحِفَ " لِلشُّمُولِ، وَمِنْهُ اللِّحَافُ؛ وَهُوَ الثَّوْبُ الَّذِي يَشْتَمِلُ بِهِ، وَنَحْوُهُ الْإِلْحَاحُ؛ يُقَالُ: أَلْحَفَ فِي الْمَسْأَلَةِ إذَا شَمِلَ رِجَالًا أَوْ مَالًا، وَأَلَحَّ فِيهَا إذَا كَرَّرَهَا. وَرَوَى الْمُفَسِّرُونَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْحَلِيمَ الْحَيِيَّ الْغَنِيَّ النَّفْسِ الْمُتَعَفِّفَ، وَيُبْغِضُ الْغَنِيَّ الْفَاحِشَ الْبَذِيَّ السَّائِلَ الْمُلْحِفَ». وَلَمْ يَصِحَّ لِهَذَا الْحَدِيثِ أَصْلٌ، وَلَا عُرِفَ لَهُ سَنَدٌ، لَكِنْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ:

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُلْحِفُوا فِي الْمَسْأَلَةِ، فَوَاَللَّهِ لَا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا فَتُخْرِجُ لَهُ مَسْأَلَتُهُ مِنِّي شَيْئًا وَأَنَا كَارِهٌ فَيُبَارِكُ اللَّهُ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتُهُ». وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ الْأَسَدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «نَزَلْت أَنَا وَأَهْلِي بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَقَالَ لِي أَهْلِي: اذْهَبْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَلْهُ لَنَا شَيْئًا نَأْكُلُهُ، وَجَعَلُوا يَذْكُرُونَ مِنْ حَاجَتِهِمْ فَذَهَبْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَجَدْت عِنْدَهُ رَجُلًا يَسْأَلُهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَا أَجِدُ مَا أُعْطِيك. فَوَلَّى الرَّجُلُ عَنْهُ وَهُوَ مُغْضَبٌ، وَهُوَ يَقُولُ: لَعَمْرُك إنَّك لَتُعْطِي مَنْ شِئْت، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّهُ لَيَغْضَبُ عَلَيَّ أَلَّا أَجِدَ مَا أُعْطِيهِ، مَنْ سَأَلَ مِنْكُمْ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ أَوْ عِدْلُهَا فَقَدْ سَأَلَ إلْحَافًا. فَقَالَ الْأَسَدِيُّ: لَلَقْحَةٌ لَنَا خَيْرٌ مِنْ أُوقِيَّةٍ». وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ سَأَلَ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ فَهُوَ مُلْحِفٌ». فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمُلْحِفَ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ الرَّجُلَ بَعْدَمَا رَدَّهُ عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ مَا يُغْنِيهِ عَنْ السُّؤَالِ، إلَّا أَنْ يَسْأَلَ زَائِدًا عَلَى مَا عِنْدَهُ، وَيُغْنِيهِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ؛ فَذَلِكَ جَائِزٌ. وَسَمِعْت بِجَامِعِ الْخَلِيفَةِ بِبَغْدَادَ رَجُلًا يَقُولُ: هَذَا أَخُوكُمْ يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ مَعَكُمْ، وَلَيْسَ لَهُ ثِيَابٌ يُقِيمُ بِهَا سُنَّةَ الْجُمُعَةِ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى رَأَيْت عَلَيْهِ ثِيَابًا جُدُدًا، فَقِيلَ لِي: كَسَاهُ إيَّاهَا فُلَانٌ لِأَخْذِ الثَّنَاءِ بِهَا. وَيُكَرِّرُ الْمَسْأَلَةَ إذَا رَدَّهُ الْمَسْئُولُ وَالسَّائِلُ يَعْلَمُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مَا سَأَلَهُ إيَّاهُ أَوْ جَاهِلٌ

الآية السابعة والثمانون قوله تعالى الذين يأكلون الربا

بِحَالِهِ، فَيُعِيدُ عَلَيْهِ السُّؤَالَ إعْذَارًا أَوْ إنْذَارًا ثَلَاثًا لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ، وَالْأَفْضَلُ تَرْكُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة السَّابِعَة وَالثَّمَانُونَ قَوْله تَعَالَى الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا] } [البقرة: 275] هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ، وَفِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: ذَكَرَ مَنْ فَسَّرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَرَّمَ الرِّبَا قَالَتْ ثَقِيفٌ: وَكَيْف نَنْتَهِي عَنْ الرِّبَا، وَهُوَ مِثْلُ الْبَيْعِ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ الْآيَةُ. [مَسْأَلَةٌ تَفْسِير قَوْله تَعَالَى الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} [البقرة: 275] كِنَايَةٌ عَنْ اسْتِجَابَةٍ فِي الْبَيْعِ وَقَبْضِهِ بِالْيَدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَفْعَلُهُ الْمُرْبِي قَصْدًا لِمَا يَأْكُلُهُ، فَعَبَّرَ بِالْأَكْلِ عَنْهُ، وَهُوَ مَجَازٌ مِنْ بَابِ التَّعْبِيرِ عَنْ الشَّيْءِ بِفَائِدَتِهِ وَثَمَرَتِهِ، وَهُوَ أَحَدُ قِسْمَيْ الْمَجَازِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. [مَسْأَلَةٌ كُلُّ زِيَادَةٍ لَمْ يُقَابِلْهَا عِوَضٌ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الرِّبَا فِي اللُّغَةِ هُوَ الزِّيَادَةُ، وَلَا بُدَّ فِي الزِّيَادَةِ مِنْ مَزِيدٍ عَلَيْهِ تَظْهَرُ الزِّيَادَةُ بِهِ؛ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ اخْتَلَفُوا هَلْ هِيَ عَامَّةٌ فِي تَحْرِيمِ كُلِّ رِبًا، أَوْ مُجْمَلَةٌ لَا بَيَانَ لَهَا إلَّا مِنْ غَيْرِهَا؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا عَامَّةٌ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ وَيَرْبُونَ، وَكَانَ الرِّبَا عِنْدَهُمْ مَعْرُوفًا، يُبَايِعُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ إلَى أَجَلٍ، فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ قَالَ: أَتَقْضِي أَمْ تُرْبِي؟ يَعْنِي أَمْ تَزِيدُنِي عَلَى مَالِي عَلَيْك وَأَصْبِرُ أَجَلًا آخَرَ. فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الرِّبَا، وَهُوَ الزِّيَادَةُ؛ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ كَمَا قُلْنَا لَا تَظْهَرُ الزِّيَادَةُ إلَّا عَلَى مَزِيدٍ عَلَيْهِ، وَمَتَى قَابَلَ الشَّيْءُ غَيْرَ جِنْسِهِ فِي الْمُعَامَلَةِ لَمْ تَظْهَرْ الزِّيَادَةُ، وَإِذَا قَابَلَ جِنْسَهُ لَمْ تَظْهَرْ الزِّيَادَةُ أَيْضًا إلَّا بِإِظْهَارِ الشَّرْعِ، وَلِأَجْلِ هَذَا صَارَتْ الْآيَةُ مُشْكِلَةً عَلَى الْأَكْثَرِ، مَعْلُومَةً لِمَنْ أَيَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالنُّورِ الْأَظْهَرِ.

وَقَدْ فَاوَضْت فِيهَا عُلَمَاءَ، وَبَاحَثْت رُفَعَاءَ، فَكُلٌّ مِنْهُمْ أَعْطَى مَا عِنْدَهُ حَتَّى انْتَظَمَ فِيهَا سِلْكُ الْمَعْرِفَةِ بِدُرَرِهِ وَجَوْهَرَتِهِ الْعُلْيَا. إنَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُجْمَلَةٌ فَلَمْ يَفْهَمْ مَقَاطِعَ الشَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى قَوْمٍ هُوَ مِنْهُمْ بِلُغَتِهِمْ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كِتَابَهُ تَيْسِيرًا مِنْهُ بِلِسَانِهِ وَلِسَانِهِمْ؛ وَقَدْ كَانَتْ التِّجَارَةُ وَالْبَيْعُ عِنْدَهُمْ مِنْ الْمَعَانِي الْمَعْلُومَةِ، فَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ مُبَيِّنًا لَهُمْ مَا يَلْزَمُهُمْ فِيهِمَا وَيَعْقِدُونَهُمَا عَلَيْهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وَالْبَاطِلُ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، هُوَ الَّذِي لَا يُفِيدُ وَقَعَ التَّعْبِيرُ بِهِ عَنْ تَنَاوُلِ الْمَالِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فِي صُورَةِ الْعِوَضِ. وَالتِّجَارَةُ هِيَ مُقَابَلَةُ الْأَمْوَالِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَهُوَ الْبَيْعُ؛ وَأَنْوَاعُهُ فِي مُتَعَلِّقَاتِهِ بِالْمَالِ كَالْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ، أَوْ مَا فِي مَعْنَى الْمَالِ كَالْمَنَافِعِ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ، وَهُوَ بَيْعُ النَّقْدِ؛ أَوْ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ وَهُوَ السَّلَمُ، أَوْ حَالٌّ وَهُوَ يَكُونُ فِي التَّمْرِ أَوْ عَلَى رَسْمِ الِاسْتِصْنَاعِ، أَوْ بَيْعُ عَيْنٍ بِمَنْفَعَةٍ وَهُوَ الْإِجَارَةُ. وَالرِّبَا فِي اللُّغَةِ هُوَ الزِّيَادَةُ، وَالْمُرَادُ بِهِ فِي الْآيَةِ كُلُّ زِيَادَةٍ لَمْ يُقَابِلْهَا عِوَضٌ؛ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِحَرَامٍ لِعَيْنِهَا، بِدَلِيلِ جَوَازِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا عَلَى وَجْهِهِ، وَلَوْ كَانَتْ حَرَامًا مَا صَحَّ أَنْ يُقَابِلَهَا عِوَضٌ، وَلَا يَرِدُ عَلَيْهَا عَقْدٌ كَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَغَيْرِهَا. وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: " وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ الْمُطْلَقَ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الْعِوَضُ عَلَى صِحَّةِ الْقَصْدِ وَالْعَمَلِ، وَحَرَّمَ مِنْهُ مَا وَقَعَ عَلَى وَجْهِ الْبَاطِلِ ". وَقَدْ كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ كَمَا تَقَدَّمَ، فَتَزِيدُ زِيَادَةً لَمْ يُقَابِلْهَا عِوَضٌ، وَكَانَتْ تَقُولُ: إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا أَيْ: إنَّمَا الزِّيَادَةُ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ آخِرًا مِثْلُ أَصْلِ الثَّمَنِ فِي أَوَّلِ الْعَقْدِ؛ فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ، وَحَرَّمَ مَا اعْتَقَدُوهُ حَلَالًا عَلَيْهِمْ، وَأُوضِحَ أَنَّ الْأَجَلَ إذَا حَلَّ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُؤَدِّي أُنْظِرَ إلَى الْمَيْسَرَةِ تَخْفِيفًا، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الزِّيَادَةَ إنَّمَا تَظْهَرُ بَعْدَ تَقْدِيرِ الْعِوَضَيْنِ فِيهِ، وَذَلِكَ عَلَى قِسْمَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: تَوَلَّى الشَّرْعُ تَقْدِيرَ الْعِوَضِ فِيهِ، وَهُوَ الْأَمْوَالُ الرِّبَوِيَّةُ، فَلَا تَحِلُّ الزِّيَادَةُ فِيهِ. وَأَمَّا الَّذِي وَكَّلَهُ إلَى الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَالزِّيَادَةُ فِيهِ عَلَى قَدْرِ مَالِيَّةِ الْعِوَضَيْنِ عِنْدَ التَّقَابُلِ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ فَهُوَ حَلَالٌ بِإِجْمَاعٍ. وَمِنْهُ مَا يَخْرُجُ عَنْ الْعَادَةِ؛ وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيهِ، فَأَمْضَاهُ الْمُتَقَدِّمُونَ وَعَدُّوهُ مِنْ فَنِّ التِّجَارَةِ، وَرَدَّهُ الْمُتَأَخِّرُونَ بِبَغْدَادَ وَنُظَرَائِهَا وَحَدُّوا الْمَرْدُودَ بِالثُّلُثِ. وَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ إذَا وَقَعَ عَنْ عِلْمِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَإِنَّهُ حَلَالٌ مَاضٍ؛ لِأَنَّهُمَا يَفْتَقِرَانِ إلَى ذَلِكَ فِي الْأَوْقَاتِ، وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وَإِنْ وَقَعَ عَنْ جَهْلٍ مِنْ أَحَدِهِمَا فَإِنَّ الْآخَرَ بِالْخِيَارِ، وَفِي مِثْلِهِ وَرَدَ الْحَدِيثُ «أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ فَذَكَرَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذَا بَايَعْت فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ». زَادَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ: «وَلَك الْخِيَارُ ثَلَاثًا» ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ؛ فَهَذَا أَصْلُ عِلْمِ هَذَا الْبَابِ. فَإِنْ قِيلَ: أَنْكَرْتُمْ الْإِجْمَالَ فِي الْآيَةِ، وَمَا أَوْرَدْتُمُوهُ مِنْ الْبَيَانِ وَالشُّرُوطِ هُوَ بَيَانُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ مُبَيَّنًا، وَلَا يُوجَدُ عَنْهَا مِنْ الْقَوْلِ ظَاهِرًا. قُلْنَا: هَذَا سُؤَالُ مَنْ لَمْ يَحْضُرْ مَا مَضَى مِنْ الْقَوْلِ، وَلَا أَلْقَى إلَيْهِ السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، وَقَدْ تَوَضَّحَ فِي مَسَائِلِ الْكَلَامِ أَنَّ جَمِيعَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ أَوْ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ جَاءَ فِيهِ بِلِسَانِهِمْ، فَقَدْ أَطْلَقَ لَهُمْ حِلَّ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ بَيْعٍ وَتِجَارَةٍ وَيَعْلَمُونَهُ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ الرِّبَا وَكَانُوا يَفْعَلُونَهُ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَكْلَ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ

وَقَدْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ وَيَعْلَمُونَهُ وَيَتَسَامَحُونَ فِيهِ؛ ثُمَّ إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْحَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُلْقِيَ إلَيْهِمْ زِيَادَةً فِيمَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ عَقْدٍ أَوْ عِوَضٍ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ جَائِزًا، فَأَلْقَى إلَيْهِمْ وُجُوهَ الرِّبَا الْمُحَرَّمَةِ فِي كُلِّ مُقْتَاتٍ، وَثَمَنُ الْأَشْيَاءِ مَعَ الْجِنْسِ مُتَفَاضِلًا، وَأَلْحَقَ بِهِ بَيْعَ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، وَالْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ، وَالْبَيْعَ وَالسَّلَفَ، وَبَيَّنَ وُجُوهَ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ فِي بَيْعِ الْغَرَرِ كُلِّهِ أَوْ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ شَرْعًا فِيمَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ مُتَقَوِّمًا كَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَبَيْعِ الْغِشِّ، وَلَمْ يَبْقَ فِي الشَّرِيعَةِ بَعْدَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بَيَانٌ يُفْتَقَرُ إلَيْهِ فِي الْبَابِ، وَبَقِيَ مَا وَرَاءَهُمَا عَلَى الْجَوَازِ؛ إلَّا أَنَّهُ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا لَا يَصِحُّ سِتَّةٌ وَخَمْسُونَ مَعْنًى نَهَى عَنْهَا». الْأَوَّلُ وَالثَّانِي: ثَمَنُ الْأَشْيَاءِ جِنْسًا بِجِنْسٍ، وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ وَالْخَامِسُ وَالسَّادِسُ وَالسَّابِعُ: بَيْعُ الْمُقْتَاتِ أَوْ ثَمَنُ الْأَشْيَاءِ جِنْسًا بِجِنْسٍ مُتَفَاضِلًا، أَوْ جِنْسًا بِغَيْرِ جِنْسِهِ نَسِيئَةً، أَوْ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، أَوْ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ، أَوْ بَيْعُ الْمُزَابَنَةِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، أَوْ عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ؛ وَهَذَا كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي بَيْعِ الرِّبَا، وَهُوَ مِمَّا تَوَلَّى الشَّرْعُ تَقْدِيرَ الْعِوَضِ فِيهِ، فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ. الثَّامِنُ بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ. التَّاسِعُ بَيْعُ الْغَرَرِ، وَرَدُّ بَيْعِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَالْحَصَاةِ، وَبَيْعُ الثُّنْيَا، وَبَيْعُ الْعُرْبَانِ وَمَا لَيْسَ عِنْدَك، وَالْمَضَامِينِ، وَالْمَلَاقِيحِ، وَحَبَلُ حَبَلَةٍ. وَيَتَرَكَّبُ عَلَيْهِمَا مِنْ وَجْهٍ بَيْعُ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَبَيْعُ السُّنْبُلِ حَتَّى يَشْتَدَّ، وَالْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ، وَهُوَ مِمَّا قَبْلَهُ، وَبَيْعُ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُعَاوَمَةِ وَالْمُخَابَرَةِ وَالْمُحَاصَرَةِ، وَبَيْعُ مَا لَمْ يَقْبِضْ، وَرِبْحُ مَا لَمْ يَضْمَنْ، وَبَيْعُ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْ بَعْضِ مَا تَقَدَّمَ، وَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَشُحُومِهَا، وَثَمَنِ الدَّمِ، وَبَيْعُ الْأَصْنَامِ، وَعَسْبِ الْفَحْلِ، وَالْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ، وَكَسْبِ الْحَجَّامِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ، وَبَيْعُ الْمُضْطَرِّ، وَبَيْعُ الْوَلَاءِ، وَبَيْعُ الْوَلَدِ أَوْ الْأُمِّ فَرْدَيْنِ، أَوْ الْأَخِ وَالْأَخِ فَرْدَيْنِ، وَكِرَاءُ الْأَرْضِ وَالْمَاءِ وَالْكَلَأِ وَالنَّجَشِ، وَبَيْعُ الرَّجُلِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَخِطْبَتُهُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَحَاضِرٌ لِبَادٍ، وَتَلَقِّي السِّلَعِ وَالْقَيْنَاتِ. فَهَذِهِ سِتَّةٌ وَخَمْسُونَ مَعْنًى حَضَرَتْ الْخَاطِرَ مِمَّا نَهَى عَنْهُ أَوْرَدْنَاهَا حَسَبَ نَسَقِهَا فِي

مسألة الربا في هبة الثواب

الذِّكْرِ. وَهِيَ تَرْجِعُ فِي التَّقْسِيمِ الصَّحِيحِ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ فِي الْمَسَائِلِ إلَى سَبْعَةِ أَقْسَامٍ: مَا يَرْجِعُ إلَى صِفَةِ الْعَقْدِ، وَمَا يَرْجِعُ إلَى صِفَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَمَا يَرْجِعُ إلَى الْعِوَضَيْنِ، وَإِلَى حَالِ الْعَقْدِ، وَالسَّابِعُ وَقْتُ الْعَقْدِ كَالْبَيْعِ وَقْتَ نِدَاءِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، أَوْ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ لِلصَّلَاةِ. وَلَا تَخْرُجُ عَنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ؛ وَهِيَ الرِّبَا، وَالْبَاطِلُ، وَالْغَرَرُ. وَيَرْجِعُ الْغَرَرُ بِالتَّحْقِيقِ إلَى الْبَاطِلِ فَيَكُونُ قِسْمَيْنِ عَلَى الْآيَتَيْنِ، وَهَذِهِ الْمَنَاهِي تَتَدَاخَلُ وَيَفْصِلُهَا الْمَعْنَى. وَمِنْهَا أَيْضًا مَا يَدْخُلُ فِي الرِّبَا وَالتِّجَارَةِ ظَاهِرًا، وَمِنْهَا مَا يَخْرُجُ عَنْهَا ظَاهِرًا؛ وَمِنْهَا مَا يَدْخُلُ فِيهَا بِاحْتِمَالٍ، وَمِنْهَا مَا يُنْهَى عَنْهَا مَصْلَحَةً لِلْخَلْقِ وَتَأَلُّفًا بَيْنَهُمْ لِمَا فِي التَّدَابُرِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ. [مَسْأَلَةٌ الرِّبَا فِي هِبَةِ الثَّوَابِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الرِّبَا عَلَى قِسْمَيْنِ: زِيَادَةٌ فِي الْأَمْوَالِ الْمُقْتَاتَةِ وَالْأَثْمَانِ، وَالزِّيَادَةُ فِي سَائِرِهَا؛ وَذَكَرْنَا حُدُودَهَا؛ وَبَيَّنَّا أَنَّ الرِّبَا فِيمَا جُعِلَ التَّقْدِيرُ فِيهِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ جَائِزٌ بِعِلْمِهِمَا؛ وَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ الرِّبَا فِي هِبَةِ الثَّوَابِ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " أَيُّمَا رَجُلٍ وَهَبَ هِبَةً يَرَى أَنَّهَا لِلثَّوَابِ فَهُوَ عَلَى هِبَتِهِ، حَتَّى يَرْضَى مِنْهَا "؛ فَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ الْمَمْنُوعِ الدَّاخِلِ فِي عُمُومِ التَّحْرِيمِ، وَقَدْ انْتَهَى الْقَوْلُ فِي هَذَا الْغَرَضِ هَاهُنَا وَشَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَمِنْهُ مَا تَيَسَّرَ عَلَى آيَاتِ الْقُرْآنِ فِي هَذَا الْقِسْمِ مِنْ الْأَحْكَامِ. [مَسْأَلَةٌ خَالَطَ الْمَالَ الْحَلَالَ حَرَامٌ ثُمَّ أُخْرِجَ مِنْهُ مِقْدَارُ الْحَرَامِ الْمُخْتَلِطِ بِهِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ: وَهِيَ فِي الَّتِي بَعْدَهَا قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279] ذَهَبَ بَعْضُ الْغُلَاةِ مِنْ أَرْبَابِ الْوَرَعِ إلَى أَنَّ الْمَالَ الْحَلَالَ إذَا خَالَطَهُ حَرَامٌ حَتَّى لَمْ يَتَمَيَّزْ، ثُمَّ أُخْرِجَ مِنْهُ مِقْدَارُ الْحَرَامِ الْمُخْتَلِطِ بِهِ لَمْ يَحِلَّ، وَلَمْ يَطِبْ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي أُخْرِجَ هُوَ الْحَلَالُ، وَاَلَّذِي بَقِيَ هُوَ الْحَرَامُ، وَهُوَ غُلُوٌّ فِي الدِّينِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا لَمْ

الآية الثامنة والثمانون قوله تعالى وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة

يَتَمَيَّزْ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ مَالِيَّتُهُ لَا عَيْنُهُ، وَلَوْ تَلِفَ لَقَامَ الْمِثْلُ مَقَامَهُ، وَالِاخْتِلَاطُ إتْلَافٌ لِتَمَيُّزِهِ، كَمَا أَنَّ الْإِهْلَاكَ إتْلَافٌ لِعَيْنِهِ، وَالْمِثْلُ قَائِمٌ مَقَامَ الذَّاهِبِ، وَهَذَا بَيِّنٌ حِسًّا بَيِّنٌ مَعْنًى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الثَّامِنَة وَالثَّمَانُونَ قَوْله تَعَالَى وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ] ٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280] فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الرِّبَا عِنْدَ ذِكْرِ الْآيَةِ قَبْلَهَا. [مَسْأَلَةٌ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مِنْ قَوْله تَعَالَى وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ إلَخْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِهَا: فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا رِبَا الدَّيْنِ خَاصَّةً، وَفِيهِ يَكُونُ الْإِنْظَارُ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَشُرَيْحٌ الْقَاضِي وَالنَّخَعِيُّ. الثَّانِي: أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ دَيْنٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْعَامَّةِ. الثَّالِثُ: قَالَ مُتَأَخِّرُو عُلَمَائِنَا: هُوَ نَصٌّ فِي دَيْنِ الرِّبَا، وَغَيْرُهُ مِنْ الدُّيُونِ مَقِيسٌ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي التَّنْقِيحِ: أَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ فِي دَيْنِ الرِّبَا فَضَعِيفٌ، وَلَا يَصِحُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ فَإِنَّ الْآيَةَ، وَإِنْ كَانَ أَوَّلُهَا خَاصًّا، فَإِنَّ آخِرَهَا عَامٌّ، وَخُصُوصُ أَوَّلِهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ عُمُومِ آخِرِهَا، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْعَامُّ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ نَصٌّ فِي الرِّبَا، وَغَيْرُهُ مَقِيسٌ عَلَيْهِ فَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الْعُمُومَ قَدْ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ فَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ.

مسألة الميسرة التي يؤدى بها الدين

فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الدُّيُونِ: {لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75] قُلْنَا: سَنَتَكَلَّمُ عَلَى الْآيَةِ فِي مَوْضِعهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ: وَبِمَ تُعْلَمُ الْعُسْرَةُ؟ قُلْنَا: بِأَنْ لَا نَجِدَ لَهُ مَالًا؛ فَإِنْ قَالَ الطَّالِبُ: خَبَّأَ مَالًا. قُلْنَا لِلْمَطْلُوبِ: أَثْبِتْ عَدَمَك ظَاهِرًا وَيَحْلِفُ بَاطِنًا، وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ. [مَسْأَلَةٌ الْمَيْسَرَةُ الَّتِي يُؤَدَّى بِهَا الدَّيْنُ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا الْمَيْسَرَةُ الَّتِي يُؤَدَّى بِهَا الدَّيْنُ؟: وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ. تَحْرِيرُ قَوْلِ عُلَمَائِنَا: أَنَّهُ يُتْرَكُ لَهُ مَا يَعِيشُ بِهِ الْأَيَّامَ وَكِسْوَةُ لِبَاسِهِ وَرُقَادِهِ، وَلَا تُبَاعُ ثِيَابُ جُمُعَتِهِ، وَيُبَاعُ خَاتَمُهُ، وَتَفْصِيلُ الْفُرُوعِ فِي الْمَسَائِلِ. [مَسْأَلَةٌ الصَّدَقَةُ عَلَى الْمُعْسِرِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 280] قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الصَّدَقَةُ عَلَى الْمُعْسِرِ قُرْبَةٌ؛ وَذَلِكَ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ إنْظَارِهِ إلَى الْمَيْسَرَةِ، بِدَلِيلِ مَا رَوَى حُذَيْفَةُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «تَلَقَّتْ الْمَلَائِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، قَالُوا: عَمِلْت مِنْ الْخَيْرِ شَيْئًا؟ قَالَ: كُنْت آمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا الْمُوسِرَ وَيَتَجَاوَزُوا عَنْ الْمُعْسِرِ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ». وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي الْيُسْرِ: كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ، أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ»؛ وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ.

الآية التاسعة والثمانون قوله تعالى يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين

[الْآيَة التَّاسِعَة وَالثَّمَانُونَ قَوْله تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ] الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالثَّمَانُونَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] هِيَ آيَةٌ عُظْمَى فِي الْأَحْكَامِ، مُبَيِّنَةٌ جُمَلًا مِنْ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَهِيَ أَصْلٌ فِي مَسَائِلِ الْبُيُوعِ، وَكَثِيرٍ مِنْ الْفُرُوعِ، جِمَاعُهَا عَلَى اخْتِصَارٍ مَعَ اسْتِيفَاءِ الْغَرَضِ دُونَ الْإِكْثَارِ فِي الثِّنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي حَقِيقَةِ الدَّيْنِ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مُعَامَلَةٍ كَانَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ فِيهَا نَقْدًا وَالْآخَرُ فِي الذِّمَّةِ نَسِيئَةً، فَإِنَّ الْعَيْنَ عِنْدَ الْعَرَبِ مَا كَانَ حَاضِرًا، وَالدَّيْنُ مَا كَانَ غَائِبًا قَالَ الشَّاعِرُ: وَعَدَتْنَا بِدِرْهَمَيْنَا طِلَاءً ... وَشِوَاءً مُعَجَّلًا غَيْرَ دَيْنِ وَالْمُدَايَنَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَرْضَاهُ وَالْآخَرُ يَلْتَزِمُهُ، وَقَدْ بَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة: 282] [مَسْأَلَةٌ مَا يَتَنَاوَلهُ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة: 282] يَدْخُلُ تَحْتَهُ الْمَهْرُ إلَى أَجَلٍ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَيَجُوزُ فِيهِ شَهَادَةُ

مسألة معنى قوله تعالى فاكتبوه

النِّسَاءِ؛ وَهَذَا وَهْمٌ، فَإِنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ إنَّمَا هِيَ عَلَى النِّكَاحِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْمَهْرِ وَعَلَى الدَّمِ الْمُفْضِي إلَى الصُّلْحِ، وَالْمَهْرُ فِي النِّكَاحِ، وَالْمَالُ فِي الدَّمِ بَيْعٌ؛ وَإِنَّمَا جَاءَتْ الْآيَةُ لِبَيَانِ حُكْمِ حَالِ دَيْنٍ مُجَرَّدٍ وَمَالٍ مُفْرَدٍ؛ فَعَلَيْهِ يُحْمَلُ عُمُومُ الشَّهَادَةِ وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَاكْتُبُوهُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى {فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] يُرِيدُ يَكُونُ صَكًّا لِيَسْتَذْكِرَ بِهِ عِنْدَ أَجَلِهِ؛ لِمَا يُتَوَقَّعُ مِنْ الْغَفْلَةِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي بَيْنَ الْمُعَامَلَةِ وَبَيْنَ حُلُولِ الْأَجَلِ، وَالنِّسْيَانُ مُوَكَّلٌ بِالْإِنْسَانِ، وَالشَّيْطَانُ رُبَّمَا حَمَلَ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَالْعَوَارِضُ مِنْ مَوْتٍ وَغَيْرِهِ تَطْرَأُ؛ فَشُرِعَ الْكِتَابُ وَالْإِشْهَادُ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ. وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَوَّلُ مَنْ جَحَدَ آدَم قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَهُ مَسَحَ ظَهْرَهُ، فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّتَهُ فَعَرَضَهُمْ عَلَيْهِ، فَرَأَى فِيهِمْ رَجُلًا يَزْهَرُ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا ابْنُك دَاوُد. قَالَ: كَمْ عُمُرُهُ؟ قَالَ: سِتُّونَ سَنَةً. قَالَ: رَبِّ زِدْ فِي عُمُرِهِ. قَالَ: لَا إلَّا أَنْ تَزِيدَهُ أَنْتَ مِنْ عُمُرِك فَزَادَهُ أَرْبَعِينَ مِنْ عُمُرِهِ، فَكَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ كِتَابًا وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقْبِضَ رُوحَهُ قَالَ: بَقِيَ مِنْ أَجَلِي أَرْبَعُونَ سَنَةً. فَقِيلَ لَهُ: إنَّك قَدْ جَعَلْتهَا لِابْنِك دَاوُد. قَالَ: فَجَحَدَ آدَم. قَالَ: فَأُخْرِجَ إلَيْهِ الْكِتَابُ، فَأَقَامَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ، وَأَتَمَّ لِدَاوُدَ مِائَةَ سَنَةٍ وَلِآدَمَ عُمُرَهُ أَلْفَ سَنَةٍ». الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي قَوْله تَعَالَى: {فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] إشَارَةٌ ظَاهِرَةٌ إلَى أَنَّهُ يَكْتُبُهُ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ الْمُبَيَّنَةِ لَهُ الْمُعْرِبَةِ عَنْهُ الْمُعَرِّفَةِ لِلْحَاكِمِ بِمَا يَحْكُمُ عِنْدَ ارْتِفَاعِهِمَا إلَيْهِ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] فِيهِ وَجْهَانِ

مسألة قوله تعالى ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله

أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّاسَ لَمَّا كَانُوا يَتَعَامَلُونَ حَتَّى لَا يَشِذَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ الْمُعَامَلَةِ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَكْتُبُ وَمَنْ لَا يَكْتُبُ، أَمَرَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكْتُبَ بَيْنَهُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ يُتَّهَمُ فِي الْكِتَابَةِ لِلَّذِي عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ، شَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ كَاتِبًا يَكْتُبُ بِالْعَدْلِ، لَا يَكُونُ فِي قَلْبِهِ وَلَا فِي قَلَمِهِ هَوَادَةٌ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} [البقرة: 282] فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ كَالْجِهَادِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ؛ قَالَهُ الشَّعْبِيُّ. الثَّانِي: أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكَاتِبِ فِي حَالِ فَرَاغِهِ؛ قَالَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ نَدْبٌ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ مَنْسُوخٌ؛ قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أَمْرُ إرْشَادٍ؛ فَلَا يَكْتُبُ حَتَّى يَأْخُذَ حَقَّهُ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} [البقرة: 282] قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّمَا أَمْلَى الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ؛ لِأَنَّهُ الْمُقِرُّ بِهِ الْمُلْتَزِمُ لَهُ، فَلَوْ قَالَ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ: لِي كَذَا وَكَذَا لَمْ يَنْفَعْ حَتَّى يُقِرَّ لَهُ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ كَانَتْ الْبُدَاءَةُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ، وَإِلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ»، عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228]

مسألة قوله تعالى فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا نَحْوٌ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] لَمَّا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُنَّ فِي الَّذِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ أَرْحَامُهُنَّ، وَقَوْلُ الشَّاهِدِ أَيْضًا فِيمَا وَعَاهُ قَلْبُهُ مِنْ عِلْمِ مَا عِنْدَهُ مِمَّا بَيْنَهُمَا مِنْ التَّنَازُعِ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا} [البقرة: 282] أَمَّا السَّفِيهُ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْجَاهِلُ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. الثَّانِي: أَنَّهُ الصَّبِيُّ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ الْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ. الرَّابِعُ: الْمُبَذِّرُ لِمَالِهِ الْمُفْسِدُ لِدَيْنِهِ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ. وَأَمَّا الضَّعِيفُ فَقِيلَ: هُوَ الْأَحْمَقُ، وَقِيلَ: هُوَ الْأَخْرَسُ أَوْ الْغَبِيُّ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ. وَأَمَّا الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْغَبِيُّ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ الْمَمْنُوعُ بِحُبْسَةٍ أَوْ عِيٍّ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ الْمَجْنُونُ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ طَوِيلٌ نُخْبَتُهُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقَّ أَرْبَعَةَ أَصْنَافٍ: مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ يُمِلُّ، وَثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ لَا يُمِلُّونَ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَصْنَافُ الثَّلَاثَةُ صِنْفًا وَاحِدًا أَوْ صِنْفَيْنِ؛ لِأَنَّ تَعْدِيدَ الْبَارِي سُبْحَانَهُ كَأَنَّهُ يَخْلُو عَنْ الْفَائِدَةِ، وَيَكُونُ مِنْ فَنِّ الْمُثَبَّجِ [مِنْ] الْقَوْلِ الرَّكِيكِ مِنْ الْكَلَامِ، وَلَا يَنْبَغِي هَذَا فِي كَلَامٍ حَكِيمٍ، فَكَيْفَ فِي كَلَامِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ. فَتَعَيَّنَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ مَعْنًى لَيْسَ لِصَاحِبِهِ حَتَّى تَتِمَّ الْبَلَاغَةُ، وَتَكْمُلَ الْفَائِدَةُ، وَيَرْتَفِعَ التَّدَاخُلُ الْمُوجِبُ لِلتَّقْصِيرِ؛ وَذَلِكَ

مسألة قوله تعالى فليملل وليه بالعدل

بِأَنْ يَكُونَ السَّفِيهُ وَالضَّعِيفُ وَاَلَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ، قَرِيبًا بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ فِي الْمَعْنَى؛ فَإِنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ السَّفِيهَ عَلَى ضَعِيفِ الْعَقْلِ تَارَةً وَعَلَى ضَعِيفِ الْبَدَنِ أُخْرَى، وَأَنْشَدُوا: مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ ... أَعَالِيهَا مَرُّ الرِّيَاحِ النَّوَاسِمِ أَيْ: اسْتَضْعَفَتْهَا وَاسْتَلَانَتْهَا فَحَرَّكَتْهَا. وَكَذَلِكَ يُطْلَقُ الضَّعِيفُ عَلَى ضَعِيفِ الْعَقْلِ، وَعَلَى ضَعِيفِ الْبَدَنِ، وَقَدْ قَالُوا: الضُّعْفُ بِضَمِّ الضَّادِ فِي الْبَدَنِ، وَفَتْحِهَا فِي الرَّأْيِ، وَقِيلَ هُمَا لُغَتَانِ، وَكُلُّ ضَعِيفٍ لَا يَسْتَطِيعُ مَا يَسْتَطِيعُهُ الْقَوِيُّ؛ فَثَبَتَ التَّدَاخُلُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ. وَتَحْرِيرُهَا الَّذِي يَسْتَقِيمُ بِهِ الْكَلَامُ وَيَصِحُّ مَعَهُ النِّظَامُ أَنَّ السَّفِيهَ هُوَ الْمُتَنَاهِي فِي ضَعْفِ الْعَقْلِ وَفَسَادِهِ، كَالْمَجْنُونِ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، نَظِيرُهُ الشَّاهِدُ لَهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا الضَّعِيفُ فَهُوَ الَّذِي يَغْلِبُهُ قِلَّةُ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ كَالطِّفْلِ نَظِيرُهُ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 9] وَأَمَّا الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ فَهُوَ الْغَبِيُّ الَّذِي يَفْهَمُ مَنْفَعَتَهُ لَكِنْ لَا يَلْفِقُ الْعِبَارَةَ عَنْهَا. وَالْأَخْرَسُ الَّذِي لَا يَتَبَيَّنُ مَنْطِقَهُ عَنْ غَرَضِهِ؛ وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَنْفِ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ خَاصَّةً. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] اخْتَلَفَ النَّاسُ عَلَى مَا يَعُودُ ضَمِيرُ وَلِيِّهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: قِيلَ يَعُودُ عَلَى الْحَقِّ؛ التَّقْدِيرُ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّ الْحَقِّ. الثَّانِي: أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ؛ التَّقْدِيرُ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ الْمَمْنُوعُ مِنْ الْإِمْلَاءِ بِالسَّفَهِ وَالضَّعْفِ وَالْعَجْزِ.

مسألة تصرف السفيه المحجور دون ولي

وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ الْوَلِيِّ فِي الْإِطْلَاقِ، يُقَالُ: وَلِيُّ السَّفِيهِ وَوَلِيُّ الضَّعِيفِ، وَلَا يُقَالُ وَلِيُّ الْحَقِّ، إنَّمَا يُقَالُ صَاحِبُ الْحَقِّ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إقْرَارَ الْوَصِيِّ جَائِزٌ عَلَى يَتِيمِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَمْلَى فَقَدْ نَفَذَ قَوْلُهُ فِيمَا أَمْلَاهُ. [مَسْأَلَةٌ تَصَرَّفَ السَّفِيهُ الْمَحْجُورُ دُونَ وَلِيٍّ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنْ تَصَرَّفَ السَّفِيهُ الْمَحْجُورُ دُونَ وَلِيِّ فَإِنَّ التَّصَرُّفَ فَاسِدٌ إجْمَاعًا مَفْسُوخٌ أَبَدًا، لَا يُوجِبُ حُكْمًا وَلَا يُؤَثِّرُ شَيْئًا. وَإِنْ تَصَرَّفَ سَفِيهٌ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ فَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيهِ؛ فَابْنُ الْقَاسِمِ يُجَوِّزُ فِعْلَهُ، وَعَامَّةُ أَصْحَابِنَا يُسْقِطُونَهُ. وَاَلَّذِي أَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إنْ تَصَرَّفَ بِسَدَادٍ نَفَذَ، وَإِنْ تَصَرَّفَ بِغَيْرِ سَدَادٍ بَطَلَ. وَأَمَّا الضَّعِيفُ فَرُبَّمَا بُخِسَ فِي الْبَيْعِ وَخُدِعَ، وَلَكِنَّهُ تَحْتَ النَّظَرِ كَائِنٌ، وَعَلَى الِاعْتِبَارِ مَوْقُوفٌ. وَأَمَّا الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ تَصَرُّفِهِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ احْتَاجَ مِنْهُمْ إلَى الْمُعَامَلَةِ عَامَلَ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِمْلَاءِ أَمْلَى عَنْ نَفْسِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَمْلَى عَنْهُ وَلِيُّهُ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ بَيِّنٌ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَاسْتَشْهِدُوا] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا} [البقرة: 282] اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ هُوَ فَرْضٌ أَوْ نَدْبٌ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ نَدْبٌ كَمَا يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى شَهِيدَيْنِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {شَهِيدَيْنِ} [البقرة: 282] رَتَّبَ اللَّهُ الشَّهَادَاتِ بِحِكْمَتِهِ فِي الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ وَالْحُدُودِ، فَجَعَلَهَا فِي كُلِّ فَنٍّ شَهِيدَيْنِ، إلَّا فِي الزِّنَا فَإِنَّهُ قَرَنَ ثُبُوتَهَا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، تَأْكِيدًا فِي السَّتْرِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ النُّورِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى مِنْ رِجَالِكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] قَالَ مُجَاهِدٌ: أَرَادَ مِنْ الْأَحْرَارِ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ وَأَطْنَبَ فِيهِ.

مسألة مفاد عموم قوله تعالى من رجالكم

وَقِيلَ الْمُرَادُ: مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: (مِنْ الرِّجَالِ) كَانَ يُغْنِي عَنْهُ، فَلَا بُدَّ لِهَذِهِ الْإِضَافَةِ مِنْ خِصِّيصَةٍ، وَهِيَ إمَّا أَحْرَارُكُمْ وَإِمَّا مُؤْمِنُوكُمْ، وَالْمُؤْمِنُونَ بِهِ أَخَصُّ مِنْ الْأَحْرَارِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةَ هِيَ إضَافَةُ الْجَمَاعَةِ، وَإِلَّا فَمَنْ هُوَ الَّذِي يَجْمَعُ الشَّتَاتَ، وَيُنَظِّمُ الشَّمْلَ النَّظْمَ الَّذِي يَصِحُّ مِنْهُ الْإِضَافَةُ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْبَالِغُونَ مِنْ ذُكُورِكُمْ الْمُسْلِمُونَ؛ لِأَنَّ الطِّفْلَ لَا يُقَالُ لَهُ رَجُلٌ، وَكَذَا الْمَرْأَةُ لَا يُقَالُ لَهَا رَجُلٌ أَيْضًا. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ، وَعَيَّنَ بِالْإِضَافَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] الْمُسْلِمَ وَلِأَنَّ الْكَافِرَ لَا قَوْلَ لَهُ؛ وَعَنَى الْكَبِيرَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ لَا مَحْصُولَ لَهُ. وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِشْهَادِ الْبَالِغِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يُؤَدِّيَ الشَّهَادَةَ؛ فَأَمَّا الصَّغِيرُ فَيَحْفَظُ الشَّهَادَةَ؛ فَإِذَا أَدَّاهَا وَهُوَ رَجُلٌ جَازَتْ؛ وَلَا خِلَافَ فِيهِ. وَلَيْسَ لِلْآيَةِ أَثَرٌ فِي شَهَادَةِ الْعَبْدِ يَرِدُ، وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِيهَا فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135] إنْ شَاءَ اللَّهُ. [مَسْأَلَةٌ مفاد عُمُومُ قَوْله تَعَالَى مِنْ رِجَالِكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] يَقْتَضِي جَوَازَ شَهَادَةِ الْأَعْمَى عَلَى مَا يَتَحَقَّقُهُ وَيَعْلَمُهُ، فَإِنَّ السَّمْعَ فِي الْأَصْوَاتِ طَرِيقٌ لِلْعِلْمِ كَالْبَصَرِ لِلْأَلْوَانِ، فَمَا عَلِمَهُ أَدَّاهُ، كَمَا يَطَأُ زَوْجَتَهُ بِاللَّمْسِ وَالشَّمِّ، وَيَأْكُلُ بِالذَّوْقِ، فَلِمَ لَا يَشْهَدُ عَلَى طَعَامٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَدْ ذَاقَهُ. [مَسْأَلَةٌ شَهَادَةِ الْبَدَوِيِّ عَلَى الْقَرَوِيِّ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: أَخَذَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] جَوَازَ شَهَادَةِ الْبَدَوِيِّ عَلَى الْقَرَوِيِّ، وَقَدْ مَنَعَهَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَمَالِكٌ فِي مَشْهُورِ قَوْلِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا الْوُجُوهَ الَّتِي مَنَعَهَا أَشْيَاخُنَا مِنْ أَجْلِهَا فِي كُتُبِ الْخِلَافِ، وَالصَّحِيحُ جَوَازُهَا مَعَ الْعَدَالَةِ كَشَهَادَةِ الْقَرَوِيِّ عَلَى الْقَرَوِيِّ. وَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَهِدَ عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ عَلَى هِلَالِ رَمَضَانَ؛ فَأَمَرَ بِالصِّيَامِ».

مسألة شهادة النساء

[مَسْأَلَة شَهَادَةُ النِّسَاءِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] مِنْ أَلْفَاظِ الْإِبْدَالِ، فَكَانَ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَلَّا تَجُوزَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ شَهَادَةِ الرِّجَالِ، كَحُكْمِ سَائِرِ إبْدَالِ الشَّرِيعَةِ مَعَ مُبْدَلَاتِهَا؛ وَهَذَا لَيْسَ كَمَا زَعَمَهُ، وَلَوْ أَرَادَ رَبُّنَا ذَلِكَ لَقَالَ: فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ رَجُلَانِ فَرَجُلٌ: فَأَمَّا وَقَدْ قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا فَهَذَا قَوْلٌ يَتَنَاوَلُ حَالَةَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ شَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ بَدَلَ شَهَادَةِ الرَّجُلِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَمَّا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى شَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ بَدَلَ شَهَادَةِ الرَّجُلِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا حُكْمَهُ، فَكَمَا يَحْلِفُ مَعَ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ شَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ بِمُطْلَقِ هَذِهِ الْعِوَضِيَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [مَسْأَلَةٌ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: لِمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] فَقَسَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْوَاعَ الشَّهَادَةِ وَعَدَّدَهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ فَلَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ قِسْمًا ثَالِثًا فِيمَا قَدْ قَسَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قِسْمَيْنِ. وَسَلَكَ عُلَمَاؤُنَا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ مَسْلَكَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ قِسْمِ الشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ هُنَالِكَ بِالْيَمِينِ، وَحَطُّ الشَّاهِدِ تَرْجِيحُ جَنْبَةِ الْمُدَّعِي، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ أَهْلُ خُرَاسَانَ. وَقَالَ آخَرُونَ: وَهُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ مَالِكٌ إنَّ الْقَوْمَ قَدْ قَالُوا يُقْضَى بِالنُّكُولِ، وَهُوَ قِسْمٌ ثَالِثٌ لَيْسَ لَهُ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرٌ، كَذَلِكَ يُحْكَمُ بِالشَّهَادَةِ وَالْيَمِينِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ. وَالْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ أُسْلُوبُ الشَّرْعِ، وَالْمَسْلَكُ الثَّانِي يَتَعَلَّقُ بِمُنَاقَضَةِ الْخَصْمِ، وَالْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ أَقْوَى وَأَوْلَى.

مسألة فضل الله تعالى الذكر على الأنثى من ستة أوجه

[مَسْأَلَةٌ فَضَّلَ اللَّهُ تَعَالَى الذَّكَرَ عَلَى الْأُنْثَى مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: فَضَّلَ اللَّهُ تَعَالَى الذَّكَرَ عَلَى الْأُنْثَى مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ جُعِلَ أَصْلَهَا وَجُعِلَتْ فَرْعَهُ؛ لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْهُ، كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ. الثَّانِي: أَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعِهِ الْعَوْجَاءِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ أَعْوَجَ، فَإِنْ ذَهَبْت تُقِيمُهَا كَسَرْتهَا، وَإِنْ اسْتَمْتَعْت بِهَا اسْتَمْتَعْت بِهَا عَلَى عِوَجٍ، وَقَالَ: وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا». الثَّالِثُ: أَنَّهُ نَقْصُ دِينِهَا. الرَّابِعُ: أَنَّهُ نَقْصُ عَقْلِهَا، وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا رَأَيْت مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْكُنَّ. قُلْنَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ وَمَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا؟ قَالَ: أَلَيْسَ تَمْكُثُ إحْدَاكُنَّ اللَّيَالِيَ لَا تَصُومُ وَلَا تُصَلِّي، وَشَهَادَةُ إحْدَاكُنَّ عَلَى نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟». الْخَامِسُ: أَنَّهُ نَقْصُ حَظِّهَا فِي الْمِيرَاثِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] السَّادِسُ: أَنَّهَا نَقَصَتْ قُوَّتُهَا؛ فَلَا تُقَاتِلُ وَلَا يُسْهَمُ لَهَا، وَهَذِهِ كُلُّهَا مَعَانٍ حُكْمِيَّةٌ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ نُسِبَ النَّقْصُ إلَيْهِنَّ وَلَيْسَ مِنْ فِعْلِهِنَّ؟ قُلْنَا: هَذَا مِنْ عَدْلِ اللَّهِ يَحُطُّ مَا شَاءَ وَيَرْفَعُ مَا شَاءَ، وَيَقْضِي مَا أَرَادَ، وَيَمْدَحُ وَيَلُومُ

مسألة الاسترسال على كل شاهد وقصر الشهادة على الرضا خاصة

وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ خَلَقَ الْمَخْلُوقَاتِ مَنَازِلَ، وَرَتَّبَهَا مَرَاتِبَ؛ فَبَيَّنَ ذَلِكَ لَنَا فَعَلِمْنَا وَآمَنَّا بِهِ وَسَلَّمْنَاهُ. [مَسْأَلَةٌ الِاسْتِرْسَالِ عَلَى كُلِّ شَاهِدٍ وَقَصَرَ الشَّهَادَةَ عَلَى الرِّضَا خَاصَّةً] الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ: قَوْله تَعَالَى: {تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] هَذَا تَقْيِيدٌ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى الِاسْتِرْسَالِ عَلَى كُلِّ شَاهِدٍ، وَقَصَرَ الشَّهَادَةَ عَلَى الرِّضَا خَاصَّةً؛ لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ عَظِيمَةٌ؛ إذْ هِيَ تَنْفِيذُ قَوْلِ الْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ؛ فَمِنْ حُكْمِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَمَائِلُ يَنْفَرِدُ بِهَا، وَفَضَائِلُ يَتَحَلَّى بِهَا حَتَّى يَكُونَ لَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ تُوجِبُ لَهُ تِلْكَ الْمَزِيَّةُ رُتْبَةَ الِاخْتِصَاصِ بِقَبُولِ قَوْلِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَيُقْضَى لَهُ بِحُسْنِ الظَّنِّ، وَيُحْكَمُ بِشُغْلِ ذِمَّةِ الْمَطْلُوبِ بِالْحَقِّ بِشَهَادَتِهِ عَلَيْهِ، وَيُغَلَّبُ قَوْلُ الطَّالِبِ عَلَى قَوْلِهِ بِتَصْدِيقِهِ لَهُ فِي دَعْوَاهُ. [مَسْأَلَةٌ تَفْوِيضِ قَبُولِ الشَّهَادَة إلَى الْحَاكِمِ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْلُهُ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] دَلِيلٌ عَلَى تَفْوِيضِ الْقَبُولِ فِي الشَّهَادَةِ إلَى الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّ الرِّضَا مَعْنًى يَكُونُ فِي النَّفْسِ بِمَا يَظْهَرُ إلَيْهَا مِنْ الْأَمَارَاتِ عَلَيْهِ، وَيَقُومُ مِنْ الدَّلَائِلِ الْمُبَيِّنَةِ لَهُ، وَلَا يَكُونُ غَيْرُ هَذَا؛ فَإِنَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ لِغَيْرِهِ لَمَا وَصَلَ إلَيْهِ إلَّا بِالِاجْتِهَادِ، وَاجْتِهَادُهُ أَوْلَى مِنْ اجْتِهَادِ غَيْرِهِ. [مَسْأَلَةٌ الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ عَلَى مَا خَفِيَ مِنْ الْمَعَانِي وَالْأَحْكَامِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ عَلَى مَا خَفِيَ مِنْ الْمَعَانِي وَالْأَحْكَامِ. [مَسْأَلَةٌ الْإِسْلَامِ فِي الشَّهَادَةِ هَلْ يَكْفِي فِيهِ الظَّاهِر] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْتَفَى بِظَاهِرِ الْإِسْلَامِ فِي الشَّهَادَةِ حَتَّى يَقَعَ الْبَحْثُ عَنْ الْعَدَالَةِ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُكْتَفَى بِظَاهِرِ الْإِسْلَامِ فِي الْأَمْوَالِ دُونَ الْحُدُودِ؛ وَهَذِهِ مُنَاقَضَةٌ تُسْقِطُ كَلَامَهُ وَتُفْسِدُ عَلَيْهِ مَرَامَهُ، فَيَقُولُ: حَقٌّ مِنْ الْحُقُوقِ، فَلَا يُكْتَفَى فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِظَاهِرِ الدِّينِ كَالْحُدُودِ، وَقَدْ مَهَّدْت الْمَسْأَلَةَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [مَسْأَلَةٌ شَهَادَةُ وَلَدٍ لِأَبِيهِ وَالْأَبِ لِوَلَدِهِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: هَذَا الْقَوْلُ يَقْتَضِي أَلَّا تُقْبَلَ شَهَادَةُ وَلَدٍ لِأَبِيهِ، وَلَا أَبٍ لِوَلَدِهِ. قَالَ مَالِكٌ: وَلَا كُلِّ

مسألة الرضا والعدالة في النكاح

ذِي نَسَبٍ أَوْ سَبَبٍ يُفْضِي إلَى وَصْلَةٍ تَقَعُ بِهَا التُّهْمَةُ، كَالصَّدَاقَةِ وَالْمُلَاطَفَةِ وَالْقَرَابَةِ الثَّابِتَةِ. وَفِي كُلِّ ذَلِكَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ تَفْصِيلٌ وَاخْتِلَافٌ، بَيَانُهُ فِي إيضَاحِ دَلَائِلِ مَسَائِلِ الْخِلَافِ، بَيَانُهُ فِي إلْزَامِ وَصْفِ الرِّضَا الْمُشَاهَدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّذِي أَكَّدَهُ بِالْعَدَالَةِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، فَقَالَ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَلَا يَجْتَمِعُ الْوَصْفَانِ حَتَّى تَنْتَفِيَ التُّهْمَةُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الرِّضَا وَالْعَدَالَةُ فِي النِّكَاحِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: إذَا شُرِطَ الرِّضَا وَالْعَدَالَةُ فِي الْمُدَايَنَةِ فَاشْتِرَاطُهَا فِي النِّكَاحِ أَوْلَى، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ قَالَ: إنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِشَهَادَةِ فَاسِقَيْنِ، فَنَفَى الِاحْتِيَاطَ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الْأَمْوَالِ عَنْ النِّكَاحِ، وَهُوَ أَوْلَى لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ وَالْجَدِّ وَالنَّسَبِ. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282] فِيهِ تَأْوِيلَانِ وَقِرَاءَتَانِ: إحْدَاهُمَا: أَنْ تَجْعَلَهَا ذِكْرًا، وَهَذِهِ قِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ. الثَّانِي: أَنْ تُنَبِّهَهَا إذَا غَفَلَتْ وَهِيَ قِرَاءَةُ التَّثْقِيلِ؛ وَهُوَ التَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ يَعْضُدُهُ قَوْله تَعَالَى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة: 282] وَاَلَّذِي يَصِحُّ أَنْ يَعْقُبَ الضَّلَالَ وَالْغَفْلَةَ الذِّكْرُ، وَيَدْخُلُ التَّأْوِيلُ الثَّانِي فِي مَعْنَاهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَتْ امْرَأَةً وَاحِدَةً مَعَ رَجُلٍ فَيُذَكِّرَهَا الرَّجُلُ الَّذِي مَعَهَا إذَا نَسِيَتْ؛ فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ فَالْجَوَابُ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَرَعَ مَا أَرَادَ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْحِكْمَةِ وَأَوْفَى بِالْمَصْلَحَةِ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَعْلَمَ الْخَلْقُ وُجُوهَ الْحِكْمَةِ وَأَنْوَاعَ الْمَصَالِحِ فِي الْأَحْكَامِ، وَقَدْ أَشَارَ عُلَمَاؤُنَا أَنَّهُ لَوْ ذَكَّرَهَا إذَا نَسِيَتْ لَكَانَتْ شَهَادَةً وَاحِدَةً، فَإِذَا كَانَتْ امْرَأَتَيْنِ وَذَكَّرَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى كَانَتْ شَهَادَتُهُمَا شَهَادَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، كَالرَّجُلِ يَسْتَذْكِرُ فِي نَفْسِهِ فَيَتَذَكَّرُ.

مسألة الحكمة من تكرار قوله تعالى إحداهما

[مَسْأَلَة الْحِكْمَةُ مِنْ تَكْرَار قَوْلُهُ تَعَالَى إحْدَاهُمَا] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282] فَكَرَّرَ قَوْلَهُ: " إحْدَاهُمَا " وَكَانَتْ الْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ الْأُخْرَى، لَكَانَتْ شَهَادَةً وَاحِدَةً، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: فَتُذَكِّرَهَا الْأُخْرَى لَكَانَ الْبَيَانُ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ لِتَذْكِرَةِ الذَّاكِرَةِ النَّاسِيَةِ، فَلَمَّا كَرَّرَ إحْدَاهُمَا أَفَادَ تَذْكِرَةَ الذَّاكِرَةِ لِلْغَافِلَةِ وَتَذْكِرَةَ الْغَافِلَةِ لِلذَّاكِرَةِ أَيْضًا لَوْ انْقَلَبَتْ الْحَالُ فِيهِمَا بِأَنْ تَذْكُرَ الْغَافِلَةُ وَتَغْفُلَ الذَّاكِرَةُ؛ وَذَلِكَ غَايَةٌ فِي الْبَيَانِ. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: لَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ عَنْ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ إذَا تَحَمَّلُوا. الثَّانِي: لَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ عَنْ الْأَدَاءِ. الثَّالِثُ: لَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ عَنْهُمَا جَمِيعًا، لَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ عَنْ التَّحَمُّلِ إذَا حُمِّلُوا وَلَا يَأْبَوْا عَنْ الْأَدَاءِ إذَا تَحَمَّلُوا. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ هَذَا النَّهْيِ عَنْ ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ نَدْبٌ. الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ مُطْلَقًا؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ هَاهُنَا حَالَةُ التَّحَمُّلِ لِلشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ حَالَةَ الْأَدَاءِ مُبَيَّنَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] وَإِذَا كَانَتْ حَالَةُ التَّحَمُّلِ فَهِيَ فَرْضٌ عَلَى الْكَافِيَةِ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّ إبَايَةَ النَّاسِ كُلِّهِمْ عَنْهَا إضَاعَةٌ لِلْحُقُوقِ، وَإِجَابَةُ جَمِيعِهِمْ إلَيْهَا تَضْيِيعٌ لِلْأَشْغَالِ؛ فَصَارَتْ كَذَلِكَ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ؛ وَلِهَذَا الْمَعْنَى جَعَلَهَا أَهْلُ تِلْكَ الدِّيَارِ وِلَايَةً فَيُقِيمُونَ لِلنَّاسِ شُهُودًا يُعَيِّنُهُمْ الْخَلِيفَةُ وَنَائِبُهُ، وَيُقِيمُهُمْ لِلنَّاسِ وَيُبْرِزُهُمْ لَهُمْ، وَيَجْعَلُ لَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كِفَايَتَهُمْ، فَلَا يَكُونُ لَهُمْ شُغْلٌ إلَّا تَحَمُّلُ حُقُوقِ النَّاسِ حِفْظًا، وَإِحْيَاؤُهَا لَهُمْ أَدَاءً.

مسألة الشاهد هو الذي يمشي إلى الحاكم

فَإِنْ قِيلَ: فَهَذِهِ شَهَادَةٌ بِالْأُجْرَةِ. قُلْنَا: إنَّمَا هِيَ شَهَادَةٌ خَالِصَةٌ مِنْ قَوْمٍ اسْتَوْفَوْا حُقُوقَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ. [مَسْأَلَةٌ الشَّاهِدَ هُوَ الَّذِي يَمْشِي إلَى الْحَاكِمِ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ هُوَ الَّذِي يَمْشِي إلَى الْحَاكِمِ، وَهَذَا أَمْرٌ انْبَنَى عَلَيْهِ الشَّرْعُ، وَعُمِلَ بِهِ فِي كُلِّ زَمَنٍ، وَفَهِمَتْهُ كُلُّ أُمَّةٍ، وَمِنْ أَمْثَالِ الْعَرَبِ: " فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ ". [مَسْأَلَةٌ خُرُوجِ الْعَبْدِ مِنْ جُمْلَةِ الشُّهَدَاءِ] الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ ثَلَاثِينَ: كَيْفَمَا تَرَدَّدَتْ الْحَالُ بِالْأَقْوَالِ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى خُرُوجِ الْعَبْدِ مِنْ جُمْلَةِ الشُّهَدَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُجِيبَ، وَلَا يَصِحُّ لَهُ أَنْ يَأْبَى؛ لِأَنَّهُ لَا اسْتِقْلَالَ لَهُ بِنَفْسِهِ؛ وَإِنَّمَا يَتَصَرَّفُ بِإِذْنِ غَيْرِهِ، فَانْحَطَّ عَنْ مَنْصِبِ الشَّهَادَةِ كَمَا انْحَطَّ عَنْ مَنْصِبِ الْوِلَايَةِ، نَعَمْ وَكَمَا انْحَطَّ عَنْهُ فَرْضُ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [مَسْأَلَةٌ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا مُسْتَحِقُّهَا] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا فِي حَالَةِ الدُّعَاءِ إلَى الشَّهَادَةِ، فَأَمَّا مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ لِرَجُلٍ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا مُسْتَحِقُّهَا الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهَا فَقَالَ قَوْمٌ: أَدَاؤُهَا نَدْبٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] فَفَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ الْأَدَاءَ عِنْدَ الدُّعَاءِ، وَإِذَا لَمْ يُدْعَ كَانَ نَدْبًا؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَيْرُ الشُّهُودِ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا». وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ أَدَاءَهَا فَرْضٌ؛ لِمَا ثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «اُنْصُرْ أَخَاك ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا». فَقَدْ تَعَيَّنَ نَصْرُهُ بِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ الَّتِي هِيَ عِنْدَهُ؛ إحْيَاءً لِحَقِّهِ الَّذِي أَمَاتَهُ الْإِنْكَارُ.

مسألة الإشهاد بالدين

[مَسْأَلَة الْإِشْهَادِ بِالدَّيْنِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} [البقرة: 282] هَذَا تَأْكِيدٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْإِشْهَادِ بِالدَّيْنِ، تَنْبِيهًا لِمَنْ كَسِلَ، فَقَالَ: هَذَا قَلِيلٌ لَا أَحْتَاجُ إلَى كَتْبِهِ وَالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ وَالتَّخْصِيصَ عَلَيْهِ وَاحِدٌ، وَالْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إلَّا مَا كَانَ مِنْ قِيرَاطٍ وَنَحْوِهِ لِنَزَارَتِهِ وَعَدَمِ تَشَوُّفِ النُّفُوسِ إلَيْهِ إقْرَارًا أَوْ إنْكَارًا. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة: 282] يُرِيدُ أَعْدَلَ يَعْنِي أَنْ يُكْتَبَ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ وَيُشْهَدَ عَلَيْهِ بِالْعَدْلِ عُمُومُ ذَلِكَ فِيهِ. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى أَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} [البقرة: 282] يَعْنِي أَدْعَى إلَى ثُبُوتِهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا أَشْهَدَ وَلَمْ يَكْتُبْ رُبَّمَا نَسِيَ الشَّاهِدُ. [مَسْأَلَةٌ الشَّاهِدِ إذَا نَسِيَ أَوْ قَالَ خِلَافَ مَا عِنْدَ الْمُتَدَايِنَيْنِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282] بِالشَّاهِدِ إذَا نَسِيَ أَوْ قَالَ خِلَافَ مَا عِنْدَ الْمُتَدَايِنَيْنِ. [مَسْأَلَةٌ الشَّاهِدَ إذَا رَأَى الْكِتَابَ فَلَمْ يَذْكُرْ الشَّهَادَةَ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} [البقرة: 282] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ إذَا رَأَى الْكِتَابَ فَلَمْ يَذْكُرْ الشَّهَادَةَ لَا يُؤَدِّيهَا؛ لِمَا دَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ الرِّيبَةِ فِيهَا وَلَا يُؤَدِّي إلَّا مَا يَعْلَمُ، لَكِنَّهُ يَقُولُ خُذَا خَطِّي، وَلَا أَذْكُرُ الْآنَ مَا كَتَبْت فِيهِ.

مسألة باع بنقد أشهد وإذا باع بنسيئة كتب وأشهد

وَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ عُلَمَاؤُنَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ فِي " الْمُدَوَّنَةِ ": يُؤَدِّيهَا وَلَا يَنْفَعُ ذَلِكَ فِي الدَّيْنِ وَالطَّلَاقِ. الثَّانِي: قَالَ فِي " كِتَابِ مُحَمَّدٍ ": لَا يُؤَدِّيهَا. الثَّالِثُ: قَالَ مُطَرِّفٌ: يُؤَدِّيهَا وَيَنْفَعُ إذَا لَمْ يَشُكَّ فِي كِتَابٍ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ النَّاسُ؛ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ وَالْمُغِيرَةِ. وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ، وَبَيَّنَّا تَعَلُّقَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ خَطَّهُ فَرْعٌ عَنْ عِلْمِهِ، فَإِذَا ذَهَبَ عِلْمُهُ ذَهَبَ نَفْعُ خَطِّهِ، وَأَجَبْنَا بِأَنَّ خَطَّهُ بَدَلُ الذِّكْرَى، فَإِنْ حَصَلَتْ وَإِلَّا قَامَ مَقَامَهَا. [مَسْأَلَةُ بَاعَ بِنَقْدٍ أَشْهَدَ وَإِذَا بَاعَ بِنَسِيئَةٍ كَتَبَ وَأَشْهَدَ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة: 282] قَالَ الشَّعْبِيُّ: الْبُيُوعُ ثَلَاثَةٌ: بَيْعٌ بِكِتَابٍ وَشُهُودٍ، وَبَيْعٌ بِرِهَانٍ، وَبَيْعٌ بِأَمَانَةٍ؛ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ؛ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا بَاعَ بِنَقْدٍ أَشْهَدَ، وَإِذَا بَاعَ بِنَسِيئَةٍ كَتَبَ وَأَشْهَدَ، وَكَانَ كَأَبِيهِ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مُقْتَدِيًا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [مَسْأَلَةٌ سُقُوطِ الْإِشْهَادِ فِي النَّقْدِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ: ظَنَّ مَنْ رَأَى الْإِشْهَادَ فِي الدَّيْنِ وَاجِبًا أَنَّ سُقُوطَهُ فِي بَيْعِ النَّقْدِ رَفْعٌ لِلْمَشَقَّةِ لِكَثْرَةِ تَرَدُّدِهِ. وَالظَّاهِرُ الصَّحِيحُ أَنَّ الْإِشْهَادَ لَيْسَ وَاجِبًا، وَإِنَّمَا الْأَمْرُ بِهِ أَمْرُ إرْشَادٍ لِلتَّوَثُّقِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَهُوَ فِي النَّسِيئَةِ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ؛ لِكَوْنِ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَاقِيَةً؛ تَوَثُّقًا لِمَا عَسَى أَنْ يَطْرَأَ مِنْ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَتَغَيُّرِ الْقُلُوبِ، فَأَمَّا إذَا تَفَاصَلَا فِي الْمُعَامَلَةِ وَتَقَابَضَا، وَبَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ فَيَقِلُّ فِي الْعَادَةِ خَوْفُ التَّنَازُعِ إلَّا بِأَسْبَابٍ عَارِضَةٍ، وَنَبَّهَ الشَّرْعُ عَلَى هَذِهِ الْمَصَالِحِ فِي حَالَتَيْ النَّسِيئَةِ وَالنَّقْدِ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا} [البقرة: 282] يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ الْإِشْهَادِ فِي النَّقْدِ، وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] أَمْرُ إرْشَادٍ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ جُنَاحًا فِي تَرْكِ الْإِشْهَادِ فِي الدَّيْنِ مِنْ دَلِيلِ الْخِطَابِ

مسألة لفظ أفعل في قوله تعالى وأشهدوا إذا تبايعتم

وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِهِ فِي هَذَا النَّوْعِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ. وَالْجُنَاحُ هَاهُنَا لَيْسَ الْإِثْمَ، إنَّمَا هُوَ الضَّرَرُ الطَّارِئُ بِتَرْكِ الْإِشْهَادِ مِنْ التَّنَازُعِ. [مَسْأَلَةٌ لَفْظِ أَفْعِلْ فِي قَوْله تَعَالَى وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ] الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ أَرْبَعِينَ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي لَفْظِ (أَفْعِلْ) فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فَرْضٌ؛ قَالَهُ الضَّحَّاكُ. الثَّانِي: أَنَّهُ نَدْبٌ؛ قَالَهُ الْكَافَّةُ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ فَقَدْ بَاعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَتَبَ وَنُسْخَةُ كِتَابِهِ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا اشْتَرَى الْعَدَّاءُ بْنُ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشْتَرَى مِنْهُ عَبْدًا أَوْ أَمَةً لِأَدَاءٍ وَلَا غَائِلَةَ وَلَا خِبْثَةَ، بَيْعَ الْمُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِ». وَقَدْ بَاعَ وَلَمْ يُشْهِدْ، وَاشْتَرَى وَرَهَنَ دِرْعَهُ عِنْدَ يَهُودِيٍّ وَلَمْ يُشْهِدْ، وَلَوْ كَانَ الْإِشْهَادُ أَمْرًا وَاجِبًا لَوَجَبَ مَعَ الرَّهْنِ لِخَوْفِ الْمُنَازَعَةِ. [مَسْأَلَةٌ يَكْتُبَ الْكَاتِبُ مَا لَمْ يُمْلِ عَلَيْهِ وَيَشْهَدُ الشَّاهِدُ بِمَا لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكْتُبَ الْكَاتِبُ مَا لَمْ يُمْلِ عَلَيْهِ، وَيَشْهَدُ الشَّاهِدُ بِمَا لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ قَالَهُ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَطَاوُسٌ. الثَّانِي: يَمْتَنِعُ الْكَاتِبُ أَنْ يَكْتُبَ، وَالشَّاهِدُ أَنْ يَشْهَدَ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ. الثَّالِثُ: أَنْ يُدْعَى الْكَاتِبُ وَالشَّهِيدُ وَهُمَا مَشْغُولَانِ مَعْذُورَانِ؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَجَمَاعَةٌ. وَتَحْقِيقُهُ أَنْ يُضَارَّ تَفَاعُلٌ مِنْ الضَّرَرِ. قَوْله تَعَالَى " يُضَارَّ " يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تُفَاعِلُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِفَتْحِهَا، فَإِنْ كَانَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فَالْكَاتِبُ

مسألة معنى قوله تعالى وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا

وَالشَّاهِدُ فَاعِلَانِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ نَهْيَهُمَا عَنْ الضَّرَرِ بِمَا يَكْتُبَانِ بِهِ أَوْ بِمَا يَشْهَدَانِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ فَالْكَاتِبُ وَالشَّاهِدُ مَفْعُولٌ بِهِمَا، فَيَرْجِعُ النَّهْيُ إلَى الْمُتَعَامِلَيْنِ أَلَّا يَضُرَّا بِكَاتِبٍ وَلَا شَهِيدٍ فِي دُعَائِهِ فِي وَقْتِ شُغْلٍ وَلَا بِأَدَائِهِ وَكِتَابَتِهِ مَا سَمِعَ؛ فَكَثِيرٌ مِنْ الْكُتَّابِ الشُّهَدَاءِ يَفْسُقُونَ بِتَحْوِيلِ الْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ أَوْ كَتْمِهَا، وَإِمَّا مُتَعَامِلٌ يَطْلُبُ مِنْ الْكَاتِبِ وَالشَّاهِدِ أَنْ يَدَعَ شُغْلَهُ لِحَاجَتِهِ أَوْ يُبَدِّلَ لَهُ كِتَابَتَهُ أَوْ شَهَادَتَهُ؛ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [البقرة: 282] [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهَا عَلَى ظَاهِرِهَا وَلَمْ يُجَوِّزْ الرَّهْنَ إلَّا فِي السَّفَرِ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَكَافَّةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى رَدِّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ؛ وَإِنْ كَانَ خَرَجَ مَخْرَجَ الشَّرْطِ، فَالْمُرَادُ بِهِ غَالِبُ الْأَحْوَالِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْتَاعَ فِي الْحَضَرِ وَرَهَنَ وَلَمْ يَكْتُبْ. وَهَذَا الْفِقْهُ صَحِيحٌ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَاتِبَ إنَّمَا يُعْدَمُ فِي السَّفَرِ غَالِبًا، فَأَمَّا فِي الْحَضَرِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ بِحَالٍ. [مَسْأَلَةٌ رَهَنَهُ قَوْلًا وَلَمْ يَقْبِضْهُ فِعْلًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ لَا يُحْكَمُ لَهُ فِي الْوَثِيقَةِ إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ، فَلَوْ رَهَنَهُ قَوْلًا وَلَمْ يَقْبِضْهُ فِعْلًا لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ لَهُ حُكْمًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ الْحُكْمَ إلَّا لِرَهْنٍ مَوْصُوفٍ بِالْقَبْضِ، فَإِذَا عُدِمَتْ الصِّفَةُ وَجَبَ أَنْ يُعْدَمَ الْحُكْمُ. وَهَذَا ظَاهِرٌ جِدًّا، لَكِنْ عِنْدَنَا إذَا رَهَنَهُ قَوْلًا وَأَبَى عَنْ الْإِقْبَاضِ أُجْبِرَ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.

مسألة الرهن إذا خرج عن يد صاحبه

[مَسْأَلَةٌ الرَّهْنَ إذَا خَرَجَ عَنْ يَدِ صَاحِبِهِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ وَمُطْلَقِهِ أَنَّ الرَّهْنَ إذَا خَرَجَ عَنْ يَدِ صَاحِبِهِ فَإِنَّهُ مَقْبُوضٌ صَحِيحٌ يُوجِبُ الْحُكْمَ وَيَخْتَصُّ بِمَا ارْتَهَنَ بِهِ دُونَ الْغُرَمَاءِ عِنْدَ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ: لَا يَكُونُ مَقْبُوضًا إلَّا إنْ كَانَ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ، وَإِذَا صَارَ عِنْدَ الْعَدْلِ فَهُوَ مَقْبُوضٌ لُغَةً مَقْبُوضٌ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْعِدْلَ نَائِبٌ عَنْ صَاحِبِ الْحَقِّ وَبِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ لَهُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ. [مَسْأَلَةٌ رَهْنِ الْمُشَاعِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ وَمُطْلَقِهِ جَوَازَ رَهْنِ الْمُشَاعِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَصِحَّ رَهْنُهُ لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبْضِ افْتِقَارَ الرَّهْنِ بَلْ أَشَدَّ مِنْهُ، وَهَذَا بَيِّنٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ انْتِزَاع الرَّهْن بَعْد قَبَضَهُ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: إذَا قَبَضَ الرَّهْنَ لَمْ يَجُزْ انْتِزَاعُهُ مِنْ يَدِهِ خِلَافًا لِبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ إذَا انْتَزَعَهُ مِنْ يَدِهِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ الصِّفَةِ الَّتِي وَجَبَتْ لَهُ مِنْ الْقَبْضِ، وَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْحُكْمُ، وَهَذَا بَيِّنٌ ظَاهِرٌ. [مَسْأَلَةٌ رَهْنُ الدَّيْنِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: كَمَا يَجُوزُ رَهْنُ الْعَيْنِ كَذَلِكَ يَجُوزُ رَهْنُ الدَّيْنِ، وَذَلِكَ عِنْدَنَا إذَا تَعَامَلَ رَجُلَانِ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ دَيْنٌ فَرَهَنَهُ دَيْنَهُ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ قَبَضَهُ قَبْضًا. وَقَالَ غَيْرُنَا مِنْ الْعُلَمَاءِ: لَا يَكُونُ قَبْضًا، وَكَذَلِكَ إذَا وَهَبَتْ الْمَرْأَةُ كَالِئَهَا لِزَوْجِهَا جَازَ، وَيَكُونُ قَبُولُهُ قَبْضًا، وَخَالَفَنَا فِيهِ أَيْضًا غَيْرُنَا مِنْ الْعُلَمَاءِ؛ وَمَا قُلْنَاهُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ آكَدُ قَبْضًا مِنْ الْمُعَيَّنِ؛ وَهَذَا لَا يَخْفَى.

مسألة اختلاف الراهن والمرتهن

[مَسْأَلَةٌ اخْتِلَافُ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الرَّهْنَ قَائِمًا مَقَامَ الشَّاهِدِ؛ فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: إذَا اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِيمَةِ الرَّهْنِ، وَخَالَفَنَا أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَا: الْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ، وَمَا قُلْنَاهُ يَشْهَدُ لَهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَعَادَةُ النَّاسِ فِي ارْتِهَانِهِمْ مَا يَكُونُ قَدْرَ الدَّيْنِ فِي مُعَامَلَتِهِمْ، فَإِذَا قَالَ الْمُرْتَهِنُ: دَيْنِي مِائَةٌ، وَقَالَ الرَّاهِنُ: خَمْسُونَ، صَارَ الرَّهْنُ شَاهِدًا يَحْلِفُ الْمُدَّعِي مَعَهُ كَمَا يَحْلِفُ مَعَ الشَّاهِدِ، وَإِنْ قَالَ الْمُرْتَهِنُ: دَيْنِي مِائَةٌ وَخَمْسُونَ صَارَ مُدَّعِيًا فِي الْخَمْسِينَ. وَلَوْ هَلَكَ الرَّهْنُ فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا يَسْقُطُ الدَّيْنُ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ، وَظَنُّوا بِنَا أَنَّ الدَّيْنَ يَسْقُطُ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّمَا نَسْتَوْفِي بِهِ إذَا هَلَكَ، وَكَانَ مِمَّا يُعَابُ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [مَسْأَلَةٌ أَسْقَطَ الْكِتَابَ وَالْإِشْهَادَ وَالرَّهْنَ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [البقرة: 283] مَعْنَاهُ إنْ أَسْقَطَ الْكِتَابَ وَالْإِشْهَادَ وَالرَّهْنَ، وَعَوَّلَ عَلَى أَمَانَةِ الْمُعَامِلِ، فَلْيُؤَدِّ الَّذِي ائْتُمِنَ الْأَمَانَةَ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ كَمَا بَيَّنَّاهُ، وَلَوْ كَانَ الْإِشْهَادُ وَاجِبًا لَمَا جَازَ إسْقَاطُهُ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ وَثِيقَةٌ، وَكَذَلِكَ هُوَ عِنْدَنَا فِي النِّكَاحِ، وَقَالَ الْمُخَالِفُونَ: هُوَ وَاجِبٌ فِي النِّكَاحِ، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّ هَذَا نَاسِخٌ لِلْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ، وَتَابَعَهُمْ جَمَاعَةٌ؛ وَلَا مُنَازَعَةَ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ، بَلْ هُوَ جَائِزٌ، وَحَبَّذَا الْمُوَافَقَةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَلَا نُبَالِي مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي الدَّلِيلِ. وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْإِشْهَادَ حَزْمٌ، وَالِائْتِمَانَ وَثِيقَةٌ بِاَللَّهِ مِنْ الْمُدَايِنِ، وَمُرُوءَةٌ مِنْ

مسألة معنى قوله تعالى ولا تكتموا الشهادة

الْمَدِينِ، وَفِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ذُكِرَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إسْرَائِيلَ أَنْ يُسَلِّفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدْهُمْ، فَقَالَ: كَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا قَالَ: فَأْتِنِي بِالْكَفِيلِ. قَالَ: كَفَى بِاَللَّهِ كَفِيلًا. قَالَ: صَدَقْت. فَدَفَعَهَا إلَيْهِ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى. فَخَرَجَ الرَّجُلُ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا إلَى الْبَحْرِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنَّك تَعْلَمُ أَنِّي تَسَلَّفْت فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَأَلَنِي كَفِيلًا فَقُلْت: كَفَى بِاَللَّهِ كَفِيلًا فَرَضِيَ بِذَلِكَ وَسَأَلَنِي شَهِيدًا فَقُلْت: كَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا فَرَضِيَ بِذَلِكَ وَإِنِّي جَهَدْت أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ. وَإِنِّي اسْتَوْدَعَتْكهَا. فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إلَى بَلَدِهِ. فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ فَأَتَى بِالْأَلْفِ دِينَارٍ، وَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا زِلْت جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِك فَمَا وَجَدْت مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْت فِيهِ قَالَ: هَلْ كُنْت بَعَثْت إلَيَّ شَيْئًا؟ قَالَ: أُخْبِرُك أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْت بِهِ. قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْك الَّذِي بَعَثْت فِي الْخَشَبَةِ فَانْصَرِفْ بِالْأَلْفِ دِينَارٍ رَاشِدًا». وَقَدْ رُوِيَ، عَنْ سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ: نَسْخٌ لِكُلِّ مَا تَقَدَّمَ يَعْنِي مِنْ الْأَمْرِ بِالْكِتَابِ وَالْإِشْهَادِ وَالرَّهْنِ. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ] الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ خَمْسِينَ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] هَذَا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] بِكَسْرِ الْعَيْنِ؛ نَهْيُهُ الشَّاهِدَ عَنْ أَنْ يَضُرَّ بِكِتْمَانِ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ إثْمٌ بِالْقَلْبِ كَمَا لَوْ حَوَّلَهَا وَبَدَّلَهَا لَكَانَ كَذِبًا، وَهُوَ إثْمٌ بِاللِّسَانِ.

مسألة تعين الشهادة

[مَسْأَلَةٌ تَعَيَّنْ الشَّهَادَة] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْخَمْسُونَ: إذَا كَانَ عَلَى الْحَقِّ شُهُودٌ تَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ أَدَاؤُهَا عَلَى الْكِفَايَةِ، فَإِنْ أَدَّاهَا اثْنَانِ وَاجْتَزَأَ بِهِمَا الْحَاكِمُ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْ الْبَاقِينَ، وَإِنْ لَمْ يَجْتَزِئْ بِهِمَا تَعَيَّنَ الْمَشْيُ إلَيْهِ حَتَّى يَقَعَ الْإِثْبَاتُ، وَهَذَا يُعْلَمُ بِدُعَاءِ صَاحِبِهَا، فَإِذَا قَالَ لَهُ: أَحْيِ حَقِّي بِأَدَاءِ مَا عِنْدَك لِي مِنْ شَهَادَةٍ تَعَيَّنَ ذَلِكَ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَةٌ التَّوْثِيقِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْحُقُوقِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْخَمْسُونَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالتَّوْثِيقِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْحُقُوقِ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى الْمُحَافَظَةِ فِي مُرَاعَاةِ الْمَالِ وَحِفْظِهِ، وَيُعْتَضَدُ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ». [الْآيَة الْمُوفِيَة تِسْعِينَ قَوْله تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا] لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286] فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] هَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي الدِّينِ، وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ شَرِيعَةِ الْمُسْلِمِينَ شَرَّفَنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْأُمَمِ بِهَا، فَلَمْ يُحَمِّلْنَا إصْرًا وَلَا كَلَّفَنَا فِي مَشَقَّةٍ أَمْرًا، وَقَدْ كَانَ مَنْ سَلَفَ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ إذَا أَصَابَ الْبَوْلُ ثَوْبَ أَحَدِهِمْ قَرَضَهُ بِالْمِقْرَاضِ، فَخَفَّفَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ إلَى وَظَائِفِ عَلَى الْأُمَمِ حَمَلُوهَا، وَرَفَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ».

مسألة القود واجب على شريك الأب

[مَسْأَلَةٌ الْقَوَدَ وَاجِبٌ عَلَى شَرِيكِ الْأَبِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] ذَكَرَ عُلَمَاؤُنَا هَذِهِ الْآيَةَ فِي أَنَّ الْقَوَدَ وَاجِبٌ عَلَى شَرِيكِ الْأَبِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَى شَرِيكِ الْخَاطِئِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ اكْتَسَبَ الْقَتْلَ؛ وَقَالُوا: إنَّ اشْتِرَاكَ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ مَعَ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ شُبْهَةٌ فِي دَرْءِ مَا يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [مَسْأَلَةٌ الْفِعْلَ الْوَاقِعَ خَطَأً أَوْ نِسْيَانًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى: {لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] تَعَلَّقَ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الْفِعْلَ الْوَاقِعَ خَطَأً أَوْ نِسْيَانًا لَغْوٌ فِي الْأَحْكَامِ، كَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَغْوًا فِي الْآثَامِ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَهُمْ بِقَوْلِهِ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ». وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَصِحَّ، وَالْآيَةُ إنَّمَا جَاءَتْ لِرَفْعِ الْإِثْمِ الثَّابِتِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] فَأَمَّا أَحْكَامُ الْعِبَادِ وَحُقُوقُ النَّاسِ فَثَابِتَةٌ حَسَبَ مَا يُبَيَّنُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

سورة آل عمران فيها ست وعشرون آية

[سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ فِيهَا سِتّ وَعِشْرُونَ آيَة] [الْآيَة الْأُولَى إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ] الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَإِنْ أَدَّى إلَى قَتْلِ الْآمِرِ بِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ " الْمُشْكِلَيْنِ " الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآيَاتُهُ وَأَخْبَارُهُ وَشُرُوطُهُ وَفَائِدَتِهِ. وَسَنُشِيرُ إلَى بَعْضِهِ هَاهُنَا فَنَقُولُ: الْمُسْلِمُ الْبَالِغُ الْقَادِرُ يَلْزَمُهُ تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ؛ وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَالْأَخْبَارُ مُتَظَاهِرَةٌ، وَهِيَ فَائِدَةُ الرِّسَالَةِ وَخِلَافَةِ النُّبُوَّةِ، وَهِيَ وِلَايَةُ الْإِلَهِيَّةِ لِمَنْ اجْتَمَعَتْ فِيهِ الشُّرُوطُ الْمُتَقَدِّمَةُ. وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَقَالَتْ الْمُبْتَدِعَةُ: لَا يُغَيِّرُ الْمُنْكَرَ إلَّا عَدْلٌ، وَهَذَا سَاقِطٌ؛ فَإِنَّ الْعَدَالَةَ مَحْصُورَةٌ فِي قَلِيلٍ مِنْ الْخَلْقِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ النَّاسِ. فَإِنْ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} [البقرة: 44] وقَوْله تَعَالَى {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] وَنَحْوِهِ. قُلْنَا: إنَّمَا وَقَعَ الذَّمُّ هَاهُنَا عَلَى ارْتِكَابِ مَا نُهِيَ عَنْهُ، لَا عَنْ نَهْيِهِ عَنْ الْمُنْكَرِ

الآية الثانية قوله تعالى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب

وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى قَوْمًا تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، فَقِيلَ لَهُ: هُمْ الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيَأْتُونَهُ، إنَّمَا عُوقِبُوا عَلَى إتْيَانِهِمْ». وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ مِمَّنْ يَأْتِيه أَقْبَحُ مِمَّنْ لَا يَأْتِيه عِنْدَ فَاعِلِهِ فَيَبْعُدُ قَبُولُهُ مِنْهُ. وَأَمَّا الْقُدْرَةُ فَهِيَ أَصْلٌ، وَتَكُونُ مِنْهُ فِي النَّفْسِ وَتَكُونُ فِي الْبَدَنِ إنْ احْتَاجَ إلَى النَّهْيِ عَنْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ تَغْيِيرِهِ الضَّرْبَ أَوْ الْقَتْلَ، فَإِنْ رَجَا زَوَالَهُ جَازَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ الِاقْتِحَامُ عِنْدَ هَذَا الْغَرَرِ، وَإِنْ لَمْ يَرْجُ زَوَالَهُ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِيهِ؟ وَاَلَّذِي عِنْدَهُ: أَنَّ النِّيَّةَ إذَا خَلَصَتْ فَلْيَقْتَحِمْ كَيْفَمَا كَانَ وَلَا يُبَالِي. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا إلْقَاءٌ بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ. قُلْنَا: قَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْآيَةِ فِي مَوْضِعِهَا، وَتَمَامُهَا فِي شَرْحِ الْمُشْكِلَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْمُنْكَرُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ اللَّه تَعَالَى مَعَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْآدَمِيِّ؟ قُلْنَا: لَمْ نَرَ لِعُلَمَائِنَا فِي ذَلِكَ نَصًّا. وَعِنْدِي أَنَّ تَخْلِيصَ الْآدَمِيِّ أَوْجَبُ مِنْ تَخْلِيصِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَذَلِكَ مُمَهَّدٌ فِي مَوْضِعِهِ. . [الْآيَة الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ] ِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [آل عمران: 23] قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ ارْتِفَاعِ الْمَدْعُوِّ إلَى الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّهُ دُعِيَ إلَى كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ كَانَ مُخَالِفًا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الزَّجْرُ بِالْأَدَبِ عَلَى قَدْرِ الْمُخَالِفِ وَالْمُخَالَفِ.

الآية الثالثة قوله تعالى لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين

وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور: 48] [الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى لَا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ] َ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران: 28] هَذَا عُمُومٌ فِي أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَتَّخِذُ الْكَافِرَ وَلِيًّا فِي نَصْرِهِ عَلَى عَدُوِّهِ وَلَا فِي أَمَانَةٍ وَلَا بِطَانَةٍ. مِنْ دُونِكُمْ: يَعْنِي مِنْ غَيْرِكُمْ وَسِوَاكُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلا} [الإسراء: 2] وَقَدْ نَهَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ عَنْ ذِمِّيٍّ كَانَ اسْتَكْتَبَهُ بِالْيَمَنِ وَأَمَرَهُ بِعَزْلِهِ، وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: يُقَاتِلُ الْمُشْرِكُ فِي مُعَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ مَعَهُمْ لِعَدُوِّهِمْ، وَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا الْمَالِكِيَّةُ. وَالصَّحِيحُ مَنْعُهُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنَّا لَا نَسْتَعِينُ بِمُشْرِكٍ». وَأَقُولُ: إنْ كَانَتْ فِي ذَلِكَ فَائِدَةٌ مُحَقَّقَةٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ. [الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى إلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً] ً} [آل عمران: 28] فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إلَّا أَنْ تَخَافُوا مِنْهُمْ، فَإِنْ خِفْتُمْ مِنْهُمْ فَسَاعِدُوهُمْ وَوَالُوهُمْ وَقُولُوا مَا يَصْرِفُ عَنْكُمْ مِنْ شَرِّهِمْ وَأَذَاهُمْ بِظَاهِرٍ مِنْكُمْ لَا بِاعْتِقَادٍ؛ يُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ فَصِلُوهَا بِالْعَطِيَّةِ، كَمَا رُوِيَ «أَنَّ

الآية الخامسة قوله تعالى إذ قالت امرأة عمران

أَسْمَاءَ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. صِلِي أُمَّكِ». وَهَذَا وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي الدِّينِ فَلَيْسَ بِقَوِيٍّ فِي مَعْنَى الْآيَةِ وَإِنَّمَا فَائِدَتُهَا مَا تَقَدَّمَ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الْخَامِسَة قَوْله تَعَالَى إذْ قَالَتْ امْرَأَةُ عِمْرَانَ] الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران: 35] {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36] فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي حَقِيقَةِ النَّذْرِ: وَهُوَ الْتِزَامُ الْفِعْلِ بِالْقَوْلِ مِمَّا يَكُونُ طَاعَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مِنْ الْأَعْمَالِ قُرْبَةً. وَلَا يَلْزَمُ نَذْرُ الْمُبَاحِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى أَبَا إسْرَائِيلَ قَائِمًا: فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَقْعُدَ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَيَصُومَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مُرُوهُ فَلْيَصُمْ وَلْيَقْعُدْ وَلْيَسْتَظِلَّ»؛ فَأَخْبَرَهُ بِإِتْمَامِ الْعِبَادَةِ وَنَهَاهُ عَنْ فِعْلِ الْمُبَاحِ. وَأَمَّا الْمَعْصِيَةُ فَهِيَ سَاقِطَةٌ إجْمَاعًا؛ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ».

مسألة تعليق النذر بالحمل

[مَسْأَلَةٌ تَعْلِيقِ النَّذْرِ بِالْحَمْلِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي تَعْلِيقِ النَّذْرِ بِالْحَمْلِ: اعْلَمُوا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ أَنَّ الْحَمْلَ فِي حَيِّزِ الْعَدَمِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِوُجُودِهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ نَفْخٌ فِي الْبَطْنِ لِعِلَّةٍ وَحَرَكَةُ خَلْطٍ يَضْطَرِبُ، وَرِيحٌ يَنْبَعِثُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِوَلَدٍ؛ وَقَدْ يَغْلِبُ عَلَى الْبَطْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَالَةٍ، وَقَدْ يَشْكُلُ الْحَالُ؛ فَإِنْ فَرَضْنَا غَلَبَةَ الظَّنِّ فِي كَوْنِهِ حَمْلًا فَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْعُقُودَ الَّتِي تَرِدُ عَلَيْهِ وَتَتَعَلَّقُ بِهِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ. وَالثَّانِي: عَقْدٌ مُطْلَقٌ لَا عِوَضِيَّةَ فِيهِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ عَقْدُ الْمُعَاوَضَةِ فَإِنَّهُ سَاقِطٌ فِيهِ إجْمَاعًا، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ». وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ الْعَقْدَ إذَا تَضَمَّنَ الْعِوَضَ وَجَبَ تَنْزِيهُهُ عَنْ الْجَهَالَةِ وَالْغَرَرِ فِي حُصُولِ الْفَائِدَةِ الَّتِي بَذَلَ الْمَرْءُ فِيهَا مَالَهُ، فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ حُصُولُ تِلْكَ الْفَائِدَةِ كَانَ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ. وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ الْعَقْدُ الْمُطْلَقُ الْمُجَرَّدُ مِنْ الْعِوَضِ كَالْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ وَالنَّذْرِ فَإِنَّهُ يَرِدُ عَلَى الْحَمْلِ؛ لِأَنَّ الْغَرَرَ فِيهِ مُنْتَفٍ إذْ هُوَ تَبَرُّعٌ مُجَرَّدٌ؛ فَإِنْ اتَّفَقَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَإِنْ تَعَذَّرَ لَمْ يَسْتَضِرَّ أَحَدٌ.

مسألة معنى قوله تعالى إذ قالت امرأة عمران إلخ

[مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى إذْ قَالَتْ امْرَأَةُ عِمْرَانَ إِلَخْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: كَانَ لِعِمْرَانَ بْنِ مَاثَانَ ابْنَتَانِ: إحْدَاهُمَا حِنَّةُ وَالْأُخْرَى يملشقع وَبَنُو مَاثَانَ مِنْ مُلُوكِ بَنِي إسْرَائِيلَ مِنْ نَسْلِ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَكَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لَا يُحَرَّرُ إلَّا الْغِلْمَانُ، فَلَمَّا نَذَرَتْ قَالَ لَهَا زَوْجُهَا عِمْرَانُ: أَرَأَيْتُكِ إنْ كَانَ مَا فِي بَطْنِكِ أُنْثَى كَيْفَ نَفْعَلُ؟ فَاهْتَمَّتْ لِذَلِكَ فَقَالَتْ: إنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا، فَتَقَبَّلْ مِنِّي إنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. وَذَلِكَ لِأَنَّهَا كَانَتْ لَا وَلَدَ لَهَا، فَلَمَّا حَمَلَتْ نَذَرَتْ إنْ اللَّهُ أَكْمَلَ لَهَا الْحَمْلَ وَوَضَعَتْهُ فَإِنَّهُ حَبْسٌ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ: جَعَلَتْهُ نَذْرًا تَفِي بِهِ. قَالُوا: فَلَمَّا وَضَعَتْهَا رَبَّتْهَا حَتَّى تَرَعْرَعَتْ، وَحِينَئِذٍ أَرْسَلَتْهَا. وَقِيلَ: لَفَّتْهَا فِي خِرَقِهَا وَقَالَتْ: رَبِّ إنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى، وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى، وَقَدْ سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ، وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَأَرْسَلَتْهَا إلَى الْمَسْجِدِ وَفَاءً بِنَذْرِهَا، كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ مَالِكٌ، وَتَبَرِّيًا مِنْهَا حِينَ حَرَّرَتْهَا لِلَّهِ، أَيْ خَلَصَتْهَا. وَالْمُحَرَّرُ وَالْحُرُّ: هُوَ الْخَالِصُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: لَا خِلَافَ أَنَّ امْرَأَةَ عِمْرَانَ لَا يَتَطَرَّقُ إلَى حَمْلِهَا نَذْرٌ لِكَوْنِهَا حُرَّةً، فَلَوْ كَانَتْ امْرَأَتُهُ أَمَةً فَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمَرْءَ لَا يَصِحُّ لَهُ نَذْرُ وَلَدِهِ كَيْفَ مَا تَصَرَّفَتْ حَالُهُ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ النَّاذِرُ عَبْدًا لَمْ يَتَقَرَّرْ لَهُ قَوْلٌ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ النَّاذِرُ حُرًّا فَوَلَدُهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لَهُ؛ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ مِثْلُهُ؛ وَأَيُّ وَجْهٍ لِلنَّذْرِ فِيهِ؟ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْمَرْءَ إنَّمَا يُرِيدُ وَلَدَهُ لِلْأُنْسِ بِهِ وَالِاسْتِبْصَارِ وَالتَّسَلِّي وَالْمُؤَازَرَةِ؛ فَطَلَبَتْ الْمَرْأَةُ الْوَلَدَ أُنْسًا بِهِ وَسُكُونًا إلَيْهِ، فَلَمَّا مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا بِهِ نَذَرَتْ أَنَّ حَظَّهَا مِنْ الْأُنْسِ بِهِ مَتْرُوكٌ فِيهِ؛ وَهُوَ عَلَى خِدْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَوْقُوفٌ. وَهَذَا نَذْرُ الْأَحْرَارِ مِنْ الْأَبْرَارِ، وَأَرَادَتْ بِهِ مُحَرَّرًا مِنْ جِهَتِي، مُحَرَّرًا مِنْ رِقِّ الدُّنْيَا وَأَشْغَالِهَا. فَتَقَبَّلْهُ مِنِّي.

مسألة قوله تعالى وليس الذكر كالأنثى

وَقَدْ قَالَ رَجُلٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ لِأُمِّهِ: يَا أُمَّاهُ؛ ذَرِينِي لِلَّهِ أَتَعَبَّدْ لَهُ وَأَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ. فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَسَارَ حَتَّى تَبَصَّرَ ثُمَّ عَادَ إلَيْهَا فَدَقَّ الْبَابَ، فَقَالَتْ: مَنْ؟ قَالَ: ابْنُكِ فُلَانٌ. قَالَتْ: قَدْ تَرَكْنَاكَ لِلَّهِ وَلَا نَعُودُ فِيك. [مَسْأَلَةٌ قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَوْلُهُ: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران: 36] يُحْتَمَلُ أَنْ تُرِيدَ بِهِ فِي كَوْنِهَا تَحِيضُ وَلَا تَصْلُحُ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ لِلْمَسْجِدِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تُرِيدَ بِهَا أَنَّهَا امْرَأَةٌ فَلَا تَصْلُحُ لِمُخَالَطَةِ الرِّجَالِ؛ وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَقَدْ تَبَرَّأَتْ مِنْهَا، وَلَعَلَّ الْحِجَابَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ كَمَا كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ. وَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ: «أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمَّ الْمَسْجِدَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». وَفِيهِ اخْتِلَافٌ فِي الرِّوَايَةِ كَثِيرٌ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ رِوَايَةُ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَهُ التَّعَلُّقُ بِشَرَائِعِ الْمَاضِينَ فِي الْأَحْكَامِ وَالْآدَابِ؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. [مَسْأَلَةٌ حَقّ الْحَضَانَةَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ لَوْ صَحَّ أَنَّهَا أَسْلَمَتْهَا فِي خِرَقِهَا إلَى الْمَسْجِدِ فَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا لَكَانَ ذَلِكَ فِي أَنَّ الْحَضَانَةَ حَقٌّ لِلْأُمِّ أَصْلًا. وَقَدْ اخْتَلَفَتْ فِيهِ رِوَايَةُ عُلَمَائِنَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْحَضَانَةَ حَقٌّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ. الثَّانِي: أَنَّهَا حَقٌّ لِلْأُمِّ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا حَقٌّ لِلْوَلَدِ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ بِوَاضِحِ الدَّلِيلِ. [مَسْأَلَةٌ النَّذْرِ فِي الْحَمْلِ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ الْقَوْلُ وَالتَّأْوِيلُ فَإِنَّ الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ النَّذْرِ فِي الْحَمْلِ، وَكُلُّ عَقْدٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عِوَضٌ بِدَلِيلِ إجْمَاعِهِمْ عَلَى نُفُوذِ الْعِتْقِ فِيهِ، وَالنَّذْرُ مِثْلُهُ.

مسألة المطاوعة في نهار رمضان لزوجها على الوطء

[مَسْأَلَةٌ الْمُطَاوَعَةَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ لِزَوْجِهَا عَلَى الْوَطْءِ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُطَاوَعَةَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ لِزَوْجِهَا عَلَى الْوَطْءِ لَا تُسَاوِيهِ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِمْ قَوْله تَعَالَى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران: 36]. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَعَجَبًا لِغَفْلَتِهِ وَغَفْلَةِ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ عَنْهُ حِينَ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ وَحَاجَّهُ فِيهِ، وَهَذَا خَبَرٌ عَنْ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا؛ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا لَيْسَ شَرْعًا لَنَا، فَاسْكُتْ وَاصْمُتْ. ثُمَّ نَقُولُ لِأَنْفُسِنَا: نَحْنُ نَعْلَمُ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ الْفَرْقَ بَيْنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي جَاءَتْ بِلَفْظِ الْعُمُومِ وَهِيَ عَلَى قَصْدِ الْعُمُومِ، وَاَلَّتِي جَاءَتْ بِلَفْظِ الْعُمُومِ وَهِيَ عَلَى قَصْدِ الْخُصُوصِ. وَهَذِهِ الصَّالِحَةُ إنَّمَا قَصَدَتْ بِكَلَامِهَا مَا تَشْهَدُ لَهُ بَيِّنَةُ حَالِهَا وَمَقْطَعُ كَلَامِهَا فَإِنَّهَا نَذَرَتْ خِدْمَةَ الْمَسْجِدِ فِي وَلَدِهَا، وَرَأَتْهُ أُنْثَى لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ بَرْزَةً، وَإِنَّمَا هِيَ عَوْرَةٌ؛ فَاعْتَذَرَتْ إلَى رَبِّهَا مِنْ وُجُودِهَا لَهَا عَلَى خِلَافِ مَا قَصَدَتْهُ فِيهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ الْعُمُومَ الْمَقْصُودُ بِهِ الْعُمُومَ وَغَيْرَهُ، وَسَاعَدَنَا عَلَيْهِ ابْنُ الْجُوَيْنِيِّ، وَحَقَّقْنَاهُ؛ فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ. [مَسْأَلَةٌ الذُّرِّيَّةَ قَدْ تَقَعُ عَلَى الْوَلَدِ خَاصَّةً] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَالَتْ: إنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَكَانَتْ الْمُعَاذَةُ هِيَ وَابْنُهَا عِيسَى، فَبِهِمَا وَقَعَ الْقَبُولُ مِنْ جُمْلَةِ الذُّرِّيَّةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الذُّرِّيَّةَ قَدْ تَقَعُ عَلَى الْوَلَدِ خَاصَّةً، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْعَقِب مِنْ الْأَحْكَامِ. وَفِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة السَّادِسَة قَوْله تَعَالَى فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ] ِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 39] اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَصُورَ هُوَ الْعِنِّينُ وَهُمْ الْأَكْثَرُ، وَمِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ.

الآية السابعة قوله تعالى ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ الَّذِي يَكُفُّ عَنْ النِّسَاءِ وَلَا يَأْتِيهِنَّ مَعَ الْقُدْرَةِ، مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ؛ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَدْحٌ وَثَنَاءٌ عَلَيْهِ، وَالْمَدْحُ وَالثَّنَاءُ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْفَضْلِ الْمُكْتَسَبِ دُونَ الْجِبِلَّةِ فِي الْغَالِبِ. الثَّانِي: أَنَّ حَصُورًا فَعُولًا؛ وَبِنَاءُ فَعُولٍ فِي اللُّغَةِ مِنْ صِيَغِ الْفَاعِلِينَ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الْحَصُورُ: الْبَخِيلُ، وَالْهَيُوبُ الَّذِي يُحْجِمُ عَنْ الشَّيْءِ؛ وَالْكَاتِمُ السِّرَّ؛ وَهَذَا بِنَاءُ فَاعِلٍ. وَالْحَصُورُ عِنْدَهُمْ: النَّاقَةُ الَّتِي لَا يَخْرُجُ لَبَنُهَا مِنْ ضِيقِ إحْلِيلِهَا. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ. وَقَدْ جَاءَ فَعُولٌ بِمَعْنَى مُفْعَلٍ، تَقُولُ: رَسُولٌ بِمَعْنَى مُرْسَلٍ، وَلَكِنَّ الْغَالِبَ مَا تَقَدَّمَ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَيَحْيَى كَانَ كَافًّا عَنْ النِّسَاءِ عَنْ قُدْرَةٍ فِي شَرْعِهِ، فَأَمَّا شَرْعُنَا فَالنِّكَاحُ. رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ عَنْ التَّبَتُّلِ قَالَ الرَّاوِي: وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا»، وَلِهَذَا بَالَغَ قَوْمٌ فَقَالُوا: النِّكَاحُ وَاجِبٌ، وَقَصَرَ آخَرُونَ فَقَالُوا مُبَاحٌ، وَتَوَسَّطَ عُلَمَاؤُنَا فَقَالُوا: مَنْدُوبٌ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ النَّاكِحِ وَالزَّمَانِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَسَتَرَوْنَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. [الْآيَة السَّابِعَة قَوْله تَعَالَى ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إلَيْكَ] َ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44] فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي كَيْفِيَّةِ فِعْلِهِمْ: وَاخْتَلَفَ فِيهِ نَقْلُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى رِوَايَتَيْنِ:

مسألة مشروعية القرعة

الْأُولَى: رُوِيَ أَنَّ زَكَرِيَّا قَالَ: أَنَا أَحَقُّ بِهَا، خَالَتُهَا عِنْدِي. وَقَالَ بَنُو إسْرَائِيلَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِهَا، بِنْتُ عَالِمِنَا، فَاقْتَرَعُوا عَلَيْهَا بِالْأَقْلَامِ، وَجَاءَ كُلُّ وَاحِدٍ بِقَلَمِهِ، وَاتَّفَقُوا أَنْ يَجْعَلُوا الْأَقْلَامَ فِي الْمَاءِ الْجَارِي، فَمَنْ وَقَفَ قَلَمُهُ وَلَمْ يَجْرِ فِي الْمَاءِ فَهُوَ صَاحِبُهَا. قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فَجَرَتْ الْأَقْلَامُ وَعَالَ قَلَمُ زَكَرِيَّا» كَانَتْ آيَةً؛ لِأَنَّهُ نَبِيٌّ تَجْرِي الْآيَاتُ عَلَى يَدِهِ. الثَّانِي: أَنَّ زَكَرِيَّا كَانَ يَكْفُلُهَا حَتَّى كَانَ عَامُ مَجَاعَةٍ فَعَجَزَ وَأَرَادَ مِنْهُمْ أَنْ يَقْتَرِعُوا، فَاقْتَرَعُوا، فَوَقَعَتْ الْقُرْعَةُ عَلَيْهِمْ لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ تَخْصِيصِهِ بِهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَنَّهَا لَمَّا نَذَرَتْهَا لِلَّهِ تَخَلَّتْ عَنْهَا حِينَ بَلَغَتْ السَّعْيَ، وَاسْتَقَلَّتْ بِنَفْسِهَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا بُدٌّ مِنْ قَيِّمٍ، إذْ لَا يُمْكِنُ انْفِرَادُهَا بِنَفْسِهَا، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَكَانَ مَا كَانَ. [مَسْأَلَةٌ مَشْرُوعِيَّة الْقُرْعَةُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقُرْعَةُ أَصْلٌ فِي شَرِيعَتِنَا؛ ثَبَتَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا»، وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَرَهُ مَالِكٌ شَرْعًا. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ دِينٌ وَمِنْهَاجٌ لَا يَتَعَدَّى، وَثَبَتَ عَنْهُ أَيْضًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ عَبِيدًا لَهُ سِتَّةً فِي مَرَضِهِ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ فَأَقْرَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمْ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً».

مسألة أحق الناس الحضانة بعد الجدة

وَهَذَا مِمَّا رَآهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ؛ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْقُرْعَةَ فِي شَأْنِ زَكَرِيَّا وَأَزْوَاجِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَتْ مِمَّا لَوْ تَرَاضَوْا عَلَيْهِ دُونَ قُرْعَةٍ لَجَازَ. وَأَمَّا حَدِيثُ الْأَعْبُدِ فَلَا يَصِحُّ التَّرَاضِي فِي الْحُرِّيَّةِ وَلَا الرِّضَا؛ لِأَنَّ الْعُبُودِيَّةَ وَالرِّقَّ إنَّمَا ثَبَتَتْ بِالْحُكْمِ دُونَ قُرْعَةٍ فَجَازَتْ، وَلَا طَرِيقَ لِلتَّرَاضِي فِيهَا، وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ الْقُرْعَةَ إنَّمَا فَائِدَتُهَا اسْتِخْرَاجُ الْحُكْمِ الْخَفِيِّ عِنْدَ التَّشَاحِّ فَأَمَّا مَا يُخْرِجُهُ التَّرَاضِي فِيهِ فَبَابٌ آخَرُ، وَلَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ الْقُرْعَةَ تَجْرِي فِي مَوْضِعِ التَّرَاضِي، وَإِنَّهَا لَا تَكُونُ أَبَدًا مَعَ التَّرَاضِي فَكَيْفَ يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهَا مَعَ التَّرَاضِي؟ ثُمَّ يُقَالُ: إنَّهَا لَا تَجْرِي إلَّا عَلَى حُكْمِهِ وَلَا تَكُونُ إلَّا فِي مَحِلِّهِ؛ وَهَذَا بَعِيدٌ. [مَسْأَلَةٌ أَحَقُّ النَّاسِ الْحَضَانَةِ بَعْدَ الْجَدَّةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَدْ رُوِيَ أَنَّ مَرْيَمَ كَانَتْ بِنْتَ أُخْتِ زَوْجِ زَكَرِيَّا، وَيُرْوَى أَنَّهَا كَانَتْ بِنْتَ عَمِّهِ، وَقِيلَ مِنْ قَرَابَتِهِ؛ فَأَمَّا الْقَرَابَةُ فَمَقْطُوعٌ بِهَا، وَتَعْيِينُهَا مِمَّا لَمْ يَصِحَّ. وَهَذَا جَرَى فِي الشَّرِيعَةِ الَّتِي قَبْلَنَا، فَأَمَّا إذَا وَقَعَ فِي شَرِيعَتِنَا فَالْخَالَةُ أَحَقُّ بِالْحَضَانَةِ بَعْدَ الْجَدَّةِ مِنْ سَائِرِ الْقَرَابَةِ وَالنَّاسِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَضَى بِهَا لِلْخَالَةِ، وَنَصُّ الْحَدِيثِ خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد قَالَ: «خَرَجَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ إلَى مَكَّةَ فَقَدِمَ بِابْنَةِ حَمْزَةَ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَاسْمُهَا أَمَةُ اللَّهِ، وَأُمُّهَا سَلْمَى بِنْتُ عُمَيْسٍ أُخْتُ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ فَقَالَ جَعْفَرٌ: أَنَا أَحَقُّ بِهَا؛ ابْنَةُ عَمِّي، وَعِنْدِي خَالَتُهَا، وَإِنَّمَا الْخَالَةُ أُمٌّ. وَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا أَحَقُّ بِهَا وَعِنْدِي ابْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَأَنَا أَحَقُّ بِهَا. وَقَالَ زَيْدٌ: أَنَا أَحَقُّ بِهَا، خَرَجْت إلَيْهَا وَسَافَرْت وَقَدِمْت بِهَا، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرَ شَيْئًا، وَقَالَ: أَمَّا الْجَارِيَةُ فَأَقْضِي بِهَا لِجَعْفَرٍ تَكُونُ مَعَ خَالَتِهَا، وَإِنَّمَا الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ». الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَذَا إذَا كَانَتْ الْخَالَةُ أَيِّمًا، فَأَمَّا إنْ تَزَوَّجَتْ، وَكَانَ زَوْجُهَا أَجْنَبِيًّا فَلَا حَضَانَةَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْأُمَّ تَسْقُطُ حَضَانَتُهَا بِالزَّوْجِ الْأَجْنَبِيِّ، فَكَيْفَ بِأُخْتِهَا وَبِأُمِّهَا وَالْبَدَلِ عَنْهَا.

الآية الثامنة قوله تعالى فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم

فَإِنْ كَانَ وَلِيًّا لَمْ تَسْقُطْ حَضَانَتُهَا كَمَا لَمْ تَسْقُطْ حَضَانَةُ زَوْجِ جَعْفَرٍ؛ لِكَوْنِ جَعْفَرٍ وَلِيًّا لِابْنَةِ حَمْزَةَ وَهِيَ بُنُوَّةُ الْعَمِّ. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ كَانَ وَصِيَّ حَمْزَةَ فَتَكُونُ الْخَالَةُ عَلَى هَذَا أَحَقَّ مِنْ الْوَصِيِّ، وَيَكُونُ ابْنُ الْعَمِّ إذَا كَانَ زَوْجًا غَيْرَ قَاطِعٍ لِلْخَالَةِ فِي الْحَضَانَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْرَمًا لَهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ اسْمَ الْكُلِّ وَوَصْفَ قَرَابَتِهِ. [الْآيَة الثَّامِنَة قَوْله تَعَالَى فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ] ِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61] فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رَوَى الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاظَرَ أَهْلَ نَجْرَانَ حَتَّى ظَهَرَ عَلَيْهِمْ بِالدَّلِيلِ وَالْحُجَّةِ، فَأَبَوْا الِانْقِيَادَ وَالْإِسْلَامَ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ، فَدَعَا حِينَئِذٍ فَاطِمَةَ وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، ثُمَّ دَعَا النَّصَارَى إلَى الْمُبَاهَلَةِ. [مَسْأَلَةٌ دُخُول ابْنَ الْبِنْتِ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْحَبْسِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ ابْنَاهُ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَسَنِ: «إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ».

الآية التاسعة قوله تعالى ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك

فَتَعَلَّقَ بِهَذَا مَنْ قَالَ: إنَّ الِابْنَ مِنْ الْبِنْتِ يَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْحَبْسِ، وَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَلَيْسَ فِيهَا حُجَّةٌ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: إنَّ هَذَا الْإِطْلَاقَ مَجَازٌ، وَبَيَانُهُ هُنَالِكَ. [الْآيَة التَّاسِعَة قَوْله تَعَالَى وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ] َ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 75] فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: قِيلَ: نَزَلَتْ فِي نَصَارَى نَجْرَانَ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ الْيَهُودِ تَابَعَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعَرَبِ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا قَالَ لَهُمْ الْيَهُودُ: تَرَكْتُمْ دِينَكُمْ، فَلَيْسَ لَكُمْ عِنْدَنَا حَقٌّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الدِّينَارُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ قِيرَاطًا، وَالْقِيرَاطُ ثَلَاثُ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ، وَالْقِنْطَارُ أَرْبَعَةُ أَرْبَاعٍ، وَالرُّبْعُ ثَلَاثُونَ رِطْلًا، وَالرِّطْلُ اثْنَتَا عَشْرَةَ أُوقِيَّةً، وَالْأُوقِيَّةُ سِتَّةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَالدِّرْهَمُ سِتٌّ وَثَلَاثُونَ حَبَّةً مِنْ شَعِيرٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ مَشْرُوحًا فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ. [مَسْأَلَةٌ ائْتِمَان أَهْل الْكتاب عَلَى مَالٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَائِدَتُهَا النَّهْيُ عَنْ ائْتِمَانِهِمْ عَلَى مَالِ. وَقَالَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْعَرَبِيُّ: فَائِدَتُهَا أَلَّا يُؤْتَمَنُوا عَلَى دِينٍ؛ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 78] فَأَرَادَ أَلَّا يُؤْتَمَنُوا عَلَى نَقْلِ شَيْءٍ مِنْ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. قَالَ الْقَاضِي: وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهَا فِي الْمَالِ نَصٌّ، وَفِي الدِّينِ سُنَّةٌ؛ فَأَفَادَتْ الْمَعْنَيَيْنِ بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ.

مسألة أداء الأمانة

[مَسْأَلَةٌ أَدَاءَ الْأَمَانَةِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي قَوْله تَعَالَى: {مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَدَاءَ الْأَمَانَةِ فِي الدِّينَارِ بِالنَّصِّ أَوْ بِالسُّنَّةِ أَوْ بِالْقِيَاسِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ قِيَاسٌ جَلِيٌّ، وَهُوَ أَعْلَى مَرَاتِبِهِ، وَهُنَاكَ تَجِدُونَهُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75] تَعَلَّقَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ فِي مُلَازَمَةِ الْغَرِيمِ لِلْمُفْلِسِ؛ وَأَبَاهُ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ؛ وَلَا حُجَّةَ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ مُلَازَمَةَ الْغَرِيمِ الْمَحْكُومِ بِعَدَمِهِ لَا فَائِدَةَ فِيهَا؛ إذْ لَا يُرْجَى مَا عِنْدَهُ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ هُنَاكَ. وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ النَّاسِ: إنَّ مَعْنَى {لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75] أَيْ حَافِظًا بِالشَّهَادَةِ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أَقْسَامُ هَذِهِ الْحَالِ ثَلَاثَةٌ: قِسْمٌ يُؤَدَّى، وَقِسْمٌ لَا يُؤَدَّى إلَّا مَا دُمْت عَلَيْهِ قَائِمًا، وَقِسْمٌ لَا يُؤَدَّى وَإِنْ دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا، إلَّا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الْقِسْمَيْنِ، لِأَنَّهُ الْغَالِبُ الْمُعْتَادُ، وَالثَّالِثُ نَادِرٌ؛ فَخَرَجَ الْكَلَامُ عَلَى الْغَالِبِ [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75] الْمَعْنَى فَعَلُوا ذَلِكَ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ظُلْمَهُمْ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ جَائِزٌ، تَقْدِيرُ كَلَامِهِمْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي ظُلْمِ الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ أَيْ إثْمٌ. وَقَوْلُهُمْ هَذَا كَذِبٌ صَادِرٌ عَنْ اعْتِقَادٍ بَاطِلٍ مُرَكَّبٍ عَلَى كُفْرٍ، فَإِنَّهُمْ أَخْبَرُوا عَنْ التَّوْرَاةِ بِمَا لَيْسَ فِيهَا، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 75]. [مَسْأَلَةٌ قَدْر الْأَمَانَةُ فِي الدِّينِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الْأَمَانَةُ عَظِيمَةُ الْقَدْرِ فِي الدِّينِ، وَمِنْ عَظِيمِ قَدْرِهَا أَنَّهَا تَقِفُ عَلَى جَنْبَتَيْ الصِّرَاطِ

مسألة الأكل من أموال أهل الذمة في الغزو

وَلَا يُمَكَّنُ مِنْ الْجَوَازِ إلَّا مَنْ حَفِظَهَا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَكِتَابِ شَرْحِ الْمُشْكِلَيْنِ؛ وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَيْكَ أَنْ تُؤَدِّيَهَا إلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ؛ فَتُقَابِلَ مَعْصِيَةً فِيكَ بِمَعْصِيَةٍ فِيهِ، عَلَى اخْتِلَافٍ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَكَ أَنْ تَغْدِرَ بِمَنْ غَدَرَ بِكَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: " بَابُ إثْمِ الْغَادِرِ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ ". فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ الشَّعْبِيُّ: مَنْ حَلَّ بِكَ فَاحْلُلْ بِهِ قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: يَعْنِي أَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يُقْتَلُ، وَلَكِنْ مَنْ عَرَضَ لَكَ فَاقْتُلْهُ وَحُلَّ أَنْتَ بِهِ أَيْضًا، مَنْ خَانَكَ فَخُنْهُ. قُلْنَا: تَحْرِيمُ الْمُحْرِمِ كَانَ بِشَرْطِ أَلَّا يَعْرِضَ لَهُ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ، وَالْأَمَانَةُ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ. [مَسْأَلَةٌ الْأَكْل مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْغَزْوِ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إنَّا نُصِيبُ فِي الْغَزْوِ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ الدَّجَاجَةَ وَالشَّاةَ وَنَقُولُ: لَيْسَ بِذَلِكَ عَلَيْنَا بَأْسٌ. فَقَالَ لَهُ: هَذَا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ؛ إنَّهُمْ إذَا أَدَّوْا الْجِزْيَةَ لَمْ تَحِلَّ لَكُمْ أَمْوَالُهُمْ إلَّا عَنْ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 75] هَذِهِ الْآيَةُ رَدٌّ عَلَى الْكَفَرَةِ الَّذِينَ يُحِلُّونَ وَيُحَرِّمُونَ مِنْ غَيْرِ تَحْلِيلِ اللَّهِ وَتَحْرِيمِهِ، وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ مِنْ الشَّرْعِ، وَمِنْ هَذَا يَخْرُجُ الرَّدُّ عَلَى مَنْ يَحْكُمُ بِالِاسْتِحْسَانِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَلَسْت أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ قَالَهُ. [الْآيَة الْعَاشِرَة قَوْله تَعَالَى إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا] أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77] فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:

مسألة قضاء الظاهر إذا علم المحكوم له بطلانه

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: قَالَ قَوْمٌ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ؛ كَتَبُوا كِتَابًا وَحَلَفُوا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ حَلَفَ يَمِينًا فَاجِرَةً لِتُنَفَّقَ سِلْعَتُهُ فِي الْبَيْعِ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ. وَاَلَّذِي يَصِحُّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَصْدِيقَ ذَلِكَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} [آل عمران: 77] الْآيَةَ. قَالَ: فَجَاءَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ: فِي نَزَلَتْ، كَانَ لِي بِئْرٌ فِي أَرْضِ ابْنِ عُمَرَ، وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي. قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «بَيِّنَتُكَ أَوْ يَمِينُهُ». فَقُلْت: إذًا يَحْلِفُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ مَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ وَمَا رُوِيَ عَنْ الْيَهُودِ. [مَسْأَلَةٌ قَضَاء الظَّاهِرِ إذَا عَلِمَ الْمَحْكُومُ لَهُ بُطْلَانَهُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُحِلُّ الْمَالَ فِي الْبَاطِنِ بِقَضَاءِ الظَّاهِرِ، إذَا عَلِمَ الْمَحْكُومُ لَهُ بُطْلَانَهُ. وَقَدْ رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَأَنْتُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْهُ؛ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ»

الآية الحادية عشرة قوله تعالى ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة

وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا نَاقَضَ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَلَا، فَقَالَ: إنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ الْمَبْنِيَّ عَلَى الشَّهَادَةِ الْبَاطِلَةِ يُحِلُّ الْفَرْجَ لِمَنْ كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِي بُطْلَانُ قَوْلِهِ فِي آيَةِ اللِّعَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [الْآيَة الْحَادِيَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ] َ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79] {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 80] فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: قِيلَ: إنَّهَا نَزَلَتْ فِي نَصَارَى نَجْرَانَ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا إلَى قَوْلِهِ: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} [آل عمران: 121] كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا نَصَارَى نَجْرَانَ، وَلَكِنْ مُزِجَ مَعَهُمْ الْيَهُودُ؛ لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا مِنْ الْجَحْدِ وَالْعِنَادِ مِثْلَ فِعْلِهِمْ. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى رَبَّانِيِّينَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْله تَعَالَى: {رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران: 79] وَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَى الرَّبِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَفَاصِيلَ مَعْنَى اسْمِ الرَّبِّ فِي " الْأَمَدِ الْأَقْصَى "، وَهُوَ هَاهُنَا عِبَارَةٌ عَنْ الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ، وَكَأَنَّهُ يَقْتَدِي بِالرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي تَيْسِيرِ الْأُمُورِ الْمُجْمَلَةِ فِي الْعَبْدِ عَلَى مِقْدَارِ بَدَنِهِ مِنْ غِذَاءٍ وَبَلَاءٍ. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79] الْمَعْنَى: وَإِنَّ عِلْمَهُمْ بِالْكِتَابِ، وَدَرْسَهُمْ لَهُ يُوجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي شُرِحَتْ فِيهِ لَهُمْ.

مسألة معنى قوله تعالى ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا

[مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا} [آل عمران: 80] الْمَعْنَى: وَلَا آمُرُ الْخَلْقَ أَنْ يَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا يَعْبُدُونَهُمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَأْمُرُ بِالْكُفْرِ مَنْ أَسْلَمَ فِعْلًا، وَلَا يَأْمُرُ بِالْكُفْرِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّهُ مُحَالٌ عَقْلًا، فَلَمَّا لَمْ يَتَقَدَّرْ وَلَا تُصُوِّرَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ أَمْرٌ. [مَسْأَلَةٌ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يَتَّخِذُوا النَّاسَ عِبَادًا يَتَأَلَّهُونَ لَهُمْ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يَتَّخِذُوا النَّاسَ عِبَادًا يَتَأَلَّهُونَ لَهُمْ، وَلَكِنْ أَلْزَمَ الْخَلْقَ طَاعَتَهُمْ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي، وَلْيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي، وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ رَبِّي وَلْيَقُلْ سَيِّدِي». وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ يُوسُفَ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] وَقَالَ: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ» فَتَعَارَضَتْ. فَلَوْ تَحَقَّقْنَا التَّارِيخَ لَكَانَ الْآخَرُ رَافِعًا لِلْأَوَّلِ أَوْ مُبَيِّنًا لَهُ عَلَى اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي النَّسْخِ. وَإِذَا جَهِلْنَا التَّارِيخَ وَجَبَ النَّظَرُ فِي دَلَالَةِ التَّرْجِيحِ. وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ بِمَا الْكَافِي مِنْهُ الْآنَ لَكُمْ تَرْجِيحُ الْجَوَازِ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا كَانَ لِتَخْلِيصِ الِاعْتِقَادِ مِنْ أَنْ يَعْتَقِدَ لِغَيْرِ اللَّهِ عُبُودِيَّةً أَوْ فِي سِوَاهُ رُبُوبِيَّةً، فَلَمَّا حَصَلَتْ الْعَقَائِدُ كَانَ الْجَوَازُ. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ} [آل عمران: 79] قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ بِضَمِّ التَّاءِ، وَكَأَنَّ مَعْنَاهُ لَا تَتَّخِذُوهُمْ عِبَادًا بِحَقِّ

الآية الثانية عشرة قوله تعالى لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون

تَعْلِيمِكُمْ، فَإِنَّهُ فَرْضٌ عَلَيْكُمْ أَوْ إشْرَاكٌ فِي نِيَّتِكُمْ، أَوْ اسْتِعْجَالٌ لِأَجْرِكُمْ، أَوْ تَبْدِيلٌ لِأَمْرِ الْآخِرَةِ بِأَمْرِ الدُّنْيَا؛ وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ عَلَى قِرَاءَةِ فَتْحِ التَّاءِ. قَالَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْعَرَبِيُّ: كَذَلِكَ يَقْتَضِي صِفَةَ الْعِلْمِ وَقِرَاءَتَهُ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ إنَّمَا هُوَ لِلتَّعْلِيمِ لِتَحْرِيمِ كِتْمَانِ الْعِلْمِ، وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ قَرِيبٌ؛ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَحْرِيرِهِ. [الْآيَة الثَّانِيَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ] َ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران: 92] فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} [آل عمران: 92] مَعْنَاهُ تُصِيبُوا، يُقَالُ: نَالَنِي خَيْرٌ يَنُولُنِي، وَأَنَالَنِي خَيْرًا؛ وَيُقَالُ: نِلْتُهُ أَنُولُهُ مَعْرُوفًا وَنَوَّلْتُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا} [الحج: 37] أَيْ لَا يَصِلُ إلَى اللَّهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِتَقْدِيسِهِ عَنْ الِاتِّصَالِ وَالِانْفِصَالِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: {الْبِرَّ} [آل عمران: 92] وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ " الْأَمَدِ الْأَقْصَى " وَشَفَيْنَا النَّفْسَ مِنْ إشْكَالِهِ. قِيلَ: إنَّهُ ثَوَابُ اللَّهِ، وَقِيلَ: إنَّهُ الْجَنَّةُ؛ وَذَلِكَ يَصِلُ الْبِرُّ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ عَلَى الصِّفَاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: {حَتَّى تُنْفِقُوا} [آل عمران: 92] الْمَعْنَى حَتَّى تُهْلِكُوا، يُقَالُ: نَفِقَ إذَا هَلَكَ. الْمَعْنَى حَتَّى تُقَدِّمُوا مِنْ أَمْوَالِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ قُلُوبُكُمْ. [مَسْأَلَةٌ تَفْسِيرِ النَّفَقَةِ فِي قَوْله تَعَالَى حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ النَّفَقَةِ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَهِيَ صَدَقَةُ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ. وَقِيلَ: هِيَ سُبُلُ الْخَيْرِ كُلُّهَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِعُمُومِ الْآيَةِ.

الآية الثالثة عشرة قوله تعالى كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل

وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أَسْمَعُ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاك اللَّهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بَخٍ، بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ. ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْت مَا قُلْت فِيهَا، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ» فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ: أَنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ جَاءَ بِفَرَسٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ سَبَلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: تَصَدَّقْ بِهَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُسَامَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنَّمَا أَرَدْت أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قَدْ قَبِلْت صَدَقَتَكَ». الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: إنَّمَا تَصَدَّقَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قَرَابَةِ الْمُصَّدِّقِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّدَقَةَ فِي الْقَرَابَةِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهَا كَمَا قَالَ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ. الثَّانِي: أَنَّ نَفْسَ الْمُتَصَدِّقِ تَكُونُ بِذَلِكَ أَطْيَبَ وَأَسْلَمَ عَنْ تَطَرُّقِ النَّدَمِ إلَيْهَا. [الْآيَة الثَّالِثَةُ عَشْرَة قَوْله تَعَالَى كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إسْرَائِيلَ] َ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93]

مسألة تحريم إسرائيل الطعام على نفسه

فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: سَبَبُ نُزُولِهَا، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: رُوِيَ أَنَّ الْيَهُودَ أَنْكَرُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَحْلِيلَ لُحُومِ الْإِبِلِ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ بِتَحْلِيلِهَا لَهُمْ حَتَّى حَرَّمَهَا إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ. الْمَعْنَى: إنِّي لَمْ أُحَرِّمْهَا عَلَيْكُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ إسْرَائِيلُ هُوَ الَّذِي حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ. الثَّانِي: أَنَّ عِصَابَةً مِنْ الْيَهُودِ جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا لَهُ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ؛ أَخْبِرْنَا أَيُّ الطَّعَامِ حَرَّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ؟ فَقَالَ: «أَنْشُدُكُمْ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إسْرَائِيلَ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا طَالَ سَقَمُهُ فِيهِ فَنَذَرَ لَئِنْ عَافَاهُ اللَّهُ مِنْ سَقَمِهِ لَيُحَرِّمَنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ إلَيْهِ، وَكَانَ أَحَبَّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إلَيْهِ لُحُومُ الْإِبِلِ وَأَلْبَانُهَا؟» فَقَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ: قَالَ: «فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي دَعْوَاكُمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْزَلَ تَحْرِيمَ ذَلِكَ فِيهَا». رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنْ الْيَهُودِ جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا، فَرَجَمَهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَأَمَّا نُزُولُهَا فِي رَجْمِ الْيَهُودِ فَيَأْبَاهُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَأَمَّا سَائِرُهَا فَمُحْتَمَلٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ تَحْرِيمُ إسْرَائِيلَ الطَّعَام عَلَى نَفْسِهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي تَحْرِيمِ إسْرَائِيلَ عَلَى نَفْسِهِ؛ فَقِيلَ: كَانَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: كَانَ بِاجْتِهَادٍ، وَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ اجْتِهَادِ الْأَنْبِيَاءِ؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ.

مسألة حقيقة التحريم

وَاخْتُلِفَ فِي تَحْرِيمِ الْيَهُودِ ذَلِكَ. فَقِيلَ: إنَّ إسْرَائِيلَ حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: اقْتَدَوْا بِهِ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ، فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بَغْيَهُمْ، وَنَزَلَتْ بِهِ التَّوْرَاةُ، وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] وَالصَّحِيحُ أَنَّ لِلنَّبِيِّ أَنْ يَجْتَهِدَ؛ وَإِذَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى شَيْءٍ كَانَ دِينًا يَلْزَمُ اتِّبَاعُهُ لِتَقْرِيرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَمَا يُوحَى إلَيْهِ وَيَلْزَمُ اتِّبَاعُهُ، كَذَلِكَ يُؤْذَنُ لَهُ وَيَجْتَهِدُ، وَيَتَعَيَّنُ مُوجِبُ اجْتِهَادِهِ إذَا قُدِرَ عَلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ الْآيَةِ مَعَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَضَافَ التَّحْرِيمَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ إلَّا مَا حَرَّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَذِنَ لَهُ فِي تَحْرِيمِ مَا شَاءَ، وَلَوْلَا تَقَدَّمَ الْإِذْنُ لَهُ مَا تَسَوَّرَ عَلَى التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَتَقَدَّمَ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ الِاجْتِهَادِ فَحَرَّمَهُ مُجْتَهِدًا فَأَقَرَّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ. وَقَدْ حَرَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَسَلَ عَلَى الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ أَوْ جَارِيَتَهُ مَارِيَةُ فَلَمْ يُقِرَّ اللَّهُ تَحْرِيمَهُ، وَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اجْتِهَادًا أَوْ بِأَمْرٍ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَةٌ حَقِيقَةُ التَّحْرِيمِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: حَقِيقَةُ التَّحْرِيمِ الْمَنْعُ؛ فَكُلُّ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ شَيْءٍ مَعَ اعْتِقَادِهِ الِامْتِنَاعَ مِنْهُ فَقَدْ حَرَّمَهُ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِأَسْبَابٍ؛ إمَّا بِنَذْرٍ كَمَا فَعَلَ يَعْقُوبُ فِي تَحْرِيمِ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا؛ وَإِمَّا بِيَمِينٍ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعَسَلِ، أَوْ فِي جَارِيَتِهِ؛ فَإِنْ كَانَ بِنَذْرٍ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ فِي شَرْعِنَا. وَلَسْنَا نَتَحَقَّقُ كَيْفِيَّةَ تَحْرِيمِ يَعْقُوبَ؛ هَلْ كَانَ بِنَذْرٍ أَوْ بِيَمِينٍ؛ فَإِنْ كَانَ بِيَمِينٍ فَقَدْ أَحَلَّ اللَّهُ لَنَا الْيَمِينَ بِالْكَفَّارَةِ أَوْ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ رُخْصَةً مِنْهُ لَنَا، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِغَيْرِنَا مِنْ الْأُمَمِ. فَلَوْ قَالَ رَجُلٌ: حَرَّمْت الْخُبْزَ عَلَى نَفْسِي أَوْ اللَّحْمَ لَمْ يَحْرُمْ وَلَمْ يَنْعَقِدْ يَمِينًا؛ فَإِنْ قَالَ: حَرَّمْت أَهْلِي فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الآية الرابعة عشرة قوله تعالى إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة

وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ تَحْرِيمُ الْأَهْلِ إذَا ابْتَدَأَ بِتَحْرِيمِهَا كَمَا يُحَرِّمُهَا بِالطَّلَاقِ، وَلَا يَلْزَمُهُ تَحْرِيمُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [المائدة: 87]. [الْآيَة الرَّابِعَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةِ] َ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96] {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ لَهُ: أَيُّ الْمَسْجِدَيْنِ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلَ؟ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ أَوْ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى؟ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ». وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ عَامًا؛ وَهَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ: كَانَ فِي الْأَرْضِ بَيْتٌ قَبْلَهُ تَحُجُّهُ الْمَلَائِكَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي بَرَكَتِهِ: قِيلَ: ثَوَابُ الْأَعْمَالِ. وَقِيلَ: ثَوَابُ الْقَاصِدِ إلَيْهِ. وَقِيلَ: أَمْنُ الْوَحْشِ فِيهِ. وَقِيلَ: عُزُوفُ النَّفْسِ عَنْ الدُّنْيَا عِنْدَ رُؤْيَتِهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُبَارَكٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَذَلِكَ بِجَمِيعِهِ مَوْجُودٌ فِيهِ.

مسألة معنى قوله تعالى ببكة

[مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى بِبَكَّةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَأَمَّا قَوْلُهُ: {بِبَكَّةَ} [آل عمران: 96] فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: بَكَّةُ: مَكَّةُ. الثَّانِي: بَكَّةُ: الْمَسْجِدُ، وَمَكَّةُ سَائِرُ الْحَرَمِ. وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بَكَّةَ لِأَنَّهَا تَبُكُّ أَعْنَاقَ الْجَبَابِرَةِ، أَيْ تَقْطَعُهَا. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَقَتَادَةُ: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَكَّ بِهَا النَّاسَ؛ فَتُصَلِّي النِّسَاءُ بَيْنَ يَدَيْ الرِّجَالِ، وَلَا يَكُونُ فِي بَلَدٍ غَيْرِهَا، وَصُورَةُ هَذَا أَنَّ النَّاسَ يَسْتَدِيرُونَ بِالْبَيْتِ فَيَكُونُ وُجُوهُ الْبَعْضِ إلَى الْبَعْضِ فَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِقْبَالِ النِّسَاءِ مِنْ حَيْثُ صَلَّوْا. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى مَقَامُ إبْرَاهِيمَ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97] فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْحَجَرُ الْمَعْهُودُ، وَإِنَّمَا جُعِلَ آيَةً لِلنَّاسِ؛ لِأَنَّهُ جَمَادٌ صَلْدٌ وَقَفَ عَلَيْهِ إبْرَاهِيمُ، فَأَظْهَرَ اللَّهُ فِيهِ أَثَرَ قَدَمِهِ آيَةً بَاقِيَةً إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97] هُوَ الْحَجُّ كُلُّهُ؛ وَهَذَا بَيِّنٌ، فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ قَامَ بِأَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَنَادَى بِالْحَجِّ عِبَادَ اللَّهِ، فَجَمَعَ اللَّهُ الْعِبَادَ عَلَى قَصْدِهِ، وَكَانَتْ شِرْعَةً مِنْ عَهْدِهِ، وَحَجَّةً عَلَى الْعَرَبِ الَّذِينَ اقْتَدَوْا بِهِ مِنْ بَعْدِهِ.

مسألة استوجب حدا ثم لجأ إلى الحرم

وَفِيهِ مِنْ الْآيَاتِ أَنَّ مَنْ دَخَلَهُ خَائِفًا عَادَ آمِنًا؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ كَانَ صَرَفَ الْقُلُوبَ عَنْ الْقَصْدِ إلَى مُعَارَضَتِهِ، وَصَرَفَ الْأَيْدِي عَنْ إذَايَتِهِ، وَجَمَعَهَا عَلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُرْمَتِهِ. وَهَذَا خَبَرٌ عَمَّا كَانَ، وَلَيْسَ فِيهِ إثْبَاتُ حُكْمٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى آيَاتٍ، وَتَقْرِيرُ نِعَمٍ مُتَعَدِّدَاتٍ، مَقْصُودُهَا وَفَائِدَتُهَا وَتَمَامُ النِّعْمَةِ فِيهِ بَعْثُهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَمَنْ لَمْ يَشْهَدْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَيَرَى مَا فِيهَا مِنْ شَرَفِ الْمُقَدِّمَاتِ لِحُرْمَةِ مَنْ ظَهَرَ مِنْ تِلْكَ الْبُقْعَةِ فَهُوَ مِنْ الْأَمْوَاتِ. [مَسْأَلَةٌ اسْتَوْجَبَ حَدًّا ثُمَّ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّ مَنْ اقْتَرَفَ ذَنْبًا وَاسْتَوْجَبَ بِهِ حَدًّا، ثُمَّ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ عَصَمَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] فَأَوْجَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْأَمْنَ لِمَنْ دَخَلَهُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ، مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ النَّاسِ. وَكُلُّ مَنْ قَالَ هَذَا فَقَدْ وَهِمَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ خَبَرٌ عَمَّا مَضَى، وَلَمْ يُقْصَدْ بِهَا إثْبَاتُ حُكْمٍ مُسْتَقْبَلٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْنَ قَدْ ذَهَبَ، وَأَنَّ الْقَتْلَ وَالْقِتَالَ قَدْ وَقَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فِيهَا، وَخَبَرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا يَقَعُ بِخِلَافِ مُخْبِرِهِ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ فِي الْقَاضِي. هَذَا وَقَدْ نَاقَضَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: إنَّهُ لَا يُطْعَمُ وَلَا يُسْقَى وَلَا يُعَامَلُ وَلَا يُكَلَّمُ حَتَّى يَخْرُجَ، فَاضْطِرَارُهُ إلَى الْخُرُوجِ لَيْسَ يَصِحُّ مَعَهُ أَمْنٌ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَقَعُ الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ فِي الْحَرَمِ، وَلَا أَمْنَ أَيْضًا مَعَ هَذَا، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [مَسْأَلَةٌ أمان مِنْ دَخَل الحرم] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا مِنْ النَّارِ؛ وَلَا يَصِحُّ هَذَا عَلَى عُمُومِهِ، وَلَكِنَّهُ «مَنْ

الآية الخامسة عشرة قوله تعالى ولله على الناس حج البيت

حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»، «وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الْجَنَّةُ». قَالَ ذَلِكَ كُلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَيَكُونُ تَفْسِيرًا لِلْمَقْصُودِ، وَبَيَانًا لِخُصُوصِ الْعُمُومِ، إنْ كَانَ هَذَا الْقَصْدُ صَحِيحًا. هَذَا، وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ تَعْدِيدَ النِّعَم عَلَى مَنْ كَانَ بِهَا جَاهِلًا وَلَهَا مُنْكِرًا مِنْ الْعَرَبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت: 67]. [الْآيَة الْخَامِسَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ] ِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا مِنْ أَوْكَدِ أَلْفَاظِ الْوُجُوبِ عِنْدَ الْعَرَبِ، إذَا قَالَ الْعَرَبِيُّ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا فَقَدْ وَكَّدَهُ وَأَوْجَبَهُ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فَذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْحَجَّ بِأَبْلَغَ أَلْفَاظِ الْوُجُوبِ؛ تَأْكِيدًا لِحَقِّهِ، وَتَعْظِيمًا لِحُرْمَتِهِ، وَتَقْوِيَةً لِفَرْضِهِ. [مَسْأَلَةٌ الْحَجُّ عِنْدَ الْعَرَبِ قَبْل الْإِسْلَام] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَانَ الْحَجُّ مَعْلُومًا عِنْدَ الْعَرَبِ مَشْرُوعًا لَدَيْهِمْ، فَخُوطِبُوا بِمَا عَلِمُوا وَأُلْزِمُوا مَا عَرَفُوا، وَقَدْ حَجَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَهُمْ قَبْلَ فَرْضِ الْحَجِّ؛ فَوَقَفَ بِعَرَفَةَ وَلَمْ يُغَيِّرْ مِنْ شَرْعِ إبْرَاهِيمَ مَا غَيَّرُوا حَيْثُ كَانَتْ قُرَيْشٌ تَقِفُ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ أَهْلُ الْحَرَمِ فَلَا نَخْرُجُ مِنْهُ وَنَحْنُ الْحُمْسُ.

مسألة ركن الحج

[مَسْأَلَةٌ رُكْنَ الْحَجِّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رُكْنَ الْحَجِّ الْقَصْدُ إلَى الْبَيْتِ. وَلِلْحَجِّ رُكْنَانِ: أَحَدُهُمَا: الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ. وَالثَّانِي: الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ: لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَكُلُّ مَا وَرَاءَهُ نَازِلٌ عَنْهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَأَيْنَ الْإِحْرَامُ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ؟ قُلْنَا: هُوَ النِّيَّةُ الَّتِي تَلْزَمُ كُلَّ عِبَادَةٍ، وَتَتَعَيَّنُ فِي كُلِّ طَاعَةٍ، وَكُلُّ عَمَلٍ خِلَافُهَا لَمْ يَكُنْ بِهِ اعْتِدَادٌ؛ فَهِيَ شَرْطٌ لَا رُكْنٌ. [مَسْأَلَةٌ تَوَجَّهَ الْخِطَابُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ بِفَرْضٍ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إذَا تَوَجَّهَ الْخِطَابُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ بِفَرْضٍ، هَلْ يَكْفِي فِيهِ فِعْلُهُ مَرَّةً وَاحِدَةً، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى التَّكْرَارِ؟ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ دَلِيلًا وَمَذْهَبًا. وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَقْتَضِي فِعْلَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَحَجُّنَا هَذَا لِعَامِنَا أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ: لَا، بَلْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ». رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَلِيٌّ؛ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ قَالُوا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَوَفِي كُلِّ عَامٍ؟ قَالَ: لَا وَلَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ». وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ كَتَبَ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ». فَقَالَ مُحْصِنٌ الْأَسَدِيُّ: أَفِي كُلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَمَا إنِّي لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، ثُمَّ لَوْ تُرِكْتُمْ لَضَلَلْتُمْ؟ اُسْكُتُوا عَنِّي مَا سَكَتُّ عَنْكُمْ، إنَّمَا

مسألة قوله تعالى على الناس

هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ لِامْتِثَالِ الْخِطَابِ إلَّا فَعْلَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ؛ هَلْ هِيَ عَلَى الْفَوْرِ أَمْ هِيَ مُسْتَرْسِلَةٌ عَلَى الزَّمَانِ إلَى خَوْفِ الْفَوْتِ؟ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْبَغْدَادِيِّينَ إلَى حَمْلِهَا عَلَى الْفَوْرِ. وَيَضْعُفُ عِنْدِي. وَاضْطَرَبَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ مَالِكٍ فِي مُطْلَقَاتِ ذَلِكَ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ فِيهِ بِفَوْرٍ وَلَا تَرَاخٍ كَمَا تَرَاهُ؛ وَهُوَ الْحَقُّ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى عَلَى النَّاسِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {عَلَى النَّاسِ} [آل عمران: 97] عَامٌّ فِي جَمِيعِهِمْ، مُسْتَرْسَلٌ عَلَى جَمِيعِهِمْ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنْ كَانَ النَّاسُ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي مُطْلَقِ الْعُمُومَاتِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى حَمْلِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ ذَكَرِهِمْ وَأُنْثَاهُمْ، خَلَا الصَّغِيرِ فَإِنَّهُ خَارِجٌ بِالْإِجْمَاعِ عَنْ أُصُولِ التَّكْلِيفِ، فَلَا يُقَالُ فِيهِ: إنَّ الْآيَةَ مَخْصُوصَةٌ فِيهِ، وَكَذَا الْعَبْدُ لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنْ مُطْلَقِ الْعُمُومِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فِي تَمَامِ الْآيَةِ: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] وَالْعَبْدُ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ يَمْنَعُهُ بِشُغْلِهِ بِحُقُوقِهِ عَنْ هَذِهِ الْعِبَادَةِ؛ وَقَدْ قَدَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حَقَّ السَّيِّدِ عَلَى حَقِّهِ رِفْقًا بِالْعِبَادِ وَمَصْلَحَةً لَهُمْ. وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ وَلَا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ، وَلَا نَهْرِفُ بِمَا لَا نَعْرِفُ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ إلَّا الْإِجْمَاعُ.

مسألة السبيل في الحج

تَوْجِيهٌ وَتَعْلِيمٌ تَسَاهَلَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا فَقَالَ: إنَّمَا لَمْ يَثْبُتْ الْحَجُّ عَلَى الْعَبْدِ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ لِأَنَّهُ كَانَ كَافِرًا فِي الْأَصْلِ، وَلَمْ يَكُنْ حَجُّ الْكَافِرِ مُعْتَدًّا بِهِ، فَلَمَّا ضُرِبَ عَلَيْهِ الرِّقُّ ضَرْبًا مُؤَبَّدًا لَمْ يُخَاطَبْ بِالْحَجِّ، وَهَذَا فَاسِدٌ فَاعْلَمُوهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْكُفَّارَ عِنْدَنَا مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ وَإِنْ خَفِيَ ذَلِكَ عَلَى الْأَصْحَابِ. الثَّانِي: أَنَّ الْكُفْرَ قَدْ ارْتَفَعَ بِالْإِسْلَامِ فَوَجَبَ ارْتِفَاعُ حُكْمِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ سَائِرَ الْعِبَادَاتِ تَلْزَمُهُ مِنْ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ مَعَ كَوْنِهِ رَقِيقًا، وَلَوْ فَعَلَهَا فِي حَالِ الْكُفْرِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ مِثْلَهُ؛ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقَدُّمِ حُقُوقِ السَّيِّدِ. [مَسْأَلَةٌ السَّبِيلُ فِي الْحَجّ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ: السَّبِيلُ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ، وَرَفَعُوا فِي ذَلِكَ حَدِيثًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَصِحُّ إسْنَادُهُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. وَهُوَ أَيْضًا يَبْعُدُ مَعْنًى فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: الِاسْتِطَالَةُ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ لَكَانَ أَوْلَى فِي النَّفْسِ، فَإِنَّ السَّبِيلَ فِي اللُّغَةِ هِيَ الطَّرِيقُ، وَالِاسْتِطَاعَةُ مَا يَكْسِبُ سُلُوكَهَا، وَهِيَ صِحَّةُ الْبَدَنِ وَوُجُودُ الْقُوتِ لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ، وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمَشْيِ فَالرُّكُوبُ زِيَادَةٌ عَلَى صِحَّةِ الْبَدَنِ وَوُجُودِ الْقُوتِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَشْهَبُ، وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: " النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى طَاقَتِهِمْ وَيُسْرِهِمْ وَجَلَدِهِمْ ". قَالَ أَشْهَبُ: أَهُوَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ؟ قَالَ: لَا وَاَللَّهِ، وَمَا ذَلِكَ إلَّا قَدْرُ طَاقَةِ النَّاسِ، وَقَدْ يَجِدُ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى السَّيْرِ، وَآخَرُ يَقْدِرُ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى رِجْلَيْهِ، وَلَا صِفَةَ فِي ذَلِكَ أَبَيْنُ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَهَذَا بَالِغٌ فِي الْبَيَانِ مِنْهُ.

مسألة الاستطاعة في الحج

وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَوْ صَحَّ حَدِيثُ الْخُوزِيِّ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ لَحَمَلْنَاهُ عَلَى عُمُومِ النَّاسِ، وَالْغَالِبُ مِنْهُمْ فِي الْأَقْطَارِ الْبَعِيدَةِ، وَخُرُوجُ مُطْلَقِ الْكَلَامِ عَلَى غَالِبِ الْأَحْوَالِ كَثِيرٌ فِي الشَّرِيعَةِ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَأَشْعَارِهَا. [مَسْأَلَةٌ الِاسْتِطَاعَةُ فِي الْحَجّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: إذَا وُجِدَتْ الِاسْتِطَاعَةُ تَوَجَّهَ فَرْضُ الْحَجِّ بِلَا خِلَافٍ إلَّا أَنْ تَعْرِضَ لَهُ آفَةٌ، وَالْآفَاتُ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا الْغَرِيمُ يَمْنَعُهُ مِنْ الْخُرُوجِ حَتَّى يُؤَدِّيَ الدَّيْنَ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ. وَمَنْ كَانَ لَهُ أَبَوَانِ، أَوْ مَنْ كَانَ لَهَا مِنْ النِّسَاءِ زَوْجٌ، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِمْ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ كَاخْتِلَافِهِمْ. وَالصَّحِيحُ فِي الزَّوْجِ أَنَّهُ يَمْنَعُهَا لَا سِيَّمَا إذَا قُلْنَا: إنَّ الْحَجَّ لَا يَلْزَمُ عَلَى الْفَوْرِ، وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ فَحَقُّ الزَّوْجِ مُقَدَّمٌ، وَأَمَّا الْأَبَوَانِ فَإِنْ كَانَا مَنَعَاهُ لِأَجْلِ الشَّوْقِ وَالْوَحْشَةِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ خَوْفَ الضَّيْعَةِ وَعَدَمِ الْعِوَضِ فِي التَّلَطُّفِ فَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى الْحَجِّ؛ وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ. [مَسْأَلَةٌ حَجّ الْمَرِيض والْمَغْصُوب] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ مَغْصُوبًا لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِ الْمَسِيرُ إلَى الْحَجِّ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْأُمَّةِ؛ فَإِنَّ الْحَجَّ إنَّمَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ إجْمَاعًا؛ وَالْمَرِيضُ وَالْمَغْصُوبُ لَا اسْتِطَاعَةَ لَهُمَا؛ فَإِنْ رَوَوْا أَنَّ الصَّحِيحَ قَدْ تَضَمَّنَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، حُجِّي عَنْهُ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى».

وَقَدْ قَالَ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَاخْتَارَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَأَبَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُمْ فِيهِ أَعْدَلُ قَضِيَّةً؛ فَإِنَّ مَقْصُودَ الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَالنَّظَرُ فِي مَصَالِحِهِمْ دِينًا وَدُنْيَا، وَجَلْبُ الْمَنْفَعَةِ إلَيْهِمَا جِبِلَّةً وَشَرْعًا فَإِنَّهُ رَأَى مِنْ الْمَرْأَةِ انْفِعَالًا بَيِّنًا، وَطَوَاعِيَةً ظَاهِرَةً، وَرَغْبَةً صَادِقَةً فِي بِرِّ أَبِيهَا، وَتَأَسَّفَتْ أَنْ تَفُوتَهُ بَرَكَةُ الْحَجِّ، وَيَكُونَ عَنْ ثَوَابِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ بِمَعْزِلٍ، وَطَاعَتْ بِأَنْ تَحُجَّ عَنْهُ؛ فَأَذِنَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ. وَكَأَنَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازَ حَجِّ الْغَيْرِ عَنْ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ مَالِيَّةٌ، وَالْبَدَنُ وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ فَإِنَّ الْمَالَ يَحْتَمِلُهَا فُرُوعِي فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ جِهَةُ الْمَالِ، وَجَازَتْ فِيهِ النِّيَابَةُ. وَقَدْ صَرَّحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجَوَازِ النِّيَابَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَضَرَبَ الْمَثَلَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيهَا دَيْنُ عَبْدٍ لَسَعَتْ فِي قَضَائِهِ، فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ، إنْ كَانَ لَا يَلْزَمُهَا تَخْلِيصُهُ مِنْ مَأْثَمِ الدَّيْنِ وَعَارِ الِاقْتِضَاءِ، فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ؛ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ أَقْوَى مَا فِي الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ جَعَلَهُ دَيْنًا، وَلَكِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ هَذَا الشَّخْصَ الْمَخْصُوصَ، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ دَيْنَ اللَّهِ إذَا وَجَبَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ، وَالتَّطَوُّعُ بِهِ أَوْلَى مِنْ الِابْتِدَاءِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَيْسَ بِفَرْضٍ مَا صَرَّحَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ فِي قَوْلِهَا: " إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ " وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِنَفْيِ الْوُجُوبِ وَمَنْعِ الْفَرِيضَةِ، وَلَا يَجُوزُ مَا انْتَفَى فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ قَطْعًا أَنْ يَثْبُتَ فِي آخِرِهِ ظَنًّا. يُحَقِّقُهُ أَنَّ دَيْنَ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ بِإِجْمَاعٍ؛ فَإِنَّ دَيْنَ الْعَبْدِ أَوْلَى بِالْقَضَاءِ، وَبِهِ يُبْدَأُ إجْمَاعًا لِفَقْرِ الْآدَمِيِّ وَاسْتِغْنَاءِ اللَّه تَعَالَى، فَيَتَعَيَّنُ الْغَرَضُ الَّذِي أَشَرْنَا إلَيْهِ، وَهُوَ تَأْكِيدُ مَا ثَبَتَ فِي النَّفْسِ مِنْ الْبِرِّ حَيَاةً وَمَوْتًا وَقُدْرَةً وَعَجْزًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة وهب أباه أو أجنبيا مالا للحج

[مَسْأَلَةٌ وَهَبَ أَبَاهُ أَوْ أَجْنَبِيًّا مَالًا لِلْحَجِّ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُكَلَّفِ قُوتٌ يَتَزَوَّدُهُ فِي الطَّرِيقِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ إجْمَاعًا، وَإِنْ وَهَبَ لَهُ أَجْنَبِيٌّ مَالًا يَحُجُّ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ إجْمَاعًا، وَلَوْ كَانَ رَجُلٌ وَهَبَ أَبَاهُ مَالًا قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّ ابْنَ الرَّجُلِ مِنْ كَسْبِهِ وَلَا مِنَّةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْهُ، لِأَنَّ الْوَلَدَ يُجَازِي الْوَالِدَ عَنْ نِعَمِهِ لَا يَبْتَدِئُهُ بِعَطِيَّةٍ. قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّ هِبَةَ الْوَلَدِ لَوْ كَانَتْ جَزَاءً لَقُضِيَ بِهَا عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهَا، ثُمَّ إنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ مِنَّةٌ فَفِيهِ سُقُوطُ الْحُرْمَةِ وَحَقِّ الْأُبُوَّةِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ قَدْ جَزَاهُ وَقَدْ وَفَاهُ. [مَسْأَلَةٌ حَجّ الْأَعْمَى] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: لَا يَسْقُطُ فَرْضُ الْحَجِّ عَنْ الْأَعْمَى لِإِمْكَانِ وُصُولِهِ إلَى الْبَيْتِ مَحْمُولًا؛ فَيَحْصُلُ لَهُ وَصْفُ الِاسْتِطَاعَةِ، كَمَا يَحْصُلُ لَهُ فَرْضُ الْجُمُعَةِ بِوُجُودِ قَائِدٍ إلَيْهَا، وَيَلْزَمُ السَّعْيُ لِقَضَائِهَا. [الْآيَة السَّادِسَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا] وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103] فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْحَبْلُ: لَفْظٌ لُغَوِيٌّ يَنْطَلِقُ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ؛ أَعْظَمُهَا السَّبَبُ الْوَاصِلُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ. وَهُوَ هَاهُنَا مِمَّا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ عَهْدُ اللَّهِ، وَقِيلَ: كِتَابُهُ، وَقِيلَ: دِينُهُ. وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ لَهُ حَدِيثَ رُؤْيَا الظُّلَّةِ الَّتِي تَنْطِفُ عَسَلًا وَسَمْنًا، وَفِيهِ قَالَ: «وَرَأَيْت شَيْئًا وَاصِلًا مِنْ السَّمَاءِ

مسألة الاختلاف والتفرق المنهي عنه

إلَى الْأَرْضِ» الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ، وَعَبَّرَ الصِّدِّيقُ بِحَضْرَتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ: وَأَمَّا السَّبَبُ الْوَاصِلُ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ فَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ، فَضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْ مَلَكِ الرُّؤْيَا مَثَلًا لِلْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ بِالْحَبْلِ الْوَاصِلِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَهَذَا لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا يُنِيرَانِ بِمِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ كِتَابُ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ عَهْدَهُ وَدِينَهُ. [مَسْأَلَةٌ الِاخْتِلَافَ وَالتَّفَرُّقَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: التَّفَرُّقُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: التَّفَرُّقُ فِي الْعَقَائِدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] الثَّانِي: قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَقَاطَعُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا»، وَيَعْضُدُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103] الثَّالِثُ: تَرْكُ التَّخْطِئَةِ فِي الْفُرُوعِ وَالتَّبَرِّي فِيهَا، وَلْيَمْضِ كُلُّ أَحَدٍ عَلَى اجْتِهَادِهِ؛ فَإِنَّ الْكُلَّ بِحَبْلِ اللَّهِ مُعْتَصِمٌ، وَبِدَلِيلِهِ عَامِلٌ؛ وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ الْعَصْرَ إلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ»؛ فَمِنْهُمْ مَنْ حَضَرَتْ الْعَصْرُ فَأَخَّرَهَا حَتَّى بَلَغَ بَنِي قُرَيْظَةَ أَخْذًا بِظَاهِرِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَمْ يُرِدْ هَذَا مِنَّا يَعْنِي وَإِنَّمَا أَرَادَ الِاسْتِعْجَالَ فَلَمْ يُعَنِّفْ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَحَدًا مِنْهُمْ.

مسألة صلاة المتنفل خلف المفترض والعكس

وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ وَالتَّفَرُّقَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ الْمُؤَدِّي إلَى الْفِتْنَةِ وَالتَّعَصُّبِ وَتَشْتِيتِ الْجَمَاعَةِ؛ فَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي الْفُرُوعِ فَهُوَ مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ». وَرُوِيَ أَنَّ لَهُ إنْ أَصَابَ عَشَرَةَ أُجُورٍ. [مَسْأَلَةٌ صَلَاةُ الْمُتَنَفِّلِ خَلْفَ الْمُفْتَرِضِ وَالْعَكْس] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: قَوْلُهُ {وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُصَلِّي الْمُفْتَرِضُ خَلْفَ الْمُتَنَفِّلِ؛ لِأَنَّ نِيَّتَهُمْ قَدْ تَفَرَّقَتْ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مُتَعَلَّقًا لَمَا جَازَتْ صَلَاةُ الْمُتَنَفِّلِ خَلْفَ الْمُفْتَرِضِ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ أَيْضًا قَدْ تَفَرَّقَتْ؛ وَفِي الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْزَعَ الْآيَةِ مَا قَدَّمْنَاهُ لَا مَا تَعَلَّقَ بِهِ هَذَا الْعَالِمِ. [الْآيَة السَّابِعَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ] ِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: أُمَّةٌ كَلِمَةٌ ذَكَرَ لَهَا عُلَمَاءُ اللِّسَانِ خَمْسَةَ عَشَرَ مَعْنًى، وَقَدْ رَأَيْت مَنْ بَلَغَهَا إلَى أَرْبَعِينَ، مِنْهَا أَنَّ الْأُمَّةَ بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْأُمَّةَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ الدَّاعِي إلَى الْحَقِّ.

مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

[مَسْأَلَةٌ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي الَّتِي بَعْدَهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَمِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ نُصْرَةُ الدِّينِ بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الْمُخَالِفِينَ، وَقَدْ يَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ إذَا عَرَفَ الْمَرْءُ مِنْ نَفْسِهِ صَلَاحِيَّةَ النَّظَرِ وَالِاسْتِقْلَالِ بِالْجِدَالِ، أَوْ عُرِفَ ذَلِكَ مِنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي مُطْلَقِ قَوْله تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} [آل عمران: 104] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ يَقُومُ بِهِ الْمُسْلِمُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا، خِلَافًا لِلْمُبْتَدِعَةِ الَّذِينَ يَشْتَرِطُونَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ الْعَدَالَةَ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَنَّ شُرُوطَ الطَّاعَاتِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالْأَدِلَّةِ، وَكُلُّ أَحَدٍ عَلَيْهِ فَرْضٌ فِي نَفْسِهِ أَنْ يُطِيعَ، وَعَلَيْهِ فَرْضٌ فِي دِينِهِ أَنْ يُنَبِّهَ غَيْرَهُ عَلَى مَا يَجْهَلُهُ مِنْ طَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ، وَيَنْهَاهُ عَمَّا يَكُونُ عَلَيْهِ مِنْ ذَنْبٍ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى قَبْلَهَا. [مَسْأَلَةٌ تَرْتِيبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي تَرْتِيبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ: ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ». وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ غَرِيبِ الْفِقْهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَدَأَ فِي الْبَيَانِ بِالْأَخِيرِ فِي الْفِعْلِ، وَهُوَ تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ، وَإِنَّمَا يَبْدَأُ بِاللِّسَانِ وَالْبَيَانِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِالْيَدِ. يَعْنِي أَنْ يَحُولَ بَيْنَ الْمُنْكَرِ وَبَيْنَ مُتَعَاطِيهِ بِنَزْعِهِ وَبِجَذْبِهِ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ إلَّا بِمُقَاتَلَةٍ وَسِلَاحٍ فَلْيَتْرُكْهُ، وَذَلِكَ إنَّمَا هُوَ إلَى السُّلْطَانِ؛ لِأَنَّ شَهْرَ السِّلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ قَدْ يَكُونُ مَخْرَجًا إلَى الْفِتْنَةِ، وَآيِلًا إلَى فَسَادٍ أَكْثَرَ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، إلَّا أَنْ

مسألة قتل الصائل

يَقْوَى الْمُنْكَرُ؛ مِثْلُ أَنْ يَرَى عَدُوًّا يَقْتُلُ عَدُوًّا فَيَنْزِعُهُ عَنْهُ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَلَّا يَدْفَعَهُ، وَيَتَحَقَّقُ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ قَتَلَهُ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى نَزْعِهِ وَلَا يُسَلِّمُهُ بِحَالٍ، وَلْيُخْرِجْ السِّلَاحَ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: «وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» أَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَهُ فِي التَّغْيِيرِ دَرَجَةٌ. [مَسْأَلَةٌ قَتْلِ الصَّائِلِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى مَسْأَلَةٍ اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ؛ وَهِيَ إذَا رَأَى مُسْلِمٌ فَحْلًا يَصُولُ عَلَى مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْهُ، وَإِنْ أَدَّى إلَى قَتْلِهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى قَاتِلِهِ حِينَئِذٍ؛ سَوَاءٌ كَانَ الْقَاتِلُ لَهُ هُوَ الَّذِي صَالَ عَلَيْهِ الْفَحْلُ، أَوْ مُعِينًا لَهُ مِنْ الْخَلْقِ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا دَفَعَهُ عَنْهُ فَقَدْ قَامَ بِفَرْضٍ يَلْزَمُ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ؛ فَنَابَ عَنْهُمْ فِيهِ؛ وَمِنْ جُمْلَتِهِمْ مَالِكُ الْفَحْلِ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ نَائِبًا عَنْهُ فِي قَتْلِ الصَّائِلِ وَيَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ؟ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [مَسْأَلَةٌ تَعْظِيمِ الْأَمَة الْإِسْلَامِيَّة] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَعْظِيمِ هَذِهِ الْأُمَّةِ؛ وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وَإِشَارَةٌ لِتَقْدِيمِهَا عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ. وَفِي الْأَثَرِ يُنْمَى إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّكُمْ تُتِمُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا». [الْآيَة الثَّامِنَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ] ٌ} [آل عمران: 106] أَوْرَدَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ خَمْسَةَ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ الْمُنَافِقُونَ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ الْمُرْتَدُّونَ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.

الآية التاسعة عشرة قوله تعالى ليسوا سواء من أهل الكتاب

الثَّالِثُ: أَهْلُ الْكِتَابِ؛ قَالَهُ الزَّجَّاجُ. الرَّابِعُ: أَنَّهُمْ جَمِيعُ الْكُفَّارِ؛ أَقَرُّوا بِالتَّوْحِيدِ فِي صُلْبِ آدَمَ ثُمَّ كَفَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ؛ قَالَهُ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ. الْخَامِسُ: رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ. قَالَ مَالِكٌ: وَأَيُّ كَلَامٍ أَبَيْنُ مِنْ هَذَا؟ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُمْكِنٌ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، لَكِنْ لَا يَتَعَيَّنُ وَاحِدٌ مِنْهَا إلَّا بِدَلِيلٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي الْجَمِيعِ؛ وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الْمُبْتَدِعَةَ وَأَهْلَ الْأَهْوَاءِ كُفَّارٌ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَكْفِيرِهِمْ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي تَرْتِيبُهُمْ، فَأَمَّا الْقَدَرِيَّةُ فَلَا شَكَّ فِي كُفْرِهِمْ، وَأَمَّا مَنْ عَدَاهُمْ فَنَسْتَقْرِئُ فِيهِمْ الْأَدِلَّةَ، وَنَحْكُمُ بِمَا تَقْتَضِيهِ، وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، فَفِيهِمْ نَظَرٌ طَوِيلٌ؛. وَإِذَا حَكَمْنَا بِكُفْرِهِمْ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: لَا يُصَلَّى عَلَى مَوْتَاهُمْ، وَلَا تُعَادُ مَرَضَاهُمْ. قَالَ سَحْنُونٌ: أَدَبًا لَهُمْ. قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: وَهَذِهِ إشَارَةٌ مِنْ سَحْنُونٍ إلَى أَنَّهُ لَا يُكَفِّرُهُمْ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ؛ فَإِنَّ الْكَافِرَ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ يَجِبُ قَتْلُهُ؛ فَإِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ قَتْلَهُ وَجَبَ عَلَيْكَ هِجْرَتُهُ، فَلَا تُسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَلَا تَعُدْهُ فِي مَرَضِهِ، وَلَا تُصَلِّ عَلَيْهِ إذَا مَاتَ حَتَّى تُلْجِئَهُ إلَى اعْتِقَادِ الْحَقِّ، وَيَتَأَدَّبَ بِذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ الْخَلْقِ؛ فَكَأَنَّ سَحْنُونٌ قَالَ: إذَا لَمْ تَقْدِرْ عَلَى قَتْلِهِ فَأَدِّبْهُ. وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ: هَلْ تُزَوَّجُ الْقَدَرِيَّةُ؟ فَقَالَ: قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة: 221] [الْآيَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ] ِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113]

قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: يَعْنِي: قَائِمَةً بِالْحَقِّ، يُرِيدُ قَوْلًا وَفِعْلًا؛ فَيَعُودُ الْكَلَامُ إلَى الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران: 104]. وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ؛ وَمُفْتَتَحُ الْكَلَامِ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ وَبَيْنَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ عَلَى الْكُفْرِ، إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ مَعْنَاهُ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَمَنْ أَسْلَمَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَوْلُهُ: {لَيْسُوا سَوَاءً} [آل عمران: 113] تَمَامُ كَلَامٍ، ثُمَّ ابْتَدَأَ الْكَلَامَ بِوَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ وَالصَّلَاةِ؛ وَهَذِهِ الْخِصَالُ هِيَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، لَا سِيَّمَا الصَّلَاةُ وَخَاصَّةً فِي اللَّيْلِ وَقْتَ الرَّاحَةِ. وَقِيلَ: إنَّهَا الصَّلَاةُ مُطْلَقًا. وَقِيلَ: إنَّهَا صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةً وَقَدْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ فَمِنَّا الْمُضْطَجِعُ. وَمِنَّا الْمُصَلِّي؛ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّهُ لَا يُصَلِّي أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ هَذِهِ الصَّلَاةَ غَيْرُكُمْ». وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ مُطْلَقًا. وَعَنْ أَبِي مُوسَى عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ يُصَلِّي هَذِهِ السَّاعَةَ غَيْرُكُمْ». وَهَذِهِ فِي الْعَتَمَةِ تَأْكِيدٌ لِلتَّخْصِيصِ وَتَبْيِينٌ لِلتَّفْضِيلِ.

الآية الموفية عشرين قوله تعالى يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم

[الْآيَة الْمُوفِيَة عشرين قَوْله تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ] الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118] قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي قَوْله تَعَالَى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 28] فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَا خِلَافَ بَيْنَ عُلَمَائِنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّهْيُ عَنْ مُصَاحَبَةِ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، حَتَّى نَهَى عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ. قَالَ أَنَسٌ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَلَا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبِيًّا». فَلَمْ نَدْرِ مَا قَالَ حَتَّى جَاءَ الْحَسَنُ فَقَالَ: لَا تَسْتَضِيئُوا: لَا تُشَاوِرُوهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِكُمْ. وَمَعْنَى لَا تَنْقُشُوا عَرَبِيًّا: لَا تَنْقُشُوا: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ الْحَسَنُ: وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران: 118] الْآيَةَ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّهْيُ عَنْ التَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ. [مَسْأَلَةٌ شَهَادَةَ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حَسَنَةٌ، وَهِيَ أَنَّ شَهَادَةَ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ لَا تَجُوزُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118]

الآية الحادية والعشرون قوله تعالى بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم

وَبِذَلِكَ قَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الْحِجَازِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَجُوزُ شَهَادَةُ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ، وَالِاعْتِرَاضَاتُ وَالِانْفِصَالَاتُ قَدْ مَهَّدْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [الْآيَة الْحَادِيَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى بَلَى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ] ْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125] فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قِيلَ نَزَلَتْ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقِيلَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَالصَّحِيحُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ ظَاهِرُ الْآيَةِ. [مَسْأَلَةٌ أَوَّلُ أَمْرِ الصُّوفِ يَوْمَ بَدْرٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: أَوَّلُ أَمْرِ الصُّوفِ يَوْمَ بَدْرٍ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَسَوَّمُوا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ قَدْ تَسَوَّمَتْ»، وَكَانَ عَلَى الزُّبَيْرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ عِمَامَةٌ صَفْرَاءُ، فَنَزَلَتْ الْمَلَائِكَةُ ذَلِكَ الْيَوْمَ عَلَى صِفَتِهِ؛ نَزَلُوا عَلَيْهِمْ عَمَائِمُ صُفْرٌ، وَقَدْ طَرَحُوهَا بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ الْمَلَائِكَةُ مُسَوِّمِينَ بِالصُّوفِ؛ فَأَمَرَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ فَسَوَّمُوا أَنْفُسَهُمْ وَخَيْلَهُمْ بِالصُّوفِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: جَاءَتْ الْمَلَائِكَةُ مَجْزُوزَةً أَذْنَابُ خَيْلِهِمْ وَنَوَاصِيهَا. [مَسْأَلَةٌ الِاشْتِهَارُ بِالْعَلَامَةِ فِي الْحَرْبِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الِاشْتِهَارُ بِالْعَلَامَةِ فِي الْحَرْبِ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ، وَهِيَ هَيْئَةٌ بَاهِيَةٌ قُصِدَ بِهَا الْهَيْبَةُ عَلَى الْعَدُوِّ، وَالْإِغْلَاظُ عَلَى الْكُفَّارِ، وَالتَّحْرِيضُ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ. وَهَذَا مِنْ بَابِ الْجَلِيَّاتِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى بُرْهَانٍ.

مسألة لباس الثوب الأصفر

[مَسْأَلَةٌ لِبَاسِ الثَّوْبِ الْأَصْفَرِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى لِبَاسِ الثَّوْبِ الْأَصْفَرِ وَحُسْنِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا نَزَلَتْ الْمَلَائِكَةُ بِهِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ لَبِسَ نَعْلًا أَصْفَرَ قُضِيَتْ حَاجَتُهُ. وَلَمْ يَصِحَّ عِنْدِي فَانْظُرْ فِيهِ، غَيْرَ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ قَضَى حَاجَةَ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى بَقَرَةٍ صَفْرَاءَ. [مَسْأَلَةٌ جَزِّ النَّوَاصِي وَالْأَذْنَابِ لِلْخَيْلِ فِي الْغَزْو] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ فِي جَزِّ النَّوَاصِي وَالْأَذْنَابِ فَضَعِيفٌ لَمْ يَصِحَّ؛ كَيْفَ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الْأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ». وَهَذَا إنْ صَحَّ تَعْضُدُهُ الْمُشَاهَدَةُ فِيهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ] ِ} [آل عمران: 159] فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ الْمُشَاوَرَةَ هِيَ الِاجْتِمَاعُ عَلَى الْأَمْرِ لِيَسْتَشِيرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَاحِبَهُ وَيَسْتَخْرِجَ مَا عِنْدَهُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: شُرْت الدَّابَّةَ أَشُورهَا إذَا رُضْتهَا لِتَسْتَخْرِجَ أَخْلَافَهَا. [مَسْأَلَةٌ فِي مَاذَا تَقَعُ الِاسْتِشَارَةُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي مَاذَا تَقَعُ الْإِشَارَةُ؟: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِشَارَةُ فِي الْحَرْبِ، وَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهَا رَأْيٌ بِقَوْلٍ، وَإِنَّمَا هِيَ بِوَحْيٍ مُطْلَقٍ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَوْ بِاجْتِهَادٍ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَنْ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ حِينَ خَطَبَ: «أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي أُنَاسٍ أَبَنُوا أَهْلِي، وَاَللَّهِ مَا عَلِمْت عَلَى أَهْلِي إلَّا خَيْرًا» يَعْنِي بِقَوْلِهِ " أَبَنُوهُمْ " عَيَّرُوهُمْ.

وَلَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُؤَالًا لَهُمْ عَنْ الْوَاجِبِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَخْرِجَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ التَّعَصُّبِ لَهُمْ وَإِسْلَامَهُمْ إلَى الْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ؛ «فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، مِنْ الْأَوْسِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَنَا أَعْذُرُكَ مِنْهُ إنْ كَانَ مِنْ الْأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إخْوَانِنَا مِنْ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فِيهِ بِأَمْرِكَ. فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا وَلَكِنْ اجْتَهَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ، فَقَالَ لِذَلِكَ الْأَوْسِيِّ: كَذَبْت، لَعَمْرُ اللَّهِ لَا تَقْتُلُهُ، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ. فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ الْأَوْسِيِّ الْمُتَكَلِّمِ أَوَّلًا، فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: كَذَبْت، لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ؛ فَإِنَّكَ رَجُلٌ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ، فَتَثَاوَرَ الْحَيَّانِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ؛ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا». وَكَانَتْ هَذِهِ فَائِدَةٌ لِمَنْ بَعْدَهُ لِيَسْتَنَّ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُشَاوَرَةِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ جِيءَ بِالْأَسَارَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا تَقُولُونَ فِي هَؤُلَاءِ الْأَسَارَى؟ فَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ قِصَّةً طَوِيلَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يَنْفَلِتَنَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَّا بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبِ عُنُقٍ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إلَّا سُهَيْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ فَإِنِّي قَدْ سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ الْإِسْلَامَ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَمَا رَأَيْتنِي فِي يَوْمٍ أَخْوَفَ أَنْ يَقَعَ عَلَيَّ حِجَارَةٌ مِنْ السَّمَاءِ مِنِّي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إلَّا سُهَيْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ. قَالَ: وَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِقَوْلِ عُمَرَ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67]»

مسألة المراد بقوله تعالى وشاورهم في الأمر

قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ عَلَى النَّحْوِ الْأَوَّلِ أَرَادَ أَنْ يَخْتَبِرَ مَا عِنْدَهُمْ فِي قَرَابَتِهِمْ وَحَالِ أَنْفُسِهِمْ فِيمَا يَفْعَلُ بِهِمْ. [مَسْأَلَةٌ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] جَمِيعُ أَصْحَابِهِ؛ وَرَأَيْت بَعْضَهُمْ قَالَ: الْمُرَادُ بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. وَلَعَمْرُ اللَّهِ إنَّهُمْ أَهْلٌ لِذَلِكَ وَأَحَقُّ بِهِ، وَلَكِنْ لَا يُقْصَرُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَقَصْرُهُ عَلَيْهِمْ دَعْوَى. وَقَدْ ثَبَتَ فِي السِّيَرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَصْحَابِهِ: «أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي الْمَنْزِلِ. فَقَالَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرَأَيْت هَذَا الْمَنْزِلَ، أَمَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ؟ فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ وَلَا نَتَأَخَّرَهُ أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ. قَالَ: فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ؛ انْطَلِقْ بِنَا إلَى أَدْنَى مَاءِ الْقَوْمِ» إلَى آخِرِهِ. [الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ] َّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161] فِيهَا ثَمَانِي مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: وَفِيهَا ثَلَاثُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ اتَّهَمُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَيْءٍ مِنْ الْمَغَانِمِ، وَرُوِيَ أَنَّ قَطِيفَةً حَمْرَاءَ فُقِدَتْ، فَقَالَ قَوْمٌ: لَعَلَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَهَا، وَأَكْثَرُوا فِي ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْآيَةَ.

مسألة حقيقة الغلول

الثَّانِي: أَنَّ قَوْمًا غَلُّوا مِنْ الْمَغْنَمِ أَوْ هَمُّوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ فِيمَا هَمُّوا وَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. الثَّالِثُ: نَهَى اللَّهُ أَنْ يَكْتُمَ شَيْئًا مِنْ الْوَحْيِ. وَالصَّحِيحُ هُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي. [مَسْأَلَةٌ حَقِيقَة الْغُلُولِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي حَقِيقَةِ الْغُلُولِ: اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنْ غَلَّ يَنْصَرِفُ فِي اللُّغَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ: الْأَوَّلُ: خِيَانَةٌ مُطْلَقَةٌ. الثَّانِي: فِي الْحِقْدِ، يُقَالُ فِي الْأَوَّلِ تَغُلُّ بِضَمِّ الْغَيْنِ، وَفِي الثَّانِي يَغِلُّ بِكَسْرِ الْغَيْنِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ خِيَانَةُ الْغَنِيمَةِ؛ وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا لِأَنَّهُ جَرَى عَلَى خَفَاءٍ. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: كَانَ أَصْلُهُ مَنْ خَانَ فِيهِ إذَا أَدْخَلَهُ فِي مَتَاعِهِ فَسَتَرَهُ فِيهِ. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «لَا إغْلَالَ وَلَا إسْلَالَ». وَفِيهِ تَفْسِيرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِغْلَالَ خِيَانَةُ الْمَغْنَمِ، وَالْإِسْلَالِ: السَّرِقَةُ مُطْلَقَةٌ. الثَّانِي: أَنَّ الْإِغْلَالَ وَالْإِسْلَالَ السَّرِقَةُ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ الْإِغْلَالَ خِيَانَةُ الْمَغْنَمِ وَالْإِسْلَالَ سَرِقَةُ الْخَطْفِ مِنْ حَيْثُ لَا تَشْعُرُ، كَمَا يَفْعَلُ سُودَانُ مَكَّةَ الْيَوْمَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْقِرَاءَاتِ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ يَغُلُّ بِضَمِّ الْغَيْنِ، وَفَتَحَهَا الْبَاقُونَ، وَهُمَا صَحِيحَتَانِ قِرَاءَةً وَمَعْنًى. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي مَعْنَى الْآيَةِ: فَأَمَّا مَنْ قَرَأَهَا بِضَمِّ الْغَيْنِ فَمَعْنَاهُ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَخُونَ فِي مَغْنَمٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُتَّهَمٍ. وَلَا فِي وَحْيٍ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِظَنِينٍ وَلَا ضَنِينٍ، أَيْ لَيْسَ بِمُتَّهَمٍ عَلَيْهِ وَلَا بِخَيْلٍ فِيهِ، فَإِنَّهُ إذَا

كَانَ أَمِينًا حَرِيصًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَكَيْفَ يَخُونُ وَهُوَ يَأْخُذُ مَا أَحَبَّ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ وَيَكُونُ لَهُ فِيهِ سَهْمُ الصَّفِيِّ؛ إذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَصْطَفِيَ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ مَا أَرَادَ، ثُمَّ يَأْخُذَ الْخُمُسَ وَتَكُونَ الْقِسْمَةُ بَعْدَ ذَلِكَ؟ فَمَا كَانَ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ كَرَامَةَ أَخْلَاقٍ وَطَهَارَةَ أَعْرَاقٍ، فَكَيْفَ مَعَ مَرْتَبَةِ النُّبُوَّةِ وَعِصْمَةِ الرِّسَالَةِ. وَمَنْ قَرَأَ يُغَلَّ بِنَصْبِ الْغَيْنِ فَلَهُ أَرْبَعَةُ مَعَانٍ: الْأَوَّلُ: يُوجَدُ غَالًّا، كَمَا تَقُولُ: أَحْمَدْتُ فُلَانًا. الثَّانِي: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَخُونَهُ أَحَدٌ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذَا تُلِيَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفَسَّرَ بِهَذَا عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ. فَقَالَ: نَعَمْ وَيَقْتُلُ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا؛ فَإِنْ بَاعَهُ فِي الْعِلْمِ وَالتَّفْسِيرِ لَا يَبُوعَهُ أَحَدٌ مِنْ الْخَلْقِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَلَّ بِفَتْحِ الْغَيْنِ، أَنْ يَخُونَهُ أَحَدٌ وُجُودًا، إنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَخُونَهُ أَحَدٌ شَرْعًا، نَعَمْ يَكُونُ ذَلِكَ فِيهِمْ فُجُورًا وَتَعَدِّيًا، وَخَصَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالذِّكْرِ تَعْظِيمًا لِقَدْرِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَيْضًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَخُونَ، وَلَكِنْ هُوَ أَعْظَمُ حُرْمَةً. الثَّالِثُ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُتَّهَمَ فَإِنَّهُ مُبَرَّأٌ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّ شَيْطَانًا لَبَّسَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَحْيَ وَجَاءَهُ فِي صُورَةِ مَلَكٍ، وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُشْكِلَيْنِ، وَخَصَّصْنَاهُ بِرِسَالَةٍ سَمَّيْنَاهَا بِكِتَابِ " تَنْبِيهِ الْغَبِيِّ عَلَى مِقْدَارِ النَّبِيِّ " وَسَنَذْكُرُهَا فِي سُورَةِ الْحَجِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الرَّابِعُ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَلَّ بِفَتْحِ الْغَيْنِ، وَلَا يُعْلَمُ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ أَمَّا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا خَانَهُ أَحَدٌ أَطْلَعَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ. وَهَذَا أَقْوَى وُجُوهِ هَذِهِ الْآيَةِ؛ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَلَى ثَقَلِهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ كَرْكَرَةُ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: هُوَ فِي النَّارِ» فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إلَيْهِ فَوَجَدُوهُ قَدْ غَلَّ عَبَاءَةً.

مسألة قوله تعالى ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة

وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ، فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّ رَجُلًا أُصِيبَ يَوْمَ خَيْبَرَ فَذَكَرُوهُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ» فَتَغَيَّرَتْ وُجُوهُ الْقَوْمِ. فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا». وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ: «إنَّ صَاحِبَكُمْ قَدْ غَلَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَفَتَّشْنَا مَتَاعَهُ فَوَجَدْنَا خَرَزًا مِنْ خَرَزِ يَهُودٍ مَا يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ». [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161] رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطِيبًا فَذَكَرَ الْغُلُولَ وَعَظَّمَهُ، وَقَالَ: «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ، وَعَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهَا حَمْحَمَةٌ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا قَدْ بَلَّغْت» الْحَدِيثَ. [مَسْأَلَةٌ إذَا وجد الْمَغْلُول] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إذَا غَلَّ الرَّجُلُ فِي الْمَغْنَمِ فَوَجَدْنَاهُ أَخَذْنَاهُ مِنْهُ وَأَدَّبْنَاهُ خِلَافًا لِلْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَلِلْحُسَيْنِ مِنْ التَّابِعِينَ، حَيْثُ قَالُوا: يُحْرَقُ رَحْلُهُ إلَّا الْحَيَوَانَ وَالسِّلَاحَ. قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إلَّا السَّرْجَ، وَالْإِكَافَ؛ لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ قَالَ: «إذَا وَجَدْتُمْ الرَّجُلَ قَدْ غَلَّ فَأَحْرِقُوا مَتَاعَهُ وَاضْرِبُوهُ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ. وَرَوَاهُ

مسألة اشتراك الغانمين في الغنيمة

ابْنُ الْجَارُودِ وَالدَّارَقُطْنِيّ نَحْوَهُ. قَالَ ابْنُ الْجَارُودِ عَنْ الذُّهْلِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَحْرٍ الْقَطَّانِ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فَذَكَرَهُ. وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ كَرْكَرَةَ الْمُتَقَدِّمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: وَلَمْ يَذْكُرْ عَبْدُ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَحْرَقَ مَتَاعَهُ. وَهَذَا أَصَحُّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ إنَّمَا لَمْ يُحْرِقْ رَحْلَ كَرْكَرَةَ؛ لِأَنَّ كَرْكَرَةَ قَدْ فَاتَ بِالْمَوْتِ؛ وَالتَّحْرِيقُ إنَّمَا هُوَ زَجْرٌ وَرَدْعٌ، وَلَا يُرْدَعُ مَنْ مَاتَ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ يُرْدَعُ بِهِ مَنْ بَقِيَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ ثُمَّ تُرِكَ، وَيَعْضُدُهُ أَنَّهُ لَا عُقُوبَةَ فِي الْأَمْوَالِ، وَلَكِنَّهُ يُؤَدَّبُ بِجِنَايَتِهِ لِخِيَانَتِهِ بِالْإِجْمَاعِ. [مَسْأَلَةٌ اشْتِرَاكِ الْغَانِمِينَ فِي الْغَنِيمَةِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: تَحْرِيمُ الْغُلُولِ دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاكِ الْغَانِمِينَ فِي الْغَنِيمَةِ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِشَيْءٍ مِنْهَا دُونَ الْآخَرِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: كَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَهْمُ الصَّفِيِّ. الثَّانِي: أَنَّ الْوَلِيَّ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمَغْنَمِ مَا شَاءَ، وَهَذَا رُكْنٌ عَظِيمٌ وَأَمْرٌ مُشْكِلٌ، بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. الثَّالِثُ: فِي الصَّحِيحِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: «أَصَبْت جِرَابًا مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ فَالْتَزَمْتُهُ، وَقُلْت: وَاَللَّهِ لَا أُعْطِي الْيَوْمَ أَحَدًا شَيْئًا مِنْ هَذَا، فَالْتَفَتَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَبَسَّمُ». قَالَ عُلَمَاؤُنَا: تَبَسُّمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ رَأَى حَقًّا مِنْ أَخْذِ الْجِرَابِ وَحَقًّا مِنْ الِاسْتِبْدَادِ بِهِ دُونَ النَّاسِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَمْ يَتَبَسَّمْ مِنْهُ وَلَا أَقَرَّهُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى الْبَاطِلِ إجْمَاعًا كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي الْأُصُولِ.

مسألة وطئ جارية أو سرق نصابا من الغنيمة

[مَسْأَلَةٌ وَطِئَ جَارِيَةً أَوْ سَرَقَ نِصَابًا مِنْ الْغَنِيمَة] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: إذَا ثَبَتَ الِاشْتِرَاكُ فِي الْغَنِيمَةِ، فَمَنْ غَصَبَ مِنْهَا شَيْئًا أُدِّبَ، فَإِنْ وَطِئَ جَارِيَةً أَوْ سَرَقَ نِصَابًا فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، فَرَأَى جَمَاعَةٌ أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ، مِنْهُمْ عَبْدُ الْمَلِكِ مِنْ أَصْحَابِنَا، لِأَنَّ لَهُ فِيهِ حَقًّا وَكَانَ سَهْمُهُ كَالْمُشْتَرَكِ الْمُعَيَّنِ. قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُعَيَّنِ ظَاهِرٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ بَيْتُ الْمَالِ، وَقَدْ مَنَعَ بَيْتُ الْمَالِ، وَقَالَ: لَا يُقْطَعُ مَنْ سَرَقَ مِنْهُ، وَقَدْ قَالَ يُقْطَعُ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ: إنَّ حَظَّهُ فِي الْمَغْنَمِ يُورَثُ عَنْهُ وَحَظَّهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لَا يُورَثُ عَنْهُ، وَهِيَ مُشْكِلَةٌ بَيَّنَّاهَا فِي الْإِنْصَافِ. [الْآيَة الرَّابِعَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ] ِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران: 180] فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ مَانِعُو الزَّكَاةَ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، بَخِلُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ خَبَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصِفَتِهِ؛ يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. [مَسْأَلَةٌ حَقِيقَة الْبُخْل وَالشُّحّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الْبُخْلُ مَنْعُ الْوَاجِبِ، وَالشُّحُّ مَنْعُ الْمُسْتَحَبِّ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] وَالْإِيثَارُ مُسْتَحَبٌّ، وَسُمِّيَ مَنْعُهُ شُحًّا.

مسألة مفاد آية ولا يحسبن الذين يبخلون

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَثَبَتَ بِرِوَايَةِ الْأَئِمَّةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُنْفِقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ؛ فَإِذَا أَرَادَ الْمُتَصَدِّقُ أَنْ يَتَصَدَّقَ سَبَغَتْ وَوَفَرَتْ حَتَّى تُجِنَّ بَنَانَهُ وَتُعَفِّيَ أَثَرَهُ، وَإِذَا أَرَادَ الْبَخِيلُ أَنْ يَتَصَدَّقَ تَقَلَّصَتْ وَلَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا، فَهُوَ يُوَسِّعُ وَلَا تُوَسَّعُ». وَهَذَا مِنْ الْأَمْثَالِ الْبَدِيعَةِ، بَيَانُهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ. [مَسْأَلَةٌ مفاد آيَة وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي الْمُخْتَارِ الصَّحِيحِ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ هَذَا وَعِيدٌ لِمَانِعِهَا، وَالْوَعِيدُ الْمُقْتَرِنُ بِالْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَلَى حَسَبِ اقْتِضَاءِ الْوُجُوبِ أَوْ التَّحْرِيمِ؛ وَهَذَا الْوَعِيدُ بِالْعِقَابِ مُفَسَّرٌ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ مَالٍ لَا يُؤَدَّى زَكَاتُهُ إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يَأْخُذُهُ بِشِدْقَيْهِ يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ» ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 180] إلَى آخِرِهَا. وَهَذَا نَصٌّ لَا يُعْدَلُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ. أَمَّا أَنَّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ يَدْخُلُ فِي الْآيَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ إذَا مَنَعَ وَاجِبًا مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ فَاسْتَحَقَّ الْعِقَابَ فَمَنْعُهُ وَقَطْعُهُ لِمُوجَبِ الشَّرِيعَةِ وَمُبَلِّغِهَا، وَشَارِحِهَا أَوْلَى بِوُجُوبِ الْعِقَابِ وَتَضْعِيفِهِ. [الْآيَة الْخَامِسَة وَالْعُشْرُونَ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا] وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِي الصَّلَاةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى قِيَامٍ وَقُعُودٍ وَمُضْطَجِعِينَ عَلَى جُنُوبِهِمْ. الثَّانِي: أَنَّهَا فِي الْمَرِيضِ الَّذِي تَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ الذِّكْرُ الْمُطْلَقُ. الرَّابِعُ: قَالَهُ ابْنُ فُورَكٍ: الْمَعْنَى قِيَامًا بِحَقِّ الذِّكْرِ وَقُعُودًا عَنْ الدَّعْوَى فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْأَحَادِيثِ الْمُنَاسِبَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَهِيَ خَمْسَةٌ: الْأَوَّلُ: رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى قَوْلِهِ: فَاسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعَلَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَيَقْرَأُ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران: 190] الْعَشْرَ الْآيَاتِ». الثَّانِي: رَوَى الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ «عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهُ كَانَ بِهِ بَاسُورٌ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ». الثَّالِثُ: رَوَى الْأَئِمَّةُ مِنْهُمْ مُسْلِمٌ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ.» الرَّابِعُ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَحْجِزُهُ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ شَيْءٌ لَيْسَ الْجَنَابَةُ». الْخَامِسُ: رَوَى أَبُو دَاوُد «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَسَنَّ وَحَمَلَ اللَّحْمَ اتَّخَذَ عَمُودًا فِي مُصَلَّاهُ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ».

الآية السادسة والعشرون قوله تعالى يأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الصَّحِيحُ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ ذِكْرٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: مَنْ قَدَرَ صَلَّى قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ صَلَّى مُعْتَمِدًا عَلَى عَصًا، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ صَلَّى جَالِسًا، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ صَلَّى نَائِمًا عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ صَلَّى عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ وَرُوِيَ عَلَى ظَهْرِهِ. وَالصَّحِيحُ الْجَنْبُ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِيهِ، وَمَا وَافَقَ الْحَدِيثَ فِيهِ أَوْلَى، وَهُوَ مُبَيَّنٌ فِي الْمَسَائِلِ. [الْآيَة السَّادِسَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابَطُوا] الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي شَرْحِ أَلْفَاظِهَا: الصَّبْرُ: عِبَارَةٌ عَنْ حَبْسِ النَّفْسِ عَنْ شَهَوَاتِهَا، وَالْمُصَابَرَةُ: إدَامَةُ مُخَالَفَتِهَا فِي ذَلِكَ؛ فَهِيَ تَدْعُو وَهُوَ يَنْزِعُ. وَالْمُرَابَطَةُ: الْعَقْدُ عَلَى الشَّيْءِ حَتَّى لَا يَبْخَلَ فَيَعُودَ إلَى مَا كَانَ صَبَرَ عَنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْأَقْوَالِ: فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: اصْبِرُوا عَلَى دِينِكُمْ، وَصَابِرُوا وَعْدِي لَكُمْ، وَرَابِطُوا أَعْدَاءَكُمْ. الثَّانِي: اصْبِرُوا عَلَى الْجِهَادِ، وَصَابِرُوا الْعَدُوَّ، وَرَابِطُوا الْخَيْلَ. الثَّالِثُ: مِثْلُهُ إلَّا قَوْلَهُ: رَابِطُوا فَإِنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ رَابِطُوا الصَّلَوَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي حَقِيقَةِ ذَلِكَ: وَهُوَ أَنَّ الصَّبْرَ: حَبْسُ النَّفْسِ عَنْ مَكْرُوهِهَا الْمُخْتَصِّ بِهَا وَالْمُصَابَرَةُ: حَمْلُ مَكْرُوهٍ يَكُونُ بِهَا وَبِغَيْرِهَا؛ الْأَوَّلُ كَالْمَرَضِ، وَالثَّانِي كَالْجِهَادِ.

وَالرِّبَاطُ: حَمْلُ النَّفْسِ عَلَى النِّيَّةِ الْحَسَنَةِ وَالْجِسْمِ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ، وَمِنْ أَعْظَمِهِ ارْتِبَاطُ الْخَيْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَارْتِبَاطُ النَّفْسِ عَلَى الصَّلَوَاتِ، عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ؛ فَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ، فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنْ الْمَرْجِ أَوْ الرَّوْضَةِ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ. وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهْرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَهَا كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ فَهِيَ لَهُ أَجْرٌ». وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ: إسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ ثَلَاثًا». فَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ أَوْلَاهُ وَأَفْضَلَهُ فِي نَوْعَيْ الطَّاعَةِ الْمُتَعَدِّي بِالْمَنْفَعَةِ إلَى الْغَيْرِ وَهُوَ الْأَفْضَلُ، وَإِلْزَامُ الْمُخْتَصِّ بِالْفَاعِلِ وَهُوَ دُونَهُ، وَبَعْدَ ذَلِكَ تَتَفَاضَلُ الْعَقَائِدُ وَالْأَعْمَالُ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقَاتِهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ فَنَفِيضُ مِنْهُ.

سورة النساء فيها إحدى وستون آية

[سُورَةُ النِّسَاءِ فِيهَا إحْدَى وَسِتُّونَ آيَة] [الْآيَةُ الْأُولَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء: 1] الْمَعْنَى: اتَّقُوا اللَّهَ أَنْ تَعْصُوهُ، وَاتَّقُوا الْأَرْحَامَ أَنْ تَقْطَعُوهَا. وَمَنْ قَرَأَ وَالْأَرْحَامِ فَقَدْ أَكَّدَهَا حَتَّى قَرَنَهَا بِنَفْسِهِ. وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْمِلَّةُ أَنَّ صِلَةَ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَاجِبَةٌ وَأَنَّ قَطِيعَتَهَا مُحَرَّمَةٌ، وَثَبَتَ «أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: إنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ رَاغِبَةً وَهِيَ مُشْرِكَةٌ أَفَأَصِلُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ». فَلِتَأْكِيدِهَا دَخَلَ الْفَضْلُ فِي صِلَةِ الرَّحِمِ الْكَافِرَةِ، فَانْتَهَى الْحَالُ بِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ إلَى أَنْ يَقُولُوا: إنَّ ذَوِي الْأَرْحَامِ يَتَوَارَثُونَ، وَيَعْتِقُونَ عَلَى مَنْ اشْتَرَاهُمْ مِنْ ذَوِي رَحِمِهِمْ، لِحُرْمَةِ الرَّحِمِ وَتَأْكِيدًا لِلْبَعْضِيَّةِ، وَعَضَّدَ ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَهُوَ حُرٌّ».

الآية الثانية قوله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم

قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَمَا بَيْنَهُمْ مِنْ تَعَصُّبَةٍ وَمَا يَجِبُ لِلرَّحِمِ عَلَيْهِمْ مِنْ صِلَةٍ مَعْلُومٌ عَقْلًا مُؤَكَّدٌ شَرْعًا، لَكِنَّ قَضَاءَ الْمِيرَاثِ قَدْ أَحْكَمْتُهُ السُّنَّةُ وَالشَّرِيعَةُ، وَبَيَّنَتْ أَعْيَانَ الْوَارِثِينَ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ فِي الْمِيرَاثِ حَظٌّ لَفُصِلَ لَهُمْ، أَمَّا الْحُكْمُ بِالْعِتْقِ فَقَدْ نَقَضُوهُ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُعَلِّقُوهُ بِالرَّحِمِ الْمُطْلَقَةِ حَسْبَمَا قَضَى ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا أَنَاطُوهُ بِرَحِمِ الْمَحْرَمِيَّةِ؛ وَذَلِكَ خُرُوجٌ عَنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَتَعَلُّقٌ بِإِشَارَةِ الْحَدِيثِ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ بِمَا نَكَتَتْهُ أَنَّهُ عُمُومٌ خَصَّصْنَاهُ فِي الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ وَالْإِخْوَةِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، بِدَلِيلِ الْمَعْنَى الْمُقَرَّرِ هُنَالِكَ. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى وَآتَوْا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ] ْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2] فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا} [النساء: 2] مَعْنَاهُ وَأَعْطُوا، أَيْ مَكِّنُوهُمْ مِنْهَا، وَاجْعَلُوهَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إجْرَاءُ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ؛ إذْ لَا يُمْكِنُ إلَّا ذَلِكَ لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَخْذَ الْكُلِّيَّ وَالِاسْتِبْدَادَ. الثَّانِي رَفْعُ الْيَدِ عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الِابْتِلَاءِ وَالْإِرْشَادِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ الْيَتَامَى: وَهُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ اسْمٌ لِكُلِّ مَنْ لَا أَبَ لَهُ مِنْ الْآدَمِيِّينَ حَتَّى يَبْلُغَ الْحُلُمَ، فَإِذَا بَلَغَهُ خَرَجَ عَنْ هَذَا الِاسْمِ، وَصَارَ فِي جُمْلَةِ الرِّجَالِ. وَحَقِيقَةُ الْيُتْمِ الِانْفِرَادُ؛ فَإِنْ رَشَدَ عِنْدَ الْبُلُوغِ وَاسْتَقَلَّ بِنَفْسِهِ فِي النَّظَرِ لَهَا، وَالْمَعْرِفَةِ بِمَصَالِحِهَا، وَالنَّظَرِ بِوُجُودِ الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ مِنْهَا زَالَ عَنْهُ اسْمُ الْيُتْمِ وَمَعْنَاهُ مِنْ الْحَجْرِ، وَإِنْ بَلَغَ الْحُلُمَ وَهُوَ مُسْتَمِرٌّ فِي غِرَارَتِهِ وَسَفَهِهِ مُتَمَادٍ عَلَى جَهَالَتِهِ زَالَ عَنْهُ اسْمُ الْيُتْمِ حَقِيقَةً، وَبَقِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْحَجْرِ، وَتَمَادَى عَلَيْهِ الِاسْمُ مَجَازًا لِبَقَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} [النساء: 2] كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِعَدَمِ الدِّينِ لَا يَتَحَرَّجُونَ عَنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، فَيَأْخُذُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى وَيُبَدِّلُونَهَا بِأَمْوَالِهِمْ، وَيَقُولُونَ: اسْمٌ بِاسْمٍ وَرَأْسٌ بِرَأْسٍ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لِلْيَتِيمِ مِائَةُ شَاةٍ جِيَادٍ فَيُبَدِّلُونَهَا بِمِائَةِ شَاةٍ هَزْلَى لَهُمْ، وَيَقُولُونَ: مِائَةٌ بِمِائَةٍ؛ فَنَهَاهُمْ اللَّهُ عَنْهَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] قَالَ عُلَمَاؤُنَا: مَعْنَى تَأْكُلُوا تَجْمَعُوا وَتَضُمُّوا أَمْوَالَهُمْ إلَى أَمْوَالِكُمْ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: مَعْنَاهُ مَعَ أَمْوَالِكُمْ. وَالْمَعْنَى الَّذِي يَسْلَمُ مَعَهُ اللَّفْظُ مَا قُلْنَا: نُهُوا أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّ أَمْوَالَ الْيَتَامَى كَأَمْوَالِهِمْ وَيَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهَا بِالْأَكْلِ وَالِانْتِفَاعِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ اعْتَزَلَ كُلُّ وَلِيٍّ يَتِيمَهُ، وَأَزَالَ مِلْكَهُ عَنْ مِلْكِهِ حَتَّى آلَتْ الْحَالُ أَنْ يُصْنَعَ لِلْيَتِيمِ مَعَاشُهُ فَيَأْكُلَهُ، فَإِنْ بَقِيَ لَهُ شَيْءٌ فَسَدَ وَلَمْ يَقْرَبْهُ أَحَدٌ، فَعَادَ ذَلِكَ بِالضَّرَرِ عَلَيْهِمْ، فَأَرْخَصَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْمُخَالَطَةِ قَصْدًا لِلْإِصْلَاحِ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إنْ كَانَ الْمَعْنَى بِالْآيَةِ الْإِنْفَاقُ فَذَلِكَ يَكُونُ مَا دَامَتْ الْوِلَايَةُ، وَيَكُونُ اسْمُ الْيُتْمِ حَقِيقَةً كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَإِنْ كَانَ الْإِيتَاءُ هُوَ التَّمْكِينُ وَإِسْلَامُ الْمَالِ إلَيْهِ فَذَلِكَ عِنْدَ الرُّشْدِ، وَيَكُونُ تَسْمِيَتُهُ يَتِيمًا مَجَازًا؛ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ يَتِيمًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً أُعْطِيَ مَالَهُ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ. وَهَذَا بَاطِل؛ فَإِنَّ الْآيَةَ الْمُطَلَّقَةَ مَرْدُودَةٌ إلَى الْمُقَيَّدَةِ عِنْدَنَا. وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا مُنِعَ الْيَتِيمُ مِنْ مَالِهِ هِيَ خَوْفُ التَّلَفِ عَلَيْهِ بِغِرَارَتِهِ وَسَفَهِهِ؛ فَمَا دَامَتْ الْعِلَّةُ مُسْتَمِرَّةٍ لَا يَرْتَفِعُ الْحُكْمُ، وَإِذَا زَالَتْ الْعِلَّةُ زَالَ الْحُكْمُ

الآية الثالثة قوله تعالى وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى

وَهَذَا هُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] وَقَدْ بَيَّنَّا وُجُوبَ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَتَحْقِيقُهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَالْمَسَائِلِ، وَهَبْكُمْ أَنَّا لَا نَحْمِلُ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ فَالْحُكْمُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً لَا وَجْهَ لَهُ، لَا سِيَّمَا وَأَبُو حَنِيفَةَ يَرَى الْمُقَدَّرَاتِ لَا تَثْبُتُ قِيَاسًا، وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ مِنْ جِهَةِ النَّصِّ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ وَلَا قَوْلٌ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِهِ، وَلَا يَشْهَدُ لَهُ الْمَعْنَى. [الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى] فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا} [النساء: 3] فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُرْوَةَ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَتْ: " هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حِجْرِ الرَّجُلِ تُشْرِكُهُ فِي مَالِهِ، وَيُعْجِبُهُ مَالُهَا وَجَمَالَهَا، وَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَلَا يُقْسِطَ لَهَا فِي صَدَاقِهَا، فَيُعْطِيَهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ، فَنُهُوا عَنْ أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ حَتَّى يُقْسِطُوا لَهُنَّ، وَيُعْطُوهُنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ فِي الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنْ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ. قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: «وَإِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} [النساء: 127]» قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: وَقَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127] هِيَ رَغْبَةُ أَحَدِهِمْ عَنْ يَتِيمَتِهِ حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ، فَنُهُوا عَنْ أَنْ يَنْكِحُوا مَنْ رَغِبُوا فِي مَالِهِ وَجَمَالِهِ مِنْ يَتَامَى النِّسَاءِ إلَّا بِالْقِسْطِ

مسألة نكاح اليتيمة قبل البلوغ

مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ إنْ كُنَّ قَلِيلَاتِ الْمَالِ وَالْجَمَالِ "، وَهَذَا نَصُّ كِتَابَيْ الْبُخَارِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْحَشْوِ رِوَايَاتٌ لَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهَا هَاهُنَا، يَرْجِعُ مَعْنَاهَا إلَى قَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 3] قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ أَيْقَنْتُمْ وَعَلِمْتُمْ؛ وَالْخَوْفُ وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الظَّنِّ الَّذِي يَتَرَجَّحُ وُجُودَهُ عَلَى عَدَمِهِ فَإِنَّهُ قَدْ يَأْتِي بِمَعْنَى الْيَقِينِ وَالْعِلْمِ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ عَلَى بَابِهِ مِنْ الظَّنِّ لَا مِنْ الْيَقِينِ؛ التَّقْدِيرُ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ التَّقْصِيرُ فِي الْقِسْطِ لِلْيَتِيمَةِ فَلْيَعْدِلْ عَنْهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلِيلُ الْخِطَابِ: وَإِنْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْقَوْلِ بِهِ؛ فَإِنَّ دَلِيلَ خِطَابِ هَذِهِ الْآيَةِ سَاقِطٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُقْسِطُ لِلْيَتِيمَةِ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ سِوَاهَا، كَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ لَهُ إذَا خَافَ أَلَّا يُقْسِطَ. [مَسْأَلَةٌ نِكَاحِ الْيَتِيمَةِ قَبْلَ الْبُلُوغِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: تَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ {فِي الْيَتَامَى} [النساء: 3] فِي تَجْوِيزِ نِكَاحِ الْيَتِيمَةِ قَبْلَ الْبُلُوغِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ حَتَّى تَبْلُغَ وَتُسْتَأْمَرَ وَيَصِحَّ إذْنُهَا. وَفِي بَعْضِ رِوَايَتِنَا إذَا افْتَقَرَتْ أَوْ عَدِمَتْ الصِّيَانَةَ جَازَ إنْكَاحُهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ. وَالْمُخْتَارُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ يَتِيمَةً قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَبَعْدَ الْبُلُوغِ هِيَ امْرَأَةٌ مُطْلَقَةٌ لَا يَتِيمَةٌ. قُلْنَا: الْمُرَادُ بِهِ يَتِيمَةٌ بَالِغَةٌ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} [النساء: 127] وَهُوَ اسْمٌ إنَّمَا يَنْطَلِقُ عَلَى الْكِبَارِ، وَكَذَلِكَ قَالَ: {فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} [النساء: 127] فَرَاعَى لَفْظَ النِّسَاءِ، وَيُحْمَلُ الْيُتْمُ عَلَى الِاسْتِصْحَابِ لِلِاسْمِ.

فَإِنْ قِيلَ: لَوْ أَرَادَ الْبَالِغَةَ لَمَا نَهَى عَنْ حَطِّهَا عَنْ صَدَاقِ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهَا تَخْتَارُ ذَلِكَ، فَيَجُوزُ إجْمَاعًا. قُلْنَا: إنَّمَا هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ ذَاتَ وَصِيٍّ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى اسْتِظْهَارِ الْوَلِيِّ عَلَيْهَا بِالرُّجُولِيَّةِ وَالْوِلَايَةِ، فَيَسْتَضْعِفُهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَيَتَزَوَّجُهَا بِمَا شَاءَ، وَلَا يُمَكِّنُهَا خِلَافَهُ؛ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ إلَّا بِالْحَقِّ الْوَافِرِ. وَقَدْ وَفَرَّنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي التَّلْخِيصِ، وَرَوَيْنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثَ الْمُوَطَّأِ: «الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا». وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَالْيَتِيمَةُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا وَلَا إذْنَ لِمَنْ لَمْ يَبْلُغْ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ: «زَوَّجَ قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ بِنْتَ أَخِيهِ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ، فَجَاءَ الْمُغِيرَةُ إلَى أُمِّهَا فَرَغَّبَهَا فِي الْمَالِ فَرَغِبَتْ، فَقَالَ قُدَامَةُ: أَنَا عَمُّهَا وَوَصِيُّ أَبِيهَا، زَوَّجْتُهَا مِمَّنْ أَعْرِفُ فَضْلَهُ. فَتَرَافَعُوا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّهَا يَتِيمَةٌ لَا تُنْكَحُ إلَّا بِإِذْنِهَا». قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: تُحْمَلُ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ عَلَى الْبَالِغَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: إلَّا بِإِذْنِهَا، وَلَيْسَ لِلصَّغِيرَةِ إذْنٌ. وَقَدْ أَطْنَبْنَا فِي الْجَوَابِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، أَقْوَاهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ الْيُتْمِ مَعْنًى؛ لِأَنَّ الْبَالِغَةَ لَا يُزَوِّجُهَا أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهَا. .

مسألة ثبوت مهر المثل

[مَسْأَلَةٌ ثُبُوت مَهْرَ الْمِثْلِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ وَاجِبٌ فِي النِّكَاحِ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِإِسْقَاطِ الزَّوْجَةِ أَوْ مَنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ مِنْهَا مِنْ أَبٍ؛ فَأَمَّا الْوَصِيُّ فَمَنْ دُونَهُ فَلَا يُزَوِّجُهَا إلَّا بِمَهْرِ مِثْلِهَا وَسُنَّتِهَا. وَسُئِلَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَجُلٍ زَوَّجَ ابْنَتَهُ غَنِيَّةً مِنْ ابْنِ أَخٍ لَهُ فَقِيرٍ؛ فَاعْتَرَضَتْ أُمُّهَا؛ فَقَالَ: إنِّي لَأَرَى لَهَا فِي ذَلِكَ مُتَكَلِّمًا، فَسَوَّغَ لَهَا فِي ذَلِكَ الْكَلَامِ حَتَّى يُظْهِرَ هُوَ فِي نَظَرِهِ مَا يُسْقِطُ اعْتِرَاضَ الْأُمِّ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ: مَا أَرَى لَهَا فِي ذَلِكَ مُتَكَلِّمًا، بِزِيَادَةِ الْأَلْفِ عَلَى النَّفْيِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. [مَسْأَلَةٌ تَوَلَّى وَاحِد طَرَفَيْ الْعَقْدِ فِي النِّكَاح] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إذَا بَلَغَتْ الْيَتِيمَةُ وَأَقْسَطَ الْوَلِيُّ فِي الصَّدَاقِ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَيَكُونَ هُوَ النَّاكِحَ وَالْمُنْكِحَ؛ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ بِنَفْسِهِ، فَيَكُونُ نَاكِحًا مُنْكِحًا حَتَّى يُقَدِّمَ الْوَلِيُّ مَنْ يَنْكِحُهَا. وَمَالَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّ تَعْدِيدَ النَّاكِحِ وَالْمُنْكِحِ وَالْوَلِيِّ تَعَبُّدٌ، فَإِذَا اتَّحَدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ سَقَطَ وَاحِدٌ مِنْ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْحَدِيثِ حِينَ قَالَ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» الْحَدِيثُ.

مسألة معنى قوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء

الْجَوَابُ: إنَّا لَا نَقُولُ: إنَّ لِلتَّعَبُّدِ مَدْخَلًا فِي هَذَا، وَإِنَّمَا أَعْلَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْخَلْقَ ارْتِبَاطَ الْعَقْدِ بِالْوَلِيِّ، فَأَمَّا التَّعَدُّدُ وَالتَّعَبُّدُ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَلَا نَظَرَ لَهُ؛ وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ رَدَّهُ إلَى الْعَقْدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَدَّهُ إلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ؛ وَالصَّحِيحُ رُجُوعُهُ إلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. التَّقْدِيرُ: انْكِحُوا مَنْ حَلَّ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ، وَهَذَا يَدْفَعُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْعَقْدِ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: انْكِحُوا نِكَاحًا طَيِّبًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] قَدْ تَوَهَّمَ قَوْمٌ مِنْ الْجُهَّالِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تُبِيحُ لِلرَّجُلِ تِسْعَ نِسْوَةٍ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ مَثْنَى عِنْدَ الْعَرَبِ عِبَارَةٌ عَنْ اثْنَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَثُلَاثَ عِبَارَةٌ عَنْ ثَلَاثٍ مَرَّتَيْنِ، وَرُبَاعَ عِبَارَةٌ عَنْ أَرْبَعٍ مَرَّتَيْنِ، فَيَخْرُجُ مِنْ ظَاهِرِهِ عَلَى مُقْتَضَى اللُّغَةِ إبَاحَةُ ثَمَانِي عَشْرَةَ امْرَأَةً: لِأَنَّ مَجْمُوعَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعَةٍ تِسْعَةٌ، وَعَضَّدُوا جَهَالَتَهُمْ بِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ تَحْتَهُ تِسْعُ نِسْوَةٍ، وَقَدْ كَانَ تَحْتَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْثَرُ مِنْ تِسْعٍ، وَإِنَّمَا مَاتَ عَنْ تِسْعٍ، وَلَهُ فِي النِّكَاحِ وَفِي غَيْرِهِ خَصَائِصُ لَيْسَتْ لِأَحَدٍ، بَيَانُهَا فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ. وَلَوْ قَالَ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثًا وَأَرْبَعًا لَمَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ جَوَازُ نِكَاحِ التِّسْعِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْكَلَامِ وَنِظَامِ الْمَعْنَى فِيهِ: فَلَكُمْ نِكَاحُ أَرْبَعٍ، فَإِنْ لَمْ تَعْدِلُوا فَثَلَاثَةً، فَإِنْ لَمْ تَعْدِلُوا فَاثْنَتَيْنِ؛ فَإِنْ لَمْ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً؛ فَنَقْلُ الْعَاجِزِ عَنْ هَذِهِ الرُّتَبِ إلَى مُنْتَهَى قُدْرَتِهِ، وَهِيَ الْوَاحِدَةُ مِنْ ابْتِدَاءِ الْحِلِّ، وَهِيَ الْأَرْبَعُ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ تِسْعَ نِسْوَةٍ لَكَانَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: فَانْكِحُوا تِسْعَ نِسْوَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَعْدِلُوا

مسألة قوله تعالى فإن خفتم ألا تعدلوا

فَوَاحِدَةً، وَهَذَا مِنْ رَكِيكِ الْبَيَانِ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِالْقُرْآنِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد، وَالدَّارَقُطْنِيّ وَغَيْرِهِمَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِغَيْلَانَ الثَّقَفِيِّ حِينَ أَسْلَمَ، وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ: اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ». الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: مِنْ الْبَيِّنِ عَلَى مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي نِكَاحِ أَرْبَعٍ؛ لِأَنَّهَا خِطَابٌ لِمَنْ وَلِيَ وَمَلَكَ وَتَوَلَّى وَتَوَصَّى، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ صِفَاتُ الْأَحْرَارِ الْمَالِكِينَ الَّذِينَ يَلُونَ الْأَيْتَامَ تَحْتَ نَظَرِهِمْ؛ يَنْكِحُ إذَا رَأَى، وَيَتَوَقَّفُ إذَا أَرَادَ. ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَنْكِحُ إلَّا اثْنَتَيْنِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ، وَفِي مَشْهُورِ قَوْلَيْهِ إنَّهُ يَتَزَوَّجُ أَرْبَعًا مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ، وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا} [النساء: 3] قَالَ عُلَمَاؤُنَا: مَعْنَاهُ فِي الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ وَالتَّسْوِيَةِ فِي حُقُوقِ النِّكَاحِ، وَهُوَ فَرْضٌ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْتَمِدُهُ وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ، إذَا فَعَلَ الظَّاهِرَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْأَفْعَالِ وَوَجَدَ قَلْبَهُ الْكَرِيمَ السَّلِيمَ يَمِيلُ إلَى عَائِشَةَ: «اللَّهُمَّ هَذِهِ قُدْرَتِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ» يَعْنِي قَلْبَهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يُكَلِّفْ أَحَدًا صَرْفَ قَلْبِهِ عَنْ ذَلِكَ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ، وَرُبَّمَا فَاتَ الْقُدْرَةَ؛ وَأَخَذَ الْخَلْقَ بِاعْتِدَادِ الظَّاهِرِ لِتَيَسُّرِهِ عَلَى الْعَاقِلِ، فَإِذَا قَدَرَ الرَّجُلُ مِنْ مَالِهِ وَمِنْ بِنْيَتِهِ عَلَى نِكَاحِ أَرْبَعٍ فَلْيَفْعَلْ، وَإِذَا لَمْ يَحْتَمِلُ مَالُهُ وَلَا بِنْيَتُهُ فِي الْبَاءَةِ ذَلِكَ فَلْيَقْتَصِرْ عَلَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ وَاحِدَةٌ أَنَّهُ إنْ نَالَهَا فَحَسَنٌ وَإِنْ قَعَدَ عَنْهَا هَانَ ذَلِكَ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ أَنْ تَكُونَ

مسألة قوله تعالى أو ما ملكت أيمانكم

عِنْدَهُ أُخْرَى فَإِنَّهُ إذَا أَمْسَكَ عَنْهَا اعْتَقَدَتْ أَنَّهُ يَتَوَفَّرُ لِلْأُخْرَى، فَيَقَعُ النِّزَاعُ وَتَذْهَبُ الْأُلْفَةُ. [مَسْأَلَةٌ قَوْلُهُ تَعَالَى أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ لَا حَقَّ لِلْوَطْءِ فِيهِ وَلَا لِلْقَسْمِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فِي الْقَسْمِ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، فَجَعَلَ مِلْكَ الْيَمِينِ كُلَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَاحِدَةِ؛ فَانْتَفَى بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لِمِلْكِهِ حَقٌّ فِي الْوَطْءِ. أَوْ فِي الْقَسْمِ، وَحَقُّ مِلْكِ الْيَمِينِ فِي الْعَدْلِ قَائِمٌ بِوُجُوبِ حَسَنِ الْمِلْكِيَّةِ وَالرِّفْقِ بِالرَّقِيقِ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا} [النساء: 3] اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَلَّا يَكْثُرَ عِيَالُكُمْ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ. الثَّانِي: أَلَّا تَضِلُّوا؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. الثَّالِثُ: أَلَّا تَمِيلُوا؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالنَّاسُ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي رِسَالَةِ " مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ " بِشَيْءٍ لَمْ نَرَ أَنْ نَخْتَصِرَهُ هَاهُنَا: قُلْنَا: أُعْجِبَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ بِكَلَامِهِ هَذَا، وَقَالُوا: هُوَ حُجَّةٌ لِمَنْزِلَةِ الشَّافِعِيِّ فِي اللُّغَةِ، وَشُهْرَتِهِ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَالِاعْتِرَافِ لَهُ بِالْفَصَاحَةِ حَتَّى لَقَدْ قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: هُوَ أَفْصَحُ مَنْ نَطَقَ بِالضَّادِ، مَعَ غَوْصِهِ عَلَى الْمَعَانِي، وَمَعْرِفَتِهِ بِالْأُصُولِ؛ وَاعْتَقَدُوا أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: فَانْكِحُوا وَاحِدَةً إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَكْثُرَ عِيَالُكُمْ، فَذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى أَنْ تَنْتَفِيَ عَنْكُمْ كَثْرَةُ الْعِيَالِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ الْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ. وَقَالَ أَصْحَابُهُ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْعَوْلِ هَاهُنَا الْمَيْلَ لَمْ تَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَيْلَ لَا يَخْتَلِفُ بِكَثْرَةِ عَدَدِ النِّسَاءِ وَقِلَّتِهِنَّ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ بِالْقِيَامِ بِحُقُوقِ النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ إذَا كَثُرْنَ تَكَاثَرَتْ الْحُقُوقُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: كُلُّ مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ أَوْ قِيلَ عَنْهُ أَوْ وُصِفَ بِهِ فَهُوَ كُلُّهُ جُزْءٌ مِنْ

مَالِكٍ، وَنَغْبَةٌ مِنْ بَحْرِهِ؛ وَمَالِكٌ أَوْعَى سَمْعًا، وَأَثْقَبُ فَهْمًا، وَأَفْصَحَ لِسَانًا، وَأَبْرَعُ بَيَانًا، وَأَبْدَعُ وَصْفًا، وَيَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ مُقَابَلَةُ قَوْلٍ بِقَوْلٍ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ وَفَصْلٍ. وَاَلَّذِي يَكْشِفُ لَكَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْبَحْثُ عَنْ مَعَانِي قَوْلِكَ " عَالَ " لُغَةً حَتَّى إذَا عَرَفْتَهُ رَكَّبْتَ عَلَيْهِ مَعْنَى الْآيَةِ، وَحَكَمْتَ بِمَا يَصِحُّ بِهِ لَفْظًا وَمَعْنًى. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِيهِ سَبْعَةَ مَعَانٍ: الْأَوَّلُ: الْمَيْلُ؛ قَالَ يَعْقُوبُ: عَالَ الرَّجُلُ إذَا مَالَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا} [النساء: 3] وَفِي الْعَيْنِ: الْعَوْلُ: الْمَيْلُ فِي الْحُكْمِ إلَى الْجَوْرِ، وَعَالَ السَّهْمُ عَنْ الْهَدَفِ: مَالَ عَنْهُ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إنَّهُ لِعَائِلِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، وَيَنْشُدُ لِأَبِي طَالِبٍ: بِمِيزَانِ قِسْطٍ لَا يَغُلُّ شَعِيرَةً ... لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ الثَّانِي: عَالَ: زَادَ. الثَّالِثُ عَالَ: جَارَ فِي الْحُكْمِ. قَالَتْ الْخَنْسَاءُ: وَلَيْسَ بِأَوْلَى وَلَكِنَّهُ ... وَيَكْفِي الْعَشِيرَةَ مَا عَالَهَا الرَّابِعُ: عَالَ: افْتَقَرَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 28] الْخَامِسُ: عَالَ: أَثْقَلَ؛ قَالَهُ ابْنُ دُرَيْدٍ، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ مَعْنَى بَيْتِ الْخَنْسَاءِ، وَكَانَ بِهِ أَقْعُدُ. السَّادِسُ: قَامَ بِمَؤُونَةِ الْعَائِلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ».

الآية الرابعة قوله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة

السَّابِعُ: عَالَ: غَلَبَ، وَمِنْهُ عِيلَ صَبْرُهُ، أَيْ غَلَبَ. هَذِهِ مَعَانِيهِ السَّبْعَةُ لَيْسَ لَهَا ثَامِنٌ، وَيُقَالُ: أَعَالَ الرَّجُلُ كَثُرَ عِيَالُهُ، وَبِنَاءُ " عَالَ " يَتَعَدَّى وَيَلْزَمُ، وَيَدْخُلُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي " مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ "، كَمَا قَدَّمْنَا فِي مَسْأَلَةِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ مُفَصَّلًا بِجَمِيعِ وُجُوهِهِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدْ شَهِدَ لَكَ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى بِمَا قَالَهُ مَالِكٌ؛ أَمَّا اللَّفْظُ فَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {تَعُولُوا} [النساء: 3] فِعْلٌ ثُلَاثِيٌّ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَيْلِ الَّذِي تَرْجِعُ إلَيْهِ مَعَانِي " عَوَّلَ " كُلُّهَا، وَالْفِعْلُ فِي كَثْرَةِ الْعِيَالِ رُبَاعِيٌّ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْآيَةِ، فَقَدْ ذَهَبَتْ الْفَصَاحَةُ وَلَمْ تَنْفَعْ الضَّادُ الْمَنْطُوقُ بِهَا عَلَى الِاخْتِصَاصِ. وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: ذَلِكَ أَدْنَى، أَقْرَبُ إلَى أَنْ يَنْتَفِيَ الْعَوْلَ يَعْنِي الْمَيْلَ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَتْ وَاحِدَةً عُدِمَ الْمَيْلُ، وَإِذَا كَانَتْ ثَلَاثًا فَالْمَيْلُ أَقَلُّ، وَهَكَذَا فِي اثْنَتَيْنِ؛ فَأَرْشَدَ اللَّهُ الْخَلْقَ إذَا خَافُوا عَدَمَ الْقِسْطِ وَالْعَدْلِ بِالْوُقُوعِ فِي الْمَيْلِ مَعَ الْيَتَامَى أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ الْأَجَانِبِ أَرْبَعًا إلَى وَاحِدَةٍ؛ فَذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى أَنْ يَقِلَّ الْمَيْلَ فِي الْيَتَامَى وَفِي الْأَعْدَادِ الْمَأْذُونِ فِيهَا، أَوْ يَنْتَفِيَ؛ وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ، فَأَمَّا كَثْرَةُ الْعِيَالِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى أَلَّا يَكْثُرَ عِيَالُكُمْ. [الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى وَآتَوْا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً] ً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]

فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَنْ الْمُخَاطَبُ بِالْإِيتَاءِ؟: وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْأَزْوَاجُ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَوْلِيَاءُ؛ قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ. وَاتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى الْأَوَّلِ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الضَّمَائِرَ وَاحِدَةٌ؛ إذْ هِيَ مَعْطُوفَةٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فِي نَسَقٍ وَاحِدٍ، وَهِيَ فِيمَا تَقَدَّمَ بِجُمْلَتِهِ الْأَزْوَاج؛ فَهُمْ الْمُرَادُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا} [النساء: 3] {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ} [النساء: 4] فَوَجَبَ تَنَاسُقُ الضَّمَائِرِ، وَأَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ هُوَ الْآخِرُ فِيهَا أَوْ مِنْهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {نِحْلَةً} [النساء: 4] وَهِيَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَطِيَّةِ الْخَالِيَةِ عَنْ الْعِوَضِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهَا هَاهُنَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ: طِيبُوا نَفْسًا بِالصَّدَاقِ، كَمَا تَطِيبُونَ بِسَائِرِ النِّحَلِ وَالْهِبَاتِ. الثَّانِي: مَعْنَاهُ " نِحْلَةً " مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِلنِّسَاءِ؛ فَإِنَّ الْأَوْلِيَاءَ كَانُوا يَأْخُذُونَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَانْتَزَعَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْهُمْ وَنَحَلَهَا النِّسَاءَ. الثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَاهُ " عَطِيَّةً " مِنْ اللَّهِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَنَاكَحُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالشِّغَارِ وَيُخْلُونَ النِّكَاحَ مِنْ الصَّدَاقِ؛ فَفَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلنِّسَاءِ وَنَحَلَهُ إيَّاهُنَّ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: النِّكَاحُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ انْعَقَدَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَلٌ عَنْ صَاحِبِهِ، وَمَنْفَعَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ عِوَضٌ عَنْ مَنْفَعَةِ الْآخَرِ، وَالصَّدَاقُ زِيَادَةٌ فَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الزَّوَاجِ لِمَا جَعَلَ لَهُ فِي النِّكَاحِ مِنْ الدَّرَجَةِ، وَلِأَجْلِ خُرُوجِهِ عَنْ رَسْمِ الْعِوَضِيَّةِ جَازَ إخْلَاءُ النِّكَاحِ عَنْهُ، وَالسُّكُوتُ عَنْ ذِكْرِهِ، ثُمَّ يُفْرَضُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْقَوْلِ، أَوْ يَجِبُ بِالْوَطْءِ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا قَالُوا: لَوْ فَسَدَ الصَّدَاقُ لَمَا تَعَدَّى فَسَادُهُ إلَى النِّكَاحِ، وَلَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ بِفَسْخِهِ لَمَّا كَانَ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى عَقْدِهِ وَصِلَةً فِي حَقِّهِ، فَإِنْ طَابَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسًا بَعْدَ وُجُوبِهِ بِهِبَتِهِ لِلزَّوْجِ وَحَطَّهُ فَهُوَ حَلَالٌ لَهُ، وَإِنْ أَبَتْ فَهِيَ عَلَى حَقِّهَا فِيهِ، كَانَتْ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ عُمُومُ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الصَّدَاقَ عِوَضًا، وَأَجْرَاهُ مَجْرَى سَائِرَ أَعْوَاضِ الْمُعَامَلَاتِ الْمُتَقَابِلَاتِ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24] فَسَمَّاهُ أَجْرًا، فَوَجَبَ أَنْ يَخْرُجَ بِهِ عَنْ حُكْمِ النِّحَلِ إلَى حُكْمِ الْمُعَاوَضَاتِ. وَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ يَتَمَتَّعُ بِصَاحِبِهِ وَيُقَابِلُهُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، وَأَنَّ الصَّدَاقَ زِيَادَةٌ فِيهِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ وَجَبَ الصَّدَاقُ عَلَى الزَّوْجِ لِيَمْلِكَ بِهِ السَّلْطَنَةَ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَيَنْزِلَ مَعَهَا مَنْزِلَةَ الْمَالِكِ مَعَ الْمَمْلُوكِ فِيمَا بَذَلَ مِنْ الْعِوَضِ فِيهِ، فَتَكُونَ مَنْفَعَتُهَا بِذَلِكَ لَهُ فَلَا تَصُومُ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا تَحُجُّ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا تُفَارِقُ مَنْزِلَهَا إلَّا بِإِذْنِهِ، وَيَتَعَلَّقُ حُكْمُهُ بِمَالِهَا كُلِّهِ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهَا مِنْهُ إلَّا ثُلُثُهُ، فَمَا ظَنُّكَ بِبَدَنِهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: يَفْسُدُ النِّكَاحُ لِفَسَادِهِ، فَيُفْسَخُ قَبْلَ وَبَعْدَ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يُفْسَخُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَيَثْبُتُ بَعْدَهُ، لِمَا فَاتَ مِنْ الِانْتِفَاعِ وَمَضَى مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَا يُفْسَخُ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ. وَأَمَّا طِيبُ نَفْسِ الْمَرْأَةِ بِهِ إنْ كَانَتْ مَالِكَةً فَصَحِيحٌ دَاخِلٌ تَحْتَ الْعُمُومِ.

مسألة وهبت صداقها لزوجها وأرادت الرجوع فيه

وَأَمَّا الْبِكْرُ فَلَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ الْعُمُومِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ مَا لَهَا، كَمَا لَمْ تَدْخُلْ فِيهِ الصَّغِيرَةُ عِنْدَهُمْ وَالْمَجْنُونَةُ وَالْأَمَةُ. وَإِنْ كُنَّ مِنْ الْأَزْوَاجِ، وَلَكِنْ رَاعَى قِيَامَ الرُّشْدِ، وَدَلِيلُ التَّمَلُّكِ لِلْمَالِ دُونَ ظَاهِرِ الْعُمُومِ فِي الزَّوْجَاتِ، كَذَلِكَ فَعَلْنَا نَحْنُ فِي الْبِكْرِ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا أَدِلَّةَ قُصُورِهَا عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهَا فِي الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ عَظِيمَةُ الْمَوْقِعِ، وَفِي الَّذِي أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ النُّكَتِ كِفَايَةٌ لِلَبِيبِ الْمُنْصِفِ. [مَسْأَلَةٌ وَهَبَتْ صَدَاقَهَا لِزَوْجِهَا وَأَرَادَتْ الرُّجُوع فِيهِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمَالِكَةَ لِأَمْرِ نَفْسِهَا إذَا وَهَبَتْ صَدَاقَهَا لِزَوْجِهَا نَفَذَ ذَلِكَ عَلَيْهَا وَلَا رُجُوعَ لَهَا فِيهِ، إلَّا أَنَّ شُرَيْحًا رَأَى الرُّجُوعَ لَهَا فِيهِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [النساء: 4] وَإِذَا قَامَتْ طَالِبَةً لَهُ لَمْ تَطِبْ بِهِ نَفْسًا، وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهَا قَدْ طَابَتْ وَقَدْ أَكَلَ، فَلَا كَلَامَ لَهَا؛ إذْ لَيْسَ الْمُرَادُ صُورَةَ الْأَكْلِ، وَإِنَّمَا هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ الْإِحْلَالِ وَالِاسْتِحْلَالِ؛ وَهَذَا بَيِّنٌ. [الْآيَة الْخَامِسَة قَوْله تَعَالَى وَلَا تُؤْتَوْا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ] ُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا} [النساء: 5] فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي السَّفَهِ: وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي آيَةِ الدَّيْنِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا الصَّغِيرَةُ وَالْمَرْأَةُ الَّتِي لَمْ تُجَرَّبْ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّ السَّفَهَ صِفَةُ ذَمٍّ، وَالصَّغِيرَةُ وَالْمَرْأَةُ لَا تَسْتَحِقَّانِ ذَمًّا. وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ وَصَفَ الْمَرْأَةَ بِنُقْصَانِ الدِّينِ وَالْعَقْلِ، وَكَذَلِكَ الصَّغِيرُ مَوْصُوفٌ بِالْغِرَارَةِ وَالنَّقْصِ، وَإِنْ كَانَا لَمْ يَفْعَلَا ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمَا، لَكِنَّهُمَا

لَا يُلَامَانِ عَلَى ذَلِكَ، فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ إيتَاءِ الْمَالِ إلَيْهِمْ، وَتَمْكِينِهِمْ مِنْهُ، وَجَعْلِهِ فِي أَيْدِيهِمْ؛ وَيَجُوزُ هِبَةُ ذَلِكَ لَهُمْ، فَيَكُونُ لِلسُّفَهَاءِ مِلْكًا وَلَكِنْ لَا يَكُونُ لَهُمْ عَلَيْهِ يَدٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] اُخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا حَقِيقَةٌ، وَالْمُرَادُ نَهْيُ الرَّجُلِ أَوْ الْمُكَلَّفِ أَنْ يُؤْتِيَ مَالَهُ سُفَهَاءَ أَوْلَادِهِ؛ فَيُضَيِّعُونَهُ وَيَرْجِعُونَ عِيَالًا عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَهْيُ الْأَوْلِيَاءِ عَنْ إيتَاءِ السُّفَهَاءِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَإِضَافَتِهَا إلَى الْأَوْلِيَاءِ؛ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْخَلْقِ، تَنْتَقِلُ مِنْ يَدٍ إلَى يَدٍ، وَتَخْرُجُ عَنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] مَعْنَاهُ: لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا؛ فَيُقْتَلُ الْقَاتِلُ فَيَكُونُ قَدْ قَتَلَ نَفْسَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا أُعْطِيَ الْمَالُ سَفِيهًا فَأَفْسَدَهُ رَجَعَ النُّقْصَانُ إلَى الْكُلِّ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجَمِيعُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ حَالٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5] لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ وَلِيَّ الْيَتِيمِ؛ فَهُوَ مُخَاطَبٌ بِالتَّقْدِيرِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ اشْتَرَاك الْخَلْقِ فِي الْأَمْوَالِ، وَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ بِهِ الْآبَاءَ، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا} [النساء: 5] الْمَعْنَى: لَا تَجْمَعُوا بَيْنَ الْحِرْمَانِ وَجَفَاءِ الْقَوْلِ لَهُمْ، وَلَكِنْ حَسِّنُوا لَهُمْ الْكَلَامَ؛ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِوَلِيِّهِ: أَنَا أَنْظُرُ إلَيْكَ، وَهَذَا الِاحْتِيَاطُ يَرْجِعُ نَفْعُهُ إلَيْكَ. وَيَقُولُ الْأَبُ لِابْنِهِ: مَالِي إلَيْكَ مَصِيرُهُ، وَأَنْتَ إنْ شَاءَ اللَّهُ صَاحِبُهُ إذَا مَلَكْتُمْ رُشْدَكُمْ وَعَرَفْتُمْ تَصَرُّفَكُمْ.

الآية السادسة قوله تعالى وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح

[الْآيَة السَّادِسَة قَوْله تَعَالَى وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ] َ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء: 6] فِيهَا خَمْسَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الِابْتِلَاءُ هُنَا الِاخْتِبَارُ، لِتَحْصُلَ مَعْرِفَةُ مَا غَابَ مِنْ عِلْمِ الْعَاقِبَةِ أَوْ الْبَاطِنِ عَنْ الطَّالِبِ لِذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {الْيَتَامَى} [النساء: 6] قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي وَجْهِ تَخْصِيصِ الْيَتَامَى: وَهُوَ أَنَّ الضَّعِيفَ الْعَاجِزَ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ وَمَصْلَحَتِهِ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ لَهُ أَبٌ يَحُوطُهُ، أَوْ لَا أَبَ لَهُ؛ فَإِنْ كَانَ لَهُ أَبٌ فَمَا عِنْدَهُ مِنْ غَلَبَةِ الْحُنُوِّ وَعَظِيمِ الشَّفَقَةِ يُغْنِي عَنْ الْوَصِيَّةِ بِهِ وَالِاهْتِبَالِ بِأَمْرِهِ. فَأَمَّا الَّذِي لَا أَبَ لَهُ فَخُصَّ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى أَمْرِهِ لِذَلِكَ وَالْوَصِيَّةِ بِهِ، وَإِلَّا فَكَذَلِكَ يَفْعَلُ الْأَبُ بِوَلَدِهِ الصِّغَارِ أَوْ الضُّعَفَاءِ فَإِنَّهُ يَبْتَلِيهِمْ وَيَخْتَبِرُ أَحْوَالَهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي كَيْفِيَّةِ الِابْتِلَاءِ: وَهُوَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَتَأَمَّلُ أَخْلَاقَ يَتِيمِهِ، وَيَسْتَمِعُ إلَى أَغْرَاضِهِ، فَيَحْصُلُ لَهُ الْعِلْمُ بِنَجَابَتِهِ

وَالْمَعْرِفَةُ بِالسَّعْيِ فِي مَصَالِحِهِ، وَضَبْطِ مَالِهِ، أَوْ الْإِهْمَالُ لِذَلِكَ؛ فَإِذَا تَوَسَّمَ الْخَيْرَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَا بَأْسَ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ، وَهُوَ الثَّانِي، وَيَكُونُ يَسِيرًا، وَيُبِيحُ لَهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ؛ فَإِنْ نَمَّاهُ وَأَحْسَنَ النَّظَرَ فِيهِ فَقَدْ وَقَعَ الِاخْتِيَارُ، فَلْيُسْلِمْ إلَيْهِ مَالَهُ جَمِيعَهُ، وَإِنْ أَسَاءَ النَّظَرَ فِيهِ وَجَبَ عَلَيْهِ إمْسَاكُ مَالِهِ عَنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6] يَعْنِي: الْقُدْرَةَ عَلَى الْوَطْءِ، وَذَلِكَ فِي الذُّكُورِ بِالِاحْتِلَامِ، فَإِنْ عَدِمَ فَالسِّنُّ، وَذَلِكَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فِي رِوَايَةٍ، وَثَمَانِي عَشْرَةَ فِي أُخْرَى. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّ ابْنَ عُمَرَ فِي أُحُدٍ ابْنَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَجَوَّزَهُ فِي الْخَنْدَقِ ابْنَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً»، وَقَضَى بِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَاخْتَارَهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ نَظَرًا إلَى إطَاقَةِ الْقِتَالِ لَا إلَى الِاحْتِلَامِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا دَلِيلًا فَكُلُّ عَدَدٍ مِنْ السِّنِينَ يُذْكَرُ فَإِنَّهُ دَعْوَى، وَالسِّنُّ الَّتِي اعْتَبَرَهَا النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْلَى مِنْ سِنٍّ لَمْ يَعْتَبِرْهَا، وَلَا قَامَ فِي الشَّرْعِ دَلِيلٌ عَلَيْهَا. وَكَذَلِكَ اعْتَبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِنْبَاتَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ؛ فَمَنْ عَذِيرِي مِمَّنْ يَتْرُكُ أَمْرَيْنِ اعْتَبَرَهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَتَأَوَّلُهُ وَيَعْتَبِرُ مَا لَمْ يَعْتَبِرْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَفْظًا، وَلَا جَعَلَ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ نَظَرًا. وَأَمَّا الْإِنَاثُ فَلَا بُدَّ فِي شَرْطِ اخْتِيَارِهِنَّ مِنْ وُجُودِ نَفْسِ الْوَطْءِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا، وَحِينَئِذٍ يَقَعُ الِابْتِلَاءُ فِي الرُّشْدِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: وَجْهُ اخْتِيَارِ الرُّشْدِ فِي الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْبُلُوغُ إلَى الْقُدْرَةِ عَلَى النِّكَاحِ؛ وَالْحِكْمَةُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا حَسْبَمَا رَآهُ مَالِكٌ قَدْ قَرَّرْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ؛ نُكْتَتُهُ أَنَّ الذَّكَرَ بِتَصَرُّفِهِ وَمُلَاقَاتِهِ لِلنَّاسِ مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ إلَى بُلُوغِهِ يَحْصُلُ بِهِ الِاخْتِبَارُ، وَيَكْمُلُ عَقْلُهُ بِالْبُلُوغِ فَيَحْصُلُ لَهُ الْغَرَضُ.

مسألة دفع مال اليتيم إليه

وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَبِكَوْنِهَا مَحْجُوبَةً لَا تُعَانِي الْأُمُورَ، وَلَا تُخَالِطَ، وَلَا تَبْرُزُ لِأَجْلِ حَيَاءِ الْبَكَارَةِ وُقِفَ فِيهَا عَلَى وُجُودِ النِّكَاحِ، فَبِهِ تُفْهَمُ الْمَقَاصِدُ كُلُّهَا. قَالَ مَالِكٌ: إذَا احْتَلَمَ الْغُلَامُ ذَهَبَ حَيْثُ شَاءَ إلَّا أَنْ يُخَافَ عَلَيْهِ فَيَقْتَصِرَ حَتَّى يُؤْمَنَ أَمْرُهُ، وَلِأَبِيهِ تَجْدِيدُ الْحَجْرِ عَلَيْهِ إنْ رَأَى خَلَلًا مِنْهُ. وَأَمَّا الْأُنْثَى فَلَا بُدَّ بَعْدَ دُخُولِ زَوْجِهَا مِنْ مُضِيِّ مُدَّةٍ مِنْ الزَّمَانِ عَلَيْهَا تُمَارِسُ فِيهَا الْأَحْوَالَ، وَلَيْسَ فِي تَحْدِيدِ الْمُدَّةِ دَلِيلٌ. وَذَكَرَ عُلَمَاؤُنَا فِي تَحْدِيدِهِ أَقْوَالًا عَدِيدَةً؛ مِنْهَا الْخَمْسَةُ الْأَعْوَامِ وَالسِّتَّةُ وَالسَّبْعَةُ فِي ذَاتِ الْأَبِ، وَجَعَلُوهُ فِي الْيَتِيمَةِ الَّتِي لَا أَبَ لَهَا وَلَا وَصِيَّ عَلَيْهَا عَامًا وَاحِدًا بَعْدَ الدُّخُولِ، وَجَعَلُوهُ فِي الْمُوَلَّى عَلَيْهَا مُؤَبَّدًا حَتَّى يَثْبُتَ رُشْدُهَا. وَتَحْدِيدُ الْأَعْوَامِ فِي ذَاتِ الْأَبِ عَسِيرٌ، وَأَعْسَرُ مِنْهُ تَحْدِيدُ الْعَامِ فِي الْيَتِيمَةِ، وَأَمَّا تَمَادِي الْحَجْرِ فِي الْمُوَلَّى عَلَيْهَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ رُشْدُهَا فَيُخْرِجَهَا الْوَصِيُّ مِنْهُ أَوْ يُخْرِجَهَا الْحُكْمُ مِنْهُ فَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا سُكُوتُ الْأَبِ عَنْ ابْنَتِهِ فَدَلِيلٌ عَلَى إمْضَائِهِ لِفِعْلِهَا، فَتَخْرُجُ دُونَ حُكْمٍ بِمُرُورِ مُدَّةٍ مِنْ الزَّمَانِ يَحْصُلُ فِيهِ الِاخْتِبَارُ؛ وَتَقْدِيرُهُ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ الْوَلِيِّ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ طَوِيلٌ، وَاخْتِلَافٌ كَثِيرٌ مَوْضِعُهُ كُتُبُ الْمَسَائِلِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ دَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] فَتَعَيَّنَ اعْتِبَارُ إينَاسِ الرُّشْدِ؛ وَلَكِنْ يَخْتَلِفُ إينَاسُهُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ حَالِ الرَّاشِدِ فَاعْرِفْهُ، وَرَكِّبْهُ عَلَيْهِ، وَاجْتَنِبْ التَّحَكُّمَ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَةٌ دَفْعُ مَالِ الْيَتِيمِ إلَيْهِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَادْفَعُوا} [النساء: 6] دَفْعُ الْمَالِ إلَى الْيَتِيمِ يَكُونُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إينَاسُ الرُّشْدِ. وَالثَّانِي: بُلُوغُ الْحُلُمِ. فَإِنْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَجُزْ تَسْلِيمُ الْمَالِ إلَيْهِ، كَذَلِكَ نَصُّ الْآيَةِ؛ وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ وَابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ إذَا احْتَلَمَ الْغُلَامَ أَوْ حَاضَتْ

مسألة حقيقة الرشد

الْجَارِيَةُ وَلَمْ يُؤْنَسُ مِنْهُ الرُّشْدُ فَإِنَّهُ لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ فِيهِ بَيْعٌ وَلَا شِرَاءٌ وَلَا هِبَةٌ وَلَا عِتْقٌ حَتَّى يُؤْنَسَ مِنْهُ الرُّشْدُ، وَلَوْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُدْفَعَ إلَيْهِ مَالُهُ ثُمَّ دُفِعَ إلَيْهِ مَالُهُ لَمْ يَنْفُذْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ. [مَسْأَلَةٌ حَقِيقَةُ الرُّشْدِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: حَقِيقَةُ الرُّشْدِ: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: صَلَاحُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَالطَّاعَةُ لِلَّهِ، وَضَبْطُ الْمَالِ؛ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالشَّافِعِيُّ. الثَّانِي: إصْلَاحُ الدُّنْيَا وَالْمَعْرِفَةُ بِوُجُوهِ أَخْذِ الْمَالِ وَالْإِعْطَاءِ وَالْحِفْظِ لَهُ عَنْ التَّبْذِيرِ؛ قَالَهُ مَالِكٌ. الثَّالِثُ: بُلُوغُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ. وَعَوَّلَ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوثَقُ عَلَى دِينِهِ فَكَيْف يُؤْتَمَنُ عَلَى مَالِهِ، كَمَا أَنَّ الْفَاسِقَ لَمَّا لَمْ يُوثَقْ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ. قُلْنَا لَهُ: الْعِيَانُ يَرُدُّ هَذَا، فَإِنَّا نُشَاهِدُ الْمُتَهَتِّكَ فِي الْمَعَاصِي حَافِظًا لِمَالِهِ، فَإِنَّ غَرَضَ الْحِفْظَيْنِ مُخْتَلِفٌ؛ أَمَّا غَرَضُ الدِّينِ فَخَوْفُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَأَمَّا غَرَضُ الدُّنْيَا فَخَوْفُ فَوَاتِ الْحَوَائِجِ وَالْمَقَاصِدِ وَحِرْمَانِ اللَّذَّاتِ الَّتِي تَنَالُ بِهِ؛ وَيُخَالِفُ هَذَا الْفَاسِقُ؛ فَإِنَّ قَبُولَ الشَّهَادَةِ مَرْتَبَةٌ وَالْفَاسِقُ مَحْطُوطُ الْمَنْزِلَةِ شَرْعًا. وَعَوَّلَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ مَنْ بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً صَلُحَ أَنْ يَكُونَ جَدًّا فَيَقْبُحُ أَنْ يُحْجَرَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ. قُلْنَا: هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ جَدًّا وَلَمْ يَكُنْ ذَا جَدٍّ فَمَاذَا يَنْفَعُهُ جَدُّ النَّسَبِ وَجَدُّ الْبَخْتِ فَائِتٌ؟ وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّ الرَّجُلَ لِيَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً لِتَنْبُتَ لِحْيَتُهُ لِيَشِيبَ وَهُوَ ضَعِيفُ الْأَخْذِ لِنَفْسِهِ ضَعِيفُ الْإِعْطَاءِ. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: رَأَيْت جَدَّةً لَهَا إحْدَى وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَلَعَلَّ ذَلِكَ فِي النِّسَاءِ أَقْرَبُ مِنْهُ فِي الرِّجَالِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: إذَا سَلَّمَ الْمَالَ إلَيْهِ بِوَجْهِ الرُّشْدِ، ثُمَّ عَادَ إلَى السَّفَهِ بِظُهُورِ تَبْذِيرٍ وَقِلَّةِ تَدْبِيرٍ عَادَ عَلَيْهِ الْحَجْرُ.

مسألة محجورة أرادت نحلة ابنتها بمال لا تنكح إلا به

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَعُودُ؛ لِأَنَّهُ بَالِغٌ عَاقِلٌ بِدَلِيلِ جَوَازِ إقْرَارِهِ فِي الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] وَقَالَ: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَحْجُورًا سَفِيهًا أَوْ يَطْرَأَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِطْلَاقِ. وَيُعَضِّدُ هَذَا مَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ اشْتَرَى ضَيْعَةً بِسِتِّينَ أَلْفًا، فَقَالَ عُثْمَانُ: مَا يَسُرّنِي أَنَّهَا لِي بِنَعْلِي، وَقَالَ لِعَلِيٍّ: أَلَا تَأْخُذُ عَلَى ابْنِ أَخِيكَ وَتَحْجُرُ عَلَيْهِ فِعْلَ كَذَا. فَجَاءَ عَلِيٌّ إلَى عُثْمَانَ لِيَحْجُرَ عَلَيْهِ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا شَرِيكُهُ، فَقَالَ عُثْمَانُ: كَيْف أَحْجُرُ عَلَى رَجُلٍ شَرِيكُهُ الزُّبَيْرُ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. فَهَذَانِ خَلِيفَتَانِ قَدْ نَظَرَا فِي هَذَا وَعَزَمَا عَلَى فِعْلِهِ لَوْلَا ظُهُورُ السَّدَادِ بَعْدَ ذَلِكَ فِيهِ. [مَسْأَلَةٌ مَحْجُورَةٍ أَرَادَتْ نِحْلَةَ ابْنَتَهَا بِمَالٍ لَا تُنْكَحُ إلَّا بِهِ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6] إسْرَافًا: يَعْنِي مُجَاوَزَةً مِنْ أَمْوَالِكُمْ الَّتِي تَنْبَغِي لَكُمْ إلَى مَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. وَالْإِسْرَافُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ الْمُبَاحِ إلَى الْمَحْظُورِ. وَبِدَارًا: يَعْنِي مُبَادَرَةً أَنْ يَكْبَرُوا، وَاسْتِبَاقًا لِمَعْرِفَتِهِمْ لِمَصَالِحِهِمْ، وَاسْتِئْثَارًا عَلَيْهِمْ بِأَمْوَالِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَمَلٌ فِي أَمْوَالِهِمْ وَقُبِضَتْ عَنْهَا أَيْدِيهِمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهَا قَوْلٌ، وَلَا نَفَذَ لَهُمْ فِيهَا عَقْدٌ وَلَا عَهْدٌ، فَلَا يَجُوزُ فِيهَا بَيْعُهُمْ وَلَا نَذْرُهُمْ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا قُبِضَتْ أَيْدِيهِمْ عَنْهَا الصِّيَانَةُ لَهَا عَنْ تَبْذِيرِهِمْ وَالْحِفْظُ لَهَا إلَى وَقْتِ مَعْرِفَتِهِمْ وَتَبَصُّرِهِمْ؛ فَلَوْ جَازَ لَهُمْ فِيهَا بَيْعٌ أَوْ هِبَةٌ أَوْ عَهْدٌ لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ الْمَنْعِ لَهُمْ عَنْهَا، وَسَقَطَ مَقْصُودُ حِفْظِهَا عَلَيْهِمْ.

فَأَمَّا مَا كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ زَوْجَةٍ أَوْ أُمِّ وَلَدٍ تَمَكَّنُوا مِنْهُمَا فَكَلَامُهُمْ نَافِذٌ فِيهِمَا، وَيَنْفُذُ طَلَاقُ الزَّوْجَةِ وَعِتْقُ أُمِّ الْوَلَدِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ تَمَكَّنُوا مِنْ ذَلِكَ فِعْلًا فَيَنْفُذُ الْقَوْلُ فِيهِمَا شَرْعًا. وَهَذِهِ نُكْتَةٌ بَدِيعَةٌ فِي الْحُجَّةِ لِإِنْفَاذِ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: إذَا كَانَ الِاخْتِبَارُ إلَى بُلُوغِ النِّكَاحِ فِي الْحُرَّةِ، وَقُلْنَا: إنَّهُ فِي ذَاتِ الْأَبِ سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ، وَفِي الْيَتِيمَةِ سِتَّةٌ فَمَا عَمِلْنَا فِي أَثْنَاءِ السِّتَّةِ أَوْ السَّبْعَةِ مَحْمُولٌ عَلَى الرَّدِّ وَمَا كَانَ مِنْ الْعَمَلِ بَعْدَهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْجَوَازِ. وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: مَا عَمِلْتَ فِي السِّتَّةِ وَالسَّبْعَةِ مَحْمُولٌ عَلَى الرَّدِّ، إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ فِيهِ السَّدَادُ، وَمَا عَمِلْتَ بَعْدَ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِمْضَاءِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ فِيهِ السَّفَهُ. وَلَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي زَمَانِنَا فِي مَحْجُورَةٍ أَرَادَتْ نِحْلَةَ ابْنَتَهَا بِمَالٍ لَا تُنْكَحُ إلَّا بِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ فِعْلُ الْمَحْجُورِ، وَقُلْنَا نَحْنُ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ إينَاسَ الرُّشْدِ إنَّمَا يَكُونُ بِمِثْلِ هَذَا؛ وَمَنْ نَظَرَ لِوَلَدِهِ وَاهْتَبَلَ بِهِ فَهُوَ فِي غَايَةِ السَّدَادِ وَالرُّشْدِ لَهُ وَلِنَفْسِهِ، فَوَفَّقَ اللَّهُ مُتَوَلِّي الْحُكْمِ يَوْمَئِذٍ وَأَمْضَى النِّحْلَةَ عَلَى مَا أَفْتَيْنَاهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: 6] اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ شَيْئًا بِحَالٍ، وَهَذِهِ الرُّخْصَةُ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] وَاخْتَارَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَاحْتَجَّ بِهِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْيَتِيمُ، وَإِذَا كَانَ فَقِيرًا أَنْفَقَ عَلَيْهِ وَإِلَيْهِ بِقَدْرِ فَقْرِهِ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا أَنْفَقَ عَلَيْهِ بِقَدْرِ غِنَاهُ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ فِيهِ شَيْءٌ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَلِيُّ إنْ كَانَ غَنِيًّا عَفَّ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا أَكَلَ بِالْمَعْرُوفِ.

الرَّابِعُ: أَنَّ الْمَعْرُوفَ شُرْبُهُ اللَّبَنَ وَرُكُوبُهُ الظَّهْرَ غَيْرَ مُضِرٍّ بِنَسْلٍ وَلَا نَاهِكٍ فِي حَلْبٍ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ مَنْسُوخٌ فَهُوَ بَعِيدٌ، لَا أَرْضَاهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] وَهُوَ الْجَائِزُ الْحَسَنُ؛ وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] فَكَيْف يَنْسَخُ الظُّلْمُ الْمَعْرُوفَ؟ بَلْ هُوَ تَأْكِيدٌ لَهُ فِي التَّجْوِيزِ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْهُ مُغَايِرٌ لَهُ؛ وَإِذَا كَانَ الْمُبَاحُ غَيْرَ الْمَحْظُورِ لَمْ يَصِحَّ دَعْوَى نَسْخٍ فِيهِ؛ وَهَذَا أَبْيَنُ مِنْ الْإِطْنَابِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْيَتِيمُ فَلَا يَصِحُّ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْخِطَابَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ وَلَا مَأْمُورٍ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. الثَّانِي: أَنَّهُ إنْ كَانَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا إنَّمَا يَأْكُلُ بِالْمَعْرُوفِ؛ فَسَقَطَ هَذَا. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ الْوَلِيَّ إنْ كَانَ غَنِيًّا عَفَّ وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا أَكَلَ فَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ؛ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إنَّمَا أَنَا فِي بَيْتِ الْمَالِ كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ إنْ اسْتَغْنَيْت تَرَكْت، وَإِنْ احْتَجْت أَكَلْت؛ وَبِهِ أَقُولُ. وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ اللَّبَنِ، وَمِثْلُهُ التَّمْرُ، فَهُوَ عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ؛ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: اشْرَبْ غَيْرَ مُضِرٍّ بِنَسْلٍ وَلَا نَاهِكٍ لِلْحَلْبِ؛ وَلِأَنَّ شُرْبَ اللَّبَنِ مِنْ الضَّرْعِ؛ وَأَكْلَ التَّمْرِ مِنْ الْجُذُوعِ أَمْرٌ مُتَعَارَفٌ بَيْنَ الْخَلْقِ مُتَسَامَحٌ فِيهِ. فَإِنْ أَكَلَ هَلْ يَقْضِي؟ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ؛ فَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إنْ أَكَلْت قَضَيْت. وَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ؛ وَهُوَ قَوْلُ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيِّ وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ ابْنِ عَبَّاسٍ. فَأَمَّا مَنْ نَفَى الْقَضَاءَ فَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْأَكْلَ لَهُ، كَمَا أَنَّ النَّظَرَ عَلَيْهِ؛ فَجَرَى مَجْرَى الْأُجْرَةَ. وَأَمَّا مَنْ يَرَى الْقَضَاءَ فَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: 6]

فَمَنَعَ مِنْهُ، فَإِنْ فَعَلَ قَضَى. وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ، أَيْ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَيَقْضِي كَمَا يَقْضِي الْمُضْطَرُّ إلَى الْمَالِ فِي الْمَخْمَصَةِ. قَالَ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ، فِي قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ أَكَلَ. الْمَعْنَى: فَإِذَا رَدَدْتُمْ مَا أَكَلْتُمْ فَأَشْهِدُوا إذَا غَرِمْتُمْ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي؛ لِأَنَّ النَّظَرَ لَهُ؛ فَيَتَعَيَّنُ بِهِ الْأَكْلُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالْمَعْرُوفُ هُوَ حَقُّ النَّظَرِ؛ وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقَارِضُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ وَيَأْكُلُ حَظَّهُ مِنْ الرِّبْحِ، فَكَذَلِكَ يَأْخُذُ مِنْ صَمِيمِ الْمَالِ بِمِقْدَارِ النَّظَرِ؛ هَذَا إذَا كَانَ فَقِيرًا؛ أَمَّا إذَا كَانَ غَنِيًّا فَلَا يَأْخُذُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَهُ بِالْعِفَّةِ وَالْكَفِّ عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَوْلُ عُمَرَ: " أَنَا كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ إنْ اسْتَغْنَيْت تَرَكْت " أَلَيْسَ يَجُوزُ لِلْغَنِيِّ الْأَكْلُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؟ كَذَلِكَ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ إنْ كَانَ غَنِيًّا الْأَكْلُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ؟ قُلْنَا عَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَ عُمَرَ: " أَنَا كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ إنْ اسْتَغْنَيْت " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَلِيفَةَ لَيْسَ كَالْوَصِيِّ، وَلَكِنَّ عُمَرَ بِوَرَعِهِ جَعَلَ نَفْسَهُ كَالْوَصِيِّ. الثَّانِي: أَنَّ الَّذِي يَأْكُلُهُ الْخُلَفَاءُ وَالْوُلَاةُ وَالْفُقَهَاءُ لَيْسَ بِأُجْرَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُمْ لِنَازِلِهِمْ وَمُنْتَابِهِمْ؛ وَإِلَّا فَاَلَّذِي يَفْعَلُونَهُ فَرْضٌ عَلَيْهِمْ، فَكَيْف تَجِبُ الْأُجْرَةُ لَهُمْ؛ وَهُوَ فَرْضٌ عَلَيْهِمْ، وَالْفَرْضِيَّةُ تَنْفِي الْأُجْرَةَ، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ عَمَلًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ كَعَمَلِ الْخُلَفَاءِ وَالْقُضَاةِ وَالْمُفْتِينَ وَالسُّعَاةِ وَالْمُعَلِّمِينَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: مَنْ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِهَذَا كُلِّهِ؟: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: كَانَ الْأَيْتَامُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ عَلَى قِسْمَيْنِ: [الْأَوَّلُ]: يَتِيمٌ مَعْهُودٌ بِهِ، كَقَوْلِ سَعْدٍ: هُوَ ابْنُ أَخِي عَهِدَ إلَيَّ فِيهِ.

مسألة للوصي والكافل أن يحفظ الصبي في بدنه وماله

الثَّانِي: مَكْفُولٌ بِقَرَابَةٍ أَوْ جِوَارٍ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْكَافِلَ لَهُ نَاظِرٌ كَمَا لَوْ وَصَّى إلَيْهِ الْأَبُ، إلَّا أَنَّ الْكَافِلَ نَاظِرٌ فِي حِفْظِ الْمَوْجُودِ، وَالْمَعْهُودُ إلَيْهِ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَبِ فِي التَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ؛ فَإِنْ كَانَ الْيَتِيمُ عَرِيًّا عَنْ كَافِلٍ وَوَصِيٍّ فَالْمُخَاطَبُ وَلِيُّ الْأَوْلِيَاءِ، وَهُوَ السُّلْطَانُ؛ فَهُوَ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ، وَهُوَ وَلِيٌّ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: يَا مَنْ إلَيْهِ يَتِيمٌ بِكَفَالَةٍ أَوْ عَهْدٍ أَوْ وِلَايَةٍ عَامَّةٍ، افْعَلْ كَذَا. [مَسْأَلَةٌ لِلْوَصِيِّ وَالْكَافِلِ أَنْ يَحْفَظَ الصَّبِيَّ فِي بَدَنِهِ وَمَالِهِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فِي قَوْله تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْوَصِيِّ وَالْكَافِلِ أَنْ يَحْفَظَ الصَّبِيَّ فِي بَدَنِهِ وَمَالِهِ؛ إذْ لَا يَصِحُّ الِابْتِلَاءُ إلَّا بِذَلِكَ، فَالْمَالُ يَحْفَظُهُ بِضَبْطِهِ وَالْبَدَنُ يَحْفَظُهُ بِأَدَبِهِ. وَرُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ فِي حِجْرِي يَتِيمًا أَآكُلُ مِنْ مَالِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا وَلَا وَاقٍ مَالَكَ بِمَالِهِ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَأَضْرِبُهُ؟ قَالَ: مَا كُنْت ضَارِبًا مِنْهُ وَلَدَكَ». وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ مُسْنَدًا فَلَيْسَ يَجِدُ عَنْهُ أَحَدٌ مُلْتَحَدًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِصْلَاحُ، وَإِصْلَاحُ الْبَدَنِ أَوْكَدُ مِنْ إصْلَاحِ الْمَالِ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُعَلِّمُهُ الصَّلَاةَ، وَيَضْرِبُهُ عَلَيْهَا، وَيَكْفِهِ عَنْ الْحَرَامِ بِالْكَهْرِ وَالْقَهْرِ. [مَسْأَلَةٌ كُلَّ مَالٍ قُبِضَ عَلَى وَجْهِ الْأَمَانَةِ بِإِشْهَادٍ لَا يَبْرَأُ مِنْهُ إلَّا بِإِشْهَادٍ عَلَى دَفْعِهِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] قَالَ عُلَمَاؤُنَا: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِشْهَادِ تَنْبِيهًا عَلَى التَّحْصِينِ وَإِرْشَادًا إلَى نُكْتَةٍ بَدِيعَةٍ؛ وَهِيَ أَنَّ كُلَّ مَالٍ قُبِضَ عَلَى وَجْهِ الْأَمَانَةِ بِإِشْهَادٍ لَا يَبْرَأُ مِنْهُ إلَّا بِإِشْهَادٍ عَلَى دَفْعِهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] وَهُوَ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ، فَلَوْ ضَاعَ قَبْلَ قَوْلِهِ، فَإِذَا قَالَ دَفَعْت لَمْ يُقْبَلْ إلَّا بِالْإِشْهَادِ؛ لِأَنَّ الضَّيَاعَ لَا يُمْكِنُهُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ وَقْتَ ضَيَاعِهِ، فَلَا

الآية السابعة قوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون

يُكَلَّفُ مَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ؛ وَالْبَيِّنَةُ يَقْدِرُ أَنْ يُقِيمَهَا حَالَ الدَّفْعِ فَتَفْرِيطُهُ فِيهَا مُوجِبٌ عَلَيْهِ الضَّمَانَ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي الْوَدِيعَةِ مِثْلَهُ، وَهِيَ عِنْدَنَا مَحْمُولَةٌ وَنَظِيرَةٌ لَهُ. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَا: إنَّهَا أَمَانَةٌ؛ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ. قُلْنَا: لَوْ رَضِيَ أَمَانَتَهُ بِالرَّدِّ مَا كَتَبَ عَلَيْهِ الشَّهَادَةُ بِالْعَقْدِ. [الْآيَة السَّابِعَة قَوْله تَعَالَى لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ] َ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7] فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَمْنَعُونَ النِّسَاءَ الْمِيرَاثَ وَيَخُصُّونَ بِهِ الرِّجَالَ، حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ إذَا مَاتَ وَتَرَكَ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا وَقَرَابَةً كِبَارًا اسْتَبَدَّ بِالْمَالِ الْقَرَابَةُ الْكِبَارُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ «رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ مَاتَ وَتَرَكَ وَلَدًا أَصَاغِرَ وَأَخًا كَبِيرًا، فَاسْتَبَدَّ بِمَالِهِ، فَرَفَعَ أَمَرَهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ الْعَمُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ الْوَلَدَ صَغِيرٌ لَا يَرْكَبُ وَلَا يَكْسِبُ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ». وَكَانَ هَذَا مِنْ الْجَاهِلِيَّةِ تَصَرُّفًا بِجَهْلٍ عَظِيمٍ؛ فَإِنَّ الْوَرَثَةَ الصِّغَارَ الضِّعَافَ كَانُوا أَحَقَّ بِالْمَالِ مِنْ الْقَوِيِّ؛ فَعَكَسُوا الْحُكْمَ وَأَبْطَلُوا الْحِكْمَةَ؛ فَضَلُّوا بِأَهْوَائِهِمْ وَأَخْطَئُوا فِي آرَائِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثُ فَوَائِدَ: إحْدَاهَا: بَيَانُ عِلَّةِ الْمِيرَاثِ، وَهِيَ الْقَرَابَةُ. الثَّانِي: عُمُومُ الْقَرَابَةِ كَيْفَمَا تَصَرَّفَتْ مِنْ قُرْبٍ أَوْ بُعْدٍ.

مسألة قسمة المتروك على الفرائض إذا كان فيه تغيير عن حاله

الثَّالِثُ: إجْمَالُ النَّصِيبِ الْمَفْرُوضِ فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ خُصُوصَ الْقَرَابَةِ وَمِقْدَارَ النَّصِيبِ، وَكَانَ نُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ تَوْطِئَةً لِلْحُكْمِ وَإِبْطَالًا لِذَلِكَ الرَّأْيِ الْفَاسِدِ، حَتَّى وَقَعَ الْبَيَانُ الشَّافِي بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى سِيرَةِ اللَّهِ وَسُنَّتِهِ فِي إبْطَالِ آرَائِهِمْ وَسُنَّتِهِمْ. [مَسْأَلَةٌ قِسْمَةِ الْمَتْرُوكِ عَلَى الْفَرَائِضِ إذَا كَانَ فِيهِ تَغْيِيرٌ عَنْ حَالِهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7] كَانَ أَشْيَاخُنَا قَدْ اخْتَلَفُوا عَنْ مَالِكٍ فِي قِسْمَةِ الْمَتْرُوكِ عَلَى الْفَرَائِضِ إذَا كَانَ فِيهِ تَغْيِيرٌ عَنْ حَالِهِ كَالْحَمَّامِ وَبَدْءِ الزَّيْتُونِ وَالدَّارِ الَّتِي تَبْطُلُ مَنَافِعُهَا بِإِبْرَازِ أَقَلِّ السِّهَامِ مِنْهَا؛ فَكَانَ ابْنُ كِنَانَةَ يَرَى ذَلِكَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7] وَكَانَ ابْنُ الْقَاسِمِ يَرْوِي عَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُضَارَّةِ؛ وَقَدْ نَفَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُضَارَّةَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12] وَأَكَّدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ». وَهَذَا بَعِيدٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ تَعَرُّضٌ لِلْقِسْمَةِ؛ وَإِنَّمَا اقْتَضَتْ الْآيَةُ وُجُوبَ الْحَظِّ وَالنَّصِيبِ فِي التَّرِكَةِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء: 7] وَهَذَا ظَاهِرٌ جِدًّا؛ فَأَمَّا إبْرَازُ ذَلِكَ النَّصِيبِ فَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْوَارِثَ يَقُولُ: قَدْ وَجَبَ لِي نَصِيبٌ بِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَمَكِّنُونِي مِنْهُ. فَيَقُولُ لَهُ شَرِيكُهُ: أَمَّا تَمْكِينُكَ عَلَى الِاخْتِصَاصِ فَلَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى ضَرَرٍ بَيْنِي وَبَيْنِكَ مِنْ إفْسَادِ الْمَالِ وَتَغْيِيرِ الْهَيْئَةِ وَتَنْقِيصِ الْقِيمَةِ، فَيَقَعُ التَّرْجِيحُ.

الآية الثامنة قوله تعالى وإذا حضر القسمة أولو القربى

وَالْأَظْهَرُ سُقُوطُ الْقِسْمَةِ فِيمَا يُبْطِلُ الْمَنْفَعَةَ وَيَنْقُصُ الْقِيمَةَ. [الْآيَة الثَّامِنَة قَوْله تَعَالَى وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى] الْآيَةُ الثَّامِنَةُ: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا} [النساء: 8] فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ؛ قَالَهُ سَعِيدٌ وَقَتَادَةُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ ابْنِ عَبَّاسٍ. الثَّانِي: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ، وَالْمَعْنَى فِيهَا الْإِرْضَاخُ لِلْقَرَابَةِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ إذَا كَانَ الْمَالُ وَافِرًا، وَالِاعْتِذَارُ إلَيْهِمْ إنْ كَانَ الْمَالُ قَلِيلًا، وَيَكُونُ هَذَا عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ بَيَانًا لِتَخْصِيصِ قَوْله تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ} [النساء: 7] وَأَنَّهُ فِي بَعْضِ الْوَرَثَةِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ؛ فَيَكُونُ تَخْصِيصًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ يَتَعَيَّنُ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ. وَهَذَا تَرْتِيبٌ بَدِيعٌ؛ لِأَنَّهُ عُمُومٌ ثُمَّ تَخْصِيصٌ ثُمَّ تَعْيِينٌ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا نَازِلَةٌ فِي الْوَصِيَّةِ، يُوصِي الْمَيِّتُ لِهَؤُلَاءِ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي نَقْلِ الْوَصِيَّةِ لَا مَعْنًى لَهَا. وَأَكْثَرُ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ أَضْغَاثٌ وَآثَارٌ ضِعَافٌ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مُبَيِّنَةٌ اسْتِحْقَاقَ الْوَرَثَةِ لِنَصِيبِهِمْ، وَاسْتِحْبَابَ الْمُشَارَكَةِ لِمَنْ لَا نَصِيبَ لَهُ مِنْهُمْ بِأَنْ يُسْهِمَ لَهُمْ مِنْ التَّرِكَةِ وَيَذْكُرَ لَهُمْ مِنْ الْقَوْلِ مَا يُؤْنِسُهُمْ وَتَطِيبُ بِهِ نُفُوسُهُمْ. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ فَرْضًا لَكَانَ ذَلِكَ اسْتِحْقَاقًا فِي التَّرِكَةِ وَمُشَارَكَةً فِي الْمِيرَاثِ لِأَحَدِ الْجِهَتَيْنِ مَعْلُومٌ وَلِلْآخَرِ مَجْهُولٌ؛ وَذَلِكَ مُنَاقِضٌ لِلْحِكْمَةِ وَإِفْسَادٌ لِوَجْهِ التَّكْلِيفِ.

الآية التاسعة قوله تعالى وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم

الثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ الصِّلَةُ، وَلَوْ كَانَ فَرْضًا يَسْتَحِقُّونَهُ لَتَنَازَعُوا مُنَازَعَةَ الْقَطِيعَةِ [الْآيَة التَّاسِعَة قَوْله تَعَالَى وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ] ْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} [النساء: 9] اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ نَهْيٌ لِمَنْ حَضَرَ عِنْدَ الْمَوْتِ عَنْ التَّرْغِيبِ لَهُ بِالْوَصِيَّةِ حَتَّى يَخْرُجَ إلَى الْإِسْرَافِ الْمُضِرِّ بِالْوَرَثَةِ. الثَّانِي: أَنَّهُ نَهْيٌ لِلْمَيِّتِ عَنْ الْإِعْطَاءِ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْمَسَاكِينٍ وَالضُّعَفَاءِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ نَهْيٌ لِمَنْ حَضَرَ عِنْدَ الْمَيِّتِ عَنْ تَرْغِيبِهِ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْآيَةَ رَاجِعَةٌ إلَى مَا سَبَقَ مِنْ ذِكْرِ الْيَتَامَى وَأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلِيَائِهِمْ، فَذُكِّرُوا بِالنَّظَرِ فِي مَصْلَحَتِهِمْ وَالْعَمَلِ بِمَا كَانَ يُرْضِيهِمْ أَنْ يُعْمَلَ مَعَ ذُرِّيَّاتِهِمْ الضُّعَفَاءِ وَوَرَثَتِهِمْ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ ضَرَرٍ يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ عَلَى ذُرِّيَّةِ الْمُتَكَلِّمِ، فَلَا يَقُولُ إلَّا مَا يُرِيدُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ وَلَهُ. [الْآيَة الْعَاشِرَة قَوْله تَعَالَى يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ] الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ قَوْلُهُ قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 11] اعْلَمُوا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ، وَعُمْدَةٌ مِنْ عُمُدِ

الْأَحْكَامِ، وَأُمٌّ مِنْ أُمَّهَاتِ الْآيَاتِ: فَإِنَّ الْفَرَائِضَ عَظِيمَةُ الْقَدْرِ حَتَّى إنَّهَا ثُلُثُ الْعِلْمِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْعِلْمُ ثَلَاثٌ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ، أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ». وَكَانَ جُلَّ عِلْمِ الصَّحَابَةِ وَعُظْمَ مُنَاظَرَتِهِمْ، وَلَكِنَّ الْخُلُقَ ضَيَّعُوهُ، وَانْتَقِلُوا مِنْهُ إلَى الْإِجَارَاتِ وَالسَّلَمِ وَالْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ وَالتَّدْلِيسِ، إمَّا لِدِينٍ نَاقِصٍ، أَوْ عِلْمٍ قَاصِرٍ، أَوْ غَرَضٍ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا ظَاهِرٍ {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص: 69] وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فَضْلِ الْفَرَائِضِ وَالْكَلَامِ عَلَيْهَا إلَّا أَنَّهَا تَبْهَت مُنْكَرِي الْقِيَاسِ وَتُخْزِي مُبْطِلِي النَّظَرِ فِي إلْحَاقِ النَّظِيرِ بِالنَّظِيرِ، فَإِنَّ عَامَّةَ مَسَائِلِهَا إنَّمَا هِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى ذَلِكَ؛ إذْ النُّصُوصُ لَمْ تُسْتَوْفَ فِيهَا، وَلَا أَحَاطَتْ بِنَوَازِلِهَا، وَسَتَرَى ذَلِكَ فِيهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ رَوَى مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ لَمْ يَتَعَلَّمْ الْفَرَائِضَ وَالْحَجَّ وَالطَّلَاقَ فَبِمَ يَفْضُلُ أَهْلُ الْبَادِيَةِ؟ وَقَالَ وَهْبٌ عَنْ مَالِكٍ: كُنْت أَسْمَعُ رَبِيعَةَ يَقُولُ: مَنْ تَعَلَّمَ الْفَرَائِضَ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِهَا مِنْ الْقُرْآنِ مَا أَسْرَعَ مَا يَنْسَاهَا. قَالَ مَالِكٌ: وَصَدَقَ. وَقَدْ أَطَلْنَا فِيهَا النَّفَسَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ؛ فَأَمَّا الْآنَ فَإِنَّا نُشِيرُ إلَى نُكَتٍ تَتَعَلَّقُ بِأَلْفَاظِ الْكِتَابِ، وَفِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْمُخَاطَبِ بِهَا، وَعَلَى مَنْ يَعُودُ الضَّمِيرُ؟: وَبَيَانُهُ أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ فِي الْمَوْتَى الْمَوْرُوثِينَ، وَالْخُلَفَاءِ الْحَاكِمِينَ، وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ؛ أَمَّا تَنَاوُلُهَا لِلْمَوْتَى فَلْيَعْلَمُوا الْمُسْتَحَقِّينَ لِمِيرَاثِهِمْ بَعْدَهُمْ فَلَا يُخَالِفُوهُ بِعَقْدٍ وَلَا عَهْدٍ؛ وَفِي ذَلِكَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَّهَاتُهَا ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: حَدِيثُ سَعْدٍ فِي الصَّحِيحِ: «عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي مَرَضٍ اشْتَدَّ بِي، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَنَا ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إلَّا ابْنَةٌ لِي؛ أَفَأَتَصَدَّقُ بِمَالِي كُلِّهِ؟ قَالَ: لَا. قُلْت: فَالثُّلُثَانِ؟ قَالَ: لَا. قُلْت: فَالشَّطْرُ؟ قَالَ:

لَا. الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ؛ إنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ». الثَّانِي: مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ سُئِلَ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَأْمُلُ الْغِنَى وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْت: لِفُلَانٍ كَذَا، وَلِفُلَانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ كَذَا». الثَّالِثُ: مَا رَوَى مَالِكٌ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ لَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: " إنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ، فَلَوْ كُنْتِ جَدَدْتِهِ لَكَانَ لَكِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ الْوَارِثِ ". فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمَرْءَ أَحَقُّ بِمَالِهِ فِي حَيَاتِهِ، فَإِذَا وُجِدَ أَحَدُ سَبَبَيْ زَوَالِهِ وَهُوَ الْمَرَضُ قَبْلَ وُجُودِ الثَّانِي، وَهُوَ الْمَوْتُ مُنِعَ مِنْ ثُلُثَيْ مَالِهِ، وَحُجِرَ عَلَيْهِ تَفْوِيتُهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْوَارِثِ بِهِ، فَعَهِدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ إلَيْهِ، وَوَصَّى بِهِ لِيُعَلِّمَهُ فَيَعْمَلَ بِهِ؛ وَوُجُوبُ الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ عَلَى سَبَبَيْنِ بِأَحَدِ سَبَبَيْهِ ثَابِتٌ مَعْلُومٌ فِي الْفِقْهِ؛ لِجَوَازِ إخْرَاجِ

الْكَفَّارَةِ بَعْدَ الْيَمِينِ، وَقَبْلَ الْحِنْثِ، وَبَعْدَ الْخُرُوجِ، وَقَبْلَ الْمَوْتِ فِي الْقَتْلِ، وَكَذَلِكَ صَحَّ سُقُوطُ الشُّفْعَةِ بِوُجُودِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْمَالِ قَبْلَ الْبَيْعِ. وَأَمَّا تَنَاوُلُهُ لِلْخُلَفَاءِ الْحَاكِمِينَ فَلْيَقْضُوا بِهِ عَلَى مَنْ نَازَعَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمُتَخَاصِمِينَ. وَأَمَّا تَنَاوُلُهُ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَكُونُوا بِهِ عَالِمِينَ، وَلِمَنْ جَهِلَهُ مُبَيِّنِينَ، وَعَلَى مَنْ خَالَفَهُ مُنْكِرِينَ، وَهَذَا فَرْضٌ يَعُمُّ الْخَلْقَ أَجْمَعِينَ، وَهُوَ فَنٌّ غَرِيبٌ مِنْ تَنَاوُلِ الْخِطَابِ لِلْمُخَاطَبِينَ، فَافْهَمُوهُ وَاعْمَلُوا بِهِ وَحَافِظُوا عَلَيْهِ وَاحْفَظُوهُ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا لَا يُوَرِّثُونَ الضُّعَفَاءَ مِنْ الْغِلْمَانِ وَلَا الْجَوَارِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ، وَبَيَّنَ حُكْمَهُ وَرَدَّ قَوْلَهُمْ. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الْمِيرَاثُ لِلْوَلَدِ، وَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدِينَ وَالْأَقْرِبَاءِ؛ فَرَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ وَبَيَّنَ الْمَوَارِيثَ، رَوَاهُ فِي الصَّحِيحِ. الثَّالِثُ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، وَهُوَ مُقَارَبُ الْحَدِيثِ عِنْدَهُمْ، رَوَى عَنْ «جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى جِئْنَا امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ فِي الْأَسْوَاقِ، وَهِيَ جَدَّةُ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، فَزُرْنَاهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَعَرَّشَتْ لَنَا صَوْرًا فَقَعَدْنَا تَحْتَهُ، وَذَبَحَتْ لَنَا شَاةً وَعَلَّقَتْ لَنَا قِرْبَةً، فَبَيْنَمَا نَحْنُ نَتَحَدَّثُ إذْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْآنَ يَأْتِيكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعَ عَلَيْنَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَتَحَدَّثْنَا، ثُمَّ قَالَ لَنَا: الْآنَ يَأْتِيكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعَ عَلَيْنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَتَحَدَّثْنَا، فَقَالَ: الْآنَ يَأْتِيكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. قَالَ: فَرَأَيْتُهُ يُطَأْطِئُ رَأْسَهُ مِنْ سَعَفِ الصُّورِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنَّ شِئْتَ جَعَلْته عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْنَا، فَهَنِيئًا لَهُمْ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمْ، فَجَاءَتْ الْمَرْأَةُ بِطَعَامِهَا فَتَغَدَّيْنَا، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِصَلَاةِ الظُّهْرِ، فَقُمْنَا مَعَهُ مَا تَوَضَّأَ وَلَا أَحَدٌ مِنَّا، غَيْرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ بِكَفِّهِ جَرْعًا مِنْ

الْمَاءِ فَتَمَضْمَضَ بِهِنَّ مِنْ غَمَرِ الطَّعَامِ؛ فَجَاءَتْ الْمَرْأَةُ بِابْنَتَيْنِ لَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ هَاتَانِ بِنْتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ قُتِلَ مَعَكَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقَدْ اسْتَفَاءَ عَمُّهُمَا مَالَهُمَا وَمِيرَاثَهُمَا كُلَّهُ، فَلَمْ يَدْعُ لَهُمَا مَالًا إلَّا أَخَذَهُ؛ فَمَا تَرَى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَوَاَللَّهِ لَا تَنْكِحَانِ أَبَدًا إلَّا وَلَهُمَا مَالٌ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ فَنَزَلَتْ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] الْآيَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اُدْعُ لِي الْمَرْأَةَ وَصَاحِبَهَا فَقَالَ لِعَمِّهِمَا: أَعْطِهِمَا الثُّلُثَيْنِ، وَأَعْطِ أُمَّهُمَا الثُّمُنَ، وَلَك الْبَاقِي». فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَطَاءٍ مُقَارِبُ الْحَدِيثِ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ مَقْبُولٌ لِهَذَا الْإِسْنَادِ. الثَّالِثُ: مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرٍ «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ مَا تَرَى أَنْ أَصْنَعَ فِي مَالِي؟ فَنَزَلَتْ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11]» رَدٌّ لِكُلِّ عَمَلٍ مِنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ وَإِبْطَالٌ لِجَمِيعِ الْأَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ، إلَّا أَنَّ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الْأَوَّلِ فَائِدَةً؛ وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ شَرْعًا مَسْكُوتًا عَنْهُ؛ مُقَرًّا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَرْعًا مُقَرًّا عَلَيْهِ لَمَا حَكَمَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى عَمِّ الصَّبِيَّتَيْنِ بِرَدِّ مَا أَخَذَ مِنْ مَالِهِمَا؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ إذَا مَضَتْ وَجَاءَ النَّسْخُ بَعْدَهَا إنَّمَا تُؤَثِّرُ فِي الْمُسْتَقْبِلِ، وَلَا يُنْقَضُ بِهِ مَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا كَانَتْ ظُلَامَةٌ وَقَعَتْ، أَمَّا أَنَّ الَّذِي وَقَعَتْ الْوَصِيَّةُ بِهِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فَأُخْرِجَتْ عَنْهَا أَهْلُ الْمَوَارِيثِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] يَتَنَاوَلُ كُلَّ وَلَدٍ كَانَ مَوْجُودًا مِنْ صُلْبِ الرَّجُلِ دُنْيَا أَوْ بَعِيدًا؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 31] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ أَدَم». وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} [النساء: 12]

فَدَخَلَ فِيهِ كُلُّ مَنْ كَانَ لِصُلْبِ الْمَيْتِ دُنْيَا أَوْ بَعِيدًا. وَيُقَالُ بَنُو تَمِيمٍ؛ فَيَعُمُّ الْجَمِيعَ؛ فَمِنْ عُلَمَائِنَا مَنْ قَالَ: ذَلِكَ حَقِيقَةً فِي الْأَدْنَيْنَ مَجَازٌ فِي الْأَبْعَدَيْنِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ التَّوَلُّدِ، فَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ فِي الْجَمِيعِ فَقَدْ غَلَبَ مَجَازُ الِاسْتِعْمَالِ فِي إطْلَاقِهِ عَلَى الْأَعْيَانِ فِي الْأَدْنَيْنَ عَلَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ مَجَازٌ فِي الْبُعَدَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَنْفِي عَنْهُ؛ فَيُقَالُ لَيْسَ بِوَلَدٍ، وَلَوْ كَانَ حَقِيقَةً لَمَا سَاغَ نَفْيَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُسَمِّي وَلَدَ الْوَلَدِ وَلَدًا، وَلَا يُسَمِّي بِهِ وَلَدَ الْأَعْيَانِ، وَكَيْفَمَا دَارَتْ الْحَالُ فَقَدْ اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ هَاهُنَا عَلَى أَنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَى الْجَمِيعِ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: لَوْ حَبَسَ رَجُلٌ عَلَى وَلَدِهِ لَانْتَقَلَ إلَى أَبْنَائِهِمْ، وَلَوْ قَالَ صَدَقَةً فَاخْتَلَفَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا؛ هَلْ تُنْقَلُ إلَى أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَكَذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَهُ حَفَدَةَ لَمْ يَحْنَثْ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ ذَلِكَ فِي أَقْوَالِ الْمَخْلُوقِينَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي عُمُومِ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ هَلْ يُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ كَمَا يُحْمَلُ كَلَامُ الْبَارِي؟ فَإِذَا قُلْنَا بِذَلِكَ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ كَلَامُ النَّاسِ عَلَى الْعُمُومِ بِحَالٍ، وَإِنْ حُمِلَ كَلَامُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنَّ كَلَامَ النَّاسِ يَرْتَبِطُ بِالْأَغْرَاضِ وَالْمَقَاصِدِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْحَبْسِ التَّعْقِيبِ، فَدَخَلَ فِيهِ وَلَدُ الْوَلَدِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الصَّدَقَةِ التَّمْلِيكُ؛ فَدَخَلَ فِيهِ الْأَدْنَى خَاصَّةً وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ مِنْ بَعْدُ إلَّا بِدَلِيلٍ.

مسألة مفاد قوله تعالى للذكر مثل حظ الأنثيين

وَاَلَّذِي يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 11] فَدَخَلَ فِيهِ آبَاءُ الْآبَاءِ، وَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِيهِ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ. [مَسْأَلَةٌ مفاد قَوْله تَعَالَى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] هَذَا الْقَوْلُ يُفِيدُ أَنَّ الذَّكَرَ إذَا اجْتَمَعَ مَعَ الْأُنْثَى أَخَذَ مِثْلَيْ مَا تَأْخُذُهُ الْأُنْثَى، وَأَخَذَتْ هِيَ نِصْفَ مَا يَأْخُذُ الذَّكَرُ؛ وَلَيْسَ هَذَا بِنَصٍّ عَلَى الْإِحَاطَةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ، وَلَكِنَّهُ تَنْبِيهٌ قَوِيٌّ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا أَنَّهُمْ يُحِيطُونَ بِجَمِيعِ الْمَالِ إذَا انْفَرَدُوا لَمَا كَانَ بَيَانًا لِسَهْمٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَاقْتَضَى الِاضْطِرَارُ إلَى بَيَانِ سِهَامِهِمْ الْإِحَاطَةَ بِجَمِيعِ الْمَالِ إذَا انْفَرَدُوا؛ فَإِذَا انْضَافَ إلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ مِنْ ذَوِي السِّهَامِ فَأَخَذَ سَهْمَهُ كَانَ الْبَاقِي أَيْضًا مَعْلُومًا؛ فَيَتَعَيَّنُ سَهْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيهِ، وَوَجَبَ حَمْلُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى الْعُمُومِ، إلَّا أَنَّهُ خَصَّ مِنْهُ الْأَبَوَيْنِ بِالسُّدُسِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالزَّوْجَيْنِ بِالرُّبْعِ وَالثُّمُنِ لَهُمَا عَلَى تَفْصِيلِهِمَا، وَبَقِيَ الْعُمُومُ وَالْبَيَانُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] عَامٌّ فِي الْأَعْلَى مِنْهُمْ وَالْأَسْفَلِ؛ فَإِنْ اسْتَوَوْا فِي الرُّتْبَةِ أَخَذُوهُ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ، وَإِنْ تَفَاوَتُوا فَكَانَ بَعْضُهُمْ أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ حَجَبَ الْأَعْلَى الْأَسْفَلَ؛ لِأَنَّ الْأَعْلَى يَقُولُ: أَنَا ابْنُ الْمَيِّتِ، وَالْأَسْفَلَ يَقُولُ: أَنَا ابْنُ ابْنِ الْمَيِّتِ، فَلَمَّا اسْتَفَلَّتْ دَرَجَتُهُ انْقَطَعَتْ حُجَّتُهُ؛ لِأَنَّ الَّذِي يُدْلِي بِهِ يُقْطَعُ بِهِ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ الْأَعْلَى ذَكَرًا سَقَطَ الْأَسْفَلُ، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ الْأَعْلَى أُنْثَى أَخَذَتْ الْأُنْثَى حَقَّهَا، وَبَقِيَ الْبَاقِي لِوَلَدِ الْوَلَدِ إنْ كَانَ ذَكَرًا، وَإِنْ كَانَ وَلَدُ الْوَلَدِ أُنْثَى أُعْطِيت الْعُلْيَا النِّصْفَ، وَأُعْطِيَتْ السُّفْلَى السُّدُسَ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ؛ لِأَنَّا نُقَدِّرُهُمَا بِنْتَيْنِ مُتَفَاوِتَتَيْنِ فِي الرُّتْبَةِ، فَاشْتَرَكَتَا فِي الثُّلُثِ بِحُكْمِ الْبِنْتِيَّةِ، وَتَفَاوَتَتَا فِي الْقِسْمَةِ بِتَفَاوُتِ الدَّرَجَة؛ وَبِهَذِهِ الْحِكْمَةُ جَاءَتْ السُّنَّةُ. وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ الْأَعْلَى بِنْتَيْنِ أَخَذَتَا الثُّلُثَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ الْأَسْفَلُ أُنْثَى لَمْ يَكُنْ لَهَا شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِإِزَائِهَا أَوْ أَسْفَلَ مِنْهَا ذَكَرٌ فَإِنَّهَا تَأْخُذُ مَعَهُ مَا بَقِيَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، إلَّا مَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: " إنْ كَانَ الذَّكَرُ مِنْ وَلَدِ الْوَلَدِ بِإِزَائِهَا رَدَّ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ أَسْفَلَ مِنْهَا لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهَا شَيْئًا "، مُرَاعِيًا فِي ذَلِكَ.

مسألة قوله تعالى فإن كن نساء فوق اثنتين

ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] فَلَمْ يَجْعَلْ لِلْبَنَاتِ وَإِنْ كَثُرْنَ شَيْئًا إلَّا الثُّلُثَيْنِ؛ وَهَذَا سَاقِطٌ، فَإِنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي قَضَيْنَا فِيهِ بِاشْتِرَاكِ بِنْتِ الِابْنِ مَعَ ابْنِ أَخِيهَا وَاشْتِرَاكِ ابْنِ الِابْنِ مَعَ عَمَّتِهِ لَيْسَ حُكْمًا بِالسَّهْمِ الَّذِي اقْتَضَاهُ قَوْله تَعَالَى: {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] وَإِنَّمَا هُوَ قَضَاءٌ بِالتَّعْصِيبِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ اشْتِرَاكُهُمَا مَعَهُ إذَا كَانَتَا بِإِزَائِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً عَلَى الثُّلُثَيْنِ، وَهَذَا قَاطِعٌ جِدًّا. وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّهُ لَوْ وَازَاهَا مَا رَدَّ عَلَيْهَا، وَلَا شَارَكَتْهُ مُرَاعَاةً لِهَذَا الظَّاهِرِ لَقِيلَ لَهُ: لَا حُجَّةَ لَكَ فِي هَذَا الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ هَذَا حَقٌّ أُخِذَ بِالسَّهْمِ، وَهَذَا حَقٌّ أُخِذَ بِالتَّعْصِيبِ؛ وَمَا يُؤْخَذُ بِالتَّعْصِيبِ يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الثُّلُثَيْنِ بِخِلَافِ السَّهْمِ الْمَفْرُوضِ الْمُعَيَّنِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ تَرَكَ عَشْرَ بَنَاتٍ وَابْنًا وَاحِدًا، لَأَخَذَتْ الْبَنَاتُ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثَيْنِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ بِالتَّعْصِيبِ لَمْ يَقْدَحْ فِي الَّذِي يَجِبُ بِالسَّهْمِ؛ وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ طَوِيلٌ بَيَانُهُ فِي الْفَرَائِضِ. [مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} [النساء: 11] وَهِيَ مُعْضِلَةٌ عَظِيمَةٌ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَوْ قَالَ: فَإِنْ كُنَّ اثْنَتَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ لَانْقَطَعَ النِّزَاعُ، فَلَمَّا جَاءَ الْقَوْلُ هَكَذَا مُشْكِلًا وَبَيَّنَ حُكْمَ الْوَاحِدَةِ بِالنِّصْفِ وَحُكْمَ مَا زَادَ عَلَى الِاثْنَتَيْنِ بِالثُّلُثَيْنِ، وَسَكَتَ عَنْ حُكْمِ الْبِنْتَيْنِ أُشْكِلَتْ الْحَالُ، فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: تُعْطَى الْبَنَاتُ النِّصْفَ، كَمَا تُعْطَى الْوَاحِدَةُ؛ إلْحَاقًا لِلْبِنْتَيْنِ بِالْوَاحِدَةِ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الزِّيَادَةِ عَلَى النِّصْفِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَمَّا زَادَ عَلَى الْبِنْتَيْنِ فَتَخْتَصُّ الزِّيَادَةُ بِتِلْكَ الْحَالِ. الْجَوَابُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَوْ كَانَ مُبَيِّنًا حَالَ الْبِنْتَيْنِ بَيَانَهُ لِحَالِ الْوَاحِدَةِ وَمَا فَوْقَ الْبِنْتَيْنِ لَكَانَ ذَلِكَ قَاطِعًا، وَلَكِنَّهُ سَاقَ الْأَمْرَ مَسَاقَ الْإِشْكَالِ؛ لِتَتَبَيَّنَ دَرَجَةُ الْعَالِمِينَ، وَتَرْتَفِعَ مَنْزِلَةُ الْمُجْتَهِدِينَ فِي أَيِّ الْمَرْتَبَتَيْنِ [فِي] إلْحَاقِ الْبِنْتَيْنِ أَحَقُّ؟

وَإِلْحَاقُهُمَا بِمَا فَوْقَ الِاثْنَتَيْنِ أَوْلَى مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا قَالَ: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] نَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ إذَا وَجَبَ لَهَا مَعَ أَخِيهَا الثُّلُثُ فَأَوْلَى وَأَحْرَى أَنْ يَجِبَ لَهَا ذَلِكَ مَعَ أُخْتِهَا. الثَّانِي: أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحِ: «أَنَّهُ قَضَى فِي بِنْتٍ وَبِنْتِ ابْنٍ وَأُخْتٍ بِالسُّدُسِ لِبِنْتِ الِابْنِ، وَالنِّصْفِ لِلْبِنْتِ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ»، فَإِذَا كَانَ لِبِنْتِ الِابْنِ مَعَ الْبِنْتِ الثُّلُثَانِ فَأَحْرَى وَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ لَهَا ذَلِكَ مَعَ أُخْتِهَا. الثَّالِثُ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالثُّلُثَيْنِ لِابْنَتَيْ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ» كَمَا قَدَّمْنَا، وَهُوَ نَصٌّ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ: فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً اثْنَتَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12] أَيْ اضْرِبُوا الْأَعْنَاقَ فَمَا فَوْقَهَا. الْخَامِسُ: أَنَّ النِّصْفَ سَهْمٌ لَمْ يُجْعَلْ فِيهِ اشْتِرَاكٌ؛ بَلْ شُرِعَ مُخْلَصًا لِلْوَاحِدَةِ، بِخِلَافِ الثُّلُثَيْنِ فَإِنَّهُ سَهْمُ الِاشْتِرَاكِ بِدَلِيلِ دُخُولِ الثَّلَاثِ فِيهِ فَمَا فَوْقَهُنَّ؛ فَدَخَلَتْ فِيهِ الِاثْنَتَانِ مَعَ الثُّلُثِ دُخُولَ الثَّلَاثِ مَعَ مَا فَوْقَهُنَّ. السَّادِسُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي الْأَخَوَاتِ: {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] وَقَالَ: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ} [النساء: 176] فَلَحِقَتْ الِابْنَتَانِ بِالْأُخْتَيْنِ فِي الِاشْتِرَاكِ فِي الثُّلُثَيْنِ، وَحُمِلَتَا عَلَيْهِمَا، وَلَحِقَتْ الْأَخَوَاتُ إذَا زِدْنَ عَلَى اثْنَتَيْنِ بِالْبَنَاتِ فِي الِاشْتِرَاكِ فِي الثُّلُثَيْنِ وَحُمِلَتَا عَلَيْهِنَّ. قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: كَمَا حَمَلْنَا الِابْنَ فِي الْإِحَاطَةِ بِالْمَالِ بِطَرِيقِ التَّعْصِيبِ عَلَى الْأَخِ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] وَهَذَا كُلُّهُ لِيَتَبَيَّنَ بِهِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْقِيَاسَ مَشْرُوعٌ، وَالنَّصَّ قَلِيلٌ. وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ السِّتَّةُ بَيِّنَةُ الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَجْلَى مِنْ بَعْضٍ؛ لَكِنَّ مَجْمُوعَهَا يُبِينُ الْمَقْصُودَ.

مسألة معنى قوله تعالى ولأبويه لكل واحد منهما السدس

[مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 11] هَذَا قَوْلٌ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ مَنْ عَلَا مِنْ الْآبَاءِ دُخُولَ مَنْ سَفُلَ مِنْ الْأَبْنَاءِ فِي قَوْلِهِ: {أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقَوْلَ هَاهُنَا مَثْنَى، وَالْمَثْنَى لَا يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ وَالْجَمْعَ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ، وَالْأُمُّ الْعُلْيَا هِيَ الْجَدَّةُ، وَلَا يُفْرَضُ لَهَا الثُّلُثُ بِإِجْمَاعٍ؛ فَخُرُوجُ الْجَدَّةِ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَتَنَاوُلُهُ لِلْأَبِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ فِي قَوْلِهِ: {أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] بَيَانَ الْعُمُومِ، وَقَصَدَ هَاهُنَا بَيَانَ النَّوْعَيْنِ مِنْ الْآبَاءِ وَهُمَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، وَتَفْصِيلُ فَرْضِهِمَا دُونَ الْعُمُومِ؛ فَأَمَّا الْجَدُّ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ الصَّحَابَةُ؛ فَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ جَعَلَهُ أَبًا، وَحَجَبَ بِهِ الْإِخْوَةَ أَخْذًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 31] وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مَسَاقُهُ بَيَانُ التَّنْوِيعِ لَا بَيَانُ الْعُمُومِ، وَمَقَاصِدُ الْأَلْفَاظِ أَصْلٌ يَرْجِعُ إلَيْهِ. وَاَلَّذِي نُحَقِّقُهُ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْأَخَ أَقْوَى سَبَبًا مِنْ الْجَدِّ؛ فَإِنَّ الْأَخَ يَقُولُ: أَنَا ابْنُ أَبِي الْمَيِّتِ، وَالْجَدُّ يَقُولُ: أَنَا أَبُو أَبِي الْمَيِّتِ، وَسَبَبُ الْبُنُوَّةِ أَقْوَى مِنْ سَبَبِ الْأُبُوَّةُ؛ فَكَيْف يُسْقِطُ الْأَضْعَفُ الْأَقْوَى؛ وَهَذَا بَعِيدٌ، وَالْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةٌ طُيُولِيَّةٌ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْبَيَانِ إيضَاحُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ قِيَاسِيَّةٌ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ؛ فَأَمَّا الْجَدَّةَ فَقَدْ صَحَّ أَنَّ الْجَدَّةَ أُمَّ الْأُمِّ جَاءَتْ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ فَقَالَ لَهَا: لَا أَجِدُ لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْئًا، وَمَا أَنَا بِزَائِدٍ فِي الْفَرَائِضِ شَيْئًا؛ فَإِنْ وُجِدَ الْأَبُ وَالْأُمُّ لَمْ يَكُنْ لِلْجَدِّ وَالْجَدَّةِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْأَدْنَى يَحْجُبُ الْأَبْعَدَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْأَوْلَادِ، وَإِنْ عَدِمَا يَنْزِلُ الْأَبْعَدُ مَنْزِلَةَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: مَعْنَاهُ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ ذَكَرٌ، وَأَمَّا إنْ كَانَ الْوَلَدُ أُنْثَى أَخَذَتْ النِّصْفَ، وَأَخَذَتْ الْأُمُّ السُّدُسَ، وَأَخَذَ الْأَبُ الثُّلُثَ؛ وَهَذَا ضَعِيفٌ، بَلْ يَأْخُذُ الْأَبُ

السُّدُسَ سَهْمًا وَالسُّدُسَ الْآخَرَ تَعْصِيبًا، وَهُوَ مَعْنًى آخَرُ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ نَصٌّ فِي الْآيَةِ، إنَّمَا هُوَ تَنْبِيهٌ ظَاهِرٌ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 11] إلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {الثُّلُثُ} [النساء: 11] قَالَ عُلَمَاؤُنَا: سَوَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ مَعَ وُجُودِ الْوَلَدِ، وَفَاضَلَ بَيْنَهُمَا مَعَ عَدَمِهِ فِي أَنْ جَعَلَ سَهْمَيْهِمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُمَا يُدْلِيَانِ بِقَرَابَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْأُبُوَّةُ، فَاسْتَوَيَا مَعَ وُجُودِ الْوَلَدِ؛ فَإِنْ عَدِمَ الْوَلَدُ فَضَلَ الْأَبُ الْأُمَّ بِالذُّكُورَةِ وَالنُّصْرَةِ وَوُجُوبِ الْمُؤْنَةِ عَلَيْهِ، وَثَبَتَتْ الْأُمُّ عَلَى سَهْمٍ لِأَجْلِ الْقَرَابَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: إذَا اجْتَمَعَ الْآبَاءُ وَالْأَوْلَادُ قَدَّمَ اللَّهُ الْأَوْلَادَ؛ لِأَنَّ الْأَبَ كَانَ يُقَدِّمُ وَلَدَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَوَدُّ أَنَّهُ يَرَاهُ فَوْقَهُ وَيَكْتَسِبُ لَهُ؛ فَقِيلَ لَهُ: حَالُ حَفِيدِكَ مَعَ وَلَدِكِ كَحَالِكَ مَعَ وَلَدِكِ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} [النساء: 11] يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ، مَعَ عَدِمَ الْأَوْلَادِ إلَّا الْأَبَوَانِ؛ فَكَانَ ظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ زِيَادَةَ الْوَاوِ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ أَمْرٌ مُسْتَقِرٌّ خَبَّرَ عَنْ ثُبُوتِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ؛ لِأَنَّ الْأَوْلَادَ أَسْقَطُوا الْإِخْوَةَ، وَشَارَكَهُمْ الْأَبُ، وَأَخَذَ حَظَّهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ مَنْ أُسْقِطُوا، بَلْ أَوْلَى، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَخَ بِالْأَبِ يُدْلِي فَيَقُولُ: أَنَا ابْنُ أَبِيهِ، فَلَمَّا كَانَ وَاسِطَتُهُ وَسَبَبُهُ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ هُوَ الْأَبُ كَانَ سَبَبُهُ أَوْلَى مِنْهُ وَمَانِعًا لَهُ؛ فَيَكُونُ حَالُ الْوَالِدَيْنِ عِنْدَ انْفِرَادِهِمَا كَحَالِ الْوَالِدَيْنِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَيَجْتَمِعُ بِذَلِكَ لِلْأَبِ فَرْضَانِ: السَّهْمُ، وَالتَّعْصِيبُ، وَهَذَا عَدْلٌ فِي الْحُكْمِ ظَاهِرٌ فِي الْحِكْمَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] الْمَعْنَى إنْ وُجِدَ لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ الْمِيرَاثِ فَهُمْ يُحْجَبُونَ وَلَا يَرِثُونَ بِظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ، بِخِلَافِ الِابْنِ الْكَافِرِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ

اللَّهُ تَعَالَى، وَكَانَ دَلِيلُ ذَلِكَ، وَعَاضَدَهُ، وَبَسَطَهُ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 11] مَعْطُوفٌ عَلَى مَا سَبَقَ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي لِلْأَبِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلْأَبِ، وَهَكَذَا يَزْدَوِجُ الْكَلَامُ وَيَصِحُّ الِاشْتِرَاكُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَطْفُ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا تَقْدِيرُ الْكَلَامِ فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ وَلَا أَبَ لَهُ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ. قُلْنَا: هَذَا سَاقِطٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَبْطُلُ فَائِدَةُ الْعَطْفِ. الثَّانِي: أَنَّهُ إبْطَالٌ لِفَائِدَةِ الْكَلَامِ مِنْ الْبَيَانِ، فَإِنَّا كُنَّا نُعْطِي بِذَلِكَ الْأُمَّ السُّدُسَ، وَمَا نَدْرِي مَا نَصْنَعُ بِبَاقِي الْمَالِ؟ فَإِنْ قِيلَ: يُعْطِي لِلْإِخْوَةِ. قُلْنَا: وَهُمْ مَنْ؟ أَوْ كَيْفَ يُعْطِي لَهُمْ؟ فَيَكُونُ الْقَوْلُ مُشْكَلًا غَيْرَ مُبَيَّنٍ وَلَا مُبِينٍ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ يَبْقَى قِسْمٌ مِنْ الْأَقْسَامِ غَيْرُ مُبَيَّنٍ، وَهُوَ إنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ وَلَهُ أَبٌ وَأُمٌّ فَاعْتِبَارُهُ بِالْبَيَانِ أَوْلَى، وَمَا صَوَّرُوهُ مِنْ أُمٍّ وَإِخْوَةٍ قَدْ بُيِّنَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} [النساء: 12] وَهَذَا مِنْ نَفِيسِ الْكَلَامِ، فَتَأَمَّلُوهُ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَبَيَّنَ هَاهُنَا فَائِدَتَانِ: إحْدَاهُمَا: حَجْبُ الْأُمِّ بِالْإِسْقَاطِ لَهُمْ. الثَّانِي: حَجْبُ النُّقْصَانِ لِلْأُمِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] هَذَا قَوْلٌ يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ أَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ إخْوَةٍ أَنَّهُمْ يَحْجُبُونَهَا حَجْبَ نُقْصَانٍ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَا أَخَوَيْنِ فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا لَا يَحْجُبَانِهَا؛ وَغَرَضُهُ ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّ الْجَمْعَ خِلَافُ التَّثْنِيَةِ لَفْظًا وَصِيغَةً، وَهَذِهِ صِيغَةُ الْجَمْعِ فَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي التَّثْنِيَةِ.

وَمَنْ يَعْجَبُ فَعَجَبٌ أَنْ يَخْفَى عَلَى حَبْرِ الْأُمَّةِ وَتُرْجَمَانِ الْقُرْآنِ وَدَلِيلِ التَّأْوِيلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ مَسْأَلَتَانِ: إحْدَاهُمَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَالْأُخْرَى مَسْأَلَةُ الْعَوْلِ؛ وَعَضَّدَ هَذَا الظَّاهِرَ بِأَنْ قَالَ: إنَّ الْأُمَّ أَخَذَتْ الثُّلُثَ بِالنَّصِّ، فَكَيْف يَسْقُطُ النَّصُّ بِمُحْتَمَلٍ. وَهَذَا الْمَنْحَى مَائِلٌ عَنْ سُنَنِ الصَّوَابِ. وَلِعُلَمَائِنَا فِي ذَلِكَ سَبِيلٌ مَسْلُوكَةٌ نَذْكُرُهَا وَنُبَيِّنُ الْحَقُّ فِيهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَنْطَلِقُ لَفْظُ الْإِخْوَةِ عَلَى الْأَخَوَيْنِ؛ بَلْ قَدْ يَنْطَلِقُ لَفْظُ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْوَاحِدِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: نَحْنُ فَعَلْنَا، وَتُرِيدُ الْقَائِلُ لِنَفْسِهِ خَاصَّةً. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] وَقَالَ: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص: 21] ثُمَّ قَالَ: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص: 22] وَقَالَ: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] وَقَالَ: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] وَقَالَ: {بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 35] وَالرَّسُولُ وَاحِدٌ. وَقَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور: 26] يَعْنِي عَائِشَةَ، وَقِيلَ عَائِشَةُ وَصَفْوَانُ. وَقَالَ: {وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ} [الأعراف: 150] وَكَانَا اثْنَيْنِ كَمَا نُقِلَ فِي التَّفْسِيرِ. وَقَالَ: {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} [طه: 130] وَهُمَا طَرَفَانِ. وَقَالَ: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء: 15] وَقَالَ: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] وَقَالَ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173] وَكَانَ وَاحِدًا. وَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ فِي اللُّغَةِ سَائِغٌ، لَكِنْ إذَا قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ؛ فَأَيْنَ الدَّلِيلُ؟. الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي مِيرَاثِ الْأَخَوَاتِ: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176] فَحَمَلَ الْعُلَمَاءُ الْبِنْتَيْنِ عَلَى الْأُخْتَيْنِ فِي الِاشْتِرَاكِ فِي الثُّلُثَيْنِ، وَحَمَلُوا الْأَخَوَاتِ عَلَى الْبَنَاتِ فِي الِاشْتِرَاكِ فِي الثُّلُثَيْنِ، وَكَانَ هَذَا نَظَرًا دَقِيقًا

مسألة معنى قوله تعالى من بعد وصية يوصي بها أو دين

وَأَصْلًا عَظِيمًا فِي الِاعْتِبَارِ، وَعَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ، وَأَرَادَ الْبَارِي بِذَلِكَ أَنْ يُبَيِّنَ لَنَا دُخُولَ الْقِيَاسِ فِي الْأَحْكَامِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ لَمَّا وَقَعَ بَيْنَ عُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ؛ قَالَ لَهُ عُثْمَانُ: إنَّ قَوْمَكَ حَجَبُوهَا يَعْنِي بِذَلِكَ قُرَيْشًا، وَهُمْ أَهْلُ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَهُمْ الْمُخَاطَبُونَ، وَالْقَائِمُونَ لِذَلِكَ؛ وَالْعَامِلُونَ بِهِ؛ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَا يَبْقَى لِنَظَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجْهٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ عَوَّلَ عَلَى اللُّغَةِ فَغَيْرُهُ مِنْ نَظَائِرِهِ وَمَنْ فَوْقَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ أَعْرَفُ بِهَا، وَإِنْ عَوَّلَ عَلَى الْمَعْنَى فَهُوَ لَنَا؛ لِأَنَّ الْأُخْتَيْنِ كَالْبِنْتَيْنِ كَمَا بَيَّنَّا، وَلَيْسَ فِي الْحُكْمِ بِمَذْهَبِنَا خُرُوجٌ عَنْ ظَاهِرِ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ فِي اللُّغَةِ وَارِدًا لَفْظَ الِاثْنَيْنِ عَلَى الْجَمِيعِ. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا فَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ فُصُولِ الْفَرَائِضِ، وَأَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الْمَالَ قِوَامًا لِلْخَلْقِ؛ وَيَسَّرَ لَهُمْ السَّبَبَ إلَى جَمْعِهِ بِوُجُوهٍ مُتْعَبَةٍ، وَمَعَانٍ عَسِيرَةٍ، وَرَكَّبَ فِي جِبِلَّاتِهِمْ الْإِكْثَارَ مِنْهُ وَالزِّيَادَةَ عَلَى الْقُوتِ الْكَافِي الْمُبَلِّغِ إلَى الْمَقْصُودِ، وَهُوَ تَارِكُهُ بِالْمَوْتِ يَقِينًا، وَمُخَلِّفُهُ لِغَيْرِهِ، فَمِنْ رِفْقِ الْخَالِقِ بِالْخَلْقِ صَرْفُهُ عِنْدَ فِرَاقِ الدُّنْيَا؛ إبْقَاءً عَلَى الْعَبْدِ وَتَخْفِيفًا مِنْ حَسْرَتِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ كَفَنِهِ وَجِهَازِهِ إلَى قَبْرِهِ. الثَّانِي: مَا تَبْرَأُ بِهِ ذِمَّتُهُ مِنْ دَيْنِهِ. الثَّالِثُ: مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ مِنْ خَيْرٍ لِيَسْتَدْرِكَ بِهِ مَا فَاتَ فِي أَيَّامِ مُهْلَتِهِ. الرَّابِعُ: مَا يَصِيرُ إلَى ذَوِي قَرَابَتِهِ الدَّانِيَةِ وَأَنْسَابِهِ الْمُشْتَبِكَةِ الْمُشْتَرَكَةِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّمَا قَدِمَ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِمَالِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ حَاجَتَهُ الْمَاسَةَ فِي الْحَالِ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى دَيْنِهِ، وَقَدْ كَانَ فِي حَيَاتِهِ لَا سَبِيلَ لِقَرَابَتِهِ إلَى قُوتِهِ وَلِبَاسِهِ، وَكَذَلِكَ فِي كَفَنِهِ. وَأَمَّا تَقْدِيمُ الدَّيْنِ فَلِأَنَّ ذِمَّتَهُ مُرْتَهِنَةٌ بِدَيْنِهِ، وَفَرْضُ الدَّيْنِ أَوْلَى مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ الَّذِي يُتَقَرَّبُ بِهِ.

فَأَمَّا تَقْدِيمُ الصَّدَقَةِ عَلَى الْمِيرَاثِ فِي بَعْضِ الْمَالِ فَفِيهِ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَإِيَالَةٌ دِينِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَنَعَ جَمِيعَهُ لَفَاتَهُ بَابٌ مِنْ الْبِرِّ عَظِيمٌ، وَلَوْ سُلِّطَ عَلَيْهِ لَمَا أَبْقَى لِوَرَثَتِهِ بِالصَّدَقَةِ مِنْهُ شَيْئًا لِأَكْثَرِ الْوَارِثِينَ أَوْ بَعْضِهِمْ؛ فَقَسَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِحِكْمَتِهِ الْمَالَ وَأَعْطَى الْخَلْقَ ثُلُثَ أَمْوَالِهِمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِهِمْ، وَأَبْقَى سَائِرَ الْمَالِ لِلْوَرَثَةِ، كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنَّكَ إنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ». مَعَ أَنَّهُ كَلَالَةٌ مِنْهُ بَعِيدٌ عَنْهُ. وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: " خَيْرٌ " هَاهُنَا وُجُوهًا مُعْظَمُهَا أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ إلَى ذِكْرِهِ بِالْجَمِيلِ، وَإِحْيَاءُ ذِكْرِهِ هُوَ إحْدَى الْحَيَاتَيْنِ، وَمَعْنًى مَقْصُودٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ، وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فِي طَرِيقِهِ فَقَالَ: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} [الصافات: 78] وَأَخْبَرَ عَنْ رَغْبَتِهِ فِيهِ فَقَالَ: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء: 84] وَإِذَا كَانَ وَرَثَتُهُ أَغْنِيَاءَ عَظُمَ قَدْرُهُمْ، وَشَرُفَ ذِكْرُهُمْ فِي الطَّاعَةِ وَذِكْرُهُ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَوْجُهَ الثَّلَاثَةَ وَتَرَكَ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَتْرُوكٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مَتْرُوكًا مَا فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِ وَمَصْلَحَتِهِ؛ وَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ الْوَصِيَّةَ مَشْرُوعَةً مَسُوغَةً لَهُ، وَكَّلَهَا إلَى نَظَرِهِ لِنَفْسِهِ فِي أَعْيَانِ الْمُوصِي لَهُمْ، وَبِمِقْدَارِ مَا يَصْلُحُ لَهُمْ. وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ مَفْرُوضَةً لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ غَيْرَ مُقَدَّرَةٍ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ، فَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ أَعْطَى لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ؛ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ».

وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ «خَبَّابٍ قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، ثُمَّ قَالَ: وَمِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ نَجِدْ لَهُ مَا نُكَفِّنُهُ فِيهِ إلَّا نَمِرَةً كُنَّا إذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رِجْلَيْهِ بَدَا رَأْسُهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: غَطُّوا بِهَا رَأْسَهُ وَاجْعَلُوا عَلَيْهِ مِنْ الْإِذْخِرِ»؛ فَبَدَأَ بِالْكَفَنِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَرَوَى الْأَئِمَّةُ، «عَنْ جَابِرٍ أَنَّ أَبَاهُ اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرَكَ سِتَّ بَنَاتٍ، وَتَرَكَ دَيْنًا، فَلَمَّا حَضَرَ جِدَادُ النَّخْلِ أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ قَدْ عَلِمْت أَنَّ وَالِدِي اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا، وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَرَاكَ الْغُرَمَاءُ. قَالَ: اذْهَبْ فَبَيْدِرْ كُلَّ تَمْرَةٍ عَلَى حِدَةٍ فَفَعَلْت: فَلَمَّا دَعَوْتُهُ وَحَضَرَ عِنْدِي وَنَظَرُوا إلَيْهِ كَأَنَّمَا أُغْرُوا بِي تِلْكَ السَّاعَةَ، فَلَمَّا رَأَى مَا يَصْنَعُونَ طَافَ حَوْلَ أَعْظَمِهَا بَيْدَرًا فَجَلَسَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: اُدْعُ أَصْحَابَكَ؛ فَمَا زَالَ يَكِيلُ لَهُمْ حَتَّى أَدَّى اللَّهُ أَمَانَةَ وَالِدِي». فَقَدَّمَ الدَّيْنَ عَلَى الْمِيرَاثِ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: «كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا، فَقَالَ: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: لَا، فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ أُخْرَى فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَلِّ عَلَيْهَا. فَقَالَ: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟ قَالُوا: ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ، فَصَلَّى عَلَيْهِ. ثُمَّ أُتِيَ بِالثَّالِثَةِ فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا. فَقَالَ: هَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: أَعَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ.

قَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ. قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَعَلَيَّ دَيْنُهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ»، فَجَعَلَ الْوَفَاءَ بِمُقَابَلَةِ الدَّيْنِ. وَلِهَذِهِ الْآثَارِ وَالْمَعَانِي السَّالِفَةِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ، وَأَنْتُمْ تُقَدِّمُونَ الْوَصِيَّةَ قَبْلَ الدَّيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْحِكْمَةُ فِي تَقْدِيمِ ذِكْرِ الْوَصِيَّةِ عَلَى ذِكْرِ الدَّيْنِ، وَالدَّيْنُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا؟ قُلْنَا؛ فِي ذَلِكَ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ " أَوْ " لَا تُوجِبُ تَرْتِيبًا، إنَّمَا تُوجِبُ تَفْصِيلًا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مِنْ بَعْدِ أَحَدِهِمَا أَوْ مِنْ بَعْدِهِمَا، وَلَوْ ذَكَرَهُمَا بِحَرْفِ الْوَاوِ لَأَوْهَمَ الْجَمْعَ وَالتَّشْرِيكَ؛ فَكَانَ ذِكْرُهُمَا بِحَرْفِ " أَوْ " الْمُقْتَضِي التَّفْصِيلَ أَوْلَى. الثَّانِي: أَنَّهُ قَدَّمَ الْوَصِيَّةَ؛ لِأَنَّ تَسَبُّبَهَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، وَالدَّيْنُ ثَابِتٌ مُؤَدًّى ذَكَرَهُ أَمْ لَمْ يَذْكُرْهُ. الثَّالِثُ: أَنَّ وُجُودَ الْوَصِيَّةِ أَكْثَرُ مِنْ وُجُودِ الدَّيْنِ؛ فَقُدِّمَ فِي الذِّكْرِ مَا يَقَعُ غَالِبًا فِي الْوُجُودِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ ذَكَرَ الْوَصِيَّةَ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُشْكِلٌ، هَلْ يَقْصِدُ ذَلِكَ وَيَلْزَمُ امْتِثَالُهُ أَمْ لَا؟ لِأَنَّ الدَّيْنَ كَانَ ابْتِدَاءً تَامًّا مَشْهُورًا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ، فَقَدَّمَ الْمُشْكِلَ؛ لِأَنَّهُ أَهَمُّ فِي الْبَيَانِ. الْخَامِسُ: أَنَّ الْوَصِيَّةَ كَانَتْ مَشْرُوعَةً ثُمَّ نُسِخَتْ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، فَلَمَّا ضَعَّفَهَا النَّسْخُ قَوِيَتْ بِتَقْدِيمِ الذِّكْرِ؛ وَذِكْرُهُمَا مَعًا كَانَ يَقْتَضِي أَنْ تَتَعَلَّقَ الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الْمَالِ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ. لَكِنَّ الْوَصِيَّةَ خُصِّصَتْ بِبَعْضِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ جَازَتْ فِي جَمِيعِ الْمَالِ لَاسْتَغْرَقَتْهُ وَلَمْ

مسألة تقديم دين الزكاة والحج على الميراث

يُوجَدْ مِيرَاثٌ؛ فَخَصَّصَهَا الشَّرْعُ بِبَعْضِ الْمَالِ؛ بِخِلَافِ الدَّيْنِ، فَإِنَّهُ أَمْرٌ يُنْشِئُهُ بِمَقَاصِدَ صَحِيحَةٍ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، بَيِّنَةِ الْمَنَاحِي فِي كُلِّ حَالٍ؛ يَعُمُّ تَعَلُّقُهَا بِالْمَالِ كُلِّهِ. وَلَمَّا قَامَ الدَّلِيلُ وَظَهَرَ الْمَعْنَى فِي تَخْصِيصِ الْوَصِيَّةِ بِبَعْضِ الْمَالِ قَدَّرَتْ ذَلِكَ الشَّرِيعَةُ بِالثُّلُثِ، وَبَيَّنَتْ الْمَعْنَى الْمُشَارَ إلَيْهِ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ سَعْدٍ؛ «قَالَ سَعْدٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِي مَالٌ وَلَا يَرِثُنِي إلَّا ابْنَةٌ لِي، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي الْحَدِيثُ، إلَى أَنْ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ». فَظَهَرَتْ الْمَسْأَلَةُ قَوْلًا وَمَعْنًى وَتَبَيَّنَتْ حِكْمَةً وَحُكْمًا. [مَسْأَلَةٌ تَقْدِيمِ دَيْنِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ عَلَى الْمِيرَاثِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَقْدِيمَ الدَّيْنِ عَلَى الْوَصِيَّةِ تَعَلَّقَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيُّ فِي تَقْدِيمِ دَيْنِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ عَلَى الْمِيرَاثِ، فَقَالَ: إنَّ الرَّجُلَ إذَا فَرَّطَ فِي زَكَاتِهِ وَحَجِّهِ أُخِذَ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: إنْ أَوْصَى بِهَا أُدِّيَتْ مِنْ ثُلُثِهِ، وَإِنْ سَكَتَ عَنْهَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْهُ شَيْءٌ. وَتَعَلُّقُ الشَّافِعِيُّ ظَاهِرٌ بِبَادِئِ الرَّأْيِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ مِنْ الْحُقُوقِ؛ فَلَزِمَ أَدَاؤُهُ عَنْهُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، لَا سِيَّمَا وَالزَّكَاةُ مَصْرِفُهَا إلَى الْآدَمِيِّ وَمُتَعَلَّقُ مَالِكٍ أَنَّ ذَلِكَ مُوجِبٌ إسْقَاطَ الزَّكَاةِ أَوْ تَرْكَ الْوَرَثَةِ فُقَرَاءَ، لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ تَرْكَ الْكُلِّ، حَتَّى إذَا مَاتَ اسْتَغْرَقَ ذَلِكَ جَمِيعَ مَالِهِ؛ فَلَا يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ حَقٌّ؛ فَكَانَ هَذَا قَصْدًا بَاطِلًا فِي حَقِّ عِبَادَاتِهِ وَحَقِّ وَرَثَتِهِ؛ وَكُلُّ مَنْ قَصَدَ بَاطِلًا فِي الشَّرِيعَةِ نُقِضَ عَلَيْهِ قَصْدُهُ، تَحَقَّقَ ذَلِكَ مِنْهُ أَوْ اُتُّهِمَ بِهِ إذَا ظَهَرَتْ عَلَامَتُهُ، كَمَا قَضَيْنَا بِحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ لِلْقَاتِلِ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.

مسألة معنى قوله تعالى آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا

[مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء: 11] اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَاهُ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَدْرُونَ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فِي الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْجِنْسَيْنِ يَشْفَعُ فِي الْآخِرَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. الثَّانِي: لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا؛ أَيُّهُمْ أَرْفَعُ دَرَجَةً فِي الدُّنْيَا؛ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَوْ تُرِكَ الْأَمْرُ عَلَى مَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ: الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ لَمْ يُؤْمَنْ إذَا قَسَّمَ التَّرِكَةَ فِي الْوَصِيَّةِ، حِيفَ أَحَدُكُمْ، لِتَفْضِيلِ ابْنٍ عَلَى بِنْتٍ، أَوْ أَبٍ عَلَى أُمٍّ، أَوْ وَلَدٍ عَلَى وَلَدٍ، أَوْ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَوْ غَيْرِهِمْ عَلَى أَحَدٍ، فَتَوَلَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَسْمَهَا بِعِلْمِهِ، وَأَنْفَذَ فِيهَا حِكْمَتَهُ بِحُكْمِهِ، وَكَشَفَ لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَعَبَّرَ لَكُمْ رَبُّكُمْ عَنْ وِلَايَةِ مَا جَهِلْتُمْ، وَتَوَلَّى لَكُمْ بَيَانَ مَا فِيهِ نَفْعُكُمْ وَمَصْلَحَتُكُمْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الْحَادِيَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوْ امْرَأَةٌ] ٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء: 12] فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قِرَاءَتِهَا: قُرِئَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا، وَقُرِئَ بِتَشْدِيدِهَا مَكْسُورَةً، فَإِنْ كَانَ بِالْفَتْحِ فَذَلِكَ عَائِدٌ لِلْمَيِّتِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: {كَلالَةً} [النساء: 12] حَالًا مِنْ الضَّمِيرِ فِي يُورَثُ.

وَإِذَا قُرِئَتْ بِالْكَسْرِ فَمَعْنَاهُ عَائِدٌ إلَى الْوَرَثَةِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ " كَلَالَةً " مَفْعُولًا يَتَعَدَّى الْفِعْلُ إلَيْهِ. وَكَذَلِكَ بِالتَّشْدِيدِ؛ وَإِنَّمَا فَائِدَتُهُ تَضْعِيفُ الْفِعْلِ إلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي لُغَتِهَا: اخْتَلَفَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَغَيْرُهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ: قَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ: الْكَلَالَةُ: الَّذِي لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ. الثَّانِي: قَالَ أَبُو عَمْرٍو: مَا لَمْ يَكُنْ لَحًّا مِنْ الْقَرَابَةِ فَهُوَ كَلَالَةٌ، يُقَالُ: هُوَ ابْنُ عَمِّي لَحًّا، وَهُوَ ابْنُ عَمِّي كَلَالَةً. الثَّالِثُ: وَهُوَ فِي مَعْنَى الثَّانِي: أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ بَعُدَ، يُقَالُ: كَلَّتْ الرَّحِمُ إذَا بَعُدَ مَنْ خَرَجَ مِنْهَا. الرَّابِعُ: أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ وَلَا أَخٌ. الْخَامِسُ: أَنَّ الْكَلَالَةَ هُوَ الْمَيِّتُ بِعَيْنِهِ، كَمَا يُقَالُ رَجُلٌ عَقِيمٌ وَرَجُلٌ أُمِّيٌّ. السَّادِسُ: أَنَّ الْكَلَالَةَ هُمْ الْوَرَثَةُ، وَالْوُرَّاثُ الَّذِينَ يُحِيطُونَ بِالْمِيرَاثِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي التَّوْجِيهِ: أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ فَيُعَضِّدُهُ الِاشْتِقَاقُ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي الْقَوْلِ الثَّالِثِ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ تَوْجِيهُ الرَّابِعِ؛ لِأَنَّ الْأَخَ قَرِيبٌ جِدًّا حِينَ جَمَعَهُ مَعَ أَخِيهِ صَلْبٌ وَاحِدٌ وَارْتَكَضَا فِي رَحِمٍ وَاحِدَةٍ، وَالْتَقَمَا مِنْ ثَدْيٍ وَاحِدَةٍ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: فَإِنَّ أَبَا الْمَرْءِ أَحْمَى لَهُ ... وَمَوْلَى الْكَلَالَةِ لَا يَغْضَبُ وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ الْمَيِّتُ نَفْسُهُ فَقَدْ نَزَعَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَرِثْتُمْ قَنَاةَ الْمَجْدِ لَا عَنْ كَلَالَةٍ ... عَنْ ابْنَيْ مَنَافٍ عَبْدِ شَمْسٍ وَهَاشِمِ وَمَنْ قَالَ: إنَّهُمْ الْمُحِيطُونَ بِالْمِيرَاثِ نَزَعَ بِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: كَلَّلَهُ النَّسَبُ: أَحَاطَ بِهِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ التَّاجُ إكْلِيلًا؛ لِأَنَّهُ يُحِيطُ بِجَوَانِبِ الرَّأْسِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ الَّذِي لَا وَالِدَ لَهُ وَلَا وَلَدَ، مَأْخُوذٌ مِنْ تَكَلَّلَهُ النَّسَبُ، أَيْ أَحَاطَ بِهِ؛ كَأَنَّهُ سَمَّاهُ بِضِدِّهِ كَالْمَفَازَةِ وَالسَّلِيمِ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ.

مسألة المراد بالكلالة

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي الْمُخْتَارِ: دَعْنَا مِنْ تَرْتَانَ، وَمَا لَنَا وَلِاخْتِلَافِ اللُّغَةِ وَتَتَبُّعُ الِاشْتِقَاقِ؟ وَلِسَانِ الْعَرَبِ وَاسِعٌ، وَمَعْنَى الْقُرْآنِ ظَاهِرٌ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ فَقَدَ أَبَاهُ وَابْنَهُ وَالزَّوْجَاتِ وَتَرَكَ الْإِخْوَةَ [وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَرَكَ سِهَامَ الْفَرَائِضِ مَعَ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالزَّوْجَاتِ وَتَرَكَ الْإِخْوَةَ]؛ فَجَعَلَ هَذِهِ آيَتَهُمْ وَجَعَلَهُمْ كَلَالَةً اسْمًا مَوْضُوعًا لُغَةً بِأَحَدِ مَعَانِي الْكَلَالَةِ مُسْتَعْمَلًا شَرْعًا، وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ فِي آخِرِ السُّورَةِ فِي آيَةِ الصَّيْفِ سَمَّاهُ كَلَالَةً، وَذَكَرَ فَرِيضَةً لَا أَبَ فِيهَا وَلَا ابْنَ، فَتَحَقَّقْنَا بِذَلِكَ مُرَادَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْكَلَالَةِ. تَبْقَى هَاهُنَا نُكْتَةٌ تَفَطَّنَ لَهَا أَبُو عَمْرٍو، وَهِيَ إلْحَاقُ فَقْدِ الْأَخِ لِلْعَيْنِ أَوْ لِعِلَّةٍ بِالْكَلَالَةِ؛ لِأَنَّهَا نَازِلَةٌ الْآيَةُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ الْأُولَى، وَهِيَ هَذِهِ؛ وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى آيَةِ الصَّيْفِ: الْكَلَالَةُ فَقْدُ الْأَبِ وَالِابْنِ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاشْتِقَاقَ يَقْتَضِي ذَلِكَ كُلَّهُ؛ وَمُطْلَقُ اللُّغَةِ يَقْتَضِيهِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ بِهَا فَاسْتَعْمَلَهُ الشَّرْعُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ قَصْدًا لِبَيَانِ الْأَحْكَامِ بِحَسَبِ الْأَدِلَّةِ وَالْمَصَالِحِ، فَهَذَا جَرَيَانُ الْأَمْرِ عَلَى الِاشْتِقَاقِ وَتَصْرِيفِ اللُّغَةِ، فَأَمَّا اعْتِبَارُ الْمَعْنَى عَلَى رَسْمِ الْفَتْوَى، وَهِيَ [مَسْأَلَةٌ الْمُرَادِ بِالْكَلَالَةِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْكَلَالَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْمًا اخْتَارُوا أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ؛ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ. الثَّانِي: مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَإِنْ كَانَ لَهُ أَبٌ أَوْ إخْوَةٌ. الثَّالِثُ: قَوْلٌ طَرِيفٌ لَمْ يُذْكَرْ فِي التَّقْسِيمِ الْأَوَّلِ؛ وَهُوَ أَنَّ الْكَلَالَةَ الْمَالُ. فَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ الْمَالُ، فَلَا وَجْهَ لَهُ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ الَّذِي ذَهَبَ طَرَفَاهُ الْأَسْفَلُ فَمُشْكِلٌ تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ أَشْكَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ حَتَّى أَلْحَفَ عَلَى

رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيَانِهَا؛ فَقَالَ لَهُ: «أَلَّا تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ» يَعْنِي الْآيَةَ الَّتِي أُنْزِلَتْ فِي آخِرِ النِّسَاءِ. وَرَوَى مَعْدَانُ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ: خَطَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: إنِّي لَا أَدَعُ بَعْدِي شَيْئًا هُوَ أَهَمُّ عِنْدِي مِنْ الْكَلَالَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَهَمُّ عِنْدِي مِنْ الْجَدِّ وَالْكَلَالَةِ وَمَا رَاجَعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَيْءٍ مَا رَاجَعْته فِي الْكَلَالَةِ، وَمَا أَغْلَظَ لِي فِي شَيْءٍ مَا أَغْلَظَ لِي فِيهَا حَتَّى طَعَنَ بِإِصْبَعِهِ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: «يَا عُمَرُ؛ أَمَا تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ» يَعْنِي الْآيَةَ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ. قَالَ وَإِنْ أَعِشْ أَقْضِ فِيهَا بِقَضِيَّةٍ يَقْضِي بِهَا مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَمَنْ لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ. فَإِذَا كَانَ هَذَا أَمْرًا وَقَفَ فِي وَجْهِ عُمَرَ فَمَتَى يُسْفَرُ لَنَا عَنْهُ وَجْهُ النَّظَرِ؟ لَكِنَّ الْآنَ نَرِدُ فِي اقْتِحَامِ هَذَا الْوَعْرِ بِنِيَّةٍ وَعِلْمٍ، فَنَقُولُ فِيهِمَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ الْمُنْعِمُ: إنَّ الْكَلَالَةَ وَإِنْ كَانَتْ مَعْرُوفَةً لُغَةً مُتَوَارِدَةً عَلَى مَعَانٍ مُتَمَاثِلَةٍ وَمُتَضَادَّةٍ فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَبَصَّرَ مَوَارِدَهَا فِي الشَّرِيعَةِ فَنَقُولُ: وَرَدَتْ فِي آيَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا هَذِهِ، وَالْأُخْرَى الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَأَمَّا هَذِهِ فَهِيَ الَّتِي لَا وَلَدَ فِيهَا وَلَا وَالِدَ وَفِيهَا إخْوَةٌ لِأُمٍّ. وَأَمَّا الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ فَهِيَ الَّتِي لَا وَلَدَ ذَكَرًا فِيهَا، وَهُمْ إخْوَةٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ إخْوَةٌ لِأَبٍ أَوْ أَخَوَاتٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَجَدٌّ، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لِبَيَانِ حَالِ الْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ، وَجَاءَتْ فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ لِبَيَانِ إخْوَةِ الْأَعْيَانِ وَالْعَلَّاتِ حَتَّى يَقَعَ الْبَيَانُ بِجَمِيعِ الْأَقْسَامِ، وَلَوْ شَاءَ رَبُّك لَجَمَعَهُ وَشَرَحَهُ. وَكَانَ عُمَرُ يَطْلُبُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّصَّ الْقَاطِعَ لِلْعُذْرِ، وَهُوَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَحْمِلُهُ عَلَى الْبَيَانِ الْوَاقِعِ مَعَ الْإِطْلَاقِ الَّذِي وُكِّلَ فِيهِ إلَى الِاجْتِهَادِ بِالْأَخْذِ مِنْ اللُّغَةِ وَمُقَاطَعِ الْقَوْلِ وَمَرَابِطِ الْبَيَانِ وَمَفَاصِلِهِ.

وَهَذَا نَصٌّ فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ وَنَصٌّ فِي التَّكَلُّمِ بِالرَّأْيِ الْمُسْتَفَادِ عِنْدَ النَّظَرِ الصَّائِبِ. وَإِذَا ثَبَتَ فِيهِ النَّظَرُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَالَةِ مِنْ " كَلَّ " أَيْ بَعُدَ، وَمِنْ " تَكَلَّلَ " أَيْ أَحَاطَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنَى السَّلْبِ، كَمَا يُقَالُ فَازَ فِي الْمَفَازَةِ أَيْ انْتَفَى لَهُ الْفَوْزُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِحَاطَةَ وُجِدَتْ مَعَ فَقْدِ السَّبَبِ الَّذِي يَقْتَضِي الْإِحَاطَةَ وَهُوَ قُرْبُ النَّسَبِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إنَّمَا قُلْنَا: إنَّ الْكَلَالَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقْدُ الِابْنِ وَالْأَبِ؛ لِأَنَّ الْإِخْوَةَ لِلْأُمِّ يُحْجَبُونَ بِالْجَدِّ، وَهُمْ الْمُرَادُونَ فِي الْآيَةِ بِالْإِخْوَةِ إجْمَاعًا، وَدَخَلَ فِيهَا الْجَدُّ الْخَارِجُ عَنْ الْكَلَالَةِ؛ لِأَنَّهُ أَصْلُ النَّسَبِ كَالْأَبِ الْمُتَوَلَّدِ عَنْهُ الِابْنُ. وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ فَقَدْ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ عُلَمَائِنَا: إنَّ الْجَدَّ أَيْضًا خَارِجٌ عَنْهَا؛ لِأَنَّ الْأُخْتَ مَعَ الْجَدِّ لَا تَأْخُذُ نِصْفًا؛ إنَّمَا هِيَ مُقَاسِمَةٌ، وَكَذَلِكَ الْأَخُ مُقَاسِمٌ لَهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ أَخْرَجْتُمْ الْجَدَّ عَنْهَا؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الِاشْتِقَاقَ يَقْتَضِي خُرُوجَهُ عَنْهَا؛ إذْ حَقِيقَةُ الْكَلَالَةِ ذَهَابُ الطَّرَفَيْنِ، وَعَلَيْهِ مَبْنَى اللُّغَةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ بَعِيدٌ ضَعِيفٌ. وَأَفْسَدُهَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ الْمَالُ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَسْمُوعٍ لُغَةً وَلَا مَقِيسٍ مَعْنًى. الثَّانِي: أَنَّ الْجَدَّ يَرِثُ مَعَ ذُكُورِ وَلَدِ الْمُتَوَفَّى فِي السُّدُسِ، وَالْإِخْوَةُ لَا يَرِثُونَ مَعَهُمْ، فَكَيْفَ يُشَارِكُ مَنْ يُسْقِطُ الْإِخْوَةَ كُلَّهُمْ وَيَكُونُ كَأَحَدِهِمْ. وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ قَالَ حَبْرُ الْأُمَّةِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: إنَّ امْرَأَةً لَوْ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ زَوْجَهَا وَأُمَّهَا وَإِخْوَتَهَا لِأَبِيهَا وَإِخْوَتَهَا لِأُمِّهَا وَجَدَّهَا: إنَّ النِّصْفَ لِلزَّوْجِ، وَالسُّدُسَ لِلْأُمِّ فَرِيضَةً، وَلِلْجَدِّ مَا بَقِيَ؛ قَالَ: لِأَنَّ الْجَدَّ يَقُولُ: لَوْ لَمْ أَكُنْ كَانَ لِلْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ مَا بَقِيَ، وَلَا يَأْخُذُ الْإِخْوَةُ لِلْأَبِ شَيْئًا، فَلَمَّا حَجَبَتْ إخْوَةُ الْأُمِّ عَنْهُ كُنْت أَنَا أَحَقَّ بِهِ.

مسألة معنى التشريك في قوله تعالى فهم شركاء في الثلث

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ جَعَلَ لِلْجَدِّ السُّدُسَ، وَلِلْإِخْوَةِ لِلْأَبِ السُّدُسَ كَهَيْئَةِ الْمُقَاسَمَةِ، وَذَلِكَ مُحَقَّقٌ فِي الْفَرَائِضِ. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى التَّشْرِيك فِي قَوْله تَعَالَى فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ التَّشْرِيكَ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فِي آخِرِهَا مَا يَقْتَضِي التَّعْصِيبَ؛ وَلِذَلِكَ قُلْنَا فِي مَسْأَلَةِ الزَّوْجِ وَالْأُمِّ وَالْأَخِ مِنْ الْأُمِّ وَالْإِخْوَةِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ: إنَّ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسَ، وَلِلْأَخِ لِلْأُمِّ السُّدُسَ، وَلِلْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ السُّدُسَ بِحُكْمِ التَّعْصِيبِ. [مَسْأَلَةٌ الْأَخَوَاتُ عُصْبَةٌ لِلْبَنَاتِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الْأَخَوَاتُ عُصْبَةٌ لِلْبَنَاتِ، وَإِذَا تَرَكَ بِنْتًا وَأُخْتًا أَوْ ابْنَتَيْنِ وَأُخْتًا فَالنِّصْفُ لِلِابْنَةِ، وَلِلْأُخْتِ مَا بَقِيَ، وَهُمَا ذَوَاتَا فَرْضٍ، لَكِنْ إذَا اجْتَمَعَا سَقَطَ فَرْضُ الْأَخَوَاتِ وَعَادَ سَهْمُهُنَّ إلَى التَّعْصِيبِ بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ: الِابْنَةُ تُسْقِطُ الْأُخْتَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ} [النساء: 176] فَتَأْخُذُ الْبِنْتُ النِّصْفَ وَمَا بَقِيَ لِلْعُصْبَةِ، وَقَدْ سَبَقَ قَضَاءُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَفِي الْبُخَارِيِّ «أَنَّ مُعَاذًا قَضَى بِالْيَمَنِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ لِلِابْنَةِ النِّصْفَ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفَ»؛ وَبِهَذَا الْحَدِيثِ رَجَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ قَوْلِهِ؛ فَصَارَ فَرْضُ الْأُخْتِ وَالْأَخَوَاتِ بِالنَّصِّ إنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ، وَصَارَ فَرْضُهُنَّ التَّعْصِيبَ إنْ كَانَ بِنْتًا، وَسَقَطْنَ بِالذَّكَرِ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، فَخَصَّتْ السُّنَّةُ بِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ عُمُومَ قَوْلِهِ: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 176]. [مَسْأَلَةٌ كَانَ الْوَرَثَةُ أَخَوَيْنِ لِلْأُمِّ أَحَدُهُمَا ابْنُ عَمّ أَوْ ابْنَا عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: لَوْ كَانَ الْوَرَثَةُ أَخَوَيْنِ لِلْأُمِّ أَحَدُهُمَا ابْنُ عَمٍّ، أَوْ ابْنَا عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ؛ فَأَمَّا الصُّورَةُ الْأُولَى فَاتَّفَقَ النَّاسُ فِيهَا أَنَّ الثُّلُثَ لَهُمَا بِسَبَبِ الْأُمِّ، وَيَأْخُذُ الثَّانِي مَا بَقِيَ مِنْ الْمِيرَاثِ بِالتَّعْصِيبِ.

مسألة أوصى إلى وارث

وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَاخْتَلَفُوا فِيهَا؛ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لِمَنْ اجْتَمَعَتْ فِيهِ الْقَرَابَتَانِ السُّدُسُ بِحُكْمِ الْأُمُومَةِ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ. وَقَالَ عُمَرُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ: الْمَالُ لِلْأَخِ لِلْأُمِّ، وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ سَاوَاهُ فِي التَّعْصِيبِ، وَفَضَلَهُ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ؛ فَكَانَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ فِي التَّعْصِيبِ كَالْأَخِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ مَعَ الْأَخِ مِنْ الْأَبِ. وَدَلِيلُنَا أَنَّ الْإِخْوَةَ مِنْ الْأُمِّ سَبَبٌ يُفْرَضُ بِهِ فِي السِّهَامِ، فَلَا يُرَجَّحُ بِهِ فِي التَّعْصِيبِ، كَمَا لَوْ كَانَ زَوْجَهَا، وَبِهَذَا فَارَقَ الْأَخَ الشَّقِيقَ فَإِنَّهُ لَا يُفْرَضُ لَهُ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْمُشْتَرَكَةِ. قُلْنَا: إنَّمَا يُفْرَضُ فِيهَا لِوَلَدِ الْأُمِّ، لَا لِوَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ، ثُمَّ يَدْخُلُ مَعَهُمْ فِيهِ وَلَدُ الْأَبِ وَالْأُمِّ. [مَسْأَلَةٌ أَوْصَى إلَى وَارِثٍ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى: {غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12] وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى الْوَصِيَّةِ وَالدَّيْنِ. أَمَّا رُجُوعُهُ إلَى الْوَصِيَّةِ فَبِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِأَنْ يَزِيدَ عَلَى الثُّلُثِ. الثَّانِي: بِأَنْ يُوصِيَ لِوَارِثٍ. فَأَمَّا إنْ زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَإِنَّهُ يُرَدُّ إلَّا أَنْ يُجِيزَ الْوَرَثَةُ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ لِحُقُوقِهِمْ لَا لِحَقِّ اللَّهِ. وَأَمَّا إنْ أَوْصَى إلَى وَارِثٍ فَإِنَّ الْوَرَثَةَ الْمُبْدَنَةِ بِهِ أَهْلَ الْوَصَايَا فِي وَصَايَاهُمْ، وَيَرْجِعُ مِيرَاثًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: تَبْطُلُ، وَلَا يَقَعُ بِهِ تَحَاصٌّ، وَنَظَرُهُمَا بَيِّنٌ فِي إسْقَاطِ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِبُطْلَانِهِ. وَمَطْلَعُ نَظَرِ مَالِكٍ أَعْلَى؛ لِأَنَّا نَتَبَيَّنُ بِوَصِيَّتِهِ لِلْوَارِثِ مَعَ سَائِرِ الْوَصَايَا أَنَّهُ أَرَادَ تَنْقِيصَ حَظِّ الْوَصَايَا وَتَخْصِيصَ وَارِثِهِ، فَإِنْ بَطَلَ أَحَدُ

الْقَصْدَيْنِ، لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُجَوِّزْهُ، لَمْ يُبْطِلْ الْآخَرَ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، فَيُرَدُّ مَا أَبْطَلَ الشَّرْعُ وَيَمْضِي مَا لَمْ يَعْتَرِضْ فِيهِ. وَأَمَّا رُجُوعُ الْمُضَارَّةِ إلَى الدَّيْنِ فَبِالْإِقْرَارِ فِي حَالَةٍ لَا يَجُوزُ فِيهَا لِشَخْصٍ الْإِقْرَارُ لَهُ بِهِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ لِوَارِثِهِ بِدَيْنٍ أَوْ لِصِدِّيقٍ مُلَاطِفٍ لَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا إذَا تَحَقَّقْنَا الْمُضَارَّةَ بِقُوَّةِ التُّهْمَةِ، أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّنَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَبْطُلُ الْإِقْرَارُ رَأْسًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَصِحُّ. وَمَطْلَعُ النَّظَرِ أَنَّا لَمَحْنَا أَنَّ الْمَوْرُوثَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ هِبَتَهُ لِوَارِثِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَوْ وَصِيَّتَهُ لَهُ لَا تَجُوزُ، وَقَدْ فَاتَهُ نَفْعُهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ عَمَدَ إلَى الْهِبَةِ فَأَلْقَاهَا بِصُورَةِ الْإِقْرَارِ لِتَجَوُّزِهَا؛ وَيُعَضِّدُ هَذِهِ التُّهْمَةَ صُورَةُ الْقَرَابَةِ وَعَادَةُ النَّاسِ بِقِلَّةِ الدِّيَانَةِ. وَمَطْلَعُ نَظَرِ أَبِي حَنِيفَةَ نَحْوٌ مِنْهُ؛ لَكِنَّهُ رَبَطَ الْأَمْرَ بِصِفَةِ الْقَرَابَةِ حِينَ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُقُوفُ عَلَى التُّهْمَةِ، كَمَا عُلِّقَتْ رُخَصُ السَّفَرِ بِصُورَةِ السَّفَرِ حِينَ تَعَذَّرَ الْوُقُوفُ عَلَى تَحْرِيرِ الْمَشَقَّةِ وَوُجُودِهَا. وَرَاعَى الشَّافِعِيُّ فِي نَظَرِهِ أَنَّ هَذِهِ حَالَةُ إخْبَارٍ عَنْ حَقٍّ وَاجِبٍ يُضَافُ إلَى سَبَبٍ جَائِزٍ فِي حَالَةٍ يُؤْمِنُ فِيهَا الْكَافِرُ، وَيَتَّقِي فِيهَا الْفَاجِرُ، وَيَتُوبُ فِيهَا الْعَاصِي، فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ، وَجَوَّزَهُ. فَإِنْ قَالَ: الْإِقْرَارُ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهَا الْمَرَضُ. قُلْنَا: وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ حُجَّةً شَرْعِيَّةً [فَإِنَّ الْهِبَةَ صِلَةٌ شَرْعِيَّةٌ]، وَلَكِنْ حَجَرَهَا الْمَرَضُ. كَذَلِكَ تَحْجُرُ التُّهْمَةُ الْإِقْرَارَ، وَكَمَا رَدَّتْ التُّهْمَةُ الشَّهَادَةَ أَيْضًا. وَأَمَّا نَظَرُ أَبِي حَنِيفَةَ إلَى صُورَةِ الْقَرَابَةِ فَفِيهِ إلْغَاءُ الْعِلَّةِ فِي غَيْرِ مَحِلِّهَا وَقَصْرٌ لَهَا عَلَى مُورِدِهَا. وَيَنْبَغِي أَنَّ تَطَّرِدَ الْعِلَّةُ حَيْثُ وُجِدَتْ مَا لَمْ يَقِفْ دُونَهَا دَلِيلُ تَخْصِيصٍ، فَعَلَى هَذَا إذَا وَجَدْنَا التُّهْمَةَ فِي غَيْرِ الْقَرِيبِ مِنْ صَدِيقٍ مُلَاطِفٍ حَكَمْنَا بِبُطْلَانِ الْإِقْرَارِ، وَكَمْ مِنْ صَدِيقٍ أَلْصَقُ مِنْ قَرِيبٍ وَأَحْكُمُ عُقْدَةً فِي الْمَوَدَّةِ.

لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم

تَكْمِلَةٌ: لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَائِضَ السِّهَامِ، وَبَقِيَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْوَالِ بَقِيَّةٌ مَسْكُوتٌ عَنْهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بَيَّنَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا أَبْقَتْهُ الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ»؛ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ قُدِّمَ الْأَقْرَبُ فِي الْعَصَبَةِ عَلَى الْأَبْعَدِ، كَالْأَخِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ يُقَدَّمُ عَلَى الْأَخِ لِلْأَبِ، وَابْنِ الْأَخِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ عَلَى ابْنِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَيُقَدَّمُ الْأَخُ لِلْأَبِ عَلَى ابْنِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ، هَكَذَا أَبَدًا. [لَا يَرِث الْمُسْلِم الْكَافِر وَلَا الْكَافِر الْمُسْلِم] تَخْصِيصٌ: قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] الْفَرَائِضَ إلَى آخِرِهَا بِسِهَامِهَا وَمُسْتَحَقِّيهَا، ثُمَّ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ». فَخَرَجَ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ تَوَارُثُ الْكُفَّارِ وَالْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَرِثُ كَافِرٌ مُسْلِمًا، وَلَا يَحْجُبُهُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هُوَ وَإِنْ كَانَ لَا يَرِثُ فَإِنَّهُ يَحْجُبُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ: {وَلأَبَوَيْهِ} [النساء: 11] هُوَ الْمَذْكُورُ فِي: {إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11]

فصل زيادة الفروض على مقدار المال المورث

فَكَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: {وَلأَبَوَيْهِ} [النساء: 11] لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْكُفَّارُ؛ كَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْكَافِرُ. تَحْقِيقُهُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ جَعَلَتْهُ فِي بَابِ الْإِرْثِ وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا كَالْمَعْدُومِ، كَذَلِكَ فِي بَابِ الْحَجْبِ فَإِنَّهُ أَحَدُ حُكْمَيْ الْمِيرَاثِ؛ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْكَافِرُ، أَوْ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْكَافِرِ أَصْلُهُ الْمِيرَاثُ، وَالتَّعْلِيلُ بِالْحَجْبِ مُعَضِّدٌ لِهَذِهِ الْأَقْسَامِ فِي الْأَبْوَابِ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الْأَسْبَابُ الَّتِي يُسْتَحَقُّ بِهَا الْمِيرَاثُ ثَلَاثَةُ أَسْبَابٍ: نِكَاحٌ، وَنَسَبٌ، وَوَلَاءٌ. فَأَمَّا النِّكَاحُ وَالنَّسَبُ فَهُوَ نَصُّ الْقُرْآنِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُسْتَحَقُّ الْمِيرَاثُ زَائِدًا عَلَى هَذَا بِالْحَلِفِ وَالْمُعَاقَدَةِ وَالِاتِّحَادِ فِي الدِّيوَانِ. وَحَقِيقَةُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمِيرَاثَ عِنْدَنَا يُسْتَحَقُّ بِأَرْبَعَةِ مَعَانٍ: نِكَاحٍ، وَنَسَبٍ، وَوَلَاءٍ، وَإِسْلَامٍ، وَمَعْنَى قَوْلِنَا: " وَإِسْلَامٍ " أَنَّ بَيْتَ الْمَالِ عِنْدَنَا وَارِثٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ بِوَارِثٍ. وَقَدْ حَقَقْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَعَوَّلَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] وَهِيَ آيَةٌ نُبَيِّنُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ زِيَادَةُ الْفُرُوضِ عَلَى مِقْدَارِ الْمَالِ الْمُورِث] فَصْلٌ لَمَّا قَدَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْفَرَائِضَ مَقَادِيرَهَا، وَقَرَّرَهَا مَقَارِيرَهَا، وَاسْتَمَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ زَمَانًا نَزَلَتْ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ عَارِضَةٌ، وَهِيَ ازْدِحَامُ أَرْبَابِ الْفَرَائِضِ عَلَى الْفَرَائِضِ، وَزِيَادَةُ فُرُوضِهِمْ عَلَى مِقْدَارِ الْمَالِ، مِثَالُ ذَلِكَ امْرَأَةٌ تَرَكَتْ زَوْجَهَا وَأُخْتَهَا وَأُمَّهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَمَّا أُلْقِيَتْ عِنْدَ عُمَرَ، وَكَانَ امْرَأً وَرِعًا، وَدَفَعَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَالَ: وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي أَيُّكُمْ قَدَّمَ اللَّهُ وَلَا أَيُّكُمْ أَخَّرَ، فَلَا أَجِدُ مَا هُوَ أَوْسَعُ مِنْ أَنْ أُقَسِّمَ عَلَيْكُمْ هَذَا الْمَالَ بِالْحِصَصِ، فَأَدْخَلَ عَلَى كُلِّ ذِي سَهْمٍ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ عَوْلٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَزِيزِ، إنَّ الَّذِي أَحْصَى رَمْلَ عَالِجٍ عَدَدًا مَا جَعَلَ فِي الْمَالِ نِصْفًا وَنِصْفًا وَثُلُثًا، فَهَذَانِ النِّصْفَانِ قَدْ ذَهَبَا بِالْمَالِ، فَأَيْنَ الثُّلُثُ؟ فَلْيَجِيئُوا فَلْنَضَعْ أَيْدِيَنَا عَلَى الرُّكْنِ فَلْنَبْتَهِلْ. قَالَ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ الْبَصْرِيُّ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؛ وَأَيُّهُمَا قَدَّمَ اللَّهُ؟ وَأَيُّهُمَا أَخَّرَ؟ قَالَ:

الآية الثانية عشرة قوله تعالى واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم

كُلُّ فَرِيضَةٍ لَمْ يُهْبِطْهَا اللَّهُ إلَّا إلَى فَرِيضَةٍ، فَهِيَ الْمُقَدَّمُ، وَكُلُّ فَرْضٍ إذَا زَالَ رَجَعَ إلَى مَا بَقِيَ فَهُوَ الْمُؤَخَّرُ. قَالَ الْقَاضِي: اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى مَا قَالَ عُمَرُ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ أَحَدٌ إلَى مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْوَرَثَةَ اسْتَوَوْا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي قَدْرِهِ، فَأُعْطُوا عِنْدَ التَّضَايُقِ حُكْمَ الْحِصَّةِ، أَصْلُهُ الْغُرَمَاءُ إذَا ضَاقَ مَالُ الْغَرِيمِ عَنْ حُقُوقِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يَتَحَاصُّونَ بِمِقْدَارِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمْ فِي رَأْسِ مَالِ الْغَرِيمِ. [الْآيَة الثَّانِيَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ] ْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ مُعْضِلَةٌ فِي الْآيَاتِ لَمْ أَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُعِينَ عَلَى عِلْمِهَا، وَفِيهَا ثَمَانِي عَشْرَةَ مَسْأَلَةٍ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً، لِأَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْقَوْلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، اللَّذَيْنِ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِحَالٍ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْحُكْمُ مَمْدُودًا إلَى غَايَةٍ، ثُمَّ وَقَعَ بَيَانُ الْغَايَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِنَسْخٍ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُنْتَظِمٌ مُتَّصِلٌ لَمْ يَرْفَعَ مَا بَعْدَهُ مَا قَبْلَهُ، وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى اللَّاتِي] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اللَّاتِي هُوَ جَمْعُ الَّتِي؛ كَلِمَةٌ يُخْبَرُ بِهَا عَنْ الْمُؤَنَّثِ خَاصَّةً، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: " الَّذِي " يُخْبَرُ بِهِ عَنْ الْمُذَكَّرِ خَاصَّةً، وَجَمْعُهُ الَّذِينَ، وَقَدْ تُحْذَفُ التَّاءُ فَتَبْقَى الْيَاءُ السَّاكِنَةُ فَتَجْرِي بِحَرَكَتِهَا، قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} [الطلاق: 4]، فَجَاءَ بِاللُّغَتَيْنِ فِي الْقُرْآنِ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ الْمَخْزُومِيُّ:

مسألة معنى قوله تعالى الفاحشة

مِنْ اللَّاءِ لَمْ يَحْجُجْنَ يَبْغِينَ حِسْبَةً ... وَلَكِنْ لِيَقْتُلْنَ الْبَرِيءَ الْمُغَفَّلَا [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى الْفَاحِشَةُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {الْفَاحِشَةَ} [النساء: 15] هِيَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ فِعْلٍ تَعْظُمُ كَرَاهِيَتُهُ فِي النُّفُوسِ، وَيَقْبُحُ ذِكْرُهُ فِي الْأَلْسِنَةِ حَتَّى يَبْلُغَ الْغَايَةَ فِي جِنْسِهِ، وَذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِشَهْوَةِ الْفَرْجِ إذَا اُقْتُضِيَتْ عَلَى الْوَجْهِ الْمَمْنُوعِ شَرْعًا أَوْ الْمُجْتَنَبِ عَادَةً، وَذَلِكَ يَكُونُ فِي الزِّنَا إجْمَاعًا، وَفِي اللِّوَاطِ بِاخْتِلَافٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ اللِّوَاطَ فَاحِشَةٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ سَمَّاهُ بِهِ عَلَى مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ} [النساء: 15] يُقَالُ: أَتَيْت مَقْصُورًا؛ أَيْ جِئْت، وَعَبَّرَ عَنْ الْفِعْلِ وَالْعَمَلِ بِالْمَجِيءِ؛ لِأَنَّ الْمَجِيءَ إلَيْهِ يَكُونُ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الِاسْتِعَارَةِ. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى مِنْ نِسَائِكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ؛ فَقَالَ الْأَكْثَرُ مِنْ الصَّحَابَةِ: إنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْأَزْوَاجُ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ الْجِنْسُ مِنْ النِّسَاءِ، وَتَعَلَّقَ مَنْ قَالَ: إنَّهُنَّ الْأَزْوَاجُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] وَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 2] وَأَرَادَ الْأَزْوَاجَ فِي الْآيَتَيْنِ، فَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ، وَإِذَا كَانَ إضَافَةُ زَوْجِيَّةٍ فَلَا فَائِدَةَ فِيهَا إلَّا اعْتِبَارُ الثُّيُوبَةِ؛ قَالُوا: وَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ عُقُوبَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا أَكْبَرُ مِنْ الْأُخْرَى، وَكَانَتْ الْأَكْبَرُ لِلثَّيِّبِ، وَالْأَصْغَرُ لِلْبِكْرِ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ أَرَادَ جَمِيعَ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّهُ مُطْلَقُ اللَّفْظِ الَّذِي يَقْتَضِي ذَلِكَ وَعُمُومَهُ، فَأَمَّا الَّذِي تَعَلَّقُوا بِهِ مِنْ آيَةِ الْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ فَإِنَّمَا أَوْقَفْنَاهُ عَلَى الْأَزْوَاجِ؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ وَالْإِيلَاءَ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِيلَاءَ لَمَّا كَانَ مُجَرَّدًا عَنْ النِّكَاحِ بِأَنْ يَحْلِفَ أَلَّا يَطَأَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً فَوَطِئَهَا يَحْنَثُ إذَا وَطِئَهَا إذَا تَزَوَّجَهَا، وَإِنَّمَا وَقَفَ عَلَى الْأَجَلِ فِي الزَّوْجَةِ رَفْعًا لِلضَّرَرِ.

مسألة معنى قوله تعالى فاستشهدوا عليهن أربعة منكم

وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ ذَكَرَ عُقُوبَتَيْنِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْأَغْلَظُ لِلْأَعْظَمِ وَالْأَقَلُّ لِلْأَصْغَرِ، بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْآيَتَيْنِ فِي النِّسَاءِ جَمِيعًا: إحْدَاهُمَا فِي الثَّيِّبِ، وَالْأُخْرَى فِي الْبِكْرِ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ عُلَمَائِنَا: إنَّ الْحِكْمَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] بَيَانُ حَالِ الْمُؤْمِنَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] يَعْنِي مِنْ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ تَعَالَى: {ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَيُفِيدُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَحُدُّ الْكَافِرَةَ إذَا زَنَتْ، وَذَلِكَ يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] وَهَذَا حُكْمٌ ثَابِتٌ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْأُمَّةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] فَشَرَطَ غَايَةَ الشَّهَادَةِ فِي غَايَةِ الْمَعْصِيَةِ لِأَعْظَمِ الْحُقُوقِ حُرْمَةً، وَتَعْدِيدُ الشُّهُودِ بِأَرْبَعَةٍ حُكْمٌ ثَابِتٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ؛ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «جَاءَتْ الْيَهُودُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ قَدْ زَنَيَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ائْتُونِي بِأَعْلَمِ رَجُلَيْنِ مِنْكُمْ فَأَتَوْهُ بِابْنَيْ صُورِيَّا، فَنَشَدَهُمَا اللَّهَ كَيْفَ تَجِدَانِ أَمْرَ هَذَيْنِ فِي التَّوْرَاةِ؟ قَالَا: نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ إذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ رُجِمَا. قَالَ: فَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْ تَرْجُمُوهُمَا؟ قَالَا: ذَهَبَ سُلْطَانُنَا وَكَرِهْنَا الْقَتْلَ. فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشُّهُودِ فَجَاءُوا وَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَجَمَهُمَا». الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ عُدُولًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ شَرَطَ الْعَدَالَةَ فِي الْبُيُوعِ وَالرَّجْعَةِ، فَهَذَا أَعْظَمُ، وَهُوَ بِذَلِكَ أَوْلَى، وَهُوَ مِنْ بَابِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِالدَّلِيلِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.

مسألة معنى قوله تعالى فإن شهدوا

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: وَلَا يَكُونُوا ذِمَّةٍ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ عَلَى ذِمَّةٍ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ الْقَتْلُ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْ الزِّنَا؟ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الشَّرْعِ بِشَاهِدَيْنِ، فَمَا هَذَا؟. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فِي ذَلِكَ حِكْمَةٌ بَدِيعَةٌ، وَهُوَ أَنَّ الْحِكْمَةَ الْإِلَهِيَّةَ وَالْإِيَالَةَ الرَّبَّانِيَّةَ اقْتَضَتْ السَّتْرَ فِي الزِّنَا بِكَثْرَةِ الشُّهُودِ؛ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي السَّتْرِ، وَجَعَلَ ثُبُوتَ الْقَتْلِ بِشَاهِدَيْنِ، بَلْ بِلَوْثٍ وَقَسَامَةٍ صِيَانَةً لِلدِّمَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مِنْكُمْ} [النساء: 15] الْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا الذُّكُورُ دُونَ الْإِنَاثِ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ أَوَّلًا {مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] ثُمَّ قَالَ: {مِنْكُمْ} [النساء: 15] فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ غَيْرَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأُمَّةِ. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَإِنْ شَهِدُوا] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ شَهِدُوا} [النساء: 15] الْمَعْنَى: فَاطْلُبُوا عَلَيْهِنَّ الشُّهَدَاءَ، فَإِنْ شَهِدُوا. وَلَيْسَ هَذَا بِأَمْرِ وُجُوبٍ لِطَلَبِ الشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرُ تَعْلِيمِ كَيْفَ يَكُونُ الْحُكْمُ بِالشَّهَادَةِ، وَصِفَةُ الشَّهَادَةِ الَّتِي يَشْهَدُ بِهَا الشَّاهِدُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ شَأْنِ مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ الْأَسْلَمِيِّ عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ أَصَابَ امْرَأَةً حَرَامًا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ فِي الْخَامِسَةِ، فَقَالَ: أَنِكْتَهَا؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ: حَتَّى غَابَ ذَلِكَ مِنْكَ فِيهَا؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ فِي الْمُكْحُلَةِ وَالرِّشَاءُ فِي الْبِئْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا الزِّنَا؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: أَتَيْتُ مِنْهَا حَرَامًا مِثْلَ مَا يَأْتِي الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ

مسألة معنى قوله تعالى فأمسكوهن في البيوت

حَلَالًا؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَمَا تُرِيدُ مِنِّي بِهَذَا الْقَوْلِ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ.» [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَأَمْسَكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء: 15] أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِمْسَاكِهِنَّ فِي الْبُيُوتِ وَحَبْسِهِنَّ فِيهَا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ تَكْثُرَ الْجُنَاةُ، فَلَمَّا كَثُرَ الْجُنَاةُ وَخُشِيَ فَوْتُهُمْ اُتُّخِذَ لَهُمْ سِجْنٌ. وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا السِّجْنِ، هَلْ هُوَ حَدٌّ أَوْ تَوَعُّدٌ بِالْحَدِّ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَوَعُّدٌ بِالْحَدِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَدٌّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: زَادَ ابْنُ زَيْدٍ أَنَّهُمْ مُنِعُوا مِنْ النِّكَاحِ حَتَّى يَمُوتُوا يَعْنِي عُقُوبَةً لَهُمْ حَيْثُ طَلَبُوا النِّكَاحَ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ. ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْحَدِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] فَمَنْ كَانَ مُحْصَنًا رُجِمَ، وَمَنْ كَانَ بِكْرًا جُلِدَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ حَدٌّ جَعَلَهُ اللَّهُ عُقُوبَةً مَمْدُودَةً إلَى غَايَةِ مُؤْذَنَةٍ بِأُخْرَى هِيَ النِّهَايَةُ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُ حَدٌّ، لِأَنَّهُ إيذَاءٌ، وَإِيلَامٌ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَرَى أَنَّهُ أَشَدُّ مِنْ الْجِلْدِ، وَكُلُّ إيذَاءٍ وَإِيلَامٍ حَدٌّ، لِأَنَّهُ مَنْعٌ وَزَجْرٌ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُ مَمْدُودٌ إلَى غَايَةٍ إبْطَالًا لِقَوْلِ مَنْ رَأَى مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ: إنَّهُ نُسِخَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] رَوَى مُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «خُذُوا عَنِّي، قَدْ

مسألة لا يقضى بالنفي حدا للزنا إلا أن يراه الحاكم

جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ». وَرَوَى مُسْلِمٌ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ كُرِبَ لِذَلِكَ وَتَرَبَّدَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ ذَاتَ يَوْمٍ فَلُقِيَ لِذَلِكَ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَالَ: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ، وَالْبِكْرُ بِالْبِكْرِ، الثَّيِّبُ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ، وَالْبِكْرُ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ». . وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: «الْبِكْرُ تُجْلَدُ وَتُنْفَى، وَالثَّيِّبُ تُجْلَدُ وَتُرْجَمُ». . فَبَيَّنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ: بِكْرٌ تَزْنِي بِبِكْرٍ، وَثَيِّبٌ تَزْنِي بِثَيِّبٍ. الثَّالِثُ بِكْرٌ تَزْنِي بِثَيِّبٍ، أَوْ ثَيِّبٌ تَزْنِي بِبِكْرٍ، لِقَوْلِهِ: «الْبِكْرُ تُجْلَدُ وَتُنْفَى، وَالثَّيِّبُ تُرْجَمُ». [مَسْأَلَةٌ لَا يُقْضَى بِالنَّفْيِ حَدًّا لِلزِّنَا إلَّا أَنْ يَرَاهُ الْحَاكِمُ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الْبِكْرُ يُجْلَدُ وَيُغَرَّبُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَحَمَّادٌ: لَا يُقْضَى بِالنَّفْيِ حَدًّا إلَّا أَنْ يَرَاهُ الْحَاكِمُ [تَعْزِيرًا]، وَاحْتَجَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وَلَمْ يَذْكُرْ تَغْرِيبًا، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.

جَوَابٌ ثَانٍ: قَدْ رَدَدْتُمْ الْبَيِّنَةَ بِخَبَرٍ لَا يَصِحُّ عَلَى الْمَاءِ وَالتُّرَابِ. جَوَابٌ ثَالِثٌ: وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْجَلْدَ، وَلَمْ يَذْكُرْ الرَّجْمَ، وَهُوَ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ. جَوَابٌ رَابِعٌ: وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ الْإِحْصَانَ وَلَا الْحُرِّيَّةَ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْآيَةِ بَيَانُ جِنْسِ الْحَدِّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُحْصَنِ وَغَيْرِ الْمُحْصَنِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: الْمَرْأَةُ لَا تُغَرَّبُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ حِينَ تَعَلَّقُوا بِعُمُومِ الْحَدِيثِ، وَالْمَعْنَى يَخُصُّهُ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَحْتَاجُ مِنْ الصِّيَانَةِ وَالْحِفْظِ وَالْقَصْرِ عَنْ الْخُرُوجِ وَالتَّبَرُّزِ اللَّذَيْنِ يَذْهَبَانِ بِالْعِفَّةِ إلَى مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الرَّجُلُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: الْعَبْدُ لَا يُغَرَّبُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ حَيْثُ يَقُولُ بِعُمُومِ الْخَبَرِ، وَيَخُصُّهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ فَلْيَبِعْهَا، وَلَوْ بِضَفِيرٍ». فَكَرَّرَ ذِكْرَ الْجَلْدِ، وَلَمْ يَذْكُرْ التَّغْرِيبَ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَكَرَّرَهُ أَوْ ذَكَرَهُ. وَأَيْضًا، فَإِنَّ الْمَعْنَى يَخُصُّهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ تَغْرِيبِ الْحُرِّ إيذَاؤُهُ بِالْحَيْلُولَةِ لَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ، وَالْإِهَانَةِ لَهُ؛ وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الْعَبْدِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: فِي أَصْلِ التَّغْرِيبِ: وَهُوَ أَنَّهُ أَجْمَعَ رَأْيُ خِيَارِ بَنِي إسْمَاعِيلَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْدَثَ فِي الْحَرَمِ حَدَثًا غُرِّبَ مِنْهُ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا بَيَّنَهُ لَهُمْ أَوَّلُهُمْ، فَصَارَتْ سُنَّةً لَهُمْ فِيهِ يَدِينُونَ بِهَا، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ اسْتَنَّ النَّاسُ إذَا أَحْدَثَ أَحَدٌ حَدَثًا غُرِّبَ عَنْ بَلَدِهِ؛ وَتَمَادَى ذَلِكَ إلَى الْجَاهِلِيَّةِ إلَى أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ فَأَقَرَّهُ فِي الزِّنَا خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْمَظَالِمَ يُمْكِنُ كَفُّ الظَّالِمِ عَنْهَا جَهْرًا، فَلَا

مسألة الجمع بين الجلد والرجم في الزنا

يَقْدِرُ عَلَيْهَا سِرًّا، وَالزِّنَا لَيْسَ الْكَفُّ عَنْهُ بِكَامِلٍ حَتَّى يُغَرَّبَ عَنْ مَوْضِعِهِ، فَلَا تَكُونُ لَهُ حِيلَةٌ فِي السِّرِّ يَتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الْعَوْدَةِ إلَيْهِ أَوْ إلَى مِثْلِهِ. [مَسْأَلَةٌ الْجَمْعُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ فِي الزِّنَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ خِلَافًا لِأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَمُتَعَلَّقُهُمْ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلِ عَلِيٍّ ذَلِكَ أَيَّامَ خِلَافَتِهِ. وَقَوْلُنَا أَصَحُّ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ رَجَمَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَجْلِدْهُ، فَتَرَكَهُ لَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِعْلًا فِي كُلِّ مَنْ رَجَمَ، وَقَوْلًا فِي قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْعَسِيفِ: «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» مُسْقِطٌ لَهُ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَاَللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا] قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 16] فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِذَايَةَ فِي الْأَبْكَارِ قَالَهُ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ. الثَّانِي: أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي أَبْكَارِ الرِّجَالِ وَثَيِّبِهِمْ قَالَهُ مُجَاهِدٌ؛ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ الْأُولَى مُؤَنَّثٌ؛ فَاقْتَضَى النِّسَاءَ؛ وَهَذَا لَفْظٌ مُذَكَّرٌ، فَاقْتَضَى الرِّجَالَ.

وَرَدَّ عَلَيْهِ الطَّبَرِيُّ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّحْوِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَقَالُوا: إنَّ لَفْظَ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ يَصْلُحُ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالصَّوَابُ مَعَ مُجَاهِدٍ؛ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى نَصٌّ فِي النِّسَاءِ بِمُقْتَضَى التَّأْنِيثِ وَالتَّصْرِيحِ بِاسْمِهِنَّ الْمَخْصُوصِ لَهُنَّ، فَلَا سَبِيلَ لِدُخُولِ الرِّجَالِ فِيهِ، وَلَفْظُ الثَّانِيَةِ يَحْتَمِلُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ، وَكَانَ يَصِحُّ دُخُولُ النِّسَاءِ مَعَهُمْ فِيهَا لَوْلَا أَنَّ حُكْمَ النِّسَاءِ تَقَدَّمَ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ لَوْ اسْتَقَلَّتْ لَكَانَتْ حُكْمًا آخَرَ مُعَارِضًا لَهُ، فَيُنْظَرُ فِيهِ، وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَتْ مَنُوطَةً بِهَا، مُرْتَبِطَةً مَعَهَا، مُحَالَةً بِالضَّمِيرِ عَلَيْهَا فَقَالَ: {يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} [النساء: 16] عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ الرِّجَالَ ضَرُورَةً. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا قُلْنَا وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إنَّ قَوْلَهُ: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء: 16] عَامٌّ فِي الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ، فَاقْتَضَى مَسَاقُ الْآيَتَيْنِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ فِي زِنَا النِّسَاءِ عُقُوبَةَ الْإِمْسَاكِ فِي الْبُيُوتِ، وَجَعَلَ فِي زِنَا الرِّجَالِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِيهِمَا جَمِيعًا الْإِيذَاءَ، فَاحْتَمَلَ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ الْإِيذَاءُ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ عُقُوبَةً لَهُمْ [عُقُوبَةً] دُونَ الْإِمْسَاكِ، وَاحْتَمَلَ الْإِيذَاءَ وَالْإِمْسَاكَ حَمْلًا عَلَى النِّسَاءِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَهَاهُنَا نُكْتَةٌ حَسَنَةٌ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ الْجَلْدَ بِالْآيَةِ وَالرَّجْمَ بِالْحَدِيثِ نَسَخَ هَذَا الْإِيذَاءَ فِي الرِّجَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَمْدُودًا إلَى غَايَةٍ، وَقَدْ حَصَلَ التَّعَارُضُ؛ وَعُلِمَ التَّارِيخُ، وَلَمْ يُمْكِنْ الْجَمْعُ، فَوَجَبَ الْقَضَاءُ بِالنَّسْخِ؛ وَأَمَّا الْجَلْدُ فَقُرْآنٌ نَسَخَ قُرْآنًا، وَأَمَّا الرَّجْمُ فَخَبَرٌ مُتَوَاتِرٌ نَسَخَ قُرْآنًا، وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْمُحَقِّقِينَ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَأَوْعَبْنَا الْقَوْلَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي قَبْلَ هَذَا فِيهِ.

الآية الرابعة عشرة قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها

[الْآيَة الرَّابِعَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا] قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] فِيهِ تِسْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: وَفِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إذَا مَاتَ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِزَوْجَتِهِ مِنْ وَلِيِّهَا، يَتَزَوَّجُهَا أَوْ يُنْكِحُهَا لِغَيْرِهِ، وَرُبَّمَا أَلْقَى أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِهِ عَلَيْهَا ثَوْبًا، فَكَانَ أَوْلَى بِهَا، حَتَّى مَاتَ ابْنُ عَامِرٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْآيَةَ، وَنَحْوُهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ} [النساء: 19] الْقَوْلُ فِي الْعَضْلِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ؛ قِيلَ فِيهَا أُمِرُوا بِتَخْلِيَةِ سَبِيلِهِنَّ إذَا لَمْ يَرِثُوهُنَّ. وَقِيلَ: هَذَا خِطَابٌ لِلْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ كَانُوا يَمْنَعُ الرَّجُلُ [مِنْهُمْ] امْرَأَةَ أَبِيهِ أَنْ تَتَزَوَّجَ حَتَّى تَمُوتَ فَيَرِثُهَا؛ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19] قِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ إذَا لَمْ يَتَّفِقُوا مَعَ أَزْوَاجِهِنَّ، نُهُوا أَنْ يُمْسِكُوهُنَّ عَلَى غَيْرِ عِشْرَةٍ جَمِيلَةٍ حَتَّى يَأْخُذُوا مَا أَعْطُوهُنَّ. وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْجَاهِلِيَّةُ نُهُوا أَنْ يَمْنَعُوا النِّسَاءَ مِنْ النِّكَاحِ

مسألة معنى قوله تعالى إلا أن يأتين بفاحشة مبينة

لِمَنْ أَرَدْنَ إذَا مَاتَ أَزْوَاجُهُنَّ، وَلَا يَحْبِسُوهُنَّ لِيَرِثُوا مِنْهُنَّ مَا وَرِثُوا مِنْ مُوَرِّثِهِمْ، عُبِّرَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: " آتَيْتُمُوهُنَّ " لِأَنَّهُ إعْطَاءٌ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى وَجْهِ الْمِيرَاثِ، وَهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْخُذُوهُ عَلَى وَجْهِ الْغَصْبِ مِيرَاثًا أَيْضًا. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قِيلَ: الْفَاحِشَةُ الزِّنَا. الثَّانِي: قِيلَ: النُّشُوزُ. الثَّالِثُ: قَالَ عَطَاءٌ: كَانَ الرَّجُلُ مِنْ الْجَاهِلِيَّةِ إذَا زَنَتْ امْرَأَتُهُ أَخَذَ جَمِيعَ مَالِهَا الَّذِي سَاقَهُ لَهَا، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ بِالْحُدُودِ. الرَّابِعُ: قِيلَ: إنَّهُ كَانَ فِي الزِّنَا ثَلَاثَةُ وُجُوهٍ، قِيلَ لَهُمْ: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32] الْآيَةَ، ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] فَجَازَ لَهُ عَضْلُهَا عَنْ حَقِّهَا وَأَخْذُ مَالِهَا. ثُمَّ نَزَلَتْ: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء: 16] فَهَذَا الْبِكْرَانِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي تَحْقِيقِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَقْوَالِ: أَمَّا مَنْ قَالَ إنَّهُ الزِّنَا وَالنُّشُوزُ فَقَدْ بَيَّنَّا أَحْكَامَ جَوَازِ الْخُلْعِ وَأَخْذِ مَالِ الْمَرْأَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَأَمَّا قَوْلُ عَطَاءٍ فَمُحْتَمَلٌ صَحِيحٌ تَتَنَاوَلُهُ الْآيَةُ، لَكِنْ لَا يُقَالُ فِي مِثْلِ هَذَا إنَّهُ نَسْخٌ، وَإِنْ كَانَ فِي التَّحْقِيقِ نَسْخًا؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَسَخَ الْبَاطِلَ، وَلَكِنْ اللَّفْظَ مُجْمَلٌ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ، وَشَرْطٌ يَرْتَبِطُ بِهِ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: كَانَ فِي الزِّنَا ثَلَاثَةُ أَنْحَاءٍ فَتَحَكُّمٌ مَحْضٌ، وَنَقْلٌ لَمْ يَصِحَّ، وَتَقْدِيرٌ يَفْتَقِرُ إلَى نَقْلٍ ثَابِتٍ، وَلَمْ يَكُنْ، فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِهِ.

مسألة معنى قوله تعالى وعاشروهن بالمعروف

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي تَقْدِيرِ الْآيَةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْأَقْوَالِ: وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَحْبِسَ امْرَأَةً كَرْهًا حَتَّى يَأْخُذَ مَالَهَا إذَا مَاتَتْ كَانَتْ غَيْرَ زَوْجَةٍ أَوْ زَوْجَةً قَدْ سَقَطَ غَرَضُهُ فِيهَا، وَسَقَطَتْ عِشْرَتُهُ الْجَمِيلَةُ مَعَهَا، وَلَا يَحِلُّ عَضْلُهَا عَنْ النِّكَاحِ لِغَيْرِهِمْ حَتَّى يَأْخُذَ الزَّوْجُ مَا أَعْطَاهَا صَدَاقًا، أَوْ لِيَأْخُذَ الْغَاصِبُ مَا كَانَ أَخَذَ مِنْ مَالِ مُوَرِّثِهِ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْهُنَّ ذَنْبٌ بِزِنًا أَوْ نُشُوزٍ لَا تَحْسُنُ مَعَهُ عِشْرَةٌ، فَجَائِزٌ عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِنِكَاحِهَا حَتَّى يَأْخُذَ مِنْهَا مَالًا، فَأَوَّلُ الْآيَةِ عَامٌّ فِي الْأَزْوَاجِ وَغَيْرِهِمْ؛ وَآخِرُهَا عِنْدَ الِاسْتِثْنَاءِ مَخْصُوصٌ بِالْأَزْوَاجِ. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] وَحَقِيقَةُ " عَشَرَ " فِي الْعَرَبِيَّةِ الْكَمَالُ وَالتَّمَامُ، وَمِنْهُ الْعَشِيرَةُ، فَإِنَّهُ بِذَلِكَ كَمُلَ أَمْرُهُمْ وَصَحَّ اسْتِبْدَادُهُمْ عَنْ غَيْرِهِمْ. وَعَشَرَةٌ تَمَامُ الْعَقْدِ فِي الْعَدَدِ، وَيُعَشَّرُ الْمَالُ لِكَمَالِهِ نِصَابًا. فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْأَزْوَاجَ إذَا عَقَدُوا عَلَى النِّسَاءِ أَنْ يَكُونَ أُدْمَةُ مَا بَيْنَهُمْ وَصُحْبَتُهُمْ عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ، فَإِنَّهُ أَهْدَأُ لِلنَّفْسِ، وَأَقَرُّ لِلْعَيْنِ، وَأَهْنَأُ لِلْعَيْشِ، وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى الزَّوْجِ، وَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ إلَّا أَنْ يَجْرِيَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى سُوءِ عَادَتِهِمْ فَيَشْتَرِطُونَهُ وَيَرْبِطُونَهُ بِيَمِينٍ، وَمِنْ سُقُوطِ الْعِشْرَةِ تَنْشَأُ الْمُخَالَعَةُ، وَبِهَا يَقَعُ الشِّقَاقُ، فَيَصِيرُ الزَّوْجُ فِي شِقٍّ، وَهُوَ سَبَبُ الْخُلْعِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [وَجَدَ الرَّجُلُ فِي زَوْجَتِهِ كَرَاهِيَةً مِنْ غَيْرِ فَاحِشَةٍ وَلَا نُشُوزٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] الْمَعْنَى: إنْ وَجَدَ الرَّجُلُ فِي زَوْجَتِهِ كَرَاهِيَةً، وَعَنْهَا رَغْبَةً، وَمِنْهَا نُفْرَةً مِنْ غَيْرِ فَاحِشَةٍ وَلَا نُشُوزٍ فَلْيَصْبِرْ عَلَى أَذَاهَا وَقِلَّةِ إنْصَافِهَا، فَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُ. أَخْبَرَنِي أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ بِالْمُهْدِيَةِ، عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ السُّيُورِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: كَانَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ مِنْ الْعِلْمِ وَالدِّينِ فِي الْمَنْزِلَةِ الْمَعْرُوفَةِ، وَكَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ سَيِّئَةُ الْعِشْرَةِ، وَكَانَتْ تُقَصِّرُ فِي حُقُوقِهِ، وَتُؤْذِيهِ بِلِسَانِهَا

الآية الخامسة عشرة قوله تعالى وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج

فَيُقَالُ لَهُ فِي أَمْرِهَا فَيَسْدُلُ بِالصَّبْرِ عَلَيْهَا، وَكَانَ يَقُولُ: أَنَا رَجُلٌ قَدْ أَكْمَلَ اللَّهُ عَلَيَّ النِّعْمَةَ فِي صِحَّةِ بَدَنِي وَمَعْرِفَتِي، وَمَا مَلَكَتْ يَمِينِي، فَلَعَلَّهَا بُعِثَتْ عُقُوبَةً عَلَى دِينِي، فَأَخَاف إذَا فَارَقْتُهَا أَنْ تَنْزِلَ بِي عُقُوبَةٌ هِيَ أَشَدُّ مِنْهَا. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى كَرَاهِيَةِ الطَّلَاقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَبْلَ هَذَا [الْآيَة الْخَامِسَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ] ٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 20] فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَمَّا أَبَاحَ اللَّهُ الْفِرَاقَ لِلْأَزْوَاجِ وَالِانْتِقَالَ بِالنِّكَاحِ مِنْ امْرَأَةٍ إلَى امْرَأَةٍ أَخْبَرَ عَنْ دِينِهِ الْقَوِيمِ وَصِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ فِي تَوْفِيَةِ حُقُوقِهِنَّ إلَيْهِنَّ عِنْدَ فِرَاقِهِنَّ؛ فَوَطْأَةٌ وَاحِدَةٌ حَلَالًا تُقَاوِمُ مَالَ الدُّنْيَا كُلِّهِ، نَهَى الْأَزْوَاجَ عَنْ أَنْ يَعْتَرِضُوهُنَّ فِي صَدَقَاتِهِنَّ، إذْ قَدْ وَجَبَ ذَلِكَ لَهُنَّ وَصَارَ مَالًا مِنْ أَمْوَالِهِنَّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20] فِيهِ جَوَازُ كَثْرَةِ الصَّدَاقِ، وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ كَانُوا يُقَلِّلُونَهُ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى الْمِنْبَرِ: " أَلَا لَا تُغَالُوا فِي صَدَقَاتِ النِّسَاءِ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَكْرُمَةً فِي الدُّنْيَا وَتَقْوَى عِنْدَ اللَّهِ لَكَانَ أَوْلَاكُمْ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ مَا أَصْدَقَ قَطُّ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ وَلَا مِنْ بَنَاتِهِ فَوْقَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً " فَقَامَتْ إلَيْهِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا عُمَرُ، يُعْطِينَا اللَّهُ وَتَحْرُمُنَا أَنْتَ؟ أَلَيْسَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] فَقَالَ عُمَرُ: " امْرَأَةٌ أَصَابَتْ وَأَمِيرٌ أَخْطَأَ ". وَفِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ مِثْلُهُ إلَى قَوْلِهِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً، زَادَ: فَإِنَّ الرَّجُلَ يُغَلِّي بِالْمَرْأَةِ فِي صَدَاقِهَا. فَتَكُونُ حَسْرَةٌ فِي صَدْرِهِ فَيَقُولُ: كُلِّفْت إلَيْكَ عِرْقَ الْقِرْبَةِ. قَالَ:

فَكُنْت غُلَامًا مَوْلُودًا لَمْ أَدْرِ مَا هَذَا؛ قَالَ: وَأُخْرَى يَقُولُونَ لِمَنْ قُتِلَ فِي مَغَازِيكُمْ هَذِهِ: قُتِلَ فُلَانٌ شَهِيدًا أَوْ مَاتَ فُلَانٌ شَهِيدًا، وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ خَرَجَ وَأُفْرِدَ دُونَ رَاحِلَتِهِ أَوْ أَعْجَزَهَا بِطَلَبِ النَّجَاةِ، وَلَكِنْ قُولُوا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مَاتَ فَلَهُ الْجَنَّةُ». وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ عُمَرُ عَلَى طَرِيقِ التَّحْرِيمِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ النَّدْبَ إلَى التَّعْلِيمِ؛ وَقَدْ تَنَاهَى النَّاسُ فِي الصَّدَقَاتِ حَتَّى بَلَغَ صَدَاقُ امْرَأَةٍ أَلْفَ أَلْفٍ، وَهَذَا قَلَّ أَنْ يُوجَدَ مِنْ حَلَالٍ. وَقَدْ سُئِلَ عَطَاءٌ عَنْ رَجُلٍ غَالَى فِي صَدَاقِ امْرَأَةٍ أَيَرُدُّهُ السُّلْطَانُ؟ قَالَ: لَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ خَطَبَ إلَى عَلِيٍّ أُمَّ كُلْثُومٍ ابْنَتَهُ مِنْ فَاطِمَةَ، فَقَالَ: إنَّهَا صَغِيرَةٌ، فَقَالَ عُمَرُ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنَّ كُلَّ نَسَبٍ وَصِهْرٍ مُنْقَطِعٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا نَسَبِي وَصِهْرِي»، فَلِذَلِكَ رَغِبْت فِي مِثْلِ هَذَا ". فَقَالَ عَلِيٌّ: إنِّي أُرْسِلُهَا حَتَّى تَنْظُرَ إلَى صِغَرِهَا، فَأَرْسَلَهَا فَجَاءَتْ، فَقَالَتْ: إنَّ أَبِي يَقُولُ: هَلْ رَضِيت الْحُلَّةَ؟ فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ رَضِيتهَا. فَأَنْكَحَهَا عَلِيٌّ فَأَصْدَقَهَا أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ «صَدَاقُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُمِّ حَبِيبَةَ كَانَ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ»، وَرُوِيَ ثَمَانِمِائَةِ دِينَارٍ. وَرُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «خَيْرُ النِّكَاحِ أَيْسَرُهُ». «وَقَالَ لِرَجُلٍ: أَتَرْضَى أَنْ أُزَوِّجَكَ فُلَانَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: أَتَرْضَيْنَ أَنْ أُزَوِّجَكِ فُلَانًا؟ قَالَتْ: نَعَمْ. فَزَوَّجَهَا فَدَخَلَ عَلَيْهَا فَلَمْ يَكْتُبْ لَهَا صَدَاقًا وَلَا أَعْطَاهَا شَيْئًا، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ وَلَهُ سَهْمٌ بِخَيْبَرَ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَوَّجَنِي فُلَانَةَ، فَلَمْ أُعَيِّنْ لَهَا صَدَاقًا، وَلَمْ أُعْطِهَا شَيْئًا، وَإِنِّي أُعْطِيهَا مِنْ صَدَاقِهَا سَهْمِي بِخَيْبَرَ، فَأَخَذَتْ سَهْمَهُ ذَلِكَ فَبَاعَتْهُ بِمِائَةِ أَلْفٍ». وَزَوَّجَ عُرْوَةَ الْبَارِقِيَّ بِنْتَ هَانِئِ بْنِ قَبِيصَةَ عَلَى أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. وَعَنْ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ أَنَّ مُطَرِّفًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى عَشْرَةِ آلَافٍ أُوقِيَّةٍ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِنَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، يُقَالُ هِيَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ. «وَزَوَّجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةً بِخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ». وَعَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى نَعْلَيْنِ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرَضِيَتْ عَنْ مَالِكِ بِهَاتَيْنِ النَّعْلَيْنِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَجَازَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: لَوْ أَصْدَقَهَا سَوْطًا جَازَ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: يُسْتَحَبُّ فِي الصَّدَاقِ الرِّطْلُ مِنْ الذَّهَبِ، وَكَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَكُونَ سَهْمُ الْحَرَائِرِ مِثْلَ أُجُورِ الْبَغَايَا: الدِّرْهَمُ وَالدِّرْهَمَيْنِ، وَيُحِبُّونَ أَنْ يَكُونَ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَشَيْءٌ مِنْ هَذَا لَمْ يَصِحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ غَيْرِهِ، خِلَافُ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَخَاتَمِ الْحَدِيدِ، وَسَيَأْتِي تَقْدِيرُ الْمَهْرِ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {قِنْطَارًا} [النساء: 20] قَالَ عُلَمَاؤُنَا: اُخْتُلِفَ فِي الْقِنْطَارِ عَلَى عَشَرَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ؛ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ عَبَّاسٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ أَلْفٌ وَمِائَتَا دِينَارٍ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ. وَهُوَ الْأَوْلَى لِلصَّوَابِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ دِيَةُ أَحَدِكُمْ؛ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.

الآية السادسة عشرة قوله تعالى وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض

الرَّابِعُ: أَنَّهُ أَلْفٌ وَمِائَتَا أُوقِيَّةٍ؛ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ أُوقِيَّةٍ؛ قَالَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَيْضًا. السَّادِسُ: أَنَّهُ ثَمَانُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ؛ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ. السَّابِعُ: أَنَّهُ مِائَةُ رِطْلٍ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ. الثَّامِنُ: أَنَّهُ سَبْعُونَ أَلْفَ دِينَارٍ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. التَّاسِعُ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: وَهُوَ مِلْءُ مَسْكِ ثَوْرٍ مِنْ ذَهَبٍ. الْعَاشِرُ: أَنَّهُ الْمَالُ الْكَثِيرُ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا تَحَكُّمٌ فِي الْأَكْثَرِ، وَقَدْ رُوِيَ بَعْضُهَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ. وَاَلَّذِي يَصِحُّ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ الْمَالُ الْكَثِيرُ الْوَزْنِ، هَذَا عُرْفٌ عَرَبِيٌّ، أَمَّا أَنَّ النَّاسَ لَهُمْ فِي الْقِنْطَارِ عُرْفٌ مُعْتَادٌ، وَهُوَ أَنَّ الْقِنْطَارَ أَرْبَعَةُ أَرْبَاعٍ، وَالرُّبْعُ ثَلَاثُونَ رِطْلًا، وَالرِّطْلُ اثْنَتَا عَشْرَةَ أُوقِيَّةً، وَالْأُوقِيَّةُ سِتَّةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَالدِّرْهَمُ سِتٌّ وَثَلَاثُونَ حَبَّةً، وَهِيَ سِتَّةُ دَوَانِيقَ، فَمَا زَادَ أَوْ نَقَصَ فَبِحَسَبِ اتِّفَاقِهِمْ أَوْ بِحُكْمِ الْوُلَاةِ، وَقَدْ رَدُّوا الدِّرْهَمَ مِنْ سَبْعَةٍ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ مِنْ سِتَّةِ دَوَانِيقَ، وَرَكَّبُوا الدِّرْهَمَ الْأَكْبَرَ مِنْ ثَمَانِيَةِ دَوَانِيقَ عَلَى الدِّرْهَمِ الْأَصْغَرِ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ دَوَانِيقَ، فَحَمَلَتْ بَنُو أُمَيَّةَ زِيَادَةَ الْأَكْبَرِ عَلَى نُقْصَانِ الْأَصْغَرِ، فَجَعَلُوهُمَا دِرْهَمَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِتَّةُ دَوَانِيقَ، وَجَعَلُوا الدِّينَارَ دِرْهَمَيْنِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ قِيرَاطًا، وَالْقِيرَاطُ ثَلَاثُ حَبَّاتٍ. وَقَدْ رَوَى شَرِيكٌ عَنْ سَعْدِ بْنِ طَرِيفٍ عَنْ الْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ عَنْ «عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ؛ قَالَ: زَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاطِمَةَ عَلَى أَرْبَعِمِائَةٍ وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا بِوَزْنِ سِتَّةٍ»؛ وَهَذَا ضَعِيفٌ، إنَّمَا زَوَّجَهُ إيَّاهَا فِي الصَّحِيحِ عَلَى دِرْعِهِ الْحُطَمِيَّةِ. [الْآيَة السَّادِسَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ] ٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21]

مسألة معنى قوله تعالى وأخذن منكم ميثاقا غليظا

فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {أَفْضَى} [النساء: 21] أَفْعَلُ مِنْ الْفَضَاءِ، وَهُوَ كُلُّ مَوْضِعٍ خَالٍ، فَقَالَ: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ، وَقَدْ كَانَتْ الْخَلْوَةُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُنَّ؟ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْمَهْرِ بِالْخَلْوَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ. وَلِمَالِكٍ فِي ذَلِكَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٌ: إحْدَاهُنَّ: يَسْتَقِرُّ الْمَهْرُ بِالْخَلْوَةِ. الثَّانِي: لَا يَسْتَقِرُّ إلَّا بِالْوَطْءِ. الثَّالِثُ: يَسْتَقِرُّ بِالْخَلْوَةِ فِي بَيْتِ الْإِهْدَاءِ. وَالْأَصَحُّ اسْتِقْرَارُهُ بِالْخَلْوَةِ مُطْلَقًا، وَيَلِيهِ فِي بَيْتِ الْإِهْدَاءِ. وَأَمَّا وُقُوفُهُ عَلَى الْوَطْءِ فَضَعِيفٌ. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21] فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا قَوْلُهُ: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]. الثَّانِي: كَلِمَةُ النِّكَاحِ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَهِيَ قَوْلُهُ: (نَكَحَتْ). وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ نَحْوُهُ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ». وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

الآية السابعة عشرة قوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ: لَا يَأْخُذُ الزَّوْجُ مِنْ الْمُخْتَلِعَةِ شَيْئًا لِقَوْلِهِ: {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] إلَى قَوْلِهِ: {مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21]. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: رَخَّصَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، فَنَسَخَ ذَلِكَ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: بَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ. وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ بَكْرٍ إنْ أَرَادَتْ هِيَ الْعَطَاءَ، فَقَدْ «جَوَّزَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِثَابِتٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ زَوْجَتِهِ مَا سَاقَ إلَيْهَا وَصَدَّقَ» إنَّمَا يَكُونُ النَّسْخُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ وَالْجَمْعُ مُمْكِنٌ، وَبِهِ يَتِمُّ الْبَيَانُ، وَتَسْتَمِرُّ فِي سُبُلِهَا الْأَحْكَامُ. [الْآيَة السَّابِعَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ] ِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلا} [النساء: 22] فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ النِّكَاحَ أَصْلُهُ الضَّمُّ وَالْجَمْعُ، فَتَجْتَمِعُ الْأَقْوَالُ فِي الِانْعِقَادِ وَالرَّبْطِ كَمَا تَجْتَمِعُ الْأَفْعَالُ فِي الِاتِّصَالِ وَالضَّمِّ، لَكِنَّ الْعَرَبَ عَلَى عَادَتِهَا خَصَّصَتْ اسْمَ النِّكَاحِ بِبَعْضِ أَحْوَالِ الْجَمْعِ وَبَعْضِ مَحَالِّهِ، وَمَا تَعَلَّقَ بِالنِّسَاءِ، وَاقْتَضَى تَعَاطِيَ اللَّذَّةِ فِيهَا، وَاسْتِيفَاءَ الْوَطَرِ مِنْهَا، وَعَلَى ذَلِكَ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ جَاءَتْ الْآثَارُ وَالْآيَاتُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مَا نَكَحَ} [النساء: 22] اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَلِمَةِ " مَا " هَلْ يُخْبَرُ بِهَا عَمَّا يَعْقِلُ أَمْ لَا؟ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي رِسَالَةِ مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي اللُّغَةِ شَائِعٌ فِيهَا، وَفِي الشَّرِيعَةِ.

مسألة مفاد قوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء

وَجَهِلَ الْمُفَسِّرُونَ هَذَا الْمِقْدَارَ، وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي ذَلِكَ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْمَعْنَى وَلَا تَنْكِحُوا نِكَاحَ آبَائِكُمْ يَعْنِي النِّكَاحَ الْفَاسِدَ الْمُخَالِفَ لِدِينِ اللَّهِ؛ إذْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَحْكَمَ وَجْهَ النِّكَاحِ، وَفَصَّلَ شُرُوطَهُ. وَالْمَعْنَى الصَّحِيحُ: وَلَا تَنْكِحُوا نِسَاءَ آبَائِكُمْ، وَلَا تَكُونُ (مَا) هُنَا بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ؛ لِاتِّصَالِهَا بِالْفِعْلِ، وَإِنَّمَا هِيَ بِمَعْنَى الَّذِي، وَبِمَعْنَى مَنْ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّحَابَةَ إنَّمَا تَلَقَّتْ الْآيَةَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَمِنْهُ اسْتَدَلَّتْ عَلَى مَنْعِ نِكَاحِ الْأَبْنَاءِ حَلَائِلَ الْآبَاءِ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلا} [النساء: 22] تَعَقَّبَ النَّهْيَ بِالذَّمِّ الْبَالِغِ الْمُتَتَابِعِ؛ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ انْتِهَاءٌ مِنْ الْقُبْحِ إلَى الْغَايَةِ، وَذَلِكَ هُوَ خَلَفُ الْأَبْنَاءِ عَلَى حَلَائِلِ الْآبَاءِ؛ إذْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَقْبِحُونَهُ وَيَسْتَهْجِنُونَ فَاعِلَهُ وَيُسَمُّونَهُ الْمَقْتِيَّ؛ نَسَبُوهُ إلَى الْمَقْتِ. فَأَمَّا النِّكَاحُ الْفَاسِدُ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ وَلَا يَبْلُغُ إلَى هَذَا الْحَدِّ. [مَسْأَلَةٌ مفاد قَوْله تَعَالَى وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّهُمَا قَالَا: ثَلَاثُ آيَاتٍ مُبْهَمَاتٍ: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء: 23]، و {مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22]، {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23]. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ مُبْهَمَةٌ، وَإِنَّمَا النَّهْيُ يَتَنَاوَلُ الْعَقْدَ وَالْوَطْءَ، فَلَا يَجُوزُ لِلِابْنِ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً عَقَدَ عَلَيْهَا أَبُوهُ أَوْ وَطِئَهَا لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ عَلَيْهِمَا مَعًا. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفِيمَا تَقَدَّمَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22]. يَعْنِي مِنْ فِعْلِ الْأَعْرَابِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؛ فَإِنَّ بَعْضَهُمْ كَانَتْ الْحَمِيَّةُ تَغْلِبُ عَلَيْهِ، فَيَكْرَهُ أَنْ يَعْمُرَ فِرَاشَ أَبِيهِ غَيْرُهُ، فَيَعْلُو هُوَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَسْتَمِرُّ عَلَى الْعَادَةِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ، فَعَطَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعَفْوِ عَمَّا مَضَى.

مسألة النكاح الفاسد يحرم ما يحرمه الصحيح

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَصَدَقُوا فَإِنَّهُ لَيْسَ بِإِبَاحَةِ الْمَحْظُورِ، وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ عَنْ عَفْوٍ سَحَبَ ذَيْلَهُ عَمَّا مَضَى مِنْ عَمَلِهِمْ الْقَبِيحِ؛ فَصَارَ تَقْدِيرُهُ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ فَإِنَّكُمْ غَيْرُ مُؤَاخَذِينَ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: مَعْنَى قَوْلِهِ: {كَانَ} [النساء: 22] أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْمَقْتِ وَالْفُحْشِ، دَلِيلُهُ الْقَاطِعُ: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 158]، وَهُوَ يَكُونُ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ صِفَتِهِ الَّتِي هُوَ كَائِنٌ عَلَيْهَا، كَذَلِكَ فَسَّرَ هَذَا كُلَّهُ الْحَبْرُ وَالْبَحْرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ وَهَمَ الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ وَالْمُبَرِّدُ فَقَالَا: إنَّ (كَانَ) زَائِدَةٌ هُنَا، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى فِي زِيَادَتِهَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَكَيْفَ إذَا مَرَرْت بِدَارِ قَوْمٍ ... وَجِيرَانٍ لَنَا كَانُوا كِرَامٌ وَهَذَا جَهْلٌ عَظِيمٌ بِاللُّغَةِ وَالشَّعْرِ؛ بَلْ لَا يَجُوزُ زِيَادَةُ كَانَ هَاهُنَا، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى وَجِيرَانٌ كِرَامٌ كَانُوا لَنَا مُجَاوِرِينَ، فَأَبَادَهُمْ الزَّمَانُ وَانْقَطَعَ عَنْهُمْ مَا كَانَ، وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ، وَذَكَرْنَا مَنْ قَالَهَا قَبْلَهُمَا وَبَعْدَهُمَا، وَاسْتَوْفَيْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ النِّكَاح الْفَاسِد يحرم مَا يحرمه الصَّحِيح] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: إذَا نَكَحَ الْأَبُ وَالِابْنُ نِكَاحًا فَاسِدًا حَرُمَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْ انْعَقَدَ لِصَاحِبِهِ عَقْدٌ فَاسِدٍ عَلَيْهِ مِنْ النِّسَاءِ، كَمَا يَحْرُمُ بِالصَّحِيحِ. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ أَوْ مُخْتَلَفًا فِيهِ؛ فَإِنْ كَانَ مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ لَمْ يُوجِبْ حُكْمًا وَلَا تَحْرِيمًا، وَكَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَإِنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ تَعَلَّقَ بِهِ إلَى الْحُرْمَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّحِيحِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ نِكَاحًا، فَيَدْخُلَ تَحْتَ مُطْلَقِ اللَّفْظِ؛ وَالْفُرُوجُ إذَا تَعَارَضَ فِيهَا التَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ غُلِّبَ التَّحْرِيمُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة اللمس في النكاح الفاسد هل يتعلق به تحريم

[مَسْأَلَةٌ اللَّمْسِ فِي النِّكَاح الْفَاسِد هَلْ يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: إذَا لَمَسَهَا الْأَبُ أَوْ الِابْنُ فَإِنَّ ذَلِكَ عِنْدَنَا فِي التَّحْرِيمِ كَالْوَطْءِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ؛ هَلْ يَتَعَلَّقُ بِاللَّمْسِ مِنْ التَّحْرِيمِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَطْءِ عَلَى قَوْلَيْنِ؛ فَعِنْدَنَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ مِثْلُهُ؛ وَتَفْصِيلُ بَيَانِهِ فِي الْمَسَائِلِ. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَتَعَلَّقُ بِاللَّمْسِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَطْءِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ اسْمٌ مُخْتَصٌّ بِالْجِمَاعِ أَوْ الْعَقْدِ؛ وَلَيْسَ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ لُغَةً وَلَا حَقِيقَةً. وَهَذَا فَاسِدٌ؛ فَإِنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النِّكَاحَ هُوَ الِاجْتِمَاعُ، وَإِذَا قَبَّلَ أَوْ عَانَقَ فَقَدْ وُجِدَ الْمَعْنَى مِنْ اللَّفْظِ حَقِيقَةً، فَوَجَبَ إطْلَاقُهُ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ النِّكَاحُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَقْدِ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، بَلْ هُمَا سَوَاءٌ، يَتَصَرَّفُ الْمَعْنَى فِيهِمَا تَحْتَ اللَّفْظِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِحَسَبِ أَدِلَّتِهِ وَاحْتِمَالَاتِهِ، وَانْتِظَامِ الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ مَعَهُ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إذَا نَظَرَ إلَيْهَا بِلَذَّةٍ هُوَ وَأَبُوهُ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمَا عِنْدَنَا؛ نَصَّ عَلَيْهِ مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ، فَجَرَى مَجْرَى النِّكَاحِ فِي التَّحْرِيمِ؛ إذْ الْأَحْكَامُ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَعَانِي لَا بِالْأَلْفَاظِ. وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مِنْ الِاجْتِمَاعِ بِالِاسْتِمْتَاعِ؛ فَإِنَّ النَّظَرَ اجْتِمَاعٌ وَلِقَاءٌ، وَفِيهِ بَيْنَ الْمُحِبِّينَ اسْتِمْتَاعٌ؛ وَقَدْ بَالَغَ فِي ذَلِكَ الشُّعَرَاءُ فَقَالُوا: أَلَيْسَ اللَّيْلُ يَجْمَعُ أُمَّ عَمْرٍو ... وَإِيَّانَا فَذَاكَ بِنَا تَدَانِي نَعَمْ وَتَرَى الْهِلَالَ كَمَا أَرَاهُ ... وَيَعْلُوهَا النَّهَارُ كَمَا عَلَانِي فَكَيْفَ بِالنَّظَرِ وَالْمُجَالَسَةِ وَاللَّذَّةِ؟ وَهَذَا بَيِّنٌ. [الْآيَة الثَّامِنَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ] ْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 23]

مسألة أصل المحرمات

فِيهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] قَدْ بَيَّنَّا بَيَّنَ اللَّهُ لَكُمْ وَبَلَّغَكُمْ فِي الْعِلْمِ أَمَلَكُمْ أَنَّ التَّحْرِيمَ لَيْسَ بِصِفَاتٍ لِلْأَعْيَانِ، وَأَنَّ الْأَعْيَانَ لَيْسَتْ مَوْرِدًا لِلتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَلَا مَصْدَرًا، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ التَّكْلِيفُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ، لَكِنَّ الْأَعْيَانَ لَمَّا كَانَتْ مَوْرِدًا لِلْأَفْعَالِ أُضِيفَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْحُكْمُ إلَيْهَا وَعُلِّقَ بِهَا مَجَازًا بَدِيعًا عَلَى مَعْنَى الْكِنَايَةِ بِالْمَحِلِّ عَنْ الْفِعْلِ الَّذِي يَحِلُّ بِهِ مِنْ بَابِ قِسْمِ التَّسْبِيبِ فِي الْمَجَازِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. [مَسْأَلَةٌ أَصْلُ الْمُحَرَّمَاتِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ النَّسَبِ سَبْعًا وَمِنْ الصِّهْرِ سَبْعًا، وَهَذَا صَحِيحٌ؛ وَهُوَ أَصْلُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَوَرَدَتْ مِنْ جِهَةِ مُبَيِّنَةٍ لِجَمِيعِهَا بِأَخْصَرِ لَفْظٍ وَأَدَلِّ مَعْنًى فَهِمَتْهُ الصَّحَابَةُ وَخَبَرَتْهُ الْعُلَمَاءُ. وَنَحْنُ نُفَصِّلُ ذَلِكَ بِالْبَيَانِ فَنَقُولُ: الْأُمُّ: عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ امْرَأَةٍ لَهَا عَلَيْكَ وِلَادَةٌ، وَيَرْتَفِعُ نَسَبُكَ إلَيْهَا بِالْبُنُوَّةِ، كَانَتْ مِنْكَ عَلَى عَمُودِ الْأَبِ أَوْ عَلَى عَمُودِ الْأُمِّ، وَكَذَلِكَ مَنْ فَوْقَكَ. وَالْبِنْتُ: عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ امْرَأَةٍ لَك عَلَيْهَا وِلَادَةٌ تَنْتَسِبُ إلَيْكَ بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ إذَا كَانَ مَرْجِعُهَا إلَيْكَ. وَالْأُخْتُ: عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ امْرَأَةٍ شَارَكَتْكَ فِي أَصْلَيْك: أَبِيكَ وَأُمِّكَ، وَلَا تَحْرُمُ أُخْتُ الْأُخْتِ إذَا لَمْ تَكُنْ لَكَ أُخْتًا؛ فَقَدْ يَتَزَوَّجُ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَدٌ ثُمَّ يُقَدَّرُ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ.

سَحْنُونٌ: هُوَ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ وَلَدَهُ مِنْ غَيْرِهَا بِنْتَهَا مِنْ غَيْرِهِ. وَتَفْسِيرُهَا أَنْ يَكُونَ لِرَجُلٍ اسْمُهُ زَيْدٌ زَوْجَتَانِ عَمْرَةُ وَخَالِدَةُ، وَلَهُ مِنْ عَمْرَةَ وَلَدٌ اسْمُهُ عَمْرٌو، وَمِنْ خَالِدَةَ بِنْتٌ اسْمُهَا سَعَادَةٌ، وَلِخَالِدَةَ زَوْجٌ اسْمُهُ عَمْرٌو، وَلَهُ مِنْهَا بِنْتٌ اسْمُهَا حَسْنَاءُ، فَزَوَّجَ زَيْدٌ وَلَدَهُ عَمْرًا مِنْ حَسْنَاءَ، وَهِيَ أُخْتُ أُخْتِ عَمْرٍو، وَهَذِهِ صُورَتُهَا لِتَكُونَ أَثْبُتَ فِي النُّفُوسِ. الْعَمَّةُ: هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ امْرَأَةٍ شَارَكَتْ أَبَاكَ مَا عَلَا فِي أَصْلَيْهِ. الْخَالَةُ: هِيَ كُلُّ امْرَأَةٍ شَارَكَتْ أُمَّكَ مَا عَلَتْ فِي أَصْلَيْهَا، أَوْ فِي أَحَدِهِمَا عَلَى تَقْدِيرِ تَعَلُّقِ الْأُمُومَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْ تَفْصِيلِهِ تَحْرِيمُ عَمَّةِ الْأَبِ وَخَالَتِهِ؛ لِأَنَّ عَمَّةَ الْأَبِ أُخْتُ الْجَدِّ، وَالْجَدُّ أَبٌ، وَأُخْتُهُ عَمَّةٌ، وَخَالَةُ الْأَبِ أُخْتُ جَدَّتِهِ لِأُمِّهِ، وَالْجَدَّةُ أُمٌّ، فَأُخْتُهَا خَالَةٌ، وَكَذَلِكَ عَمَّةُ الْأُمِّ أُخْتُ جَدِّهَا لِأَبِيهَا، وَجَدُّهَا أَبٌ وَأُخْتُهُ عَمَّةٌ، وَخَالَةُ أُمِّهَا جَدَّتُهُ. وَالْجَدَّةُ أُمٌّ وَأُخْتُهَا خَالَةٌ؛ وَتَتَرَكَّبُ عَلَيْهِ عَمَّةُ الْعَمَّةِ؛ لِأَنَّهَا عَمَّةُ الْأَبِ كَذَلِكَ، وَخَالَةُ الْعَمَّةِ خَالَةُ الْأُمِّ كَذَلِكَ، وَخَالَةُ الْخَالَةِ خَالَةُ الْأُمِّ، وَكَذَلِكَ عَمَّةُ الْخَالَةِ عَمَّةُ الْأُمِّ؛ فَتَضَمَّنَ هَذَا كُلَّهُ قَوْله تَعَالَى: {وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ} [النساء: 23] بِالِاعْتِلَاءِ فِي الِاحْتِرَامِ، وَلَمْ يَتَضَمَّنْهُ آيَةُ الْفَرَائِضِ بِالِاشْتِرَاكِ فِي الْمَوَارِيثِ، لِسَعَةِ الْحَجْرِ فِي التَّحْرِيمِ وَضِيقِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْأَمْوَالِ. فَعِرْقُ التَّحْرِيمِ يَسْرِي حَيْثُ اطَّرَدَ، وَسَبَبُ الْمِيرَاثِ يَقِفُ أَيْنَ وَرَدَ، وَلَا تَحْرُمُ أُمُّ الْعَمَّةِ وَلَا أُخْتُ الْخَالَةِ؛ وَصُورَةُ ذَلِكَ كَمَا قَرَرْنَا لَكَ فِي الْأُخْتِ. بِنْتُ الْأَخِ، وَبِنْتُ الْأُخْتِ: عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ امْرَأَةٍ لِأَخِيكَ أَوْ لِأُخْتِكَ عَلَيْهَا وِلَادَةٌ، وَتَرْجِعُ إلَيْهَا بِنِسْبَةٍ؛ فَهَذِهِ الْأَصْنَافُ النِّسْبِيَّةُ السَّبْعَةُ. وَأَمَّا الْأَصْنَافُ الصِّهْرِيَّةُ السَّبْعَةُ: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] وَهُمَا مُحَرَّمَتَانِ بِالْقُرْآنِ، وَلَمْ يُذْكَرْ مِنْ الْمُحَرَّمِ بِالرَّضَاعَةِ فِي الْقُرْآنِ سِوَاهُمَا. وَالْأُمُّ أَصْلٌ وَالْأُخْتُ فَرْعٌ؛ فَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ الْوِلَادَةِ».

وَثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ مَالَكَ تَنَوُّقُ فِي قُرَيْشٍ وَتَدَعُنَا؟ قَالَ: وَعِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ قُلْت: نَعَمْ، ابْنَةُ حَمْزَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ». وَمِثْلُهُ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَعْنَى حَدِيثُ «أُمِّ حَبِيبَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنِّي لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ شَرَكَنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لِي قُلْت: فَإِنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّكَ تَنْكِحُ ابْنَةَ أَبِي سَلَمَةَ. قَالَ: ابْنَةُ أُمِّ سَلَمَةَ؟ قُلْت: نَعَمْ. قَالَ: إنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي مَا حَلَّتْ لِي، إنَّهَا ابْنَةُ أَخِي، أَرْضَعَتْنِي أَنَا وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ، فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتَكُمْ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ». قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَثُوَيْبَةُ هِيَ الَّتِي أَرْضَعَتْ حَمْزَةَ أَيْضًا، فَرُوِيَ أَنَّ هَذَا الرَّضَاعَ كَانَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِي وَقْتَيْنِ لِاتِّفَاقِ أَهْلِ السِّيَرِ عَلَى أَنَّ حَمْزَةَ كَانَ أَكْبَرَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَامَيْنِ، وَقِيلَ بِأَرْبَعِ.

مسألة مقدار الرضاعة المحرم

[مَسْأَلَةٌ مِقْدَار الرَّضَاعَة الْمُحْرِم] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ وَلَا الْإِمْلَاجَةُ وَلَا الْإِمْلَاجَتَانِ وَهِيَ الْمَصَّةُ». وَرَوَى مَالِكٌ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ فَنُسِخَتْ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُنَّ مِمَّا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ. فَقَالَ بِهَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ. وَرَأَى مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ الْأَخْذَ بِمُطْلَقِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِعُمُومِ الْقُرْآنِ وَتَعَلُّقٌ بِهِ، وَقَدْ قَوِيَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّحْرِيمِ فِي الْأَبْضَاعِ وَالْحَوْطَةِ عَلَى الْفُرُوجِ؛ فَقَدْ وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ لِمَنْ يَرَى الْعُمُومَ وَمَنْ لَا يَرَاهُ. وَقَدْ رَامَ بَعْضُ حُذَّاقِ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْإِمَامُ الْجُوَيْنِيُّ أَنْ يُبْطِلَ التَّعَلُّقَ بِهَذَا الْعُمُومِ؛ قَالَ: لِأَنَّهُ سِيقَ لِيَتَبَيَّنَّ بِهِ وَجْهُ التَّحْرِيمِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ، وَلَمْ يُقْصَدْ بِهِ التَّعْمِيمُ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ الْقَوْلُ بِالْعُمُومِ إذَا سِيقَ قَصْدًا لِلْعُمُومِ؛ وَذَلِكَ يُعْلَمُ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ. قَالَ الْقَاضِي: يَا لِلَّهِ وَلِلْمُحَقِّقِينَ مِنْ رَأْسِ التَّحْقِيقِ الْجُوَيْنِيُّ، يَأْتِي بِهَذَا الْكَلَامِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ نَاظِرٍ فِي الْفِقْهِ شَادٍّ أَوْ مُنْتَهٍ أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ كُلَّهَا فِي الْآيَةِ جَاءَتْ مَجِيئًا وَاحِدًا فِي الْبَيَانِ فِي مَقْصُودٍ وَاحِدٍ، فَلَوْ جَازَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّهُ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ قَوْلُهُ: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] لَمَا حُمِلَ أَيْضًا عَلَى الْعُمُومِ قَوْلُهُ: {أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] فَيُرْتَقَى بِهِنَّ إلَى الْجَدَّاتِ، وَلَا بَنَاتُكُمْ فَيَحُطُّ بِهِنَّ إلَى بَنَاتِ الْبَنَاتِ، وَقَدْ رَأَى أَنَّهُنَّ لَمْ يَعُمَّهُنَّ فِي الْمِيرَاثِ وَعَمَّهُنَّ هَاهُنَا فِي التَّحْرِيمِ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى:

{وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] كَانَ يَنْبَغِي أَلَّا يُحْمَلَ عَلَى الْعُمُومِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ كَمَا قَالَ سِيَاقُ الْعُمُومِ، وَكَانَ ذَلِكَ لَوْ قُلْنَا بِهِ سَبَبًا لِخَرْمِ قَاعِدَةِ الْآيَةِ. وَقَدْ بَيَّنْت ذَلِكَ فِي التَّلْخِيصِ وَالتَّمْحِيصِ. وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَلَا مُتَعَلَّقَ فِيهَا. أَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَهُوَ أَضْعَفُ الْأَدِلَّةِ؛ لِأَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ مِمَّا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَثْبُتْ أَصْلُهُ فَكَيْفَ يَثْبُتُ فَرْعُهُ؟. وَأَمَّا حَدِيثُ الْإِمْلَاجَةِ فَمَعْنَاهُ كَانَ مِنْ الْمَصِّ وَالْجَذْبِ مِمَّا لَمْ يُدَرُّ مَعَهُ لَبَنٌ وَيَصِلُ إلَى الْجَوْفِ. وَيَتَحَقَّقُ وُصُولُ اللَّبَنِ إلَى الْجَوْفِ، فَقَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ، بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَبِنَصِّ الْحَدِيثِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ»، فَإِذَا مَصَّ لَبَنَهَا وَحَصَلَ فِي جَوْفِهِ فَهِيَ مُرْضِعَةٌ، وَهِيَ أُمُّهُ، وَهِيَ دَاخِلَةٌ بِالْآيَةِ بِلَا مِرْيَةٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: كَانَ قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] يَقْتَضِي بِمُطْلَقِهِ تَحْرِيمَ الرَّضَاعِ فِي أَيِّ وَقْتٍ وُجِدَ مِنْ صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ، إلَّا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيَّنَ وَقْتَهُ بِقَوْلِهِ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]، فَبَيَّنَ زَمَانَهُ الْكَامِلَ؛ فَوَجَبَ أَلَّا يُعْتَبَرَ مَا زَادَ عَلَيْهِ. وَقَدْ رَأَتْ عَائِشَةُ أَنَّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ مُحَرِّمٌ؛ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْهَا، قَالَتْ: «جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنَّا كُنَّا نَرَى سَالِمًا وَلَدًا، وَكَانَ يَأْوِي مَعِي وَمَعَ أَبِي حُذَيْفَةَ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ، وَيَرَانِي فُضُلًا، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيهِمْ مَا عَلِمْت، فَكَيْفَ تَرَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فِيهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرْضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ يَحْرُمُ بِلَبَنِهَا».

مسألة ثبوت التحريم بلبن الفحل

فَكَانَتْ تَرَاهُ ابْنًا مِنْ الرَّضَاعَةِ، فَبِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ تَأْخُذُ، وَأَبَاهُ سَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقُلْنَ: وَاَللَّهِ مَا نَرَى ذَلِكَ إلَّا رُخْصَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسَهْلَةَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْهُ حُكْمًا عَامًّا وَلَا قَضِيَّةً مُطْلَقَةً لِكُلِّ أَحَدٍ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ رَدَّهُ عُمَرُ، وَأَمَرَ بِأَدَبِ مَنْ أَرْضَعَ مِنْ النِّسَاءِ كَبِيرًا. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ؛ قَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُحَرِّمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ إلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ مِنْ الثَّدْيِ، وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ». نِظَامُ نَشْرٍ: اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ كُلَّ شَخْصَيْنِ الْتَقَمَا ثَدْيًا وَاحِدًا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي زَمَانَيْنِ فَهُمَا أَخَوَانِ، وَالْأُصُولُ مِنْهُمَا وَالْفُرُوعُ بِمَنْزِلَةِ أُصُولِ الْأَنْسَابِ وَفُرُوعِهَا فِي التَّحْرِيمِ. [مَسْأَلَةٌ ثُبُوت التَّحْرِيم بِلَبَنِ الْفَحْلِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي لَبَنِ الْفَحْلِ: ثَبَتَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ وَفِي كُلِّ فَرِيقٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَى عَائِشَةَ بَعْدَ أَنْ نَزَلَ الْحِجَابُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَاَللَّهِ لَا آذَنُ لِأَفْلَحَ حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ أَبَا الْقُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ الَّذِي أَرْضَعَنِي، إنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيَّ فَأَبَيْت أَنْ آذَنَ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَكَ، فَقَالَ: إنَّهُ عَمُّكَ فَلْيَلِجْ عَلَيْكَ». وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ وَأَعْيَانِ الْعُلَمَاءِ.

مسألة معنى قوله تعالى وأمهات نسائكم

وَرَأَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: أَنَّ لَبَنَ الْفَحْلِ لَا يُحَرِّمُ؛ وَصُورَتُهُ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ لَهُ امْرَأَتَانِ أَرْضَعَتْ إحْدَاهُمَا صَبِيًّا وَالْأُخْرَى صَبِيَّةً، فَيَحْرُمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُمَا أَخَوَانِ لِأَبٍ مِنْ لَبَنٍ؛ فَيَحْرُمَانِ كَمَا يَحْرُمَانِ لَوْ كَانَا أَخَوَيْنِ لِأَبٍ مِنْ نَسَبٍ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ الْوِلَادَةِ». وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ نَصٌّ، فَقَدْ تَعَاضَدَا فَوَجَبَ الْقَضَاءُ بِهِ. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ؛ فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَجَابِرٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْبِنْتِ لَا يُحَرِّمُ الْأُمَّ حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا. كَمَا أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْأُمِّ لَا يُحَرِّمُ الْبِنْتَ حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا. وَقَالَ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ وَالصَّحَابَةُ: إنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْبِنْتِ يُحَرِّمُ الْأُمَّ وَلَا تَحْرُمُ الْبِنْتُ حَتَّى يَدْخُلَ بِالْأُمِّ. وَاخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي الْوَصْفِ فِي قَوْلِهِ: {اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] فَقِيلَ: يَرْجِعُ إلَى الرَّبَائِبِ وَالْأُمَّهَاتِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَهْلِ الْكُوفَةِ. وَقِيلَ يَرْجِعُ إلَى الرَّبَائِبِ خَاصَّةً، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَجَعَلُوا رُجُوعَ الْوَصْفِ إلَى الْمَوْصُوفَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْ الْعَامِلِ مَمْنُوعًا كَالْعَطْفِ عَلَى عَامِلَيْنِ. وَجَوَّزَ ذَلِكَ كُلَّهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ، وَرَأَوْا أَنَّ عَامِلَ الْإِضَافَةِ غَيْرُ عَامِلِ الْخَفْضِ بِحَرْفِ الْجَرِّ. وَقَدْ مَهَّدْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ " مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ " وَقَدْ رَدَّ الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ الرِّوَايَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَاَلَّذِي اسْتَقَرَّ أَنَّهُ مَذْهَبُ عَلِيٍّ خَاصَّةً، كَمَا قَدْ اسْتَقَرَّ الْيَوْمَ فِي الْأَمْصَارِ وَالْأَقْطَارِ أَنَّ الرَّبَائِبَ وَالْأُمَّهَاتِ فِي هَذَا الْحُكْمِ مُخْتَلِفَاتٌ، وَأَنَّ الشَّرْطَ إنَّمَا هُوَ فِي الرَّبَائِبِ. وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ غَوَامِضِ الْعِلْمِ وَأَخْذُهَا مِنْ طَرِيقِ النَّحْوِ يَضْعُفُ؛ فَإِنَّ

الصَّحَابَةَ الْعَرَبَ الْقُرَشِيِّينَ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بُلْغَتِهِمْ أَعْرَفُ مِنْ غَيْرِهِمْ بِمَقْطَعِ الْمَقْصُودِ مِنْهُمْ؛ وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَخُصُوصًا عَلِيًّا مَعَ مِقْدَارِهِ فِي الْعِلْمَيْنِ، وَلَوْ لَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لَكَانَ فَصَاحَتُهَا بِالْأَعْجَمِيَّةِ، فَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُحَاوَلَ ذَلِكَ بِغَيْرِ هَذَا الْقَصْدِ. وَالْمَأْخَذُ فِيهِ يَرْجِعُ إلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ الْوَصْفُ إلَى الرَّبَائِبِ خَاصَّةً. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهَا جَمِيعًا؛ فَيُرَدُّ إلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ تَغْلِيبًا لِلتَّحْرِيمِ عَلَى التَّحْلِيلِ فِي الْفُرُوجِ، وَهَكَذَا هُوَ مَقْطُوعُ السَّلَفِ فِيهَا عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ عَلَيْهَا. الثَّانِي: رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَيُّمَا رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً فَدَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ فَلَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ أُمِّهَا، وَأَيُّمَا رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً فَدَخَلَ بِهَا فَلَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ ابْنَتِهَا، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلْيَنْكِحْهَا. وَهَذَا إنْ صَحَّ حُجَّةٌ ظَاهِرَةٌ، لَكِنَّ رِوَايَةَ الْمُثَنَّى بْنِ الصَّبَّاحِ تَضْعُفُ. الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: {مِنْ نِسَائِكُمُ} [النساء: 23] لَفْظَةٌ عَرَبِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَالْوَاحِدُ مِنْهُ امْرَأَةٌ. وَقَوْلُكَ: امْرُؤٌ وَامْرَأَةٌ، كَقَوْلِكَ: آدَمِيٌّ وَآدَمِيَّةٌ، فَقَوْلُهُ: وَامْرَأَتُكَ كَقَوْلِهِ: وَآدَمِيَّتُكَ، فَأُضِيفَتْ إلَيْكَ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْبَحْثِ عَنْ وَجْهِ هَذِهِ الْإِضَافَةِ؛ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الَّتِي تُشْبِهُكَ أَوْ تُجَاوِرُكَ أَوْ تَمْلِكُهَا أَوْ تَمْلِكُكَ، أَوْ تَحِلُّ لَهَا أَوْ تَحِلُّ لَكَ. وَالْإِضَافَةُ عَلَى مَعْنَى الشَّبَهِ وَالْجُوَارِ مُحَالٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَسَّمْت مَا قَسَّمْت لَمْ تَجِدْ وَجْهًا إلَّا بَابَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ وَلَهُ مَسَاقُ الْآيَةِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْبَيَانِ؛ فَإِذَا حَلَّتْ لَهُ أَوْ مَلَكَهَا فَقَدْ تَحَقَّقَتْ الْإِضَافَةُ الْمَقْصُودَةُ فَوَجَبَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَكَذَلِكَ كُنَّا نَقُولُ فِي الرَّبَائِبِ، لَوْلَا التَّقْيِيدُ بِشَرْطِ الدُّخُولِ. فَإِنْ قِيلَ: فَاحْمِلُوا الْأُمَّهَاتِ عَلَى الْبَنَاتِ. قُلْنَا: لَوْ كُنَّا نَطْلُبُ الرُّخَصَ لَفَعَلْنَا، وَلَكِنْ إذَا تَعَارَضَ الدَّلِيلُ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ فِي الْفُرُوجِ غَلَّبْنَا التَّحْرِيمَ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ عَلِيٌّ فِي الْأُخْتَيْنِ مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ لَمَّا تَعَارَضَ فِيهِمَا التَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ غُلِّبَ التَّحْرِيمُ.

مسألة معنى قوله تعالى وربائبكم

الرَّابِعُ: أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إنَّ الْمُرَادَ بِالدُّخُولِ هَاهُنَا النِّكَاحُ، فَعَلَى هَذَا الرَّبَائِبُ وَالْأُمَّهَاتُ سَوَاءٌ؛ لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ غُلِّبَ عَلَى الرَّبَائِبِ بِاشْتِرَاطِ الْوَطْءِ فِي أُمَّهَاتِهِنَّ لِتَحْرِيمِهِنَّ. الْخَامِسُ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْصُوفِينَ قَدْ انْقَطَعَ عَنْ صَاحِبِهِ، وَخَرَجَ مِنْهُ بِوَصْفِهِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23]، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} [النساء: 23]، فَوَصَفَ وَكَرَّرَ، وَذَلِكَ الْوَصْفُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْأُمَّهَاتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23]، فَالْوَصْفُ الَّذِي يَتْلُوهُ يَتْبَعُهُ، وَلَا يَرْجِعُ إلَى الْأَوَّلِ لِبُعْدِهِ مِنْهُ وَانْقِطَاعِهِ عَنْهُ. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَرَبَائِبُكُمْ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ} [النساء: 23] وَاحِدَتُهَا رَبِيبَةٌ، فَعَيْلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، مِنْ قَوْلِك: رَبَّهَا يَرُبُّهَا، إذَا تَوَلَّى أَمْرَهَا، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، كَانَتْ فِي حِجْرِ الرَّجُلِ أَوْ فِي حِجْرِ حَاضِنَتِهَا غَيْرِ أُمِّهَا، وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23] تَأْكِيدٌ لِلْوَصْفِ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْحُكْمِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى مَالِكُ بْنُ أَوْسٍ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ حَتَّى تَكُونَ فِي حِجْرِهِ. قُلْنَا هَذَا بَاطِلٌ. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى الدُّخُول فِي قَوْله تَعَالَى اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْله تَعَالَى: {اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الدُّخُولَ هُوَ الْجِمَاعُ؛ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: هُوَ التَّمَتُّعُ مِنْ اللَّمْسِ أَوْ الْقُبَلِ؛ قَالَهُ مَالِكٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ النَّظَرُ إلَيْهَا بِشَهْوَةٍ؛ قَالَهُ عَطَاءٌ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ قَدْ ذَكَرْنَاهَا. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِيهَا أَنَّ الْجِمَاعَ هُوَ الْأَصْلُ، وَيَحْتَمِلُ عَلَيْهِ اللَّمْسُ لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ مِثْلُهُ، يَحِلُّ بِحِلِّهِ، وَيَحْرُمُ بِحُرْمَتِهِ، وَيَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِهِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ قَبْلَ هَذَا.

مسألة نكاح أزواج الأبناء

وَأَمَّا النَّظَرُ فَعِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ يُحَرِّمُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا يُحَرِّمُ؛ لِأَنَّهُ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ شُبْهَةٌ فِي الزِّنَا ذَرِيعَةُ الذَّرِيعَةِ، لَكِنَّ الْأَمْوَالَ تَارَةً يُغَلَّبُ فِيهَا التَّحْلِيلُ وَتَارَةً يُغَلَّبُ فِيهَا التَّحْرِيمُ، فَأَمَّا الْفُرُوجُ فَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ فِيهَا عَلَى تَغْلِيبِ التَّحْرِيمِ، كَمَا أَنَّ النَّظَرَ لَا يَحِلُّ إلَّا بِعَقْدِ نِكَاحٍ أَوْ شِرَاءٍ فَكَذَلِكَ يَحْرُمُ إذَا حَلَّ، أَصْلُهُ اللَّمْسُ وَالْوَطْءُ. [مَسْأَلَةٌ نِكَاحَ أَزْوَاجِ الْأَبْنَاء] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23]: وَاحِدَتُهَا حَلِيلَةٌ، وَهِيَ فَعَيْلَةٌ بِمَعْنَى مُفَعَّلَةٍ، أَيْ مُحَلَّلَةٍ. حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى الْآبَاءِ نِكَاحَ أَزْوَاجِ أَبْنَائِهِمْ، كَمَا حَرَّمَ عَلَى الْأَبْنَاءِ نِكَاحَ أَزْوَاجِ آبَائِهِمْ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] فَكُلُّ فَرْجٍ حَلَّ لِلِابْنِ حَرُمَ عَلَى الْأَبِ أَبَدًا. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: الْأَبْنَاءُ ثَلَاثَةٌ: ابْنُ نَسَبٍ، وَابْنُ رَضَاعٍ، وَابْنُ تَبَنٍّ. فَأَمَّا ابْنُ النَّسَبِ فَمَعْلُومٌ، وَمَعْلُومٌ حُكْمُهُ. وَأَمَّا ابْنُ الرَّضَاعِ فَيَجْرِي مَجْرَى الِابْنِ فِي جُمْلَةٍ مِنْ الْأَحْكَامِ مُعْظَمُهَا التَّحْرِيمُ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ». وَأَمَّا ابْنُ التَّبَنِّي فَكَانَ ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ؛ إذْ تَبَنَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5]. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: مَا كُنَّا نَدْعُو زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ إلَّا زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ حَتَّى نَزَلَتْ: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5]؛ وَهَذِهِ هِيَ الْفَائِدَةُ فِي قَوْله تَعَالَى: {مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23] لِيَسْقُطَ وَلَدُ التَّبَنِّي، وَيَذْهَبَ اعْتِرَاضُ الْجَاهِلِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نِكَاحِ زَيْنَبَ زَوْجِ زَيْدٍ، وَقَدْ كَانَ يُدْعَى لَهُ، فَنَهَجَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ بِبَيَانِهِ.

مسألة الجمع بين الأختين

[مَسْأَلَةٌ الْجَمْع بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، كَمَا حَرَّمَ نِكَاحَ الْأُخْتِ، وَالنَّهْيُ يَتَنَاوَلُ الْوَطْءَ، فَهُوَ عَامٌّ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ، وَقَدْ كَانَ تَوَقَّفَ فِيهَا مَنْ تَوَقَّفَ فِي أَوَّلِ وُقُوعِهَا، ثُمَّ اطَّرَدَ الْبَيَانُ عِنْدَهُمْ، وَاسْتَقَرَّ التَّحْرِيمُ؛ وَهُوَ الْحَقُّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] تَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بِهِ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ الْأُخْتِ، وَالْخَامِسَةِ فِي عِدَّةِ الرَّابِعَةِ، وَقَالَ: إنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ بِعُمُومِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ جَمْعًا فِي حِلٍّ فَهُوَ جَمْعٌ فِي حَبْسٍ بِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الْفَرْجِ، وَهُوَ إذَا تَزَوَّجَ أُخْتَهَا فَقَدْ حَبَسَ الْمُتَزَوِّجَةَ بِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ، وَهُوَ الْحِلُّ وَالْوَطْءُ، وَقَدْ حَبَسَ أُخْتَهَا بِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ، وَهُوَ اسْتِبْرَاءُ الرَّحِمِ لِحِفْظِ النَّسَبِ، فَحُرِّمَ ذَلِكَ بِالْعُمُومِ؛ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ الطَّوِيلَةِ، وَقَدْ مَهَّدْنَا الْقَوْلَ فِيهَا هُنَالِكَ. وَاَلَّذِي نَجْتَزِئُ بِهِ الْآنَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ نَهَاهُ عَنْ أَنْ يَجْمَعَ؛ وَهَذَا لَيْسَ بِجَمْعٍ مِنْهُ، لِأَنَّ النِّكَاحَ اكْتَسَبَهُ، وَالْعِدَّةُ أَلْزَمَتْهُ، فَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِخَلْقِهِ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ فِي هَذَا الْجَمْعِ كَسْبٌ يَرْجِعُ النَّهْيُ بِالْخِطَابِ إلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى {إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] لَيْسَ هَذَا مِنْ مِثْلِ [قَوْلِهِ]: {إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] فِي نِكَاحِ مَنْكُوحَاتِ الْآبَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَطُّ بِشَرْعٍ؛ وَإِنَّمَا كَانَتْ جَاهِلِيَّةٌ جُهَلَاءُ وَفَاحِشَةٌ شَائِعَةٌ؛ وَنِكَاحُ الْأُخْتَيْنِ كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا فَنَسَخَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِينَا.

الآية التاسعة عشرة معنى قوله تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم

[الْآيَة التَّاسِعَة عَشْرَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ] الْآيَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 24] فِيهَا إحْدَى وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رَوَى أَبُو الْخَلِيلِ صَالِحُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ الضُّبَعِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «أَصَبْنَا سَبَايَا يَوْمَ أَوْطَاسٍ لَهُنَّ أَزْوَاجٌ فِي قَوْمِهِنَّ، فَكَرِهَتْهُنَّ رِجَالٌ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]». وَقَدْ خَرَّجَ عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ مُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {وَالْمُحْصَنَاتُ} [النساء: 24]: بِنَاءُ " ح ص ن " عَلَى الْمَنْعِ، وَمِنْهُ الْحِصْنُ؛ لَكِنْ يَتَصَرَّفُ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقَاتِهِ وَأَسْبَابِهِ؛ فَالْإِسْلَامُ حِصْنٌ، وَالْحُرِّيَّةُ حِصْنٌ، وَالنِّكَاحُ حِصْنٌ، وَالتَّعَفُّفُ حِصْنٌ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} [النساء: 25]؛ وَهُوَ الْإِسْلَامُ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]، فَهُنَّ الْحَرَائِرُ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] هُنَّ الْعَفَائِفُ. «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَحْصَنَتْ؟ يَعْنِي تَزَوَّجَتْ؟ قَالَ: نَعَمْ». وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، مَنْ أُحْصِنَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُحْصِنْ». خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ.

وَتَصْرِيفُهُ غَرِيبٌ؛ يُقَالُ: أَحْصَنَ الرَّجُلُ فَهُوَ مُحْصَنٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ، وَأَسْهَبَ فِي الْكَلَامِ فَهُوَ مُسْهَبٌ إذَا أَطَالَ الْقَوْلَ فِيهِ، وَأَلْفَجَ فَهُوَ مُلْفَجٌ إذْ كَانَ عَدِيمًا، وَلَا رَابِعَ لَهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي إشْكَالِهَا: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا يَعْلَمُهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا يُفَسِّرُ هَذِهِ الْآيَةَ لَضَرَبْت إلَيْهِ أَكْبَادَ الْإِبِلِ، وَذَلِكَ لَا يَدْرِيهِ إلَّا مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْقُرْآنِ وَمَعَانِيهِ، وَتَصَدَّى لِضَمِّ مُنْتَشِرِ الْكَلَامِ، وَتَرْتِيبِ وَضْعِهِ، وَحِفْظِ مَعْنَاهُ مِنْ لَفْظِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي سَرْدِ الْأَقْوَالِ: الَّذِي تَحَصَّلَ عِنْدِي فِيهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُحْصَنَاتِ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَهُ مَالِكٌ وَاخْتَارَهُ. الثَّانِي: ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ؛ قَالَهُ عَلِيٌّ وَأَنَسٌ وَغَيْرُهُمَا. الثَّالِثُ: مِنْ جَمِيعِ النِّسَاءِ الْأَرْبَعِ اللَّوَاتِي حَلَلْنَ لَهُ؛ قَالَهُ عُبَيْدَةُ. الرَّابِعُ: أَنَّهُنَّ جَمِيعُ النِّسَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ قَالَهُ طَاوُسٌ وَغَيْرُهُ. الْخَامِسُ: الْمَعْنَى لَا تَنْكِحُ الْمَرْأَةُ زَوْجَيْنِ. السَّادِسُ: أَنَّ الْمُحْصَنَاتِ الْحَرَائِرُ؛ قَالَهُ عُرْوَةُ وَابْنُ شِهَابٍ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي سَرْدِ الْأَقْوَالِ فِي قَوْلِهِ: {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَالُوا: بَيْعُ الْأَمَةِ طَلَاقَهَا؛ ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأُبَيُّ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ.

وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: طَلَاقُ الْأَمَةِ سِتَّةٌ: بَيْعُهَا وَعِتْقُهَا وَهِبَتُهَا وَمِيرَاثُهَا وَطَلَاقُ زَوْجِهَا، زَادَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: وَانْتِزَاعُ سَيِّدِهَا لَهَا مِنْ مِلْكِ زَوْجِهَا عَبْدَهُ. الثَّانِي: يَعْنِي بِهِ الْمَرْأَةَ الْحَرْبِيَّةَ إذَا سُبِيَتْ؛ فَإِنَّ السِّبَاءَ يَفْسَخُ النِّكَاحَ. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] إلَّا الْإِمَاءُ وَالْأَزْوَاجُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ طَاوُسٍ؛ وَقَالَ: زَوْجُكَ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي تَنْزِيلِ الْأَقْوَالِ وَتَقْدِيرِهَا: أَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُنَّ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ؛ فَذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ عَلَى قِسْمَيْنِ: مُسْلِمَاتٌ وَكَافِرَاتٌ، وَالْمُسْلِمَاتُ عَلَى قِسْمَيْنِ: حَرَائِرُ وَإِمَاءٌ، فَيَعُمُّهُنَّ التَّحْرِيمُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، وَيَرْجِعُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] إلَى بَعْضِهِنَّ وَهُنَّ الْإِمَاءُ، أَوْ إلَى بَعْضِ الْبَعْضِ وَهُنَّ الْمَسْبِيَّاتُ؛ فَإِنْ رَجَعَ إلَى الْإِمَاءِ جُمْلَةً فَعَلَيْهِ يَتَرَكَّبُ أَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ فِرَاقٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، وَإِنْ رَجَعَ إلَى الْمَسْبِيَّاتِ وَفِيهِ وَرَدَتْ الْآيَةُ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: حَرَّمْنَا عَلَيْكُمْ كُلَّ ذَاتِ زَوْجٍ، إلَّا مَنْ سَبَيْتُمْ. وَعَلَى أَنَّهُنَّ جَمِيعَ الْإِمَاءِ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: حَرَّمْنَا عَلَيْكُمْ كُلَّ ذَاتِ زَوْجٍ إلَّا مَا مَلَكْتُمْ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُنَّ جَمِيعُ النِّسَاءِ فَيَكُونُ تَنْزِيلُ الْآيَةِ عِنْدَهُ: حَرَّمْنَا عَلَيْكُمْ مَنْ تَقَدَّمَ تَحْرِيمًا مُدَبَّرًا، وَحَرَّمْنَا عَلَيْكُمْ جَمِيعَ النِّسَاءِ إلَّا بِمِلْكِ نِكَاحٍ أَوْ شِرَاءٍ، وَكُلُّهُنَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُنَّ جَمِيعُ النِّسَاءِ إلَّا أَرْبَعٌ فَدَعْوَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ الْآيَةِ الْأُولَى فِي ابْتِدَاءِ السُّورَةِ فِي الْأَرْبَعِ؛ فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ تَعَذَّرَ ذَلِكَ لَهُ لَفْظًا وَبَطَل مَعْنًى، عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ مُقَدَّرٌ بِنَوْعٍ وَنَحْوٍ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُنَّ الْحَرَائِرُ فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَحَرَّمْنَا عَلَيْكُمْ الْحَرَائِرَ مِنْ النِّسَاءِ، وَأَحْلَلْنَا لَكُمْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ.

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فِي الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْأَقْوَالِ: أَمَّا مَنْ خَصَّصَهَا فِي بَعْضِ النِّسَاءِ فَيُعْتَرَضُ عَلَيْهِ أَنَّ الْبَعْضَ يَبْقَى حِلًّا، وَالْآيَةُ إنَّمَا جَاءَتْ لِبَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُحَلَّلَاتِ مِنْهُنَّ، فَإِنْ بَقِيَ مِنْ الْأَزْوَاجِ لَهُ مِنْ الْحَرَائِرِ أَوْ مِنْ الْمُسْلِمَاتِ، أَوْ كُلُّ تَأْوِيلٍ يَقْتَضِي بَقَاءَ بَعْضِهِنَّ فَذَلِكَ بَعِيدٌ فِي التَّأْوِيلِ مُفَسِّرٌ لِلتَّنْزِيلِ. وَأَمَّا مَنْ عَمَّمَ جَمِيعَ الْمَسَائِلِ إلَّا الْأَرْبَعَ فَمَبْنِيٌّ عَلَى دَعْوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا. وَأَمَّا مَنْ عَمَّمَ فِي الْكُلِّ فَهُوَ الصَّحِيحُ، وَيَقَعُ الِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ: {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] فِي الْإِمَاءِ أَوْ فِي الزَّوْجَةِ وَالْأَمَةِ؛ وَهَذَا مَوْضِعُ الْإِشْكَالِ الْعَظِيمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فِي الْمُخْتَارِ: وَهَذَا الْمُشْكِلُ هُوَ الَّذِي مِلْنَا إلَيْهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ قَالَ: إنَّ قَوْلَهُ: {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] رَاجِعٌ إلَى الشِّرَاءِ وَالنِّكَاحِ فَيُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6]، فَقَدْ مَيَّزَ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يُطْلِقْ قَطُّ أَحَدٌ مِنْ أَرْبَابِ الشَّرِيعَةِ عَلَى الْحُرَّةِ فِي مِلْكِ النِّكَاحِ بِأَنَّهَا مِلْكُ الْيَمِينِ فَإِنَّهَا تَمْلِكُ مِنْهُ مَا يَمْلِكُ مِنْهَا، أَمَّا إنَّهُ لَهُ عَلَيْهَا دَرَجَةٌ، وَلَكِنْ نَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُ: {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] يَرْجِعُ إلَى الْإِمَاءِ، وَقَوْلَهُ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] يَرْجِعُ إلَى مَنْ عَدَا الْمَنْصُوصِ عَلَى تَحْرِيمِهِنَّ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا فِي الْإِمَاءِ كُلِّهِنَّ، فَإِنَّ مِلْكَ الْأَمَةَ الْمُتَجَدِّدِ عَلَى النِّكَاحِ يُبْطِلُهُ، فَمَوْضِعُ إشْكَالٍ عَظِيمٍ، وَلِأَجْلِهِ تَرَدَّدَ فِيهِ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْدَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مِلْكًا مُتَجَدِّدًا لَا يُبْطِلُ نِكَاحًا مُتَأَكَّدًا، وَلَوْ أَنَّهُ مَلَّكَ مَنْفَعَةَ رَقَبَتِهَا لِرَجُلٍ بِالْإِجَارَةِ ثُمَّ يَبِيعُهَا مَا أَبْطَلَ الْمِلْكُ الْمُتَجَدِّدُ مِلْكَ مَنْفَعَةِ الرَّقَبَةِ؛ فَمِلْكُ مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ أَوْلَى أَنْ يَبْقَى، فَإِنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ يُوَفَّى بِهِ مَا اُسْتُحِلَّتْ بِهِ الْفُرُوجُ، فَعَقْدُ الْفَرْجِ نَفْسِهِ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ بِهِ مِنْ عَقْدِ مَنْفَعَةِ الرَّقَبَةِ.

مسألة معنى قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم

وَاَلَّذِي يَقْطَعُ الْعُذْرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيَّرَ بَرِيرَةَ وَلَمْ يَجْعَلْ مَا طَرَأَ مِنْ الْعِتْقِ عَلَيْهَا، وَلَا مَا مَلَكَتْ مِنْ نَفْسِهَا، مُبْطِلًا لِنِكَاحِ زَوْجِهَا، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ كُلُّ مِلْكٍ مُتَجَدِّدٍ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَفِيمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ هَاهُنَا مِنْ الْأَثَرِ وَالْمَعْنَى كِفَايَةٌ لِمَنْ سَدَّدَ النَّظَرَ، فَوَضَحَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحْصَنَاتِ الْجَمِيعُ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ السَّبْيُ الَّذِي نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي بَيَانِهِ. وَأَمَّا تَحْرِيمُ الْأَرْبَعِ فَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]: هَذَا عُمُومٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِمَّنْ نَفَاهُ وَمِمَّنْ أَثْبَتَهُ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَدَّدَ الْمُحَرَّمَاتِ، ثُمَّ قَالَ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]؛ فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمُرَادِ بِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ بِهِ مَنْ عَدَا الْقَرَابَةِ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَذْكُورَاتِ. الثَّانِي: مَا دُونَ الْأَرْبَعِ. الثَّالِثُ: مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: عَجَبًا لِلْأَوَائِلِ كُلِّفُوا فَهَرَفُوا؛ نَظَرُوا إلَى السُّدِّيِّ يَقُولُ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] يَعْنِي مَا دُونَ الْأَرْبَعِ، وَكَمْ حَرَامٍ بَعْدَ هَذَا، وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ مَخْصُوصٌ فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ عَطَاءٍ: إنَّهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْقَرَابَةِ، وَبَقِيَ الْأَجَانِبُ غَيْرَ مُبَيَّنَاتٍ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ قَتَادَةَ؛ بَلْ أَضْعَفُ؛ لِأَنَّهُ رَدَّ التَّحْلِيلَ إلَى الْإِمَاءِ خَاصَّةً. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَأْتِ دَفْعَةً، وَلَا وَقَعَ الْبَيَانُ فِي

تَفْصِيلِهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ؛ وَإِنَّمَا جَاءَ نُجُومًا وَشُذِّرَ شُذُورًا لِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ وَحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ؛ فَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَذَكَرَ الْمُحَرَّمَاتِ مَعْدُودَاتٍ مَشْرُوحَاتٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَكِنَّهُ فَرَّقَهَا عَلَى السُّوَرِ وَالْآيَاتِ، وَقَسَّمَهَا عَلَى الْحَالَاتِ وَالْأَوْقَاتِ؛ فَاجْتَمَعَتْ الْعُلَمَاءُ وَكَمُلَتْ فِي الدِّينِ، كَمَا كَمُلَ جَمِيعُهُ وَاسْتَوْثَقَ وَانْتَظَمَ وَاتَّسَقَ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ». وَقَدْ بَلَغَ الْعُلَمَاءُ الْأَسْبَابَ الْمُبِيحَةَ لِلدَّمِ إلَى عَشَرَةٍ يَأْتِي ذِكْرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَعَدَدُ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الشَّرِيعَةِ عِنْدَنَا حَسْبَمَا رَتَّبْنَا مِنْ الْأَدِلَّةِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ مِنْ النِّسَاءِ أَرْبَعُونَ امْرَأَةً، مِنْهُنَّ أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ حُرِّمْنَ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، وَمِنْهُنَّ سِتَّ عَشْرَةَ تَحْرِيمُهُنَّ لِعَارِضٍ. فَأَمَّا الْأَرْبَعُ وَالْعِشْرُونَ فَهُنَّ: الْأُمُّ، الْبِنْتُ، الْأُخْتُ، الْعَمَّةُ، الْخَالَةُ، بِنْتُ الْأَخِ، بِنْتُ الْأُخْتِ، فَهَؤُلَاءِ سَبْعٌ. وَمِنْ الرَّضَاعِ مِثْلُهُنَّ بِالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، كَمُلْنَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَحَلِيلَةُ الْأَبِ، وَحَلِيلَةُ الِابْنِ، وَأُمُّ الزَّوْجَةِ، وَرَبِيبَةُ الزَّوْجَةِ، الْمَدْخُولِ بِهَا. وَمِنْ الْجَمْعِ ثَلَاثٌ؛ وَهُنَّ الْأُخْتَانِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَالْمَرْأَةُ وَعَمَّتُهَا، وَالْمَرْأَةُ وَخَالَتُهَا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيَانِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُلَاعَنَةُ سَنَةً، وَالْمَنْكُوحَةُ فِي الْعِدَّةِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فِي قَضَاءِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَزَوْجَاتُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ سَقَطَ هَذَا الْوَجْهُ بِمَوْتِهِنَّ. وَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ لِعَارِضٍ فَهُنَّ: الْخَامِسَةُ، وَالْمُزَوَّجَةُ، وَالْمُعْتَدَّةُ، وَالْمُسْتَبْرَأَة، وَالْحَامِلُ، وَالْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا، وَالْمُشْرِكَةُ، وَالْأَمَةُ الْكَافِرَةُ، وَالْأَمَةُ الْمُسْلِمَةُ لِوَاجِدِ الطُّولِ؛ وَسَيَأْتِي بَيَانُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمَةُ الِابْنِ، وَالْمُحَرَّمَةُ، وَالْمَرِيضَةُ، وَمَنْ كَانَ ذَا مَحْرَمٍ مِنْ زَوْجِهِ

اللَّاتِي لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَهَا، وَالْيَتِيمَةُ الصَّغِيرَةُ، وَالْمَنْكُوحَةُ عِنْدَ النِّدَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؛ وَالْمَنْكُوحَةُ عِنْدَ الْخُطْبَةِ بَعْدَ التَّرَاكُنِ. فَأَمَّا السَّبْعَ عَشْرَةَ مِنْهُنَّ فَدَلِيلُهُنَّ ظَاهِرٌ. وَأَمَّا الْمُلَاعَنَةُ فَمُخْتَلَفٌ فِيهَا؛ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ تَحْرِيمُهَا مُؤَبَّدًا فَإِنَّهُ إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ حَلَّ لَهُ رَجْعَتُهَا، وَبِنَاءً عَلَى أَنَّ فُرْقَةَ اللِّعَانِ طَلَاقٌ؛ لِأَجْلِ أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِلَفْظِ الزَّوْجِ كَالطَّلَاقِ، مُفْتَقِرَةٌ إلَى الْحَاكِمِ كَطَلَاقِ الْعِنِّينِ، وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ أَوْجَبَهُ اللِّعَانُ، فَزَالَ بِالتَّكْذِيبِ؛ فَنُفِيَ بِلِعَانِهِ وَيَعُودُ بِتَكْذِيبِهِ. وَالنُّكْتَةُ الْعُظْمَى لَهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: أَوْجَبَ حُرْمَةً لَأَوْجَدَ مَحْرَمِيَّةً كَالرِّضَاعِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَعَانِي لَهُمْ، وَالنَّظَائِرُ وَالْأُصُولُ مَعَهُمْ، وَلَيْسَ لَنَا نَحْنُ إلَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حِسَابُكُمَا عَلَى اللَّهِ، أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ. لَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهَا. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَالِي؟ قَالَ: لَا مَالَ لَكَ. إنْ كُنْت صَدَقْت عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْت مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْت كَذَبْت عَلَيْهَا فَذَلِكَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا». وَأَمَّا الْمَنْكُوحَةُ فِي الْعِدَّةِ فَهُوَ النَّظَرُ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مُحَرَّمًا قَبْلَ حِلِّهِ فَحَرَّمَهُ أَبَدًا؛ كَالْقَاتِلِ لَا يُمَكَّنُ مِنْ الْمِيرَاثِ، وَالْمُسْتَبْرَأَة مُعْتَدَّةٌ، الْعِلَّةُ وَاحِدَةٌ، وَالْمَحِلُّ وَاحِدٌ، وَالسَّبَبُ وَاحِدٌ؛ فَلَمَّا اتَّحَدَا اتَّحَدَ الْحُكْمُ وَالْحَامِلُ أَوْقَعُ، وَالدَّلِيلُ فِيهَا الْجَمْعُ، وَالْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا قُرْآنِيَّةً، وَكَذَلِكَ الْمُشْرِكَةُ، وَالْأَمَتَانِ تَأْتِيَانِ مُبَيِّنَتَيْنِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَمَّا أَمَةُ الِابْنِ فَكُلُّ مُحَرَّمٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِمَّا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فَإِنَّ لَفْظَهُ وَمَعْنَاهُ عَامٌّ فِي النِّكَاحِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ، فَدَخَلَ فِيهِ تَحْرِيمُ مِلْكِ الْيَمِينِ، وَأَمَةُ الِابْنِ مِنْ حَلَائِلِ الِابْنِ لَفْظًا، أَوْ مَعْنًى وَلَفْظًا، أَوْ مَعْنًى مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ، وَالْكُلُّ فِي اقْتِضَاءِ التَّحْرِيمِ دَرَجَاتٌ، وَلَهُ مُقْتَضَيَاتٌ؛ وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ دَخَلَ فِيهِ الْجَمْعُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِمَا بَيَّنَّاهُ.

مسألة معنى قوله تعالى أن تبتغوا بأموالكم

وَأَمَّا الْمُحَرَّمَةُ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْبُخَارِيُّ وَجَمَاعَةٌ: نِكَاحُ الْمُحَرَّمِ جَائِزٌ بِالْعَقْدِ دُونَ الْوَطْءِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ، وَلَا عُمْدَةَ لَهُمَا فِيهِ إلَّا حَدِيثُ نُبَيْهِ بْنِ وَهْبٍ، خَرَّجَهُ مَالِكٌ: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكَحُ». وَضَعَّفَ الْبُخَارِيُّ نُبَيْهَ بْنَ وَهْبٍ، وَتَعْدِيلُ مَالِكٍ وَعِلْمُهُ بِهِ أَقْوَى مِنْ عِلْمِ كُلٍّ بُخَارِيٍّ وَحِجَازِيٍّ، فَلَا يُلْتَفَتُ لِغَيْرِهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ فِي «مَيْمُونَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَهَا مُحْرِمًا»، فَعَجَبًا لِلْبُخَارِيِّ يُدْخِلُهُ مَعَ عَظِيمِ الْخِلَافِ فِيهِ وَيَتْرُكُ أَمْثَالَهُ، وَلَا يُعَارَضُ حَدِيثُ نُبَيْهِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ. وَالْمَسْأَلَةُ عَظِيمَةٌ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. وَأَمَّا نِكَاحُ الْمَرِيضِ فَمِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ؛ وَمَنَعَهُ مَالِكٌ وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ؛ وَكَذَلِكَ الْيَتِيمَةُ الصَّغِيرَةُ لَا تُزَوَّجَ بِحَالٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُزَوِّجُهَا وَلِيُّهَا، وَلَهَا الْخِيَارُ إذَا بَلَغَتْ؛ فَأَفْسَدَ مَا بَنَى وَجَعَلَ حَلًّا مُتَرَقَّبًا، وَهِيَ طُيُولِيَّةٌ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي التَّلْخِيصِ وَغَيْرِهِ. فَهَذِهِ جُمَلٌ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ ثَبَتَتْ فِي الشَّرِيعَةِ بِأَدِلَّتِهَا وَخُصَّتْ مِنْ قَوْلِهِ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]. وَتَرَكَّبَ عَلَى هَذَا مَا إذَا زَنَى بِامْرَأَةٍ، هَلْ يُثْبِتُ زِنَاهُ حُرْمَةً فِي فُرُوعِهَا وَأُصُولِهَا؟ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ وَدَعْ مَنْ رَوَى، وَمَا رُوِيَ. أَقَامَ مَالِكٌ عُمْرَهُ كُلَّهُ يَقْرَأُ عَلَيْهِ الْمُوَطَّأَ وَيَقْرَأَهُ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِيهِ: إنَّ الْحَرَامَ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ، وَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ بَيِّنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24]: يَعْنِي بِالنِّكَاحِ أَوْ بِالشِّرَاءِ، فَأَبَاحَ اللَّهُ الْحَكِيمُ الْفُرُوجَ بِالْأَمْوَالِ وَالْإِحْصَانِ دُونَ

السِّفَاحِ وَهُوَ الزِّنَا؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الصَّدَاقِ فِي النِّكَاحِ، لَكِنْ رُخِّصَ فِي جَوَازِ السُّكُوتِ عَنْهُ عِنْدَ الْعَقْدِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي التَّفْوِيضِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ هُنَالِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ عَشْرَةَ: قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] مُطْلَقًا، فَتَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا الْإِطْلَاقِ فِي جَوَازِ الصَّدَاقِ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَعَضَّدَ ذَلِكَ بِحَدِيثِ الْمَوْهُوبَةِ فِي الصَّحِيحِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ». وَلَنَا فِيهِ طُرُقٌ؛ أَقْوَاهَا أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمَّا حَرَّمَ اسْتِبَاحَةَ هَذَا الْعُضْوِ وَهُوَ الْبُضْعُ إلَّا بِبَدَلٍ وَجَبَ أَنْ يَتَقَرَّرَ ذَلِكَ الْبَدَلُ؛ بَيَانًا لِخَطَرِهِ وَتَحْقِيقًا لِشَرَفِهِ، لَا سِيَّمَا وَهُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَحُقُوقُ اللَّهِ مُقَدَّرَةٌ كَالشَّهَادَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالزَّكَاةِ وَ [نُصُبِ] السَّرِقَةِ وَالدِّيَاتِ. وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَتَخَصَّصَ هَذَا الْإِطْلَاقُ بِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ، لَا سِيَّمَا وَمَسَاقُ هَذَا اللَّفْظِ إيجَابُ الْبَدَلِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الْإِشَارَةَ بِعُمُومِهِ. فَأَمَّا حَدِيثُ خَاتَمِ الْحَدِيدِ فَخَاتَمٌ فِي الْعُرْفِ يَتَزَيَّنُ بِهِ، قِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ رُبْعِ دِينَارٍ، وَهَذَا ظَاهِرٌ؛ فَتَأَمَّلْ تَحْقِيقَهُ فِي مَوْضِعِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالنِّكَاحِ بِالْأَمْوَالِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْذُلَ فِيهِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَتَحْقِيقُ الْمَالِ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَطْمَاعُ، وَيُعْتَدُّ لِلِانْتِفَاعِ، هَذَا رَسْمُهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ. وَتَحْقِيقُ بَيَانِهِ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْفَعَةَ الرَّقَبَةِ فِي الْإِجَارَةِ مَالٌ، وَأَنَّ

مسالة معنى قوله تعالى محصنين

مَنْفَعَةَ التَّعْلِيمِ لِلْعِلْمِ كُلِّهِ مَالٌ، وَفِي جَوَازِ كَوْنِهِ صَادِقًا كَلَامٌ يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا عِتْقُ الْأَمَةِ فَلَيْسَ بِمَالٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: هُوَ مَالٌ يَجُوزُ النِّكَاحُ بِمِثْلِهِ، لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَهُ صَدَاقًا فِي نِكَاحِهِ لِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ فَإِنَّهُ أَعْتَقَهَا بِتَزَوُّجِهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا»، رَوَاهُ أَنَسٌ فِي الصَّحِيحِ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَخْصُوصًا فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ بِخَصَائِصَ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُ كَانَ يَنْكِحُ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا صَدَاقٍ، فَإِنَّهُ كَانَ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَقَدْ أَرَادَ زَيْنَبَ فَحُرِّمَتْ عَلَى زَيْدٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِمِثْلِ هَذَا. وَقَدْ حَقَّقْنَا خَصَائِصَهُ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ، وَقَدْ عَضَّدَ ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا بِأَنْ قَالُوا: إنَّ قَوْلَهُ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]؛ وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْعِتْقِ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [مسالة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى مُحْصِنِينَ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {مُحْصِنِينَ} [النساء: 24]: قَالَ بَعْضُ الْغَافِلِينَ: إنَّ قَوْلَهُ: {مُحْصِنِينَ} [النساء: 24] يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ النِّسَاءِ، كَأَنَّهُ يُرِيدُ ابْتَغُوهُنَّ غَيْرَ زَانِيَاتٍ، وَلَوْ أَرَادَ كَوْنَهَا حَالًا لِلنِّسَاءِ لَقَالَ: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ كَمَا فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا؛ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {مُحْصِنِينَ} [النساء: 24] حَثُّ الرِّجَالِ عَلَى حَظِّهِمْ الْمَحْمُودِ فِيمَا أُبِيحَ لَهُمْ مِنْ الْإِحْصَانِ دُونَ السِّفَاحِ؛ قِيلَ لَهُمْ: ابْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ نِكَاحًا لَا سِفَاحًا، وَالسِّفَاحُ اسْمُ الزِّنَا. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24]: يَعْنِي غَيْرَ زَانِينَ، وَالسِّفَاحُ اسْمٌ لِلزِّنَا، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ يَسْفَحُ الْمَاءَ أَيْ يَصُبَّهُ، وَالسَّفْحُ الصَّبُّ، وَالنِّكَاحُ سِفَاحٌ اشْتِقَاقًا؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْجَمْعُ وَالضَّمُّ، وَصَبُّ الْمَاءِ؛ وَلَكِنَّ الشَّرِيعَةَ وَاللُّغَةَ خَصَّصَتْ كُلَّ وَاحِدٍ بِاسْمٍ مِنْ مَعْنَى مُطْلَقِهِ؛ لِلتَّعْرِيفِ بِهِ عَلَى عَادَتِهَا فِيمَا تُطْلِقُهُ مِنْ بَعْضِ أَلْفَاظِهَا عَلَى الْمَعَانِي الْمُشْتَرَكَةِ فِيهَا.

مسألة الصداق إذا لم يسم في العقد وجب بالدخول

[مَسْأَلَة الصَّدَاقَ إذَا لَمْ يُسَمَّ فِي الْعَقْدِ وَجَبَ بِالدُّخُولِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} [النساء: 24]: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ اسْتِمْتَاعَ النِّكَاحِ الْمُطْلَقِ؛ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَإِحْدَى رِوَايَتَيْ ابْنِ عَبَّاسٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ مُتْعَةُ النِّسَاءِ بِنِكَاحِهِنَّ إلَى أَجَلٍ؛ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمُتْعَةِ فَقَرَأَ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَاَللَّهِ لَأَنْزَلَهَا اللَّهُ كَذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: أَعْطَانِي ابْنُ عَبَّاسٍ مُصْحَفًا، وَقَالَ: هَذَا قِرَاءَةُ أُبَيٍّ، وَفِيهِ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ عَنْهُمَا؛ فَلَا تَلْتَفِتُوا إلَيْهِ، وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ يَعْنِي بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ. أَمَّا إنَّهُ يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ أَنَّ الصَّدَاقَ إذَا لَمْ يُسَمَّ فِي الْعَقْدِ وَجَبَ بِالدُّخُولِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي التَّفْوِيضِ، وَأَمَّا مُتْعَةُ النِّسَاءِ فَهِيَ مِنْ غَرَائِبِ الشَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّهَا أُبِيحَتْ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ حُرِّمَتْ يَوْمَ خَيْبَرَ، ثُمَّ أُبِيحَتْ فِي غَزْوَةِ أَوْطَاسٍ، ثُمَّ حُرِّمَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ بَيَانًا يَشْفِي الصُّدُورَ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24]: سَمَّاهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَجْرًا، وَسَمَّاهُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ نِحْلَةً، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى تِلْكَ الْآيَةِ، وَكَانَتْ الْفَائِدَةُ بِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الْبَيَانُ لِحَالِ الصَّدَاقِ، وَأَنَّهُ مِنْ وَجْهٍ نِحْلَةٌ وَمِنْ وَجْهٍ عِوَضٌ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عِوَضٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: النِّكَاحُ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالْبُيُوعِ، لِمَا فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ الْبُيُوعِ، وَهُوَ وُجُوبُ الْعِوَضِ وَتَعْرِيفِهِ وَإِبْقَاؤُهُ وَرَدُّهُ بِالْعَيْبِ وَالْقِيَامُ فِيهِ بِالشُّفْعَةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِهِ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {فَرِيضَةً} [النساء: 24]: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْإِتْيَانِ لِيَخْلُصَ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً

مسألة معنى قوله تعالى ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة

لِلْأَجْرِ، فَيَقْتَضِي التَّقْدِيرَ؛ مَعْنَاهُ أَعْطُوهَا صَدَاقَهَا كَامِلًا، وَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا، كَمَا قَالَ: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20]. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ] الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء: 24]: إذَا وَجَبَ الْمَهْرُ وَعُلِمَ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقَعَ فِيهِ التَّرَاضِي بَعْدَ ذَلِكَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي تَرْكِهِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ، أَوْ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ وَهُمَا مَالِكَانِ أَمَرَهُمَا فَذَلِكَ مُسْتَمِرٌّ عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْهُمَا مَنْ لَا يَمْلِكُ أَمْرَ نَفْسِهِ فَذَلِكَ إلَى الْوَلِيِّ الَّذِي أَوْجَبَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: {إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]، وَكَمَا تُوجِبُ امْرَأَةٌ لِنَفْسِهَا صَدَاقَهَا ثُمَّ تُسْقِطُهُ، كَذَلِكَ يُوجِبُهُ وَلِيُّهَا لَهَا ثُمَّ يُسْقِطُهُ إذَا رَأَى ذَلِكَ مَصْلَحَةً لَهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فِيهِ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: إنَّ الزِّيَادَةَ بِالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ وَبِالصَّدَاقِ فِي النِّكَاحِ تَلْحَقُهُمَا وَيَجْرِي مَجْرَاهُمَا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي يَجْرِي مَجْرَى الْهِبَاتِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ؛ وَهِيَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ مَذْكُورَةٌ. وَنُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ فَسْخَ الْعَقْدِ وَتَجْدِيدِهِ صَرِيحًا فَمَلَكَاهُ عَنْهُمَا، وَلَهُمَا أَنْ يَتَصَرَّفَا فِيهِ كَيْفَ شَاءَا. [الْآيَة الْمُوفِيَة عشرين قَوْله تَعَالَى وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ] ِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [النساء: 25] فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي حِكْمَةِ الْآيَةِ: اُنْظُرُوا رَحِمَكُمْ اللَّهُ إلَى مُرَاعَاةِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ لِمَصَالِحِنَا وَحُسْنِ تَقْدِيرِهِ فِي تَدْبِيرِهِ لِأَحْكَامِنَا؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا ضَرَبَ الرِّقَّ عَلَى الْخَلْقِ عُقُوبَةً لِلْجَانِي وَخِدْمَةً لِلْمَعْصُومِ، وَعَلِمَ أَنَّ الْعَلَّاقَةَ قَدْ تَنْتَظِمُ بِالرِّقِّ فِي بَابِ الشَّهْوَةِ الَّتِي رَتَّبَهَا جِبِلَّةً، وَرَتَّبَ النِّكَاحَ عَلَيْهَا فِي اتِّحَادِ الْقُرُونِ وَتَرْتِيبِ النَّظَرِ، وَشَرَّفَهُ لِشَرَفِ فَائِدَتِهِ وَمَقْصُودِهِ مِنْ وُجُودِ الْآدَمِيِّ عَلَيْهِ صَانَ عَنْهُ مَحِلَّ الْمَمْلُوكِيَّةِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ فِيهَا سَبَبَ الْحِلِّ وَطَرِيقَ التَّحْرِيمِ، وَالِاسْتِمْتَاعُ يَكْفِي. الثَّانِي: وَهُوَ الْمَقْصُودُ صِيَانَةُ النُّطْفَةِ عَنْ التَّصْوِيرِ بِصُورَةِ الْإِرْقَاقِ. الثَّالِثُ: صِيَانَةٌ لِعَقْدِ النِّكَاحِ حِينَ كَثَّرَ شُرُوطَهُ، وَأَعْلَى دَرَجَتَهُ، وَكَمَّلَ صِفَتَهُ؛ وَقَدْ كَانَ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّ أَحْوَالَ الْخَلْقِ سَتَسْتَقِيمُ بِقِسْمَتِهِ إلَى ضِيقٍ وَسَعَةٍ وَضَرُورَةٍ أَذِنَ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ لِلْحُرِّ فِي تَعْرِيضِ نُطْفَتِهِ لِلْإِرْقَاقِ، لِئَلَّا يَكُونَ مُرَاعَاةَ أَمْرٍ مَوْهُومٍ يُؤَدِّي إلَى فَسَادِ حَالٍ مُتَوَقَّعَةٍ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إنَّ الْهَوَى يُجِيزُ نِكَاحَ الْإِمَاءِ، وَهَذَا مُنْتَهَى نَظَرُ الْمُحَقِّقِينَ فِي مُطَالَعَةِ الْأَحْكَامِ مِنْ بَحْرِ الشَّرْعِ وَسَاحِلِ الْعَقْلِ؛ فَاِتَّخَذُوهَا مُقَدِّمَةً لِكُلِّ مَسْأَلَةٍ تَتَعَلَّقُ بِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي فَهْمِ سِيَاقِ الْآيَةِ: اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي سِيَاقِ هَذِهِ الْآيَةِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهَا سِيقَتْ مَسَاقَ الرُّخَصِ، كَقَوْلِهِ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] وَقَوْلِهِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] وَنَحْوُهُ. فَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تُلْحَقَ بِالرُّخَصِ الَّتِي تَكُونُ مَقْرُونَةً بِأَحْوَالِ الْحَاجَةِ وَأَوْقَاتِهَا، وَلَا يَسْتَرْسِلُ فِي الْجَوَازِ اسْتِرْسَالَ الْعَزَائِمِ؛ وَإِلَى هَذَا مَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَاخْتَارَهُ مَالِكٌ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا أَصْلًا، وَجَوَّزَ نِكَاحَ الْأَمَةِ مُطْلَقًا، وَمَالَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ.

وَقَدْ جَهِلَ مَسَاقَ الْآيَةِ مَنْ ظَنَّ هَذَا فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُبَحْ نِكَاحُ الْأَمَةِ إلَّا بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَدَمُ الطَّوْلِ، وَالثَّانِي خَوْفُ الْعَنَتِ؛ فَجَاءَ بِهِ شَرْطًا عَلَى شَرْطٍ، ثُمَّ ذَكَرَ الْحَرَائِرَ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْحَرَائِرَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ذِكْرًا مُطْلَقًا؛ فَلَمَّا ذَكَرَ الْإِمَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ ذَكَرَهَا ذِكْرًا مَشْرُوطًا مُؤَكَّدًا مَرْبُوطًا. فَإِنْ قِيلَ: حَلَّقْتُمْ عَلَى دَلِيلِ الْخِطَابِ بِأَلْفَاظٍ هَائِلَةٍ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ وَصْفًا أَوْ وَصْفَيْنِ فَأَرَدْتُمْ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ بِخِلَافِهِ، وَهَذَا دَلِيلُ الْخِطَابِ الَّذِي نَازَعْنَاكُمْ فِيهِ مُذْ كُنَّا وَكُنْتُمْ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّا نَقُولُ: دَلِيلُ الْخِطَابِ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِنَا، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَحَقَّقْنَاهُ تَحْقِيقًا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ، وَمَنْ أَرَادَ دَرَاهُ. الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ مَسُوقَةً مَسَاقَ دَلِيلِ الْخِطَابِ كَمَا بَيَّنَّا؛ وَإِنَّمَا هِيَ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ الْإِبْدَالِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ تَكُونُ مَسُوقَةً مَسَاقَ شِبْهِ دَلِيلِ الْخِطَابِ لَوْ قُلْنَا: انْكِحُوا الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ بِطَوْلٍ وَعِنْدَ خَوْفِ عَنَتٍ، فَأَمَّا وَقَدْ قَالَ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ} [النساء: 25]؛ فَقَرَنَهُ بِالْقُدْرَةِ الَّتِي رَتَّبَ عَلَيْهَا الْإِبْدَالَ فِي الشَّرِيعَةِ وَأَدْخَلَهَا فِي بَابِهَا بِعِبَارَتِهَا وَمَعْنَاهَا لَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يُخْرِجَهَا عَنْهَا، فَلَيْسَ لِرَجُلٍ حَكَمَهُ اللَّهُ وَاضِعٌ. وَمِنْ غَرِيبِ دَلِيلِ الْخِطَابِ أَنَّ الْبَارِي تَعَالَى قَدْ يَخُصُّ الْوَصْفَ بِالذَّكَرِ لِلتَّنْبِيهِ، وَقَدْ يَخُصُّهُ بِالْعُرْفِ، وَقَدْ يَخُصُّهُ بِاتِّفَاقِ الْحَالِ، فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] فَإِنَّهُ تَنْبِيهٌ عَلَى حَالَةِ الْإِثْرَاءِ، وَخَصَّ حَالَةَ الْإِمْلَاقِ بِالنَّهْيِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يَتَعَرَّضَ الْأَبُ لَقَتْلِ الِابْنِ فِيهَا. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى:

{لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] خَصَّ حَالَةَ الْإِكْثَارِ وَالْإِثْرَاءِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا النُّفُوسُ بِالنَّهْيِ؛ فَأَمَّا إذَا وَقَعَ شَرْطٌ بِقُدْرَةٍ فَهُوَ نَصٌّ فِي الْبَدَلِيَّةِ وَالرُّخْصَةِ، وَإِنْ وَقَعَ بِتَنْبِيهٍ مَقْرُونًا بِحَالَةٍ أَوْ عَادَةً كَانَ ظَاهِرًا، كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرُهَا لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ». وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ خَمْسَةً مِنْ الْأَدِلَّةِ تَقْتَضِي فِي الْمَعْنَى أَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ رُخْصَةٌ، فَلَمَّا انْتَهَى النَّظَرُ إلَى هَذَا الْمَقَامِ، وَرَأَى الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ رُخْصَةٌ، وَأَنَّهُ مَشْرُوطٌ بَعْدَ الطَّوْلِ تَحَكَّمَ فِي الطَّوْلِ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَقَالَ: إنَّ الطَّوْلَ هُوَ وُجُودُ الْحُرَّةِ تَحْتَهُ، فَإِذَا كَانَتْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ فَهُوَ ذُو طَوْلٍ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، هَذَا تَأْوِيلُ أَبِي يُوسُفَ. وَتَحْقِيقُهُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الطَّوْلَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ هُوَ الْقُدْرَةُ، وَالنِّكَاحُ هُوَ الْوَطْءُ حَقِيقَةً، فَمَعْنَاهُ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَطَأَ حُرَّةً فَلْيَتَزَوَّجْ أَمَةً، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةً فِي الَّذِي تَحْتَهُ حُرَّةٌ فَلَا يُنْقَلُ إلَى الْمَجَازِ إلَّا بِدَلِيلٍ. أَجَابَ عُلَمَاؤُنَا بِأَنْ قَالُوا: الطَّوْلُ هُوَ الْغِنَى وَالسَّعَةُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ} [التوبة: 86]. وَالنِّكَاحُ هُوَ الْعَقْدُ، فَمَعْنَاهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ صَدَاقُ حُرَّةٍ فَلْيَتَزَوَّجْ أَمَةً، وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَيُعَضِّدُهُ قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25]، وَهَذَا أَقْوَى أَلْفَاظِ الْحَصْرِ، كَقَوْلِهِ فِي شُرُوطِ الْمُتْعَةِ فِي الْحَجِّ: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196]. وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَشْتَرِطُ خَوْفَ الْعَنَتِ.

مسألة قدر على طول كتابية هل يتزوج الأمة

[مَسْأَلَة قَدَرَ عَلَى طَوْلِ كِتَابِيَّةٍ هَلْ يَتَزَوَّجُ الْأَمَةَ] فَإِنْ قِيلَ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فَإِنْ قَدَرَ عَلَى طَوْلِ كِتَابِيَّةٍ هَلْ يَتَزَوَّجُ الْأَمَةَ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، يَتَزَوَّجُهَا. فَإِنْ قِيلَ: كَيْف هَذَا، وَهِيَ مِثْلُ الْمُسْلِمَةِ الْحُرَّةِ؟ وَالْقُدْرَةُ عَلَى مِثْلِ الشَّيْءِ قُدْرَةٌ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ. قُلْنَا: لَيْسَا مِثْلَيْنِ بِأَدِلَّةٍ لَا تُحْصَى كَثْرَةً وَقُوَّةً، مِنْهَا أَنَّ إمَاءَهُمْ لَمْ تَسْتَوِ فَكَيْفَ حَرَائِرُهُمْ؟ وَمَا لَمْ يَشْتَرِطْهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا نَشْتَرِطُهُ نَحْنُ، وَلَا نُلْحِقُ مُسْلِمَةً بِكَافِرَةٍ، فَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ حُرَّةٍ مُشْرِكَةٍ بِلَا كَلَامٍ. فَإِنْ قِيلَ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ إمَامُ الْحَنَفِيَّةِ فِي كِتَابِ " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ " لَهُ: لَيْسَ نِكَاحُ الْأَمَةِ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ مَا يُخَافُ مِنْهُ تَلَفُ النَّفْسِ أَوْ تَلَفُ عُضْوٍ، وَلَيْسَ فِي مَسْأَلَتِنَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. قُلْنَا: هَذَا كَلَامُ جَاهِلٍ بِمِنْهَاجِ الشَّرْعِ أَوْ مُتَهَكِّمٍ لَا يُبَالِي بِمَا يَرِدُ الْقَوْلُ. نَحْنُ لَمْ نَقُلْ إنَّهُ حُكْمٌ نِيطَ بِالضَّرُورَةِ، إنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُ حُكْمٌ عُلِّقَ بِالرُّخْصَةِ الْمَقْرُونَةِ بِالْحَاجَةِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمٌ يَخْتَصُّ بِهِ، وَحَالَةٌ يُعْتَبَرُ فِيهَا، وَمَنْ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ الضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ الَّتِي تَكُونُ مَعَهَا الرُّخْصَةُ فَلَا يُعْنَى بِالْكَلَامِ مَعَهُ، فَإِنَّهُ مُعَانِدٌ أَوْ جَاهِلٌ، وَتَقْدِيرُ ذَلِكَ إتْعَابٌ لِلنَّفْسِ عِنْدَ مَنْ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ.

مسألة كانت تحته حرة هل يتزوج الأمة أم لا

[مَسْأَلَة كَانَتْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ هَلْ يَتَزَوَّجُ الْأَمَة أَمْ لَا] فَإِنْ قِيلَ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فَإِذَا كَانَتْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ، هَلْ يَتَزَوَّجُ الْأَمَةَ أَمْ لَا؟ قُلْنَا: اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا؛ فَقَالَ مَالِكٌ: إذَا خَشِيَ الْعَنَتَ مَعَ حُرَّةٍ وَاحْتَاجَ إلَى أُخْرَى، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى صَدَاقِهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأَمَةَ؛ وَهَكَذَا مَعَ كُلِّ حُرَّةٍ وَكُلِّ أَمَةٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى الْأَرْبَعِ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ. وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: إذَا تَزَوَّجَ الْأَمَةَ عَلَى الْحُرَّةِ رُدَّ نِكَاحُهُ؛ رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ. وَرِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ الْأُولَى أَصَحُّ فِي الدَّلِيلِ وَأَوْلَى؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ بِشَرْطٍ قَدْ وُجِدَ وَكَمُلَ عَلَى الْأَمْرِ. فَإِنْ قِيلَ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فَهَلْ تَكُونُ الْحُرَّةُ بِالْخِيَارِ فِي الْبَقَاءِ مَعَهَا أَوْ الْفِرَاقِ؟ قُلْنَا: كَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ عَلَى الرِّوَايَةِ الْوَاحِدَةِ، وَيَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ مَنْ رَضِيَ بِالسَّبَبِ الْمُحَقَّقِ رَضِيَ بِالْمُسَبَّبِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ، وَأَلَّا يَكُونَ لَهَا خِيَارٌ؛ لِأَنَّهَا قَدْ عَلِمَتْ أَنَّ لَهُ نِكَاحَ الْأَرْبَعِ، وَعَلِمَتْ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى نِكَاحِ حُرَّةٍ تَزَوَّجَ أَمَةً، وَمَا شَرَطَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا كَمَا شَرَطَتْ عَلَى نَفْسِهَا، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي شُرُوطِ اللَّهِ عِلْمُهَا، وَهَذَا غَايَةُ التَّحْقِيقِ فِي الْبَابِ وَالْإِنْصَافِ فِيهِ. [مَسْأَلَة نِكَاحَ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]. بِهَذَا اسْتَدَلَّ مَالِكٌ عَلَى أَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ نِكَاحَ الْمُؤْمِنَةِ، فَكَانَ شَرْطًا فِي نِكَاحِ الْإِمَاءِ الْإِيمَانُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِهِ. قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا اسْتِدْلَالًا بِدَلِيلِ الْخِطَابِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِالتَّعْلِيلِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْإِيمَانَ فِي نِكَاحِهِنَّ، وَذِكْرُ الصِّفَةِ فِي الْحُكْمِ تَعْلِيلٌ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَكْرِمُوا الْعَالِمَ وَاحْفَظُوا الْغَرِيبَ لَكَانَ تَنْصِيصًا عَلَى

الْحُكْمِ وَعَلَى عِلَّتِهِ، وَهِيَ الْعِلْمُ وَالْغُرْبَةُ فَيَتَعَدَّى الْإِكْرَامُ [وَالْحِفْظُ] لِكُلِّ عَالَمٍ وَغَرِيبٍ، وَلَا يَتَعَدَّى إلَى سِوَاهُمَا. الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5]؛ فَكَانَ هَذَا تَعْلِيلًا يَمْنَعُ مِنْ النِّكَاحِ فِي الْمُشْرِكَاتِ. الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5]، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْإِيمَانُ شَرْطًا فِي الْإِحْلَالِ وَلَا الْعِفَّةِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِحْصَانِ هَاهُنَا الْحُرِّيَّةُ. الرَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] فَلْيَنْكِحْ الْفَتَيَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، فَالْإِحْصَانُ هَاهُنَا فِي الْحُرِّيَّةِ قَطْعًا، فَنَقَلْنَاهُ مِنْ حُرَّةٍ مُؤْمِنَةٍ إلَى أَمَةٍ مُؤْمِنَةٍ، وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5]. ثُمَّ قَالَ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} [المائدة: 5] يَعْنِي حِلٌّ لَكُمْ، {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] حِلٌّ لَكُمْ أَيْضًا، يُرِيدُ بِذَلِكَ الْحَرَائِرَ لَا مَعْنَى لَهُ سِوَاهُ، فَأَفَادَتْ الْآيَةُ حِلَّ الْكِتَابِيَّةِ، وَبَقِيَتْ الْأَمَةُ الْكَافِرَةُ تَحْتَ التَّحْرِيمِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ: {وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ} [البقرة: 221]، فَخَايَرَ بَيْنَهُمَا، وَالْمُخَايَرَةُ لَا تَكُونُ بَيْنَ ضِدَّيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: لَمَّا أَكْمَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَيَانَ الْمُحَرَّمَاتِ الْحَاضِرَاتِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِلتَّكْلِيفِ، وَقَالَ بَعْدَهُ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]، فَلَوْ وَقَعَ هَذَا الْإِحْلَالُ بِنَصٍّ لَكَانَ مَا يَأْتِي بَعْدَهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي عَدَدْنَاهَا نَسْخًا، وَلَكِنَّهُ كَانَ عُمُومًا، فَجَرَى عَلَى عُمُومِهِ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ فِي سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةٍ، وَلَوْ كَانَتْ أَلْفًا مَا أَثَّرَ فِي الْعُمُومِ، فَكَيْفَ وَهِيَ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ؟ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]

مسألة التسوية بين الحر والعبد في الشرف

وَهُوَ عُمُومٌ خَرَجَ مِنْهُ عَشَرَةُ أَصْنَافٍ وَبَقِيَ تَحْتَهُ صِنْفٌ وَاحِدٌ، وَهُمْ الْمُحَارِبُونَ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِيهِ لَا فَصَاحَةً وَلَا حِكْمَةً وَلَا دِينًا وَلَا شَرِيعَةً. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [النساء: 25]: الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ لَمَّا شَرَطَ الْإِيمَانَ، وَعَلِمَ أَنَّهُ مَخْفِيٌّ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ سِوَاهُ أَحَالَ عَلَى الظَّاهِرِ فِيهِ، وَقَالَ: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [النساء: 25] فِيمَا أَضْمَرْتُمْ مِنْ الْإِيمَانِ، كُلُّكُمْ فِيهِ مَقْبُولٌ، وَبِظَاهِرِهِ مَعْصُومٌ، حَتَّى يَحْكُمَ فِيهِ الْحَكِيمُ؛ وَلِذَلِكَ لَمَّا «جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ لَهُ: عَلَيَّ رَقَبَةٌ وَأُرِيدُ أَنْ أُعْتِقَ هَذِهِ الْجَارِيَةَ. قَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيْنَ اللَّهُ؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. قَالَ: مَنْ أَنَا؟ قَالَتْ: رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» حَمْلًا عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ الْإِيمَانِ، نَعَمْ وَعَلَى الظَّاهِرِ مِنْ الْأَلْفَاظِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ. [مَسْأَلَة التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فِي الشَّرَفِ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [النساء: 25]. قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنْتُمْ الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فِي الشَّرَفِ، وَرَدَّ عَلَى الْعَرَبِ الَّتِي كَانَتْ تُسَمِّي وَلَدَ الْأَمَةِ هَجِينًا تَعْبِيرًا لَهُ بِنُقْصَانِ مَرْتَبَةِ أُمِّهِ، وَهَذَا أَمْرٌ أَدْخَلَتْهُ الْيَمَنِيَّةُ عَلَى الْمُضَرِيَّةِ مِنْ حَيْثُ لَمْ تَشْعُرْ بِجَهْلِ الْعَرَبِ وَغَفَلْتهَا؛ فَإِنَّ إسْمَاعِيلَ ابْنُ أَمَةٍ، فَلَوْ كَانَتْ عَلَى بَصِيرَةٍ مَا قَبِلَتْ هَذَا التَّعْبِيرَ، وَإِلَيْهَا يُرْجَعُ. [مَسْأَلَة تَزَوَّجَ أَمَةً ثُمَّ قَدَرَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى حُرَّةٍ فَتَزَوَّجَهَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: إذَا تَزَوَّجَ أَمَةً، ثُمَّ قَدَرَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى حُرَّةٍ فَتَزَوَّجَهَا ثَبَتَ نِكَاحُ الْأَمَةِ وَلَمْ يَنْفَسِخْ.

الآية الحادية والعشرون قوله تعالى فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف

وَقَالَ مَسْرُوقٌ: يَنْفَسِخُ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ، فَإِذَا ارْتَفَعَتْ الضَّرُورَةُ ارْتَفَعَتْ الْإِبَاحَةُ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِي اسْتِدَامَتِهِ، كَالْعِدَّةِ وَالْإِحْرَامِ وَخَوْفِ الْعَنَتِ. وَهَذَا لَا جَوَابَ عَنْهُ. وَأَمَّا الْمَيْتَةُ فِي الضَّرُورَةِ فَتُفَارِقُ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا عَقْدٌ لَازِمٌ، وَتِلْكَ إبَاحَةٌ مُجَرَّدَةٌ. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا عَقْدٌ بِشُرُوطٍ، فَيُعْتَبَرُ بِشُرُوطِهِ، بِخِلَافِ الْإِبَاحَةِ فِي الْمَيْتَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الْحَادِيَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ] ِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء: 25]. فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ إسْمَاعِيلُ الْقَاضِي: زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَنَّ السَّيِّدَ إذَا زَوَّجَ عَبْدَهُ مِنْ أَمَتِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهِ صَدَاقٌ، وَكَيْفَ يَجُوزُ هَذَا وَنِكَاحٌ بِغَيْرِ صَدَاقٍ سِفَاحٌ؟ وَبَالَغَ فِي الرَّدِّ، وَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ نِكَاحَ كُلِّ امْرَأَةٍ، فَقَرَنَهُ بِذَكَرِ الصَّدَاقِ فَقَالَ فِي الْإِمَاءِ: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 25]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [المائدة: 5]. وَقَالَ أَيْضًا: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الممتحنة: 10]؛ فَكَيْفَ يَخْلُو عَنْهُ عَقْدُ حُكْمِ الشَّرْعِ فِيهِ بِأَنْ يَجِبَ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُ، حَتَّى أَنَّهُ لَوْ سَكَتَ فِي الْعَقْدِ عَنْهُ لَوَجَبَ بِالْوَطْءِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي إسْمَاعِيلَ هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ تَعَرَّضَ الْحَنَفِيُّونَ وَالشَّافِعِيُّونَ لِلرَّدِّ عَلَى إسْمَاعِيلَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ فِي كِتَابِ

" أَحْكَامِ الْقُرْآنِ " لَهُ، وَرَدَّ عَلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّبَرِيُّ الْهَرَّاسُ فِي كِتَابِ " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ "، فَتَعَرَّضُوا لِلِارْتِقَاءِ فِي صُفُوفِهِ بِغَيْرِ تَمْيِيزٍ. قَالَ الرَّازِيّ: يَجِبُ الْمَهْرُ وَيَسْقُطُ؛ لِئَلَّا تَكُونَ اسْتِبَاحَةُ الْبُضْعِ بِغَيْرِ بَدَلٍ، وَيَسْقُطُ فِي الثَّانِي حِينَ يَسْتَحِقُّهُ الْمَوْلَى، لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُهُ، وَالْمَوْلَى هُوَ الَّذِي يَمْلِكُ مَالَهَا وَلَا يَثْبُتُ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: إنَّ الْمَهْرَ لَوْ وَجَبَ لَوَجَبَ لِشَخْصٍ عَلَى شَخْصٍ، فَمَنْ الَّذِي أَوْجَبَهُ؟ وَعَلَى مَنْ وَجَبَ؟ فَإِنْ قُلْت: وَجَبَ لِلسَّيِّدِ عَلَى الْعَبْدِ فَهَذَا مُحَالٌ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى عَبْدِهِ، وَوُجُوبِهِ لَا عَلَى أَحَدٍ مُحَالٌ، وَكَمَا أَنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ كَذَلِكَ الْمِلْكُ يَقْتَضِي الْإِسْقَاطَ، وَلَيْسَ إيجَابُهُ ضَرُورَةَ الْإِسْقَاطِ، كَمَا يُقَالُ إنَّ إثْبَاتَ الْمِلْكِ لِلِابْنِ ضَرُورَةَ الْعِتْقِ؛ فَإِنَّ الْعِتْقَ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْمِلْكِ، فَأَمَّا إسْقَاطُ الْمَهْرِ فَلَا يَقْتَضِي إثْبَاتَهُ، فَوَجَبَ أَلَّا يَجِبَ بِحَالٍ. وَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ أَصْلًا، وَإِذَا لَمْ يَمْلِكْ وَلَا بُدَّ مِنْ مَالِكٍ، وَاسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ السَّيِّدُ مَالِكًا؛ فَامْتَنَعَ لِذَلِكَ، وَعَادَ الْكَلَامُ إلَى أَصْلٍ آخَرَ؛ وَهُوَ أَنَّ الْعَبْدَ هَلْ يَمْلِكُ أَمْ لَا؟ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: أَمَّا قَوْلُ الرَّازِيّ: إنَّهُ يَجِبُ وَيَسْقُطُ فَكَلَامٌ لَهُ فِي الشَّرْعِ أَمْثِلَةٌ، مِنْهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا وَمِنْهَا مُخْتَلَفٌ فِيهَا؛ فَمِنْ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ هُوَ فِيمَا إذَا قَالَ لِرَجُلٍ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَلَى أَلْفٍ. فَقَالَ سَيِّدُهُ: هُوَ حُرٌّ. فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ وَهُوَ كَلِمَةُ " هُوَ حُرٌّ " يَتَضَمَّنُ عَقْدَ الْبَيْعِ، وَوُجُوبَ الثَّمَنِ عَلَى الْمُبْتَاعِ، ثُمَّ وُجُوبَ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ، وَوُجُوبَ الْمِلْكِ لِلْمُبْتَاعِ، وَخُرُوجَهُ عَنْ يَدِ الْبَائِعِ وَمِلْكَهُ وَالْعِتْقَ، وَيَجِبُ الْمِلْكُ ثُمَّ يَسْقُطُ. كُلُّ ذَلِكَ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ وَالْعِتْقِ. كَذَلِكَ يَلْزَمُ أَنْ يَقُولَ: يَجِبُ الصَّدَاقُ هَاهُنَا لِحِلِّ الْوَطْءِ، ثُمَّ يَكُونُ مَا كَانَ. وَمِمَّا اتَّفَقْنَا عَلَيْهِ نَحْنُ وَالشَّافِعِيَّةُ إذَا اشْتَرَى الِابْنُ أَبَاهُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ عَقْدُ الشِّرَاءِ وَيَحْصُلُ الْمِلْكُ لِلِابْنِ، ثُمَّ يَسْقُطُ الْمِلْكُ وَيُعْتَقُ، وَيَجِبُ الثَّمَنُ لِلْبَائِعِ.

وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: إذَا قَتَلَ الْأَبُ ابْنَهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ وَيَسْقُطُ، فَوُجُوبُهُ لِوُجُودِ عِلَّةِ الْقِصَاصِ مِنْ الْعُدْوَانِ وَشَرْطُهُ مِنْ الْمُكَافَآتِ، وَيَسْقُطُ لِعَدَمِ الْمُسْتَحِقِّ؛ إذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَجِبَ لِلْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ. وَنَحْنُ نَقُولُ: يَنْتَقِلُ الْقِصَاصُ إلَى غَيْرِ الْأَبِ مِنْ الْوَرَثَةِ، كَمَا لَوْ كَانَ الْأَبُ كَافِرًا لَانْتَقَلَ الْمِيرَاثُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْوَرَثَةِ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَوْ قَتَلَ حُرٌّ عَبْدًا قُتِلَ بِهِ، وَلَوْ قَتَلَ مُكَاتَبًا لَمْ يُتْرَكْ وَفَاءً قُتِلَ بِهِ، وَلَوْ قَتَلَ مُكَاتَبًا تُرِكَ وَفَاءً لَمْ يُقْتَلْ بِهِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِيهِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَاتَ عَبْدًا وَالْقِصَاصُ لِسَيِّدِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَاتَ حُرًّا وَيُدْفَعُ مِنْ مَالِهِ كِتَابَتُهُ لِسَيِّدِهِ، وَيَرِثُ مَالَهُ بَقِيَّةُ وَرَثَتِهِ، وَيَرِثُونَ قِصَاصَهُ، فَانْتَصَبَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْمُسْتَحَقِّ شُبْهَةً فِي دَرْكِ الْقِصَاصِ. وَهَذَا الْفِقْهُ صَحِيحٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْإِيجَابَ حُكْمٌ، وَالِاسْتِيفَاءُ حُكْمٌ آخَرُ مُغَايِرٌ لَهُ، وَأَسْبَابُهُمَا تَخْتَلِفُ؛ وَإِذَا اخْتَلَفَا سَبَبًا وَاخْتَلَفَا ذَاتًا كَيْفَ يَصِحُّ لِمُحِقٍّ أَنْ يُنْكِرَ انْفِرَادَ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ؟ بَلْ هُنَالِكَ أَغْرُبُ مِنْ هَذَا؛ وَهُوَ أَنَّ الْوُجُوبَ حُكْمٌ وَالِاسْتِقْرَارُ حُكْمٌ آخَرُ؛ فَإِنَّ الصَّدَاقَ يَجِبُ بِالْعَقْدِ، وَلَا يَسْتَقِرُّ بِالْوَطْءِ؛ إذْ يَتَطَرَّقُ السُّقُوطُ إلَى جَمِيعِهِ قَبْلَ الْوَطْءِ بِالرِّدَّةِ، وَإِلَى نِصْفِهِ بِالطَّلَاقِ. وَقَدْ انْبَنَى عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ مِنْ الزَّكَاةِ، إذَا كَانَ الصَّدَاقُ مَاشِيَةً وَغَيْرَهَا؛ فَإِذَا كَانَ الِاسْتِقْرَارُ وَهُوَ وَصْفُ الْوُجُوبِ حُكْمًا انْفَرَدَ عَنْ الْوُجُوبِ بِانْفِرَادِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ وَهُوَ غَيْرُهُ أَصْلًا وَصِفَةً فَذَلِكَ أَوْلَى. وَأَمَّا قَوْلُ الطَّبَرِيِّ: مَنْ الَّذِي أَوْجَبَ عَلَيْهِ؟ وَلِمَنْ وَجَبَ؟ فَيُقَالُ لَهُ: نَقَصَكَ قِسْمٌ ثَالِثٌ عَدَلْتَ عَنْهُ أَوْ تَعَمَّدْتَ تَرْكَهُ تَلْبِيسًا: وَهُوَ أَنْ يَجِبَ لِلْأَمَةِ وَهِيَ الزَّوْجُ عَلَى الْعَبْدِ الَّذِي تَزَوَّجَهَا، كَمَا تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ لَهَا. فَإِنْ قَالَ: لَيْسَتْ الْأَمَةُ أَهْلًا لِلْمِلْكِ وَلَا لِلتَّمْلِيكِ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ؛ بَلْ الْعَبْدُ أَهْلٌ لِلْمِلْكِ وَالتَّمْلِيكِ.

مسألة المملوكة لا تنكح إلا بإذن أهلها وكذلك العبد لا ينكح إلا بإذن أهله وسيده

وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ تَخْلِيصًا وَتَلْخِيصًا وَإِنْصَافًا، وَحَقَّقْنَا فِي الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ عِلَّةَ الْمِلْكِ الْحَيَاةُ وَالْآدَمِيَّةُ، وَإِنَّمَا انْغَمَرَ وَصْفُ الْعَبْدِ بِالرِّقِّ لِلسَّيِّدِ، وَلَكِنَّ الْعِلَّةَ بَاقِيَةٌ، وَالْحُكْمُ قَدْ يَتَرَكَّبُ عَلَيْهَا مَعَ وُجُودِ الْغَامِرِ لَهَا. وَكَيْفَ لَا تَمْلِكُ الْأَمَةُ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي الْإِمَاءِ: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24]. فَأَضَافَ الْأُجُورَ إلَيْهِنَّ إضَافَةَ تَمْلِيكٍ؟ وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الْعَقْدَ كَمَا يَقْتَضِي الْإِيجَابَ كَذَلِكَ [الْمِلْكُ] يَقْتَضِي الْإِسْقَاطَ. قُلْنَا لَهُ: فَذَكَرَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مُقْتَضَاهُ أَوْجَبَ بِالْعَقْدِ وَأَسْقَطَ بِالْمِلْكِ وَوَفَّرَ عَلَى كُلِّ سَبَبٍ حُكْمَهُ كَمَا فَعَلْنَا فِي شِرَاءِ الْقَرِيبِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ إيجَابَهُ لَيْسَ ضَرُورَةً لِلْإِسْقَاطِ بِخِلَافِ عِتْقِ الْقَرِيبِ فَإِنَّ إيجَابَهُ هُنَاكَ ضَرُورَةَ الْعِتْقِ. قُلْنَا: وَإِيجَابُهُ الصَّدَاقُ هَاهُنَا ضَرُورَةَ الْحِلِّ؛ إذْ جَعَلَهُ اللَّهُ عِلْمًا عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالسِّفَاحِ، وَنَصَّ عَلَى إيجَابِهِ فِي كُلِّ نِكَاحٍ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِ النَّاكِحِينَ مِنْ مَلِكٍ أَوْ مَمْلُوكٍ؛ فَيَجِبُ لِلْأَمَةِ، ثُمَّ يَجِبُ لِلسَّيِّدِ مِنْهَا، وَلَيْسَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَجِبَ لِلسَّيِّدِ عَلَى الْعَبْدِ حَقٌّ، فَلَا تُغَرَّ غُرُورًا بِمَا لَا تَحْصِيلَ فِيهِ وَلَا مَنْفَعَةَ لَهُ. وَهَلَّا قُلْتُمْ: يَجِبُ لِلْأَمَةِ عَلَى الْعَبْدِ، ثُمَّ يَجِبُ لِلسَّيِّدِ مِنْ الْأَمَةِ، ثُمَّ يَسْقُطُ؛ وَسُقُوطُ الْحَقِّ بِانْتِقَالِهِ مِنْ مَحِلٍّ إلَى مَحِلٍّ لَيْسَ غَرِيبًا فِي مَسَائِلِ الْقِصَاصِ وَالشُّفْعَةِ وَالدُّيُونِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الْعِتْقَ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْمِلْكِ، فَكَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ الْحِلُّ فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ صَدَاقٍ. وَأَمَّا قَوْلُكَ: إنَّ الْقَوْلَ عَادَ إلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ فَيَا حَبَّذَا عَوْدُهُ إلَى هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي ظَهَرْنَا فِيهِ عَلَيْكُمْ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. [مَسْأَلَة الْمَمْلُوكَةَ لَا تُنْكَحَ إلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهَا وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يُنْكَحُ إلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهِ وَسَيِّدِهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء: 25]: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَمْلُوكَةَ لَا تُنْكَحَ إلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهَا، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يُنْكَحُ إلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهِ وَسَيِّدِهِ.

مسألة المهر في النكاح

وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَمْلُوكٌ لَا أَمْرَ لَهُ، وَبَدَنُهُ كُلُّهُ مُسْتَغْرِقٌ بِحَقِّ السَّيِّدِ؛ لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَمَةَ إذَا تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهَا فُسِخَ النِّكَاحُ وَلَمْ يَجُزْ بِإِجَازَةِ السَّيِّدِ، وَإِذَا جَوَّزَ السَّيِّدُ نِكَاحَ الْعَبْدِ جَازَ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْأُنُوثَةِ فِي الْأَمَةِ يَمْنَعُ مِنْ انْعِقَادِ النِّكَاحِ أَلْبَتَّةَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يَجُوزُ نِكَاحُهَا بِإِذْنِ أَهْلِهَا وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرْ السَّيِّدُ الْعَقْدَ. قُلْنَا: نَعَمْ، يَجُوزُ؛ وَلَكِنْ لَا تُبَاشِرُهُ هِيَ، بَلْ يَتَوَلَّاهُ مَنْ تَوَلَّاهُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهِ فَهُوَ عَاهِرٌ». خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هُوَ حَسَنٌ. وَحَدِيثٌ يَرْوِيهِ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ عَقِيلٍ عَنْ جَابِرٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا. [مَسْأَلَة الْمَهْرِ فِي النِّكَاحِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 25]: هَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْمَهْرِ فِي النِّكَاحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ يُسَمَّى أُجْرَةً، وَدَلِيلُ هَذَا أَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ الْبُضْعِيَّةِ؛ لِأَنَّ مَا يُقَابِلُ الْمَنْفَعَةَ يُسَمَّى أُجْرَةً. وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ النِّكَاحُ مَا هُوَ؟ بَدَنُ الْمَرْأَةِ، أَوْ مَنْفَعَةُ الْبُضْعِ، أَوْ الْحِلُّ؟ وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ عِنْدَ ذِكْرِنَا مَا تُرَدُّ بِهِ الزَّوْجَةُ مِنْ الْعُيُوبِ.

مسألة ما يعني بالمعروف

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْمَهْرِ لِلْأَمَةِ، وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ: إنَّهُ عِوَضُ مَنْفَعَةٍ لَا يَكُونُ لِلْأَمَةِ، أَصْلُهُ إجَازَةُ الْمَنْفَعَةِ فِي الرَّقَبَةِ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّ السَّيِّدَ إذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ فَقَدْ مَلَكَ مِنْهَا مَا لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ غَشَيَانِهَا بِالتَّزْوِيجِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَمْلِكُهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، فَهَذَا الْعَقْدُ لَهَا لَا لَهُ، فَعِوَضَهُ لَهَا بِخِلَافِ مَنَافِعِ الرَّقَبَةِ فَإِنَّهَا وَالْعَقْدُ عَلَيْهَا لِلسَّيِّدِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا يَفْتَقِرُ إلَى إطْنَابٍ. [مَسْأَلَة مَا يَعْنِي بِالْمَعْرُوفِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: مَا يَعْنِي بِالْمَعْرُوفِ؟ يَعْنِي الْوَاجِبَ، وَهُوَ ضِدُّ الْمُنْكَرِ، وَلَيْسَ يُرِيدُ بِهِ الْمَعْرُوفَ الَّذِي هُوَ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ؛ وَسَتَرَاهُ مُبَيَّنًا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} [النساء: 25]: يَعْنِي عَفَائِفَ غَيْرَ زَانِيَاتٍ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهَا مَنْ حَرَّمَ نِكَاحَ الزَّانِيَةِ، وَهُوَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَقَالَ إنَّهُ شَرَطَ فِي النِّكَاحِ الْإِحْصَانَ وَهُوَ الْعِفَّةُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي سُورَةِ النُّورِ: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3]. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَعْنَى قَوْلُهُ: مُحْصَنَاتٍ، أَيْ بِنِكَاحٍ لَا بِزِنًى، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَالَ قَبْلَ هَذَا: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء: 25]، فَكَيْفَ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْكُوحَاتٌ، فَيَكُونُ تَكْرَارًا فِي الْكَلَامِ قَبِيحًا فِي النِّظَامِ، وَإِنَّمَا شَرَطَ اللَّهُ ذَلِكَ صِيَانَةً لِلْمَاءِ الْحَلَالِ عَنْ الْمَاءِ الْحَرَامِ؛ فَإِنَّ الزَّانِيَةَ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا نِكَاحُهَا حَتَّى تُسْتَبْرَأَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ نِكَاحُهَا الْيَوْمَ لِمَنْ زَنَى بِهَا الْبَارِحَةَ، وَلِمَنْ لَمْ يَزْنِ بِهَا مَعَ شَغْلِ رَحِمِهَا بِالْمَاءِ، فَهَذِهِ هِيَ الزَّانِيَةُ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ نِكَاحَهَا؛ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَسْقِ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ». وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ»، وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ فِي وَطْءٍ وَنَسَبٍ لَهُمَا حُرْمَةٌ. وَذَلِكَ فِي وَطْءِ الْكُفَّارِ؛ لَكِنْ إنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَاءِ الْمُسْتَقِرِّ فِي الرَّحِمِ حُرْمَةٌ فَلِلْمَاءِ الْوَارِدِ عَلَيْهِ حُرْمَةٌ، فَكَيْفَ يَمْتَزِجُ مَاءٌ بِمَاءٍ غَيْرِ مُحْتَرَمٍ، وَفِي ذَلِكَ خَلْطُ الْأَنْسَابِ الصَّحِيحَةِ بِالْمِيَاهِ الْفَاسِدَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً} [النور: 3]، فَهِيَ آيَةٌ مُشْكِلَةٌ، اخْتَلَفَ فِيهَا السَّلَفُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَالْمُتَحَصِّلُ فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نِكَاحِ امْرَأَةٍ كَانَتْ تُسَافِحُ وَتَشْتَرِطُ لَهُ أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ كُنَّ نِسَاءٌ مَعْلُومَاتٌ يَفْعَلْنَ ذَلِكَ فَيَتَزَوَّجْنَ الرَّجُلَ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ لِتُنْفِقَ الْمَرْأَةُ مِنْهُنَّ عَلَيْهِ، فَنَهَاهُمْ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ». الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَنَحْوُهُ عَنْ قَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ عَنْ بَغَايَا كُنَّ يَنْصِبْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ كَرَايَةِ الْبَيْطَارِ، وَكَانَتْ بُيُوتُهُنَّ تُسَمَّى الْمَوَاخِيرَ، لَا يَدْخُلُ إلَيْهِنَّ إلَّا زَانٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَوْ مُشْرِكٍ، فَحَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. الثَّالِثُ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَا يَزْنِي الزَّانِي إلَّا بِزَانِيَةٍ مِثْلِهِ أَوْ مُشْرِكَةٍ، وَنَحْوُهُ عَنْ عِكْرِمَةَ. الرَّابِعُ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: نَسَخَهَا قَوْلُهُ: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32]. وَقَالَ أَنَسٌ: مِنْ أَيَامَى الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ أَكَّدَ رِوَايَةَ ابْنِ عُمَرَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «كَانَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ، وَكَانَ رَجُلٌ يَحْمِلُ الْأَسْرَى مِنْ مَكَّةَ

حَتَّى يَأْتِيَ بِهِمْ الْمَدِينَةَ. قَالَ: وَكَانَتْ امْرَأَةُ بَغْيٍ بِمَكَّةَ يُقَالُ لَهَا عَنَاقُ، وَكَانَ صَدِيقًا لَهَا، وَإِنَّهُ وَاعَدَ رَجُلًا مِنْ أَسْرَى مَكَّةَ يَحْمِلُهُ. قَالَ: فَجِئْت حَتَّى انْتَهَيْت إلَى ظِلِّ حَائِطٍ مِنْ حَوَائِطِ مَكَّةَ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ قَالَ: فَجَاءَتْ عَنَاقُ فَأَبْصَرَتْ سَوَادَ ظِلِّي بِجَنْبِ الْحَائِطِ، فَلَمَّا انْتَهَتْ إلَيَّ عَرَفَتْنِي، فَقَالَتْ: مَرْثَدٌ، فَقُلْت: مَرْثَدٌ. فَقَالَتْ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا، هَلُمَّ فَبِتْ عِنْدَنَا اللَّيْلَةَ. قَالَ: قُلْت: يَا عَنَاقُ، حَرَّمَ اللَّهُ الزِّنَا قَالَتْ: يَا أَهْلَ الْخِيَامِ، هَذَا الرَّجُلُ يَحْمِلُ أَسْرَاكُمْ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ: حَتَّى قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَأَنْكِحُ عَنَاقَ؟ فَأَمْسَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ شَيْئًا، فَنَزَلَتْ: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور: 3]. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا مَرْثَدُ، الزَّانِي لَا يَنْكِحُ وَقَرَأَهَا إلَى آخِرِهَا، وَقَالَ لَهُ: فَلَا تَنْكِحْهَا». فَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَغَايَا مَعْلُومَاتٍ فَكَلَامٌ صَحِيحٌ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ مَعْنَاهُ الزَّانِي لَا يُزَانِي إلَّا زَانِيَةً فَمَا أَصَابَ فِيهِ غَيْرَهُ، وَهِيَ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ الْمَأْثُورَةِ عَنْ مُعَلِّمِهِ الْمُعَظَّمِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: لَا يَنْكِحُ الْمَحْدُودُ إلَّا مَحْدُودَةً، وَهُوَ الْحَسَنُ، يُرِيدُ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: الزَّانِيَةُ الَّتِي تَبَيَّنَ زِنَاهَا، وَيَصِحُّ أَنْ يُخْبِرَ عَنْهَا بِهِ؛ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا فِيمَنْ نَفَذَ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ وَقَبْلَ نُفُوذِ الْحَدِّ هِيَ مُحْصَنَةٌ يَحُدُّ قَاذِفُهَا، وَهُوَ الَّذِي مَنَعَ مِنْ نِكَاحِهَا وَمَعَهُ نَتَكَلَّمُ وَعَلَيْهِ نَحْتَجُّ. وَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: إنَّ مَعْنَاهُ إذَا زَنَى بِامْرَأَةٍ فَلَا يَتَزَوَّجُهَا فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا، لَكِنَّ مَخْرَجَهُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ تَحْرِيمَ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَتَكُونُ الْآيَةُ مَسُوقَةً لِبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَسْتَرْسِلُ عَلَى الْمِيَاهِ الْفَاسِدَةِ بِالنِّكَاحِ إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٍ كَمَا سَبَقَ، أَوْ يَكُونُ مَعْنَاهُ مَا اخْتَارَهُ عَالِمُ الْقُرْآنِ؛ قَالَ: الْمُرَادُ بِالنِّكَاحِ الْوَطْءِ، وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْبَغَايَا الْمُشْرِكَاتِ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الزَّانِيَةَ مِنْ الْمُسْلِمَاتِ حَرَامٌ عَلَى الْمُشْرِكِ، وَأَنَّ الزَّانِيَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَرَامٌ عَلَيْهِ الْمُشْرِكَاتُ، فَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الزَّانِي لَا يَزْنِي إلَّا بِزَانِيَةٍ

مسألة معنى قوله تعالى ولا متخذات أخدان

لَا تَسْتَحِلُّ الزِّنَا أَوْ بِمُشْرِكَةٍ تَسْتَحِلُّهُ، وَالزَّانِيَةُ لَا يَزْنِي بِهَا إلَّا زَانٍ لَا يَسْتَحِلُّ الزِّنَا أَوْ مُشْرِكٌ يَسْتَحِلُّهُ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ فَمَا فَهِمَ النَّسْخَ؛ إذْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا بَيْنَ الْآيَتَيْنِ الْمُتَعَارِضَتَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ بَلْ الْآيَةُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا عَاضِدَةٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَمُوَافَقَةٌ لَهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ نِكَاحَ الزُّنَاةِ وَالزَّوَانِي، وَأَمَرَ بِنِكَاحِ الصَّالِحَاتِ وَالصَّالِحِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ فَكَذَلِكَ هُوَ مَعْنَاهَا، وَهِيَ خَبَرٌ عَنْ حُكْمِ الشَّرْعِ، فَإِنْ وُجِدَ خِلَافُ الْمَخْبَرِ فَلَيْسَ مِنْ الشَّرْعِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء: 25]: كَانَتْ الْبَغَايَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى قِسْمَيْنِ: مَشْهُورَاتٌ وَمُتَّخِذَاتُ أَخْدَانٍ، وَكَانُوا بِعُقُولِهِمْ يُحَرِّمُونَ مَا ظَهَرَ مِنْ الزِّنَا وَيَحِلُّونَ مَا بَطَنَ؛ فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ الْجَمِيعِ. [مَسْأَلَة لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي وَلْيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]. يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَتَى وَفَتَاةً وَصْفٌ لِلْعَبِيدِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي وَلْيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي». وَمِنْ هَاهُنَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ يُوشَعَ بْنَ نُونٍ كَانَ عَبْدًا لِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} [الكهف: 60]؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الثَّانِيَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ] ٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النساء: 25]. فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَعْنَى الْإِحْصَانِ هَاهُنَا مِمَّا اُخْتُلِفَ فِيهِ؛ فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ الْإِسْلَامُ؛ قَائِلُهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: أُحْصِنَّ: تَزَوَّجْنَ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْعَبْدُ حُرَّةً وَالْأَمَةُ حُرًّا، وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُحَدُّ الْكَافِرَةُ عَلَى الزِّنَا، وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِسْلَامُ وَلَا النِّكَاحُ. وَقُرِئَ أَحْصَنَّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَأُحْصِنَّ بِضَمِّهَا، فَمَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ قَالَ مَعْنَاهُ: أَسْلَمْنَ، وَالْإِسْلَامُ أَحَدُ مَعَانِي الْإِحْصَانِ. وَمَنْ قَرَأَ أُحْصِنَّ بِالضَّمِّ قَالَ مَعْنَاهُ: زُوِّجْنَ. وَقَدْ يُحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَحْصَنَّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ زُوِّجْنَ، فَيُضَافُ الْفِعْلُ إلَيْهِنَّ لِمَا وُجِدَ بِهِنَّ. وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أُحْصِنَّ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ: أَسْلَمْنَ: مَعْنَاهُ مُنِعْنَ بِالْإِسْلَامِ مِنْ أَحْكَامِ الْكُفْرِ. وَالظَّاهِرُ فِي الْإِطْلَاقِ هُوَ الْأَوَّلُ. وَمَنْ شَرَطَ نِكَاحَ الْحُرِّ وَالْحُرَّةِ لَا مَعْنَى لَهُ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. وَالْإِحْصَانُ هُوَ الْإِسْلَامُ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ دَرَجَاتِ الْإِحْصَانِ، فَلَا يَنْزِلُ عَنْهُ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَنْكِحَ الْحَرَائِرَ الْمُؤْمِنَاتِ فَلْيَنْكِحْ الْمَمْلُوكَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، فَإِذَا أَسْلَمْنَ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْحَرَائِرِ مِنْ الْحَدِّ. وَلَا يَتَنَصَّفُ الرَّجْمُ، فَلْيَسْقُطْ اعْتِبَارُهُ. وَيَكُونُ الْمُرَادُ مَا يَتَشَطَّرُ وَهُوَ الْجَلْدُ، وَعَلَى قَوْلِ الْآخَرِينَ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَإِذَا تَزَوَّجْنَ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْأَبْكَارِ مِنْ الْعَذَابِ، وَهُوَ الْجَلْدُ. وَنَحْنُ أَسَدُّ تَأْوِيلًا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: الْمُؤْمِنَاتُ، يَقْتَضِي الْإِسْلَامَ. فَقَوْلُهُ: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} [النساء: 25] يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى فَائِدَةٍ مُجَرَّدَةٍ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُسْلِمَةَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، فَتَنَاوَلَهَا عُمُومُ هَذَا الْخِطَابِ. فَإِنْ قِيلَ: فَخُذُوا الْكَافِرَ بِهَذَا الْعُمُومِ.

مسألة الأمة إذا زنت ولم تحصن

قُلْنَا: الْكَافِرُ لَهُ عَهْدٌ أَلَّا نَعْتَرِضَ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالرَّقِيقُ لَا عَهْدَ لَهُ. قُلْنَا: الرِّقُّ عَهْدٌ إذَا ضُرِبَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ بَعْدَهُ سَبِيلٌ إلَيْهِ إلَّا بِطَرِيقِ التَّأْدِيبِ وَالْمَصْلَحَةِ لِتَظَاهُرِهِ بِالْفَاحِشَةِ إنْ أَظْهَرَهَا. [مَسْأَلَة الْأَمَةِ إذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصِنْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى الْأَئِمَّةُ بِأَجْمَعِهِمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ «أَنَّ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ الْأَمَةِ إذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصِنْ. قَالَ: إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ثَلَاثًا ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ». قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: لَا أَدْرِي بَعْدَ الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مَنْ أَحْصَنَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُحْصِنْ». وَهَذَا نَصُّ عُمُومٍ فِي جَلْدِ مَنْ تَزَوَّجَ وَمَنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: يُقِيمُ السَّيِّدُ الْحَدَّ عَلَى مَمْلُوكِهِ دُونَ رَأْي الْإِمَامِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقِيمُهُ إلَّا نَائِبُ اللَّهِ وَهُوَ الْإِمَامُ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ} [النساء: 25] وَلَمْ يُعَيِّنْ مَنْ يُقِيمُهُ؛ فَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعَلَ ذَلِكَ إلَى السَّادَاتِ، وَهُمْ نُوَّابُ اللَّهِ فِي ذَلِكَ، كَمَا يَنُوبُ آحَادُ النَّاسِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ. فَإِنْ قِيلَ: وَكَيْفَ يَتَّفِقُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُقِيمَ حَدَّ الزِّنَا؛ أَيُقِيمُهُ بِعِلْمِهِ أَمْ بِالشُّهُودِ فَيَتَصَدَّى مَنْصِبَ قَاضٍ وَتُؤَدَّى عِنْدَهُ الشَّهَادَةُ؟

مسألة دخول الذكور تحت الإناث في قوله تعالى فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب

قُلْنَا: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبُ عَلَيْهَا». وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ. وَالزِّنَا يَتَبَيَّنُ بِالشَّهَادَةِ، وَذَلِكَ يَكُونُ عِنْدَ الْحَاكِمِ؛ أَوْ بِالْحَمْلِ، وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ السَّيِّدُ إلَى الْإِمَامِ، وَلَكِنَّهُ يُقِيمُهُ عَلَيْهَا بِمَا ظَهَرَ مِنْ حَمْلِهَا إذَا وَضَعَتْهُ وَفَصَلَتْ مِنْ نِفَاسِهَا؛ لِقَوْلِ عَلِيٍّ فِي الصَّحِيحِ: «إنَّ أَمَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَنَتْ فَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِدَهَا الْحَدَّ، فَوَجَدْتهَا حَدِيثَةَ عَهْدٍ بِنِفَاسٍ، فَخِفْت إنْ أَنَا جَلَدْتهَا أَنْ أَقْتُلَهَا فَتَرَكْتهَا فَأَخْبَرْته. فَقَالَ: أَحْسَنْت». وَلِهَذَا خَاطَبَ السَّادَاتِ بِذِكْرِ الْإِمَاءِ اللَّاتِي يَتَبَيَّنُ زِنَاهُنَّ بِالْحَمْلِ، وَسَكَتَ عَنْ الْعَبِيدِ الَّذِينَ لَا يَظْهَرُ زِنَاهُمْ إلَّا بِالشَّهَادَةِ. [مَسْأَلَة دُخُول الذُّكُورُ تَحْت الْإِنَاثِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: دَخَلَ الذُّكُورُ تَحْتَ الْإِنَاثِ فِي قَوْلِهِ: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] بِعِلَّةِ الْمَمْلُوكِيَّةِ، كَمَا دَخَلَ الْإِمَاءُ تَحْتَ قَوْلِهِ: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ»؛ بِعِلَّةِ سِرَايَةِ الْعِتْقِ وَتَغْلِيبِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ عَلَى حَقِّ الْمِلْكِ. وَأَبْيَنُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] دُخُولَ الْمُحْصَنِينَ فِيهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة اخْتِلَاف النَّاس فِي قَوْله تَعَالَى ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25]: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْعَنَتِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الزِّنَا؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ الْإِثْمُ.

مسألة نكاح الأمة

الثَّالِثُ: الْعُقُوبَةُ. الرَّابِعُ: الْهَلَاكُ. الْخَامِسُ: قَالَ الطَّبَرِيُّ: كُلُّ مَا يُعْنِتُ الْمَرْءَ عَنَتٌ، وَهَذِهِ كُلُّهَا تُعْنِتُهُ، وَهَذَا صَحِيحٌ؛ فَمَنْ خَافَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ وُجِدَ شَرْطُهُ، وَأَصْلُهُ الزِّنَا كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَعَلَيْهِ عُوِّلَ. [مَسْأَلَة نِكَاحِ الْأَمَةِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [النساء: 25]: يَدُلُّ عَلَى كَرَاهِيَةِ نِكَاحِ الْأَمَةِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ خَوْفِ إرْقَاقِ الْوَلَدِ وَجَوَازِ خَوْفِ هَلَاكِ الْمَرْءِ؛ فَاجْتَمَعَتْ فِيهِ مَضَرَّتَانِ دُفِعَتْ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى، فَقُدِّمَ الْمُتَحَقِّقُ عَلَى الْمُتَوَهَّمِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَزْلَ حَقُّ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقًّا لِلرَّجُلِ لَكَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَيَعْزِلَ، فَيَنْقَطِعَ خَوْفُ إرْقَاقِ الْوَلَدِ فِي الْغَالِبِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ حَقٌّ إلَّا فِي الْإِيلَاجِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ النِّكَاحَ إنَّمَا عَقْدٌ لِلْوَطْءِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ لَهُ فِيهِ حَقٌّ، وَكَمَا أَنَّ لِلرَّجُلِ فِيهِ حَقَّ الْغَايَةِ وَهُوَ الْإِيلَاجُ وَالتَّكْرَارُ فَلِلْمَرْأَةِ فِيهِ غَايَةُ الْإِنْزَالِ وَتَمَامُ ذَوْقِ الْعُسَيْلَةِ، فَبِهِ تُتِمُّ اللَّذَّةُ لِلْفَرِيقَيْنِ؛ فَإِنْ أَرَادَ الرَّجُلُ إسْقَاطَ حَقِّهِ وَالْوُقُوفَ دُونَ هَذِهِ الْغَايَةِ فَلِلْمَرْأَةِ حَقُّ بُلُوغِهَا. [الْآيَة الثَّالِثَةُ وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ] ِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 30] الْآيَةُ فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:

مسألة بيع العربان

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقَوْلُ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَهُوَ أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً} [النساء: 29]: التِّجَارَةُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُعَاوَضَةِ، وَمِنْهُ الْأَجْرُ الَّذِي يُعْطِيهِ الْبَارِي عِوَضًا عَنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي هِيَ بَعْضٌ مِنْ فَضْلِهِ، فَكُلُّ مُعَاوَضَةٍ تِجَارَةٌ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ الْعِوَضُ، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ: {بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] أَخْرَجَ مِنْهَا كُلَّ عِوَضٍ لَا يَجُوزُ شَرْعًا مِنْ رِبًا أَوْ جَهَالَةٍ أَوْ تَقْدِيرِ عِوَضٍ فَاسِدٍ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَوُجُوهِ الرِّبَا، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَكُلُّ مُعَاوِضٍ إنَّمَا يَطْلُبُ الرِّبْحَ إمَّا فِي وَصْفِ الْعِوَضِ أَوْ فِي قَدْرِهِ؛ وَهُوَ أَمْرٌ يَقْتَضِيهِ الْقَصْدُ مِنْ التَّاجِرِ لَا لَفْظُ التِّجَارَةِ. [مَسْأَلَة بَيْعُ الْعُرْبَانِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مِنْ جُمْلَةِ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ بَيْعُ الْعُرْبَانِ، وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْكَ السِّلْعَةَ وَيُعْطِيكَ دِرْهَمًا عَلَى أَنَّهُ إنْ اشْتَرَاهَا تَمَّمَ الثَّمَنَ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِهَا فَالدِّرْهَمُ لَكَ، وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْعُرْبَانِ». الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَمَّا شُرِطَ الْعِوَضُ فِي أَكْلِ الْمَالِ وَصَارَتْ تِجَارَةً خَرَجَ عَنْهَا كُلُّ عَقْدٍ لَا عِوَضَ فِيهِ يَرِدُ عَلَى الْمَالِ، كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، فَلَا يَتَنَاوَلُهُ مُطْلَقُ اللَّفْظِ، وَجَازَتْ عُقُودُ الْبُيُوعَاتِ بِأَدِلَّةٍ أُخَرَ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى مَا عُرِفَ، وَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الرِّبْحُ هُوَ مَا يَكْتَسِبُهُ الْمَرْءُ زَائِدًا عَلَى قِيمَةِ مُعَوِّضِهِ فَيَأْذَنُ لَهُ فِيهِ إذَا كَانَ مَعَهُ أَصْلُ الْعِوَضِ فِي الْمُعَامَلَةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الرِّبْحُ بِحَسَبِ حَاجَةِ الْمُشْتَرِي وَالْبَائِعِ إلَى عَقْدِ الصَّفْقَةِ

فَالزِّيَادَةُ أَبَدًا تَكُونُ مِنْ جِهَةِ الْمُحْتَاجِ؛ إنْ احْتَاجَ الْبَائِعُ أَعْطَى زَائِدًا عَلَى الثَّمَنِ مِنْ قِيمَةِ سِلْعَتِهِ، وَإِنْ احْتَاجَ الْمُشْتَرِي أَعْطَى زَائِدًا مِنْ الثَّمَنِ، وَذَلِكَ يَكُونُ يَسِيرًا فِي الْغَالِبِ، فَإِنْ كَانَ الرِّبْحُ مُتَفَاوِتًا فَاخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ؛ فَأَجَازَهُ جَمِيعُهُمْ، وَرَدَّهُ مَالِكٌ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ إذَا كَانَ الْمَغْبُونُ لَا بَصَرَ لَهُ بِتِلْكَ السِّلْعَةِ، وَلِذَا جَوَّزَهُ فَرَاعَى أَنَّ الْمَغْبُونَ مُفْرِطٌ؛ إذْ كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ وَيُشَاوِرَ مَنْ يَعْلَمُ أَوْ يُوَكِّلَهُ، وَإِذَا رَدَدْنَاهُ فَلِأَنَّهُ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ؛ إذْ لَيْسَ تَبَرُّعًا وَلَا مُعَاوَضَةً؛ فَإِنَّ الْمُعَاوَضَةَ عِنْدَ النَّاسِ لَا تَخْرُجُ إلَى هَذَا التَّفَاوُتِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْخِلَابَةِ، وَالْخِلَابَةُ مَمْنُوعَةٌ شَرْعًا مَعَ ضَعْفِهَا كَالْغِلَابَةِ وَهُوَ الْغَصْبُ، مَمْنُوعَةٌ شَرْعًا مَعَ قُوَّتِهَا، وَتَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ». أَلَا تَرَى أَنَّ تَلَقِّيَ الرَّكْبَانِ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْخِيَارُ عِنْدَ تَبَيُّنِ الْحَالِ، وَهُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ قَبْلَ هَذَا فِي مَوْضِعَيْنِ، فَلْنَجْمَعْ الْكَلَامَ عَلَى الْآيَةِ فِيهَا كُلِّهَا. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ عِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُمَا: خَرَجَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ التَّبَرُّعَاتُ كُلُّهَا، وَإِنَّمَا جَوَّزَ الشَّرْعُ التِّجَارَةَ وَبَقِيَ غَيْرُهَا عَلَى مُقْتَضَى النَّهْيِ حَتَّى نَسَخَهَا قَوْلُهُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا} [النور: 61]؛ وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا؛ فَإِنَّ الْآيَةَ لَمْ تَقْتَضِ تَحْرِيمَ التَّبَرُّعَاتِ؛ وَإِنَّمَا اقْتَضَتْ تَحْرِيمَ الْمُعَاوَضَةِ الْفَاسِدَةِ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]: وَهُوَ حَرْفٌ أُشْكِلَ عَلَى الْعُلَمَاءِ حَتَّى اضْطَرَبَتْ فِيهِ آرَاؤُهُمْ: قَالَ بَعْضُهُمْ: التَّرَاضِي هُوَ التَّخَايُرُ بَعْدَ عَقْدِ الْبَيْعِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ مِنْ الْمَجْلِسِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَشُرَيْحٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَتَعَلَّقُوا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ: «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا إلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ»

وَقَالَ آخَرُونَ: إذَا تَوَاجَبَا بِالْقَوْلِ فَقَدْ تَرَاضَيَا، يُرْوَى عَنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالصَّحَابَةُ. وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ: إلَّا تِجَارَةً تَعَاقَدْتُمُوهَا وَافْتَرَقْتُمْ بِأَبْدَانِكُمْ عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ فِيهَا؛ وَهَذِهِ دَعْوَى إنَّمَا يَدُلُّ مُطْلَقُ الْآيَةِ عَلَى التِّجَارَةِ عَلَى الرِّضَا، وَذَلِكَ يَنْقَضِي بِالْعَقْدِ، وَيَنْقَطِعُ بِالتَّوَاجُبِ، وَبَقَاءِ التَّخَايُرِ فِي الْمَجْلِسِ لَا تَشْهَدُ لَهُ الْآيَةُ لَا نُطْقًا وَلَا تَنْبِيهًا، وَكُلُّ آيَةٍ وَرَدَتْ فِي ذِكْرِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْمُدَايِنَةِ وَالْمُعَامَلَةِ إنَّمَا هِيَ مُطْلَقَةٌ لَا ذِكْرَ لِلْمَجْلِسِ فِيهَا وَلَا لِافْتِرَاقِ الْأَبْدَانِ مِنْهَا؛ كَقَوْلِهِ: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]؛ فَإِذَا عَقَدَ وَلَمْ يُبْرِمْ لَمْ يَكُنْ وَفَاءٌ، وَإِذَا عَقَدَ وَرَجَعَ عَنْ عَقْدِهِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْكَلَامِ وَالسُّكُوتِ فَرْقٌ، بَلْ السُّكُوتُ خَيْرٌ مِنْهُ، لِأَنَّهُ تَعَبٌ وَلَا الْتَزَمَ وَلَا أَخْبَرَ عَنْ شَيْءٍ، فَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ، وَتَقَدَّمَ الْعُذْرُ، وَإِذَا عَقَدَ وَحَلَّ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ كَلَامُهُ تَعَبًا وَلَغْوًا، وَمَا الْإِنْسَانُ لَوْلَا اللِّسَانُ، وَقَدْ أَخْبَرَ بِلِسَانِهِ عَنْ عَقْدِهِ وَرِضَاهُ، فَأَيُّ شَيْءٍ بَقِيَ بَعْدَ هَذَا؟ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي آيَةِ الدَّيْنِ: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: 282]، فَإِذَا أَمْلَى وَكَتَبَ وَأَعْطَى الْأُجْرَةَ ثُمَّ عَادَ وَمَحَا مَا كَتَبَ كَانَ تَلَاعُبًا وَفَسْخًا لِعَقْدٍ آخَرَ قَدْ تَقَرَّرَ. وَكَذَلِكَ قَالَ: {وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} [البقرة: 282]، وَإِذَا حَلَّهُ فَقَدْ بَخَسَهُ كُلَّهُ. وَكَذَلِكَ قَالَ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]، وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَشْهَدُونَ؟ وَلَمْ يَلْزَمْ عَقْدٌ وَلَا انْبَرَمَ أَمْرٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} [البقرة: 282] يَلْزَمُ مِنْهُ مَا لَزِمَ مِنْ قَوْلِهِ: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: 282]. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] فَيُضِيفُ عَقْدًا إلَى غَيْرِ عَقْدٍ، وَيَرْتَهِنُ إلَى غَيْرِ وَاجِبٍ

مسألة معنى قوله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم

وَاعْتِبَارُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَحْدَهُ مُبْطِلٌ لِهَذَا كُلِّهِ، فَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى أَنْ يُرَاعَى؟ وَأَيُّ الْحَالَيْنِ أَقْوَى أَنْ يُعْتَبَرَ؟ فَإِنْ قِيلَ: أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ فِي أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ لَا يَفْتَرِقَانِ حَتَّى يَنْقَضِيَ ذَلِكَ كُلُّهُ. قُلْنَا: الْغَالِبُ ضِدُّهُ، وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ الشُّهُودِ حَتَّى يَقُومَ الْمُتَعَاقِدَانِ؟ هَذَا لَمْ يُعْهَدْ وَلَمْ يُتَّفَقْ. فَإِنْ تَعَلَّقُوا بِخَبَرِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ فَهَذَا خُرُوجٌ عَنْ الْقُرْآنِ إلَى الْأَخْبَارِ وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ بِمَا يَجِبُ، فَلَا نُدْخِلُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: هَذَا نَصٌّ عَلَى إبْطَالِ بَيْعِ الْمُكْرَهِ لِفَوَاتِ الرِّضَا فِيهِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى إبْطَالِ أَفْعَالِهِ كُلِّهَا حَمْلًا عَلَيْهِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: لَا تَقْتُلُوا أَهْلَ مِلَّتِكُمْ. الثَّانِي: لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. الثَّالِثُ: لَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بِفِعْلِ مَا نُهِيتُمْ عَنْهُ؛ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ وَالْأَكْثَرُ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَكُلُّهَا صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَقْعَدَ مِنْ بَعْضٍ فِي الدِّينِ مِنْ اللَّفْظِ وَاسْتِيفَاءِ الْمَعْنَى. وَاَلَّذِي يَصِحُّ عِنْدِي أَنَّ مَعْنَاهُ: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بِفِعْلِ مَا نُهِيتُمْ عَنْهُ، فَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ تَحْتَهُ، وَلَكِنَّ هَاهُنَا دَقِيقَةٌ مِنْ النَّظَرِ؛ وَهِيَ أَنَّ هَذَا الَّذِي اخْتَرْنَاهُ يَسْتَوْفِي الْمَعْنَى، وَلَكِنَّهُ مَجَازٌ فِي لَفْظِ الْقَتْلِ، وَعَلَى حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى صَرِيحِ الْقَتْلِ يَكُونُ قَوْلُهُ: {أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] مَجَازًا أَيْضًا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْمَجَازِ فَمَجَازٌ يَسْتَوْفِي الْمَعْنَى وَيَقُومُ بِالْكُلِّ أَوْلَى؛ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11]، فَتَدَبَّرُوهُ عَلَيْهِ.

مسألة فعل الناسي والخاطئ والمكره

[مَسْأَلَة فِعْلَ النَّاسِي وَالْخَاطِئِ وَالْمُكْرَهِ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا} [النساء: 30]: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِعْلَ النَّاسِي وَالْخَاطِئِ وَالْمُكْرَهِ لَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَا تَتَّصِفُ بِالْعُدْوَانِ وَالظُّلْمِ، إلَّا فَرْعٌ وَاحِدٌ مِنْهَا وَهُوَ الْمُكْرَهُ عَلَى الْقَتْلِ، فَإِنَّ فِعْلَهُ يَتَّصِفُ إجْمَاعًا بِالْعُدْوَانِ؛ فَلَا جَرَمَ يُقْتَلُ عِنْدَنَا بِمَنْ قَتَلَهُ، وَلَا يَنْتَصِبُ الْإِكْرَاهُ عُذْرًا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا} [النساء: 30]: اُخْتُلِفَ فِي مَرْجِعِهِ؛ فَقِيلَ إلَى مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء: 19] إلَى هَاهُنَا؛ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَهُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ وَعِيدُهُ فِيهِ. وَقِيلَ: إنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْكُلِّ؛ لِأَنَّ كَوْنَ وَعِيدِهِ جَاءَ مَعَهُ مَخْصُوصًا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْعُمُومِ أَيْضًا؛ إذْ لَا تَنَاقُضَ فِيهِ؛ بَلْ فِيهِ تَأْكِيدٌ [لَهُ]. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَاهُنَا دَقِيقَةٌ أَغْفَلَهَا الْعُلَمَاءُ؛ وَذَلِكَ أَنَّهَا إذَا نَزَلَتْ لَا نَعْلَمُ هَلْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ مَا سَبَقَهَا مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إلَى هُنَا مُنَزَّلًا مَكْتُوبًا، أَمْ نَزَلَ جَمِيعُهُ بَعْدَ نُزُولِهَا؟ وَإِذَا عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ تَقَدَّمَ نُزُولًا وَكِتَابَةً لَا يَقْتَضِي قَوْلُهُ ذَلِكَ إشَارَةً إلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ دُونَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوَّلِ الْقُرْآنِ دُونَ جَمِيعِ مَا فِيهِ مِنْ مَمْنُوعٍ مُحَرَّمٍ. فَالْأَصَحُّ أَنَّ قَوْلَهُ: {ذَلِكَ} [النساء: 30] يَرْجِعُ إلَى قَوْلِهِ: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] يَقِينًا؛ وَغَيْرُهُ مُحْتَمَلٌ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الرَّابِعَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ] الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء: 32].

مسألة حقيقة التمني

فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: يُرْوَى «أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَغْزُو الرِّجَالُ وَلَا نَغْزُو؟ وَيَذْكُرُ الرِّجَالُ وَلَا نَذْكُرُ؟ وَلَنَا نِصْفُ الْمِيرَاثِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32]». [مَسْأَلَةُ حَقِيقَة التَّمَنِّي] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي حَقِيقَةِ التَّمَنِّي: وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْإِرَادَةِ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبِلِ، كَالتَّلَهُّفِ نَوْعٌ مِنْهَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَاضِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ التَّمَنِّي؛ لِأَنَّ فِيهِ تَعَلُّقَ الْبَالِ بِالْمَاضِي وَنِسْيَانَ الْآجِلِ، وَلِأَجْلِ مَا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ وَقَعَ النَّهْيُ عَنْهُ، وَتَفَطَّنَ الْبُخَارِيُّ لَهُ فَعَقَدَ لَهُ فِي جَامِعِهِ كِتَابًا فَقَالَ: كِتَابُ التَّمَنِّي، وَأَدْخَلَ فِيهِ أَبْوَابًا وَمَسَائِلَ هُنَاكَ تُرَى مُسْتَوْفَاةً بَالِغَةً إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمُرَادُ هَاهُنَا النَّهْيُ عَنْ التَّمَنِّي الَّذِي تَسْتَحْسِنُهُ عِنْدَ الْغَيْرِ حَتَّى يَنْتَقِلَ إلَيْكَ، وَهُوَ الْحَسَدُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مُطْلَقًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. أَمَّا أَنَّهُ يَجُوزُ تَمَنِّي مِثْلِهِ وَهِيَ الْغِبْطَةُ، فَيُسْتَحَبُّ الْغَبْطُ فِي الْخَيْرِ؛ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ يَتْلُو الْقُرْآنَ، وَآخَرُ يَعْمَلُ الْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُهَا». هَذَا مَعْنَاهُ. قَالَ: اعْمَلُوا وَلَا تَتَمَنَّوْا، فَلَيْتَكُمْ قُمْتُمْ بِمَا أُوتِيتُمْ، وَاسْتَطَعْتُمْ مَا عِنْدَكُمْ. وَأَحْسَنُ عِبَارَةٍ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الصُّوفِيَّةِ: كُنْ طَالِبَ حُقُوقِ مَوْلَاكَ وَلَا تَتَّبِعْ مُتَعَلِّقَاتِ هَوَاكَ.

مسألة معنى قوله تعالى للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن

وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدٌ الْمَالَ وَمَا يَدْرِيهِ لَعَلَّ هَلَاكَهُ فِيهِ. وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ إذَا تَمَنَّاهُ لِلدُّنْيَا، وَأَمَّا إذَا تَمَنَّاهُ لِلْخَيْرِ فَقَدْ جَوَّزَهُ الشَّرْعُ كَمَا تَقَدَّمَ؛ فَيَتَمَنَّاهُ الْعَبْدُ لِيَصِلَ بِهِ إلَى الرَّبِّ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} [النساء: 32]: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: أَمَّا نَصِيبُهُمْ فِي الْأَجْرِ فَسَوَاءٌ؛ كُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ كَذَلِكَ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ. وَأَمَّا نَصِيبُهُمْ فِي مَالِ الدُّنْيَا فَبِحَسَبِ مَا عَلِمَهُ اللَّهُ مِنْ الْمَصَالِحِ، وَرَكَّبَ الْخَلْقَ عَلَيْهِ مِنْ التَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ رَتَّبَ أَنْصِبَاءَهُمْ، فَلَا تَتَمَنَّوْا مَا حَكَمَ اللَّهُ بِهِ وَأَحْكَمَ بِمَا عَلِمَ وَدَبَّرَ حُكْمَهُ. [الْآيَة الْخَامِسَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ] َ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [النساء: 33]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَوْلَى فِي لِسَانِ الْعَرَبِ يَنْطَلِقُ عَلَى ثَمَانِيَةِ مَعَانٍ، قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ " الْأَمَدِ " وَغَيْرِهِ، وَأَصْلُهُ مِنْ الْوَلِيِّ وَهُوَ الْقُرْبُ، وَتَخْتَلِفُ دَرَجَاتُ الْقُرْبِ وَأَسْبَابُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَعْنَاهُ مَوْلَى الْعَصَبَةِ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَهَذَا صَحِيحٌ لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: {مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء: 33]. وَلَيْسَ بَعْدَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إلَّا الْعَصَبَةُ، وَيُفَسِّرُهُ وَيُعَضِّدُهُ حَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا أَبْقَتْ الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ».

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمَوْلَى الْمُنْعِمُ بِالْعِتْقِ فِي حُكْمِ الْقَرِيبِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِلْوَلَاءِ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ». وَلَيْسَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ نَسِيبًا وَلَا وَارِثًا؛ وَإِنَّمَا ثَبَتَ حُكْمُ النَّسَبِ مِنْ إحْدَى الْجِهَتَيْنِ، فَكَأَنَّ الْوَلَاءَ أُبُوَّةٌ لِأَنَّهُ أَوْجَدَهُ بِالْعِتْقِ حُكْمًا، كَمَا أَوْجَدَ الْأَبُ ابْنَهُ بِالِاكْتِسَابِ لِلْوَطْءِ حِسًّا. قَالَ طَاوُسٌ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: هُوَ وَارِثٌ؛ لِأَنَّ حُكْمَ النَّسَبِ إذَا ثَبَتَ مِنْ إحْدَى الْجِهَتَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ مِنْ الْأُخْرَى، لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ». وَاسْتَهَانَ الْعُلَمَاءُ بِهَذَا الْكَلَامِ، وَهِيَ فِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ، وَقَدْ أَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ الْمِيرَاثَ إنَّمَا هُوَ فِي مُقَابَلَةِ الْإِنْعَامِ بِالْعِتْقِ؛ وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَهُ لُحْمَةً كَلُحْمَةِ النَّسَبِ. الثَّانِي: أَنَّ الْإِنْعَامَ بِالْعِتْقِ لَا مُقَابِلَ لَهُ إلَّا الْعِتْقُ مِنْ النَّارِ حَسْبَمَا قَابَلَهُ [بِهِ] النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَالَ: «أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ». وَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ عِنْدِي مُتَعَلَّقٌ إلَّا الْإِجْمَاعُ السَّابِقُ لِطَاوُسٍ فِيهِ وَلِمَنْ قَالَهُ بَعْدَهُ.

مسألة اختلاف الناس في قوله تعالى والذين عقدت أيمانكم

[مَسْأَلَة اخْتِلَافُ النَّاسِ فِي قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 33]: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ، فَتَارَةً قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ أَيُّهُمَا مَاتَ وِرْثَهُ الْآخَرُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 6] يَعْنِي تُؤْتُوهُمْ مِنْ الْوَصِيَّةِ جَمِيلًا وَإِحْسَانًا فِي الثُّلُثِ الْمَأْذُونِ فِيهِ. وَتَارَةً قَالَ: كَانَ الْمُهَاجِرُونَ لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ حَالَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمْ، فَكَانَ الْأَنْصَارِيُّ يَرِثُ الْمُهَاجِرِيَّ، وَالْمُهَاجِرِيُّ يَرِثُ الْأَنْصَارِيَّ؛ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، ثُمَّ انْقَطَعَ ذَلِكَ فَلَا تَوَاخِيَ بَيْنَ أَحَدٍ الْيَوْمَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ كَانُوا يَتَبَنَّوْنَ الْأَبْنَاءَ، فَرَدَّ اللَّهُ الْمِيرَاثَ إلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وَالْعَصَبَةِ، وَجَعَلَ لَهُمْ نَصِيبًا فِي الْوَصِيَّةِ. وَقَدْ أَحْكَمَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحِ بَيَانًا بِمَا رَوَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُرْهَانًا قَالَ الْبُخَارِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحِ: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} [النساء: 33] قَالَ: وَرَثَةٌ، {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 33] فَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَرِثُ الْمُهَاجِرِيُّ الْأَنْصَارِيَّ دُونَ ذِي رَحِمِهِ لِلْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} [النساء: 33] نُسِخَتْ. ثُمَّ قَالَ: وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ النَّصْرِ وَالرِّفَادَةِ وَالنَّصِيحَةِ، وَقَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ وَيُوَصَّى لَهُ، وَهَذَا غَايَةٌ لَيْسَ لَهَا مَطْلَبٌ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: حُكْمُ الْآيَةِ بَاقٍ مَنْ يَرِثُ بِهِ وَبِالِاشْتِرَاكِ فِي الدُّيُونِ لِاشْتِرَاكِهِمَا عِنْدَهُ فِي الْعَقْدِ، وَهَذَا بَابٌ قَدْ اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَاهُنَا مَعْنَى الْآيَةِ، وَحَقَّقْنَا أَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَهَا مَعْنًى.

الآية السادسة والعشرون قوله تعالى الرجال قوامون على النساء

[الْآيَة السَّادِسَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ] ِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء: 34]. فِيهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: ثَبَتَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: «جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: إنَّ زَوْجِي لَطَمَ وَجْهِي. قَالَ: بَيْنَكُمَا الْقِصَاصُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 114]. قَالَ حَجَّاجُ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ: فَأَمْسَكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34]». قَالَ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ: سَمِعْت الْحَسَنَ يَقْرَؤُهَا: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَقْضِيَ إلَيْكَ وَحْيَهُ، بِالنُّونِ وَنَصْبِ الْيَاءِ مِنْ " وَحْيَهُ ". الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {قَوَّامُونَ} [النساء: 34]: يُقَالُ قَوَّامٌ وَقَيِّمٌ، وَهُوَ فَعَّالٌ وَفَيْعَلٌ مِنْ قَامَ، الْمَعْنَى هُوَ أَمِينٌ عَلَيْهَا يَتَوَلَّى أَمْرَهَا، وَيُصْلِحُهَا فِي حَالِهَا؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَلَيْهَا لَهُ الطَّاعَةُ وَهِيَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الزَّوْجَانِ مُشْتَرَكَانِ فِي الْحُقُوقِ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] بِفَضْلِ الْقَوَّامِيَّةِ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْذُلَ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ، وَيُحْسِنَ الْعِشْرَةَ وَيَحْجُبَهَا، وَيَأْمُرَهَا بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَيُنْهِيَ إلَيْهَا شَعَائِرَ الْإِسْلَامِ مِنْ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ إذَا وَجَبَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهَا الْحِفْظُ لِمَالِهِ، وَالْإِحْسَانُ إلَى أَهْلِهِ، وَالِالْتِزَامُ لِأَمْرِهِ فِي الْحَجَبَةِ وَغَيْرِهَا إلَّا بِإِذْنِهِ، وَقَبُولِ قَوْلِهِ فِي الطَّاعَاتِ.

مسألة معنى قوله تعالى فالصالحات قانتات حافظات

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 34]: الْمَعْنَى إنِّي جَعَلْت الْقَوَّامِيَّةَ عَلَى الْمَرْأَةِ لِلرَّجُلِ لِأَجْلِ تَفْضِيلِي لَهُ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ لِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: الْأَوَّلُ: كَمَالُ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ. الثَّانِي: كَمَالُ الدِّينِ وَالطَّاعَةِ فِي الْجِهَادِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ عَلَى الْعُمُومِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا الَّذِي بَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَا رَأَيْت مِنْ نَاقِصَاتٍ عَقْلٍ وَدِينٍ أَسْلَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْكُنَّ. قُلْنَ: وَمَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَلَيْسَ إحْدَاكُنَّ تَمْكُثُ اللَّيَالِيَ لَا تُصَلِّي وَلَا تَصُومُ؛ فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا. وَشَهَادَةُ إحْدَاكُنَّ عَلَى النِّصْفِ مِنْ شَهَادَةِ الرَّجُلِ، فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا». وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى ذَلِكَ بِالنَّقْصِ، فَقَالَ: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282]. الثَّالِثُ: بَذْلُهُ الْمَالَ مِنْ الصَّدَاقِ وَالنَّفَقَةِ، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهَا هَاهُنَا. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ} [النساء: 34]: يَعْنِي مُطِيعَاتٌ، وَهُوَ أَحَدُ أَنْوَاعِ الْقُنُوتِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} [النساء: 34]: يَعْنِي غَيْبَةَ زَوْجِهَا، لَا تَأْتِي فِي مَغِيبِهِ بِمَا يَكْرَهُ أَنْ يَرَاهُ مِنْهَا فِي حُضُورِهِ؛ وَقَدْ قَالَ الشَّعْبِيُّ: إنَّ شُرَيْحًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي تَمِيمٍ يُقَالُ لَهَا زَيْنَبُ. قَالَ: فَلَمَّا تَزَوَّجْتهَا نَدِمْت حَتَّى أَرَدْت أَنْ أُرْسِلَ إلَيْهَا بِطَلَاقِهَا. فَقُلْت: لَا أَعْجَلُ حَتَّى يُجَاءَ بِهَا. قَالَ: فَلَمَّا جِيءَ بِهَا تَشَهَّدَتْ ثُمَّ قَالَتْ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ نَزَلْنَا مَنْزِلًا لَا نَدْرِي مَتَى نَظْعَنُ مِنْهُ، فَانْظُرْ الَّذِي تَكْرَهُ، هَلْ تَكْرَهُ زِيَارَةَ الْأَخْتَانِ؟ فَقُلْت: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي شَيْخٌ كَبِيرٌ، لَا أَكْرَهُ الْمُرَافَقَةَ، وَإِنِّي لَأَكْرَهُ مُلَالِ الْأَخْتَانِ قَالَ: فَمَا شَرَطْتُ شَيْئًا إلَّا وَفَتْ بِهِ قَالَ: فَأَقَامَتْ سَنَةً ثُمَّ

مسألة معنى قوله تعالى واللاتي تخافون نشوزهن

جِئْت يَوْمًا وَمَعَهَا فِي الْحَجَلَةِ إنْسٌ، فَقُلْت: إنَّا لِلَّهِ. فَقَالَتْ: أَبَا أُمَيَّةَ، إنَّهَا أُمِّي، فَسَلَّمَ عَلَيْهَا. فَقَالَتْ: اُنْظُرْ فَإِنْ رَابَكَ شَيْءٌ مِنْهَا فَأَوْجِعْ رَأْسَهَا. قَالَ: فَصَحِبَتْنِي ثُمَّ هَلَكَتْ قَبْلِي. قَالَ: فَوَدِدْت أَنِّي قَاسَمْتهَا عُمْرِي أَوْ مِتُّ أَنَا وَهِيَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ شُرَيْحٌ: رَأَيْت رِجَالًا يَضْرِبُونَ نِسَاءَهُمْ ... فَشُلَّتْ يَمِينِي يَوْمَ أَضْرِبُ زَيْنَبَا الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34]: يَعْنِي بِحِفْظِ اللَّهِ، وَهُوَ مَا يَخْلُقُهُ لِلْعَبْدِ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّاعَةِ؛ فَإِنَّهُ إذَا شَاءَ أَنْ يَحْفَظَ عَبْدَهُ لَمْ يَخْلُقْ لَهُ إلَّا قُدْرَةَ الطَّاعَةِ، فَإِنْ تَوَالَتْ كَانَتْ لَهُ عِصْمَةٌ وَلَا تَكُونُ إلَّا لِلْأَنْبِيَاءِ. [مَسْأَلَةُ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَاَللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء: 34]: قِيلَ فِيهِ: تَظُنُّونَ، وَقِيلَ تَتَيَقَّنُونَ؛ وَلِكُلِّ وَجْهٍ مَعْنًى يَأْتِي بَيَانُهُ فِي تَرْكِيبِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ: {نُشُوزَهُنَّ} [النساء: 34]: يَعْنِي امْتِنَاعَهُنَّ مِنْكُمْ؛ عَبَّرَ عَنْهُ بِالنُّشُوزِ، وَهُوَ مِنْ النَّشَزِ: الْمُرْتَفَعُ مِنْ الْأَرْضِ، وَإِنَّ كُلَّ مَا امْتَنَعَ عَلَيْكَ فَقَدْ نَشَزَ عَنْكَ حَتَّى مَاءُ الْبِئْرِ. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةِ: قَوْله تَعَالَى: {فَعِظُوهُنَّ} [النساء: 34]: وَهُوَ التَّذْكِيرُ بِاَللَّهِ فِي التَّرْغِيبِ لِمَا عِنْدَهُ مِنْ ثَوَابٍ، وَالتَّخْوِيفِ لِمَا لَدَيْهِ مِنْ عِقَابٍ، إلَى مَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِمَّا يُعَرِّفُهَا بِهِ مِنْ حُسْنِ الْأَدَبِ فِي إجْمَالِ الْعِشْرَةِ، وَالْوَفَاءِ بِذِمَامِ الصُّحْبَةِ، وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِ الطَّاعَةِ لِلزَّوْجِ، وَالِاعْتِرَافِ بِالدَّرَجَةِ الَّتِي لَهُ عَلَيْهَا؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَوْ أَمَرْت أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ إلَى أَحَدٍ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا».

مسألة معنى قوله تعالى واهجروهن في المضاجع

[مَسْأَلَةُ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34]: فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: يُوَلِّيهَا ظَهْرَهُ فِي فِرَاشِهِ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّانِي: لَا يُكَلِّمُهَا، وَإِنْ وَطِئَهَا؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَأَبُو الضُّحَى. الثَّالِثُ: لَا يَجْمَعُهَا وَإِيَّاهُ فِرَاشٌ وَلَا وَطْءٌ حَتَّى تَرْجِعَ إلَى الَّذِي يُرِيدُ؛ قَالَهُ إبْرَاهِيمُ وَالشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ. الرَّابِعُ: يُكَلِّمُهَا وَيُجَامِعُهَا، وَلَكِنْ بِقَوْلٍ فِيهِ غِلَظٌ وَشِدَّةٌ إذَا قَالَ لَهَا تَعَالِي؛ قَالَهُ سُفْيَانُ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: مَا ذَكَرَهُ مَنْ تَقَدَّمَ مُعْتَرَضٌ، وَذَكَرَ ذَلِكَ، وَاخْتَارَ أَنَّ مَعْنَاهُ يُرْبَطْنَ بِالْهِجَارِ وَهُوَ الْحَبْلُ فِي الْبُيُوتِ، وَهِيَ الْمُرَادُ بِالْمَضَاجِعِ، إذْ لَيْسَ لِكَلِمَةِ اُهْجُرُوهُنَّ إلَّا أَحَدُ ثَلَاثَةِ مَعَانٍ. فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْهَجْرِ الَّذِي هُوَ الْهَذَيَانُ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُدَاوَى بِذَلِكَ، وَلَا مِنْ الْهَجْرِ الَّذِي هُوَ مُسْتَفْحَشٌ مِنْ الْقَوْلِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِهِ؛ فَلَيْسَ لَهُ وَجْهٌ إلَّا أَنْ تَرْبِطُوهُنَّ بِالْهِجَارِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: يَا لَهَا هَفْوَةٌ مِنْ عَالِمٍ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَإِنِّي لَأَعْجَبَكُمْ مِنْ ذَلِكَ؛ إنَّ الَّذِي أَجْرَأَهُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يُصَرِّحَ بِأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْهُ، هُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ امْرَأَةَ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ كَانَتْ تَخْرُجُ حَتَّى عُوتِبَ فِي ذَلِكَ. قَالَ: وَعَتَبَ عَلَيْهَا وَعَلَى ضَرَّتِهَا، فَعَقَدَ شَعْرَ وَاحِدَةٍ بِالْأُخْرَى، وَضَرَبَهُمَا ضَرْبًا شَدِيدًا، وَكَانَتْ الضَّرَّةُ أَحْسَنُ اتِّقَاءً، وَكَانَتْ أَسْمَاءُ لَا تَتَّقِي؛ فَكَانَ الضَّرْبُ بِهَا أَكْثَرَ وَآثَرَ؛ فَشَكَتْهُ إلَى أَبِيهَا أَبِي بَكْرٍ؛ فَقَالَ لَهَا: أَيْ بُنَيَّةَ اصْبِرِي؛ فَإِنَّ الزُّبَيْرَ رَجُلٌ صَالِحٌ، وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ زَوْجَكِ فِي الْجَنَّةِ، وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ إذَا

ابْتَكَرَ بِالْمَرْأَةِ تَزَوَّجَهَا فِي الْجَنَّةِ. فَرَأَى الرَّبْطَ وَالْعَقْدَ مَعَ احْتِمَالِ اللَّفْظِ مَعَ فِعْلِ الزُّبَيْرَ، فَأَقْدَمَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ لِذَلِكَ. وَعَجَبًا لَهُ مَعَ تَبَحُّرِهِ فِي الْعُلُومِ وَفِي لُغَةِ الْعَرَبِ كَيْفَ بَعُدَ عَلَيْهِ صَوَابُ الْقَوْلِ، وَحَادَ عَنْ سَدَادِ النَّظَرِ؛ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ وَالْحَالَةُ هَذِهِ مِنْ أَخْذِ الْمَسْأَلَتَيْنِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ الْمُفْضِيَةِ بِسَالِكِهَا إلَى السَّدَادِ؛ فَنَظَرْنَا فِي مَوَارِدِ " هـ ج ر " فِي لِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى هَذَا النِّظَامِ فَوَجَدْنَاهَا سَبْعَةً: ضِدَّ الْوَصْلِ. مَا لَا يَنْبَغِي مِنْ الْقَوْلِ. مُجَانَبَةُ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ الْهَجْرَةُ. هَذَيَانُ الْمَرِيضِ. انْتِصَافُ النَّهَارِ. الشَّابُّ الْحَسَنِ. الْحَبْلُ الَّذِي يُشَدُّ فِي حِقْوِ الْبَعِيرِ ثُمَّ يُشَدُّ فِي أَحَدِ رُسْغَيْهِ. وَنَظَرْنَا فِي هَذِهِ الْمَوَارِدِ فَأَلْفَيْنَاهَا تَدُورُ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْبَعْدُ عَنْ الشَّيْءِ فَالْهَجْرُ قَدْ بَعُدَ عَنْ الْوَصْلِ الَّذِي يَنْبَغِي مِنْ الْأُلْفَةِ وَجَمِيلِ الصُّحْبَةِ، وَمَا لَا يَنْبَغِي مِنْ الْقَوْلِ قَدْ بَعُدَ عَنْ الصَّوَابِ، وَمُجَانَبَةُ الشَّيْءِ بُعْدٌ مِنْهُ وَأَخْذٌ فِي جَانِبٍ آخَرَ عَنْهُ، وَهَذَيَانُ الْمَرِيضِ قَدْ بَعُدَ عَنْ نِظَامِ الْكَلَامِ، وَانْتِصَافُ النَّهَارِ قَدْ بَعُدَ عَنْ طَرَفَيْهِ الْمَحْمُودَيْنِ فِي اعْتِدَالِ الْهَوَاءِ وَإِمْكَانِ التَّصَرُّفِ. وَالشَّابُّ الْحَسَنُ قَدْ بَعُدَ عَنْ الْعَابِ، وَالْحَبْلُ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ الْبَعِيرُ قَدْ أَبْعَدَهُ عَنْ اسْتِرْسَالِهِ فِي تَصَرُّفِهِ وَاسْتِرْسَالِ مَا رُبِطَ عَنْ تَقَلْقُلِهِ وَتَحَرُّكِهِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، وَكَانَ مَرْجِعُ الْجَمِيعِ إلَى الْبُعْدِ فَمَعْنَى الْآيَةِ: أَبَعِدُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ. وَلَا يُحْتَاجُ إلَى هَذَا التَّكَلُّفِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْعَالَمُ، وَهُوَ لَا يَنْبَغِي لِمِثْلِ السُّدِّيِّ وَالْكَلْبِيِّ فَكَيْفَ أَنْ يَخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ، فَاَلَّذِي قَالَ: يُوَلِّيهَا ظَهْرَهُ جَعَلَ الْمَضْجَعَ ظَرْفًا لِلْهَجْرِ، وَأَخَذَ الْقَوْلَ عَلَى أَظْهَرْ الظَّاهِرِ، وَهُوَ حَبْرُ الْأُمَّةِ، وَهُوَ حَمَلَ الْأَمْرَ عَلَى الْأَقَلِّ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ الْأُصُولِ. وَاَلَّذِي قَالَ يَهْجُرُهَا فِي الْكَلَامِ حَمَلَ الْأَمْرَ عَلَى الْأَكْثَرِ الْمُوفِي، فَقَالَ: لَا يُكَلِّمُهَا وَلَا يُضَاجِعُهَا، وَيَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ كَمَا يَقُولُ: اُهْجُرْهُ فِي اللَّهِ، وَهَذَا هُوَ أَصْلُ مَالِكٍ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: بَلَغَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ لَهُ نِسَاءٌ فَكَانَ يُغَاضِبُ بَعْضَهُنَّ، فَإِذَا كَانَتْ لَيْلَتُهَا يَفْرِشُ فِي حُجْرَتِهَا وَتَبِيتُ هِيَ فِي بَيْتِهَا

مسألة معنى قوله تعالى واضربوهن

فَقُلْت لِمَالِكٍ: وَذَلِكَ لَهُ وَاسِعٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّه تَعَالَى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] وَاَلَّذِي قَالَ: لَا يُكَلِّمُهَا وَإِنْ وَطِئَهَا فَصَرَفَهُ نَظَرُهُ إلَى أَنْ جَعَلَ الْأَقَلَّ فِي الْكَلَامِ، وَإِذَا وَقَعَ الْجِمَاعُ فَتْرُكِ الْكَلَامِ سَخَافَةٌ، هَذَا وَهُوَ الرَّاوِي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ. وَاَلَّذِي قَالَ: يُكَلِّمُهَا بِكَلَامٍ فِيهِ غِلَظٌ إذَا دَعَاهَا إلَى الْمَضْجَعِ جَعَلَهُ مِنْ بَابِ مَا لَا يَنْبَغِي مِنْ الْقَوْلِ. وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ الْقَوْلِ فِي الرَّأْي؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ رَفَعَ التَّثْرِيبَ عَنْ الْأَمَةِ إذَا زَنَتْ وَهُوَ الْعِقَابُ بِالْقَوْلِ، فَكَيْفَ يَأْمُرُ مَعَ ذَلِكَ بِالْغِلْظَةِ عَلَى الْحُرَّةِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَاضْرِبُوهُنَّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا؛ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَلَّا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، وَعَلَيْهِنَّ أَلَّا يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تَهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَتَضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، فَإِنْ انْتَهَيْنَ فَلَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ». وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّاشِزَ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا كِسْوَةَ، وَأَنَّ الْفَاحِشَةَ هِيَ الْبَذَاءُ لَيْسَ الزِّنَا كَمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ، فَفَسَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الضَّرْبَ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُبَرِّحًا، أَيْ لَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ عَلَى الْبَدَنِ يَعْنِي مِنْ جُرْحٍ أَوْ كَسْرٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: مِنْ أَحْسَنِ مَا سَمِعْت فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ؛ قَالَ: يَعِظُهَا فَإِنْ هِيَ قَبِلَتْ وَإِلَّا هَجَرَهَا، فَإِنْ قَبِلَتْ وَإِلَّا ضَرَبَهَا، فَإِنْ هِيَ قَبِلَتْ وَإِلَّا بَعَثَ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا، فَيَنْظُرَانِ مِمَّنْ الضَّرَرُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ الْخُلْعُ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَالَ عَطَاءٌ: لَا يَضْرِبُهَا وَإِنْ أَمَرَهَا وَنَهَاهَا فَلَمْ تُطِعْهُ، وَلَكِنْ يَغْضَبُ عَلَيْهَا. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا مِنْ فِقْهِ عَطَاءٍ، فَإِنَّهُ مِنْ فَهْمِهِ بِالشَّرِيعَةِ وَوُقُوفِهِ عَلَى مَظَانِّ الِاجْتِهَادِ عَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالضَّرْبِ هَاهُنَا أَمْرُ إبَاحَةٍ، وَوَقَفَ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ: «إنِّي لَأَكْرَهُ لِلرَّجُلِ يَضْرِبُ أَمَتَهُ عِنْدَ غَضَبِهِ، وَلَعَلَّهُ أَنْ يُضَاجِعَهَا مِنْ يَوْمِهِ». وَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اُسْتُؤْذِنَ فِي ضَرْبِ النِّسَاءِ، فَقَالَ: اضْرِبُوا، وَلَنْ يَضْرِبَ خِيَارُكُمْ». فَأَبَاحَ وَنَدَبَ إلَى التَّرْكِ. وَإِنَّ فِي الْهَجْرِ لَغَايَةَ الْأَدَبِ. وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ لَا يَسْتَوُونَ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ يُقْرَعُ بِالْعَصَا وَالْحُرَّ تَكْفِيهِ الْإِشَارَةُ؛ وَمِنْ النِّسَاءِ، بَلْ مِنْ الرِّجَالِ مَنْ لَا يُقِيمُهُ إلَّا الْأَدَبُ، فَإِذَا عَلِمَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَلَهُ أَنْ يُؤَدِّبَ، وَإِنْ تَرَكَ فَهُوَ أَفْضَلُ. قَالَ بَعْضُهُمْ وَقَدْ قِيلَ لَهُ مَا أَسْوَأُ أَدَبِ وَلَدِكِ فَقَالَ: مَا أُحِبُّ اسْتِقَامَةَ وَلَدِي فِي فَسَادِ دِينِي. وَيُقَالُ: مِنْ حُسْنِ خُلُقِ السَّيِّدِ سُوءُ أَدَبِ عَبْدِهِ. وَإِذَا لَمْ يَبْعَثْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِلرَّجُلِ زَوْجَةً صَالِحَةً وَعَبْدًا مُسْتَقِيمًا فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ أَمْرُهُ مَعَهُمَا إلَّا بِذَهَابِ جُزْءٍ مِنْ دِينِهِ، وَذَلِكَ مُشَاهَدٌ مَعْلُومٌ بِالتَّجْرِبَةِ. فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ بَعْدَ الْهَجْرِ وَالْأَدَبِ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا.

الآية السابعة والعشرون قوله تعالى وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها

[الْآيَة السَّابِعَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا] الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] وَفِيهَا خَمْسَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: وَهِيَ مِنْ الْآيَاتِ الْأُصُولِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَلَمْ نَجِدْ لَهَا فِي بِلَادِنَا أَثَرًا؛ بَلْ لَيْتَهُمْ يُرْسِلُونَ إلَى الْأَمِينَةِ، فَلَا بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ائْتَمَرُوا، وَلَا بِالْأَقْيِسَةِ اجْتَزَوْا، وَقَدْ نَدَبْت إلَى ذَلِكَ فَمَا أَجَابَنِي إلَى بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ عِنْدَ الشِّقَاقِ إلَّا قَاضٍ وَاحِدٌ، وَلَا إلَى الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ إلَّا قَاضٍ آخَرُ، فَلَمَّا وَلَّانِي اللَّهُ الْأَمْرَ أَجْرَيْت السُّنَّةَ كَمَا يَنْبَغِي، وَأَرْسَلْت الْحَكَمَيْنِ، وَقُمْت فِي مَسَائِلِ الشَّرِيعَةِ كَمَا عَلَّمَنِي اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ الْحِكْمَةِ وَالْأَدَبِ لِأَهْلِ بَلَدِنَا لِمَا غَمَرَهُمْ مِنْ الْجَهَالَةِ؛ وَلَكِنْ أَعْجَبُ لِأَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ لِلْحَكَمَيْنِ عِنْدَهُ خَبَرٌ، وَهُوَ كَثِيرًا مَا يَتْرُكُ الظَّوَاهِرَ وَالنُّصُوصَ لِلْأَقْيِسَةِ؛ بَلْ أَعْجَبُ أَيْضًا مِنْ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ مَا نَصُّهُ: الَّذِي يُشْبِهُ ظَاهِرَ الْآيَةِ أَنَّهُ فِيمَا عَمَّ الزَّوْجَيْنِ مَعًا حَتَّى يَشْتَبِهَ فِيهِ حَالَاهُمَا، وَذَلِكَ أَنِّي وَجَدْت اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَذِنَ فِي نُشُوزِ الزَّوْجِ بِأَنْ يُصَالَحَا، وَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ، وَبَيَّنَ فِي نُشُوزِ الْمَرْأَةِ بِالضَّرْبِ، وَأَذِنَ فِي خَوْفِهِمَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ بِالْخُلْعِ، وَذَلِكَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ بِرِضَاءِ الْمَرْأَةِ، وَحُظِرَ أَنْ يَأْخُذُ الرَّجُل مِمَّا أَعْطَى شَيْئًا إنْ أَرَادَ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ، فَلَمَّا أَمَرَ فِيمَنْ خِفْنَا الشِّقَاقَ بَيْنَهُمَا بِالْحَكَمَيْنِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُمَا غَيْرُ حُكْمِ الْأَزْوَاجِ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ بَعَثَ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا، وَلَا يَبْعَثُ الْحَكَمَيْنِ إلَّا مَأْمُونَيْنِ بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ وَتَوْكِيلِهِمَا لِلْحَكَمَيْنِ بِأَنْ يَجْمَعَا أَوْ يُفَرِّقَا إذَا رَأَيَا ذَلِكَ. وَوَجَدْنَا حَدِيثًا بِإِسْنَادٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَكَمَيْنِ وَكِيلَانِ لِلزَّوْجَيْنِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: هَذَا مُنْتَهَى كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابُهُ يَفْرَحُونَ بِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَلَا يُشْبِهُ نِصَابَهُ فِي الْعِلْمِ، وَقَدْ تَوَلَّى الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ الرَّدَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُنْصِفْهُ فِي الْأَكْثَرِ. وَاَلَّذِي يَقْتَضِي الرَّدَّ عَلَيْهِ بِالْإِنْصَافِ وَالتَّحْقِيقِ أَنْ نَقُولَ: أَمَّا قَوْلُهُ الَّذِي يُشْبِهُ ظَاهِرَ

الْآيَةِ أَنَّهُ فِيمَا عَمَّ الزَّوْجَيْنِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ بَلْ هُوَ نَصُّهُ، وَهِيَ مِنْ أَبْيَنِ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَأَوْضَحِهَا جَلَاءً؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34]. وَمَنْ خَافَ مِنْ امْرَأَتِهِ نُشُوزًا وَعَظَهَا؛ فَإِنْ أَنَابَتْ وَإِلَّا هَجَرَهَا فِي الْمَضْجَعِ؛ فَإِنْ ارْعَوَتْ وَإِلَّا ضَرَبَهَا، فَإِنْ اسْتَمَرَّتْ فِي غُلَوَائِهَا مَشَى الْحَكَمَانِ إلَيْهِمَا؛ وَهَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ نَصًّا، وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ بَيَانٌ. وَدَعْهُ لَا يَكُونُ نَصًّا يَكُونُ ظَاهِرًا، فَأَمَّا أَنْ يَقُولَ الشَّافِعِيُّ يُشْبِهُ الظَّاهِرَ فَلَا نَدْرِي مَا الَّذِي يُشْبِهُ الظَّاهِرَ؟ وَكَيْفَ يَقُولُ اللَّهُ: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35]؛ فَنَصَّ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَيَقُولُ هُوَ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ فِيمَا عَمَّهُمَا وَأَذِنَ فِي خَوْفِهِمَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ بِالْخُلْعِ، وَذَلِكَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ بِرِضَا الْمَرْأَةِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، وَهُوَ نَصُّهُ. ثُمَّ قَالَ: فَلَمَّا أَمَرَ بِالْحَكَمَيْنِ عَلِمْنَا أَنَّ حُكْمَهُمَا غَيْرُ حُكْمِ الْأَزْوَاجِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ بِأَنْ يَنْفُذَ عَلَيْهِمَا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمَا، فَتَتَحَقَّقُ الْغَيْرِيَّةُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَا يَبْعَثُ الْحَكَمَيْنِ إلَّا مَأْمُونَيْنِ فَصَحِيحٌ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ بِتَوْكِيلِهِمَا فَخَطَأٌ صُرَاحٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ خَاطَبَ غَيْرَ الزَّوْجَيْنِ إذَا خَافَا الشِّقَاقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِإِرْسَالِ الْحَكَمَيْنِ، وَإِذَا كَانَ الْمُخَاطَبُ غَيْرَهُمَا فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ بِتَوْكِيلِهِمَا، وَلَا يَصِحُّ لَهُمَا حُكْمٌ إلَّا بِمَا اجْتَمَعَا عَلَيْهِ، وَالتَّوْكِيلُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ إلَّا فِيمَا يُخَالِفُ الْآخَرَ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ هَاهُنَا. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {وَإِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 35]: قَالَ السُّدِّيُّ: يُخَاطِبُ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ إذَا ضَرَبَهَا فَشَاقَّتْهُ، تَقُولُ الْمَرْأَةُ لِحَكَمِهَا: قَدْ وَلَّيْتُكَ أَمْرِي وَحَالِي كَذَا؛ وَيَبْعَثُ الرَّجُلُ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَيَقُولُ لَهُ: حَالِي كَذَا؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَالَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْمُخَاطَبُ السُّلْطَانُ، وَلَمْ يَنْتَهِ رَفْعُ أَمْرِهِمَا إلَى السُّلْطَانِ، فَأَرْسَلَ الْحَكَمَيْنِ. وَقَالَ مَالِكٌ: قَدْ يَكُونُ السُّلْطَانَ، وَقَدْ يَكُونُ الْوَلِيَّيْنِ إذَا كَانَ الزَّوْجَانِ مَحْجُورَيْنِ.

مسألة معنى قوله تعالى حكما من أهله وحكما من أهلها

فَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ الْمُخَاطَبَ الزَّوْجَانِ فَلَا يَفْهَمُ كِتَابَ اللَّهِ كَمَا قَدَّمْنَا. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ السُّلْطَانُ فَهُوَ الْحَقُّ. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ: إنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْوَلِيَّيْنِ فَصَحِيحٌ، وَيُفِيدُهُ لَفْظُ الْجَمْعِ، فَيَفْعَلُهُ السُّلْطَانُ تَارَةً، وَيَفْعَلُهُ الْوَصِيُّ أُخْرَى. وَإِذَا أَنْفَذَ الْوَصِيَّانِ حَكَمَيْنِ فَهُمَا نَائِبَانِ عَنْهُمَا، فَمَا أَنْفَذَاهُ نَفَذَ، كَمَا لَوْ أَنْفَذَهُ الْوَصِيَّانِ. وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَأَيُّوبُ عَنْ عُبَيْدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ؛ قَالَ: جَاءَ إلَيْهِ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ وَمَعَهُمَا فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ، فَأَمَرَهُمْ فَبَعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا، ثُمَّ قَالَ لِلْحَكَمَيْنِ: أَتَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا؟ إنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تَجْمَعَا جَمَعْتُمَا، وَإِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تُفَرِّقَا فَرَّقْتُمَا. فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: رَضِيت بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ لِي وَعَلَيَّ. وَقَالَ الزَّوْجُ، أَمَّا الْفُرْقَةُ فَلَا. فَقَالَ: لَا تَنْقَلِبْ حَتَّى تُقِرَّ بِمِثْلِ الَّذِي أَقَرَّتْ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ: فَبُنِيَ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ إلَى الْحَكَمَيْنِ اللَّذَيْنِ بُعِثَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ أَمْرٌ فِي ذَلِكَ وَلَا نَهْيٌ. فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ مَا مَضَيَا مِنْ عِنْدِ عَلِيٍّ: رَضِيت بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لِي وَعَلَيَّ. وَقَالَ الزَّوْجُ: لَا أَرْضَى. فَرَدَّ عَلَيْهِ عَلِيٌّ تَرْكَهُ الرِّضَا بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْجِعَ كَمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، أَوْ يُنَفِّذَ مَا فِيهِ بِمَا يَجِبُ مِنْ الْأَدَبِ، فَلَوْ كَانَا وَكِيلَيْنِ لَمْ يَقُلْ لَهَا: أَتَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا؟ إنَّمَا كَانَ يَقُولُ: أَتَدْرِيَانِ بِمَا وُكِّلْتُمَا، وَيَسْأَلُ الزَّوْجَيْنِ مَا قَالَا لَهُمَا. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35]: هَذَا نَصٌّ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي أَنَّهُمَا قَاضِيَانِ لَا وَكِيلَانِ، وَلِلْوَكِيلِ اسْمٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَمَعْنًى، وَلِلْحُكْمِ اسْمٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَمَعْنًى، فَإِذَا بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يَنْبَغِي لِشَاذٍّ فَكَيْفَ لِعَالَمٍ أَنْ يُرَكِّبَ مَعْنَى أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، فَذَلِكَ تَلْبِيسٌ وَإِفْسَادٌ لِلْأَحْكَامِ، وَإِنَّمَا يَسِيرَانِ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَيُخْلِصَانِ النِّيَّةَ لِوَجْهِ اللَّهِ، وَيَنْظُرَانِ فِيمَا عِنْدَ الزَّوْجَيْنِ بِالتَّثَبُّتِ، فَإِنْ رَأَيَا لِلْجَمْعِ وَجْهًا جَمَعَا، وَإِنْ وَجَدَاهُمَا قَدْ أَنَابَا تَرَكَاهُمَا، كَمَا رُوِيَ أَنَّ عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ تَزَوَّجَ فَاطِمَةَ بِنْتَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، فَقَالَتْ: اصْبِرْ لِي

وَأُنْفِقُ عَلَيْكَ، وَكَانَ إذَا دَخَلَ عَلَيْهَا قَالَتْ: يَا بَنِي هَاشِمٍ، لَا يُحِبُّكُمْ قَلْبِي أَبَدًا، أَيْنَ الَّذِينَ أَعْنَاقُهُمْ كَأَبَارِيقِ الْفِضَّةِ، تَرِدُ أُنُوفُهُمْ قَبْلَ شِفَاهِهِمْ، أَيْنَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ؟ أَيْنَ شَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ؟ فَيَسْكُتُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمًا وَهُوَ بَرِمٌ. فَقَالَتْ لَهُ: أَيْنَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ؟ فَقَالَ: عَلَى يَسَارِكِ فِي النَّارِ إذَا دَخَلْتِ، فَنَشَرَتْ عَلَيْهَا ثِيَابَهَا. فَجَاءَتْ عُثْمَانَ، فَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ؛ فَأَرْسَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَأُفَرِّقَنَّ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مَا كُنْت لِأُفَرِّقَ بَيْنَ شَيْخَيْنِ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ. فَأَتَيَاهُمَا فَوَجَدَاهُمَا قَدْ سَدًّا عَلَيْهِمَا أَبْوَابَهُمَا، وَأَصْلَحَا أَمْرَهُمَا. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا لَمَّا أَتَيَا اشْتَمَّا رَائِحَةً طَيِّبَةً وَهُدُوًّا مِنْ الصَّوْتِ فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: ارْجِعْ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يَكُونَا قَدْ اصْطَلَحَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَفَلَا نَمْضِي فَنَنْظُرَ أَمْرَهُمَا؟ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: فَنَفْعَلُ مَاذَا؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُقْسِمُ بِاَللَّهِ لَئِنْ دَخَلْت عَلَيْهِمَا فَرَأَيْت الَّذِي أَخَافُ عَلَيْهِمَا مِنْهُ لَأَحْكُمَنَّ عَلَيْهِمَا ثُمَّ لَأُفَرِّقَنَّ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ وَجَدَاهُمَا قَدْ اخْتَلَفَا سَعْيًا فِي الْأُلْفَةِ، وَذَكَّرَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَبِالصُّحْبَةِ؛ فَإِنْ أَنَابَا وَخَافَا أَنْ يَتَمَادَى ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِمَا ظَهَرَ فِي الْمَاضِي، فَإِنْ يَكُنْ مَا طَلَعَا عَلَيْهِ فِي الْمَاضِي يُخَافُ مِنْهُ التَّمَادِي فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَرَّقَا بَيْنَهُمَا. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيُّ وَمَالِكٌ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ: هُمَا شَاهِدَانِ يَرْفَعَانِ الْأَمْرَ إلَى السُّلْطَانِ، وَيَشْهَدَانِ بِمَا ظَهَرَ إلَيْهِمَا. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ. وَاَلَّذِي صَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهُمَا حَكَمَانِ لَا شَاهِدَانِ. فَإِذَا فَرَّقَا بَيْنَهُمَا وَهِيَ:

مسألة لا يؤخذ من مال المحكوم عليه شيء إلا برضاه

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: تَكُونُ الْفُرْقَةُ كَمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا لِوُقُوعِ الْخَلَلِ فِي مَقْصُودِ النِّكَاحِ مِنْ الْأُلْفَةِ وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا ظَهَرَ الظُّلْمُ مِنْ الزَّوْجِ أَوْ الزَّوْجَةِ فَظُهُورُ الظُّلْمِ لَا يُنَافِي النِّكَاحَ، بَلْ يُؤْخَذُ مِنْ الظَّالِمِ حَقُّ الْمَظْلُومِ وَيَبْقَى الْعَقْدُ. قُلْنَا: هَذَا نَظَرٌ قَاصِرٌ، يُتَصَوَّرُ فِي عُقُودِ الْأَمْوَالِ؛ فَأَمَّا عُقُودُ الْأَبْدَانِ فَلَا تَتِمُّ إلَّا بِالِاتِّفَاقِ وَالتَّآلُفِ وَحُسْنِ التَّعَاشُرِ؛ فَإِذَا فُقِدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِبَقَاءِ الْعَقْدِ وَجْهٌ، وَكَانَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي الْفُرْقَةِ. [مَسْأَلَة لَا يُؤْخَذُ مِنْ مَالِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ شَيْءٌ إلَّا بِرِضَاهُ] وَبِأَيِّ وَجْهٍ رَأَيَاهَا مِنْ الْمُتَارَكَةِ أَوْ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ الزَّوْجِ أَوْ الزَّوْجَةِ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: جَازَ وَنَفَذَ عِنْدَ عُلَمَائِنَا. قَالَ الطَّبَرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُؤْخَذُ مِنْ مَالِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ شَيْءٌ إلَّا بِرِضَاهُ، وَبِهِ قَالَ كُلَّ مَنْ جَعَلَهُمَا شَاهِدَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمَا حَكَمَانِ لَا شَاهِدَانِ، وَأَنَّ فِعْلَهُمَا يَنْفُذُ كَمَا يَنْفُذُ فِعْلُ الْحَاكِمِ فِي الْأَقْضِيَةِ، وَكَمَا يَنْفُذُ فِعْلُ الْحَكَمَيْنِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَهِيَ أُخْتُهَا. وَالْحِكْمَةُ عِنْدِي فِي ذَلِكَ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ، فَخَصَّ الشَّرْعَ هَاتَيْنِ الْوَاقِعَتَيْنِ بِحَكَمَيْنِ؛ لِيَنْفُذَ حُكْمُهُمَا بِعِلْمِهِمَا، وَتَرْتَفِعَ بِالتَّعْدِيدِ التُّهْمَةُ عَنْهُمَا. [مَسْأَلَة كَانَتْ الْإِسَاءَةُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إذَا كَانَتْ الْإِسَاءَةُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ ائْتَمَنَاهُ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْهُمَا فَرَّقَا بَيْنَهُمَا عَلَى بَعْضِ مَا أَصْدَقَهَا، وَلَا يَسْتَوْعِبَانِهِ لَهُ، وَعِنْدَهُ بَعْضُ الظُّلْمِ، رَوَاهُ مُحَمَّدٌ عَنْ أَشْهَبَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229].

مسألة معنى قوله تعالى إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما

[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى إنْ يُرِيدَا إصْلَاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْله تَعَالَى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35]: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: هُمَا الْحَكَمَانِ إذَا أَرَادَا الْإِصْلَاحَ وَفَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ إذَا أَمَرَهُمَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِتَوْفِيقِهِ فَقَدْ صَلُحَ أَمْرُهُمَا وَأَمْرُ الزَّوْجَيْنِ، فَكُلُّ مَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ خَيْرٌ، وَالْأَصْلُ هِيَ النِّيَّةُ، فَإِذَا صَلُحَتْ صَلُحَتْ الْحَالُ كُلُّهَا، وَاسْتَقَامَتْ الْأَفْعَالُ وَقُبِلَتْ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: الْأَصْلُ فِي الْحَكَمَيْنِ أَنْ يَكُونَا مِنْ الْأَهْلِ؛ وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأَهْلَ أَعْرَفُ بِأَحْوَالِ الزَّوْجَيْنِ، وَأَقْرَبُ إلَى أَنْ يَرْجِعَ الزَّوْجَانِ إلَيْهِمَا؛ فَأَحْكَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْأَمْرَ بِأَهْلِهِ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا أَهْلٌ، أَوْ كَانَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ لِعَدَمِ الْعَدَالَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَخْتَارُ حَكَمَيْنِ عَدْلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا كَيْفَمَا كَانَ عَدَمُ الْحَكَمَيْنِ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَا جَارَيْنِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ الْحَكَمَيْنِ مَعْلُومٌ، وَاَلَّذِي فَاتَ بِكَوْنِهِمَا مِنْ أَهْلِهِمَا يَسِيرٌ، فَيَكُونُ الْأَجْنَبِيُّ الْمُخْتَارُ قَائِمًا مَقَامَهُمَا، وَرُبَّمَا كَانَ أَوْفَى مِنْهُمَا. [مَسْأَلَة الْحُكْمَانِ حَكَمَا بِالْفِرَاقِ بَيْن الزَّوْجَيْنِ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: إذَا حَكَمَا بِالْفِرَاقِ فَإِنَّهُ بَائِنٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا كُلِّيٌّ، وَالْآخَرُ مَعْنَوِيٌّ. أَمَّا الْكُلِّيُّ فَكُلُّ طَلَاقٍ يُنَفِّذُهُ الْحَاكِمُ فَإِنَّهُ بَائِنٌ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ وَقَعَ الطَّلَاقُ هُوَ الشِّقَاقُ، وَلَوْ شُرِعَتْ فِيهِ الرَّجْعَةُ لَعَادَ الشِّقَاقُ، كَمَا كَانَ أَوَّلَ دُفْعَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ يُفِيدُ شَيْئًا؛ فَامْتَنَعَتْ الرَّجْعَةُ لِأَجَلِهِ. فَإِنْ أَوْقَعَا أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ؛ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَصْبَغُ: يَنْفُذُ. وَقَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: لَا يَكُونُ إلَّا وَاحِدَةً. وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ يَنْفُذُ أَنَّهُمَا حَكَمَا فَيُنَفَّذُ مَا حَكَمَا بِهِ. وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ حُكْمَهُمَا لَا يَكُونُ فَوْقَ حُكْمِ الْحَاكِمِ لَا يُطَلِّقُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، كَذَلِكَ الْحَكَمَانِ.

مسألة الحكمان بين الزوجين حكم أحدهما بمال والآخر بغير مال

وَبِالْجُمْلَةِ فَرَدُّهُ الْمَسْأَلَةَ إلَى مَسْأَلَةِ خِيَارِ الْأُمَّةِ حَزْمٌ، وَالْأَصْلُ وَاحِدٌ، وَالْأَدِلَّةُ مُتَدَاخِلَةٌ وَمُتَقَارِبَةٌ فَلْيَطْلُبْ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: فَإِنْ حَكَمَ أَحَدُهُمَا بِوَاحِدَةٍ، وَالْآخَرُ بِثَلَاثٍ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: يَنْفُذُ الْوَاجِبُ، وهِيَ الْوَاحِدَةُ الَّتِي اتَّفَقَا عَلَيْهَا وَيَلْغُو مَا زَادَ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: لَا يَنْفُذُ شَيْءٌ، لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَنْفُذُ شَيْءٌ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ حَبِيبٍ. وَلَوْ طَلَّقَ أَحَدُهُمَا طَلْقَةً وَالْآخَرُ طَلْقَتَيْنِ فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ تَلْزَمُهُ طَلْقَتَانِ. وَقَوْلُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَصَحُّ، كَالشَّاهِدَيْنِ إذَا اخْتَلَفَا فِي الْعَدَدِ قُضِيَ بِالْأَقَلِّ. [مَسْأَلَة الْحُكْمَانِ بَيْن الزَّوْجَيْنِ حَكَم أَحَدُهُمَا بِمَالٍ وَالْآخَرُ بِغَيْرِ مَال] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: إذَا حَكَمَ أَحَدُهُمَا بِمَالٍ وَالْآخَرُ بِغَيْرِ مَالِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ، لِأَنَّهُ اخْتِلَافٌ مَحْضٌ. كَالشَّاهِدَيْنِ إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِبَيْعٍ وَالْآخَرُ بِهِبَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَنْفُذُ اتِّفَاقًا. [مَسْأَلَة عَلِمَ الْإِمَامُ مِنْ حَالِ الزَّوْجَيْنِ الشِّقَاقَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: إذَا عَلِمَ الْإِمَامُ مِنْ حَالِ الزَّوْجَيْنِ الشِّقَاقَ لَزِمَهُ أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمَا حَكَمَيْنِ وَلَا يَنْتَظِرُ ارْتِفَاعَهُمَا؛ لِأَنَّ مَا يَضِيعُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ أَثْنَاءَ مَا يَنْتَظِرُ رَفْعُهُمَا إلَيْهِ لَا جَبْرَ لَهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: يُجْزِئُ إرْسَالُ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَكَمَ فِي الزِّنَا بِأَرْبَعَةِ شُهُودٍ، ثُمَّ قَدْ «أَرْسَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْمَرْأَةِ الزَّانِيَةِ أُنَيْسًا، وَقَالَ لَهُ: إنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا»، وَكَذَلِكَ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي الْمُدَوَّنَةِ. [مَسْأَلَة أَرْسَلَ الزَّوْجَانِ حَكَمَيْنِ وَحَكَمَا فِيمَا بَيْنهمْ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: لَوْ أَرْسَلَ الزَّوْجَانِ حَكَمَيْنِ، وَحَكَمَا نَفَذَ حُكْمُهُمَا؛ لِأَنَّ التَّحْكِيمَ عِنْدَنَا جَائِزٌ، وَيَنْفُذُ فِعْلُ الْحَكَمِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ. هَذَا إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَدْلًا، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ عَدْلٍ

الآية الثامنة والعشرون قوله تعالى واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا

قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: حُكْمُهُ مَنْقُوضٌ؛ لِأَنَّهُمَا تَخَاطَرَا بِمَا لَا يَنْبَغِي مِنْ الْغَرَرِ. وَالصَّحِيحُ نُفُوذُهُ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ تَوْكِيلًا فَفِعْلُ الْوَكِيلِ نَافِذٌ، وَإِنْ كَانَ تَحْكِيمًا فَقَدْ قَدَّمَاهُ عَلَى أَنْفُسِهِمَا، وَلَيْسَ الْغَرَرُ بِمُؤَثِّرٍ فِيهِ، كَمَا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي التَّوْكِيلِ، وَبَابُ الْقَضَاءِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْغَرَرِ كُلِّهِ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ فِيهِ مَعْرِفَةُ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِمَا يَئُولُ إلَيْهِ الْحُكْمُ. [الْآيَة الثَّامِنَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا] وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا} [النساء: 36] فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَمَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: لَوْ نَوَى تَبَرُّدًا أَوْ تَنَظُّفًا مَعَ نِيَّةِ الْحَدَثِ أَوْ مَجَمًّا لِمَعِدَتِهِ مَعَ التَّقَرُّبِ لِلَّهِ أَوْ قَضَاءِ الصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَا يُجْزِيهِ، لِأَنَّهُ مَزَجَ فِي نِيَّتِهِ التَّقَرُّبِ بِنِيَّةٍ دُنْيَاوِيَّةٍ وَلَيْسَ لِلَّهِ إلَّا الدِّينُ الْخَالِصُ. وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ التَّبَرُّدَ لِلَّهِ، وَالتَّنْظِيفَ وَإِجْمَامَ الْمَعِدَةِ لِلَّهِ؛ فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ أَوْ مُبَاحٌ فِي مَوْضِعٍ، وَلَا تُنَاقِضُ الْإِبَاحَةُ الشَّرِيعَةَ. [مَسْأَلَة أَحَسَّ الْإِمَامُ وَهُوَ رَاكِعٌ بِدَاخِلٍ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ مَا لَوْ أَحَسَّ الْإِمَامُ وَهُوَ رَاكِعٌ بِدَاخِلٍ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ لَا يَنْتَظِرُهُ، وَلَيْسَ لِأَمْرٍ يَعُودُ إلَى نِيَّةِ الصَّلَاةِ؛ وَلَكِنْ لِأَنَّ فِيهِ إضْرَارًا بِمَنْ عَقَدَ الصَّلَاةَ مَعَهُ؛ وَمُرَاعَاتُهُ أَوْلَى. [مَسْأَلَة بِرُّ الْوَالِدَيْنِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36]: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ فِي الْمَفْرُوضَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَبِرُّهُمَا يَكُونُ فِي

الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ؛ فَأَمَّا فِي الْأَقْوَالِ فَكَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] فَإِنَّ لَهَا حَقَّ الرَّحِمِ الْمُطْلَقَةِ، وَحَقَّ الْقَرَابَةِ الْخَاصَّةِ؛ إذْ أَنْتَ جُزْءٌ مِنْهُ، وَهُوَ أَصْلُكَ الَّذِي أَوْجَدَكَ، وَهُوَ الْقَائِمُ بِكَ حَالَ ضَعْفِكَ وَعَجْزِكَ عَنْ نَفْسِكَ. وَقَدْ «عَرَضَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنْ كُنْت تُرِيدُ النِّسَاءَ الْبِيضَ وَالنُّوقَ الْأُدْمَ فَعَلَيْكَ بِبَنِي مُدْلِجٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَنَعَ مِنِّي سَبْيَ بَنِي مُدْلِجٍ لِصِلَتِهِمْ الرَّحِمَ». وَفِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ: أَنَّ يُوسُفَ لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ أَبَوَاهُ فَلَمْ يَقُمْ لَهُمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي لَا أَخْرَجْت مِنْ صُلْبِكَ نَبِيًّا، فَلَا نَبِيَّ فِيهِمْ مِنْ عَقِبِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «إنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ»؛ وَمِنْ حَقِّهِ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ، وَأَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ؛ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ». وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا أَخَذَ الْوَالِدُ الْهِبَةَ مِنْ الْوَلَدِ أَغْضَبَهُ فَعَقَّهُ، وَمَا أَدَّى إلَى الْمَعْصِيَةِ فَمَعْصِيَةٌ. قُلْنَا: أَمَّا إذَا عَصَى أُخِذَ بِالشَّرْعِ فَلَا لَعًا لَهُ وَلَا عُذْرَ، إنَّمَا يَكُونُ الْعُذْرُ لِمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ أَوْ عَصَى اللَّهَ فِيهِ.

مسألة حرمة الجار

فَإِنْ قِيلَ: هَلْ مِنْ بِرِّ الرَّجُلِ بِوَالِدِهِ الْمُشْرِكِ أَلَّا يَقْتُلَهُ؟ قُلْنَا: مِنْ بِرِّهِ بِنَفْسِهِ أَنْ يَتَوَلَّى قَتْلَهُ. «قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ مُسْتَأْذِنًا فِي قَتْلِ أَبِيهِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنْ أَذِنْت لِي فِي قَتْلِهِ قَتَلْته»: وَهَكَذَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَلِلرَّحِمِ حَقٌّ، وَلَكِنْ لَمَا جَاءَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى بَطَلَ حَقُّ الرَّحِمِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ، وَالْخَامِسَةُ: الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ: وَقَدْ تَقَدَّمَتَا. [مَسْأَلَة حُرْمَةُ الْجَارِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36]: حُرْمَةُ الْجَارِ عَظِيمَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ مَعْقُولَةٌ مَشْرُوعَةٌ مُرُوءَةً وَدِيَانَةً؛ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ». وَقَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ». " وَالْجِيرَانُ ثَلَاثَةٌ: جَارٌ لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْمُشْرِكُ، وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ: الْجَارُ الْمُسْلِمُ، وَجَارٌ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ: الْجَارُ الْمُسْلِمُ لَهُ الرَّحِمُ ".

مسألة الصاحب بالجنب

وَهُمَا صِنْفَانِ قَرِيبٌ وَبَعِيدٌ، وَأَبْعَدُهُ فِي قَوْلِ الزُّهْرِيِّ مَنْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَرْبَعُونَ دَارًا. وَقِيلَ: الْبَعِيدُ مَنْ يَلِيكَ بِحَائِطٍ، وَالْقَرِيبُ مَنْ يَلِيكَ بِبَابِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَجُلٍ قَالَ لَهُ: «إنَّ لِي جَارَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أَهْدِي؟ قَالَ: إلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكَ بَابًا». وَحُقُوقُهُ عَشَرَةٌ يَجْمَعُهَا الْإِكْرَامُ، وَكَفُّ الْأَذَى. وَمِنْ الْعَشَرَةِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: «لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ». وَقَدْ رَأَى جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نَدْبًا لَا فَرْضًا، وَأَنْ يَكُونَ مَنْعُهُ مَكْرُوهًا لَا مُحَرَّمًا؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ أَحَقُّ بِمَالِهِ. وَالْحَائِطُ يَحْتَاجُهُ صَاحِبُهُ؛ فَإِنْ أَعْطَاهُ نَقَصَ مَالُهُ، وَإِنْ أَعَارَهُ تَكَلَّفَ حِفْظَهُ بِالْإِشْهَادِ، وَأَضَرَّ بِنَفْسِهِ؛ فَإِنْ شَاءَ أَنْ يَحْتَمِلَ لَهُ ذَلِكَ فَلَهُ الْأَجْرُ، وَإِنْ أَبَى فَلَيْسَ عَلَيْهِ وِزْرٌ. [مَسْأَلَةُ الصَّاحِبُ بِالْجَنْبِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الصَّاحِبُ بِالْجَنْبِ: قِيلَ: إنَّهُ الْجَارُ الْمُلَاصِقُ، وَاَلَّذِي قَالَ هَذَا جَعَلَ قَوْلَهُ: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} [النساء: 36] الْجَارُ الَّذِي لَهُ الرَّحِمُ. وَقِيلَ: إنَّهُ الَّذِي يَجْمَعُكَ مَعَهُ رُفَاقَةُ السَّفَرِ، فَهُوَ ذِمَامٌ عَظِيمٌ، فَإِنَّهُ يَلُفُّهُ مَعَهُ الْأُنْسُ وَالْأَمْنُ وَالْمَأْكَلُ وَالْمَضْجَعُ، وَبَعْضُهَا يَكْفِي لِلْحُرْمَةِ، فَكَيْفَ إذَا اجْتَمَعَتْ؟.

مسألة شفعة الجوار

[مَسْأَلَةُ شُفْعَةِ الْجُوَارِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: لَيْسَ مِنْ حَقِّ الْجُوَارِ الشُّفْعَةُ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمَفْرُوضَاتِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْإِحْسَانَ، وَالْمَفْرُوضُ لَهُمْ يُؤْخَذُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ. وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ؛ لِأَنَّ الْإِحْسَانَ يَعُمُّ الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ، وَلَمْ يَبْقَ شَرْعٌ وَلَا حَقٌّ إلَّا دَخَلَ فِيهِ؛ فَعَمَّتْ الْوَصِيَّةُ فِيهِ، وَتَفَصَّلَتْ مَنَازِلُهُ بِالْأَدِلَّةِ؛ وَإِنَّمَا قَطَعْنَا شُفْعَةَ الْجِوَارِ بِعِلَّةٍ أَنَّ الشُّفْعَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالشَّرِكَةِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ». فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ». قُلْنَا: أَرَادَ بِهِ الشَّرِيكَ، وَهُوَ أَخَصُّ جُوَارٍ بِدَلِيلِ مَا تَقَدَّمَ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى ابْنُ السَّبِيلِ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: ابْنُ السَّبِيلِ: قِيلَ: هُوَ الضَّيْفُ يَنْزِلُ بِكَ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، وَلَا يَحِلُّ أَنْ يَثْوِيَ عِنْدَهُ حَتَّى يُحْرِجَهُ».

مسألة معنى قوله تعالى ما ملكت أيمانكم

وَقَدْ كَانَ قَوْمٌ مِنْهُمْ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ يَرَى أَنَّ الضِّيَافَةَ حَقٌّ. وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ»، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا كَرَامَةٌ، وَلَيْسَتْ بِحَقٍّ، وَبِذَلِكَ يُفَسَّرُ أَنَّ الْإِحْسَانَ هَاهُنَا مُسْتَحَبٌّ وَإِنْ كَانَ ابْنُ السَّبِيلِ الْفَقِيرُ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 36]: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالرِّفْقِ بِهِمْ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، مَلَّكَكُمْ اللَّهُ رِقَابَهُمْ، فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَاكْسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مِنْ الْعَمَلِ مَا لَا يُطِيقُونَ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ». وَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: «كُنْت أَضْرِبُ غُلَامًا لِي فَسَمِعْت صَوْتًا مِنْ خَلْفِي: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ مَرَّتَيْنِ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَلْقَيْت السَّوْطَ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا». [الْآيَة التَّاسِعَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ] ِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 37] فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:

الآية الموفية ثلاثين قوله تعالى والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْيَهُودِ كَانُوا يَأْتُونَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُزَهِّدُونَهُمْ فِي نَفَقَةِ أَمْوَالِهِمْ فِي الدِّينِ، وَيُخَوِّفُونَهُمْ الْفَقْرَ، وَيَقُولُونَ لَهُمْ: لَا تَدْرُونَ مَا يَكُونُ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [النساء: 37] الْآيَةَ كُلَّهَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ بَيَانَ الْبُخْلِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: الْمَعْنَى أَنَّهُمْ بَخِلُوا بِأَمْوَالِهِمْ، وَأَمَرُوا غَيْرَهُمْ بِالْبُخْلِ. وَقِيلَ: بَخِلُوا بِعِلْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّوْرَاةِ، وَتَوَاصَوْا مَعَ أَحْبَارِهِمْ بِكَتْمِهِ، فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 37]، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ. وَقِيلَ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يَكْتُمُونَ الْغِنَى وَيَتَفَاقَرُونَ لِلنَّاسِ، لَيْسَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ، لَيْسَ مَعَنَا وَمَعَهُمْ، وَذَلِكَ حَرَامٌ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]. وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً أَحَبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ. [الْآيَة الْمُوفِيَة ثَلَاثِينَ قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ] ِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء: 38] قِيلَ هُمْ الْيَهُودُ، وَقِيلَ هُمْ الْمُنَافِقُونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَبَيَانُهَا مِنْ

الآية الحادية والثلاثون قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى

تَمَامِ مَا قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ الَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ شَرٌّ مِنْ الَّذِي يَبْخَلُ بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَنَفَقَةُ الرِّيَاءِ تَدْخُلُ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُجْزِي. [الْآيَة الْحَادِيَة وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى] حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 43] فِيهَا ثَمَانٍ وَثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: خِطَابُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالصَّلَاةِ وَإِقَامَتِهَا عَامٌّ فِي الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ؛ وَإِنَّمَا خَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَاهُنَا الْمُؤْمِنِينَ بِالْخِطَابِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَقَدْ أَخَذُوا مِنْ الْخَمْرِ، وَتَلِفَتْ عَلَيْهِمْ أَذْهَانُهُمْ؛ فَخُصُّوا بِهَذَا الْخِطَابِ؛ إذْ كَانَ الْكُفَّارُ لَا يَفْعَلُونَهَا صُحَاةً وَلَا سُكَارَى. [مَسْأَلَة سَبَب نُزُول قَوْله تَعَالَى لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاة وأنتم سُكَارَى] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ [عَلِيٍّ] (*) أَنَّهُ صَلَّى بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَرَجُلٍ آخَرَ فَقَرَأَ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] فَخَلَطَ فِيهَا، وَكَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ الْخَمْرِ؛ فَنَزَلَتْ: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]. وَقَالَ [عَلِيُّ بنُ أَبي طالِبٍ] (*): صَنَعَ لَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعَامًا، فَدَعَانَا وَسَقَانَا مِنْ الْخَمْرِ، فَأَخَذَتْ الْخَمْرُ مِنَّا، وَحَضَرْت الصَّلَاةَ، فَقَدَّمُونِي فَقَرَأْت: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَنَحْنُ نَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ. قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] الْآيَةَ. خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

_ (*) في المطبوع [عمرو] و [عمرو بن العاص]، وهو تحريف يبدو أنه مقصود. وهذه القصة في النسخ (الأخرى) المطبوعة من أحكام القرآن وفي جميع كتب السنة والتفسير التي أوردت هذه القصة مروية عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه-، وما درى من حرفها أن عبثه هذا يستطيع اكتشافه صغار الطلبة فإن عمرو بن العاص لم يسلم إلا سنة ثمان من الهجرة والخمر قد حرمت في السنة الثالثة من الهجرة (هذا التعليق بكامله أفاده العضو ابن المنير في ملتقى أهل الحديث، ونبهنا عليه فجزاه الله خيرا)

مسألة معنى قوله تعالى لا تقربوا الصلاة

وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ بِأَبْيَنَ مِنْ هَذَا، لَكِنَّا لَا نَفْتَقِرُ إلَيْهَا هَاهُنَا، وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ مِنْ رِوَايَةِ الْعَدْلِ عَنْ الْعَدْلِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} [النساء: 43]: سَمِعْت الشَّيْخَ الْإِمَامَ فَخْرَ الْإِسْلَامِ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ الشَّاشِيَّ وَهُوَ يَنْتَصِرُ لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ فِي مَجْلِسِ النَّظَرِ؛ قَالَ: يُقَالُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ: لَا تَقْرَبْ كَذَا بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ لَا تَلْبَسْ بِالْفِعْلِ، وَإِذَا كَانَ بِضَمِّ الرَّاءِ كَانَ مَعْنَاهُ لَا تَدْنُ مِنْ الْمَوْضِعِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ صَحِيحٌ مَسْمُوعٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {الصَّلاةَ} [النساء: 43]: وَهِيَ فِي نَفْسِهَا مَعْلُومَةُ اللَّفْظِ مَفْهُومَةُ الْمَعْنَى، لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِيهَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي الْمُرَادِ بِهَا هَاهُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا النَّهْيُ عَنْ قُرْبَانِ الصَّلَاةِ نَفْسِهَا؛ قَالَهُ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ، وَمَالِكٌ، وَجَمَاعَةٌ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ مَوْضِعُ الصَّلَاةِ وَهُوَ الْمَسْجِدُ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ الثَّانِي، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَعِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُمْ. سَمِعْت فَخْرَ الْإِسْلَامِ يَقُولُ فِي الدَّرْسِ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ لَا تَقْرَبُوا مَوَاضِعَ الصَّلَاةِ، وَحَذَفَ الْمُضَافَ وَإِقَامَتُهُ مَقَامَ الْمُضَافِ إلَيْهِ أَكْثَرُ فِي اللُّغَةِ مِنْ رَمْلِ يَبْرِينَ وَهِيَ فِلَسْطِينُ فِي الْأَرْضِ، وَيَكُونُ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ قُرْبَانِ الصَّلَاةِ نَفْسِهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا نُهِيَ عَنْ دُخُولِ مَوْضِعِهَا كَرَامَةً فَهِيَ بِالْمَنْعِ أَوْلَى. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَأَنْتُمْ سُكَارَى] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]: السُّكْرُ: عِبَارَةٌ عَنْ حَبْسِ الْعَقْلِ عَنْ التَّصَرُّفِ عَلَى الْقَانُونِ الَّذِي خُلِقَ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ مِنْ النِّظَامِ وَالِاسْتِقَامَةِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} [الحجر: 15]

أَيْ حُبِسَتْ عَنْ تَصَرُّفِهَا الْمُعْتَادِ لَهَا، وَمِنْهُ سُكْرُ الْأَنْهَارِ؛ وَهُوَ مَحْبِسُ مَائِهَا، فَكُلُّ مَا حَبَسَ الْعَقْلَ عَنْ التَّصَرُّفِ فَهُوَ سُكْرٌ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الْخَمْرِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ النَّوْمِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الْفَرَحِ وَالْجَزَعِ. وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا السُّكْرِ سُكْرُ الْخَمْرِ، وَأَنَّ ذَلِكَ إبَّانَ كَانَتْ الْخَمْرُ حَلَالًا، خَلَا الضَّحَّاكِ فَإِنَّهُ قَالَ: مَعْنَاهُ سُكَارَى مِنْ النَّوْمِ، فَإِنْ كَانَ أَرَادَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ سُكْرِ الْخَمْرِ نَهْيٌ عَنْ سُكْرِ النَّوْمِ فَقَدْ أَصَابَ، وَلَا مَعْنَى لَهُ سِوَاهُ؛ وَيَكُونُ مِنْ بَابِ «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ»: دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ كُلِّ قَضَاءٍ فِي حَالِ شُغْلِ الْبَالِ بِنَوْمٍ أَوْ جُوعٍ أَوْ حَقْنٍ أَوْ حَزْقٍ، فَلَا يَفْهَمُ مَعَهُ كَلَامَ الْخُصُومِ، كَمَا لَا يَعْلَمُ مَا يَقْرَأُ، وَلَا يَعْقِلُ فِي الصَّلَاةِ إذَا دَافَعَهُ الْأَخْبَثَانِ، أَوْ كَانَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ، كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْعِلَّةُ فِي النَّهْيِ: فَبَيَّنَ الْعِلَّةَ فِي النَّهْيِ، فَحَيْثُمَا وُجِدَتْ، بِأَيِّ سَبَبٍ وُجِدَتْ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ، وَقَدْ أَغْنَى هَذَا اللَّفْظُ عَنْ عِلْمِ سَبَبِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحِ: «لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ وَهُوَ نَائِمٌ؛ لَعَلَّهُ يَذْهَبُ يَسْتَغْفِرُ، فَيَسُبُّ نَفْسَهُ»، فَهَذَا أَيْضًا مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ، وَالْحَقُّ يَعْضُدُ بَعْضُهُ بَعْضًا. فَإِنْ قِيلَ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: وَكَيْفَ يَصِحُّ تَقْدِيرُ هَذَا النَّفْيِ؟ أَتَقُولُونَ: إنَّ الْمُرَادَ بِهِ السُّكْرُ؟ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحِ: «لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ وَهُوَ نَائِمٌ، لَعَلَّهُ يَذْهَبُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ»؛ فَهَذَا أَيْضًا الَّذِي لَا يُعْقَلُ مَعَهُ مَعْنًى، وَكَيْفَ يَتَوَجَّهُ عَلَى هَذَا خِطَابٌ؟

فَإِنْ قُلْتُمْ: نَهَى عَنْ التَّعَرُّضِ لِلسُّكْرِ إذَا كَانَ عَلَيْهِمْ فَرْضُ الصَّلَاةِ قِيلَ لَكُمْ: إنَّ السُّكْرَ إذَا نَافَى ابْتِدَاءَ الْخِطَابِ نَافَى اسْتِدَامَتَهُ. وَإِنْ قُلْتُمْ: إنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُنْتَشِي الَّذِي لَيْسَ بِسَكْرَانَ نُهِيَ أَنْ يُصَيِّرَ نَفْسَهُ سَكْرَانَ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] أَيْ: فِي حَالِ سُكْرِكُمْ؛ وَلَمَّا كَانَ الِاضْطِرَابُ فِي الْآيَةِ هَكَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمُرَادُ بِهِ مَوْضِعُ الصَّلَاةِ. هَذَا نَصُّ كَلَامِ بَعْضِ مَنْ يُدَّعَى لَهُ التَّحْقِيقُ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهَذِهِ مِنْهُ غَفْلَةٌ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا لَزِمَهُ فِي تَقْدِيرِ الصَّلَاةِ مِنْ تَوْجِيهِ الْخِطَابِ يَلْزَمُهُ فِي تَقْدِيرِ مَوْضِعِ الصَّلَاةِ. وَاَلَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلصَّاحِي، يُقَالُ لَهُ: لَا تَشْرَبْ الْخَمْرَ بِحَالٍ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى أَنْ تُصَلِّيَ وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ فَتَخْلِطَ كَمَا فَعَلَ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى التَّحْرِيمِ، فَلَمْ يَقْنَعْ بِهَا عُمَرُ. وَالنَّهْيُ عَنْ التَّعَرُّضِ لِلْمُحَرَّمَاتِ مَعْقُولٌ؛ وَهَذَا الْخِطَابُ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ وَهُوَ صَاحٍ، فَإِذَا شَرِبَ وَعَصَى وَسَكِرَ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ اللَّوْمُ وَالْعِقَابُ، وَيَصِحُّ أَنْ يُخَاطَبَ الْمُنْتَشِي وَهُوَ يَعْقِلُ النَّهْيَ، لَكِنَّ اسْتِمْرَارَ الْأَفْعَالِ وَالْكَلَامِ وَانْتِظَامِهِ رُبَّمَا يَفُوتُهُ؛ فَقِيلَ لَهُ: لَا تَفْعَلْ وَأَنْتَ مُنْتَشٍ أَمْرًا لَا تَقْدِرُ عَلَى نِظَامِهِ كُلِّهِ، وَحَاشَا لِلَّهِ أَنْ يَكُونَ الشَّافِعِيُّ يَأْخُذُ بِهَذَا مِنْ كَلَامِ هَذَا الرَّجُلِ، وَإِنَّمَا يَنْسِجُ الشَّافِعِيُّ عَلَى مِنْوَالِ الصَّحَابَةِ، وَمَا فِي الْآيَةِ احْتِمَالٌ يَأْتِي بَيَانُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ الْإِسْكَارُ. فَإِنْ قِيلَ، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فَقَدْ نَرَى الْإِنْسَانَ يُصَلِّي وَلَا يُحْسِنُ صَلَاتَهُ لِشُغْلِ بَالِهِ، فَلَا يَشْعُرُ بِالْقِرَاءَةِ حَتَّى تَكْمُلَ، وَلَا بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالسُّجُودِ حَتَّى لَا يَعْلَمَ مَا كَانَ عَدَدُهُ، حَتَّى رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: " إنِّي لَأُجَهِّزُ جَيْشِي وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ ". قُلْنَا: إنَّمَا أُخِذَ عَلَى الْعَبْدِ الِاسْتِشْعَارُ وَإِحْضَارُ النِّيَّةِ فِي حَالِ التَّكْبِيرِ، فَإِنْ ذَهِلَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ سُومِحَ فِيهِ مَا لَمْ يُكْثِرْ؛ لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَكْلِيفُ الْعِبَادِ بِهِ؛ وَلَيْسَ حَالُ عُمَرَ مِنْ هَذَا، فَإِنَّ ذَلِكَ نَظَرٌ فِي عِبَادَةٍ لِعِبَادَةٍ مِثْلِهَا أَوْ أَعْظَمَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ مِنْهَا، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لَحْظَةً مَعَ الْغَلَبَةِ ثُمَّ يَصْحُو إلَى نَفْسِهِ، بِخِلَافِ

مسألة معنى قوله تعالى ولا جنبا إلا عابري سبيل

السَّكْرَانِ وَالنَّائِمِ وَالْغَاضِبِ وَمَدَافِعِ الْأَخْبَثَيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إحْضَارُ ذِهْنِهِ لِغَلَبَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43]: الْجُنُبُ فِي اللُّغَةِ: الْبَعِيدُ، بَعُدَ بِخُرُوجِ الْمَاءِ الدَّافِقِ عَنْ حَالِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ كَانَ عِنْدَهُمْ الْجُنُبُ مَعْرُوفًا، وَهُوَ الَّذِي غَشِيَ النِّسَاءَ، وَالْحَدِيثُ عِنْدَهُمْ مَعْرُوفًا. وَهُوَ مَا خَرَجَ مِنْ السَّبِيلَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ، ثُمَّ أَثْبَتَتْ الشَّرِيعَةُ بَعْدَ ذَلِكَ زِيَادَاتِهِ وَتَفْضِيلَهُ، وَهُوَ إيلَاجٌ فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ بِشَرْطِ مَغِيبِ الْحَشَفَةِ دُونَ إنْزَالٍ، أَوْ إنْزَالُ الْمَاءِ دُونَ مَغِيبِ الْحَشَفَةِ، أَوْ مَجْمُوعُهُمَا عَلَى حَسَبِ مَا بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالْمَسَائِلِ، فَلْيُنْظَرْ هُنَاكَ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى: {إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43]: أَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} [النساء: 43] لَا تَقْرَبُوا مَوَاضِعَ الصَّلَاةِ، فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ عِنْدَهُمْ: لَا تَقْرَبُوا الْمَسَاجِدَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ، وَلَا تَقْرَبُوهَا جُنُبًا حَتَّى تَغْتَسِلُوا، إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ أَيْ مُجْتَازِينَ غَيْرَ لَابِثِينَ؛ فَجَوَّزُوا الْعُبُورَ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ لُبْثٍ فِيهِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ نَفْسُ الصَّلَاةِ فَإِنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ: لَا تُصَلُّوا وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ، وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا لَهَا، أَوْ تَكُونُوا مُسَافِرِينَ، فَتَيَمَّمُوا وَتُصَلُّوا وَأَنْتُمْ جُنُبٌ حَتَّى تَغْتَسِلُوا إذَا وَجَدْتُمْ الْمَاءَ. وَرَجَّحَ أَهْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَذْهَبَهُمْ بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ أَحَدُنَا يَمُرُّ بِالْمَسْجِدِ وَهُوَ جُنُبٌ مُجْتَازًا. وَرَجَّحَ الْآخَرُونَ بِمَا رَوَى أَفْلَتُ بْنُ خَلِيفَةَ عَنْ جَسْرَةَ بِنْتِ دَجَاجَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِرَدِّ الْأَبْوَابِ الشَّارِعَةِ إلَى الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ». خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ.

والْمَسْأَلَةُ تَفْتَقِرُ إلَى تَفْصِيلٍ وَتَنْقِيحٍ، وَقَدْ أَحْكَمْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ بِمَا نُشِيرُ إلَيْهِ هَاهُنَا فَنَقُولُ: لَا إشْكَالَ فِي أَنَّ الْآيَةَ مُحْتَمَلَةٌ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ فِيهَا الصَّحَابَةُ؛ فَإِنْ أَرَدْنَا أَنْ نَعْلَمَ الْمُرَادَ مِنْهَا رَجَّحْنَا احْتِمَالَاتِهَا حَتَّى نَرَى الْفَضْلَ لِمَنْ هُوَ فِيهَا؛ فَأَمَّا أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فَظَهَرَ لَهُمْ أَنَّ الْعُبُورَ لَا يُمْكِنُ فِي نَفْسِ الصَّلَاةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلٍ؛ وَأَحْسَنُهُ حَذْفُ الْمُضَافِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ، وَإِقَامَةُ الْمُضَافِ إلَيْهِ مَقَامَهُ، وَهُوَ الصَّلَاةُ؛ وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ، وَلَا يَحْتَاجُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى حَذْفٍ كَثِيرٍ وَتَأْوِيلٍ طَوِيلٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43]. قَالُوا: وَأَيْضًا فَإِنَّ مَا تَأَوَّلْتُمْ فِي قَوْلِهِ: {إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] يُفْهَمُ مِنْ الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا فِي قَوْلِهِ: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]. وَأَمَّا عُلَمَاؤُنَا فَقَالُوا: إنَّ أَوَّلَ مَا يُحْفَظُ سَبَبُ الْآيَةِ الَّتِي نَزَلَتْ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ، وَتُحْفَظُ فَاتِحَتُهَا فَتُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهَا، حَتَّى نَرَى مَا يَرُدُّنَا عَنْهَا وَيَحْفَظُ لُغَتَهَا، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا تَقْرَبُوهَا بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَذَلِكَ يَكُونُ فِي الْفِعْلِ لَا فِي الْمَكَانِ، فَكَيْفَ يُضْمَرُ الْمَكَانُ وَيُوصَلُ بِغَيْرِ فِعْلِهِ؟ هَذَا مُحَالٌ. وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ سُبْحَانَهُ: لَا تُصَلُّوا سُكَارَى وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ الْعُبُورُ فِي نَفْسِ الصَّلَاةِ؟ قُلْنَا: بِأَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا، فَلَمْ يَجِدْ مَاءً فَيُصَلِّي حِينَئِذٍ بِالتَّيَمُّمِ جُنُبًا، لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ حَدَثَ الْجَنَابَةِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا يُسَمَّى الْمُسَافِرُ عَابِرِي سَبِيلٍ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ، بَلْ يُقَالُ لَهُ عَابِرُ سَبِيلٍ حَقِيقَةً وَاسْمًا، وَالدُّنْيَا كُلُّهَا سَبِيلٌ تُعْبَرُ. وَفِي الْآثَارِ: " الدُّنْيَا قَنْطَرَةٌ فَاعْبُرُوهَا وَلَا تَعْمُرُوهَا ". وَقَدْ اتَّفَقُوا مَعَنَا عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْجَنَابَةَ.

وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ مَا قُلْتُمْ يَفْتَقِرُ إلَى الْإِضْمَارِ الْكَثِيرِ. قُلْنَا: إنَّمَا يُفْتَقَرُ إلَيْهِ فِي تَفْهِيمِ مَنْ لَا يَفْهَمُ مَثَلُكَ، وَأَمَّا مَعَ مَنْ يَفْهَمُ فَالْحَالُ تُعْرِبُ عَنْ نَفْسِهَا كَمَا أَعْرَبَتْ الصَّحَابَةُ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ هَذَا يُفْهَمُ مِنْ الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]. فَلَيْسَ يُفْهَمُ مِنْ هَذَا إلَّا جَوَازُ التَّيَمُّمِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ؛ فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ التَّيَمُّمُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ مَعَ إبَاحَةِ الصَّلَاةِ فَلَيْسَ يُفْهَمُ إلَّا مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ قَبْلَهُ؛ وَهِيَ فَائِدَةٌ حَسَنَةٌ جِدًّا. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: ثَبَتَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُصِيبُهُمْ الْجَنَابَةُ فَيَتَوَضَّئُونَ، وَيَأْتُونَ الْمَسْجِدَ فَيَتَحَدَّثُونَ فِيهِ»، وَرُبَّمَا اغْتَرَّ بِهَذَا جَاهِلٌ فَظَنَّ أَنَّ اللُّبْثَ لِلْجُنُبِ فِي الْمَسْجِدِ جَائِزٌ. وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ وُضِعَ لِلْعِبَادَةِ وَأُكْرِمَ عَنْ النَّجَاسَةِ الظَّاهِرَةِ كَيْفَ يَدْخُلُهُ مَنْ لَا يَرْضَى لِتِلْكَ الْعِبَادَةِ، ولَا يَصِحُّ لَهُ أَنْ يَتَلَبَّسَ بِهَا؟ فَإِنْ قِيلَ: يَبْطُلُ بِالْحَدَثِ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ فِعْلُ الصَّلَاةِ وَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ. قُلْنَا: ذَلِكَ يَكْثُرُ وُقُوعُهُ ` فَيَشُقُّ الْوُضُوءُ لَهُ، وَالشَّرِيعَةُ لَا حَرَجَ فِيهَا، بِخِلَافِ الْغُسْلِ، فَإِنَّهُ لَا مَشَقَّةَ فِي أَنْ يُمْنَعَ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَغْتَسِلَ، لِأَنَّهَا تَقَعُ نَادِرًا بِالْإِضَافَةِ إلَى حَدَثِ الْوُضُوءِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا قِيَاسٌ؟ قُلْنَا: نَعَمْ؛ هُوَ قِيَاسٌ؛ وَنَحْنُ إنَّمَا نَتَكَلَّمُ مَعَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ الَّذِينَ يَرَوْنَهُ دَلِيلًا؛ فَإِنْ وَجَدْنَا مُبْتَدِعًا يُنْكِرُهُ أَخَذْنَا مَعَهُ غَيْرَ هَذَا الْمَسْلَكِ كَمَا قَدْ رَأَيْتُمُونَا مِرَارًا نَفْعَلُهُ

مسألة المقصود بقوله تعالى حتى تغتسلوا

فَنَخْصِمُهُمْ وَنَبْهَتُهُمْ؛ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «لَمْ يَكُنْ أَذِنَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمُرَّ فِيهِ وَلَا يَجْلِسَ فِيهِ إلَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ». [مَسْأَلَة الْمَقْصُود بِقَوْلِهِ تَعَالَى حَتَّى تَغْتَسِلُوا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43]: وَهُوَ لَفْظٌ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْعَرَبِ يُعَبِّرُونَ بِهِ عَنْ إمْرَارِ الْمَاءِ عَلَى الْمَغْسُولِ بِالْيَدِ حَتَّى يَزُولَ عَنْهُ مَا كَانَ مَنَعَ مِنْهُ؛ عِبَادَةً أَوْ عَادَةً. وَظَنَّ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْغُسْلَ عِبَارَةٌ عَنْ صَبِّ الْمَاءِ خَاصَّةً لَا سِيَّمَا وَقَدْ فَرَّقَتْ الْعَرَبُ بَيْنَ الْغُسْلِ بِالْمَاءِ وَالْغَمْسِ فِيهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِصَبِيٍّ لَمْ يَأْكُلْ الطَّعَامَ فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ فَأَتْبَعَهُ بِمَاءٍ وَلَمْ يَغْسِلْهُ». وَهَذَا نَصٌّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: لَمَّا قَالَ: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] اقْتَضَى هَذَا عُمُومَ إمْرَارِ الْمَاءِ عَلَى الْبَدَنِ كُلِّهِ بِاتِّفَاقٍ؛ وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِالدَّلْكِ، وَأَعْجَبُ لِأَبِي الْفَرَجِ الَّذِي رَأَى وَحَكَى عَنْ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْغُسْلَ دُونَ ذَلِكَ يُجْزِي؛ وَمَا قَالَ مَالِكٌ قَطُّ نَصًّا وَلَا تَخْرِيجًا، وإنَّمَا هِيَ مِنْ أَوْهَامِهِ؛ فَإِنَّ اللَّفْظَ إذَا كَانَ غَرِيبًا لَمْ يَخْرُجْ عِنْدَ مَالِكٍ أَوْ كَانَ احْتِيَاطًا لَمْ يَعْدِلْ عَنْهُ، وَلَوْ صَبَبْت عَلَى نَفْسِكَ الْمَاءَ كَثِيرًا مَا عَمَّ حَتَّى تَمْشِيَ يَدُكَ؛ لِأَنَّ الْبَدَنَ بِمَا فِيهِ مِنْ دُهْنِيَّةٍ يَدْفَعُ الْمَاءَ عَنْ نَفْسِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: إذَا عَمَّ الْمَرْءُ نَفْسَهُ بِالْمَاءِ أَجْزَأَهُ إجْمَاعًا، إلَّا أَنَّ الْأَفْضَلَ لَهُ أَنْ يَمْتَثِلَ فِعْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ فِي دَوَاوِينَ صِحَاحٍ عَلَى السُّنَّةُ عُدُولٍ قَالُوا: رَوَتْ عَائِشَةُ:

«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا اغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ بَدَأَ فَغَسَلَ يَدَيْهِ، ثُمَّ يُفْرِغُ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَيَغْسِلُ فَرْجَهُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ الْمَاءَ فَيُدْخِلُ فِيهِ أَصَابِعَهُ وَفِي أُصُولِ الشَّعْرِ، حَتَّى إذَا رَأَى أَنْ قَدْ أَرْوَى بَشَرَتَهُ حَفَنَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ حَفَنَاتٍ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ». وَفِي رِوَايَةِ مَيْمُونَةَ «ثُمَّ غَسَلَ جَسَدَهُ». وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ، فَاغْسِلُوا الشَّعْرَ، وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ». قَالَ أَبُو دَاوُد: لَمْ أُدْخِلْ فِي كِتَابِي إلَّا الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ، أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْ الصَّحِيحِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] وَفَهِمَ الْكُلُّ مِنْهُ عُمُومَ الْبَدَنِ بِالْمَاءِ وَالْغُسْلِ بَالَغَ قَوْمٌ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: إنَّ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ وَاجِبَانِ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ جُمْلَةِ الْوَجْهِ، وَحُكْمُهُمَا حُكْمٌ ظَاهِرُ الْوَجْهِ بِدَلِيلِ غَسْلِهِمَا مِنْ النَّجَاسَةِ، كَمَا يُغْسَلُ الْخَدُّ وَالْجَبِينُ؛ وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ كَبِيرَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَا فِيهَا. وَاللُّبَابُ مِنْهَا أَنَّ الْفَمَ وَالْأَنْفَ بَاطِنَانِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا؛ أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَإِنَّكَ تُشَاهِدُ بُطُونَهُمَا فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ؛ وَأَمَّا الْحُكْمُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّائِمَ إذَا بَلَعَ مَا اجْتَمَعَ مِنْ الرِّيقِ فِي فَمِهِ فَلَا يُفْطِرُ، وَلَوْ ابْتَلَعَهُ مِنْ يَدِهِ لَأَفْطَرَ.

مسألة الطهارة لا تفتقر إلى نية

الثَّانِي: أَنَّهُمَا لَا يَجِبَانِ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ مَعَ أَنَّهُ يَعُمُّ جَمِيعَ الْبَدَنِ، وَالْمَسْأَلَةُ هُنَاكَ مُسْتَوْفَاةٌ، فَمَنْ أَرَادَهَا وَجَدَهَا. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: إنَّ اسْمَ الْجَنَابَةِ بَاقٍ عَلَيْهِ حَتَّى يَغْتَسِلَ؛ لِأَنَّهُ حُكْمُ مُدَّةٍ إلَى غَايَةٍ هِيَ الِاغْتِسَالُ، وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ بِالْغَايَةِ يَمْتَدُّ إلَى غَايَتِهِ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ. [مَسْأَلَة الطَّهَارَةَ لَا تَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43]: يَقْتَضِي النِّيَّةَ، خِلَافًا لِمَا رَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكٍ، وَلِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّ الطَّهَارَةَ لَا تَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ؛ وَلَفْظُ " اغْتَسَلَ " يَقْتَضِي اكْتِسَابَ الْفِعْلِ، وَلَا يَكُونُ مُكْتَسَبًا لَهُ إلَّا بِالْقَصْدِ إلَيْهِ حَقِيقَةً، فَمَنْ أَخْرَجَهُ إلَى الْمَجَازِ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ. وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهَا فِي كُتُبِ الْخِلَافِ بِالْإِنْصَافِ وَالتَّلْخِيصِ؛ أَعْظَمُهَا أَنَّ الْوُضُوءَ عِبَادَةٌ اُشْتُرِطَتْ فِيهَا النِّيَّةُ كَالصَّلَاةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ عِبَادَةٌ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوُضُوءُ شَطْرُ الْإِيمَانِ». وَلَا يَكُونُ شَطْرُ الشَّيْءِ إلَّا مِنْ جِنْسِهِ. قَالَ: وَالْوُضُوءُ نُورٌ عَلَى نُورٍ، وَلَا تَسْتَنِيرُ الْجَوَارِحُ بِالْمُبَاحَاتِ، وَإِنَّمَا تَسْتَنِيرُ بِالطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ. وَقَالَ: «إذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ» الْحَدِيثَ، وَلَا يَنْفِي الْأَوْزَارَ إلَّا الْعِبَادَاتُ، وَالْقُرْآنُ يَقْتَضِي وُجُوبَ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ عَلَى مَا سَتَرَوْنَهُ مَشْرُوحًا إنْ شَاءَ اللَّهُ. [مَسْأَلَة التَّيَمُّمُ لِلْمَرِيضِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} [النساء: 43]: الْمَرَضُ عِبَارَةٌ عَنْ خُرُوجِ الْبَدَنِ عَنْ الِاعْتِدَالِ وَالِاعْتِيَادِ إلَى الِاعْوِجَاجِ وَالشُّذُوذِ؛ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: يَسِيرٌ وَكَثِيرٌ، وَقَدْ يَخَافُ الْمَرِيضُ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ، وَقَدْ يَعْدَمُ مَنْ يُنَاوِلُهُ

مسألة سبب نزول قوله تعالى أو على سفر

إيَّاهُ وَهُوَ يَعْجِزُ عَنْ تَنَاوُلِهِ، وَمُطْلَقُ اللَّفْظِ يُبِيحُ التَّيَمُّمَ لِكُلِّ مَرِيضٍ إذَا خَافَ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ وَتَأَذِّيهِ بِالْمَاءِ وَرُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يُبَاحُ التَّيَمُّمُ لِلْمَرِيضِ إذَا خَافَ التَّلَفَ؛ وَنَظَرَ إلَى أَنَّ زِيَادَةَ الْمَرَضِ غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ، لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ وَقَدْ لَا تَكُونُ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْفَرْضِ الْمُتَيَقَّنِ لِلْخَوْفِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ. قُلْنَا: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ؛ فَلَيْسَ لَكَ فِي هَذَا الْقَوْلِ أَصْلٌ تَرُدُّ إلَيْهِ كَلَامَكَ؛ بَلْ قَدْ نَاقَضْت؛ فَإِنَّكَ قُلْت: إذَا خَافَ التَّلَفَ مِنْ الْبَرْدِ يَتَيَمَّمُ، فَكَمَا يُبِيحُ التَّيَمُّمَ خَوْفُ التَّلَفِ كَذَلِكَ يُبِيحُهُ لَهُ خَوْفُ الْمَرَضِ؛ فَإِنَّ الْمَرَضَ مَحْذُورٌ، كَمَا أَنَّ التَّلَفَ مَحْذُورٌ، وَكَذَلِكَ يَقُولُ: إذَا خَافَ الْمَرِيضُ مِنْ الْبَرْدِ يَتَيَمَّمُ فَكَيْفَ بِزِيَادَةِ الْمَرَضِ.، وَقَدْ رَوَى «جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فِي رَأْسِهِ فَشَجَّهُ ثُمَّ احْتَلَمَ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ؛ فَاغْتَسَلَ، فَمَاتَ؛ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُخْبِرَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: قَتَلُوهُ، قَتَلَهُمْ اللَّهُ. أَلَا سَأَلُوا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ؛ إنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ، أَوْ يَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ». خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ. وَعَجَبًا لِلشَّافِعِيِّ يَقُولُ: لَوْ زَادَ الْمَاءُ عَلَى قِيمَتِهِ حَبَّةً لَمْ يَلْزَمْ شِرَاؤُهُ صِيَانَةً لِلْمَالِ؛ وَيَلْزَمُهُ التَّيَمُّمُ، وَهُوَ يَخَافُ عَلَى بَدَنِهِ الْمَرَضَ، وَلَيْسَ لَهُمْ عَلَيْهِ كَلَامٌ يُسَاوِي سَمَاعَهُ. [مَسْأَلَة سَبَب نُزُول قَوْله تَعَالَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء: 43]: رُوِيَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصَابَتْهُمْ جِرَاحَةٌ فَفَشَتْ فِيهِمْ، ثُمَّ اُبْتُلُوا بِالْجَنَابَةِ فَشَكَوْا ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. «وَقَالَتْ عَائِشَةُ: كُنْت فِي مَسِيرٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى إذَا كُنْت بِذَاتِ الْجَيْشِ ضَلَّ عِقْدٌ لِي» الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ. قَالَ: فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ، وَهِيَ مُعْضِلَةٌ مَا

وَجَدْت لِدَائِهَا مِنْ دَوَاءٍ عِنْدَ أَحَدٍ، هُمَا آيَتَانِ فِيهِمَا ذِكْرُ التَّيَمُّمِ: إحْدَاهُمَا فِي النِّسَاءِ، وَالْأُخْرَى فِي الْمَائِدَةِ، فَلَا نَعْلَمُ أَيَّةَ آيَةٍ عَنَتْ عَائِشَةُ. وَآيَةُ التَّيَمُّمِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ النَّازِلَةِ عِنْدَ فَقْدِ الْعَقْدِ كَانَتْ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ قَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ، سَنَةَ سِتٍّ مِنْ الْهِجْرَةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: سَنَةَ خَمْسٍ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَحَدِيثُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا وَلَا مَفْعُولًا لَهُمْ. فَاَللَّهُ أَعْلَمُ كَيْفَ كَانَتْ حَالُ مَنْ عَدِمَ الْمَاءَ، وَحَانَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ. فَإِحْدَى الْآيَتَيْنِ مُبَيِّنَةٌ وَالْأُخْرَى زَائِدَةٌ عَلَيْهَا، وَإِحْدَاهُمَا سَفَرِيَّةٌ وَالْأُخْرَى حَضَرِيَّةٌ، وَلَمَّا كَانَ أَمْرًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ خَبَّأَهُ اللَّهُ وَلَمْ يَتَيَسَّرْ بَيَانُهُ عَلَى يَدَيْ أَحَدٍ، وَلَقَدْ عَجِبْت مِنْ الْبُخَارِيِّ بَوَّبَ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ عَلَى الْآيَةِ الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا التَّيَمُّمَ، وَأَدْخَلَ حَدِيثَ عَائِشَةَ فَقَالَ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ. وَبَوَّبَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فَقَالَ: بَابُ " فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً " وَأَدْخَلَ حَدِيثَ عَائِشَةَ بِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْآيَتَيْنِ تَحْتَمِلُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قِصَّةَ عَائِشَةَ، وَأَرَادَ فَائِدَةً أَشَارَ إلَيْهَا هِيَ أَنَّ قَوْلَهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] إلَى هَذَا الْحَدِّ نَزَلَ فِي قِصَّةِ عَلِيٍّ، وَأَنَّ مَا وَرَاءَهَا قِصَّةٌ أُخْرَى وَحُكْمٌ آخَرُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا شَيْءٌ مِنْهُ، فَلَمَّا نَزَلَتْ فِي وَقْتٍ آخَرَ قُرِنَتْ بِهَا. وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ هَذَا الظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ آيَةَ الْوُضُوءِ يُذْكَرُ التَّيَمُّمُ فِيهَا فِي الْمَائِدَةِ، وَهِيَ النَّازِلَةُ فِي قِصَّةِ عَائِشَةَ، وَكَانَ الْوُضُوءُ مَفْعُولًا غَيْرَ مَتْلُوٍّ، فَكَمُلَ ذِكْرُهُ وَعَقَّبَ بِذِكْرِ بَدَلِهِ وَاسْتُوْفِيَتْ النَّوَاقِضُ فِيهِ، ثُمَّ أُعِيدَتْ مِنْ قَوْلِهِ: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} [النساء: 43] إلَى آخِرِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ مُرَكَّبَةً عَلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] حَتَّى تَكْمُلَ تِلْكَ الْآيَةُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ جَاءَ بِأَعْيَانِ مَسَائِلِهَا كَمَالُ هَذِهِ، وَيَتَكَرَّرُ الْبَيَانُ، وَلَيْسَ لَهَا نَظِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ آيَةَ عَائِشَةَ هِيَ آيَةُ الْمَائِدَةِ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ بِالْمَدِينَةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] يَعْنِي مِنْ النَّوْمِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ عَائِشَةَ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة الصيام في السفر

[مَسْأَلَة الصِّيَام فِي السَّفَر] الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء: 43] هَاهُنَا خِلَافُ قَوْلِهِ: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء: 43] فِي الصِّيَامِ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ هُنَاكَ شَرْطٌ فِي الْإِفْطَارِ، فَاعْتَبَرْنَاهُ وَتَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ، وَحَدَّدْنَاهُ، فَأَمَّا هَاهُنَا فَإِنَّ التَّيَمُّمَ فِي حَالَةِ الْحَضَرِ جَائِزٌ، وَإِنَّمَا نَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى السَّفَرِ، لِأَنَّهُ الْغَالِبُ مِنْ عَدَمِ الْمَاءِ؛ فَأَمَّا عَدَمُ الْمَاءِ فِي الْحَضَرِ فَنَادِرٌ؛ فَإِنْ وَقَعَ فَالتَّيَمُّمُ جَائِزٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا وَالشَّافِعِيَّةِ. وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: يُعِيدُ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ حَيْثُ وَقَعَ اتِّهَامٌ لَهُ بِالتَّقْصِيرِ كَمَا اسْتَقْصَرَ فِيمَا إذَا نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ وَتَيَمَّمَ، وَالنَّاسُ لَا خِطَابَ عَلَيْهِمْ إجْمَاعًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَتَيَمَّمُ فِي الْحَضَرِ إلَّا مَرِيضٌ أَوْ مَحْبُوسٌ، يُقَالُ لَهُ، أَوْ طَلِيقٌ طَلَبَ الْمَاءَ فَلَمْ يَجِدْهُ حَتَّى خَافَ خُرُوجَ الْوَقْتِ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْمَرَضِ وَالْحَبْسِ عِنْدَهُ هُوَ عَدَمُ الْمَقْدِرَةِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ شَرِيفًا بَدِيعًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَلَّمَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ حَتَّى تَيَمَّمَ فِي الْحَائِطِ». وَهَذَا نَصٌّ فِي التَّيَمُّمِ فِي الْحَضَرِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43]: وَهُوَ الْمُطْمَئِنُّ مِنْ الْأَرْضِ، كَانُوا إذَا أَرَادُوا قَضَاءَ الْحَاجَةِ أَتَوْهُ رَغْبَةً فِي التَّسَتُّرِ، فَكُنِيَ بِهِ عَمَّا يَخْرُجُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ، وَشُرِطَ الْوُضُوءُ بِهِ شَرْعًا وَكَأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: أَوْ كُنْتُمْ مُحْدِثِينَ حَدَثًا مُعْتَادًا، ضُرِبَ لَهُمْ بِهِ الْمِثْلُ، وَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَإِلَّا إذَا كُنْتُمْ جُنُبًا أَوْ مُحْدِثِينَ حَتَّى تَغْتَسِلُوا، وَلِكُلِّ شَيْءٍ بَيَانُ صِفَةِ غُسْلِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّ الْخَارِجَ إذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ الْمُعْتَادِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ نَقْضُ الْوُضُوءِ وَصَارَ دَاءً، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ سُقُوطُ اعْتِبَارِ دَمِ الْمُسْتَحَاضَةِ لِأَجْلِ أَنَّهُ دَمُ عِلَّةٍ، وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ بِتَفْصِيلِهِ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ. [مَسْأَلَة آرَاءٍ الْعُلَمَاء فِي قَوْله تَعَالَى أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43]: فِيهَا خِلَافٌ كَثِيرٌ، وَأَقْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ لِلْعُلَمَاءِ، وَمُتَعَلِّقَاتٌ مُخْتَلِفَاتٌ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ الطَّوِيلَةِ؛ وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا مَا فِيهِ بِطُرُقِهِ الْبَدِيعَةِ، وَخُذُوا الْآنَ مَعْنًى قُرْآنِيًّا بَدِيعًا؛ وَذَلِكَ أَنَّا نَقُولُ:

حَقِيقَةُ اللَّمْسِ إلْصَاقُ الْجَارِحَةِ بِالشَّيْءِ، وَهُوَ عُرِفَ فِي الْيَدِ؛ لِأَنَّهَا آلَتُهُ الْغَالِبَةُ؛ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ كِنَايَةً عَنْ الْجِمَاعِ. وَقَدْ قَالَتْ طَائِفَةٌ: اللَّمْسُ هُنَا الْجِمَاعُ. وَقَالَتْ أُخْرَى: هُوَ اللَّمْسُ الْمُطْلَقُ لُغَةً أَوْ شَرْعًا؛ فَأَمَّا اللُّغَةُ فَقَدْ قَالَ الْمُبَرِّدُ: لَمَسْتُمْ: وَطِئْتُمْ، وَلَامَسْتُمْ: قَبَّلْتُمْ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ اثْنَيْنِ، وَاَلَّذِي يَكُونُ بِقَصْدٍ وَفِعْلٍ مِنْ الْمَرْأَةِ هُوَ التَّقْبِيلُ، فَأَمَّا الْوَطْءُ فَلَا عَمَلَ لَهَا فِيهِ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: الْمُلَامَسَةُ الْجِمَاعُ، وَاللَّمْسُ لِسَائِرِ الْجَسَدِ، وَهَذَا كُلُّهُ اسْتِقْرَاءٌ لَا نَقْلَ فِيهِ عَنْ الْعَرَبِ. وَحَقِيقَةُ النَّقْلِ أَنَّهُ كُلَّهُ سَوَاءٌ؛ (وَإِنْ لَمَسْتُمْ) مُحْتَمِلٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا، كَقَوْلِهِ: لَامَسْتُمْ، وَلِذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ لِفِعْلِ الرَّجُلِ شَيْءٌ مِنْ الْمَرْأَةِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَعِفُّ: كَنَّى بِاللَّمْسِ عَنْ الْجِمَاعِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قُبْلَةُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَجَسُّهَا بِيَدِهِ مِنْ الْمُلَامَسَةِ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَهُوَ كُوفِيٌّ، فَمَا بَالُ أَبِي حَنِيفَةَ خَالَفَهُ، وَلَوْ كَانَ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَجَعَلْنَا لِكُلِّ قِرَاءَةٍ حُكْمَهَا، وَجَعَلْنَاهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْآيَتَيْنِ، وَلَمْ يَتَنَاقَضْ ذَلِكَ وَلَا تَعَارَضَ؛ وَهَذَا تَمْهِيدُ الْمَسْأَلَةِ. وَيُكْمِلُهُ وَيُؤَكِّدُهُ وَيُوَضِّحُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَلا جُنُبًا} [النساء: 43] أَفَادَ الْجِمَاعَ، وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] أَفَادَ الْحَدَثَ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: {أَوْ لامَسْتُمُ} [النساء: 43] أَفَادَ اللَّمْسَ وَالْقُبَلَ؛ فَصَارَتْ ثَلَاثَ جُمَلٍ لِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ، وَهَذَا غَايَةٌ فِي الْعِلْمِ وَالْإِعْلَامِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِاللَّمْسِ الْجِمَاعَ لَكَانَ تَكْرَارًا، وَكَلَامُ الْحَكِيمِ يَتَنَزَّهُ عَنْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قِيلَ: ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْجَنَابَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ سَبَبَهَا، فَلَمَّا ذَكَرَ سَبَبَ الْحَدَثِ وَهُوَ الْمَجِيءُ مِنْ الْغَائِطِ ذَكَرَ سَبَبَ الْجَنَابَةِ، وَهُوَ الْمُلَامَسَةُ لِلْجِمَاعِ؛ لِيُفِيدَ أَيْضًا بَيَانَ حُكْمِ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، كَمَا أَفَادَ بَيَانَ حُكْمِهَا عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ. قُلْنَا: لَا يَمْنَعُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْجِمَاعِ وَاللَّمْسِ، وَيُفِيدُ الْحُكْمَيْنِ، وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.

مسألة لمس صغيرة

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: رَاعَى مَالِكٌ فِي اللَّمْسِ الْقَصْدَ، وَجَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ نَاقِضًا لِلطَّهَارَةِ بِصُورَتِهِ كَسَائِرِ النَّوَاقِضِ، وَهُوَ الْأَصْلُ؛ وَاَلَّذِي يَدَّعِي انْضِمَامَ الْقَصْدِ إلَى اللَّمْسِ فِي اعْتِبَارِ الْحُكْمِ هُوَ الَّذِي يَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ اللَّمْسَ الْمُفْضِي إلَى خُرُوجِ الْمَذْي مَنْزِلَةَ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ الْمُفْضِي إلَى خُرُوجِ الْمَنِيِّ. فَأَمَّا اللَّمْسُ الْمُطْلَقُ فَلَا مَعْنَى لَهُ، وَذَلِكَ مُقَرَّرٌ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [مَسْأَلَة لَمَسَ صَغِيرَةً] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {النِّسَاءَ} [النساء: 43]: وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ امْرَأَةٍ بِحَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ كَالْجَنَابَةِ، حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهُ لَوْ لَمَسَ صَغِيرَةً يُنْتَقَضُ طُهْرُهُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ لَمْسَ الصَّغِيرَةِ كَلَمْسِ الْحَائِضِ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ لِأَجْلِ أَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ اللَّذَّةَ، وَإِنْ أَخْرَجَ ذَوَاتَ الْمَحَارِمِ عَنْهَا فَقَدْ اُنْتُقِضَ عَلَيْهِ جَمِيعُ مَذْهَبِهِ فِي ذَلِكَ. وَنَحْنُ اعْتَبَرْنَا اللَّذَّةَ، فَحَيْثُ وُجِدَتْ وُجِدَ حُكْمُهَا، وَهُوَ وُجُوبُ الْوُضُوءِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: يَدْخُلُ فِي حُكْمِ اللَّمْسِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءِ كَمَا دَخَلُوا فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا} [المائدة: 6] سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ عِنْدَنَا بِالِاسْمِ، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِالْمَعْنَى؛ وَذَلِكَ بَيِّنٌ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43]: لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ اغْتَسِلُوا وَاطَّهَّرُوا اقْتَضَى ذَلِكَ الْمَاءَ اقْتِضَاءً قَطْعِيًّا، إذْ هُوَ الْغَاسُولُ وَالطَّهُورُ؛ فَلِذَلِكَ قَالَ: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً، فَصَرَّحَ بِالْمُقْتَضِي، وَكَانَ عِنْدَهُ سَوَاءٌ التَّصْرِيحُ وَالِاقْتِضَاءُ؛ وَهَذَا فِي اللُّغَةِ كَثِيرٌ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43]: قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: فَائِدَةُ الْوُجُودِ الِاسْتِعْمَالُ وَالِانْتِقَاعُ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِمَا، فَمَعْنَى قَوْلِهِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43]، فَلَمْ تَقْدِرُوا؛ لِيَتَضَمَّنَ ذَلِكَ الْوُجُوهَ الْمُتَقَدِّمَةَ الْمَذْكُورَةَ فِيهَا، وَهِيَ الْمَرَضُ وَالسَّفَرُ؛ فَإِنَّ الْمَرِيضَ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ صُورَةً، وَلَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ

مسألة وجد الماء في أثناء الصلاة

اسْتِعْمَالِهِ لِضَرُورَةٍ صَارَ مَعْدُومًا حُكْمًا؛ فَالْمَعْنَى الَّذِي يَجْمَعُ نَشْرَ الْكَلَامِ (فَلَمْ تَقْدِرُوا عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ). وَهَذَا يَعُمُّ الْمَرَضَ وَالصِّحَّةَ إذَا إذَا خَافَ مِنْ أَخْذِ الْمَاءِ لِصًّا أَوْ سَبُعًا، وَيَجْمَعُ الْحَضَرَ وَالسَّفَرَ؛ وَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ الصَّرِيحُ، وَالْفِقْهُ الصَّحِيحُ، وَالْأَصْوَبُ بِالتَّصْحِيحِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَجَدَهُ بِزَائِدٍ عَلَى قِيمَتِهِ جَعَلَهُ مَعْدُومًا حُكْمًا، وَقِيلَ لَهُ تَيَمَّمْ. وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُرَادَ الْوُجُودُ الْحُكْمِيُّ، لَيْسَ الْوُجُودَ الْحِسِّيَّ. [مَسْأَلَة وَجَدَ الْمَاءَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ] وَعَلَى هَذَا قُلْنَا: إنَّ مَنْ وَجَدَ الْمَاءَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، إنَّهُ يَتَمَادَى وَلَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ يَقُولُ: يَبْطُلُ تَيَمُّمُهُ؛ لِأَنَّ الْوُجُودَ لِعَيْنِهِ لَا يُبْطِلُ التَّيَمُّمَ، كَمَا لَوْ رَأَى الْمَاءَ وَعَلَيْهِ لِصٌّ أَوْ سَبُعٌ، أَوْ رَآهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ لَمْ يَبْطُلْ تَيَمُّمُهُ، وَإِنَّمَا يَبْطُلُ التَّيَمُّمُ بِوُجُودِ مَقْرُونٍ بِالْقُدْرَةِ؛ وَإِذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ فَلَا قُدْرَةَ لَهُ إلَّا بَعْدَ إبْطَالِهَا، وَلَا تَبْطُلُ إلَّا بَعْدَ اقْتِرَانِ الْقُدْرَةِ بِالْمَاءِ، فَلَا بُطْلَانَ لَهَا؛ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ دَوْرِيَّةٌ، وَقَدْ حَقَّقْنَاهَا فِي " كِتَابِ التَّلْخِيصِ " فَلْتُنْظَرْ فِيهِ؛ وَعَلَى هَذَا تَنْبَنِي مَسْأَلَةٌ؛ هِيَ إذَا نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ، وَقَدْ اجْتَهَدَ فِي طَلَبِهِ، فَإِنَّ النَّاسِيَ لَا يُعَدُّ وَاجِدًا وَلَا يُخَاطَبُ فِي حَالِ نِسْيَانِهِ؛ فَلِذَلِكَ قُلْنَا فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ: إنَّهُ يُجْزِئُهُ. [مَسْأَلَة الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ الْمُتَغَيِّرِ وَغَيْرِ الْمُتَغَيِّرِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {مَاءً} [النساء: 43]: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هَذَا نَفْيٌ فِي نَكِرَةٍ، وَهُوَ يَعُمُّ لُغَةً؛ فَيَكُونُ مُفِيدًا جَوَازَ الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ الْمُتَغَيِّرِ وَغَيْرِ الْمُتَغَيِّرِ؛ لِانْطِلَاقِ اسْمِ الْمَاءِ عَلَيْهِ. قُلْنَا: اسْتَنْوَقَ الْجَمَلُ، الْآنَ يَسْتَدِلُّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِاللُّغَاتِ، وَيَقُولُونَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَرَبِ، وَهُمْ يَنْبِذُونَهَا فِي أَكْثَرِ الْمَسَائِلِ بِالْعَرَاءِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ النَّفْيَ فِي النَّكِرَةِ يَعُمُّ كَمَا قُلْتُمْ، وَلَكِنْ فِي الْجِنْسِ؛ فَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا كَانَ مِنْ سَمَاءٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ عَيْنٍ أَوْ نَهْرٍ أَوْ بَحْرٍ عَذْبٍ أَوْ مِلْحٍ؛ فَأَمَّا غَيْرُ الْجِنْسِ فَهُوَ الْمُتَغَيِّرُ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ، كَمَا لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ مَاءُ الْبَاقِلَاءِ.

وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَنْعِ الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ الْمُتَغَيِّرِ بِالزَّعْفَرَانِ فِي " كِتَابِ التَّلْخِيصِ ". وَمِنْ هَاهُنَا وَهَمَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ: إنَّهُ إذَا وَجَدَ مِنْ الْمَاءِ مَا لَا يَكْفِيهِ لِأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ كُلِّهَا أَنَّهُ يَسْتَعْمِلُهُ فِيمَا كَفَاهُ وَيَتَيَمَّمُ لِبَاقِيهِ؛ فَخَالَفَ مُقْتَضَى اللُّغَةِ وَأُصُولِ الشَّرِيعَةِ. أَمَّا مُقْتَضَى اللُّغَةِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] وَأَرَادَ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ، ثُمَّ قَالَ {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] فَاقْتَضَى ذَلِكَ الْمَاءَ الَّذِي يَقُومُ لَهُ بِحَقِّ مَا تَقَدَّمَ الْأَمْرُ فِيهِ وَالتَّكْلِيفُ لَهُ؛ فَإِنْ آخِرَ الْكَلَامِ مُرْتَبِطٌ بِأَوَّلِهِ. وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُ لِلْأُصُولِ فَلَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ مَوْضِعٌ يُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْبَدَلِ، وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَبِهَذَا تَعَلَّقَ الْأَئِمَّةُ فِي الْوُضُوءِ بِمَاءِ الْبَحْرِ، وهِيَ: الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّهُ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مَاءُ النَّارِ أَوْ لِأَنَّهُ طِينُ جَهَنَّمَ، وَكَأَنَّهُمْ يُشِيرُونَ إلَى أَنَّهُ مَاءُ عَذَابٍ فَلَا يَكُونُ مَاءَ قُرْبَةٍ. وَقَدْ «مَنَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ نَزَلُوا بِهِ بِدِيَارِ ثَمُودَ أَلَّا يُشْرَبَ وَلَا يُتَوَضَّأَ مِنْ آبَارِهِمْ إلَّا مِنْ بِئْرِ النَّاقَةِ، وَأَوْقَفَهُمْ عَلَيْهِ»؛ وَهِيَ إحْدَى مُعْجِزَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قُلْنَا: قَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَاءِ الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ».

مسألة النية في التيمم

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَاءَ الْبَحْرِ هُوَ طَهُورُ الْمَلَائِكَةِ، إذَا نَزَلُوا تَوَضَّئُوا، وَإِذَا صَعِدُوا تَوَضَّئُوا، فَيُقَابَلُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَيَبْقَى لَنَا مُطْلَقُ الْآيَةِ، وَحَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [مَسْأَلَة النِّيَّةُ فِي التَّيَمُّمِ] الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ ثَلَاثِينَ: قَوْله تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} [المائدة: 6]: مَعْنَاهُ فَاقْصِدُوا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَرَأَهَا فَائْتَمُّوا، وَالْأُولَى أَفْصَحُ وَأَمْلَحُ؛ فَإِنَّ " اقْصِدُوا " أَمْلَحُ مِنْ اتَّخِذُوهُ إمَامًا، وَمِنْ هَاهُنَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَلْزَمُ النِّيَّةُ فِي التَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّهُ الْقَصْدُ لَفْظًا وَمَعْنًى. قُلْنَا: لَيْسَ الْقَصْدُ إلَيْهِ لِلِاسْتِعْمَالِ بَدَلَ الْمَاءِ هُوَ النِّيَّةُ، إنَّمَا مَعْنَاهُ اجْعَلُوهُ بَدَلًا، فَأَمَّا قَصْدُ التَّقَرُّبِ فَهُوَ غَيْرُهُ. جَوَابٌ آخَرُ: وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: {فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] إنْ كَانَ يَقْتَضِي بِلَفْظِهِ النِّيَّةَ فَقَوْلُهُ: تَطَهَّرُوا وَاغْتَسِلُوا يَقْتَضِي بِلَفْظِهِ النِّيَّةَ، كَمَا تَقَدَّمَ. فَإِنْ قِيلَ: الْمَاءُ مُطَهِّرٌ بِنَفْسِهِ، فَلَمْ يُفْتَقَرْ إلَى قَصْدٍ إذَا وُجِدَتْ النَّظَافَةُ بِهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَتْ. قُلْنَا: وَكَذَلِكَ التُّرَابُ مُلَوَّثٌ بِنَفْسِهِ، فَلَمْ يُفْتَقَرْ إلَى قَصْدٍ إذَا وُجِدَ التَّلَوُّثُ بِهِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله صَعِيدًا] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى: {صَعِيدًا} [المائدة: 6]: فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: وَجْهُ الْأَرْضِ؛ قَالَهُ مَالِكٌ. الثَّانِي: الْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ؛ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ.

مسألة معنى قوله طيبا

الثَّالِثُ: الْأَرْضُ الْمَلْسَاءُ. الرَّابِعُ: التُّرَابُ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَاخْتَارَهُ الشَّافِعِيُّ. وَاَلَّذِي يُعَضِّدُهُ الِاشْتِقَاقُ وَهُوَ صَرِيحُ اللُّغَةِ أَنَّهُ وَجْهُ الْأَرْضِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ مِنْ رَمْلٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ مَدَرٍ أَوْ تُرَابٍ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ طَيِّبًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْلُهُ: {طَيِّبًا} [المائدة: 6]: قِيلَ: إنَّهُ مُنْبِتٌ، وَعُزِيَ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاخْتَارَهُ الشَّافِعِيُّ، وَعَضَّدَهُ بِالْمَعْنَى فَقَالَ: إنَّهُ يَنْتَقِلُ مِنْ الْمَاءِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْإِحْيَاءِ إلَى التُّرَابِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْإِنْبَاتِ. وَقِيلَ: إنَّهُ النَّظِيفُ. وَقِيلَ: إنَّهُ الْحَلَالُ. وَقِيلَ: هُوَ الطَّاهِرُ؛ فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ أَصَحُّهَا الطَّاهِرُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: إذَا تَيَمَّمَ عَلَى بُقْعَةٍ نَجِسَةٍ جَاهِلًا أَعَادَ فِي الْوَقْتِ، وَلَوْ تَوَضَّأَ بِمَاءٍ نَجِسٍ أَعَادَ أَبَدًا. قُلْنَا: هُمَا عِنْدَنَا سَوَاءٌ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ الَّذِي نَنْصُرُهُ الْآنَ، وَكَلَامُ الْقَوْلِ الثَّانِي فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ. فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: إنَّهُ نَقَلَ مِنْ أَصْلِ الْإِحْيَاءِ إلَى أَصْلِ الْإِنْبَاتِ فَهُوَ دَعْوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا؛ عَلَى أَنَّا نَقُولُ: نَقَلَنَا مِنْ الْمَاءِ إلَى الْأَرْضِ، وَمِنْهَا خَلَقَنَا. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَامْسَحُوا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَامْسَحُوا} [المائدة: 6]: وَالْمَسْحُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ جَرِّ الْيَدِ عَلَى الْمَمْسُوحِ خَاصَّةً، فَإِنْ كَانَ بِآلَةٍ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ نَقْلِ الْآلَةِ إلَى الْيَدِ وَجَرِّهَا عَلَى الْمَمْسُوحِ بِخِلَافِ الْغُسْلِ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: وَالْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ: شَرْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدِ: وَالسَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ: دُخُولُ الْبَاءِ عَلَى الْوَجْهِ:

مسألة عفو الله تبارك وتعالى إسقاطه لحقوقه أو بذله لفضله

وَالسَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: سُقُوطُ قَوْلِهِ {مِنْهُ} [المائدة: 6] هَاهُنَا وَثُبُوتُهَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَة عَفْوَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إسْقَاطُهُ لِحُقُوقِهِ أَوْ بَذْلُهُ لِفَضْلِهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ: دُخُولُ الْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَحْكَامِ وَانْتِظَامِهَا بِهِمَا. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ عَفْوَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إسْقَاطُهُ لِحُقُوقِهِ أَوْ بَذْلُهُ لِفَضْلِهِ، وَمَغْفِرَتُهُ سَتْرُهُ عَلَى عِبَادِهِ؛ فَوَجْهُ الْإِسْقَاطِ هَاهُنَا تَخْفِيفُ التَّكْلِيفِ، وَلَوْ رُدَّ بِأَكْثَرَ لَلَزِمَ، وَوَجْهُ بَدَلِهِ إعْطَاؤُهُ الْأَجْرَ الْكَثِيرَ عَلَى الْفِعْلِ الْيَسِيرِ، وَرَفْعُهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ الْإِصْرَ الَّذِي كَانَ وَضَعَهُ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ قَبْلَهَا، وَمَغْفِرَتُهُ سَتْرُهُ عَلَى الْمُقَصِّرِينَ فِي الطَّاعَاتِ؛ وَذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي آيَاتِ الذِّكْرِ، وَمِنْهُ نُبْذَةٌ فِي " شَرْحِ الْمُشْكَلَيْنِ " فَلْتُنْظَرْ هُنَالِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [الْآيَة الثَّانِيَة وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا] وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58] فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْأَمَانَاتِ؛ فَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ كُلُّ مَا أَخَذْتَهُ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ مَا أَخَذْتَهُ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ لِمَنْفَعَتِهِ. الصَّحِيحُ أَنَّ كِلَيْهِمَا أَمَانَةٌ؛ وَمَعْنَى الْأَمَانَةِ فِي الِاشْتِقَاقِ أَنَّهَا أُمِنَتْ مِنْ الْإِفْسَادِ.

مسألة في أحكام كلا من الوديعة اللقطة والرهن والإجارة والعارية

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى: بِأَدَائِهَا إلَى أَرْبَابِهَا، وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا أَمْرُ السَّرَايَا؛ قَالَهُ عَلِيٌّ وَمَكْحُولٌ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي «عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ الْمِفْتَاحَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَدَخَلَ الْكَعْبَةَ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَخَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتْلُوهَا، فَدَعَا عُثْمَانُ، فَدَفَعَ إلَيْهِ الْمِفْتَاحَ»، فَكَانَتْ وِلَايَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَنَاهِيكَ بِهَذَا فَخْرًا. وَرُوِيَ أَنَّ الْعَبَّاسَ عَمَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ تُجْمَعَ لَهُ السَّدَانَةُ وَالسِّقَايَةُ، وَنَازَعَهُ فِي ذَلِكَ شَيْبَةُ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الْآيَةَ. [مَسْأَلَة فِي أَحْكَام كلا مِنْ الْوَدِيعَةُ اللُّقَطَةُ وَالرَّهْنُ وَالْإِجَارَةُ وَالْعَارِيَّةُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَوْ فَرَضْنَاهَا نَزَلَتْ فِي سَبَبٍ فَهِيَ عَامَّةٌ بِقَوْلِهَا، شَامِلَةٌ بِنُظُمِهَا لِكُلِّ أَمَانَةٍ؛ وَهِيَ أَعْدَادٌ كَثِيرَةٌ، أُمَّهَاتُهَا فِي الْأَحْكَامِ: الْوَدِيعَةُ، وَاللُّقَطَةُ، وَالرَّهْنُ، وَالْإِجَارَةُ، وَالْعَارِيَّةُ. أَمَّا الْوَدِيعَةُ: فَلَا يَلْزَمُ أَدَاؤُهَا حَتَّى تُطْلَبَ، وَأَمَّا اللُّقَطَةُ فَحُكْمُهَا التَّعْرِيفُ سَنَةً فِي مَظَانِّ الِاجْتِمَاعَاتِ، وَحَيْثُ تُرْجَى الْإِجَابَةُ لَهَا، وَبَعْدَ ذَلِكَ يَأْكُلُهَا حَافِظُهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا غَرِمَهَا، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا. وَأَمَّا الرَّهْنُ: فَلَا يَلْزَمُ فِيهِ أَدَاءٌ حَتَّى يُؤَدِّيَ إلَيْهِ دَيْنَهُ. وَأَمَّا الْإِجَارَةُ وَالْعَارِيَّةُ: إذَا انْقَضَى عَمَلُهُ فِيهَا يَلْزَمُهُ رَدُّهَا إلَى صَاحِبِهَا قَبْلَ أَنْ يَطْلُبَهَا، وَلَا يُحْوِجُهُ إلَى تَكْلِيفٍ لِلطَّلَبِ وَمُؤْنَةِ الرَّدِّ. وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا فِي الْإِجَارَةِ: يَرُدُّهَا أَيْنَ أَخَذَهَا إنْ كَانَ مَوْضِعُ ذَلِكَ فِيهَا. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]

قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: قَالَ أَبِي: هُمْ السَّلَاطِينُ، بَدَأَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِمْ؛ فَأَمَرَهُمْ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِيمَا لَدَيْهِمْ مِنْ الْفَيْءِ، وَكُلُّ مَا يَدْخُلُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ حَتَّى يُوصِلُوهُ إلَى أَرْبَابِهِ، وَأَمَرَهُمْ بِالْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ بِالْعَدْلِ، وَأَمَرَنَا بَعْدَ ذَلِكَ بِطَاعَتِهِمْ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]. قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَالْحُكْمِ عَامَّةً فِي الْوِلَايَةِ وَالْخَلْقِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ عَالِمٌ، بَلْ كُلُّ مُسْلِمٍ حَاكِمٌ وَوَالٍ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُقْسِطُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ وَهُمْ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا». وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْإِمَامُ رَاعٍ عَلَى النَّاسِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ: أَلَّا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ». فَجَعَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ كُلَّ هَؤُلَاءِ رُعَاةً وَحُكَّامًا عَلَى مَرَاتِبِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْعَالَمُ الْحَاكِمُ فَإِنَّهُ إذَا أَفْتَى يَكُونُ قَضَى، وَفَصَلَ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْفَرْضِ وَالنَّدْبِ، وَالصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ؛ فَجَمِيعُ ذَلِكَ فِيمَنْ ذَكَرْنَا أَمَانَةٌ تُؤَدَّى وَحُكْمٌ يُقْضَى، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.

الآية الثالثة والثلاثون قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول

[الْآيَة الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ] َ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: 59] فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي حَقِيقَةِ الطَّاعَةِ: وَهِيَ امْتِثَالُ الْأَمْرِ، كَمَا أَنَّ الْمَعْصِيَةَ ضِدُّهَا، وَهِيَ مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ. وَالطَّاعَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ طَاعَ إذَا انْقَادَ، وَالْمَعْصِيَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ عَصَى وَهُوَ اشْتَدَّ، فَمَعْنَى ذَلِكَ امْتَثِلُوا أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْرَ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى» [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]: فِيهَا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: هُمْ أَصْحَابُ السَّرَايَا، وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ، إذْ بَعَثَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَرِيَّةٍ. الثَّانِي: قَالَ جَابِرٌ: هُمْ الْعُلَمَاءُ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ التَّابِعِينَ، واخْتَارَهُ مَالِكٌ؛ قَالَ مُطَرِّفٌ

مسألة معنى قوله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول

وَابْنُ مَسْلَمَةَ: سَمِعْنَا مَالِكًا يَقُولُ: هُمْ الْعُلَمَاءُ. وَقَالَ خَالِدُ بْنُ نَزَارٍ، وَقَفْت عَلَى مَالِكٍ فَقُلْت: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؛ مَا تَرَى فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]؟ قَالَ: وَكَانَ مُحْتَبِيًا فَحَلَّ حَبْوَتَهُ، وَكَانَ عِنْدَهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ فِي وَجْهِي، وَعَلِمْت مَا أَرَادَ، وَإِنَّمَا عَنَى أَهْلَ الْعِلْمِ؛ وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ وَاحْتَجَّ لَهُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي» الْحَدِيثَ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُمْ الْأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ جَمِيعًا، أَمَّا الْأُمَرَاءُ فَلِأَنَّ أَصْلَ الْأَمْرِ مِنْهُمْ وَالْحُكْمَ إلَيْهِمْ. وَأَمَّا الْعُلَمَاءُ فَلِأَنَّ سُؤَالَهُمْ وَاجِبٌ مُتَعَيِّنٌ عَلَى الْخَلْقِ، وَجَوَابُهُمْ لَازِمٌ، وَامْتِثَالُ فَتْوَاهُمْ وَاجِبٌ، يَدْخُلُ فِيهِ الزَّوْجُ لِلزَّوْجَةِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ كُلَّ هَؤُلَاءِ حَاكِمٌ، وَقَدْ سَمَّاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فَقَالَ: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ} [المائدة: 44]. فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَاكِمٌ [وَالرَّبَّانِيَّ حَاكِمٌ]، وَالْحَبْرَ حَاكِمٌ، وَالْأَمْرُ كُلُّهُ يَرْجِعُ إلَى الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ أَفْضَى إلَى الْجُهَّالِ، وَتَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ سُؤَالُ الْعُلَمَاءِ؛ وَلِذَلِكَ نَظَرَ مَالِكٌ إلَى خَالِدِ بْنِ نَزَارٍ نَظْرَةً مُنْكَرَةً، كَأَنَّهُ يُشِيرُ بِهَا إلَى أَنَّ الْأَمْرَ قَدْ وَقَفَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْعُلَمَاءِ، وَزَالَ عَنْ الْأُمَرَاءِ لِجَهْلِهِمْ وَاعْتِدَائِهِمْ، وَالْعَادِلُ مِنْهُمْ مُفْتَقِرٌ إلَى الْعَالَمِ كَافْتِقَارِ الْجَاهِلِ. [مَسْأَلَةُ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: رُدُّوهُ إلَى كِتَابِ اللَّهِ، فَإِذَا لَمْ تَجِدُوهُ فَإِلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ لَمْ تَجِدُوهُ فَكَمَا قَالَ عَلِيٌّ: مَا عِنْدَنَا إلَّا مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، أَوْ فَهْمٌ أُوتِيهِ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، وَكَمَا «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ: بِمَ تَحْكُمُ؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ. قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، وَلَا آلُو. قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ».

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا لَا يَصِحُّ. قُلْنَا: قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ " شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ " وَكِتَابِ " نَوَاهِي الدَّوَاهِي " صِحَّتَهُ ، وَأَخَذَ الْخُلَفَاءُ كُلُّهُمْ بِذَلِكَ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لِلْأَنْصَارِ: إنَّ اللَّهَ جَعَلَكُمْ الْمُفْلِحِينَ، وَسَمَّانَا الصَّادِقِينَ؛ فَقَالَ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [الحشر: 8] إلَى قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]. ثُمَّ قَالَ: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الحشر: 9] إلَى قَوْلِهِ: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]. وَقَدْ أَمَرَكُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ تَكُونُوا مَعَنَا حَيْثُ كُنَّا، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]. «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أُوصِيكُمْ بِالْأَنْصَارِ خَيْرًا». وَلَوْ كَانَ لَكُمْ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا أَوْصَى بِكُمْ ". وَقَالَ لَهُ عُمَرُ حِينَ ارْتَدَّ مَانِعُوا الزَّكَاةِ: خُذْ مِنْهُمْ الصَّلَاةَ وَدَعْ الزَّكَاةَ. فَقَالَ: لَا أَفْعَلُ؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ وَالصَّلَاةَ حَقُّ الْبَدَنِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: نَرْضَى لِدُنْيَانَا مَنْ رَضِيَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِدِينِنَا. وَجَاءَتْ الْجَدَّةُ الْأُخْرَى إلَيْهِ فَقَالَ لَهَا: لَا أَجِدُ لَكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْئًا وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ السُّدُسُ؛ فَأَيَّتُكُمَا خَلَتْ بِهِ فَهُوَ لَهَا، فَإِنْ اجْتَمَعْتُمَا فَهُوَ بَيْنَكُمَا. وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَضَى بِالسُّدُسِ لِلْجَدَّةِ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ»؛ فَوَجَبَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِيهِ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ. وَكَذَلِكَ لَمَّا جَمَعَ الصَّحَابَةَ فِي أَمْرِ الْوَبَاءِ بِالشَّامِ فَتَكَلَّمُوا مَعَهُ بِأَجْمَعِهِمْ وَهُمْ مُتَوَافِرُونَ، مَا ذَكَرُوا فِي طَلَبِهِمْ الْحَقَّ فِي مَسْأَلَتِهِمْ لِلَّهِ كَلِمَةً وَلَا لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرْفًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ، وَأَفْتَوْا وَحَكَمَ عُمَرُ، وَنَازَعَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، فَقَالَ لَهُ: أَرَأَيْت لَوْ

كَانَ لَكَ إبِلٌ فَهَبَطْت بِهَا وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ: إحْدَاهَا خِصْبَةٌ وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ؛ أَلَيْسَ إنْ رَعَيْت الْخِصْبَةَ رَعَيْتهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، وَإِنْ رَعَيْت الْجَدْبَةَ رَعَيْتهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، فَضَرَبَ الْمَثَلَ لِنَفْسِهِ بِالرَّعْيِ وَالنَّاسِ بِالْإِبِلِ، وَالْأَرْضِ الْوَبِئَةِ بِالْعُدْوَةِ الْجَدْبَةِ، وَالْأَرْضِ السَّلِيمَةِ بِالْعُدْوَةِ الْخِصْبَةِ، وَلِاخْتِيَارِ السَّلَامَةِ بِاخْتِيَارِ الْخِصْبِ؛ فَأَيْنَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ هَذَا كُلِّهِ؟ أَيُقَالُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا لَمْ يَقُولَا، فَذَلِكَ كُفْرٌ، أَمْ يُقَالُ: دَعْ هَذَا فَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهِ حُكْمٌ، فَذَلِكَ كُفْرٌ، وَلَكِنْ تُضْرَبُ الْأَمْثَالِ وَيُطْلَبُ الْمِثَالُ حَتَّى يَخْرُجَ الصَّوَابُ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]. وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَأَصْحَابُهُ حِينَ جَمَعُوا الْقُرْآنَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُوُفِّيَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا مَوْضِعَ بَرَاءَةٍ، وَإِنَّ قِصَّتَهَا لَتُشْبِهُ قِصَّةَ الْأَنْفَالِ، فَنَرَى أَنْ نَكْتُبَهَا مَعَهَا وَلَا نَكْتُبُ بَيْنَهَا سَطْرَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1]. فَأَثْبَتُوا مَوْضِعَ الْقُرْآنِ بِقِيَاسِ الشَّبَهِ. وَقَالَ عَلِيٌّ: نَرَى أَنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]. وَقَالَ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233]. فَإِذَا فَصَلْتَهُمَا مِنْ ثَلَاثِينَ شَهْرًا بَقِيَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ. وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَوْمُ الْجُنُبِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] فَيَقَعُ الِاغْتِسَالُ بَعْدَ الْفَجْرِ، وَقَدْ انْعَقَدَ جُزْءٌ مِنْ الصَّوْمِ وَهُوَ فَاتِحَتُهُ مَعَ الْجَنَابَةِ، وَلَوْ سَرَدْنَا نَبْطَ الصَّحَابَةِ لَتَبَيَّنَ خَطَأُ الْجَهَالَةِ، وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ لِلْعُلَمَاءِ؛ فَإِنْ عَارَضَكُمْ السُّفَهَاءُ فَالْعَجَلَةُ الْعَجَلَةُ إلَى كِتَابِ نَوَاهِي الدَّوَاهِي، فَفِيهِ الشِّفَاءُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الآية الرابعة والثلاثون قوله تعالى ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك

[الْآيَة الرَّابِعَة وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى أَلَم تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ] َ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا} [النساء: 60] فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: يُرْوَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي «رَجُلٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ نَازَعَ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَبُو الْقَاسِمِ، وَقَالَ الْمُنَافِقُ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ الْكَاهِنُ. وَقِيلَ: قَالَ الْمُنَافِقُ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، يَفِرُّ الْيَهُودِيُّ مِمَّنْ يَقْبَلُ الرِّشْوَةَ وَيُرِيدُ الْمُنَافِقُ مَنْ يَقْبَلُهَا. وَيُرْوَى أَنَّ الْيَهُودِيَّ قَالَ لَهُ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَبُو الْقَاسِمِ. وَقَالَ الْمُنَافِقُ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ الْكَاهِنُ، حَتَّى تَرَافَعَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَكَمَ لِلْيَهُودِيِّ عَلَى الْمُنَافِقِ، فَقَالَ الْمُنَافِقُ: لَا أَرْضَى، بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَبُو بَكْرٍ؛ فَأَتَيَا أَبَا بَكْرٍ فَحَكَمَ أَبُو بَكْرٍ لِلْيَهُودِيِّ. فَقَالَ الْمُنَافِقُ: لَا أَرْضَى، بَيْنِي وَبَيْنَكَ عُمَرُ. فَأَتَيَا عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ الْيَهُودِيُّ بِمَا جَرَى؛ فَقَالَ: أَمْهِلَا حَتَّى أَدْخُلَ بَيْتِي فِي حَاجَةٍ، فَدَخَلَ فَأَخْرَجَ سَيْفَهُ ثُمَّ خَرَجَ، فَقَتَلَ الْمُنَافِقَ؛ فَشَكَا أَهْلُهُ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنَّهُ رَدَّ حُكْمَكَ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنْتَ الْفَارُوقُ»، وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ الْآيَةُ كُلُّهَا إلَى قَوْلِهِ: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. وَيُرْوَى فِي الصَّحِيحِ أَنَّ «رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ فِي شِرَاجِ الْحُرَّةِ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اسْقِ يَا زُبَيْرُ، وَأَرْسِلْ الْمَاءَ إلَى جَارِكِ الْأَنْصَارِيِّ. فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: آنَ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَالَ لِلزُّبَيْرِ: أَمْسِكْ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ الْجَدْرَ، ثُمَّ أَرْسِلْهُ».

الآية الخامسة والثلاثون قوله تعالى ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم

قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ: وَأَحْسَبُ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] إلَى آخِرِهِ. قَالَ مَالِكٌ: الطَّاغُوتُ كُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ صَنَمٍ أَوْ كَاهِنٍ أَوْ سَاحِرٍ أَوْ كَيْفَمَا تَصَرَّفَ الشِّرْكُ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: {آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [النساء: 60]: يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ، أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ. وَبِقَوْلِهِ: {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [النساء: 60]: يَعْنِي الْيَهُودَ؛ آمَنُوا بِمُوسَى، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 61] وَيَذْهَبُونَ إلَى الطَّاغُوتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَارَ الطَّبَرِيُّ أَنْ يَكُونَ نُزُولُ الْآيَةِ فِي الْمُنَافِقِ وَالْيَهُودِيِّ ثُمَّ تَتَنَاوَلُ بِعُمُومِهَا قِصَّةَ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَكُلُّ مَنْ اتَّهَمَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحُكْمِ فَهُوَ كَافِرٌ، لَكِنَّ الْأَنْصَارِيَّ زَلَّ زَلَّةً فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَقَالَ عَثْرَتَهُ لِعِلْمِهِ بِصِحَّةِ يَقِينِهِ وَأَنَّهَا كَانَتْ فَلْتَةً، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ بَعْدَهُ فَهُوَ عَاصٍ آثِمٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِيهَا أَنْ يَتَحَاكَمَ الْيَهُودِيُّ مَعَ الْمُسْلِمِ عِنْدَ حَاكِمِ الْإِسْلَامِ، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [الْآيَة الْخَامِسَة وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اُقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوْ اُخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ] الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66]

الآية السادسة والثلاثون قوله تعالى ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم

فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُوِيَ أَنَّهُ «تَفَاخَرَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شِمَاسٍ وَيَهُودِيٌّ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: وَاَللَّهِ، لَقَدْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْنَا أَنْ نَقْتُلَ أَنْفُسَنَا. فَقَالَ ثَابِتٌ: وَاَللَّهِ لَوْ كَتَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْنَا لَفَعَلْنَا. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ: قَالَ رَجُلٌ مِنْ الصَّحَابَةِ لَوْ أُمِرْنَا لَفَعَلْنَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانَا. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّ مِنْ أُمَّتِي لَرِجَالًا الْإِيمَانُ أَثْبَتُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي». قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: الْقَائِلُ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حَرْفُ " لَوْ " تَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ الشَّيْءِ لِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَمْ يَكْتُبْ ذَلِكَ عَلَيْنَا لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الْأَكْثَرَ مَا كَانَ يَمْتَثِلُ ذَلِكَ فَتَرَكَهُ رِفْقًا بِنَا؛ لِئَلَّا تَظْهَرَ مَعْصِيَتُنَا، فَكَمْ مِنْ أَمْرٍ قَصَّرْنَا عَنْهُ مَعَ خِفَّتِهِ، فَكَيْفَ بِهَذَا الْأَمْرِ مَعَ ثِقَلِهِ؟ أَمَا وَاَللَّهِ لَقَدْ تَرَكَ الْمُهَاجِرُونَ مَسَاكِنَهُمْ خَاوِيَةً وَخَرَجُوا يَطْلُبُونَ بِهَا عِيشَةً رَاضِيَةً، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. [الْآيَة السَّادِسَة وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ] الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] الْآيَةُ فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:

مسألة المدينة وفضلها

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: وَفِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ أَشْبَهُهَا مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَّ «رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مَحْزُونٌ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا لِي أَرَاك مَحْزُونًا؟ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، نَحْنُ نَغْدُو عَلَيْكَ وَنَرُوحُ نَنْظُرُ فِي وَجْهِكَ وَنُجَالِسُكَ، وَغَدًا تُرْفَعُ مَعَ النَّبِيِّينَ، فَلَا نَصِلُ إلَيْكَ؛ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ؛ فَبَعَثَ إلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُبَشِّرُهُ». [مَسْأَلَة الْمَدِينَةَ وَفَضْلَهَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: قَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، وَهُوَ يَصِفُ الْمَدِينَةَ وَفَضْلَهَا، يُبْعَثُ مِنْهَا أَشْرَافُ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَحَوْلَهَا الشُّهَدَاءُ أَهْلُ بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ، ثُمَّ تَلَا مَالِكٌ هَذِهِ الْآيَةَ: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا - ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء: 69 - 70]؛ يُرِيدُ مَالِكٌ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء: 69] هُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بِالْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا، فَبَيَّنَ بِذَلِكَ فَضْلَهُمْ، وَفَضْلَ الْمَدِينَةِ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ الْبِقَاعِ: مَكَّةَ وسِوَاهَا، وَهَذَا فَضْلٌ مُخْتَصٌّ بِهَا، وَلَهَا فَضَائِلُ سِوَاهَا بَيَّنَّاهَا فِي قَبَسِ الْمُوَطَّأِ، وَفِي الْإِنْصَافِ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ؛ فَلْيُنْظَرْ فِي الْكِتَابَيْنِ. [الْآيَة السَّابِعَة وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ] ٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} [النساء: 71] فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الثُّبَةُ: الْجَمَاعَةُ، وَالْجَمْعُ فِيهَا ثِبُونَ أَوْ ثِبِينَ أَوْ ثُبَاتٌ، كَمَا تَقُولُ: عِضَةٌ وَعِضُونَ وَعِضَاهٌ، وَاللُّغَتَانِ فِي الْقُرْآنِ، وَتَصْغِيرُ الثُّبَةِ ثُبَيَّةٌ، وَيُقَالُ فِي وَسَطِ الْحَوْضِ ثُبَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ

مسألة معنى قوله تعالى خذوا حذركم

يَثُوبُ إلَيْهِ، أَيْ يَرْجِعُ؛ وَتَصْغِيرُ هَذِهِ ثُوَيْبَةُ؛ لِأَنَّ هَذَا مَحْذُوفُ الْوَاوِ، وَثُبَةُ الْجَمَاعَةِ إنَّمَا اُشْتُقَّتْ مِنْ ثَبَّيْتُ عَلَى الرَّجُلِ إذَا أَثْنَيْتُ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ وَجَمَعْتُ مَحَاسِنَ ذِكْرِهِ، فَيَعُودُ إلَى الِاجْتِمَاعِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى خُذُوا حِذْرَكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71]: أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَلَّا يَقْتَحِمُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ عَلَى جَهَالَةٍ حَتَّى يَتَحَسَّسُوا إلَى مَا عِنْدَهُمْ، وَيَعْلَمُوا كَيْفَ يَرُدُّونَ عَلَيْهِمْ؛ فَذَلِكَ أَثْبَتُ لِلنُّفُوسِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالتَّجْرِبَةِ. [مَسْأَلَةُ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ النَّاسَ بِالْجِهَادِ سَرَايَا مُتَفَرِّقَةً أَوْ مُجْتَمِعِينَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ النَّاسَ بِالْجِهَادِ سَرَايَا مُتَفَرِّقَةً أَوْ مُجْتَمَعِينَ عَلَى الْأَمِيرِ، فَإِنْ خَرَجَتْ السَّرَايَا فَلَا تَخْرُجُ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ؛ لِيَكُونَ مُتَحَسِّسًا إلَيْهِمْ وَعَضُدًا مِنْ وَرَائِهِمْ، وَرُبَّمَا احْتَاجُوا إلَى دَرْئِهِ. [الْآيَة الثَّامِنَة وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 74] سَوَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي ظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ مَنْ قُتِلَ شَهِيدًا أَوْ انْقَلَبَ غَانِمًا، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ إلَّا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ، وَتَصْدِيقُ كَلِمَتِهِ، أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يَرُدَّهُ إلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ». فَغَايَرَ بَيْنَهُمَا، وَجَعَلَ الْأَجْرَ فِي مَحَلٍّ وَالْغَنِيمَةَ فِي مَحَلٍّ آخَرَ. وَثَبَتَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا سَرِيَّةٍ أَخْفَقَتْ كَمُلَ لَهَا الْأَجْرُ، وَأَيُّمَا سَرِيَّةٍ غَنِمَتْ ذَهَبَ ثُلُثَا أَجْرِهَا».

الآية التاسعة والثلاثون قوله تعالى وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله

فَأَمَّا هَذَا الْحَدِيثُ فَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي شُرُوحَاتِ الْحَدِيثِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَلَيْسَ يُعَارِضُ الْآيَةَ كُلَّ الْمُعَارَضَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ ثُلُثَ الْأَجْرِ، وَهَذَا عَظِيمٌ؛ وَإِذَا لَمْ يُعَارِضْهَا فَلْيُؤْخَذْ تَمَامُهُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فَقَدْ قِيلَ فِيهِ: إنَّ " أَوْ " بِمَعْنَى الْوَاوِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَجْمَعُ لَهُ الْأَجْرَ وَالْغَنِيمَةَ، فَمَا أَعْطَى اللَّهُ الْغَنَائِمَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مُحَاسِبًا لَهَا بِهَا مِنْ ثَوَابِهَا، وَإِنَّمَا خَصَّهَا بِهَا تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا لَهَا؛ لِحُرْمَةِ نَبِيِّهَا. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي». فَاخْتَارَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ وَلِأُمَّتِهِ فِيمَا يَرْتَزِقُونَ أَفْضَلَ وُجُوهِ الْكَسْبِ وَأَكْرَمَهَا، وَهُوَ أَخْذُ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ. وَقِيلَ: إنَّ مَعْنَاهُ الَّذِي يَغْنَمُ قَدْ أَصَابَ [الْحَظَّيْنِ، وَاَلَّذِي يَخْفِقُ لَهُ] الْحَظُّ الْوَاحِدُ وَهُوَ الْأَجْرُ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقُولَ: مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَحْدَهُ أَوْ غَنِيمَةٍ مَعَ الْأَجْرِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [الْآيَة التَّاسِعَة وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء: 75] الْآيَةُ فِيهَا [ثَلَاثُ] مَسَائِلَ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: أَوْجَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْقِتَالَ؛ لِاسْتِنْقَاذِ الْأَسْرَى مِنْ يَدِ

الْعَدُوِّ مَعَ مَا فِي الْقِتَالِ مِنْ تَلَفِ النَّفْسِ، فَكَانَ بَذْلُ الْمَالِ فِي فِدَائِهِمْ أَوْجَبَ، لِكَوْنِهِ دُونَ النَّفْسِ وَأَهْوَنَ مِنْهَا. وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ وَفُكُّوا الْعَانِيَ». وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَفْدُوا الْأَسَارَى بِجَمِيعِ أَمْوَالِهِمْ؛ وَلِذَلِكَ قَالُوا: عَلَيْهِمْ أَنْ يُوَاسُوهُمْ، فَإِنَّ الْمُوَاسَاةَ دُونَ الْمُفَادَاةِ، فَإِنْ كَانَ الْأَسِيرُ غَنِيًّا فَهَلْ يَرْجِعُ عَلَيْهِ الْفَادِي أَمْ لَا؟ فِي ذَلِكَ لِعُلَمَائِنَا قَوْلَانِ؛ أَصَحُّهُمَا الرُّجُوعُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَإِنْ امْتَنَعَ مَنْ عِنْدَهُ مَالٌ مِنْ ذَلِكَ؟. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يُقَاتِلُهُ إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى قِتَالِهِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ. فَإِنْ قَتَلَ الْمَانِعُ الْمَمْنُوعَ كَانَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى قِتَالٍ فَتَرَكَهُ حَتَّى مَاتَ جُوعًا؛ فَإِنْ كَانَ الْمَانِعُ جَاهِلًا بِوُجُوبِ الْمُوَاسَاةِ كَانَ فِي الْمَيِّتِ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَانِعِ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِوُجُوبِ الْمُوَاسَاةِ فَفِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: عَلَيْهِ الْقِصَاصُ. الثَّانِي: عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ. الثَّالِثُ: الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إذَا أَرَمَلُوا فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُهُمْ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَاقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ».

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَنْقِيحِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: قَالَ بَعْضُ عُلَمَاؤُنَا: رَوَى طَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا عَلَّمَ السَّائِلَ مَعَالِمَ الدِّينِ وَأَرْكَانِ الْإِسْلَامِ قَالَ لَهُ: وَالزَّكَاةُ؟ قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا، إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ». وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ. دَخَلَ الْجَنَّةَ إنْ صَدَقَ». وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ حَقٍّ فِي الْمَالِ غَيْرَ الزَّكَاةِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْحَدِيثِ لَا فَرْضَ ابْتِدَاءً فِي الْمَالِ وَالْبَدَنِ إلَّا الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصِّيَامَ، فَأَمَّا الْعَوَارِضُ فَقَدْ يَتَوَجَّهُ فِيهَا فَرْضٌ مِنْ جِنْسِ هَذِهِ الْفُرُوضِ بِالنَّذْرِ وَغَيْرِهِ. الثَّانِي: أَنَّ أَرْكَانَ الْإِسْلَامِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ عِبَادَاتٌ لَا تَتَعَدَّى الْمُتَعَبِّدَ بِهَا. وَأَمَّا الْمَالُ فَالْأَغْرَاضُ بِهِ مُتَعَلِّقَةٌ، وَالْعَوَارِضُ عَلَيْهِ مُخْتَلِفَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا فَرَضَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الزَّكَاةَ لِيَقُومَ بِحَقِّ الْفُقَرَاءِ أَوْ يَسُدَّ خَلَّتَهُمْ، وَإِلَّا فَتَكُونُ الْحِكْمَةُ قَاصِرَةً. فَالْجَوَابُ أَنْ نَقُولَ: هَذَا لَا يَلْزَمُ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ يَفْرِضَ الْبَارِّي سُبْحَانَهُ الزَّكَاةَ قَائِمَةً لِسَدِّ خَلَّةِ الْفُقَرَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَرْضُهَا قَائِمَةً بِالْأَكْثَرِ، وَتَرَكَ الْأَقَلَّ لِيَسُدَّهَا بِنَذْرِ الْعَبْدِ الَّذِي يَسُوقُهُ الْقَدَرُ إلَيْهِ. الثَّانِي: أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَخَذَ الزَّكَاةَ فِي زَمَنِهِ» فَلَمْ تَقُمْ الْخَلَّةُ الْمَذْكُورَةُ بِالْفُقَرَاءِ حَتَّى كَانَ يَنْدُبَ إلَى الصَّدَقَةِ، وَيَحُثُّ عَلَيْهَا.

الآية الموفية أربعين قوله تعالى أينما تكونوا يدرككم الموت

الثَّالِثُ: لِلْفَضْلَيْنِ: إنَّ الزَّكَاةَ إذَا أَخَذَهَا الْوُلَاةُ، وَمَنَعُوهَا مِنْ مُسْتَحِقِّيهَا، فَبَقِيَ الْمَحَاوِيجُ فَوْضَى؛ هَلْ يَتَعَلَّقُ إثْمُهُمْ بِالنَّاسِ أَمْ يَكُونُ عَلَى الْوَالِي خَاصَّةً؟ فِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنْ عَلِمَ أَحَدٌ بِخَلَّةِ مِسْكِينٍ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ سَدُّهَا دُونَ غَيْرِهِ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ بِهَا سِوَاهُ، فَيَتَعَلَّقُ الْفَرْضُ بِجَمِيعِ مَنْ عَلِمَهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ. [الْآيَة الْمُوفِيَة أَرْبَعِينَ قَوْله تَعَالَى أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ] ُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: {بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] هِيَ قُصُورُ السَّمَاءِ، أَلَّا تَسْمَعُ قَوْلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1]. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَالْبُرُوجُ الَّتِي فِي السَّمَاءِ اثْنَا عَشَرَ بُرْجًا عِنْدَ الْعَرَبِ، وَعِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ: الْحَمَلُ، الثَّوْرُ، الْجَوْزَاءُ، السَّرَطَانُ، الْأَسَدُ، السُّنْبُلَةُ، الْمِيزَانُ، الْعَقْرَبُ، الْقَوْسُ، الْجَدْيُ، الدَّلْوُ، الْحُوتُ. وَقَدْ يُسَمُّونَ الْحَمَلَ الْكَبْشَ، وَالْجَوْزَاءَ التَّوْأَمَيْنِ، وَالسُّنْبُلَةَ الْعَذْرَاءَ، وَالْعَقْرَبَ الصُّورَةَ، وَالْقَوْسَ الرَّامِيَ، وَالْحُوتَ السَّمَكَةَ. وَتُسَمَّى أَيْضًا الدَّلْوَ الرَّشَا. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: خَلَقَ اللَّهُ هَذِهِ الْبُرُوجَ مَنَازِلَ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَقَدَّرَ فِيهَا، وَرَتَّبَ الْأَزْمِنَةَ عَلَيْهَا، وَجَعَلَهَا جَنُوبِيَّةً وَشَمَالِيَّةً، دَلِيلًا عَلَى الْمَصَالِحِ، وَعَلَمًا عَلَى الْقِبْلَةِ، وَطَرِيقًا إلَى تَحْصِيلِ آنَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، لِمَعْرِفَةِ أَوْقَاتِ التَّهَجُّدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ الْمَعَاشِ وَالتَّعَبُّدِ، وَسَنَسْتَوْفِي ذَلِكَ بَيَانًا فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانٍ ذَاهِبٌ كُلُّهُ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الْحَادِيَة وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إلَّا نَفْسَكَ] الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلا} [النساء: 84]

فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ الْقِتَالَ فَرْضٌ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوَّلًا وَحْدَهُ، وَنَدَبَ الْمُؤْمِنِينَ إلَيْهِ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ وَلَكِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا سِرَاعًا إلَى الْقِتَالِ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ الْقِتَالُ، فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْقِتَالِ كَاعَ عَنْهُ قَوْمٌ، فَفِيهِمْ نَزَلَتْ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النساء: 77] قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ الْقِتَالُ؛ {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء: 77]، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ: قَدْ بَلَّغْت: قَاتِلْ وَحْدَكَ، {لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 84] فَسَيَكُونُ مِنْهُمْ مَا كَتَبَ اللَّهُ مِنْ فِعْلِهِمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ كَانَ وَعَدَهُ بِالنَّصْرِ، فَلَوْ لَمْ يُقَاتِلْ مَعَهُ أَحَدٌ مِنْ الْخَلْقِ لَنَصَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ دُونَهُمْ، وَهَلْ نَصْرُهُ مَعَ قِتَالِهِمْ إلَّا بِجُنْدِهِ الَّذِي لَا يُهْزَمُ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا. قُلْت: أَيْ رَبِّ؛ إذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً. قَالَ: اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ، وَاغْزُهُمْ نُعِنْكَ، وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقْ عَلَيْكَ، وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ». وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِي الرِّدَّةِ: أُقَاتِلُهُمْ وَحْدِي حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي. وَفِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ: وَاَللَّهِ لَوْ خَالَفَتْنِي شِمَالِي لَقَاتَلْتهَا بِيَمِينِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 84] أَيْ عَلَى الْقِتَالِ: التَّحْرِيضُ وَالتَّحْضِيضُ هُوَ نَدْبُ الْمَرْءِ إلَى الْفِعْلِ، وَقَدْ يُنْدَبُ الْمَرْءُ إلَى الْفِعْلِ ابْتِدَاءً، وَقَدْ يُنْدَبُ إلَى امْتِثَالِ مَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ تَذْكِرَةً بِهِ لَهُ.

الآية الثانية والأربعون قوله تعالى من يشفع شفاعة حسنة

[الْآيَة الثَّانِيَة وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً] الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَوْله تَعَالَى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النساء: 85] الْآيَةُ فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اُخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً} [النساء: 85] عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: مَنْ يَزِيدُ عَمَلًا إلَى عَمَلٍ. الثَّانِي: مَنْ يُعِينُ أَخَاهُ بِكَلِمَةٍ عِنْدَ غَيْرِهِ فِي قَضَاءِ حَاجَةٍ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَلْيَقْضِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مَا شَاءَ». الثَّالِثُ: قَالَ الطَّبَرِيُّ فِي مَعْنَاهُ: مَنْ يَكُنْ يَا مُحَمَّدُ شَفِيعًا لِوِتْرِ أَصْحَابِكَ فِي الْجِهَادِ لِلْعَدُوِّ يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْأَجْرِ. وَمَنْ يَشْفَعْ وِتْرًا مِنْ الْكُفَّارِ فِي جِهَادِكَ يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْإِثْمِ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي كُلِّ ذَلِكَ، وَقَدْ تَكُونُ الشَّفَاعَةُ غَيْرَ جَائِزَةٍ، وَذَلِكَ فِيمَا كَانَ سَعْيًا فِي إثْمٍ أَوْ فِي إسْقَاطِ حَدٍّ بَعْدَ وُجُوبِهِ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ شَفَاعَةً سَيِّئَةً. وَرَوَتْ عَائِشَةُ «أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ إلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

الآية الثالثة والأربعون قوله تعالى وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها

فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟ وَاَيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا» مُخْتَصَرًا. وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «تَعَافَوْا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ». [الْآيَة الثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا] الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} [النساء: 86]. فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: التَّحِيَّةُ تَفْعِلَةٌ مِنْ حَيَّ، وَكَانَ الْأَصْلُ فِيهَا مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ: «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَك بِهِ، فَإِنَّهَا تَحِيَّتُك وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِك؛ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. فَقَالَتْ لَهُ: وَعَلَيْك السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ» إلَّا أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: إنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ

مسألة معنى قوله تعالى أو ردوها

يَلْقَى أَحَدًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُ لَهُ: اسْلَمْ، عِشْ أَلْفَ عَامٍ، أَبَيْتَ اللَّعْنَ. فَهَذَا دُعَاءٌ فِي طُولِ الْحَيَاةِ أَوْ طِيبِهَا بِالسَّلَامَةِ مِنْ الذَّامِّ أَوْ الذَّمِّ، فَجُعِلَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ وَالْعَطِيَّةُ الشَّرِيفَةُ بَدَلًا مِنْ تِلْكَ، وَأَعْلَمَنَا أَنَّ أَصْلَهَا آدَم. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ} [النساء: 86]: فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: رَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ} [النساء: 86] أَنَّهُ فِي الْعُطَاسِ وَالرَّدِّ عَلَى الْمُشَمِّتِ. الثَّانِي: إذَا دُعِيَ لِأَحَدِكُمْ بِطُولِ الْبَقَاءِ فَرُدُّوا عَلَيْهِ أَوْ بِأَحْسَنَ مِنْهُ. الثَّالِثُ: إذَا قِيلَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى هَارُونَ الرَّشِيدِ جَوَابَ كِتَابٍ، فَقَالَ فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالسَّلَامُ لِهَذِهِ الْآيَةِ: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]. فَاسْتَشْهَدَ مَالِكٌ فِي هَذَا بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رَدِّ الْجَوَابِ إذَا رَجَعَ الْجَوَابُ عَلَى حَقٍّ. كَمَا رُوِيَ رَجَعَ الْمُسْلِمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]: فِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَحْسَنَ مِنْهَا أَيْ الصِّفَةِ، إذَا دَعَا لَك بِالْبَقَاءِ فَقُلْ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّهَا أَحْسَنُ مِنْهَا فَإِنَّهَا سُنَّةُ الْآدَمِيَّةِ، وَشَرِيعَةُ الْحَنِيفِيَّةِ. الثَّانِي: إذَا قَالَ لَك سَلَامٌ عَلَيْك فَقُلْ: وَعَلَيْك السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى أَوْ رُدُّوهَا] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]: اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: حَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا فِي السَّلَامِ. الثَّانِي: أَنَّ أَحْسَنَ مِنْهَا هُوَ فِي الْمُسْلِمِ، وَأَنَّ رُدَّهَا بِعَيْنِهَا هُوَ فِي الْكَافِرِ؛ وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ إذَا سَلَّمُوا عَلَيْك قَالُوا: السَّامُّ عَلَيْكُمْ فَقُولُوا عَلَيْكُمْ». كَذَلِكَ كَانَ سُفْيَانُ يَقُولُهَا. وَالْمُحْدَثُونَ يَقُولُونَ بِالْوَاوِ، وَالصَّوَابُ سُقُوطُ الْوَاوِ؛ لِأَنَّ قَوْلَنَا لَهُمْ: عَلَيْكُمْ رَدٌّ، وَقَوْلَنَا وَعَلَيْكُمْ مُشَارَكَةٌ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. «وَكَانَتْ عَائِشَةُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ الْيَهُودُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَلَيْك السَّامُّ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَلَيْكُمْ فَفَهِمَتْ عَائِشَةُ قَوْلَهُمْ؛ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: عَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَهْلًا يَا عَائِشَةُ فَقَالَتْ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَوَ لَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْت عَلَيْكُمْ؟ إنَّهُ يُسْتَجَابُ لَنَا فِيهِمْ وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِي». الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: التَّحِيَّةُ هَاهُنَا الْهَدِيَّةُ، أَرَادَ الْكَرَامَةَ بِالْمَالِ وَالْهِبَةِ قَالَ الشَّاعِرُ: إذْ تُحْيِي بِضَيْمُرَانَ وَآسِ وَقَالَ آخَرُ: وَالْمُرَادُ بِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الْكَرَامَةُ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: أَوْ رُدُّوهَا بِأَحْسَنَ مِنْهَا، وَلَا يُمْكِنُ رَدُّ السَّلَامِ بِعَيْنِهِ.

وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي رَدَّ التَّحِيَّةِ بِعَيْنِهَا، وَهِيَ الْهَدِيَّةُ، فَإِمَّا بِالتَّعْوِيضِ أَوْ الرَّدِّ بِعَيْنِهِ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ فِي السَّلَامِ، وَلَا يَصِحُّ فِي الْعَارِيَّةِ؟ لِأَنَّ رَدَّ الْعَيْنَ هَاهُنَا وَاجِبٌ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ. قُلْنَا: التَّحِيَّةُ تَفْعِلَةٌ مِنْ الْحَيَاةِ، وَهِيَ تَنْطَلِقُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى وُجُوهٍ؛ مِنْهَا الْبَقَاءُ قَالَ زُهَيْرُ بْنُ جَنَابٍ: مِنْ كُلِّ مَا نَالَ الْفَتَى ... قَدْ نِلْته إلَّا التَّحِيَّةَ وَمِنْهَا الْمُلْكُ، وَقِيلَ: إنَّهُ الْمُرَادُ هَاهُنَا فِي بَيْتِ زُهَيْرٍ. وَمِنْهَا السَّلَامُ، وَهُوَ أَشْهَرُهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8]. وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ وَالْمُفَسِّرُونَ أَنَّ الْمُرَادَ هَاهُنَا بِالتَّحِيَّةِ السَّلَامُ حَتَّى ادَّعَى هَذَا الْقَائِلُ تَأْوِيلَهُ هَذَا، وَنَزَعَ بِمَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. وَإِنَّ الْعَرَبَ عَبَّرَتْ بِالتَّحِيَّةِ عَنْ الْهَدِيَّةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لِمَجَازٍ؛ لِأَنَّهَا تَجْلِبُ التَّحِيَّةَ كَمَا يَجْلِبُهَا السَّلَامُ، وَالسَّلَامُ أَوَّلُ أَسْبَابِ التَّحِيَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» وَقَالَ: «أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ».

مسألة السلام سنة ورده فرض

فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ أَنْ تُسَمَّى الْهَدِيَّةُ بِهَا مَجَازًا كَأَنَّهَا حَيَاةٌ لِلْمَحَبَّةِ، وَلَا يَصِحُّ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَجَازِ، وَإِسْقَاطُ الْحَقِيقَةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. فَإِنْ قِيلَ: نَحْمِلهُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا. قُلْنَا لَهُمْ: أَنْتُمْ لَا تَرَوْنَ ذَلِكَ؛ فَلَا يَصِحُّ لَكُمْ بِالْقَوْلِ بِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا بَقِيَتْ الْآيَةُ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَإِنْ حَمَلُوهُ عَلَى الْهَدِيَّةِ عَلَى مَذْهَبِنَا فِي هِبَةِ الثَّوَابِ فَنَسْتَثْنِي مِنْهَا الْوَلَدَ مَعَ وَالِدِهِ بِمَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، فَلْيُطْلَبْ هُنَالِكَ، فَصَحَّتْ لَنَا الْآيَةُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَبَقِيَّةُ الْكَلَامِ يُنْظَرُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ فَلْيُطْلَبْ هُنَا لَك. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى السَّلَامِ عَلَيْكُمْ، فَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرُ سَلَّمَ يُسَلِّمُ سَلَامَةً وَسَلَامًا، كَلَذَاذَةٍ وَلَذَاذًا، وَقِيلَ لِلْجَنَّةِ دَارُ السَّلَامِ؛ لِأَنَّهَا دَارُ السَّلَامَةِ مِنْ الْفَنَاءِ وَالتَّغَيُّرِ وَالْآفَاتِ. وَقِيلَ: السَّلَامُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ نَقْصٌ، وَلَا يُدْرِكُهُ آفَاتُ الْخَلْقِ. فَإِذَا قُلْت: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَيَحْتَمِلُ اللَّهُ رَقِيبٌ عَلَيْكُمْ. وَإِنْ أَرَدْت بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ عَقْدُ السَّلَامَةِ وَذِمَامُ النَّجَاةِ. حَدَّثَنَا الْحَضْرَمِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ مُنِيرٍ، أَخْبَرَنَا النَّيْسَابُورِيُّ [أَنْبَأَنَا قَلِيلَهْ]، أَنْبَأْنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، سَمِعْت أَبِي يَقُولُ: قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: أَتَدْرِي مَا السَّلَامُ؟ تَقُولُ: أَنْتَ مِنِّي آمِنٌ. [مَسْأَلَة السَّلَامَ سُنَّةٌ وَرَدُّهُ فَرْضٌ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ السَّلَامَ سُنَّةٌ وَرَدُّهُ فَرْضٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ مِنْهُمْ: السَّلَامُ وَرَدُّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إنْ كَانَتْ جَمَاعَةً، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا كَفَى وَاحِدٌ. فَالسَّلَامُ فَرْضٌ مَعَ الْمَعْرِفَةِ، سُنَّةٌ مَعَ الْجَهَالَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ إنْ لَمْ تُسَلِّمْ عَلَيْهِ تَغَيَّرَتْ

الآية الرابعة والأربعون قوله تعالى فما لكم في المنافقين فئتين

نَفْسُهُ، ثُمَّ يَتَرَتَّبُ السَّلَامُ عَلَى حَسَبِ مَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ: مِنْ قَائِمٍ عَلَى قَاعِدٍ، وَمَارٍّ عَلَى جَالِسٍ، وَقَلِيلٍ عَلَى كَثِيرٍ، وَصَغِيرٍ عَلَى كَبِيرٍ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شُرُوطِهِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: إذَا كَانَ الرَّدّ فَرَضَا بِلَا خِلَافٍ فَقَدْ اسْتَدَلَّ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الثَّوَابِ فِي الْهِبَةِ لِلْعَيْنِ، وَكَمَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَ التَّحِيَّةِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَ الْهِبَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي هِبَةِ الْأَجْنَبِيِّ ثَوَابٌ، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ مَا أَعْطَى إلَّا لِيُعْطَى؛ وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِيهَا، وَإِنَّا لَا نَعْمَلُ عَمَلًا لِمَوْلَانَا إلَّا لِيُعْطِيَنَا، فَكَيْفَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ فِي سُورَةِ الرُّومِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [الْآيَة الرَّابِعَة وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ] قَوْله تَعَالَى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا} [النساء: 88] {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا - إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا} [النساء: 89 - 90]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: وَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ صَاحِبٍ عَنْ صَاحِبٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا خَرَجَ إلَى أُحُدٍ رَجَعَتْ طَائِفَةٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ، فَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمْ فِرْقَتَيْنِ، فِرْقَةٌ تَقُولُ: نَقْتُلُهُمْ، وَفِرْقَةٌ تَقُولُ: لَا نَقْتُلُهُمْ»، فَنَزَلَتْ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ.

الثَّانِي: قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ خَرَجُوا مِنْ [أَهْلِ] مَكَّةَ حَتَّى أَتَوْا الْمَدِينَةَ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُهَاجِرُونَ فَارْتَدُّوا وَاسْتَأْذَنُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الرُّجُوعِ إلَى مَكَّةَ لِيَأْتُوا بِبَضَائِعَ، فَاخْتَلَفَ فِيهِمْ الْمُؤْمِنُونَ، فَفِرْقَةٌ تَقُولُ إنَّهُمْ مُنَافِقُونَ، وَفِرْقَةٌ تَقُولُ هُمْ مُؤْمِنُونَ؛ فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نِفَاقَهُمْ. الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا بِمَكَّةَ فَتَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ، وَكَانُوا يُظَاهِرُونَ الْمُشْرِكِينَ، فَخَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ يَطْلُبُونَ حَاجَةً، وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا أُخْبِرُوا بِهِمْ قَالَتْ فِئَةٌ: اُخْرُجُوا إلَى هَؤُلَاءِ الْجُبَنَاءِ فَاقْتُلُوهُمْ. وَقَالَتْ أُخْرَى: قَدْ تَكَلَّمُوا بِمِثْلِ مَا تَكَلَّمْتُمْ بِهِ. الرَّابِعُ: قَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ نَاسٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ إذَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ الْمَدِينَةِ قَالُوا: أَصَابَتْنَا أَوْجَاعٌ بِالْمَدِينَةِ، فَلَعَلَّنَا نَخْرُجُ إلَى الطُّهْرِ حَتَّى نَتَمَاثَلَ وَنَرْجِعُ؛ فَانْطَلَقُوا فَاخْتَلَفَ فِيهِمْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ طَائِقَةٌ: أَعْدَاءُ اللَّهِ مُنَافِقُونَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ إخْوَانُنَا غَمَّتْهُمْ الْمَدِينَةُ فَاجْتَوَوْهَا، فَإِذَا بَرِئُوا رَجَعُوا؛ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ الْآيَةُ. الْخَامِسُ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ فِي ابْنِ أُبَيٍّ حِينَ تَكَلَّمَ فِي عَائِشَةَ. وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ مَكَّةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 89]. وَالصَّحِيحُ مَا رَوَاهُ زَيْدٌ. وَقَوْلُهُ: {حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 89] يَعْنِي حَتَّى يَهْجُرُوا الْأَهْلَ وَالْوَلَدَ وَالْمَالَ، وَيُجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ اللَّهَ رَدَّ الْمُنَافِقِينَ إلَى الْكُفْرِ، وَهُوَ الْإِرْكَاسُ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الرُّجُوعِ إلَى الْحَالَةِ الْمَكْرُوهَةِ، كَمَا قَالَ فِي الرَّوْثَةِ إنَّهَا رِجْسٌ، أَيْ رَجَعَتْ إلَى حَالَةٍ مَكْرُوهَةٍ؛ فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتَعَلَّقُوا فِيهِمْ بِظَاهِرِ

الآية الخامسة والأربعون قوله تعالى وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ

الْإِيمَانِ، إذَا كَانَ أَمْرُهُمْ فِي الْبَاطِنِ عَلَى الْكُفْرِ، وَأَمَرَهُمْ بِقَتْلِهِمْ حَيْثُ وَجَدُوهُمْ، وَأَيْنَمَا ثَقِفُوهُمْ؛ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزِّنْدِيقَ يُقْتَلُ، وَلَا يُسْتَتَابُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء: 89]. فَإِنْ قِيلَ: مَعْنَاهُ مَا دَامُوا عَلَى حَالِهِمْ. قُلْنَا: كَذَلِكَ نَقُولُ وَهَذِهِ حَالَةٌ دَائِمَةٌ، لَا تَذْهَبُ عَنْهُمْ أَبَدًا؛ لِأَنَّ مَنْ أَسَرَّ الْكُفْرَ، وَأَظْهَرَ الْإِيمَانَ، فَعُثِرَ عَلَيْهِ، كَيْفَ تَصِحُّ تَوْبَتُهُ؟ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 90]: الْمَعْنَى إلَّا مَنْ انْضَافَ مِنْهُمْ إلَى طَائِفَةٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ، فَلَا تَعْرِضُوا لَهُمْ فَإِنَّهُمْ عَلَى عَهْدِهِمْ، ثُمَّ نُسِخَتْ الْعُهُودُ فَانْتَسَخَ هَذَا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي بِإِيضَاحِهِ وَبَسْطِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} [النساء: 90]: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ جَاءُوا وَقَالُوا: لَا نُرِيدُ أَنْ نُقَاتِلَ مَعَكُمْ وَلَا نُقَاتِلُ عَلَيْكُمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا مُعَاهَدِينَ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْعَهْدِ، وَقَالُوا: لَا نُسْلِمُ وَلَا نُقَاتِلُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقْبَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ تَأَلُّفًا حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى وَيَشْرَحَهَا لِلْإِسْلَامِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَمِثْلُهُ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا، وَقَدْ بَسَطْنَاهَا بَسْطًا عَظِيمًا فِي " كِتَابِ أَنْوَارِ الْفَجْرِ " بِأَخْبَارِهَا ومُتَعلَّقاتِها فِي نَحْوٍ مِنْ مِائَةِ وَرَقَةٍ. [الْآيَة الْخَامِسَة وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلَّا خَطَأً] الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 92] {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] فِيهَا تِسْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً} [النساء: 92]

مسألة معنى قوله تعالى إلا خطأ

: مَعْنَاهُ: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا قَتْلًا جَائِزًا. أَمَّا أَنَّهُ يُوجَدُ ذَلِكَ مِنْهُ غَيْرُ جَائِزٍ فَنَفَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ جَوَازَهُ لَا وُجُودَهُ؛ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - لَمْ يُبْعَثُوا لِبَيَانِ الْحِسِّيَّاتِ وُجُودًا وَعَدَمًا، إنَّمَا بُعِثُوا لِبَيَانِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إثْبَاتًا وَنَفْيًا. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ هُوَ جَائِزٌ لِلْكَافِرِ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: نَعَمْ، فَقَدْ أَحْلَلْتُمْ. وَإِنْ قُلْتُمْ: لَا، فَقَدْ أَبْطَلْتُمْ فَائِدَةَ التَّخْصِيصِ بِالْمُؤْمِنِ بِذَلِكَ، وَالْكَافِرُ فِيهِ مِثْلُهُ. قُلْنَا: مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ بِحَنَانِهِمْ وَأُخُوَّتِهِمْ وَشَفَقَتِهِمْ وَعَقِيدَتِهِمْ؛ فَلِذَلِكَ خُصَّ الْمُؤْمِنُ بِالتَّأْكِيدِ، وَلِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ أَيْضًا حَسْبَمَا نُبَيِّنُ ذَلِكَ بَعْدُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى إلَّا خَطَأً] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {إِلا خَطَأً} [النساء: 92]: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، وَلَهُ يَقُولُ النُّحَاةُ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ؛ وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَتَهُ فِي رِسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ. وَمَعْنَاهُ أَنْ يَأْتِيَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ اللَّفْظِ، لَا عَلَى نَفْسِ اللَّفْظِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَقَفْت بِهَا أُصَيْلَانًا أُسَائِلُهَا ... عَيَّتْ جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ إلَّا الْأَوَارِيَ لَأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا ... وَالنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ فَلَمْ تَدْخُلْ الْأَوَارِي فِي لَفْظِ أَحَدٍ، وَلَكِنْ دَخَلَتْ فِي مَعْنَاهُ. أَرَادَ: وَمَا بِالرَّبْعِ أَحَدٌ

أَيْ [غَيْرُ] مَا كَانَ فِيهِ، أَوْ أَثَرٌ كُلُّهُ ذَاهِبٌ، إلَّا الْأَوَارِيَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا} [النساء: 92]؛ الْمَعْنَى مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُفَوِّتَ نَفْسَ مُؤْمِنٍ بِكَسْبِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ قَصْدِهِ إلَى وَصْفِهِ؛ فَافْهَمْهُ وَرَكِّبْهُ تَجِدْهُ بَدِيعًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَرَادَ بَعْضَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنْ يُخْرِجَ هَذَا مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ؛ وَيَجْعَلَهُ مُتَّصِلًا لِجَهْلِهِ بِاللُّغَةِ وَكَوْنِهِ أَعْجَمِيًّا فِي السَّلَفِ؛ فَقَالَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ صَحِيحٌ. وَفَائِدَتُهُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ خَطَأً فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، فَيَا لِلَّهِ، وَيَا لِلْعَالِمِينَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ، كَيْفَ يَصِحُّ فِي عَقْلِ عَاقِلٍ أَنْ يَقُولَ: أُبِيحَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ خَطَأً، وَمِنْ شَرْطِ الْإِذْنِ وَالْإِبَاحَةِ الْمُكَلَّفُ وَقَصْدُهُ، وَذَلِكَ ضِدُّ الْخَطَأِ، فَالْكَلَامُ لَا يَتَحَصَّلُ مَعْقُولًا. ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ أَنْ يُرَى عَلَيْهِ لِبْسَةُ الْمُشْرِكِينَ وَالِانْحِيَازُ إلَيْهِمْ كَقِصَّةِ حُذَيْفَةَ مَعَ أَبِيهِ يَوْمَ أُحُدٍ. قُلْنَا لَهُ: هَذَا هُوَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ وَقَعَ خِلَافَ الْقَصْدِ، وَهُوَ قَصْدٌ إلَى مُشْرِكٍ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ؛ فَهَذَا لَا يُدْخِلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ أَمْرًا وَلَا نَهْيًا. ثُمَّ قَالَ: وَقَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً} [النساء: 92] يَقْتَضِي أَنْ يُقَالَ: إنَّمَا يُبَاحُ لَهُ إذَا وُجِدَ شَرْطُ الْإِبَاحَةِ، وَشَرْطُ الْإِبَاحَةِ أَنْ يَكُونَ خَطَأً، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْ التَّهَافُتِ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ مَا يُغْنِي عَنْ رَدِّهِ. وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يُقَالَ: شَرْطُ إبَاحَةِ الْقَتْلِ أَنْ لَا يَقْصِدَ، لَاهُمَّ إلَّا أَنَّ كَوْنَ الْمُقَلِّدِ أَلَمَّ بِقَوْلِ الْمُبْتَدِعَةِ: إنَّ الْمَأْمُورَ لَا يُعْلَمُ كَوْنَهُ مَأْمُورًا إلَّا بَعْدَ تَقَضِّي الِامْتِثَالِ وَمُضَائِهِ؛ فَالِاخْتِلَالُ فِي الْمَقَالِ وَاحِدٌ وَالرَّدُّ وَاحِدٌ، فَلْتَلْحَظْهُ فِي أُصُولِهِ الَّتِي صَنَّفَ؛ فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ؛ ثُمَّ أَبْطَلَ هُوَ هَذَا وَكَانَ فِي غِنًى عَنْ ذِكْرِهِ وَإِبْطَالِهِ. ثُمَّ قَالَ: إنَّ أَقْرَبَ قَوْلٍ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: إنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: {إِلا خَطَأً} [النساء: 92] اقْتَضَى تَأْثِيمَ قَاتِلِهِ لِاقْتِضَاءِ النَّهْيِ ذَلِكَ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلا خَطَأً} [النساء: 92] رَفْعٌ لِلتَّأْثِيمِ عَنْ قَاتِلِهِ؛ وَإِنَّمَا

دَخَلَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى مَا تَضْمَنَّهُ اللَّفْظُ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الْمَآثِمِ، فَأَخْرَجَ مِنْهُ قَاتِلَ الْخَطَأِ، وَجَاءَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى حَقِيقَتِهِ؛ وَهَذَا كَلَامُ مَنْ لَا يَعْلَمُ اللُّغَةَ وَلَا يَفْهَمُ مَقَاطِعَ الشَّرِيعَةِ، بَلْ قَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا} [النساء: 92] مَعْنَاهُ كَمَا قُلْنَا جَائِزٌ ضَرُورَةً لَا وُجُودًا؛ فَنَفَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ جَوَازَ ذَلِكَ لَا وُجُودَهُ، فَقَوْلُ هَذَا الرَّجُلِ: إنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي تَأْثِيمَ قَاتِلِهِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ ضِدَّ الْجَوَازِ التَّحْرِيمُ وَحْدَهُ؛ بَلْ ضِدَّ النَّدْبِ وَالْكَرَاهِيَةِ عَلَى قَوْلٍ، وَالْوُجُوبُ وَالتَّحْرِيمُ عَلَى آخَرَ، فَلِمَ عَيَّنَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ نَفْيِ الْجَوَازِ التَّحْرِيمَ الْمُؤْثِمَ. أَمَّا إنَّ ذَلِكَ عُلِمَ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ لَا مِنْ نَفْسِ هَذَا اللَّفْظِ. ثُمَّ نَقُولُ: هَبْكَ أَنَّا أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَقُلْنَا لَهُ: إنَّ مَعْنَاهُ الصَّرِيحَ أَنْتَ آثِمٌ إنْ قَتَلَتْهُ، إلَّا أَنْ تَقْتُلَهُ خَطَأً، فَإِنَّهُ يَكُونُ اسْتِثْنَاءً مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّ الْإِثْمَ أَيْضًا إنَّمَا يَرْتَبِطُ بِالْعَمْدِ، فَإِذَا قَالَ بَعْدَهُ: إلَّا خَطَأً، فَهُوَ ضِدُّهُ، فَصَارَ مُنْقَطِعًا عَنْهُ حَقِيقَةً وَصِفَةً وَرَفْعًا لِلْمَأْثَمِ. وَقَوْلُهُ: فَإِنَّمَا دَخَلَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى مَا يَتَضَمَّنُهُ اللَّفْظُ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الْمَأْثَمِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ اللَّفْظَ لَيْسَ فِيهِ لِذَلِكَ ذِكْرُ حَقِيقَةٍ وَلَا مَجَازًا؛ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الْإِثْمُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ، وَقَدْ أَشَرْنَا نَحْنُ إلَى حَقِيقَتِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّحَارِيرِ: إنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي سَبَبٍ؛ «وَذَلِكَ أَنَّ أُسَامَةَ لَقِيَ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ فِي غَزَاةٍ فَعَلَاهُ بِالسَّيْفِ، فَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؛ فَقَتَلَهُ؛ فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَقَتَلَتْهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّمَا قَالَهَا مُتَعَوِّذًا. فَجَعَلَ يُكَرِّرُ عَلَيْهِ: بَعْدَ أَنْ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟». قَالَ: فَلَقَدْ تَمَنَّيْت أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْت قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. فَهَذَا قَتَلَ مُتَعَمِّدًا مُخْطِئًا فِي اجْتِهَادِهِ. وَهَذَا نَفِيسٌ. وَمِثْلُهُ قَتْلُ أَبِي حُذَيْفَةَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَمُتَعَلِّق الْخَطَأِ غَيْرُ مُتَعَلِّق الْعَمْدِ، وَمَحَلُّهُ غَيْرُ مَحَلِّهِ

مسألة كفارة القتل الخطأ

وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ أَيْضًا مِنْهُ؛ وَلِذَلِكَ قَالَتْ جَمَاعَةٌ: إنَّ الْآيَتَيْنِ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ مِقْيَسِ بْنِ صُبَابَةَ، فَإِنَّهُ أَسْلَمَ هُوَ وَأَخُوهُ هِشَامٌ فَأَصَابَ هِشَامًا رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ رَهْطِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ مِنْ الْعَدُوِّ، فَقَتَلَهُ خَطَأً فِي هَزِيمَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ، وَكَانَ أَخُوهُ مِقْيَسٌ بِمَكَّةَ، فَقَدِمَ مُسْلِمًا فِيمَا يَظْهَرُ. وَقِيلَ: لَمْ يَبْرَحْ مِنْ الْمَدِينَةِ فَطَلَب دِيَةَ أَخِيهِ، فَبَعَثَ مَعَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا مِنْ فِهْرٍ إلَى بَنِي النَّجَّارِ فِي دِيَتِهِ، فَدَفَعُوا إلَيْهِ الدِّيَةَ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ مِقْيَسٌ وَالْفِهْرَيْ رَاجِعِينَ إلَى الْمَدِينَةِ قَتَلَ مِقْيَسٌ الْفِهْرَيَّ، وَارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَام، وَرَكِبَ جَمَلًا مِنْهَا، وَسَاقَ مَعَهُ الْبَقِيَّةَ، وَلَحِقَ كَافِرًا بِمَكَّةَ، وَقَالَ: شَفَى النَّفْسَ أَنْ قَدْ مَاتَ بِالْقَاعِ مُسْنَدًا ... يَضْرُجُ فِي ثَوْبَيْهِ دِمَاءَ الْأَخَادِعِ وَكَانَتْ هُمُومُ النَّفْسِ مِنْ قَبْلِ قَتْلِهِ ... تَلُمُّ فَتَحْمِينِي وِطَاءَ الْمَضَاجِعِ ثَأَرْت بِهِ فِهْرًا وَحَمَّلْت عَقْلَهُ ... سُرَاةَ بَنِي النَّجَّارِ أَرْبَابَ فَارِعِ حَلَلْت بِهِ وَتْرِي وَأَدْرَكْت ثُؤْرَتِي ... وَكُنْت إلَى الْأَوْثَانِ أَوَّلَ رَاجِعِ فَدَخَلَ قَتْلُ الْأَنْصَارِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً} [النساء: 92] وَدَخَلَ قَتْلُ مِقْيَسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93]، وَكُلُّ وَاحِدٍ بِصِفَتِهِ فِي الْآيَتَيْنِ بِصِفَتِهِمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة كَفَّارَة الْقَتْلِ الْخَطَأِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]: أَوْجَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ تَحْرِيرَ الرَّقَبَةِ، وَسَكَتَ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ عَنْهَا. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا قَدِيمًا وَحَدِيثًا، مَآلُهُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَمَالِكًا قَالَا: لَا كَفَّارَةَ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِيهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهَا إذَا وَجَبَتْ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ وَلَا إثْمَ فِيهِ فَفِي الْعَمْدِ أَوْلَى. قُلْنَا: هَذَا يُبْعِدُهَا عَنْ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُوجِبْهَا فِي مُقَابَلَةِ الْإِثْمِ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَهَا عِبَادَةً، أَوْ فِي مُقَابَلَةِ التَّقْصِيرِ، وَتَرْك الْحَذَرِ وَالتَّوَقِّي، وَالْعَمْدُ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: (مُؤْمِنَةٍ) وَهَذَا يَقْتَضِي كَمَا لَهَا فِي صِفَاتِ الدِّينِ، فَتُكْمَلُ فِي صِفَاتِ الْمَالِيَّةِ حَتَّى لَا تَكُونَ مَعِيبَةً، لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَتْلَفَ شَخْصًا فِي عِبَادَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُخَلِّصَ آخَرَ لِعِبَادَةِ رَبِّهِ

مسألة الدية في القتل الخطأ

عَنْ شُغُلِ غَيْرِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّمَا يُعْتَقُ بِكُلِّ عُضْوِ مِنْهُ عُضْوٌ مِنْهَا مِنْ النَّارِ حَتَّى الْفَرْجُ بِالْفَرْجِ، فَمَتَى نَقَصَ عُضْوٌ مِنْهَا لَمْ تَكْمُلُ شُرُوطُهَا. وَهَذَا بَدِيعٌ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: سَوَاءٌ كَانَتْ الرَّقَبَةُ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً إذَا كَانَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ لِمُسْلِمٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ خِلَافًا لِابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ؛ إذْ قَالُوا: لَا يُجْزِئُ إلَّا مَنْ صَامَ وَصَلَّى وَعَقَلَ الْإِسْلَامَ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: مَنْ وُلِدَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعِتْقِ، كَمَا أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجِنَايَةِ وَالْإِرْثِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَجَمِيعِ أَحْكَامِهِ. [مَسْأَلَة الدِّيَةَ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92]: أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الدِّيَةَ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ جَبْرًا. كَمَا أَوْجَبَ الْقِصَاصَ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ زَجْرًا، وَجَعَلَ الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ رِفْقًا؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَاتِلَ الْخَطَأِ لَمْ يَكْتَسِبْ إثْمًا وَلَا مَحْرَمًا، وَالْكَفَّارَةُ وَجَبَتْ زَجْرًا عَنْ التَّقْصِيرِ وَالْحَذَرِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الدِّيَةُ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ فِي تَقْدِيرِ الشَّرِيعَةِ، وَبِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ؛ فَإِنْ عُدِمَتْ الْإِبِلُ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: فَقَالَ مَالِكٌ: مِنْ الدَّرَاهِمِ عَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَمِنْ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ، وَلَيْسَتْ فِي غَيْرِهِمَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَشْرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْوَاجِبُ مِنْهُ الْإِبِلُ كَيْفَ تَصَرَّفَتْ، فَإِنَّمَا الْأَصْلُ؛ فَإِذَا عُدِمَتْ وَقْتَ الْوُجُوبِ فَحِينَئِذٍ يُنْظَرُ فِي بَدَلِهَا وَهُوَ الْقِيمَةُ بِحِسَابِ الْوَقْتِ، كَمَا فِي كُلِّ وَاجِبٍ فِي الذِّمَّةِ يَتَعَذَّرُ أَدَاؤُهُ. وَدَلِيلُنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَوَّمَهَا بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ذَهَبًا وَوَرِقًا، وَكَتَبَ بِهِ إلَى الْآفَاقِ؛ وَلَا مُخَالِفَ؛ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ؛ فَإِنَّ بَلَدًا لَمْ يَكُنْ قَطُّ بِهِ إبِلٌ لَا سَبِيلَ إلَى تَقْوِيمِهَا فِيهِ، فَعَلِمَتْ الصَّحَابَةُ ذَلِكَ فَقَدَّرَتْ نَصِيبَهَا، وَاعْتَبَرَتْهَا فِي كُلِّ بَلَدٍ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ؛ إذْ لَا يَخْلُو بَلَدٌ مِنْهُمَا.

مسألة الدية في القتل الخطأ أخماسا

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، فِي تَقْدِيرِهَا: عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَبَنَاهَا عَلَى نِصَابِ الزَّكَاةِ، وَعُمَرُ مَعَ الصَّحَابَةِ قَدْ عَلِمُوا نِصَابَ الزَّكَاةِ حِينَ قَدَّرُوهَا بِاثْنَيْ عَشْرَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَعْنَى فِي نِصَابِ الزَّكَاةِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَهُوَ بَدِيعٌ، فَلْيُنْظَرْ فِيهِ مَنْ أَرَادَ تَمَامَ الْعِلْمِ بِهِ. [مَسْأَلَة الدِّيَةُ فِي الْقَتْل الْخَطَأِ أَخْمَاسًا] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: هِيَ فِي الْإِبِلِ أَخْمَاسٌ: بَنَاتُ مَخَاضٍ، وَبَنَاتُ لَبُونٍ، وَبَنُو لَبُونٍ، وَحِقَاقٌ، وَجِذَاعٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ أَخْمَاسٌ، إلَّا أَنَّ مِنْهَا بَنِي مَخَاضٍ دُونَ بَنِي لَبُونٍ. وَدَلِيلُنَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ دِيَةَ الْخَطَأِ أَخْمَاسًا، فَقَالَ: عِشْرُونَ بَنِي لَبُونٍ»، وَلَمْ يَذْكُرْ بَنِي مَخَاضٍ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد كُوفِيًّا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ فَلَا كَلَامَ لَهُمْ عَلَيْهِ، وَلَا مَعْنَى مَعَهُمْ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ شَيْءٌ لَا يَجِبُ فِي الزَّكَاةِ فَلَمْ يَجِبْ فِي الدِّيَةِ كَالثَّنَايَا. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: وَهِيَ مُؤَجَّلَةٌ فِي ثَلَاثَةِ أَعْوَامٍ، كَذَلِكَ قَضَى عُمَرُ وَعَلِيٌّ، وَهِيَ ضَرُورَةٌ؛ لِأَنَّ الْإِبِلَ قَدْ تَكُونُ فِي وَقْتِ الْوُجُوبِ حَوَامِلَ فَيَضُرُّ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ إلَى غَيْرِ مَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَفِيهِ تَكُونُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لَوَابِنَ، وَوَجَبَتْ مُوَاسَاةً وَرِفْقًا، فَتُؤْخَذُ مِنْهَا بِذَلِكَ،. «وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْطِيهَا دَفْعَةً وَاحِدَةً لِأَغْرَاضٍ»: مِنْهَا أَنَّهُ كَانَ يُعْطِيهَا صُلْحًا وَتَسْدِيدًا. وَمِنْهَا أَنَّهُ كَانَ يُعَجِّلُهَا تَأْلِيفًا، فَلَمَّا وُجِدَ الْإِسْلَامُ قَرَّرَتْهَا الصَّحَابَةُ عَلَى هَذَا النِّظَامِ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: وَلَا مَدْخَلَ فِيهَا لِغَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنْ ثِيَابٍ أَوْ طَعَامٍ أَوْ بَقَرٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَمَهَّدَتْ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ عَلَى هَذَا، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِ فَقَدْ

مسألة الدية لأولياء القتيل

سَقَطَ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى هَذَا؛ فَأَمَّا بَقِيَّةُ أَحْكَامِ الدِّيَةِ فَهِيَ كَثِيرَةٌ لَا يَفِي بِهَا إلَّا كُتُبُ الْمَسَائِلِ، فَلَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِهَا، فَنَخْرُجَ عَنْ الْمَقْصُودِ بِهَا. [مَسْأَلَة الدِّيَةَ لِأَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92]: أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الدِّيَةَ لِأَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ إلَّا أَنْ يَصَدَّقُوا بِهَا عَلَى الْقَاتِلِ؛ وَالِاسْتِثْنَاءُ إذَا تَعَقَّبَ جُمَلًا عَادَ إلَى جَمِيعِهَا إذَا صَلَحَ ذَلِكَ فِيهَا، وَإِلَّا عَادَ إلَى مَا يُصْلَحُ لَهُ ذَلِكَ مِنْهَا. وَاَلَّذِي تَقَدَّمَ الْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ، وَالْكَفَّارَةُ حَقُّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَلَا تُقْبَلُ الصَّدَقَةُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ مِنْ الْمُتَصَدِّقِ عَلَيْهِ لَا تَنْفُذُ إلَّا فِيمَا يَمْلِكُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]: أَوْجَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْكَفَّارَةَ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ إذَا كَانَ خَطَأً، وَلَمْ يَذْكُرْ الدِّيَةَ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ؛ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا دِيَةَ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ، وَفِيهِ الْكَفَّارَةُ: أَمَّا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فَلِأَنَّهُ أَتْلَفَ نَفْسًا مُؤْمِنَةً. وَأَمَّا امْتِنَاعُ الدِّيَةِ عِنْدَهُمْ فَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّمَا لَمْ تُجِبْ الدِّيَةُ لَهُمْ لِئَلَّا يَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى حَرْبِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ آخَرُونَ: إنَّمَا لَمْ تَجِبْ لَهُمْ دِيَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَهْدٌ وَلَا مِيثَاقٌ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَعَوَّلَ عَلَى أَنَّ الْعَاصِمَ لِلْعَبْدِ فِي ذِمَّتِهِ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ "، وَأَنَّ الْعَاصِمَ لَهُ فِي مَالِهِ الدَّارُ؛ فَإِذَا أَسْلَمَ وَبَقِيَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَدْ اعْتَصَمَ عِصْمَةً قَوِيمَةً يَجِبُ بِهَا عَلَى قَاتِلِهِ الْكَفَّارَةُ، وَلَيْسَ لَهُ عِصْمَةٌ مُقَوَّمَةٌ؛ فَدَمُهُ وَمَالُهُ هَدَرٌ، وَلَوْ أَنَّهُ هَاجَرَ إلَى أَرْضِ الْإِسْلَامِ وَتَرَكَ أَهْلَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا حُرْمَةَ لَهُمْ. وَهَذَا هُوَ قِطْعَةٌ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ؛ فَإِنَّ الدَّارَ عِنْدَ مَالِكٍ الْعَاصِمَةُ لِلْأَهْلِ وَالْمَالِ. وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.

مسألة المقتول الكافر من أهل العهد

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْإِسْلَامُ يَعْصِمُ مَالَ الْمُسْلِمِ وَأَهْلَهُ وَدَمَهُ حَيْثُ كَانُوا. وَالْمَسْأَلَةُ فِي نِهَايَةِ الْإِشْكَالِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِيهَا أَسْلَمُ، وَعَلَى هَذَا عِنْدَ هَؤُلَاءِ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ، وَعَلَى الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيّ لَمْ يَذْكُرْهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مُسْتَحَقٌّ؛ فَلَوْ كَانَ لَهَا مُسْتَحَقٌّ لَوَجَبَتْ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ مَوْجُودٌ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَجَلَّ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الدِّيَةَ؛ لِأَنَّ الْهِجْرَةَ كَانَتْ عَلَى مَنْ آمَنَ فَرْضًا، وَمَنْ أَسْلَمَ وَلَمْ يُهَاجِرْ فَلَا إسْلَامَ لَهُ وَلَا وِلَايَةَ، فَأَمَّا مُذْ سَقَطَ فَرْضُ الْهِجْرَةِ بِعِصْمَةِ الْإِسْلَامِ فَوَجَبَ لَهُ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ أَيْنَمَا كَانَ. [مَسْأَلَة الْمَقْتُولَ الْكَافِرَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]: وَالْمِيثَاقُ هُوَ الْعَهْدُ الْمُؤَكَّدُ الَّذِي قَدْ ارْتَبَطَ وَانْتَظَمَ، وَمِنْهُ الْوَثِيقَةُ فَفِيهِ الدِّيَةُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا هُوَ الْكَافِرُ الَّذِي لَهُ وَلِقَوْمِهِ الْعَهْدُ، فَعَلَى قَاتِلِهِ الدِّيَةُ لِأَهْلِهِ وَالْكَفَّارَةُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ زَيْدٍ وَالْحَسَنُ: الْمُرَادُ بِهِ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْمَقْتُولَ الْكَافِرَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَهْمَلَهُ وَلَمْ يَقُلْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، كَمَا قَالَ فِي الْقَتِيلِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَمِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَإِطْلَاقُهُ مَا قَيَّدَ قَبْلَ ذَلِكَ دَلِيلٌ أَنَّهُ خِلَافُهُ. وَهَذَا عِنْدَ عُلَمَائِنَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ نُسِّقَتْ عَلَى مَا قَبْلَهَا وَرُبِطَتْ بِهَا؛ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا حُكْمَهُ. الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ} [النساء: 92] وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي دِيَةِ الْكَافِرِ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا عَلَى النِّصْفِ، وَهُوَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا ثُلُثَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ. وَالدِّيَةُ الْمُسَلَّمَةُ هِيَ الْمُوَفَّرَةُ.

قَالَ الْقَاضِي: وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا قَبَلهَا حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَهُوَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ، وَقَدْ أَتَيْنَا فِيهِ بِالْعَجَبِ فِي الْمَحْصُولِ، وَهُوَ عِنْدِي لَا يَلْحَقُ إلَّا بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى حَمْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا هِيَ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ شَخْصًا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ؛ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُخَلِّصَ آخَرَ لَهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا هِيَ زَجْرٌ عَنْ الِاسْتِرْسَالِ وَتُقَاةٍ لِلْحَذَرِ، وَحَمْلٌ عَلَى التَّثَبُّتِ عِنْدَ الرَّمْيِ؛ وَهَذَا إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ. وَأَمَّا فِي حَقِّ الْكَافِرِ فَلَا يَلْزَمُ فِيهِ مِثْلُ هَذَا. وَنُحَرِّرُ هَذَا قِيَاسًا فَنَقُولُ: كُلُّ كَافِرٍ لَا كَفَّارَةَ فِي قَتْلِهِ [كَالْمُسْتَأْمَنِ وَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِي قَتْلِهِ]، وَلَا عُذْرَ لَهُمْ عَنْهُ بِهِ احْتِفَالٌ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ هُوَ الْمُؤْمِنُ، فَمَنْ قَتَلَ كَافِرًا خَطَأً، وَلَهُ عَهْدٌ فَفِيهِ الدِّيَةُ إجْمَاعًا. وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ أَصْلٌ بَدِيعٌ فِي رَفْعِ الدِّمَاءِ. وَنَحْنُ نُمَهِّدُ فِيهِ قَاعِدَةً قَوِيَّةً فَنَقُولُ: مَبْنَى الدِّيَاتِ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى التَّفَاضُلِ فِي الْحُرْمَةِ وَالتَّفَاوُتِ فِي الْمَرْتَبَةِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ مَالِيٌّ يَتَفَاوَتُ بِالصِّفَاتِ، بِخِلَافِ الْقَتْلِ، لِأَنَّهُ لَمَّا شُرِعَ زَجْرًا لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ ذَلِكَ التَّفَاوُتُ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا نَظَرْنَا إلَى الدِّيَةِ فَوَجَدْنَا الْأُنْثَى تَنْقُصُ فِيهِ عَنْ الذَّكَرِ؛ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِ مَزِيَّةٌ عَلَى الْكَافِرِ؛ فَوَجَبَ أَلَّا يُسَاوِيهِ فِي دِيَتِهِ. وَزَادَ الشَّافِعِيُّ نَظَرًا، فَقَالَ: إنَّ الْأُنْثَى الْمُسْلِمَةَ فَوْقَ الْكَافِرِ الذَّكَرِ، فَوَجَبَ أَنْ تَنْقُصَ دِيَتُهُ عَنْ دِيَتِهَا، فَتَكُونَ دِيَتُهُ ثُلُثَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ.

مسألة معنى قوله تعالى فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين

وَقَالَ مَالِكٌ بِقَضَاءِ عُمَرَ وَهُوَ النِّصْفُ؛ إذْ لَمْ يُرَاعِ الصَّحَابَةُ التَّفَاوُتَ بَيْنَهُمَا إلَّا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَمْ يَتْبَعْ ذَلِكَ إلَى أَقْصَاهُ، وَلَيْسَ بَعْدَ قَضَاءِ عُمَرَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ نَظَرٌ. وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ أَعْطَى فِي ذِي الْعَهْدِ مِثْلَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ» فَإِنَّمَا كَانَ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِئْلَافِ لِقَوْمِهِمْ؛ إذْ كَانَ يُؤَدِّيهِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ وَلَا يُرَتِّبُهَا عَلَى الْعَاقِلَة، وَإِلَّا فَقَدْ اسْتَقَرَّ مَا اسْتَقَرَّ عَلَى يَدِ عُمَرَ، حَتَّى جَعَلَ فِي الْمَجُوسِيِّ ثَمَانَمِائَةِ دِرْهَمٍ لِنَقْصِهِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مُرَاعَاةِ التَّفَاوُتِ وَاعْتِبَارِ نَقْصِ الْمَرْتَبَةِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92]: ظَنَّ قَوْمٌ أَوَّلُهُمْ مَسْرُوقٌ أَنَّ الصِّيَامَ بَدَلٌ عَنْ الدِّيَةِ وَالرَّقَبَةِ، وَسَاعَدَهُ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ. وَهُوَ وَهْمٌ؛ لِأَنَّ الصِّيَامَ يَلْزَمُ الْقَاتِلَ فَهُوَ بَدَلٌ عَمَّا كَانَ يَلْزَمُهُ مِنْ الرَّقَبَةِ، وَالدِّيَةُ لَمْ تَكُنْ تَلْزَمُهُ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ بَدَلٌ عَنْهَا. وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ إطْنَابٍ فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} [النساء: 92] {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93] انْحَصَرَ الْقَتْلُ فِي خَطَأٍ وَعَمْدِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ ثَالِثًا؛ وَهُوَ شِبْهُ الْعَمْدِ، وَجَعَلُوهُ عَمْدًا خَطَأً، كَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ أَنَّهُ عَمْدٌ مِنْ وَجْهٍ خَطَأٍ مِنْ وَجْهٍ. وَاَلَّذِي أَشَارُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ قَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ؛ فَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: أَلَا إنَّ فِي قَتِيلِ عَمْدِ الْخَطَأِ قَتِيلِ السَّوْطِ وَالْعَصَا مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ مِنْهَا أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا حَدِيثٌ لَمْ يَصِحَّ ، وَقَدْ [رُوِيَ] شِبْهُ الْعَمْدِ عَنْ الصَّحَابَةِ

الآية السادسة والأربعون قوله تعالى يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا

وَالْفُقَهَاءُ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَحَكَى الْعُلَمَاءُ عَنْ مَالِكٍ الْقَوْلَ بِشِبْهِ الْعَمْدِ، وَأَنَّ الْقَتْلَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ، وَلَكِنْ جُعِلَ شِبْهُ الْعَمْدِ فِي مِثْلِ قِصَّةِ الْمُدْلِجِيِّ فِي نَظَرِ مَنْ أَثْبَتَهُ أَنَّ الضَّرْبَ مَقْصُودٌ وَالْقَتْلَ غَيْرُ مَقْصُودٍ؛ وَإِنَّمَا وَقَعَ بِغَيْرِ الْقَصْدِ فَيَسْقُطُ الْقَوْدُ، وَتَغْلُظُ الدِّيَةُ. وَبَالَغَ أَبُو حَنِيفَةَ مُبَالَغَةً أَفْسَدَتْ الْقَاعِدَةَ، فَقَالَ: إنَّ الْقَاتِلَ بِالْعَصَا وَالْحَجَرِ شِبْهَ الْعَمْدِ فِيهِ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ وَلَا قَوْدَ فِيهِ، وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [الْآيَة السَّادِسَة وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا] الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 94]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: وَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: «إنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي مَغَازِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَمَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ؛ فَلَمَّا عَلَاهُ بِالسَّيْفِ قَالَ الْمُشْرِكُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. فَقَالَ الرَّجُلُ: إنَّمَا يَتَعَوَّذُ بِهَا مِنْ الْقَتْلِ؛ فَأَتَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَيْفَ لَك بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّمَا يَتَعَوَّذُ. فَمَا زَالَ يُعِيدُهَا عَلَيْهِ: كَيْفَ لَك بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟» فَقَالَ الرَّجُلُ: وَدِدْت أَنِّي أَسْلَمْت ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَأَنَّهُ يَبْطُلُ مَا كَانَ لِي مِنْ عَمَلٍ قَبْلَ ذَلِكَ، وَأَنِّي اسْتَأْنَفْت الْعَمَلَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مَالِكٌ مُطْلَقًا هُوَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ، أَصْلُهُ أَبُو ظَبْيَانَ عَنْ أُسَامَةَ، رَوَاهُ عَنْهُ الْأَعْمَشُ، وَحُصَيْنُ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ

وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ اسْمَ الَّذِي قَتَلَهُ أُسَامَةُ مِرْدَاسُ بْنُ نَهِيكٍ. الثَّانِي: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: «بَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحَلِّمَ بْنَ جَثَّامَةَ، فَلَقِيَهُمْ عَامِرُ بْنُ الْأَضْبَطِ، فَحَيَّاهُمْ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا إحْنَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَرَمَاهُ مُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، وَجَاءَ مُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَسْتَغْفِرَ اللَّهَ، فَقَالَ: لَا غَفَرَ اللَّهُ لَك، فَقَامَ وَهُوَ يَتَلَقَّى دُمُوعَهُ بِبُرْدَتِهِ، فَمَا مَضَتْ سَابِعَةٌ حَتَّى دَفَنُوهُ وَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: إنَّ الْأَرْضَ لَتَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُعَظِّمَ مِنْ حُرْمَتِكُمْ فَرَمَوْهُ بَيْنَ جَبَلَيْنِ وَأَلْقَوْا عَلَيْهِ مِنْ الْحِجَارَةِ، وَأَنْزَلَ اللَّه سُبْحَانَهُ الْآيَةَ». الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَقِيَ نَاسٌ رَجُلًا فِي غَنِيمَةٍ لَهُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَتَلُوهُ، وَأَخَذُوا تِلْكَ الْغَنِيمَةَ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ. الرَّابِعُ: قَالَ قَتَادَةُ: أَغَارَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُ: إنِّي مُسْلِمٌ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَقَتَلَهُ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الَّذِي قَتَلَهُ هُوَ الْمِقْدَادُ، وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ الْخَامِسُ. قَالَ الْقَاضِي: قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ حَمَلَ دِيَتَهُ، وَرَدَّ عَلَى أَهْلِهِ غَنِيمَتَهُ»، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا صَحِيحًا عَلَى طَرِيقِ الِائْتِلَافِ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ؛ فَإِنَّ هَذَا الْمَقْتُولَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الَّذِي قَالَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، أَوْ يَكُونَ الَّذِي قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، أَوْ يَكُونَ عَامِرُ بْنُ الْأَضْبَطِ الَّذِي قَالَ عُلِمَ إسْلَامُهُ: فَأَمَّا كَوْنُهُ عَامِرَ بْنِ الْأَضْبَطِ فَبَعِيدٍ؛ لِأَنَّ قِصَّةَ عَامِرٍ قَدْ اخْتَلَفَتْ اخْتِلَافًا كَثِيرًا لَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِهِ، تَبَيَّنَ أَنَّ قَتْلَ مُحَلِّمٍ إنَّمَا كَانَ لِإِحْنَةٍ وَحِقْدٍ بَعْدَ الْعِلْمِ بِحَالٍ، وَكَيْفَمَا تَصَوَّرَ الْأَمْرَ فَفِي وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ نَزَلَتْ، وَغَيْرُهَا يَدْخُلُ فِيهَا بِمَعْنَاهَا.

وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا لَقِيَ الْكَافِرَ لَا عَهْدَ لَهُ جَازَ لَهُ قَتْلُهُ؛ فَإِنْ قَالَ لَهُ الْكَافِرُ: " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ؛ فَقَدْ اعْتَصَمَ بِعِصَامِ الْإِسْلَامِ الْمَانِعِ مِنْ دَمِهِ وَمَالِهِ وَأَهْلِهِ. فَإِنْ قَتَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ بِهِ. وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقَتْلُ عَنْ هَؤُلَاءِ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَتَأَوَّلُوا أَنَّهُ قَالَهَا مُتَعَوِّذًا، وَأَنَّ الْعَاصِمَ قَوْلُهَا مُطْمَئِنًّا، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ عَاصِمٌ كَيْفَمَا قَالَهَا. وَأَمَّا إنْ قَالَ لَهُ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْتَلَ حَتَّى يُعْلَمَ مَا وَرَاءَ هَذَا؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ إشْكَالٍ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْكَافِرِ يُوجَدُ عِنْدَ الدَّرْبِ فَيَقُولُ: جِئْتُ مُسْتَأْمِنًا أَطْلُبُ الْأَمَانَ: هَذِهِ أُمُورٌ مُشْكِلَةٌ، وَأَرَى أَنْ يُرَدَّ إلَى مَأْمَنِهِ، وَلَا يُحْكَمُ لَهُ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ قَدْ ثَبَتَ لَهُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِقَادَ الْفَاسِدَ الَّذِي كَانَ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الْفَاسِدُ قَدْ تَبَدَّلَ بِاعْتِقَادٍ صَحِيحٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الصَّحِيحُ، وَلَا يَكْفِي فِيهِ أَنْ يَقُولَ: أَنَا مُسْلِمٌ، وَلَا أَنَا مُؤْمِنٌ، وَلَا أَنْ يُصَلِّيَ حَتَّى يَتَكَلَّمَ بِالْكَلِمَةِ الْعَاصِمَةِ الَّتِي عَلَّقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحُكْمَ بِهَا عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ». فَإِنْ صَلَّى أَوْ فَعَلَ فِعْلًا مِنْ خَصَائِصِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ عُلَمَاؤُنَا، وَتَبَايَنَتْ الْفِرَقُ فِي إسْلَامِهِ، وَقَدْ حَرَّرْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. وَنَرَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا بِذَلِكَ، أَمَّا أَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: مَا وَرَاءُ هَذِهِ الصَّلَاةِ؟ فَإِنْ قَالَ: صَلَاةُ مُسْلِمٍ قِيلَ لَهُ قُلْ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولٌ اللَّهِ. فَإِنْ قَالَهَا تَبَيَّنَ صِدْقُهُ، وَإِنْ أَبَى

الآية السابعة والأربعون قوله تعالى وإذا ضربتم في الأرض

عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ تَلَاعُبٌ، وَكَانَتْ عِنْدَ مَنْ يَرَى إسْلَامَهُ رِدَّةً وَيُقْتَلُ عَلَى كُفْرِهِ الْأَصْلِيِّ، وَذَلِكَ مُحَرَّرٌ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، مُقَرَّرٌ أَنَّهُ كُفْرٌ أَصْلِي لَيْسَ بِرِدَّةٍ. وَكَذَلِكَ هَذَا الَّذِي قَالَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ يُكَلَّفُ الْكَلِمَةَ، فَإِنْ قَالَهَا تَحَقَّقَ رَشَادُهُ، وَإِنْ أَبِي تَبَيَّنَ عِنَادُهُ وَقُتِلَ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَتَبَيَّنُوا} [النساء: 94] أَيْ الْأَمْرَ الْمُشْكِلَ، أَوْ تَثَبَّتُوا وَلَا تَعْجَلُوا، الْمَعْنَيَانِ سَوَاءٌ؟ فَإِنْ قَتَلَهُ أَحَدٌ فَقَدْ أَتَى مَنْهِيًّا عَنْهُ، لَا يَبْلُغ فِدْيَةً وَلَا كَفَّارَةً وَلَا قِصَاصًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ أَصْلَ كُفْرِهِ قَدْ تَيَقَّنَاهُ، فَلَا يُزَالُ الْيَقِينُ بِالشَّكِّ. فَإِنْ قِيلَ: فَتَغْلِيظُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مُحَلِّمٍ كَيْفَ مَخْرَجُهُ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ عَلِمَ مِنْ نِيَّتِهِ أَنَّهُ لَمْ يُبَالِ بِإِسْلَامِهِ، وَلَمْ يُحَقِّقْهُ؛ فَغَضِبَ عَلَى هَذِهِ النِّيَّةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة السَّابِعَة وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ] الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} [النساء: 101]. فِيهَا ثَمَانِي مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ} [النساء: 101]: اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ بِنَاءَ " ضَرَبَ " يَتَصَرَّفُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ؛ مِنْهَا السَّفَرُ، وَمَا أَظُنُّهُ سُمِّيَ بِهِ إلَّا لِأَنَّ الرَّجُلَ إذَا سَافَرَ ضَرَبَ بِعَصَاهُ دَابَّتَهُ، لِيَصْرِفَهَا فِي السَّيْرِ عَلَى حُكْمِهِ، ثُمَّ سُمِّيَ بِهِ كُلُّ مُسَافِرٍ، وَلَمْ يَجْتَمِعْ لِي فِي هَذَا الْبَابِ، وَلَا أَمْكَنَنِي فِي هَذَا الْوَقْتِ ضَبْطٌ فَرَأَيْتُهُ تَكَلُّفًا، فَتَرَكْتُهُ إلَى أَوْبَةٍ تَأْتِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَةُ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى مُرَاغَمًا كَثِيرًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: (مُرَاغَمًا كَثِيرًا) هَذِهِ لَفْظَةٌ وَرَدَتْ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَهِيَ مُرْتَبِطَةٌ بِهَا سَنَذْكُرُهَا مَعَهَا، فَأَرَدْنَا أَنْ

مسألة السفر في الأرض

نُقَدِّمَ شَرْحَ اللَّفْظَةِ، لِتَكُونَ إلَى جَانِبِ أُخْتِهَا. وَفِيهِ اخْتِلَافٌ وَإِشْكَالٌ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: الْمُرَاغَمُ: الْمَذْهَبُ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: الْمُرَاغَمُ الذَّهَابُ فِي الْأَرْضِ. الثَّانِي: الْمُرَاغَمُ: الْمُتَحَوِّلُ، يُعْزَى إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. الثَّالِثُ: الْمُرَاغَمُ: الْمَنْدُوحَةُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ تَتَقَارَبُ. وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقِهَا، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ الرَّغَامِ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ التُّرَابُ. وَقَالَتْ أُخْرَى: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْهُ بِضَمِّ الرَّاءِ، وَهُوَ مَا يَسِيلُ مِنْ أَنْفِ الشَّاةِ. وَالرُّغَامُ بِضَمِّ الرَّاءِ يُرْجَعُ إلَى الرَّغَامِ بِفَتْحِهَا؛ لِأَنَّ مَنْ كَرِهَ رَجُلًا قَصَدَ ذُلَّهُ، وَأَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ، حَتَّى يَقَعَ أَنْفُهُ عَلَى الرَّغَامِ، وَهُوَ التُّرَابُ، فَضُرِبَ الْمِثْلُ بِهِ، حَتَّى يُقَالَ: أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَهُ، وَأَفْعَلَ كَذَا وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ سُمِّيَ بَعْدَ ذَلِكَ الْأَنْفُ وَمَا يَسِيلُ مِنْهُ بِهِ. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ اللَّفْظَةَ تَرْجِعُ إلَى الرَّغَامِ بِفَتْحِ الرَّاءِ. الْمَعْنَى: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مَكَانًا لِلذَّهَابِ، وَضَرَبَ التُّرَابَ لَهُ مَثَلًا؛ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ أَنْوَاعِ الْأَرْضِ. [مَسْأَلَة السَّفَرِ فِي الْأَرْضِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101]: وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي السَّفَرِ فِي الْأَرْضِ: تَتَعَدَّدُ أَقْسَامُهُ مِنْ جِهَاتٍ مُخْتَلِفَاتٍ، فَتَنْقَسِمُ مِنْ جِهَةِ الْمَقْصُودِ بِهِ إلَى هَرَبٍ أَوْ طَلَبٍ. وَتَنْقَسِمُ مِنْ جِهَةِ الْأَحْكَامِ إلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ، وَهِيَ مِنْ أَحْكَامِ أَفْعَال الْمُكَلَّفِينَ الشَّرْعِيَّةِ: وَاجِبٌ، وَمَنْدُوبٌ، وَمُبَاحٌ، وَمَكْرُوهٌ، وَحَرَامٌ. وَيَنْقَسِمُ مِنْ جِهَةِ التَّنْوِيعِ فِي الْمَقَاصِدِ إلَى أَقْسَامٍ:

الْأَوَّلُ: الْهِجْرَةُ، وَهِيَ تَنْقَسِمُ إلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: الْخُرُوجُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ؛ وَكَانَتْ فَرْضًا فِي أَيَّامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ غَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِهَا بَيَّنَّاهَا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ، وَهَذِهِ الْهِجْرَةُ بَاقِيَةٌ مَفْرُوضَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَاَلَّتِي انْقَطَعَتْ بِالْفَتْحِ هِيَ الْقَصْدُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ كَانَ، فَمَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ بَقِيَ فَقَدْ عَصَى، وَيُخْتَلَفُ فِي حَالِهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. الثَّانِي: الْخُرُوجُ مِنْ أَرْضِ الْبِدْعَةِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُقِيمَ بِبَلَدٍ سُبَّ فِيهَا السَّلَفُ. وَهَذَا صَحِيحٌ؛ فَإِنَّ الْمُنْكَرَ إذَا لَمْ يُقْدَرْ عَلَى تَغْيِيرِهِ نُزِلَ عَنْهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68]. وَقَدْ كُنْت قُلْت لِشَيْخِنَا الْإِمَامِ الزَّاهِدِ أَبِي بَكْرٍ الْفِهْرِيِّ: ارْحَلْ عَنْ أَرْضِ مِصْرَ إلَى بِلَادِك. فَيَقُولُ: لَا أُحِبُّ أَنْ أَدْخُلَ بِلَادًا غَلَبَ عَلَيْهَا كَثْرَةُ الْجَهْلِ، وَقِلَّةُ الْعَقْلِ، فَأَقُولُ لَهُ: فَارْتَحِلْ إلَى مَكَّةَ أَقِمْ فِي جُوَارِ اللَّهِ وَجُوَارِ رَسُولِهِ؛ فَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْخُرُوجَ عَنْ هَذِهِ الْأَرْضِ فَرْضٌ لِمَا فِيهَا مِنْ الْبِدْعَةِ وَالْحَرَامِ، فَيَقُولُ: وَعَلَى يَدِي فِيهَا هُدًى كَثِيرٌ، وَإِرْشَادٌ لِلْخَلْقِ، وَتَوْحِيدٌ، وَصَدٌّ عَنْ الْعَقَائِدِ السَّيِّئَةِ، وَدُعَاءٌ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَعَالَى الْكَلَامُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فِيهَا إلَى حَدٍّ شَرَحْنَاهُ فِي تَرْتِيبِ [لُبَابِ] الرِّحْلَةِ وَاسْتَوْفَيْنَاهُ. الثَّالِثُ: الْخُرُوجُ عَنْ أَرْضٍ غَلَبَ عَلَيْهَا الْحَرَامُ؛ فَإِنَّ طَلَبَ الْحَلَالِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ.

الرَّابِعُ: الْفِرَارُ مِنْ الْإِذَايَةِ فِي الْبَدَنِ؛ وَذَلِكَ فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَرْخَصَ فِيهِ، فَإِذَا خَشِيَ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ فِي مَوْضِعٍ فَقَدْ أَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ فِي الْخُرُوجِ عَنْهُ، وَالْفِرَارِ بِنَفْسِهِ؛ لِيُخَلِّصَهَا مِنْ ذَلِكَ الْمَحْذُورِ. وَأَوَّلُ مَنْ حَفِظْنَاهُ فِيهِ الْخَلِيلُ إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا خَافَ مِنْ قَوْمِهِ قَالَ: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت: 26]. وَقَالَ: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99] وَمُوسَى قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهِ: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 21]. وَذَلِكَ يَكْثُرُ تَعْدَادُهُ. وَيَلْحَقُ بِهِ، وَهُوَ: الْخَامِسُ: خَوْفُ الْمَرَضِ فِي الْبِلَادِ الْوَخِمَةِ، وَالْخُرُوجُ مِنْهَا إلَى الْأَرْضِ النَّزِهَةِ. وَقَدْ أَذِنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلرِّعَاءِ حِينَ اسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ أَنْ يَتَنَزَّهُوا إلَى الْمَسْرَحِ، فَيَكُونُوا فِيهِ حَتَّى يَصِحُّوا، وَقَدْ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْخُرُوجَ مِنْ الطَّاعُونِ؛ فَمَنَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْهُ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْدَ أَنِّي رَأَيْت عُلَمَاءَنَا قَالُوا هُوَ مَكْرُوهٌ. وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. السَّادِسُ: الْفِرَارُ خَوْفَ الْإِذَايَةِ فِي الْمَالِ؛ فَإِنَّ حُرْمَةَ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ، وَالْأَهْلُ مِثْلُهُ أَوْ آكَدُ، فَهَذِهِ أُمَّهَاتُ قِسْمِ الْهَرَبِ. وَأَمَّا قِسْمُ الطَّلَبِ فَيَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ: طَلَبُ دِينٍ وَطَلَبُ دُنْيَا؛ فَأَمَّا طَلَبُ الدِّينِ فَيَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ أَنْوَاعِهِ، وَلَكِنَّ أُمَّهَاتِهِ الْحَاضِرَةَ عِنْدِي الْآنَ تِسْعَةٌ: الْأَوَّلُ: سَفَرُ الْعِبْرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [يوسف: 109]. وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَيُقَالُ: إنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ إنَّمَا طَافَ الْأَرْضَ لِيَرَى عَجَائِبَهَا. وَقِيلَ: لَيُنْفِذَ الْحَقَّ فِيهَا.

الثَّانِي: سَفَرُ الْحَجِّ. وَالْأَوَّلُ وَإِنْ كَانَ نَدْبًا فَهَذَا فَرْضٌ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ. الثَّالِثُ: سَفَرُ الْجِهَادِ، وَلَهُ أَحْكَامُهُ. الرَّابِعُ: سَفَرُ الْمَعَاشِ؛ فَقَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَى الرَّجُلِ مَعَاشُهُ مَعَ الْإِقَامَةِ، فَيَخْرُجُ فِي طَلَبِهِ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ وَلَا يَنْقُصُ مِنْ صَيْدٍ أَوْ احْتِطَابٍ أَوْ احْتِشَاشٍ أَوْ اسْتِئْجَارٍ، وَهُوَ فَرْضٌ عَلَيْهِ. الْخَامِسُ: سَفَرُ التِّجَارَةِ وَالْكَسْبِ الْكَثِيرِ الزَّائِدِ عَلَى الْقُوتِ؛ وَذَلِكَ جَائِزٌ بِفَضْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] يَعْنِي: التِّجَارَةَ. وَهَذِهِ نِعْمَةٌ مَنَّ بِهَا فِي سَفَرِ الْحَجِّ، فَكَيْفَ إذَا انْفَرَدَتْ. السَّادِسُ: فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَهُوَ مَشْهُورٌ. السَّابِعُ: قَصْدُ الْبِقَاعِ الْكَرِيمَةِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْمَسَاجِدُ الْإِلَهِيَّةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى». الثَّانِي: الثُّغُورُ لِلرِّبَاطِ بِهَا، وَتَكْثِيرُ سَوَادِهَا لِلذَّبِّ عَنْهَا؛ فَفِي ذَلِكَ فَضْلٌ كَثِيرٌ. الثَّامِنُ: زِيَارَةُ الْإِخْوَانِ فِي اللَّهِ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ. التَّاسِعُ: السَّفَرُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ،. وَسَيَأْتِي بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ وَبَعْدَ هَذَا فَالنِّيَّةُ تَقْلِبُ الْوَاجِبَ مِنْ هَذَا حَرَامًا وَالْحَرَامَ حَلَالًا بِحَسَبِ حُسْنِ الْقَصْدِ وَإِخْلَاصِ السِّرِّ عَنْ الشَّوَائِبِ.

وَقَدْ تَتَنَوَّعُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ إلَى تَفْصِيلٍ؛ هَذَا أَصْلُهَا الَّتِي تَتَرَكَّبُ عَلَيْهِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي السَّفَرِ الَّذِي تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ الْمَذْكُورَةُ هَاهُنَا عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا لَا تُقْصَرُ إلَّا فِي سَفَرٍ وَاجِبٍ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ فَرْضٌ، وَلَا يُسْقِطُ الْفَرْضَ إلَّا فَرْضٌ. الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تُقْصَرُ إلَّا فِي سَفَرِ قُرْبَةٍ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ ابْنُ حَنْبَلٍ. وَتَعَلَّقُوا بِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: «إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَقْصُرُ إلَّا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ جِهَادٍ». الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ الْقَصْرُ فِي كُلِّ سَفَرٍ مُبَاحٍ، كَمَا قَدْ بَيَّنَّا أَنْوَاعَهُ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] وَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ سَفَرٍ وَسَفَرٍ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ يَقْصُرُ فِي كُلِّ سَفَرٍ، حَتَّى فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٍ، بَنَوْهُ عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ فَرْضُ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ بِعَيْنِهِ. وَتَعَلَّقُوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ: «فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَزِيدَتْ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى أَصْلِهَا». السَّادِسُ: أَنَّ الْقَصْرَ لَا يَجُوزُ إلَّا مَعَ الْخَوْفِ قَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَائِشَةُ قَالَتْ: أَتِمُّوا، فَقَالُوا لَهَا: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْصُرُ. قَالَتْ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي حَرْبٍ، وَكَانَ يَخَافُ؛ فَهَلْ تَخَافُونَ أَنْتُمْ؟ أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ فَفَاسِدٌ؛ لِأَنَّ عُمُومَ الْقُرْآنِ لَمْ يَخُصَّ مِنْهَا وَاجِبًا مِنْ نَدْبٍ، «وَقَدْ قَصَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَيْرِ الْوَاجِبِ، كَالْعُمْرَةِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ وَغَيْرِهَا». وَأَمَّا مَنْ قَالَ: لَا تَقْصُرْ إلَّا فِي سَفَرِ قُرْبَةٍ فَعُمُومُ الْقُرْآنِ أَيْضًا يَقْضِي عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عَمَّ وَلَمْ يَخُصَّ قُرْبَةً مِنْ مُبَاحٍ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ: الصَّحِيحُ.

مسألة آراء العلماء في تأويل القصر في الصلاة

وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَقْصُرُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ فَلِأَنَّهَا فَرْضٌ مُعَيَّنٌ لِلسَّفَرِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ عُلَمَاءِ الْمَذْهَبِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ تَعَلَّقَتْ لَهُمْ مِنْ أَقْوَالِ الْعِرَاقِيِّينَ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ " التَّلْخِيصِ " وَغَيْرِهِ فَسَادهَا. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي شَرْحِ مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَالْحَدِيثِ، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ، يُعَارِضُهُ نَصُّ الْقُرْآنِ وَالْأَخْبَارُ الْمُتَوَاتِرَةُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ فِي كِتَابِهِ الْقَصْرَ تَخْفِيفًا، وَالتَّمَامَ أَصْلًا، وَيُعَارِضُ أَيْضًا الْأُصُولَ الْمَعْقُولَةَ فَإِنَّهُ جَعَلَ الْإِقَامَةَ فِي الْقُرْآنِ أَصْلًا، وَهُوَ الْوَاجِبُ وَقَلَبَهَا فِي الْحَدِيثِ الرَّاوِي؛ وَأَقْوَاهُ «أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَصَرَ وَأَتْمَمْت، وَأَفْطَرَ وَصُمْت، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ، وَكَانَتْ تُتِمُّ فِي السَّفَرِ». وَأَمَّا سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ فَأَشْكَلُ دَلِيلٍ فِيهِ لَهُمْ أَنْ قَالُوا: إنَّا بَنَيْنَا الْأَمْرَ عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ عَزِيمَةٌ وَلَيْسَ بِرُخْصَةٍ، وَالْعَزَائِمُ لَا تَتَغَيَّرُ بِسَفَرِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ كَالتَّيَمُّمِ. قُلْنَا: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ رُخْصَةٌ، وَعَلَيْهِ تَنْبَنِي الْمَسْأَلَةُ، وَالرُّخْصُ لَا تَجُوزُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: تَلَاعَبَ قَوْمٌ بِالدِّينِ؛ فَقَالُوا: إنْ مَنْ خَرَجَ مِنْ الْبَلَدِ إلَى ظَاهِرِهِ قَصَرَ الصَّلَاةَ وَأَكَلَ. وَقَائِلُ هَذَا أَعْجَمِيٌّ لَا يَعْرِفُ السَّفَرَ عِنْدَ الْعَرَبِ، أَوْ مُسْتَخِفٌّ بِالدِّينِ؛ وَلَوْلَا أَنَّ الْعُلَمَاءَ ذَكَرُوهُ مَا رَضِيت أَنْ أَلْمَحَهُ بِمُؤَخِّرِ عَيْنِي، وَلَا أَنْ أُفَكِّرَ فِيهِ بِفُضُولِ قَلْبِي؛ وَقَدْ كَانَ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ الصَّحَابَةِ يَخْتَلِفُونَ فِي تَقْدِيرِهِ؛ فَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقَدَّرُونَهُ بِيَوْمٍ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ بِأَنَّ السَّفَرَ كُلُّ خُرُوجٍ تُكَلِّفَ لَهُ وَأُدْرِكَتْ فِيهِ الْمَشَقَّةِ. [مَسْأَلَة آرَاءٍ الْعُلَمَاءِ فِي تَأْوِيلِ الْقَصْرِ فِي الصَّلَاةِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101]: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِهَا؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ الْقَصْرَ قَصْرُ عَدَدٍ، وَهُمْ الْجَمُّ الْغَفِيرُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهَا قَصْرُ الْحُدُودِ وَتَغْيِيرُ الْهَيْئَاتِ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا: إنَّ الْقَصْرَ فِي الْعَدَدِ قَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَرْبَعٍ إلَى اثْنَيْنِ. وَقَالَ آخَرُونَ: يَقْصُرُ مِنْ اثْنَيْنِ إلَى وَاحِدَةٍ.

مسألة الخوف من القصر

وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: الْآيَةُ تَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا؛ فَأَمَّا الْقَصْرُ مِنْ هَيْئَتِهَا فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِعْلًا حَالَةَ الْخَوْفِ، وَأَمَّا الْقَصْرُ مِنْ عَدَدِهَا إلَى ثِنْتَيْنِ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِعْلًا فِي حَالَةِ الْأَمْنِ. وَأَمَّا الْقَصْرُ فِي حَالَةِ الْخَوْفِ إلَى وَاحِدَةٍ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحِ: فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً. وَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ بَيَانُهُ. [مَسْأَلَة الْخَوْفَ مِنْ الْقَصْرِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101]: فَشَرَطَ اللَّهُ تَعَالَى الْخَوْفَ فِي الْقَصْرِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الشَّرْطِ الْمُتَّصِلِ بِالْفِعْلِ؛ هَلْ يَقْتَضِي ارْتِبَاطُ الْفِعْلِ بِهِ حَتَّى يَثْبُتَ بِثُبُوتِهِ وَيَسْقُطَ بِسُقُوطِهِ؟ فَذَهَبَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ إلَى أَنَّهُ لَا يَرْتَبِطُ بِهِ، وَهُمْ نُفَاةُ دَلِيلِ الْخِطَابِ، وَلَا عِلْمَ عِنْدَهُمْ بِاللُّغَةِ وَلَا بِالْكِتَابِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْمَحْصُولِ بَيَانًا شَافِيًا. وَعَجَبًا لَهُمْ. «قَالَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] فَهَا نَحْنُ قَدْ أَمِنَّا. قَالَ: عَجِبْت مِمَّا عَجِبْت مِنْهُ. فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ: صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ.»

مسألة المسافر مخير بين القصر والإتمام

وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَيْدٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: إنَّا نَجِدُ صَلَاةَ الْحَضَرِ وَصَلَاةَ الْخَوْفِ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا نَجِدُ صَلَاةَ السَّفَرِ يَعْنِي نَجِدُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَيْنَا وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ شَيْئًا، فَإِنَّا نَفْعَلُ كَمَا رَأَيْنَاهُ يَفْعَلُ؛ فَهَذِهِ الصَّحَابَةُ الْفُصَّحُ، وَالْعَرَبُ تَعْرِفُ ارْتِبَاطَ الشَّرْطِ بِالْمَشْرُوطِ، وَتُسْلِمُ فِيهِ وَتَعْجَب مِنْهُ، وَهَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ الْعَرَبِ لِأَغْرَاضٍ صَحِيحَةٍ لَا يُحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فِيهَا، فَلْيُنْظَرْ تَحْقِيقُهُ فِي كَلَامِنَا عَلَيْهِ. وَلَقَدْ انْتَهَى الْجَهْلُ بِقَوْمٍ آخَرِينَ إلَى أَنْ قَالُوا: إنَّ الْكَلَامَ قَدْ تَمَّ فِي قَوْلِهِ: {مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] وَابْتَدَأَ بِقَوْلِهِ: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] وَإِنَّ الْوَاوَ زَائِدَةٌ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} [النساء: 102] وَهَذَا كُلُّهُ لَمْ يَفْتَقِرْ إلَيْهِ عُمَرُ وَلَا ابْنُهُ وَلَا يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ مَعَهُمَا. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: «صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِنًى، آمَنَ مَا كَانَ النَّاسُ وَأَكْثَرُهُ رَكْعَتَيْنِ»؛ فَهَؤُلَاءِ لَمَّا جَهِلُوا الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ تَكَلَّمُوا بِرَأْيِهِمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ. وَهَذَا نَوْعٌ عَظِيمٌ مِنْ تَكَلُّفِ الْقَوْلِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَقَوْلٍ مَذْمُومٍ، وَلَيْسَ بَعْدَ قَوْلِ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ مَطْلَبٌ لِأَحَدٍ إلَّا لِجَاهِلٍ مُتَعَسِّفٍ أَوْ فَارِغٍ مُتَكَلِّفٍ، أَوْ مُبْتَدِعٍ مُتَخَلِّفٍ. وَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ لَك أَنَّ الْقَصْرَ فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَرُخْصَةٌ لَا عَزِيمَةَ وَهِيَ: [مَسْأَلَة الْمُسَافِرَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقَصْرِ وَالْإِتْمَامِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ، فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقَصْرَ لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ الْمُسَافِرَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقَصْرِ وَالْإِتْمَامِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ الْقَصْرَ سُنَّةٌ، وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاظَبَ

الآية الثامنة والأربعون قوله تعالى وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة

عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ، «وَإِنَّ عُثْمَانَ لَمَّا أَتَمَّ بِمِنًى قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: صَلَّيْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ عُمَرَ رَكْعَتَيْنِ، فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ». [الْآيَة الثَّامِنَة وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى وَإِذَا كُنْت فِيهِمْ فَأَقَمْت لَهُمْ الصَّلَاةَ] الْآيَةُ الثَّامِنَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 102] وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً عَنْ الَّتِي قَبْلَهَا عَدَدًا فَقَدْ زَعَمَ قَوْلُهُمْ كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّهَا بِهَا مُرْتَبِطَةٌ. وَقَدْ فَصَّلْنَاهَا خِطَابًا وَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا حُكْمًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْحَالُ دُونَ اخْتِلَالٍ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101]. فَإِنَّ ذَلِكَ إنْ كَانَ شَرْطًا فِي الْقَصْرِ " وَكَانَ الْمَعْنَى أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ حُدُودِهَا، فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيَانُ صِفَةِ ذَلِكَ الْقَصْرِ مِنْ الْحُدُودِ، وَإِنْ كَانَ كَلَامًا مُبْتَدَأً لَمْ يَرْتَبِطْ بِالْأَوَّلِ، فَهَذَا بَيَانُهُ، فَيَقُولُ: ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ مِرَارًا عِدَّةً بِهَيْئَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ»، فَقِيلَ فِي مَجْمُوعِهَا: إنَّهَا أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ صِفَةً، ثَبَتَ فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ صِفَةً قَدْ شَرَحْنَاهَا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ. وَاَلَّذِي نَذْكُرُهُ لَكُمْ الْآنَ مَا نُورِدُهُ أَبَدًا فِي الْمُخْتَصَرَاتِ، وَذَلِكَ عَلَى ثَمَانِي صِفَاتٍ: الصِّفَةُ الْأُولَى: رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْخَوْفِ بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى مُوَاجِهَةُ الْعَدُوِّ، ثُمَّ انْصَرَفُوا فَقَامُوا مَقَامَ أَصْحَابِهِمْ مُقْبِلِينَ عَلَى الْعَدُوِّ، وَجَاءَ أُولَئِكَ ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَةً، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَضَى هَؤُلَاءِ رَكْعَةً».

الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: «قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: شَهِدْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْخَوْفِ، فَصَفّنَا صَفَّيْنِ؛ صَفًّا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْعَدُوُّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَكَبَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَبَّرْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَكَعَ وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرْنَا بِالسُّجُودِ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، وَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السُّجُودَ وَقَامَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ وَقَامُوا، ثُمَّ تَقَدَّمَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ وَتَأَخَّرَ الصَّفُّ الْمُقَدَّمُ، ثُمَّ رَكَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرْنَا بِالسُّجُودِ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ كَانَ مُؤَخَّرًا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السُّجُودَ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيه انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ، فَسَجَدُوا ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَلَّمْنَا جَمِيعًا». الصِّفَة الثَّالِثَةُ: عَنْ ابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِأَصْحَابِهِ فِي الْخَوْفِ، فَصَفَّهُمْ خَلْفَهُ صَفَّيْنِ، فَصَلَّى بِاَلَّذِينَ يَلُونَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ قَامَ فَلَمْ يَزَلْ قَائِمًا حَتَّى صَلَّى بِاَلَّذِينَ خَلْفَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ تَقَدَّمُوا وَتَأَخَّرَ الَّذِينَ قُدَّامُهُمْ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً، ثُمَّ قَعَدَ حَتَّى صَلَّى الَّذِينَ تَخَلَّفُوا رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمَ». الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ «إنَّ طَائِفَةً صَلَّتْ مَعَهُ وِجَاهَ الْعَدُوِّ فَصَلَّى بِاَلَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا فَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا فَصَفُّوا وِجَاهَ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتْ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى وَصَلَّى بِهِمْ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا، وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ». الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ جَابِرٌ: «أَقْبَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى إذَا كُنَّا بِذَاتِ الرِّقَاعِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، ثُمَّ قَالَ: فَصَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ تَأَخَّرُوا وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَتَيْنِ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَيْنِ». الصِّفَةُ السَّادِسَةُ: عَنْ ابْنِ عُمَرَ: يَتَقَدَّمُ الْإِمَامُ وَطَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ فَيُصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً، وَتَكُونُ طَائِفَةٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ لَمْ يُصَلُّوا فَإِذَا صَلَّى بِاَلَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً اسْتَأْخَرُوا مَكَانَ الَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا فَيُصَلُّونَ رَكْعَةً ثُمَّ يَنْصَرِفُ الْإِمَامُ وَقَدْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَيَقُومُ كُلُّ وَاحِدٍ

مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ فَيُصَلُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً بَعْدَ أَنْ يَنْصَرِفَ الْإِمَامُ وَيَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ قَدْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا قِيَامًا وَرُكْبَانًا». قَالَ نَافِعٌ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرُ مُسْتَقْبِلِيهَا، لَا أَرَى ذُكِرَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ إلَّا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَهَذِهِ الصِّفَاتُ السِّتُّ فِي الصَّحِيحِ الثَّابِتِ. الصِّفَةُ السَّابِعَةُ: عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْخَوْفِ، فَقَامَ صَفٌّ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَفٌّ مُسْتَقْبِلَ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِهِمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَةً، وَجَاءَ الْآخَرُونَ؛ فَقَامُوا مَقَامَهُمْ، وَاسْتَقْبَلَ هَؤُلَاءِ لِلصَّلَاةِ فَصَلَّى بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَامَ هَؤُلَاءِ وَصَلَّوْا لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً، ثُمَّ سَلَّمُوا، ثُمَّ ذَهَبُوا فَقَامُوا مَقَامَ أُولَئِكَ مُسْتَقْبِلِي الْعَدُوِّ، وَرَجَعَ أُولَئِكَ مَقَامَهُمْ، فَصَلَّوْا لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمُوا». الصِّفَةُ الثَّامِنَةُ عَنْ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ بِهَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَبِهَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَلَمْ يَقْضُوا»، وَمِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ الثَّامِنَةِ مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَهَاتَانِ الصِّفَتَانِ مَرْوِيَّتَانِ فِي الْمُصَنَّفَاتِ خَرَّجَهُمَا أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ وَمَا بَقِيَ غَيْرُهَا مِنْ السِّتَّ عَشْرَةَ صِفَةً عَلَى سِتَّةِ أَقْوَال: الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو يُوسُفَ: هِيَ سَاقِطَةٌ كُلُّهَا، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] فَإِنَّمَا أَقَامَ الصَّلَاةَ خَوْفِيَّةً بِشَرْطِ إقَامَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهَا بِهِمْ. قُلْنَا لَهُمْ: فَالْآنَ مَا يَصْنَعُونَ؟ فَإِنْ قَالَ: نَتْرُكُ الصَّلَاةَ مَعَ الذِّكْرِ لَهَا وَالْعِلْمِ بِهَا وَبِوَقْتِهَا كَانَ ذَلِكَ احْتِجَاجًا بِهَا وَاقْتِدَاءً بِمَنْ فَاتَ، وَإِنْ قَالَ يَفْعَلُهَا عَلَى الْحَالَةِ الْمُعْتَادَةِ فِيهَا فَلَا يُمْكِنُ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الِاقْتِدَاءُ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} [النساء: 102] وَالِائْتِمَامُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وَقَدْ قَالَ فِي الصَّحِيحِ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»، وَاَللَّهُ قَالَ لَهُ: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] وَهُوَ قَالَ لَنَا: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي». وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. الثَّانِي: قَالَتْ طَائِفَةٌ: أَيُّ صَلَاةٍ صَلَّى مِنْ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الصِّحَاحِ الْمَرْوِيَّةِ جَازَ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. الثَّالِثُ: أَنَّ الَّذِي يُعْلَمُ تَقَدُّمُهُ وَيَتَحَقَّق تَأَخُّرُ غَيْرِهِ عَنْهُ؛ فَإِنَّ الْمُتَأَخِّرَ يَنْسَخُ الْمُتَقَدِّمَ، وَإِنَّمَا يَبْقَى التَّرْجِيحُ فِيمَا جُهِلَ تَارِيخُهُ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي نَسْخِ الْفِعْلِ لِلْفِعْلِ فِي الْأُصُولِ فِي الْمَحْصُولِ، وَهَذَا كَانَ فِيهِ مُتَعَلَّقٌ لَوْلَا أَنَّا نَبْقَى فِي الْإِشْكَالِ بَعْدَ تَحْدِيدِ الْمُتَقَدِّمِ. الرَّابِعُ: قَالَ قَوْمٌ: مَا وَافَقَ صِفَةَ الْقُرْآنِ مِنْهَا فَهُوَ الَّذِي نَقُولُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَمَا خَالَفَهَا مَظْنُونٌ، وَلَا يُتْرَكُ الْمَقْطُوعُ بِهِ لَهُ، وَعَلَّقُوهُ بِنَسْخِ الْقُرْآنِ لِلسُّنَّةِ؛ وَهَذَا مُتَعَلَّقٌ قَوِيٌّ، لَكِنْ يَمْنَعُ مِنْهُ الْقَطْعُ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ إنَّمَا كَانَتْ لِيُجْمَعَ بَيْنَ التَّحَرُّزِ مِنْ الْعَدُوِّ وَإِقَامَةِ الْعِبَادَةِ، فَكَيْفَمَا أَمْكَنَتْ فُعِلَتْ، وَصِفَةُ الْقُرْآنِ لَمْ تَأْتِ لِتَعْيِينِ الْفِعْلِ. وَإِنَّمَا جَاءَتْ لِحِكَايَةِ الْحَالِ الْمُمْكِنَةِ، وَهَذَا بَالِغٌ. الْخَامِسُ: تَرْجِيحُ الْأَخْبَارِ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ لَهَا أَوْ مَزِيدِ عَدَالَتِهِمْ فِيهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، فَرَجَّحْنَا خَبَرَ سَهْلٍ وَصَالِحٍ، ثُمَّ رَجَّحْنَا بَيْنَهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ بِوُجُوهٍ مِنْ التَّرْجِيحَاتِ؛ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ أَخَفَّ فِعْلًا، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ أَحْفَظَ لِأُهْبَةِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ: السَّادِسُ: مِثَالُ ذَلِكَ إذَا صَلَّى صَلَاةَ الْمَغْرِبِ فِي الْخَوْف. قُلْنَا: نَحْنُ وَأَبُو حَنِيفَةَ نُصَلِّي بِالْأُولَى رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَخَفُّ فِي الِانْتِظَارِ.

مسألة الصلاة عند الخوف

وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ: يُصَلِّي بِالْأُولَى رَكْعَةً لِأَنَّ عَلِيًّا فَعَلَهَا لَيْلَةَ الْهَرِيرِ. وَمِنْهَا التَّرْجِيحُ بِالسَّلَامِ بَعْدَ الْإِمَامِ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَذَلِكَ طُولٌ لَا يَكُونُ إلَّا فِي مَوْضِعِهِ، وَهَذِهِ نُبْذَةٌ كَافِيَةٌ لِلْبَابِ الَّذِي تَصَدَّيْنَا إلَيْهِ. [مَسْأَلَةُ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْخَوْفِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إذَا صَلَّوْا أَخَذُوا سِلَاحَهُمْ عِنْدَ الْخَوْفِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ نَصُّ الْقُرْآنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحْمِلُهَا. قَالُوا: لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ حَمْلُهَا لَبَطَلَتْ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهَا. قُلْنَا: لَمْ يَجِب عَلَيْهِمْ حَمْلُهَا لِأَجْلِ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ قُوَّةً لَهُمْ وَنَظَرًا، أَوْ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ الصَّلَاةِ، فَلَا تَعَلُّقَ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ بِهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا فَاعْلَمْهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ} [النساء: 102]: رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِعُسْفَانَ صَلَاةَ الظُّهْرِ، فَرَأَوْهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ فُرْصَةً لَكُمْ». قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: فَإِنَّ لَهُمْ صَلَاةً أُخْرَى هِيَ أَحَبُّ إلَيْهِمْ مِنْ أَهْلَيْهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَاسْتَعِدُّوا حَتَّى تُغِيرُوا عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102]: وَهَذَا سُقْنَاهُ لِتَتَبَيَّنُوا أَنَّهَا آيَةٌ أُخْرَى فِي قِصَّةٍ غَيْر قِصَّةِ الْقَصْرِ، وَتَتَحَقَّقُوا غَبَاوَةَ مَنْ حَذَفَ الْوَاوَ. [مَسْأَلَة الصَّلَاة حَالَة الْمُسَايَفَةِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُصَلِّي حَالَ الْمُسَايَفَةِ؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى لَا تَصِحُّ مَعَهُ الصَّلَاةُ فِي غَيْرِ الْخَوْفِ، فَلَا يَصِحُّ مَعَهُ فِي الْخَوْفِ كَالرُّعَافِ. وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمُ الصَّحِيحُ: «فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوا فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ، وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا»؛ وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا فِي حَالَةِ الْمُسَايَفَةِ وَشِدَّةِ الْخَوْفِ وَصِفَةِ مَوْقِفِ الْعَدُوِّ.

مسألة رأوا سوادا فظنوه عدوا فصلوا صلاة الخوف ثم بان لهم أنه غير شيء

وَأَمَّا الزِّحَافُ فَإِنْ اُحْتِيجَ إلَيْهَا فُعِلَتْ كَمَا أَنَّهُ إنْ اُحْتِيجَ إلَى الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ فُعِلَ، وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ ضَرُورَةٍ فَإِنَّهُ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ. وَمَا قُلْنَاهُ أَرْجَحُ؛ لِأَنَّا نَحْنُ أَسْقَطْنَا صِفَةً مِنْ صِفَاتِ الصَّلَاةِ لِلضَّرُورَةِ، وَهُوَ أَسْقَطَ أَصْلَ الصَّلَاةِ، فَهَذَا أَرْجَحُ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةُ رَأَوْا سَوَادًا فَظَنُّوهُ عَدُوًّا فَصَلَّوْا صَلَاةَ الْخَوْفِ ثُمَّ بَانَ لَهُمْ أَنَّهُ غَيْرُ شَيْءٍ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إذَا رَأَوْا سَوَادًا فَظَنُّوهُ عَدُوًّا فَصَلَّوْا صَلَاةَ الْخَوْفِ، ثُمَّ بَانَ لَهُمْ أَنَّهُ غَيْرُ شَيْءٍ، فَلِعُلَمَائِنَا فِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا: يُعِيدُونَ؛ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَالثَّانِيَةُ: لَا إعَادَةَ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ أَظْهَرُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُمْ عَمِلُوا عَلَى اجْتِهَادِهِمْ، فَجَازَ لَهُمْ كَمَا لَوْ أَخْطَئُوا الْقِبْلَةَ. وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُمْ تَبَيَّنَ لَهُمْ الْخَطَأُ، فَعَادُوا إلَى الصَّوَابِ كَحُكْمِ الْحَاكِمِ، وَالْمُضَاءُ عَلَى الصَّلَاةِ، وَتَرْكُ الْإِعَادَةِ أُولَى؛ لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ، وَاجْتَهَدُوا وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِمْ لَا فِي الْقِبْلَةِ وَلَا فِي الْخَوْفِ وَلَا فِي أَمْثَالِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا تَابَعَ الطَّعْنَ وَالضَّرْبَ فَسَدَتْ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ حِينَئِذٍ صَلَاةً، وَإِنَّمَا تَكُونُ مُحَارَبَةً. قُلْنَا: يَا حَبَّذَا الْفَرْضَانِ إذَا اجْتَمَعَا، وَإِذَا كَانَتْ الْحَرَكَةُ لَعِبًا لَمْ تَنْتَظِمْ مَعَ الصَّلَاةِ، أَمَّا إذَا كَانَتْ عِبَادَةً وَاجِبَةً وَتُعُيِّنَتَا جَمِيعًا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَيُصَلِّي وَيُقَاتِلُ؛ وَعُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رُكْبَانًا، وَعَلَى أَقْدَامِهِمْ، وَمُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا» يُعْطِي جَوَازَ قَلِيلِ ذَلِكَ وَكَثِيرِهِ. [مَسْأَلَة لَا يَفْتَقِرُ الْقَصْرُ وَالْخَوْفُ إلَى تَجْدِيدِ نِيَّةٍ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ الْمُزَنِيّ: لَا يَفْتَقِرُ الْقَصْرُ وَالْخَوْفُ إلَى تَجْدِيدِ نِيَّةٍ، وَهَذِهِ إحْدَى خَطِيئَاتِهِ؛ فَلَهُ انْفِرَادَاتٌ يَخْرُجُ فِيهَا عَنْ مَقَامِ الْمُتَثَبِّتِينَ.

وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ طَارِئَةٌ، فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ تَجْدِيدٍ مِنْ نِيَّةٍ كَالْجُمُعَةِ. فَإِنْ قِيلَ الْجُمُعَةُ بَدَلٌ عَنْ الظُّهْرِ، فَلِذَلِكَ افْتَقَرَتْ إلَى نِيَّةٍ مَحْدُودَةٍ. قُلْنَا: رُبَّمَا قَلَبْنَا الْأَمْرَ، فَقُلْنَا الْجُمُعَةُ أَصْلٌ وَالظُّهْرُ بَدَلٌ، فَكَيْفَ يَكُونُ كَلَامُهُمْ؟ الثَّانِي: إنَّا نَقُولُ: وَهَبْكُمْ سَلَّمْنَا لَكُمْ أَنَّ الْجُمُعَةَ بَدَلٌ، أَلَيْسَتْ صَلَاةُ الْقَصْرِ بَدَلًا، وَصَلَاةُ الْخَوْفِ بَدَلًا آخَرَ؟ فَإِنَّ الْجُمُعَةَ إنَّمَا قُلْنَا إنَّهَا غَيْرُ صَلَاةِ الظُّهْرِ سَوَاءٌ جَعَلْنَاهَا بَدَلًا أَوْ أَصْلًا لِأَجْلِ مُخَالَفَتِهَا فِي الصِّفَاتِ وَالشُّرُوطِ وَالْهَيْئَاتِ، وَهَذَا كُلُّهُ مَوْجُودٌ هَاهُنَا؛ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ وَأَنْ تُسْتَأْنَفَ لَهُ نِيَّةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 102]: نَزَلَ عَلَيْهِمْ الْمَطَرُ، وَمَرِضَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ مِنْ جُرْحٍ، فَرَخَّصَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُمْ فِي تَرْكِ السِّلَاحِ وَالتَّأَهُّبِ لِلْعَدُوِّ بِعُذْرِ الْمَرَضِ وَالْمَطَرِ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ التَّأَهُّبِ وَالْحَذَرِ مِنْ الْعَدُوِّ وَتَرْكِ الِاسْتِسْلَامِ؛ فَإِنَّ الْجَيْشَ مَا جَاءَهُ قَطُّ مُصَابٌ إلَّا مِنْ تَفْرِيطٍ فِي حَذَرٍ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]. قَالَ قَوْمٌ: هَذِهِ الْآيَةُ وَاَلَّتِي فِي آلِ عِمْرَانَ سَوَاءٌ، وَهَذَا عِنْدِي بَعِيدٍ؛ فَإِنَّ الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَخَلَ فِي أَثْنَاءِ صَلَاةِ الْخَوْفِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 103] أَيْ فَرَغْتُمْ مِنْهَا فَافْزَعُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَإِنْ كُنْتُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ، كَمَا قَالَ: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح: 7]. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلَاةَ إذَا كُنْتُمْ فِيهَا قَاضِينَ لَهَا، فَأْتُوهَا قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جَنُوبِكُمْ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ وَمُصَافَّتِكُمْ لِلْعَدُوِّ وَكَرِّكُمْ وَفَرِّكُمْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء: 103]: يَعْنِي بِحُدُودِهَا وَأُهْبَتِهَا وَكَمَالِ هَيْئَتِهَا فِي السَّفَرِ وَكَمَالِ عَدَدِهَا فِي الْحَضَرِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ، مِنْهُمْ إبْرَاهِيمُ وَمُجَاهِدٌ: يُصَلِّي رَاحِلًا وَرَاكِبًا، كَمَا جَاءَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَمَا قَدَرَ يُومِئُ إيمَاءً كَمَا جَاءَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَيَكُونُ فِي كُلِّ حَالَةٍ حُكْمٌ لَهُ آيَةٌ أُخْرَى تَدُلُّ عَلَيْهِ وَحُكْمٌ يَنْفَرِدُ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]: قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَعْنَاهُ مَفْرُوضًا، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مِنْ الْوَقْتِ، وَمَا أَظُنُّهُ؛ لِأَنَّهُ اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ الزَّمَانِ؛ فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ»؛ فَدَلَّ أَنَّ مَعْنَاهُ مَفْرُوضًا حَقِيقَةً. وَمَنْ قَالَ: إنَّهَا مَنُوطَةٌ بِوَقْتٍ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَقَدْ عَوَّلَتْ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ فِي أَنَّ الصَّلَاةَ مُرْتَبِطَةٌ بِوَقْتٍ إذَا زَالَ لَمْ تُفْعَلْ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ الْوَقْتَ مَحَلٌّ لِلْفِعْلِ لَا شَرْطَ فِيهِ، وَإِنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ إلَّا بِفِعْلِهَا مَضَى الْوَقْتُ أَوْ بَقِيَ. وَلَا نَقُولُ إنَّ الْقُضَاةَ بِأَمْرِ ثَانٍ بِحَالٍ. وَقَدْ رَبَطْنَا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَقَدْ قَالَ غَيْرُهُمْ: إنَّ مَوْقُوتًا مَحْدُودًا بِأَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ وَسُنَنٍ وَفَرَائِضَ؛ وَكُلُّ ذَلِكَ سَائِغٌ لُغَةً مُحْتَمَلٌ مَعْنًى. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إنَّ لِلصَّلَاةِ وَقْتًا كَوَقْتِ الْحَجِّ. قُلْنَا: قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ وَقْتَ الصَّلَاةِ وَقْتٌ لِلذِّكْرِ»، وَكَمَا دَامَ ذِكْرُهَا وَجَبَ فِعْلُهَا وَأَدَاؤُهَا.

الآية التاسعة والأربعون قوله تعالى إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس

[الْآيَة التَّاسِعَة وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْك الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ] الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ بَنِي أُبَيْرِقٍ؛ سَرَقُوا طَعَامَ رِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَاعْتَذَرَ عَنْهُمْ قَوْمُهُمْ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ خَيْرٍ، «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ ذَلِكَ، فَطَالَبَهُمْ عَنْ عَمِّهِ رِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَقَالَ رِفَاعَةُ: اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَصَرَ رِفَاعَةَ وَأَخْزَى اللَّهُ بَنِي أُبَيْرِقٍ بِقَوْلِهِ: {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]» أَيْ بِمَا أَعْلَمَك، وَذَلِكَ بِوَحْيٍ أَوْ بِنَظَرٍ، وَنَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عَضُدِ أَهْلِ التُّهَمِ وَالدِّفَاعِ عَنْهُمْ بِمَا يَقُولُهُ خَصْمُهُمْ مِنْ الْحُجَّةِ وَهِيَ: [مَسْأَلَة النِّيَابَة عَنْ الْمُبْطَلِ وَالْمُتَّهَمِ فِي الْخُصُومَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النِّيَابَةَ عَنْ الْمُبْطَلِ وَالْمُتَّهَمِ فِي الْخُصُومَةِ لَا تَجُوزُ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 106] وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ. [الْآيَة الْمُوفِيَة خَمْسِينَ قَوْله تَعَالَى لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجَوَاهُمْ] الْآيَةُ الْمُوَفِّيَةُ خَمْسِينَ: قَوْله تَعَالَى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114] هَذِهِ الْآيَةُ آيَةٌ بِكْرٌ لَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَحَدٍ فِيهَا ذِكْرٌ، وَاَلَّذِي عِنْدِي فِيهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ عِبَادَهُ بِأَمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ:

مسألة إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون واحد

أَحَدُهُمَا: الْإِخْلَاصُ، وَهُوَ أَنْ يَسْتَوِيَ ظَاهِرُ الْمَرْءِ وَبَاطِنُهُ. وَالثَّانِي: النَّصِيحَةُ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ. فَالنَّجْوَى خِلَافُ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ، وَبَعْدَ هَذَا فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ لِلْخَلْقِ مِنْ أَمْرٍ يَخْتَصُّونَ بِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَيَخُصُّ بِهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ بِصِفَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ؛ وَالْحَثِّ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَالسَّعْيِ فِي إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ فَفِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} [النساء: 114]: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّجْوَى مَصْدَرًا، كَالْبَلْوَى وَالْعَدْوَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِلْمُنْتَجِينَ كَمَا قَالَ: {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} [الإسراء: 47]. فَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْمُنْتَجِينَ فَقَوْلُهُ: {إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} [النساء: 114] اسْتِثْنَاءُ شَخْصٍ مِنْ شَخْصٍ، وَإِنْ كَانَ مَصْدَرًا جَازَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى حَذْفِ تَقْدِيرِهِ: إلَّا نَجْوَى مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ. [مَسْأَلَة إذَا كَانَ ثَلَاثَةٌ فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي صِفَةِ النَّجْوَى: ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا كَانَ ثَلَاثَةٌ فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ». وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:

الآية الحادية والخمسون قوله تعالى ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم

الْأَوَّلُ: مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ، وَهُوَ ضَرَرٌ؛ وَالضَّرَرُ لَا يَحِلُّ بِإِجْمَاعٍ، وَبِالنَّصِّ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ». الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ حِينَ كَانَ النَّاسُ بَيْنَ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَمُنَافِقٍ وَمُخْلِصٍ، حَتَّى فَشَا الْإِسْلَامُ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ. الثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ حَيْثُ يَتَوَقَّعُ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ حِيلَةٍ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهَا. الرَّابِعُ: أَنَّهُ مِنْ حُسْنِ الْأَخْلَاقِ وَجَمِيلِ الْأَدَبِ؛ وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى الْأَوَّلِ. وَالصَّحِيحُ بَقَاءُ النَّهْيِ وَتَمَادِي الْأَمْرِ وَعُمُومُهُ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ. «مَخَافَةَ أَنْ يُحْزِنَهُ». وَأَيْضًا فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَمْشِي مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، فَأَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يُكَلِّمَهُ فَدَعَا رَابِعًا، وَأَوْقَفَهُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ رَيْثَمَا تَكَلَّمَ الرَّجُلُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: لَا يَتَنَاجَى ثَلَاثَةٌ دُونَ يَعْنِي أَرْبَعٌ، وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ إذَا عُلِمَتْ بِالنَّظَرِ اطَّرَدَتْ حَيْثُمَا وُجِدَتْ، وَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهَا أَيْنَمَا كَانَتْ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ تَحْزِينُ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، وَكُلَّمَا كَثُرَ الْعَدَدُ كَانَ التَّحْزِينُ أَكْثَرَ، فَيَكُونُ الْمَنْعُ آكَدَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إذَا ثَبَتَ أَنَّ نَهْيَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعَلَّلٌ بِتَحْزِينِ الْوَاحِدِ فَإِذَا اسْتَأْذَنَهُ فَأَذِنَ لَهُ جَازَ وَلَمْ يَحْرُمْ. وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [الْآيَة الْحَادِيَة وَالْخَمْسُونَ قَوْله تَعَالَى وَلَأُضِلَّنَّهُمْ ولأمنينهم وَلَآمُرَنَّهُمْ] الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْخَمْسُونَ: قَوْله تَعَالَى {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} [النساء: 119]. فِيهَا ثَمَانِي مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رَوَى أَبُو الْأَحْوَصِ قَالَ: «أَتَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَشِفَ الْهَيْئَةِ، فَصَعَّدَ فِي النَّظَرِ وَصَوَّبَهُ فَقَالَ: هَلْ لَك مِنْ مَالٍ؟ قُلْت: نَعَمْ. قَالَ: مِنْ أَيِّ الْمَالِ؟ قُلْت: مِنْ كُلِّ الْمَالِ آتَانِي اللَّهُ فَأَكْثَرَ وَأَطْيَبَ؛ الْخَيْلُ وَالْإِبِلُ وَالرَّقِيقُ وَالْغَنَمُ. قَالَ: فَإِذَا آتَاك اللَّهُ مَالًا فَلْيُرَ عَلَيْك. ثُمَّ قَالَ: هَلْ تُنْتِجُ إبِلُ قَوْمِك صِحَاحًا آذَانُهَا فَتَعْمِدُ إلَى الْمَوْسِيِّ فَتَشُقُّ آذَانَهَا، فَتَقُولَ: هَذِهِ بَحْرٌ؛ وَتَشُقَّ جُلُودَهَا، وَتَقُولَ: هَذِهِ صُرُمٌ لِتُحَرِّمَهَا عَلَيْك وَعَلَى أَهْلِك؟ قَالَ: قُلْت: أَجَلْ. قَالَ: فَكُلُّ مَا أَتَاك اللَّهُ حِلٌّ وَمُوسَى اللَّهِ أَحَدُّ، وَسَاعِدُهُ أَشَدُّ الْحَدِيثَ». الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَمَّا كَانَ مِنْ إبْلِيسَ مَا كَانَ مِنْ الِامْتِنَاع مِنْ السُّجُودِ وَالِاعْتِرَاضِ عَلَى الْآمِرِ بِهِ بِالتَّسْفِيهِ أَنْفَذَ اللَّهُ فِيهِ حُكْمَهُ وَأَحَقَّ عَلَيْهِ لَعَنَتْهُ، فَسَأَلَهُ النَّظْرَةَ، فَأَعْطَاهُ إيَّاهَا زِيَادَةً فِي لَعْنَتِهِ، فَقَالَ لِرَبِّهِ: {لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 118] {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119] وَكَانَ مَا أَرَادَ، وَفَعَلَتْ الْعَرَبُ مَا وَعَدَ بِهِ الشَّيْطَانُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ، وَذَلِكَ تَعْذِيبٌ لِلْحَيَوَانِ وَتَحْرِيمٌ، وَتَحْلِيلٌ بِالطُّغْيَانِ، وَقَوْلٌ بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَلَا بُرْهَانٍ، وَالْآذَانُ فِي الْأَنْعَامِ جَمَالٌ وَمَنْفَعَةٌ، فَلِذَلِكَ رَأَى الشَّيْطَانُ أَنْ يُغَيِّرَ بِهَا خَلْقَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَرْكَبُ عَلَى ذَلِكَ التَّغْيِيرِ الْكُفْرُ بِهِ، لَا جَرَمَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ فِي الْأُضْحِيَّةِ أَنْ تُسْتَشْرَفَ الْعَيْنُ وَالْآذَانُ فِي الْأَنْعَامِ»، مَعْنَاهُ أَنْ تُلْحَظَ الْأُذُنُ؛ لِئَلَّا تَكُونَ مَقْطُوعَةً أَوْ مَشْقُوقَةً؛ فَتُجْتَنَبُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِيهَا أَثَرَ الشَّيْطَانِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شَرِيطَةِ الشَّيْطَانِ»، وَهِيَ هَذِهِ، وَشَبَّهَهَا

مسألة حكم الواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة

مِمَّا وَفَّى فِيهَا لِلشَّيْطَانِ بِشَرْطِهِ حِينَ قَالَ: {فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119]. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ثَبَتَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُسَمِّ الْغَنَمَ فِي آذَانِهَا»، وَكَأَنَّ هَذَا مُسْتَثْنًى مِنْ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَلِّدُ الْهَدْيَ وَيُشْعِرُهُ أَيْ يَشُقُّ جِلْدَهُ، وَيُقَلِّدُهُ نَعْلَيْنِ، وَيُسَاقُ إلَى مَكَّةَ نُسُكًا»؛ وَهَذَا مُسْتَثْنًى مِنْ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ بِدْعَةٌ؛ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ بِهَذِهِ الشَّعِيرَةِ فِي الشَّرِيعَةِ، لَهِيَ [فِيهَا] أَشْهَرُ مِنْهُ فِي الْعُلَمَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: وَسْمُ الْإِبِلِ وَالدَّوَابِّ بِالنَّارِ فِي أَعْنَاقِهَا وَأَفْخَاذِهَا مُسْتَثْنًى مِنْ التَّغْيِيرِ لِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى كَاسْتِثْنَاءِ مَا سَلَف. [مَسْأَلَة حُكْم الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَة وَالنَّامِصَةَ وَالْمُتَنَمِّصَةَ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ، وَالنَّامِصَةَ وَالْمُتَنَمِّصَةَ، وَالْوَاشِرَةَ وَالْمُوتَشِرَةَ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ». فَالْوَاشِمَةُ هِيَ الَّتِي تَجْرَحُ الْبَدَنَ نُقَطًا أَوْ خُطُوطًا، فَإِذَا جَرَى الدَّمُ حَشَتْهُ كُحْلًا، فَيَأْتِي خِيلَانًا وَصُوَرًا فَيَتَزَيَّنُ بِهَا النِّسَاءُ لِلرِّجَالِ؟ وَرِجَالُ صِقِلِّيَّةَ وَإِفْرِيقِيَّةَ يَفْعَلُونَهُ لِيَدُلَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى رُجْلَتِهِ فِي حَدَاثَتِهِ.

وَالنَّامِصَةُ: هِيَ نَاتِفَةُ الشَّعْرِ، تَتَحَسَّنُ بِهِ. وَأَهْلُ مِصْرَ يَنْتِفُونَ شَعْرَ الْعَانَةِ، وَهُوَ مِنْهُ؛ فَإِنَّ السُّنَّةَ حَلْقُ الْعَانَةِ وَنَتْفُ الْإِبْطِ، فَأَمَّا نَتْفُ الْفَرْجِ فَإِنَّهُ يُرْخِيهِ وَيُؤْذِيهِ وَيُبْطِلُ كَثِيرًا مِنْ الْمَنْفَعَةِ فِيهِ. وَالْوَاشِرَةُ: هِيَ الَّتِي تُحَدِّدُ أَسْنَانَهَا. وَالْمُتَفَلِّجَةُ: هِيَ الَّتِي تَجْعَلُ بَيْنَ الْأَسْنَانِ فَرْجًا وَهَذَا كُلُّهُ تَبْدِيلٌ لِلْخِلْقَةِ، وَتَغْيِيرٌ لِلْهَيْئَةِ، وَهُوَ حَرَامٌ. وَبِنَحْوِ هَذَا قَالَ الْحَسَنُ فِي الْآيَةِ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا: التَّغْيِيرُ لِخَلْقِ اللَّهِ يُرِيدُ بِهِ دِينَ اللَّهِ؛ وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُحْتَمِلًا فَلَا نَقُولُ: إنَّهُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ، وَلَكِنَّهُ مِمَّا غَيَّرَ الشَّيْطَانُ وَحَمَلَ الْآبَاءَ عَلَى تَغْيِيرِهِ، وَكُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، ثُمَّ يَقَعُ التَّغْيِيرُ عَلَى يَدِي الْأَبِ وَالْكَافِلِ وَالصَّاحِبِ، وَذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمِنْ التَّابِعِينَ جُمْلَةً: تَوْخِيَةُ الْخِصَاءِ تَغْيِيرُ خَلْقِ اللَّهِ. فَأَمَّا فِي الْآدَمِيِّ فَمُصِيبَةٌ، وَأَمَّا فِي [الْحَيَوَانِ] وَالْبَهَائِمِ فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ مَكْرُوهٌ، لِأَجْلِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ». وَرَوَى مَالِكٌ كَرَاهِيَتَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَقَالَ: فِيهِ نَمَاءُ الْخَلْقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ جَائِزٌ؛ وَهُمْ الْأَكْثَرُ. وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ بِهِ تَعْلِيقَ الْحَالِ بِالدِّينِ لِصَنَمٍ يُعْبَدُ، وَلَا لِرَبٍّ يُوَحَّدُ

الآية الثانية والخمسون قوله تعالى ويستفتونك في النساء

وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ تَطْيِيبُ اللَّحْمِ فِيمَا يُؤْكَلُ، وَتَقْوِيَةُ الذَّكَرِ إذَا انْقَطَعَ أَمَلُهُ عَنْ الْأُنْثَى، وَالْآدَمِيُّ عَكْسُهُ إذَا خُصِيَ بَطَلَ قَلْبُهُ وَقُوَّتُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: رَوَى عُلَمَاؤُنَا أَنَّ طَاوُسًا كَانَ لَا يَحْضُرُ نِكَاحَ سَوْدَاءَ بِأَبْيَضَ، وَلَا بَيْضَاءَ بِأَسْوَدَ، وَيَقُولُ: هُوَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ: {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119]. وَهُوَ أَنْ كَانَ يَحْتَمِلُهُ عُمُومُ اللَّفْظِ وَمُطْلَقُهُ فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِمَا أَنَفَذَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ نِكَاحِ مَوْلَاهُ زَيْدٍ، وَكَانَ أَبْيَضَ، بِظِئْرِهِ بَرَكَةَ الْحَبَشِيَّةَ أُمِّ أُسَامَةَ، فَكَانَ أُسَامَةُ أَسْوَدَ مِنْ أَبْيَضَ، وَهَذَا مِمَّا خَفِيَ عَلَى طَاوُسٍ مِنْ عِلْمِهِ. [الْآيَة الثَّانِيَة وَالْخَمْسُونَ قَوْله تَعَالَى وَيَسْتَفْتُونَك فِي النِّسَاءِ] الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْخَمْسُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا} [النساء: 127]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ عِنْدَ قَوْلِنَا فِي آيَةِ: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء: 3]. وَقَدْ رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسْأَلُ فَلَا يُجِيبُ، حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ»، وَذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء: 176]. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [البقرة: 220]. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219]. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} [طه: 105]. هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَثِيرٌ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: طَلَبْنَا مَا قَالَ مَالِكٌ فَوَجَدْنَاهُ فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا: قَوْلُهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217]. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219]. {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} [البقرة: 219]. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [البقرة: 220]

مسألة معنى قوله تعالى والمستضعفين من الولدان

{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} [النساء: 127]. {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا} [النساء: 153]. {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء: 176]. {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} [المائدة: 4]. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} [الأعراف: 187]. {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ} [الأحزاب: 63]. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال: 1]. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} [الكهف: 83]. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} [طه: 105]. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]. [مَسْأَلَةُ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْوَلَدَانِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ} [النساء: 127]: الَّذِينَ لَا أَبَ لَهُمْ، أَكَّدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَمْرَهُمْ وَأَكَّدَ أَمْرَ الْيَتَامَى، وَهُمْ الَّذِينَ لَا أَبًا لَهُمْ؛ فَيُحْتَمَلُ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونُوا هُمْ، أَكَّدَ أَمْرَهُمْ بِلَفْظٍ آخَرَ أَخَصَّ بِهِ مِنْ الضَّعْفِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْمُسْتَضْعَفِينَ مَنْ كَانَ هُوَ وَأَبُوهُ ضَعِيفًا، وَالْيَتِيمُ الْمُنْفَرِدُ بِالضَّعْفِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْمُسْتَضْعَفِينَ مَنْ رَمَاهُ أَهْلُهُ وَدَفَعَهُ أَبُوهُ عَنْ نَفْسِهِ لِعَجْزِهِ عَنْ أَمْرِهِ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ وَالْخَمْسُونَ قَوْله تَعَالَى وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إعْرَاضًا] الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْخَمْسُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 128] قَالَتْ عَائِشَةُ: هِيَ الْمَرْأَةُ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ لَيْسَ بِمُسْتَكْثِرٍ مِنْهَا أَنْ يُفَارِقَهَا، فَيَقُولُ: أَجْعَلُك مِنْ شَأْنِي فِي حِلٍّ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ. قَالَ الْقَاضِي رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى الصِّدِّيقَة الطَّاهِرَةِ: لَقَدْ وَفَتَّ مَا حَمَلَهَا رَبُّهَا مِنْ الْعَهْدِ فِي قَوْلِهِ: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34]. وَلَقَدْ خَرَجَتْ فِي ذَلِكَ عَنْ الْعَهْدِ. «وَهَذَا كَانَ شَأْنُهَا مَعَ سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ لَمَّا أَسَنَّتْ أَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُطَلِّقَهَا فَآثَرَتْ الْكَوْنَ مَعَ زَوْجَاتِهِ. فَقَالَتْ لَهُ: امْسِكْنِي وَاجْعَلْ يَوْمِي لِعَائِشَةَ، فَفَعَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَاتَتْ وَهِيَ مِنْ أَزْوَاجِهِ». وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ بِذَلِكَ فَقَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَائِشَةَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ

الآية الرابعة والخمسون قوله تعالى ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم

رَدٌّ عَلَى الرُّعْنِ الَّذِينَ يَرَوْنَ الرَّجُلَ إذَا أَخَذَ شَبَابَ الْمَرْأَةِ وَأَسَنَّتْ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَبَدَّلَ بِهَا، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَفَعَ حَرَجًا وَجَعَلَ مِنْ هَذِهِ الضِّيقَةِ مَخْرَجًا. [الْآيَة الرَّابِعَة وَالْخَمْسُونَ قَوْله تَعَالَى وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ] الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْخَمْسُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 129]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرٍ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ كَلَّفَ الرِّجَالَ الْعَدْلَ بَيْنَ النِّسَاءِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَهُ، وَهَذَا وَهْمٌ عَظِيمٌ، فَإِنَّ الَّذِي كَلَّفَهُمْ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الْعَدْلُ فِي الظَّاهِرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا} [النساء: 3]. وَهَذَا أَمْرٌ مُسْتَطَاعٌ، وَاَلَّذِي أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَهُ لَمْ يُكَلِّفْهُمْ قَطُّ إيَّاهُ؛ وَهُوَ النِّسْبَةُ فِي مَيْلِ النَّفْسِ؛ وَلِهَذَا «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْدِلُ بَيْنَ نِسَائِهِ فِي الْقَسَمِ، وَيَجِدُ نَفْسَهُ أَمْيَلَ إلَى عَائِشَةَ فِي الْحُبِّ، فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ هَذِهِ قُدْرَتِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَسْأَلْنِي فِي الَّذِي تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ» يَعْنِي قَلْبَهُ، وَالْقَاطِعُ لِذَلِكَ، الْحَاسِمُ لِهَذَا الْإِشْكَالِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ رَفَعَ الْحَرَجَ عَنَّا فِي تَكْلِيفِ مَا لَا نَسْتَطِيعُ فَضْلًا، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَنَا إيَّاهُ حَقًّا وَخُلُقًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: سَأَلْت عَبِيدَةُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: هُوَ الْحُبُّ وَالْجِمَاعُ. وَصَدَقَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْلِكُهُ أَحَدٌ؛ إذْ قَلْبُهُ بَيْنَ إصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، يُصَرِّفُهُ

الآية الخامسة والخمسون قوله تعالى يأيها اللذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله

كَيْفَ يَشَاءُ. وَكَذَلِكَ الْجِمَاعُ قَدْ يَنْشَطُ لِلْوَاحِدَةِ مَا لَا يَنْشَطُ لِلْأُخْرَى، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِقَصْدٍ مِنْهُ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيهِ، فَإِنَّهُ مِمَّا لَا يَسْتَطِيعُهُ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ تَكْلِيفٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129]: قَالَ الْعُلَمَاءُ: أَرَادَ تَعَمُّدَ الْإِتْيَانِ، وَذَلِكَ فِيمَا يَمْلِكُهُ وَجَعَلَ إلَيْهِ، مِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ وَالْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ وَنَحْوِهِ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ. [الْآيَة الْخَامِسَة وَالْخَمْسُونَ قَوْله تَعَالَى يَأَيُّهَا اللَّذَيْنِ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ] الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالْخَمْسُونَ: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135]. فِيهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخْتَصَمَ إلَيْهِ رَجُلَانِ: غَنِيٌّ وَفَقِيرٌ، فَكَانَ ضِلْعُهُ مَعَ الْفَقِيرِ، يَرَى أَنَّ الْفَقِيرَ لَا يَظْلِمُ الْغَنِيَّ، فَأَبَى اللَّهُ إلَّا أَنْ يَقُومَ بِالْقِسْطِ فِي الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ». [مَسْأَلَة الْقِسْطُ وَالْعَدْلُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقِسْطُ: الْعَدْلُ. بِكَسْرِ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ، وَالْقَسْطُ بِفَتْحِهَا: الْجَوْرُ وَيُقَالُ: أَقْسَطَ إذَا عَدَلَ، وَقَسَطَ إذَا جَارَ، وَلَعَلَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ: قَسَطَ الْبَعِيرُ قَسْطًا إذَا يَبِسَتْ يَدُهُ، فَلَعَلَّ أَقْسَطَ سَلْبُ قَسَطَ، فَقَدْ يَأْتِي بِنَاءُ أَفْعَلَ لِلسَّلْبِ. كَقَوْلِهِ: أَعْجَمَ الْكِتَابُ إذَا سَلَبَ عُجْمَتَهُ بِالضَّبْطِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ، وَهِيَ عَامَّةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [النساء: 135]: يَعْنِي فَعَّالِينَ، مِنْ قَامَ، وَاسْتَعَارَ الْقِيَامَ لِامْتِثَالِ الْحَقِّ؛ لِأَنَّهُ يُفْعَلُ فِي مُهِمَّاتِ الْأُمُورِ

مسألة أداء الشهادة

وَهِيَ غَايَةُ الْفِعْلِ لَنَا، وَمِنْ أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وَالْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبْتِ فَضَرَبَهُ هَاهُنَا مَثَلًا لِغَايَةِ الْقِيَامِ بِالْعَدْلِ. [مَسْأَلَة أَدَاء الشَّهَادَة] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: {شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135]: كُونُوا مِمَّنْ يُؤَدِّي الشَّهَادَةَ لِلَّهِ وَلِوَجْهِهِ، فَيُبَادِرُ بِهَا قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا، وَيَقُولُ الْحَقَّ فِيهَا، وَإِنَّ اللَّهَ يَشْهَدُ بِالْحَقِّ، وَالْمَلَائِكَةُ وَأَوَّلُو الْعِلْمِ وَعُدُولُ الْأُمَّةِ، وَكُلُّ مَنْ قَامَ بِالْقِسْطِ فَقَدْ شَهِدَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِالْحَقِّ، وَكُلُّ مَنْ قَامَ لِلَّهِ فَقَدْ شَهِدَ بِالْقِسْطِ، وَلِهَذَا نَزَلَتْ الْآيَةُ الْأُخْرَى فِي الْمَائِدَةِ بِمَقْلُوبِ هَذَا النَّظْمِ، وَهُوَ مِثْلُهُ فِي الْمَعْنَى كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا. [مَسْأَلَة الْإِقْرَارَ عَلَى نَفْسِهِ شَهَادَةً] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135]: أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْعَبْدَ بِأَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْحَقِّ، وَيُسَمِّي الْإِقْرَارَ عَلَى نَفْسِهِ شَهَادَةً، كَمَا تُسَمَّى الشَّهَادَةُ عَلَى الْغَيْرِ الْإِقْرَارَ. وَفِي حَدِيثِ «مَاعِزٍ: فَلَمْ يَرْجُمْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ»، وَلَا يُبَالِي الْمَرْءُ أَنْ يَقُولَ الْحَقَّ عَلَى نَفْسِهِ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا فَاَللَّهُ يَفْتَحُ لَهُ. قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3] إلَّا أَنَّهُ فِي بَابِ الْحُدُودِ نَدَبَ إلَى أَنْ يَسْتُرَ عَلَى نَفْسِهِ فَيَتُوبَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ لَهُ؛ بَلْ إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقِرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْحَدِّ إذَا رَأَى غَيْرَهُ قَدْ اُبْتُلِيَ بِهِ وَهُوَ صَاحِبُهُ، فَيَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ لِيُخَلِّصَهُ وَيُبَرِّئَهُ. رَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ «عَنْ الْحَلَّاجِ أَنَّهُ كَانَ يَعْمَلُ فِي السُّوقِ فَرَمَتْ امْرَأَةٌ صَبِيًّا. قَالَ: فَثَارَ النَّاسُ وَثُرْت فِيمَنْ ثَارَ، فَانْتَهَيْت إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَقُولُ: مَنْ أَبُو هَذَا مَعَك؟ فَقَالَ فَتًى حِذَاءَهَا: أَنَا أَبُوهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَقْبَلَ عَلَيْهَا فَقَالَ: مَنْ أَبُو هَذَا مَعَك؟ فَسَكَتَتْ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّهَا حَدِيثَةُ السِّنِّ حَدِيثَةُ عَهْدٍ بِحُزْنٍ وَلَيْسَتْ تُكَلِّمُك، أَنَا أَبُوهُ؛ فَنَظَرَ إلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ كَأَنَّهُ يَسْأَلُهُمْ عَنْهُ، فَقَالُوا: مَا عَلِمْنَا إلَّا

مسألة الشهادة بالحق على الوالدين

خَيْرًا. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَحْصَنْت. قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ. قَالَ: فَخَرَجْنَا فَحَفَرْنَا لَهُ حَتَّى أَمْكَنَّاهُ ثُمَّ رَمَيْنَاهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى هَدَأَ مُحْتَضَرًا». [مَسْأَلَة الشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ عَلَى الْوَالِدَيْنِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أَوِ الْوَالِدَيْنِ} [النساء: 135]: أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ عَلَى الْوَالِدَيْنِ: الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الِابْنِ عَلَى الْأَبَوَيْنِ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ بِرَّهُمَا، بَلْ مِنْ بِرِّهِمَا أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِمَا بِالْحَقِّ، وَيُخْلِصَهُمَا مِنْ الْبَاطِلِ، وَهُوَ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6] فِي بَعْضِ مَعَانِيه. وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الِابْنِ عَلَى الْأَبَوَيْنِ، فَإِنْ شَهِدَ لَهُمَا أَوْ شَهِدَا لَهُ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا؛ فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: كَانَ مَنْ مَضَى مِنْ السَّلَفِ الصَّالِحِ يُجِيزُونَ شَهَادَةَ الْوَالِدِ وَالْأَخِ لِأَخِيهِ، وَيَتَأَوَّلُونَ فِي ذَلِكَ قَوْلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء: 135]؛ فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَتَّهِمُ فِي ذَلِكَ مِنْ السَّلَفِ الصَّالِحِ، ثُمَّ ظَهَرَتْ مِنْ النَّاسِ أُمُورٌ حَمَلَتْ الْوُلَاةَ عَلَى اتِّهَامِهِمْ، فَتُرِكَتْ شَهَادَةُ مِنْ يُتَّهَمُ، وَصَارَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ وَالْأَخِ وَالزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَشُرَيْحٍ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ شَهَادَةِ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ، وَقَدْ أَجَازَ قَوْمٌ شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ إذَا كَانُوا عُدُولًا. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَجَازَهُ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيُّ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ جَوَازُ شَهَادَةِ الْأَخِ لِأَخِيهِ إذَا كَانَ عَدْلًا إلَّا فِي النَّسَبِ.

وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ إذَا كَانَ فِي عِيَالِهِ أَوْ فِي نَصِيبٍ مِنْ مَالٍ يَرِثُهُ، وَلَا تَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ شَهَادَةُ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ؛ وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيُّ. وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الصَّدِيقِ الْمُلَاطِفِ عِنْدَهُ، وَلَا إذَا كَانَ فِي عِيَالِهِ. وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي أَنَّ أَصْلَ الشَّرِيعَةِ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ وَلَا الْوَلَدِ لِلْوَالِدِ لِمَا بَيْنَهَا مِنْ الْبَعْضِيَّةِ؛ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي يَرِيبُنِي مَا رَابَهَا وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَا». وَشَهَادَةُ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ لَا تَجُوزُ، إلَّا أَنَّ مَنْ تَقَدَّمَ قَالَ: إنَّهُ كَانَ يُسَامِحُ فِيهِ. وَمَا رَوَى قَطُّ أَحَدٌ أَنَّهُ نَفَذَ قَضَاءٌ بِشَهَادَةِ وَلَدٍ لِوَالِدِهِ وَلَا وَالِدٍ لِوَلَدِهِ، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْمُسَامَحَةِ فِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُصَرِّحُونَ بِرَدِّهَا، وَلَا يُحَذِّرُونَ مِنْهَا لِصَلَاحِ النَّاسِ، فَلَمَّا فَسَدُوا وَقَعَ التَّحْذِيرُ، وَنَبَّهَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْأَصْلِ، فَظَنَّ مَنْ تَغَافَلَ أَوْ غَفَلَ أَنَّ الْمَاضِينَ جَوَّزُوهَا، وَمَا كَانَ ذَلِكَ قَطُّ؛ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ مِنْ أَطْيَبِ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ». وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ جُزْءًا مِنْهُ فِي الْإِسْلَامِ؛ وَتَبَعًا لَهُ فِي الْإِيمَانِ، فَهُوَ مُسْلِمٌ بِإِسْلَامِ أَبِيهِ بِإِجْمَاعٍ، وَمُسْلِمٌ بِإِسْلَامِ أُمِّهِ بِاخْتِلَافٍ، وَمَالُهُ لِأَبِيهِ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَهَكَذَا فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَلَا بَيَانَ فَوْقَ هَذَا. وَالْأَخُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهَا بَعْضِيَّةٌ فَإِنَّهَا بَعِيدَةٌ حَقِيقَةً وَعَادَةً، فَجَوَّزَهَا الْعُلَمَاءُ فِي جَانِبِ الْأَخِ بِشَرْطِ الْعَدَالَةِ الْمُبَرِّرَةِ، مَا لَمْ تَجُرَّ نَفْعًا. وَخَالَفَ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: يَجُوزُ شَهَادَةُ الزَّوْجَيْنِ بَعْضِهِمَا لِبَعْضٍ؛ لِأَنَّهُمَا أَجْنَبِيَّانِ؛ وَإِنَّمَا بَيْنَهُمَا عَقْدُ الزَّوْجِيَّةِ، وَهُوَ سَبَبٌ مُعَرَّضٌ لِلزَّوَالِ. وَهَذَا ضَعِيفٌ: فَإِنَّ الزَّوْجِيَّةَ تُوجِبُ الْحَنَانَ وَالتَّعَطُّفَ وَالْمُوَاصَلَةَ وَالْأُلْفَةَ وَالْمَحَبَّةَ، وَلَهُ حَقٌّ فِي مَالِهَا عِنْدَنَا، وَلِذَلِكَ لَا تَتَصَرَّفُ فِي الْهِبَةِ إلَّا فِي ثُلُثِهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَلَهَا فِي مَالِهِ حَقُّ الْكِسْوَةِ وَالنَّفَقَةِ، وَهَذِهِ شُبْهَةٌ تُوجِبُ رَدَّ الشَّهَادَةِ.

مسألة لا تميلوا بالهوى مع الفقير لضعفه ولا على الغني لاستغنائه

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: أَلْحَقَ مَالِكٌ الصَّدِيقَ الْمُلَاطِفَ بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ؛ فَهِيَ فِي الْعَادَةِ أَقْوَى مِنْهَا، وَهِيَ فِي الْمَوَدَّةِ؛ فَكَانَتْ مِثْلَهَا فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ. [مَسْأَلَة لَا تَمِيلُوا بِالْهَوَى مَعَ الْفَقِيرِ لِضَعْفِهِ وَلَا عَلَى الْغَنِيِّ لِاسْتِغْنَائِهِ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء: 135]: الْمَعْنَى لَا تَمِيلُوا بِالْهَوَى مَعَ الْفَقِيرِ لِضَعْفِهِ، وَلَا عَلَى الْغَنِيِّ لِاسْتِغْنَائِهِ، وَكُونُوا مَعَ الْحَقِّ؛ فَاَللَّهُ الَّذِي أَغْنَى هَذَا وَأَفْقَرَ هَذَا أَوْلَى بِالْفَقِيرِ أَنْ يُغْنِيَهُ بِفَضْلِهِ بِالْحَقِّ لَا بِالْهَوَى وَالْبَاطِلِ، وَاَللَّهُ أَوْلَى بِالْغَنِيِّ أَنْ يَأْخُذَ مَا فِي يَدِهِ بِالْعَدْلِ وَالْحَقِّ، لَا بِالتَّحَامُلِ عَلَيْهِ، فَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ عِيَارًا لِمَا يَظْهَرُ مِنْ الْخُبْثِ وَمِيزَانًا لِمَا يَتَبَيَّنُ مِنْ الْمَيْلِ، عَلَيْهِ تَجْرِي الْأَحْكَامُ الدُّنْيَاوِيَّةُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُجْرِي الْمَقَادِيرَ بِحِكْمَتِهِ، وَيَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحُكْمِهِ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَالَ جَمَاعَةٌ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] فَسَوَّى بَيْنَ الْأَقْرَبِينَ وَالْأَبَوَيْنِ فِي الْأَمْرِ بِالْحَقِّ وَالْوَصِيَّةِ بِالْعَدْلِ، وَإِنْ تَفَاضَلُوا فِي الدَّرَجَةِ؛ كَمَا سَوَّى بَيْنَ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، وَإِنْ تَفَاضَلُوا أَيْضًا فِي الدَّرَجَةِ، وَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: لَا تَلْتَفِتُوا فِي الرَّحِمِ قَرُبَتْ أَوْ بَعُدَتْ فِي الْحَقِّ كُونُوا مَعَهُ عَلَيْهَا، وَلَوْلَا خَوْفُ الْعَدْلِ عَنْهُ لَهَا لَمَا خُصُّوا بِالْوَصِيَّةِ بِهَا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء: 135]: مَعْنَاهُ لَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَكُمْ فِي طَلَبِ الْعَدْلِ بِرَحْمَةِ الْفَقِيرِ وَالتَّحَامُلِ عَلَى الْغَنِيِّ، بَلْ ابْتَغَوْا الْحَقَّ فِيهِمَا، وَهَذَا بَيَانٌ شَافٍ. [مَسْأَلَةُ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء: 135]: الْمَعْنَى إنْ مَطَلْتُمْ حَقًّا فَلَمْ تُنَفِّذُوهُ إلَّا بَعْدَ بُطْءٍ، أَوْ عَرَضْتُمْ عَنْهُ جُمْلَةً فَاَللَّهُ خَبِيرٌ بِعَمَلِكُمْ. يُقَالُ لَوَيْت الْأَمْرَ أَلْوِيه لَيًّا وَلِيَّانًا، إذَا مَطَلْته قَالَ غَيْلَانُ:

الآية السادسة والخمسون قوله تعالى ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا

تُطِيلِينَ لَيَّانِي وَأَنْتِ مَلِيَّةٌ ... وَأُحْسِنُ يَا ذَاتَ الْوِشَاحِ التَّقَاضِيَا وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْأَعْمَشُ: وَإِنْ تَلُوا، وَالْأَوَّلُ أَفْصَحُ، وَأَكْثَرُ، وَقَدْ رُدَّ إلَى الْأَوَّلِ بِوَجْهٍ عَرَبِيٍّ؛ وَذَلِكَ أَنْ تُبْدِلَ مِنْ الْوَاوِ الْآخِرَةِ هَمْزَةً فَتَكُونَ تَلْوُوا، ثُمَّ حُذِفَتْ الْهَمْزَةِ وَأُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى الْوَاوِ، وَالْعَرَبُ تَفْعَل ذَلِكَ. وَقِيلَ: إنَّ مَعْنَاهُ تَلُوا مِنْ الْوِلَايَةِ، أَيْ اسْتَقْلَلْتُمْ بِالْأَمْرِ أَوْ ضَعُفْتُمْ عَنْهُ فَاَللَّهُ خَبِيرٌ بِذَلِكَ. [الْآيَة السَّادِسَة وَالْخَمْسُونَ قَوْله تَعَالَى وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا] } [النساء: 141]. هَذَا خَبَرٌ، وَالْخَبَرُ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ بِخِلَافِ مُخْبَرِهِ، وَنَحْنُ نَرَى الْكَافِرِينَ يَتَسَلَّطُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي بِلَادِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ، فَقَالَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا فِي الْحُجَّةِ، فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ. الثَّانِي: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا فِي الْحُجَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ الْقَاضِي: أَمَّا حَمْلُهُ عَلَى نَفْيِ وُجُودِ الْحُجَّةِ مِنْ الْكَافِرِ عَلَى الْمُؤْمِنِ فَذَلِكَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْحُجَّةِ لِلْكَافِرِ مُحَالٌ، فَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ الْجَعْلُ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ. وَأَمَّا نَفْيُ وُجُودِ الْحُجَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَضَعِيفٌ؛ لِعَدَمِ فَائِدَةِ الْخَبَرِ فِيهِ؛ وَإِنْ أَوْهَمَ صَدْرُ الْكَلَامِ مَعْنَاهُ؛ لِقَوْلِهِ: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النساء: 141] فَأَخَّرَ الْحُكْمَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَجَعَلَ الْأَمْرَ فِي الدُّنْيَا دُولَةً تَغْلِبُ الْكُفَّارُ تَارَةً وَتُغْلَبُ أُخْرَى بِمَا رَأَى مِنْ الْحِكْمَةِ وَسَبَقَ مِنْ الْكَلِمَةِ، ثُمَّ قَالَ: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141]. فَتَوَهَّمَ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ آخِرَ الْكَلَامِ يَرْجِعُ إلَى أَوَّلِهِ، وَذَلِكَ يُسْقِطُ فَائِدَتَهُ. وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا يَمْحُو بِهِ دَوْلَةَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُذْهِبُ آثَارَهُمْ، وَيَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: وَدَعَوْت رَبِّي أَلَّا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ فَأَعْطَانِيهَا.

الآية السابعة والخمسون قوله تعالى إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم

الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَجْعَلُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا مِنْهُ إلَّا أَنْ تَتَوَاصَوْا بِالْبَاطِلِ، وَلَا تَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ، وَتَتَقَاعَدُوا عَنْ التَّوْبَةِ؛ فَيَكُونُ تَسْلِيطُ الْعَدُوِّ مِنْ قَبْلِكُمْ؛ وَهَذَا نَفِيسٌ جِدًّا. الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَجْعَلُ لَلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا بِالشَّرْعِ؛ فَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ فَبِخِلَافِ الشَّرْعِ، وَنَزَعَ بِهَذَا عُلَمَاؤُنَا فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَمْلِكُ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ؛ وَبِهِ قَالَ أَشْهَبُ وَالشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ نَفَى السَّبِيلَ لِلْكَافِرِ عَلَيْهِ، وَالْمِلْكُ بِالشِّرَاءِ سَبِيلٌ فَلَا يُشْرَعُ وَلَا يَنْعَقِدُ بِذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: إنَّ مَعْنَى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] فِي دَوَامِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّا نَجِدُ ابْتِدَاءَهُ يَكُونُ لَهُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بِالْإِرْثِ، وَصُورَتُهُ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدٌ كَافِرٌ فِي يَدَيْ كَافِرٍ فَيَلْزَمُ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ بِبَيْعِهِ، فَقَبْلَ الْحُكْمِ بِبَيْعِهِ مَاتَ، فَيَرِثُ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ وَارِثُ الْكَافِرِ، فَهَذِهِ سَبِيلٌ قَدْ ثَبَتَتْ ابْتِدَاءً، وَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِبَيْعِهِ. وَرَأَى مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ الْحُكْمَ بِمِلْكِ الْمِيرَاثِ ثَابِتٌ قَهْرًا لَا قَصْد فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: مِلْكُ الشِّرَاءِ ثَبَتَ بِقَصْدِ الْيَدِ، فَقَدْ أَرَادَ الْكَافِرُ تَمَلُّكَهُ بِاخْتِيَارِهِ. قُلْنَا: فَإِنَّ الْحُكْمَ بِعَقْدِ بَيْعِهِ وَثُبُوتِ مِلْكِهِ؛ فَقَدْ تَحَقَّقَ فِيهِ قَصْدُهُ وَجَعَلَ لَهُ سَبِيلُ الْيَدِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ طَوِيلَة عَظِيمَةٌ، وَقَدْ حَقَّقْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَحَكَمْنَا بِالْحَقِّ فِيهَا فِي كِتَابِ " الْإِنْصَافِ لِتَكْمِلَةِ الْإِشْرَافِ "، فَلْيُنْظَرْ هُنَا لَك. [الْآيَة السَّابِعَة وَالْخَمْسُونَ قَوْله تَعَالَى إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ] ْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا} [النساء: 142]. فِيهَا مِنْ الْأَحْكَامِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ:

مسألة قوله تعالى يراءون الناس

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء: 142]: يَعْنِي مُتَكَاسِلِينَ مُتَثَاقِلِينَ، لَا يَنْشَطُونَ لِفِعْلِهَا، وَلَا يَفْرَحُونَ لَهَا، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْآثَارِ: «أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ». فَكَانَ يَرَى رَاحَتَهُ فِيهَا. وَفِي آثَارٍ آخَرَ: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ». وَفِي الْحَدِيثِ: «أَثْقَلُ صَلَاةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ الْعَتَمَةُ وَالصُّبْحُ»؛ فَإِنَّ الْعَتَمَةَ تَأْتِي وَقَدْ أَنْصَبَهُمْ عَمَلُ النَّهَارِ، فَيَثْقُلُ عَلَيْهِمْ الْقِيَامُ إلَيْهَا، وَتَأْتِي صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَالنَّوْمُ أَحَبُّ إلَيْهِمْ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ، وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ قَدْرَ الصَّلَاةِ دُنْيَا وَلَا فَائِدَتَهَا أُخْرَى؛ فَيَقُومُونَ إلَيْهَا بِغَيْرِ نِيَّةٍ إلَّا خَوْفًا مِنْ السَّيْفِ وَمَنْ قَامَ إلَيْهَا مَعَ هَذِهِ الْحَالَةِ بِنِيَّةِ إتْعَابِ النَّفْسِ وَإِيثَارِهَا عَلَيْهَا، طَالِبًا لِمَا عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَاَلَّذِي يَرَى رَاحَتَهُ فِيهَا مَعَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ. [مَسْأَلَةُ قَوْله تَعَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {يُرَاءُونَ النَّاسَ} [النساء: 142]: يَعْنِي أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَهَا لِيَرَاهَا النَّاسُ وَهُمْ يَشْهَدُونَهَا لَغْوًا، فَهَذَا هُوَ الرِّيَاءُ الشِّرْكُ، فَأَمَّا إنْ صَلَّاهَا لِيَرَاهَا النَّاسُ يَعْنِي وَيَرَوْنَهُ فِيهَا، فَيَشْهَدُونَ لَهُ بِالْإِيمَانِ فَلَيْسَ ذَلِكَ الرِّيَاءَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ بِهَا طَلَبَ الْمَنْزِلَةِ وَالظُّهُورِ لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ وَجَوَازِ الْإِمَامَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَرَجٌ، وَإِنَّمَا الرِّيَاءُ الْمَعْصِيَةُ أَنْ يُظْهِرَهَا صَيْدًا لِلدُّنْيَا وَطَرِيقًا إلَى الْأَكْلِ بِهَا، فَهَذِهِ نِيَّةٌ لَا تُجْزِئُ، وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ. [مَسْأَلَةُ قَوْله تَعَالَى وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا} [النساء: 142]: وَرَوَى الْأَئِمَّةُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «تِلْكَ صَلَاةُ

الْمُنَافِقِينَ. تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ. يَجْلِسُ أَحَدُهُمْ حَتَّى إذَا اصْفَرَّتْ الشَّمْسُ، وَكَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّيْطَانِ، أَوْ عَلَى قَرْنَيْ الشَّيْطَانِ، قَامَ يَنْقُرُ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا». فَذَمَّهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقِلَّةِ ذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ يَرَاهَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ مِنْ الْجَبَلِ، فَيَطْلُبُ الْخَلَاصَ مِنْهَا بِظَاهِرٍ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ فِيهَا مِنْ الذِّكْرِ فَرْضًا الْفَاتِحَةُ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ مِنْ الْعَمَلِ فِي الصَّلَاةِ إقَامَةُ الصُّلْبِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَالطُّمَأْنِينَةُ فِيهِمَا، وَالِاسْتِوَاءُ عِنْدَ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا. فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَا تُجْزِئُ صَلَاةُ مَنْ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ»، «وَعَلَّمَ الْأَعْرَابِيَّ عَلَى مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ فَقَالَ لَهُ: فَارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَافِعًا، ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِك كُلِّهَا». وَذَهَبَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عِرَاقِيَّةٌ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمَالِكِيِّينَ أَنْ يَشْتَغِلَ بِهَا، فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ شَيْءٌ يُعَوِّلُ عَلَيْهِ سِوَاهَا؛ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْقُرَهَا نَقْرَ الْغُرَابِ، وَلَا يَذْكُرُ اللَّهَ بِهَا ذِكْرَ الْمُنَافِقِينَ، وَقَدْ بَيَّنَ صَلَاةَ الْمُنَافِقِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَبَيَّنَ صَلَاةَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2]

الآية الثامنة والخمسون قوله تعالى لا يحب الله الجهر بالسوء من القول

وَمَنْ خَشَعَ خَضَعَ وَاسْتَمَرَّ، وَلَمْ يَنْقُرْ وَلَا اسْتَعْجَلَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ فَيَقْتَصِرَ عَلَى الْفَرْضِ الَّذِي قَدْ بَيَّنَّاهُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ ذَكَرَ صَلَاةَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَ: هَذَا أَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُوجَزَةٌ فِي تَمَامٍ. [الْآيَة الثَّامِنَة وَالْخَمْسُونَ قَوْله تَعَالَى لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ] الْآيَةُ الثَّامِنَةُ وَالْخَمْسُونَ: قَوْله تَعَالَى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} [النساء: 148]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِهَا؛ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّمَا نَزَلَتْ فِي الرَّجُلِ يَظْلِمُ الرَّجُلَ، فَيَجُوزُ لِلْمَظْلُومِ أَنْ يَذْكُرَهُ بِمَا ظَلَمَهُ فِيهِ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَآخَرُونَ: إنَّمَا نَزَلَتْ فِي الضِّيَافَةِ؛ إذَا نَزَلَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ ضَيْفًا فَلَمْ يَقُمْ بِهِ جَازَ لَهُ إذَا خَرَجَ عَنْهُ أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ. وَقَالَ رَجُلٌ لِطَاوُسٍ: إنِّي رَأَيْت مِنْ قَوْمٍ شَيْئًا فِي سَفَرٍ، أَفَأَذْكُرُهُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ الْقَاضِي: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ الصَّحِيحُ، وَقَدْ وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ أَخْبَارٌ صَحِيحَةٌ؛ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ». وَقَالَ: «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ

مسألة يدعو على من ظلمه وصفة دعائه على الظالم

وَعُقُوبَتَهُ». وَقَالَ الْعَبَّاسُ لِعُمَرَ بِحَضْرَةِ أَهْلِ الشُّورَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا الظَّالِمِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ حُكُومَةً، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْتَقِدُهَا لِنَفْسِهِ حَتَّى أَنْفَذَ فِيهَا عَلَيْهِمْ عُمَرُ لِلْوَاجِبِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا اسْتَوَتْ الْمَنَازِلُ أَوْ تَقَارَبَتْ؛ فَأَمَّا إذَا تَفَاوَتَتْ فَلَا تُمَكَّنُ الْغَوْغَاءُ مِنْ أَنْ تَسْتَطِيلَ عَلَى الْفُضَلَاءِ، وَإِنَّمَا تَطْلُبُ حَقَّهَا بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِظُلْمٍ وَلَا غَضَبٍ؛ وَهَذَا صَحِيحٌ، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ الْآثَارُ. وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ»، بِأَنْ يَقُولَ مَطَلَنِي، وَعُقُوبَتُهُ بِأَنْ يُحْبَسَ لَهُ حَتَّى يُنْصِفَهُ. [مَسْأَلَة يَدْعُوَ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ وَصِفَةُ دُعَائِهِ عَلَى الظَّالِمِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رُخِّصَ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ، وَإِنْ صَبَرَ وَغَفَرَ كَانَ أَفْضَلَ لَهُ؛ وَصِفَةُ دُعَائِهِ عَلَى الظَّالِمِ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعْنِي عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ اسْتَخْرِجْ حَقِّي مِنْهُ، اللَّهُمَّ حُلْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سَمِعَتْ مَنْ يَدْعُو عَلَى سَارِقٍ سَرَقَهُ، فَقَالَتْ: لَا تَسْتَحْيِي عَنْهُ، أَيْ لَا تُخَفِّفْ عَنْهُ بِدُعَائِك، وَهَذَا إذَا كَانَ مُؤْمِنًا؛ فَأَمَّا إذَا كَانَ كَافِرًا فَأُرْسِلْ لِسَانَك وَادْعُ بِالْهَلَكَةِ، وَبِكُلِّ دُعَاءٍ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّصْرِيحِ عَلَى الْكُفَّارِ بِالدُّعَاءِ وَتَعْيِينِهِمْ وَتَسْمِيَتِهِمْ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا وَهِيَ:

مسألة الجهر بالسوء

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُجَاهِرًا بِالظُّلْمِ دَعَا عَلَيْهِ جَهْرًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عِرْضٌ مُحْتَرَمٌ، وَلَا بَدَنٌ مُحْتَرَمٌ، وَلَا مَالٌ مُحْتَرَمٌ. وَقَدْ فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي أَحْكَامِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَادِ. [مَسْأَلَةُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {إِلا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148]: قُرِئَ بِفَتْحِ الظَّاءِ، وَقُرِئَ بِضَمِّهَا، وَقَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ: كِلَا الْقِرَاءَتَيْنِ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ لَيْسَ مِنْ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى: لَكِنْ مَنْ ظُلِمَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعَ " مَنْ " رَفْعًا عَلَى الْبَدَلِ مِنْ أَحَدٍ. التَّقْدِيرُ: لَا يُحِبُّ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ لِأَحَدٍ إلَّا مَنْ ظُلِمَ. وَاَلَّذِي قَرَأَهَا بِالْفَتْحِ هُوَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَكَانَ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِالْقُرْآنِ، وَقَدْ أَغْفَلَ الْمُتَكَلِّمُونَ عَلَى الْآيَةِ تَقْدِيرَهَا وَإِعْرَابَهَا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ. وَاخْتِصَارُهُ أَنَّ الْآيَةَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ حَذْفٍ مُقَدَّرٍ، تَقْدِيرُهُ فِي فَاتِحَةِ الْآيَةِ لِيَأْتِيَ الِاسْتِثْنَاءُ مُرَكَّبًا عَلَى مَعْنًى مُقَدَّرٍ خَيْرٌ مِنْ تَقْدِيرِهِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ فَنَقُولُ: مَعْنَى الْآيَةِ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ لِأَحَدٍ إلَّا مَنْ ظُلِمَ بِضَمِّ الظَّاءِ. أَوْ نَقُولُ مُقَدَّرًا لِلْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ لِأَحَدٍ إلَّا مَنْ ظُلِمَ، فَهَذَا خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تَقُولَ تَقْدِيرُهُ: لَكِنْ مَنْ ظُلِمَ بِضَمِّ الظَّاءِ فَإِنَّهُ كَذَا. أَوْ مَنْ ظُلِمَ فَإِنَّهُ كَذَا، التَّقْدِيرُ أَبْعَدُ مِنْهُ وَأَضْعَفُ، كَمَا قَدَّرَ الْعُلَمَاءُ الْمُحَقِّقُونَ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 10] {إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النمل: 11]. قِيلَ الِاسْتِثْنَاءُ تَقْدِيرًا انْتَظَمَ بِهِ الْكَلَامُ وَاتَّسَقَ بِهِ الْمَعْنَى؛ قَالُوا: تَقْدِيرُ الْآيَةِ إنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ، لَكِنْ يَخَافُ الظَّالِمُونَ، إلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ، فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ. [الْآيَة التَّاسِعَة وَالْخَمْسُونَ قَوْله تَعَالَى وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ] ُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 161].

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِي مُخَاطَبَةِ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ، وَأَشَرْنَا إلَيْهِ فِيمَا سَلَفَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَلَا خِلَافَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي أَنَّهُمْ يُخَاطَبُونَ. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ نُهُوا عَنْ الرِّبَا وَأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ خَبَرًا عَمَّا نَزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ فِي الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي الْخِطَابِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ خَبَرًا عَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مُوسَى فِي التَّوْرَاةِ، وَأَنَّهُمْ بَدَّلُوا وَحَرَّفُوا وَعَصَوْا وَخَالَفُوا فَهَلْ يَجُوزُ لَنَا مُعَامَلَتُهُمْ، وَالْقَوْمُ قَدْ أَفْسَدُوا أَمْوَالَهُمْ فِي دِينِهِمْ أَمْ لَا؟ فَظَنَّتْ طَائِفَةٌ أَنَّ مُعَامَلَتَهُمْ لَا تَجُوزُ؛ وَذَلِكَ لِمَا فِي أَمْوَالِهِمْ مِنْ هَذَا الْفَسَادِ. وَالصَّحِيحُ جَوَازُ مُعَامَلَتِهِمْ مَعَ رِبَاهُمْ وَاقْتِحَامِهِمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ، فَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى ذَلِكَ قُرْآنًا وَسُنَّةً: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5]. وَهَذَا نَصٌّ فِي مُخَاطَبَتِهِمْ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، «وَقَدْ عَامَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْيَهُودَ، وَمَاتَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ فِي شَعِيرٍ أَخَذَهُ لِعِيَالِهِ». وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ أَخَذَ ثَمَنَ الْخَمْرِ فِي الْجِزْيَةِ وَالتِّجَارَةِ، فَقَالَ: وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَخُذُوا مِنْهُمْ عُشْرَ أَثْمَانِهَا؛ وَالْحَاسِمُ لِدَاءِ الشَّكِّ وَالْخِلَافِ اتِّفَاقُ الْأَئِمَّةِ عَلَى جَوَازِ التِّجَارَةِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَقَدْ سَافَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَيْهِمْ تَاجِرًا، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَذَلِكَ مِنْ سَفَرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْرٌ قَاطِعٌ عَلَى جَوَازِ السَّفَرِ إلَيْهِمْ وَالتِّجَارَةِ مَعَهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: كَانَ ذَلِكَ قَبْل النُّبُوَّةِ. قُلْنَا: إنَّهُ لَمْ يَتَدَنَّسْ قَبْل النُّبُوَّة بِحَرَامٍ، ثَبَتَ ذَلِكَ تَوَاتُرًا، وَلَا اعْتَذَرَ عَنْهُ إذْ بُعِثَ، وَلَا مَنَعَ مِنْهُ إذْ نُبِّئَ، وَلَا قَطَعَهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي حَيَاتِهِ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ وَفَاتِهِ؛ فَقَدْ كَانُوا يُسَافِرُونَ فِي فَكِّ الْأَسْرَى، وَذَلِكَ وَاجِبٌ؛ وَفِي الصُّلْحِ كَمَا أَرْسَلَ عُثْمَانَ وَغَيْرَهُ، وَقَدْ يَجِبُ وَقَدْ يَكُون نَدْبًا، فَأَمَّا السَّفَرُ إلَيْهِمْ لِمُجَرَّدِ التِّجَارَةِ فَذَلِكَ مُبَاحٌ.

مسألة عامل مسلم كافرا بربا

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا قُلْتُمْ إنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، كَيْف يَجُوزُ مُبَايَعَتُهُمْ بِمُحَرَّمٍ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ؟ قُلْنَا: سَامَحَ الشَّرْعُ فِي مُعَامَلَتِهِمْ وَفِي طَعَامِهِمْ رِفْقًا بِنَا، وَشَدَّدَ عَلَيْهِمْ فِي الْمُخَاطَبَةِ تَغْلِيظًا عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُ مَا جَعَلَ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ إلَّا وَنَفَاهُ، وَلَا كَانَتْ فِي الْعُقُوبَةِ شِدَّةٌ إلَّا وَأَثْبَتَهَا عَلَيْهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَعَ أَنَّ اللَّهَ شَرَعَ لَهُمْ الشَّرْعَ، وَبَيَّنَ لَهُمْ الْأَحْكَامَ فَقَدْ بَدَّلُوا وَابْتَدَعُوا رَهْبَانِيَّةً الْتَزَمُوهَا، فَأَجْرَى الشَّرْعُ الْأَحْكَامَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ فِي بَيْعٍ وَطَعَامٍ حَتَّى فِي اعْتِقَادِهِمْ فِي أَوْلَادِهِمْ وَبَنَاتِهِمْ، سَوَاءٌ تَصَرَّفُوا فِي ذَلِكَ بِشِرْعَتِهِمْ أَوْ بِعَصَبِيَّتِهِمْ، حَتَّى قَالَ مَالِكٌ؛ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ فِي الصُّلْحِ أَبْنَاؤُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ إذَا كَانَ الصُّلْحُ لِلْعَامَيْنِ وَنَحْوَهُمَا؟ لِأَنَّهُمَا مُهَادَنَةٌ، وَلَوْ كَانَ دَائِمًا أَوْ لِمُدَّةٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ يَكُونُ لَهُمْ مِنْ الصُّلْحِ مِثْلُ مَا لِآبَائِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛ فَرَاعَى مَالِكٌ اعْتِقَادَهُمْ فِي الْأَوْلَادِ وَالنِّسَاءِ، كَمَا رَاعَى اعْتِقَادَهُمْ فِي الطَّعَامِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا مَعَ بَطَارِقَتِهِمْ يَعْنِي بِاتِّفَاقٍ مِنْهُمْ جَازَ. [مَسْأَلَةُ عَامَلَ مُسْلِمٌ كَافِرًا بِرِبًا] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فَإِنْ عَامَلَ مُسْلِمٌ كَافِرًا بِرِبًا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَبْدِ الْمَلِكِ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ، وَتَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّ مَالَهُ حَلَالٌ فَبِأَيِّ وَجْهٍ أُخِذَ جَازَ.

مسألة زنا في دار الحرب بحربية

قُلْنَا: إنَّ مَا يَجُوزُ أَخْذُهُ بِوَجْهٍ جَائِزٍ فِي الشَّرْعِ مِنْ غَلَّةٍ وَسَرِقَةٍ فِي سَرِيَّةٍ، فَأَمَّا إذَا أَعْطَى مِنْ نَفْسِهِ الْأَمَانَ وَدَخَلَ دَارَهُمْ فَقَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَفِيَ بِأَلَّا يَخُونَ عَهْدَهُمْ، وَلَا يَتَعَرَّضَ لِمَالِهِمْ، وَلَا شَيْءَ مِنْ أَمْرِهِمْ؛ فَإِنْ جَوَّزَ الْقَوْمُ الرِّبَا فَالشَّرْعُ لَا يُجَوِّزُهُ. فَإِنْ قَالَ أَحَدٌ: إنَّهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ فَالْمُسْلِمُ مُخَاطَبٌ بِهَا. [مَسْأَلَةُ زِنَا فِي دَارِ الْحَرْبِ بِحَرْبِيَّةٍ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: تَوَهَّمَ قَوْمٌ أَنَّ ابْنَ الْمَاجِشُونِ لَمَّا قَالَ: إنَّ مَنْ زَنَا فِي دَارِ الْحَرْبِ بِحَرْبِيَّةٍ لَمْ يَحُدَّ أَنَّ ذَلِكَ حَلَالٌ. وَهُوَ جَهْلٌ بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ. وَمَأْخَذِ الْأَدِلَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6]؛ فَلَا يُبَاحُ الْوَطْءُ إلَّا بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَلَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَرَى أَنَّ دَارَ الْحَرْبِ لَا حَدَّ فِيهَا، نَازَعَ بِذَلِكَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ مَعَهُ؛ فَأَمَّا التَّحْرِيمُ فَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَلَا تستنزلنكم الْغَفْلَةُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ. [الْآيَة الْمُوفِيَة سِتِّينَ قَوْله تَعَالَى إنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّه] ِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا} [النساء: 171]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى " فِي تَسْمِيَةِ عِيسَى بِالْمَسِيحِ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي الْحَدِيثِ نَحْوًا مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ وَجْهًا فِي مَعْنَاهُ، وَأُمَّهَاتُهَا أَنَّهُ اسْمٌ عَلَمٌ لَهُ. أَوْ هُوَ فَعِيلَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وُلِدَ دَهِينًا لِأَنَّهُ مُسِحَ بِالدُّهْنِ أَوْ بِالْبَرَكَةِ، أَوْ مَسَحَهُ حِينَ وُلِدَ يَحْيَى. أَوْ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٌ عَلَيْهِ مَسْحَةُ جَمَالٍ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ جَمِيلٌ، أَوْ يَمْسَحُ الزَّمَنَ فَيَبْرَأُ أَوْ يَمْسَحُ الطَّائِرَ فَيَحْيَا، أَوْ يَمْسَحُ الْأَرْضَ بِالْمَشْيِ؛ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ.

مسألة معنى قوله تعالى وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه

قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: بَلَغَنِي أَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - انْتَهَى إلَى قَرْيَةٍ قَدْ خَرِبَتْ حُصُونُهَا، وَعَفَتْ آثَارُهَا، وَتَشَعَّثَ شَجَرُهَا، فَنَادَى: يَا خَرِبُ، أَيْنَ أَهْلُك؟ فَنُودِيَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: بَادُوا وَالْتَقَمَتْهُمْ الْأَرْضُ، وَعَادَتْ أَعْمَالُهُمْ قَلَائِدَ فِي رِقَابِهِمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مَجْدٌ. قَالَ الرَّاوِي: يُرِيدُ مَالِكٌ أَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ الْأَرْضَ. وَقِيلَ إنَّهُ مُعَرَّبٌ مِنْ مَشِيحٍ كَتَعْرِيبِ مُوسَى عَنْ مُوشَى، وَهُوَ بِتَخْفِيفِ الشِّينِ وَكَسْرِهَا، وَكَذَلِكَ الدَّجَّالُ، وَقَدْ دَخَلَ فِيهِ جَهَلَةُ يَتَوَسَّمُونَ بِالْعِلْمِ، فَجَعَلُوا الدَّجَّالَ مُشَدَّدَ السِّينِ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَكِلَاهُمَا فِي الِاسْمِ سَوَاءٌ، إنَّ الْأُوَلَ قَالُوا هُوَ الْمَسِيحُ الَّذِي هُوَ مَسِيحُ الْهُدَى الصَّالِحُ السَّلِيمُ، وَالْآخَرُ الْمَسِيحُ الْكَذَّابُ الْأَعْوَرُ الدَّجَّالُ الْكَافِرُ، فَاعْلَمُوهُ تَرْشُدُوا. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171]: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ: الْأُولَى: أَنَّهَا نَفْخَةٌ نَفَخَهَا جِبْرِيلُ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا، وَسُمِّيَتْ النَّفْخَةُ رُوحًا لِأَنَّهَا تَكُونُ عَنْ الرِّيحِ. الثَّانِي: أَنَّ الرُّوحَ الْحَيَاةُ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْمُقْسِطِ وَالْمُشْكَلَيْنِ. الثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَى رُوحٍ رَحْمَةٌ. الرَّابِعُ: أَنَّ الرُّوحَ صُورَةٌ؛ لِمَا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ أَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ ذُرِّيَّتَهُ، وَصَوَّرَهُمْ، ثُمَّ أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، أَلَسْت بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى. ثُمَّ أَنْشَأَهُمْ كَرَّةً أَطْوَارًا، أَوْ جَعَلَ لَهُمْ الدُّنْيَا قَرَارًا؛ فَعِيسَى مِنْ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ أَدْخَلَهُ فِي مَرْيَمَ. وَاخْتَارَ هَذَا أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ. وَقِيلَ فِي الْخَامِسِ: رُوحُ صُورَةٍ صَوَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى ابْتِدَاءً وَجَّهَهَا فِي مَرْيَمَ. وَقِيلَ فِي السَّادِسِ: سِرُّ رُوحٍ مِنْهُ يَعْنِي جِبْرِيلَ، وَهُوَ مَعْنَى الْكَلَامِ أَلْقَاهَا إلَيْهِ رُوحٌ مِنْهُ أَيْ إلْقَاءٌ الْكَلِمَةِ كَانَ مِنْ اللَّهِ ثُمَّ مِنْ جِبْرِيلَ.

مسألة قال لزوجه روحك طالق

قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ كُلُّهَا مُحْتَمَلَةٌ غَيْرُ بَعِيدَةٍ مِنْ الصَّوَابِ. قَالَ الْقَاضِي وَفَّقَهُ اللَّهُ: وَبَعْضُهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي الْمُشْكَلَيْنِ، لَكِنْ يَتَعَلَّقُ بِهَا الْآنَ مِنْ الْأَحْكَامِ مَسْأَلَةٌ؛ وَهِيَ:. [مَسْأَلَة قَالَ لِزَوْجِهِ رُوحُك طَالِقٌ] إذَا قَالَ لِزَوْجِهِ: رُوحُك طَالِقٌ؛ فَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَكَذَا لَوْ قَالَ لَهَا: حَيَاتُك طَالِقٌ، فِيهَا قَوْلَانِ. وَكَذَلِكَ مِثْلُهُ كَلَامُك طَالِقٌ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ كَاخْتِلَافِنَا، وَاسْتَمَرَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَلْزَمُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ فَأَمَّا إذَا قَالَ لَهَا: كَلَامُك طَالِقٌ؛ فَلَا إشْكَالَ فِيهِ. فَإِنَّ الْكَلَامَ حَرَامٌ سَمَاعُهُ، فَهُوَ مِنْ مُحَلِّلَاتِ النِّكَاحِ فَيَلْحَقُهُ الطَّلَاقُ. وَأَمَّا الرُّوحُ وَالْحَيَاةُ فَلَيْسَ لِلنِّكَاحِ فِيهِمَا مُتَعَلَّقٌ، فَوَجْهُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِتَعْلِيقِهِ عَلَيْهِمَا خَفِيٌّ، وَهُوَ أَنَّ بَدَنَهَا الَّذِي فِيهِ الْمَتَاعُ لَا قِوَامَ لَهُ إلَّا بِالرُّوحِ وَالْحَيَاةِ. وَهُوَ بَاطِنٌ فِيهَا؛ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: بَاطِنُك طَالِقٌ، فَيُسْرِي الطَّلَاقُ إلَى ظَاهِرِهَا فَإِنَّهُ إذَا تَعَلَّقَ الطَّلَاقُ بِشَيْءٍ مِنْهَا سَرَى إلَى الْبَاقِي. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَسْرِي، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ كَبِيرَةٌ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: يَدُك طَالِقٌ. وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّهُ إذَا طَلَّقَ مِنْهَا شَيْئًا وَحَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَقِفَ حَيْثُ قَالَ، وَلَا يَتَعَدَّى، أَوْ يَسْرِي كَمَا قُلْنَا أَوْ يَلْغُو. وَمُحَالٌ أَنْ يَلْغُوَ لِأَنَّهُ كَلَامٌ صَحِيحٌ أَضَافَهُ إلَى مَحَلٍّ بِحُكْمٍ صَحِيحٍ جَائِزٍ فَنَفَذَ كَمَا لَوْ قَالَ: وَأُمُّك طَالِقٌ أَوْ ظَهْرُك، وَمُحَالٌ أَنْ يَقِفَ حَيْثُ قَالَ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَحْرِيمِ بَعْضِهَا وَتَحْلِيلِ بَعْضِهَا. وَذَلِكَ مُحَالٌ شَرْعًا، وَهَذَا بَالِغٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الْحَادِيَة وَالسِّتُّونَ قَوْله تَعَالَى لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ] ِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172]. هَذَا رَدٌّ عَلَى النَّصَارَى الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ عِيسَى وَلَدُ اللَّهِ، وَرَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.

الآية الثانية والستون قوله تعالى يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة

يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُمْ: إنَّ مَنْ نَسَبْتُمُوهُ إلَى وِلَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، مِنْ آدَمِيٍّ وَمَلِكٍ، لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ، فَكَيْفَ تَجْعَلُونَهُ وَلَدًا؟ وَلَوْ كَانَ اجْتِمَاعُ الْعُبُودِيَّةِ وَالْوِلَادَةِ جَائِزًا مَا كَانَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 92] {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93]. فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى {يَسْتَنْكِفَ} [النساء: 172] فِي اللُّغَةِ؟ قُلْنَا: هُوَ يَسْتَفْعِلُ، مِنْ نَكَفْت كَذَا إذَا نَحَّيْته، وَهُوَ مَشْهُورُ الْمَعْنَى. التَّقْدِيرُ لَنْ يَتَنَحَّى مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَبْعُدُ عَنْهُ، وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ. [الْآيَة الثَّانِيَة وَالسِّتُّونَ قَوْله تَعَالَى يَسْتَفْتُونَك قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَة] ِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176]. فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي وَقْتِ نُزُولِهَا: ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ قَالَ: آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ سُورَةُ بَرَاءَةَ، وَآخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ آيَةُ الْكَلَالَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رُوِيَ عَنْ «جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَرِضْت وَعِنْدِي تِسْعُ أَخَوَاتٍ لِي، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَضَحَ فِي وَجْهِي مِنْ الْمَاءِ، فَأَفَقْت فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَلَا أُوصِي لِأَخَوَاتِي بِالثُّلُثَيْنِ؟ قَالَ: أَحْسِنْ. قُلْت: بِالشَّطْرِ؟ قَالَ: أَحْسِنْ ثُمَّ خَرَجَ وَتَرَكَنِي

ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لَا أَرَاك مَيِّتًا مِنْ وَجَعِك هَذَا، فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الَّذِي لِأَخَوَاتِك فَجَعَلَ لَهُنَّ الثُّلُثَيْنِ». وَكَانَ جَابِرٌ يَقُولُ: نَزَلَتْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء: 176] خَرَّجَهُ النَّسَائِيّ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ قَتَادَةُ: وَذَكَرَ لَنَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: أَلَا إنَّ الْآيَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ مِنْ شَأْنِ الْفَرَائِضِ نَزَلَتْ فِي الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ أَنْزَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَالْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ، وَالْآيَةُ الَّتِي خَتَمَ بِهَا سُورَةَ النِّسَاءِ فِي الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَالْآيَةُ الَّتِي خَتَمَ بِهَا سُورَةَ الْأَنْفَالِ أَنْزَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَمَا جَرَّتْ الرَّحِمُ مِنْ الْعَصَبَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: «نَزَلَتْ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَسِيرٍ لَهُ، وَإِلَى جَنْبِهِ حُذَيْفَةُ، فَبَلَّغَهَا حُذَيْفَةُ وَبَلَّغَهَا عُمَرُ، وَهُوَ يَسِيرُ خَلْفَهُ، فَلَمَّا اُسْتُخْلِفَ عُمَرُ سَأَلَ حُذَيْفَةَ عَنْهَا، وَرَجَا أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ تَفْسِيرُهَا، فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: وَاَللَّهِ إنَّك لَعَاجِزٌ». هَكَذَا قَالَ الطَّبَرِيُّ فِي رِوَايَتِهِ. وَقَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ فِيهَا: وَاَللَّهِ إنَّك لَأَحْمَقُ إنْ ظَنَنْت أَنَّ إمَارَتَك تَحْمِلُنِي عَلَى أَنْ أُحَدِّثَك بِمَا لَمْ أُحَدِّثْك يَوْمئِذٍ. فَقَالَ عُمَرُ: لَمْ أُرِدْ هَذَا رَحِمَك اللَّهُ، وَاَللَّهِ لَا أَزِيدُك عَلَيْهَا شَيْئًا أَبَدًا؛ فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ مَنْ كُنْت بَيَّنْتهَا لَهُ فَإِنَّهَا لَمْ تَتَبَيَّنْ لِي. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ «عُمَرَ نَازَعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا فَضَرَبَ فِي صَدْرِهِ، وَقَالَ: يَكْفِيك آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَإِنْ أَعِشْ فَسَأَقْضِي فِيهَا بِقَضَاءٍ يَعْلَمُهُ مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَمَنْ لَا يَقْرَأُهُ، وَهُوَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ».

مسألة إذا لم يكن للميت ولد ذكر ولا أنثى

[مَسْأَلَة إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ ذَكَرٌ وَلَا أُنْثَى] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: مَعْنَى الْآيَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ ذَكَرٌ وَلَا أُنْثَى فَكَانَ مَوْرُوثًا كَلَالَةً، فَلِأُخْتِهِ النِّصْفُ فَرِيضَةً مُسَمَّاةً. فَأَمَّا إنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ أُنْثَى فَهِيَ مَعَ الْأُنْثَى عَصَبَةٌ يَصِيرُ لَهَا مَا كَانَ يَصِيرُ لِلْعَصَبَةِ لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ غَيْرَ مَحْدُودٍ بِحَدٍّ، وَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ: إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَلَا شَيْءَ لِأُخْتِهِ مَعَهُ؛ فَيَكُونُ لِمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَجْهٌ؛ إذْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّ الْمَيِّتَ إذَا تَرَكَ بِنْتًا فَلَا شَيْءَ لِلْأُخْتِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا أَخٌ ذَكَرٌ، وَإِنَّمَا بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حَقَّهَا إذَا وَرِثَتْ الْمَيِّتَ كَلَالَةً، وَتَرَكَ بَيَانُ مَا لَهَا مِنْ حَقٍّ إذَا لَمْ يُورَثْ كَلَالَةً؛ فَبَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوَحْيِ رَبِّهِ، فَجَعَلَهَا عَصَبَةً مَعَ إنَاثِ وَلَدِ الْمَيِّتِ، وَذَلِكَ لَا يُغَيِّرُ وِرَاثَتَهَا فِي الْمَيِّتِ إذَا كَانَ مَوْرُوثًا عَنْ كَلَالَةٍ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176]: مَعْنَاهُ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَضِلُّوا، وَفِيهِ اخْتِلَافٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ فَلْيَنْظُرْهُ هُنَالِكَ مَنْ أَرَادَهُ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فَإِنْ قِيلَ: وَأَيُّ ضَلَالٍ أَكْبَرُ مِنْ هَذَا؟ وَلَمْ يَعْلَمْهَا عُمَرُ وَلَا اتَّفَقَ فِيهَا الصَّحَابَةُ وَمَا زَالَ الْخِلَافُ إلَى الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ. قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا ضَلَالًا، وَهَذَا هُوَ الْبَيَانُ الْمَوْعُودُ بِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْعَلْ طُرُقَ الْأَحْكَامِ نَصًّا يُدْرِكُهُ الْجَفْلَيْ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مَظْنُونًا يَخْتَصُّ بِهِ الْعُلَمَاءُ لِيَرْفَعَ اللَّهُ تَعَالَى الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ، وَيَتَصَرَّفُ الْمُجْتَهِدُونَ فِي مَسَالِكِ النَّظَرِ، فَيَدْرِك بَعْضُهُمْ الصَّوَابَ فَيُؤْجَرُ عَشَرَةَ أُجُورٍ، وَيُقَصِّرُ آخَرُ فَيُدْرِكُ أَجْرًا وَاحِدًا، وَتَنْفُذُ الْأَحْكَامُ الدُّنْيَاوِيَّةُ عَلَى مَا أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَهَذَا بَيِّنٌ لِلْعُلَمَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

سورة المائدة فيها أربع وثلاثون آية

[سُورَةُ الْمَائِدَةِ فِيهَا أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ آيَةً] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ] ً الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1]. فِيهَا عِشْرُونَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: قَالَ عَلْقَمَةُ: إذَا سَمِعْت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 1] فَهِيَ مَدَنِيَّةٌ، وَإِذَا سَمِعْت: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [النساء: 1] فَهِيَ مَكِّيَّةٌ؛ وَهَذَا رُبَّمَا خَرَجَ عَلَى الْأَكْثَرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى أَبُو سَلَمَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَمَّا رَجَعَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ قَالَ لِعَلِيٍّ: يَا عَلِيُّ، أَشَعَرْت أَنَّهُ نَزَلَتْ عَلَيَّ سُورَةُ الْمَائِدَةِ، وَهِيَ نِعْمَتْ الْفَائِدَةُ». قَالَ الْإِمَامُ الْقَاضِي: هَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ، لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ اعْتِقَادُهُ، أَمَّا أَنَّا نَقُولُ: سُورَةُ الْمَائِدَةِ نِعْمَتْ الْفَائِدَةُ فَلَا نُؤْثِرُهُ عَنْ أَحَدٍ، وَلَكِنَّهُ كَلَامٌ حَسَنٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ: فِي الْمَائِدَةِ ثَمَانِي عَشَرَةَ فَرِيضَةً. وَقَالَ غَيْرُهُ: فِيهَا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 1]

فِي سِتَّةَ عَشَرَ مَوْضِعًا؛ فَأَمَّا قَوْلُ أَبِي مَيْسَرَةَ: إنَّ فِيهَا ثَمَانِي عَشْرَةَ فَرِيضَةً فَرُبَّمَا كَانَ أَلْفُ فَرِيضَةٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا نَحْنُ فِي هَذَا الْمُخْتَصَرِ لِلْأَحْكَامِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: شَاهَدْت الْمَائِدَةَ بِطُورِ زَيْتَا مِرَارًا، وَأَكَلْت عَلَيْهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، وَذَكَرْت اللَّهَ سُبْحَانَهُ فِيهَا سِرًّا وَجِهَارًا، وَكَانَ ارْتِفَاعُهَا أَسْفَلَ مِنْ الْقَامَةِ بِنَحْوِ الشِّبْرِ، وَكَانَ لَهَا دَرَجَتَانِ قَلْبِيًّا وَجَوْفِيًّا، وَكَانَتْ صَخْرَةً صَلْدَاءَ لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ، فَكَانَ النَّاسُ يَقُولُونَ: مُسِخَتْ صَخْرَةً إذْ مُسِخَ أَرْبَابُهَا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ. وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهَا كَانَتْ فِي الْأَصْلِ صَخْرَةٌ قُطِعَتْ مِنْ الْأَرْضِ مَحَلًّا لِلْمَائِدَةِ النَّازِلَةِ مِنْ السَّمَاءِ، وَكُلُّ مَا حَوْلَهَا حِجَارَةٌ مِثْلُهَا، وَكَانَ مَا حَوْلَهَا مَحْفُوفًا بِقُصُورٍ، وَقَدْ نُحِتَ فِي ذَلِكَ الْحَجَرِ الصَّلْدِ بُيُوتٌ، أَبْوَابُهَا مِنْهَا، وَمَجَالِسُهَا مِنْهَا مَقْطُوعَةٌ فِيهَا، وَحَنَايَاهَا فِي جَوَانِبِهَا، وَبُيُوتُ خِدْمَتِهَا قَدْ صُوِّرَتْ مِنْ الْحَجَرِ، كَمَا تُصَوَّرُ مِنْ الطِّينِ وَالْخَشَبِ، فَإِذَا دَخَلْت فِي قَصْرٍ مِنْ قُصُورِهَا وَرَدَدْت الْبَابَ وَجَعَلْت مِنْ وَرَائِهِ صَخْرَةً كَثُمْنِ دِرْهَمٍ لَمْ يَفْتَحْهُ أَهْلُ الْأَرْضِ لِلُصُوقِهِ بِالْأَرْضِ؛ فَإِذَا هَبَّتْ الرِّيحُ وَحَثَتْ تَحْتَهُ التُّرَابَ لَمْ يُفْتَحْ إلَّا بَعْدَ صَبِّ الْمَاءِ تَحْتَهُ وَالْإِكْثَارِ مِنْهُ، حَتَّى يَسِيلَ بِالتُّرَابِ وَيَنْفَرِجَ مُنْعَرَجُ الْبَابِ، وَقَدْ مَاتَ بِهَا قَوْمٌ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ، وَقَدْ كُنْت أَخْلُو فِيهَا كَثِيرًا لِلدَّرْسِ، وَلَكِنِّي كُنْت

مسألة معنى قوله تعالى أوفوا

فِي كُلِّ حِينٍ أَكْنُسُ حَوْلَ الْبَابِ مَخَافَةً مِمَّا جَرَى لِغَيْرِي فِيهَا، وَقَدْ شَرَحْت أَمْرَهَا فِي كِتَابِ " تَرْتِيبِ الرِّحْلَةِ " بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى أَوْفُوا] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أَوْفُوا} [المائدة: 1] يُقَالُ: وَفَى وَأَوْفَى. قَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ: وَاللُّغَتَانِ فِي الْقُرْآنِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة: 111]. وَقَالَ شَاعِرُ الْعَرَبِ: أَمَّا ابْنُ طَوْقٍ فَقَدْ أَوْفَى بِذِمَّتِهِ ... كَمَا وَفَى بِقِلَاصِ النَّجْمِ حَادِيهَا فَجَمَعَ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37]. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ». [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى الْعُقُودُ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْعُقُودُ: وَاحِدُهَا عَقْدٌ، وَفِي ذَلِكَ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: الْعُقُودُ: الْعُهُودُ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.

الثَّانِي: حِلْفُ الْجَاهِلِيَّةِ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَمُجَاهِدٍ، وَالثَّوْرِيِّ. الثَّالِثُ: الَّذِي عَقَدَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وَعَقَدْتُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ؛ قَالَهُ الزَّجَّاجُ. الرَّابِعُ: عَقْدُ النِّكَاحِ وَالشَّرِكَةِ وَالْيَمِينِ وَالْعَهْدِ وَالْحِلْفِ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ الْبَيْعَ؛ قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ. الْخَامِسُ: الْفَرَائِضُ؛ قَالَهُ الْكِسَائِيُّ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ أَنَّهُ أَمْرٌ بِالْوَفَاءِ بِجَمِيعِ ذَلِكَ. قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الطَّبَرِيُّ صَحِيحٌ، وَلَكِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَنْقِيحٍ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: [فِي تَنْقِيحِ قَوْلِ الطَّبَرِيِّ]: قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ عَهْدٍ فِي اللُّغَةِ الْإِعْلَامُ بِالشَّيْءِ، وَأَصْلَ الْعَقْدِ الرَّبْطُ

وَالْوَثِيقَةُ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115]. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: " الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ لَا فَضْلَ بَيْنَهُمَا، هَذَا عَهْدُ نَبِيِّنَا إلَيْنَا وَعَهْدُنَا إلَيْكُمْ ". وَتَقُولُ الْعَرَبُ: عَهِدْنَا أَمْرَ كَذَا وَكَذَا أَيْ: عَرَفْنَاهُ، وَعَقَدْنَا أَمْرَ كَذَا وَكَذَا أَيْ: رَبَطْنَاهُ بِالْقَوْلِ، كَرَبْطِ الْحَبْلِ بِالْحَبْلِ؛ قَالَ الشَّاعِرُ: قَوْمٌ إذَا عَقَدُوا عَقْدًا لِجَارِهِمْ ... شَدُّوا الْعِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا وَعَهْدُ اللَّهِ إلَى الْخَلْقِ إعْلَامُهُ بِمَا أَلْزَمَهُمْ وَتَعَاهَدَ الْقَوْمُ: أَيْ أَعْلَنَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ بِمَا الْتَزَمَهُ لَهُ وَارْتَبَطَ مَعَهُ إلَيْهِ وَأَعْلَمَهُ بِهِ؛ فَبِهَذَا دَخَلَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ فِي الْآخَرِ، فَإِذَا عَرَفْت هَذَا عَلِمْت أَنَّ الَّذِي قَرْطَسَ عَلَى الصَّوَابِ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ؛ فَكُلُّ عَهْدٍ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ أَعْلَمَنَا بِهِ ابْتِدَاءً، وَالْتَزَمْنَاهُ نَحْنُ لَهُ، وَتَعَاقَدْنَا فِيهِ بَيْنَنَا، فَالْوَفَاءُ بِهِ لَازِمٌ بِعُمُومِ هَذَا الْقَوْلِ الْمُطْلَقِ الْوَارِدِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْنَا فِي الْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِهِ. وَأَمَّا مَنْ خَصَّ حِلْفَ الْجَاهِلِيَّةِ فَلَا قُوَّةَ لَهُ إلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ إذَا لَزِمَ الْوَفَاءُ بِهِ، وَهُوَ مِنْ عَقْدِ الْجَاهِلِيَّةِ؛ فَالْوَفَاءُ بِعَقْدِ الْإِسْلَامِ أَوْلَى، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْوَفَاءِ بِهِ؛ قَالَ

مسألة العقد مع الله والعقد مع الآدمي

اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي مِنْ النَّصِيحَةِ وَالرِّفَادَةِ وَالنُّصْرَةِ، وَسَقَطَ الْمِيرَاثُ خَاصَّةً بِآيَةِ الْفَرَائِضِ وَآيَةِ الْأَنْفَالِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ»]. وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَقْدُ الْبَيْعِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ، فَإِنَّمَا أَشَارَ إلَى عُقُودِ الْمُعَامَلَاتِ وَأَسْقَطَ غَيْرَهَا وَعُقُودَ اللَّهِ وَالنُّذُورَ؛ وَهَذَا تَقْصِيرٌ. وَأَمَّا قَوْلُ الْكِسَائِيّ: الْفَرَائِضُ، فَهُوَ أَخُو قَوْلِ الزَّجَّاجِ، وَلَكِنَّ قَوْلَ الزَّجَّاجِ أَوْعَبُ؛ إذْ دَخَلَ فِيهِ الْفَرْضُ الْمُبْتَدَأُ وَالْفَرْضُ الْمُلْتَزَمُ وَالنَّدْبُ، وَلَمْ يَتَضَمَّنْ قَوْلُ الْكِسَائِيّ ذَلِكَ كُلَّهُ. [مَسْأَلَة الْعَقْدِ مَعَ اللَّهِ والْعَقْد مَعَ الْآدَمِيِّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: إذَا ثَبَتَ هَذَا فَرَبْطُ الْعَقْدِ تَارَةً يَكُونُ مَعَ اللَّهِ، وَتَارَةً يَكُونُ مَعَ الْآدَمِيِّ، وَتَارَةً يَكُونُ بِالْقَوْلِ، وَتَارَةً بِالْفِعْلِ؛ فَمَنْ قَالَ: " لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمٍ " فَقَدْ عَقَدَهُ بِقَوْلِهِ مَعَ رَبِّهِ؛ وَمَنْ قَامَ إلَى الصَّلَاةِ فَنَوَى وَكَبَّرَ فَقَدْ عَقَدَهَا لِرَبِّهِ بِالْفِعْلِ، فَيَلْزَمُ الْأَوَّلَ ابْتِدَاءُ الصَّوْمِ، وَيَلْزَمُ هَذَا تَمَامُ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ عَقَدَهَا مَعَ رَبِّهِ، وَالْتَزَمَ. وَالْعَقْدُ بِالْفِعْلِ أَقْوَى مِنْهُ بِالْقَوْلِ. وَكَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7]. كَذَلِكَ قَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]. وَمَا قَالَ الْقَائِلُ: عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمٍ أَوْ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ إلَّا لِيَفْعَلَ، فَإِذَا فَعَلَ كَانَ أَقْوَى مِنْ الْقَوْلِ؛ فَإِنَّ الْقَوْلَ عَقْدٌ وَهَذَا نَقْدٌ؛ وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ عَلَى الشَّافِعِيِّ تَمْهِيدًا بَلِيغًا، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ.

فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِعَقْدِ الْجَاهِلِيَّةِ حِينَ كَانُوا يَقُولُونَ: هَدْمِي هَدْمُك، وَدَمِي دَمُك، وَهُمْ إنَّمَا كَانُوا يَتَعَاقَدُونَ عَلَى النُّصْرَةِ فِي الْبَاطِلِ. قُلْنَا: كَذَبْتُمْ؛ إنَّمَا كَانُوا يَتَعَاقَدُونَ عَلَى مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ حَقًّا، وَفِيمَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ حَقًّا مَا هُوَ حَقٌّ كَنُصْرَةِ الْمَظْلُومِ، وَحَمْلِ الْكَلِّ، وَقِرَى الضَّيْفِ، وَالتَّعَاوُنِ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. وَفِيهِ أَيْضًا بَاطِلٌ؛ فَرَفَعَ الْإِسْلَامُ مِنْ ذَلِكَ الْبَاطِلَ بِالْبَيَانِ، وَأَوْثَقَ عُرَى الْجَائِزِ، وَالْحَقِّ مِنْهُ بِالْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِإِتْيَانِهِمْ نَصِيبَهُمْ فِيهِ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ النَّصِيحَةِ وَالرِّفَادَةِ وَالنُّصْرَةِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ». مَعْنَاهُ إنَّمَا تَظْهَرُ حَقِيقَةُ إيمَانِهِمْ عِنْدَ الْوَفَاءِ بِشُرُوطِهِمْ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ يُوفَى بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ». ثُمَّ قَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ اشْتَرَطَ مِائَةَ شَرْطٍ». فَبَيَّنَ أَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ مَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ دِينَ اللَّهِ تَعَالَى، كَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِعَقْدٍ إلَّا أَنْ يُعْقَدَ عَلَى مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ. وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَلْتَزِمُوا الْوَفَاءَ بِعُهُودِهِمْ وَشُرُوطِهِمْ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ فِيهَا مَا يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ، فَيَسْقُطَ.

وَلَا يَمْنَعُ هَذَا التَّعَلُّقَ بِعُمُومِ الْقَوْلَيْنِ؛ وَلِذَلِكَ حَثَّ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ، فَقَالَ: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]. وَأَمَرَ بِالْكَفِّ عَنْ الشَّرِّ، فَقَالَ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ». فَهَذَا حَثٌّ عَلَى فِعْلِ كُلِّ خَيْرٍ وَاجْتِنَابِ كُلِّ شَرٍّ. فَأَمَّا اجْتِنَابُ الشَّرِّ فَجَمِيعُهُ وَاجِبٌ. وَأَمَّا فِعْلُ الْخَيْرِ فَيَنْقَسِمُ إلَى مَا يَجِبُ وَإِلَى مَا لَا يَجِبُ؛ وَكَذَلِكَ الْوَفَاءُ بِالْعُقُودِ، وَلَكِنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الْوُجُوبُ، إلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى نَدْبِهِ؛ وَقَدْ جَهِلَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: لَمَّا كَانَتْ الْعُقُودُ الْبَاطِلَةُ وَالشُّرُوطُ الْبَاطِلَةُ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَالْجَائِزُ مِنْهَا مَحْصُورٌ فَصَارَ مَجْهُولًا فَلَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ عَلَى الْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَلَا بِالشُّرُوطِ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قُلْنَا: وَمَا لَا يَجُوزُ [كَيْفَ] يَدْخُلُ تَحْتَ مُطْلَقِ أَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ حَتَّى يَجْعَلَهُ مُجْمَلًا. وَاَللَّهُ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَلَا بِالْبَاطِلِ: لَقَدْ ضَلَّتْ إمَامَتُك وَخَابَتْ أَمَانَتُك، وَعَلَى هَذَا لَا دَلِيلَ فِي الشَّرْعِ لِأَمْرٍ يُفْعَلُ؛ فَإِنَّ مِنْهُ كُلِّهِ مَا لَا يَجُوزُ، وَمِنْهُ مَا يَجُوزُ، فَيُؤَدِّي إلَى تَعْطِيلِ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ وَأَوَامِرِهِ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا بِالْوَقْفِ لَمْ يَرْتَكِبُوا هَذَا الْخَطَرَ، وَلَا سَلَكُوا هَذَا الْوَعْرَ، فَدَعْ هَذَا، وَعَدِّ الْقَوْلَ إلَى الْعِلْمِ إنْ كُنْت مِنْ أَهْلِهِ. فَإِنْ قِيلَ: مَحْمُولُ قَوْلِهِ {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] عَلَى الْمُقَيَّدِ لِمَا بَيَّنَّا، وَهِيَ:

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قُلْنَا: فَقَدْ أَبْطَلْنَا مَا يُثْبِتُ مَحْمُولَ قَوْلِهِ: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] عَلَى كُلِّ عَقْدٍ مُطْلَقٍ وَمُقَيَّدٍ. وَمَاذَا تُرِيدُ بِقَوْلِك مُقَيَّدًا؟ تُرِيدُ قُيِّدَ بِالْجَوَازِ أَمْ قُيِّدَ بِقُرْبَةٍ، أَوْ قُيِّدَ بِشَرْطٍ؟ فَإِنْ أَرَدْت بِهِ قُيِّدَ بِشَرْطٍ لَزِمَك فِيهِ مَا لَزِمَك فِي الْمُطْلَقِ مِنْ أَنَّ الشَّرْطَ مِنْهُ مَا لَا يَجُوزُ كَمَا تَقَدَّمَ لَك، وَإِنْ قُلْت: مُقَيَّدٌ بِقُرْبَةٍ، فَيَبْطُلُ بِالْمُعَامَلَاتِ، وَإِنْ قُلْت: مُقَيَّدٌ بِالدَّلِيلِ، فَالدَّلِيلُ هُوَ قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقَدْ قَالَ: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا عَقْدُ الْيَمِينِ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قُلْنَا: لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِشَيْءٍ أَكْثَرَ مِمَّا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالْيَمِينِ، وَكَيْفَ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ وَهُوَ عَقْدٌ أُكِّدَ بِاسْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ؟ حَاشَا لِلَّهِ أَنْ نَقُولَ هَذَا، وَلَكِنَّ الشَّرْعَ أَذِنَ رَحْمَةً وَرُخْصَةً فِي إخْرَاجِ الْكَفَّارَةِ بَدَلًا مِنْ الْبِرِّ، وَخَلَفًا مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ الَّذِي فَوَّتَهُ الْحِنْثُ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَسَتَرَاهُ فِي آيَةِ الْكَفَّارَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا نَذَرَ قُرْبَةً لَا يَدْفَعُ بِهَا بَلِيَّةً وَلَا يَسْتَنْجِحُ بِهَا طَلَبَةٌ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهَا. قُلْنَا: مَنْ قَالَ بِهَذَا فَقَدْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ دَلَائِلُ الشَّرْعِ؛ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ: «أَوْفِ بِنَذْرِك». وَقَدْ بَيَّنَّا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ وَمَاذَا عَلَى الشَّرِيعَةِ أَوْ مَاذَا يَقْدَحُ فِي الْأَدِلَّةِ مِنْ رَأْيِ الشَّافِعِيِّ وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ.

مسألة آراء العلماء في قوله تعالى أحلت لكم بهيمة الأنعام

وَأَمَّا نَذْرُ الْمُبَاحِ فَلَمْ يَلْزَمْ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَنَصِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحِ، وَهِيَ شَيْءٌ جَهِلْته يَا هَذَا الْعَالِمُ، فَادْرُجْ عَنْ هَذِهِ الْأَغْرَاضِ، فَلَيْسَ بِوَكْرٍ إلَّا لِمَنْ أَمَّنَتْهُ مَعْرِفَةُ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْمَكْرِ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِرَأْيِهِ وَحْدَهُ، وَلَا أُعْجِبَ بِطُرُقٍ مِنْ النَّظَرِ حَصَّلَهَا، وَلَمْ يَتَمَرَّسْ فِيهَا بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا بِسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَافْهَمْ هَذَا، وَاَللَّهُ يُوَفِّقُكُمْ وَإِيَّانَا بِتَوْفِيقِهِ لِتَوْفِيَةِ عُهُودِ الشَّرِيعَةِ حَقَّهَا. [مَسْأَلَة آرَاءٍ الْعُلَمَاء فِي قَوْله تَعَالَى أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} [المائدة: 1] اُخْتُلِفَ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: إنَّهُ كُلُّ الْأَنْعَامِ؛ قَالَهُ السُّدِّيُّ، وَالرَّبِيعُ، وَالضَّحَّاكُ. الثَّانِي: إنَّهُ الْإِبِلُ، وَالْبَقَرُ، وَالْغَنَمُ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ. الثَّالِثُ: إنَّهُ الظِّبَاءُ، وَالْبَقَرُ، وَالْحُمُرُ الْوَحْشِيَّانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: فِي الْمُخْتَارِ: أَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ النَّعَمَ هِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، فَقَدْ عَلِمْت صِحَّةَ ذَلِكَ دَلِيلًا، وَهُوَ أَنَّ النَّعَمَ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ اسْمٌ خَاصٌّ لِلْإِبِلِ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ؛ قَالَهُ ابْنُ دُرَيْدٍ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5] {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6] {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} [النحل: 7]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأنعام: 142] {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} [الأنعام: 143]. وَقَالَ: {وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} [الأنعام: 144]. فَهَذَا مُرْتَبِطٌ بِقَوْلِهِ: وَمِنْ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا، أَيْ خَلَقَ جَنَّاتٍ وَخَلَقَ مِنْ الْأَنْعَامِ

حَمُولَةً وَفَرْشًا يَعْنِي كِبَارًا وَصِغَارًا، ثُمَّ فَسَّرَهَا فَقَالَ: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الأنعام: 143] إلَى قَوْلِهِ: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} [الأنعام: 144]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا} [النحل: 80] وَهِيَ الْغَنَمُ {وَأَوْبَارِهَا} [النحل: 80] وَهِيَ الْإِبِلُ {وَأَشْعَارِهَا} [النحل: 80] وَهِيَ الْمِعْزَى، {أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80]. فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَدِلَّةٍ تُنْبِئُ عَنْ تَضَمُّنِ اسْمِ النَّعَمِ لِهَذِهِ الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ: الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ؛ لِتَأْنِيسِ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَأَمَّا الْوَحْشِيَّةُ فَلَمْ أَعْلَمْهُ إلَى الْآنَ إلَّا اتِّبَاعًا لِأَهْلِ اللُّغَةِ. أَمَّا أَنَّهُ قَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1] يَقْتَضِي دُخُولَ الْبَقَرِ وَالْحُمُرِ وَالظِّبَاءِ تَحْتَ قَوْلِهِ: بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ؛ فَصَارَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إنْسِيُّهَا وَوَحْشِيُّهَا غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أَيْ مَا لَمْ تَكُونُوا مُحْرِمِينَ. فَإِنْ كَانَ هَذَا مُتَعَلِّقًا فَقَدْ قَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]. فَجَعَلَ الصَّيْدَ وَالنَّعَمَ صِنْفَيْنِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُدْخِلَ الظِّبَاءَ وَالْبَقَرَ وَالْحُمُرَ الْوَحْشِيَّةَ فِيهِ لِيَعُمَّ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي الْإِحْلَالِ مَاذَا يَصْنَعُ بِصِنْفِ الصَّيْدِ الطَّائِرِ كُلِّهِ؟ فَالدَّلِيلُ الَّذِي أَحَلَّهُ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُحِلُّ الظِّبَاءِ وَالْبَقَرِ وَالْحُمُرِ الْوَحْشِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْآيَةِ. وَقَدْ يَنْتَهِي الْعِيُّ بِبَعْضِهِمْ إلَى أَنْ يَقُولَ: إنَّ الْأَنْعَامَ هِيَ الْإِبِلُ لِنِعْمَةِ أَخْفَافِهَا فِي الْوَطْءِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْحَافِرُ وَلَا الظِّلْفُ لِجَسَاوَتِهِ وَتَحَدُّدِهِ. وَيُقَالُ لَهُ: إنَّ الْأَنْعَامَ إنَّمَا سُمِّيَتْ بِهِ لِمَا يُتَنَعَّمُ بِهِ مِنْ لُحُومِهَا وَأَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إلَى حِينٍ. وَبِهَذِهِ الْآيَةِ كَانَ يَدْخُلُ صِنْفُ الْوَحْشِيِّ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا ذَاتُ أَشْعَارٍ مِنْ جِهَةِ أَنْ يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِيهِ حِسًّا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ مِنْهَا عُرْفًا.

مسألة معنى قوله تعالى إلا ما يتلى عليكم

فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ اللَّفْظَ يُحْمَلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْأَصْلِيَّةِ، فَيَدْخُلُ فِي هَذَا اللَّفْظُ فِي النَّحْلِ وَيَتَنَاوَلُهَا اللَّفْظُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْأَلْفَاظَ تُحْمَلُ عَلَى الْأَحْوَالِ الْمُعْتَادَةِ الْعُرْفِيَّةِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا؛ إذْ لَا يُعْتَادُ ذَلِكَ مِنْ أَوْبَارِهَا. وَهَا هُنَا انْتَهَى تَحْقِيقُ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمُخْتَصَرِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1]: قَالُوا: مِنْ قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وَقِيلَ مِنْ قَوْلِهِ: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} [المائدة: 1] وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِهِ فِي كُلِّ مُحَرَّمٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ: {إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1]. وَاَلَّذِي يُتْلَى هُوَ الْقُرْآنُ، لَيْسَ السُّنَّةَ. قُلْنَا: كُلُّ كِتَابٍ يُتْلَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} [العنكبوت: 48] وَكُلُّ سُنَّةٍ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهِيَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قِصَّةِ الْعَسِيفِ: «لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا غَنَمُك وَجَارِيَتُك فَرَدٌّ عَلَيْك، وَعَلَى ابْنِك جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ». وَلَيْسَ هَذَا فِي الْقُرْآنِ، وَلَكِنَّهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الَّذِي أَوْحَاهُ إلَى رَسُولِهِ عِلْمًا مِنْ كِتَابِهِ الْمَحْفُوظِ عِنْدَهُ. وَالدَّلِيلُ الثَّانِي: فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ؛ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ

مسألة تأخير البيان عن وقت لا يفتقر فيه إلى تعجيل الحاجة

وَالْمُسْتَوْشِمَات، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ، وَالْمُغَيِّرَاتِ لِخَلْقِ اللَّهِ». فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ، فَجَاءَتْ فَقَالَتْ: إنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّك لَعَنْت كَيْتَ وَكَيْتَ. فَقَالَ: وَمَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ أَلَيْسَ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ فَقَالَتْ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ مَا تَقُولُ. فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ. أَوَمَا قَرَأْتِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]؟ قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ. قَالَتْ: فَإِنِّي أَرَى أَهْلَك يَفْعَلُونَهُ. قَالَ: فَاذْهَبِي فَانْظُرِي، فَذَهَبَتْ فَنَظَرَتْ فَلَمْ تَرَ مِنْ حَاجَتِهَا شَيْئًا. فَقَالَ: لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ مَا جَامَعْتهَا. [مَسْأَلَة تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتٍ لَا يُفْتَقَرُ فِيهِ إلَى تَعْجِيلِ الْحَاجَةِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: يُحْتَمَلُ قَوْلُهُ: إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ الْآنَ، أَوْ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِيمَا بَعْدُ مِنْ مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتٍ لَا يُفْتَقَرُ فِيهِ إلَى تَعْجِيلِ الْحَاجَةِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ أُصُولِيَّةٌ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي الْمَحْصُولِ "، وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَبَاحَ لَنَا شَيْئًا وَحَرَّمَ عَلَيْنَا شَيْئًا اسْتِثْنَاءً مِنْهُ. فَأَمَّا الَّذِي أَبَاحَ لَنَا فَسَمَّاهُ [وَبَيَّنَهُ]. وَأَمَّا الَّذِي اسْتَثْنَاهُ فَوَعَدَ بِذِكْرِهِ فِي حِينِ الْإِبَاحَةِ، ثُمَّ بَيَّنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ عَلَى اخْتِلَافِ التَّأْوِيلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَأْخِيرٌ لِلْبَيَانِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} [المائدة: 1] فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ. الثَّانِي: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ الْوَحْشِيَّةِ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ.

مسألة تثنية الاستثناء في الجملة الواحدة

الثَّالِثُ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ إلَّا مَا كَانَ مِنْهَا وَحْشِيًّا فَإِنَّهُ صَيْدٌ لَا يَحِلُّ لَكُمْ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: فِي تَنْقِيحِهَا. أَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ مَعْنَاهُ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ وَالْأَخْفَشُ، وَقَالَا: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَهُوَ جَائِزٌ فِي نِظَامِ الْكَلَامِ وَإِعْرَابِهِ؛ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ إذْ لَا خِلَافَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إذَا كَانَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ فَإِنَّهُ حَالٌ؛ فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: " أَوْفُوا بِالْعُقُودِ لَا مُحِلِّينَ لِلصَّيْدِ فِي إحْرَامِكُمْ ". وَنَكْثُ الْعَهْدِ وَنَقْضُ الْعَقْدِ مُحَرَّمٌ، وَالْأَمْرُ بِالْوَفَاءِ مُسْتَمِرٌّ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَفِي كُلِّ حَالٍ. وَلَوْ اخْتَصَّ الْوَفَاءَ بِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ لَكَانَ مَا عَدَاهَا بِخِلَافٍ عَلَى رَأْيِ الْقَائِلِينَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ. وَذَلِكَ بَاطِلٌ أَوْ يَكُونُ مَسْكُوتًا عَنْهُ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْأَقَلَّ مِنْ أَحْوَالِ الْوَفَاءِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَهَذَا تَهْجِينٌ لِلْكَلَامِ وَتَحْقِيرٌ لِلْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: أُحِلَّتْ لَكُمْ الْوَحْشِيَّةُ، فَهُوَ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِيهِ تَخْصِيصَ بَعْضِ الْمُحَلَّلَاتِ، وَهُوَ تَخْصِيصٌ لِلْعُمُومِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ لَا سِيَّمَا عُمُومٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَمْلٌ لِلَفْظِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ عَلَى الْوَحْشِيَّةِ دُونَ الْإِنْسِيَّةِ، وَذَلِكَ تَفْسِيرٌ لِلَّفْظِ بِالْمَعْنَى التَّابِعِ لِمَعَانِيهِ الْمُخْتَلَفِ مِنْهَا فِيهِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ إلَّا مَا كَانَ مِنْهَا وَحْشِيًّا فَإِنَّهُ صَيْدٌ، وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ الصَّيْدُ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ. وَهَذَا أَشْبَهُهَا مَعْنًى، إلَّا أَنَّ نِظَامَ تَقْدِيرِهِ لَيْسَ بِجَارٍ عَلَى قَوَانِينِ الْعَرَبِيَّةِ فَإِنَّهُ أَضْمَرَ فِيهِ مَا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ [تَقْدِيرُهُ]: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ، غَيْرَ مُحِلِّينَ صَيْدَهَا وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، فَيَصِحُّ الْمَعْنَى، وَيَقِلُّ فُضُولُ الْكَلَامِ، وَيَجْرِي عَلَى قَانُونِ النَّحْوِ. [مَسْأَلَة تَثْنِيَةُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَة] وَفِيهَا مَسْأَلَةٌ بَدِيعَةٌ؛ وَهِيَ:

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: [مَسْأَلَةٌ بَدِيعَةٌ، تَثْنِيَةُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ]: وَهِيَ تَثْنِيَةُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ وَهِيَ تَرِدُ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَكَرَّرَ، وَيَكُونَ الثَّانِي مِنْ الْأَوَّلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 59] {إِلا امْرَأَتَهُ} [الحجر: 60]. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَمِيعًا مِنْ الْأَوَّلِ، كَقَوْلِهِ هَاهُنَا: إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ إلَّا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ مُحْرِمُونَ، فَقَوْلُهُ: {إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1] اسْتِثْنَاءٌ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَأَظْهَرْهُمَا، وَقَوْلُهُ: إلَّا الصَّيْدَ اسْتِثْنَاءٌ آخَرُ أَيْضًا مَعَهُ. وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ " الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: فِي تَمْثِيلٍ لِهَذَا التَّقْدِيرِ مِنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَذَلِكَ مَا رُوِيَ «أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ الْحَارِثَ بْنَ رِبْعِيٍّ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ وَأَنَا حِلٌّ عَلَى فَرَسٍ لِي، فَكُنْت أَرْقَى عَلَى الْجِبَالِ، فَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ إذْ رَأَيْت النَّاسَ مُشْرِفِينَ لِشَيْءٍ، فَذَهَبْت لِأَنْظُرَ، فَإِذَا هُوَ حِمَارٌ وَحْشِيٌّ، فَقُلْت لَهُمْ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: لَا نَدْرِي. فَقُلْت: هُوَ حِمَارٌ وَحْشِيٌّ. قَالُوا: هُوَ مَا رَأَيْت. وَكُنْت نَسِيت سَوْطِي. فَقُلْت لَهُمْ: نَاوِلُونِي سَوْطِي. فَقَالُوا: لَا نُعِينُكَ عَلَيْهِ، فَنَزَلْت وَأَخَذْته ثُمَّ صِرْت فِي أَثَرِهِ، فَلَمْ يَكُنْ إلَّا ذَاكَ حَتَّى عَقَرْته؛ فَأَتَيْت إلَيْهِمْ فَقُلْت: قُومُوا فَاحْتَمِلُوا. فَقَالُوا: لَا نَمَسُّهُ، فَحَمَلْته حَتَّى جِئْتُهُمْ بِهِ، فَأَبَى بَعْضُهُمْ، وَأَكَلَ بَعْضُهُمْ. قُلْت: أَنَا أَسْتَوْقِفُ لَكُمْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَدْرَكْته، فَحَدَّثْته الْحَدِيثَ، فَقَالَ لِي: أَبَقِيَ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟ قُلْت: نَعَمْ. قَالَ: فَكُلُوا فَهُوَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ». فَأُحِلَّ لَهُمْ الْحُمُرُ مُطْلَقًا إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ، إلَّا مَا صَادُوهُ وَهُمْ مُحْرِمُونَ مِنْهَا؛ وَمَا صَادَهُ غَيْرُهُمْ فَهُوَ حَلَالٌ لَهُمْ، فَإِنَّمَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْهُ مَا وَقَعَ إلَيْهِمْ بِصَيْدِهِمْ، إلَى تَفْصِيلٍ يَأْتِي بَيَانُهُ إذَا صِيدَ لَهُمْ، فَإِنْ حُرِّمَ فَإِنَّمَا هُوَ بِدَلِيلٍ آخَرَ غَيْرَ هَذِهِ الْآيَةِ.

مسألة جنين الناقة أو الشاة أو البقرة إذا ذكيت الأم

[مَسْأَلَة جَنِين النَّاقَة أَوْ الشَّاة أَوْ الْبَقَرَة إذَا ذُكِيَتْ الْأُمّ] الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ: مَضَى فِي سَرْدِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ قَالَ فِي جَنِينِ النَّاقَةِ أَوْ الشَّاةِ أَوْ الْبَقَرَةِ أَوْ نَحْوِهَا: إنَّهَا مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ الْمُحَلَّلَةِ. وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ حَلَالٌ بِكُلِّ حَالٍ؛ قَالَ الشَّافِعِيُّ. الثَّانِي: أَنَّهُ حَرَامٌ بِكُلِّ حَالٍ، إلَّا أَنْ يُذَكَّى؛ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. الثَّالِثُ: الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَقَلَّ وَنَبَتَ شَعْرُهُ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِضْعَةً كَالْكَبِدِ وَالطِّحَالِ؛ قَالَ مَالِكٌ. وَتَعَلَّقَ بَعْضُهُمْ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ: «ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ». وَلَمْ يَصِحَّ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَصَحَّحَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَاخْتَلَفُوا فِي ذِكْرِ " ذَكَاةِ " الثَّانِيَةِ، هَلْ هِيَ بِرَفْعِ التَّاءِ فَيَكُونُ الْأَوَّلُ الثَّانِيَ وَلَا يَفْتَقِرُ الْجَنِينُ إلَى ذَكَاةٍ، أَوْ هُوَ بِنَصْبِ التَّاءِ فَيَكُونُ الْأَوَّلُ غَيْرَ الثَّانِي، وَيَفْتَقِرُ إلَى الذَّكَاةِ. وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي الرِّسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ، وَبَيَّنَّا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ " أَنَّ الْمُعَوَّلَ فِيهِ عَلَى اعْتِبَارِ الْجَنِينِ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا، أَمْ يُعْتَبَرُ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْإِنْصَافِ " الْحَقَّ فِيهَا، وَأَنَّهُ فِي مَذْهَبِنَا بِاعْتِبَارِ ذَكَاةِ الْمُسْتَقْبَلِ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَنُشِيرُ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ] الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2]

مسألة قوله تعالى الشهر الحرام

فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى {شَعَائِرَ} [المائدة: 2]: وَزْنُهَا فَعَائِلُ، وَاحِدَتُهَا شَعِيرَةٌ؛ فِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْهَدْيُ. الثَّانِي: أَنَّهُ كُلُّ مُتَعَبَّدٍ؛ مِنْهَا الْحَرَامُ فِي قَوْلِ السُّدِّيِّ، وَمِنْهَا اجْتِنَابُ سَخَطِ اللَّهِ فِي قَوْلِ عَطَاءٍ. وَمِنْهَا مَنَاسِكُ الْحَجِّ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ. وَقَالَ عُلَمَاءُ النَّحْوِيِّينَ: هُوَ مِنْ أَشْعَرَ: أَيْ: أَعْلَمَ؛ وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّ فَعِيلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ فَعَلَ لَا مِنْ أَفْعَلَ، وَلَكِنَّهُ جَرَى عَلَى غَيْرِ فِعْلِهِ كَمَصْدَرِ جَرَى عَلَى غَيْرِ فِعْلِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي رِسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ. وَالصَّحِيحُ مِنْ الْأَقْوَالِ هُوَ الثَّانِي، وَأَفْسَدُهَا مَنْ قَالَ: إنَّهُ الْهَدْيُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَكَرَّرَ فَلَا مَعْنَى لِإِبْهَامِهِ وَالتَّصْرِيحِ بَعْدَ ذَلِكَ بِهِ. [مَسْأَلَةُ قَوْله تَعَالَى الشَّهْرَ الْحَرَامَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2]: قَدْ بَيَّنَّا فِي كُلِّ مُصَنَّفٍ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ تَأْتِي لِلْعَهْدِ وَتَأْتِي لِلْجِنْسِ؛ فَهَذِهِ لَامُ الْجِنْسِ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ يَأْتِي بَيَانُهَا مُفَصَّلَةً فِي سُورَةِ " بَرَاءَةٌ " إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَةُ حَقِيقَةُ الْهَدْيِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا الْهَدْيَ} [المائدة: 2] وَهِيَ كُلُّ حَيَوَانٍ يُهْدَى إلَى اللَّهِ فِي بَيْتِهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ عُمُومُهُ فِي كُلِّ مُهْدًى، كَانَ حَيَوَانًا أَوْ جَمَادًا. وَحَقِيقَةُ الْهَدْيِ كُلُّ مُعْطًى لَمْ يُذْكَرْ مَعَهُ عِوَضٌ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى إلَى الْجُمُعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ السَّادِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً»، وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: «فَكَأَنَّمَا أَهْدَى بَدَنَةً، وَكَأَنَّمَا

مسألة معنى القلائد

أَهْدَى بَيْضَةً» وَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ: ثَوْبِي هَدْيٌ أَنَّهُ يَبْعَثُ بِثَمَنِهِ إلَى مَكَّةَ فِي اخْتِلَافٍ يَأْتِي بَيَانُهُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى الْقَلَائِدُ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَأَمَّا الْقَلَائِدُ فَهِيَ كُلُّ مَا عُلِّقَ عَلَى أَسْنِمَةِ الْهَدَايَا عَلَامَةٌ عَلَى أَنَّهَا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، مِنْ نَعْلٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَهِيَ سُنَّةٌ إبْرَاهِيمِيَّةٌ بَقِيَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَقَرَّهَا الْإِسْلَامُ فِي الْحَجِّ. وَأَنْكَرَهَا أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ " إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2] يَعْنِي قَاصِدِينَ لَهُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَمَمْت كَذَا، أَيْ قَصَدْته، وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ قَصَدَهُ بِاسْمِ الْعِبَادَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهَا، كَالْكَافِرِ، وَهَذَا قَدْ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] فِي قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ تَخْصِيصٌ غَيْرُ نَسْخٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ أَمَرَ بِقَتْلِ الْكُفَّارِ قَدْ بَقِيَتْ الْحُرْمَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ. [مَسْأَلَة الصَّيْدَ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]: وَكَانَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ الصَّيْدَ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} [المائدة: 1] ثُمَّ أَبَاحَهُ بَعْدَ الْإِحْلَالِ، وَهُوَ زِيَادَةُ بَيَانٍ؛ لِأَنَّ رَبْطَهُ التَّحْرِيمَ بِالْإِحْرَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا زَالَ الْإِحْرَامُ زَالَ التَّحْرِيمُ، وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى التَّحْرِيمُ لِعِلَّةٍ أُخْرَى غَيْرِ الْإِحْرَامِ؛ فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَدَمَ الْعِلَّةِ بِمَا صَرَّحَ بِهِ مِنْ الْإِبَاحَةِ؛ فَكَانَ نَصًّا فِي مَوْضِعِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ اتِّفَاقًا، وَقَدْ تَوَهَّمَ قَوْمٌ أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ إنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ تَقْدِيمِ الْحَظْرِ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي " أُصُولِ الْفِقْهِ ".

مسألة العدوان على آخرين

[مَسْأَلَة الْعُدْوَانِ عَلَى آخَرِينَ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} [المائدة: 2] عَلَى الْعُدْوَانِ عَلَى آخَرِينَ، نَزَلَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي «الْحَكَمِ رَجُلٍ مِنْ رَبِيعَةَ، قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: بِمَ تَأْمُرُنَا؟ فَسَمِعَ مِنْهُ. وَقَالَ: أَرْجِعُ إلَى قَوْمِي فَأُخْبِرُهُمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَقَدْ جَاءَ بِوَجْهِ كَافِرٍ وَرَجَعَ بِقَفَا غَادِرٍ. وَرَجَعَ فَأَغَارَ عَلَى سَرْحٍ مِنْ سُرُوحِ الْمَدِينَةِ، فَانْطَلَقَ بِهِ، وَقَدِمَ بِتِجَارَةٍ أَيَّامَ الْحَجِّ يُرِيدُ مَكَّةَ، فَأَرَادَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَخْرُجُوا إلَيْهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ» أَيْ لَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ بِقَطْعِ سُبُلِ الْحَجِّ، وَكُونُوا مِمَّنْ يُعِينُ فِي التَّقْوَى، لَا فِي التَّعَدِّي، وَهَذَا مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ مَنْسُوخٌ، وَظَاهِرُ عُمُومِهَا بَاقٍ فِي كُلِّ حَالٍ، وَمَعَ كُلِّ أَحَدٍ، فَلَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يَحْمِلَهُ بُغْضُ آخَرَ عَلَى الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ ظَالِمًا، فَالْعِقَابُ مَعْلُومٌ عَلَى قَدْرِ الظُّلْمِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ إنْ ظَلَمَ غَيْرَهُ؛ فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ أَحَدٍ عَنْ أَحَدٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]. وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ] ِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3]. فِيهَا إحْدَى وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

مسألة الدابة المتندية إذا رميت برمح أو سيف فماتت هل يكون رميها ذكاة أم لا

وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] فَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ " وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَالْمُنْخَنِقَةُ} [المائدة: 3]: فَهِيَ الَّتِي تُخْنَقُ بِحَبْلٍ بِقَصْدٍ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ، أَوْ بِغَيْرِ حَبْلٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمَوْقُوذَةُ: الَّتِي تُقْتَلُ ضَرْبًا بِالْخَشَبِ أَوْ بِالْحَجَرِ، وَمِنْهُ الْمَقْتُولَةُ بِقَوْسِ الْبُنْدُقِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمُتَرَدِّيَةُ: وَهِيَ السَّاقِطَةُ مِنْ جَبَلٍ أَوْ بِئْرٍ. [مَسْأَلَة الدَّابَّةُ الْمُتَنَدِّيَةُ إذَا رُمِيَتْ بِرُمْحٍ أَوْ سَيْفٍ فَمَاتَتْ هَلْ يَكُونُ رَمْيُهَا ذَكَاةً أَمْ لَا] وَأَمَّا الْمُتَنَدِّيَةُ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: [الْمُتَنَدِّيَةُ]: فَيُقَالُ: نَدَّتْ الدَّابَّةُ إذَا انْفَلَتَتْ مِنْ وَثَاقٍ فَنَدَّتْ فَخَرَجَ وَرَاءَهَا فَرُمِيَتْ بِرُمْحٍ أَوْ سَيْفٍ فَمَاتَتْ، فَهَلْ يَكُونُ رَمْيُهَا ذَكَاةً أَمْ لَا؟ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ؛ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ يَكُونُ ذَلِكَ ذَكَاةً فِيهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ حَبِيبٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يُذَكَّى بِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ مَالِكٍ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ «رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذِي الْحُلَيْفَةِ، وَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ، فَأَصَبْنَا إبِلًا وَغَنَمًا، فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ فَطَلَبُوهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، فَأَهْوَى إلَيْهِ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ اللَّهُ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ لِهَذِهِ الْإِبِلِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا». فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: إنَّ تَسْلِيطَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى هَذَا الْفِعْلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ ذَكَاةٌ لَهُ. وَقَالَ الْآخَرُونَ: إنَّمَا هُوَ تَسْلِيطٌ عَلَى حَبْسِهِ لَا عَلَى ذَكَاتِهِ فَإِنَّهُ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ فِي

مسألة النطيحة وهي الشاة تنطحها الأخرى بقرونها

غَالِبِ الْأَحْوَالِ، فَلَا يُرَاعَى النَّادِرُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الصَّيْدِ حَسْبَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ رَوَى «أَبُو الْعَشْرَاءِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَمَا تَكُونُ الذَّكَاةُ إلَّا فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ؟ قَالَ: لَوْ طَعَنْت فَخِذَهَا لَأَجْزَأَ عَنْك». قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: هَذَا فِي الضَّرُورَةِ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَعْجَبَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي دَاوُد، وَأَشَارَ عَلَى مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ الْحُفَّاظِ أَنْ يَكْتُبَهُ. [مَسْأَلَة النَّطِيحَةُ وَهِيَ الشَّاة تَنْطَحُهَا الْأُخْرَى بِقُرُونِهَا] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ النَّطِيحَةُ: وَهِيَ الشَّاةُ تَنْطَحُهَا الْأُخْرَى بِقُرُونِهَا. وَقَرَأَ أَبُو مَيْسَرَةَ: الْمَنْطُوحَةُ، وَهِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} [المائدة: 3] وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إذَا أَكَلَ السَّبُعُ شَاةً أَكَلُوا بَقِيَّتَهَا؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْله تَعَالَى: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مَقْطُوعٌ عَمَّا قَبْلَهُ غَيْرُ عَائِدٍ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَذْكُورَاتِ، وَذَلِكَ مَشْهُورٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، يَجْعَلُونَ إلَّا بِمَعْنَى لَكِنْ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً} [النساء: 92]. مَعْنَاهُ: لَكِنْ إنْ قَتَلَهُ خَطَأً، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامُنَا عَلَيْهِ، وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ لِأَبِي خِرَاشٍ الْهُذَلِيِّ: أَمْسَى سَقَامٌ خَلَاءً لَا أَنِيسَ بِهِ ... إلَّا السِّبَاعُ وَمَرُّ الرِّيحِ بِالْغُرَفِ

أَرَادَ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِهِ السِّبَاعُ، أَوْ لَكِنْ بِهِ السِّبَاعُ. وَسَقَامٌ: وَادٍ لِهُذَيْلٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَبَلْدَةٌ لَيْسَ بِهَا أَنِيسٌ ... إلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ وَقَالَ النَّابِغَةُ: وَقَفْت بِهَا أُصَيْلَانًا أُسَائِلُهَا ... عَيَّتْ جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ إلَّا الْأَوَارِيَ لَأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا ... وَالنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ وَمِنْ أَبْدَعُهُ قَوْلُ جَرِيرٍ: مِنْ الْبِيضِ لَمْ تَظْعَنْ بَعِيدًا وَلَمْ تَطَأْ ... مِنْ الْأَرْضِ إلَّا ذَيْلَ بُرْدٍ مُرَحَّلِ كَأَنَّهُ قَالَ: لَمْ تَطَأْ عَلَى الْأَرْضِ إلَّا أَنْ تَطَأَ ذَيْلَ بُرْدٍ مُرَحَّلٍ. أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ كُلِّهِ أَبُو الْحَسَنِ الطُّيُورِيُّ عَنْ الْبَرْمَكِيِّ، وَالْقَزْوِينِيِّ عَنْ أَبِي عُمَرَ بْنِ حَيْوَةَ عَنْ أَبِي عُمَرَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ، وَمِنْ أَصْلِهِ نَقَلْته. الثَّانِي: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ الِاسْتِثْنَاءِ، وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ إلَى مَا بَعْدَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] مِنْ الْمُنْخَنِقَةُ إلَى مَا أَكَلَهُ السَّبْعُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَرْجِعُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى التَّحْرِيمِ لَا إلَى الْمُحَرَّمِ، وَيَبْقَى عَلَى ظَاهِرِهِ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: فِي الْمُخْتَارِ: وَذَلِكَ أَنَّا نَقُولُ: إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ لَا يُنْكَرُ فِي اللُّغَةِ وَلَا [فِي الشَّرِيعَةِ] فِي

مسألة إذا أدركت ذكاة الموقوذة وهي تحرك يدا أو رجلا

الْقُرْآنِ وَلَا فِي الْحَدِيثِ حَسْبَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَخْفَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُتَّصِلَ هُوَ أَصْلُ اللُّغَةِ، وَجُمْهُورُ الْكَلَامِ، وَلَا يُرْجَعُ إلَى الْمُنْقَطِعِ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ الْمُتَّصِلُ. وَتَعَذُّرُ الْمُتَّصِلِ يَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ: إمَّا عَقْلِيًّا وَإِمَّا شَرْعِيًّا؛ فَتَعَذُّرُ الِاتِّصَالِ الْعَقْلِيِّ هُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْأَمْثِلَةِ قَبْلَ هَذَا فِي الْأَوَّلِ. وَأَمَّا التَّعَذُّرُ الشَّرْعِيُّ فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ} [يونس: 98]. فَإِنَّ قَوْلَهُ: {إِلا قَوْمَ يُونُسَ} [يونس: 98] لَيْسَ رَفْعًا لِمُتَقَدِّمٍ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى لَكِنْ. وَقَوْلَهُ: {طه - مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 1 - 2] {إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه: 3]. وَقَوْلَهُ: {إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 10] {إِلا مَنْ ظَلَمَ} [النمل: 11]. عُدْنَا إلَى قَوْلِهِ: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]، قُلْنَا: فَأَمَّا الَّذِي يُمْنَعُ أَنْ يَعُودَ إلَى مَا يُمْكِنُ إعَادَتُهُ إلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَالْمُنْخَنِقَةُ} [المائدة: 3] إلَى آخِرِهَا، [مَسْأَلَة إذَا أَدْرَكْت ذَكَاةَ الْمَوْقُوذَةِ وَهِيَ تُحَرِّكُ يَدًا أَوْ رِجْلًا] كَمَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " إذَا أَدْرَكْت ذَكَاةَ الْمَوْقُوذَةِ وَهِيَ تُحَرِّكُ يَدًا أَوْ رِجْلًا فَكُلْهَا "، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ؛ وَهُوَ خَالٍ عَنْ مَانِعٍ شَرْعِيٍّ يَرُدُّهُ؛ بَلْ قَدْ أَحَلَّهُ الشَّرْعُ؛ فَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ كَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا بِالْجَبَلِ الَّذِي بِالسُّوقِ، وَهُوَ سَلْعٌ، فَأُصِيبَتْ مِنْهَا شَاةٌ فَكَسَرَتْ حَجَرًا فَذَبَحَتْهَا، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَ بِأَكْلِهَا». وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: «أَنَّ ذِئْبًا نَيَّبَ شَاةً فَذَبَحُوهَا بِمَرْوَةِ، فَرَخَّصَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَكْلِهَا».

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ؛ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ إلَّا مَا كَانَ بِذَكَاةٍ صَحِيحَةٍ. وَاَلَّذِي فِي الْمُوَطَّأِ عَنْهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ ذَبَحَهَا وَنَفَسُهَا يَجْرِي وَهِيَ تَطْرِفُ فَلْيَأْكُلْهَا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِهِ الَّذِي كَتَبَهُ بِيَدِهِ، وَقَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ مِنْ كُلِّ بَلَدٍ عُمْرَهُ، فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الرِّوَايَاتِ الْغَابِرَةِ، لَا سِيَّمَا وَالذَّكَاةُ عِبَادَةٌ كَلَّفَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ لِلْحِكْمَةِ الَّتِي [يَأْتِي] بَيَانُهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذَا هُوَ أَحَدُ مُتَعَلِّقَاتِ الذَّكَاةِ، وَهُوَ الْقَوْلُ فِي الذَّكَاةِ، وَهُوَ يَتَعَلَّقُ بِأَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ: الْمُذَكِّي، وَالْمُذَكَّى، وَالْآلَةِ، وَالتَّذْكِيَةِ نَفْسِهَا. فَأَمَّا الْمُذَكَّى فَيَتَعَلَّقُ الْقَوْلُ فِيهِ بِأَنْوَاعِ الْمُحَلَّلَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَمَّا الْمُذَكِّي: وَهُوَ الذَّابِحُ فَبَيَانُهُ فِيهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَمَّا التَّذْكِيَةُ نَفْسُهَا وَالْآلَةُ فَهَذَا مَوْضِعُ ذَلِكَ: الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: فِي التَّذْكِيَةِ: وَهِيَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ التَّمَامِ، وَمِنْهُ ذُكَاءُ السِّنِّ، وَيُقَالُ: ذَكَّيْتُ النَّارُ إذَا أَتْمَمْتُ اشْتِعَالَهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا بُدَّ أَنْ تَبْقَى فِي الْمُذَكَّاةِ بَقِيَّةٌ تَشْخَبُ مَعَهَا الْأَوْدَاجُ وَيَضْطَرِبُ اضْطِرَابَ الْمَذْبُوحِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ الَّذِي صَرَّحَ فِيهِ بِأَنَّ الشَّاةَ أَدْرَكَهَا الْمَوْتُ، وَهَذَا يَمْنَعُ مِنْ شَخْبِ أَوْدَاجِهَا، وَإِنَّمَا أَصَابَ الْغَرَضَ مَالِكٌ فِي قَوْلِهِ: إذَا ذَبَحَهَا وَنَفَسُهَا تَجْرِي وَهِيَ تَضْطَرِبُ إشَارَةً إلَى أَنَّهَا وُجِدَ فِيهَا قَتْلٌ صَارَ بِاسْمِ اللَّهِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهَا ذَكَاةٌ، أَيْ

تَمَامٌ يُحِلُّهَا وَتَطْهِيرٌ لَهَا، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ فِي الْأَرْضِ النَّجِسَةِ: «ذَكَاةُ الْأَرْضِ يُبْسُهَا». وَهِيَ فِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ إنْهَارِ الدَّمِ، وَفَرْيِ الْأَوْدَاجِ فِي الْمَذْبُوحِ، وَالنَّحْرِ فِي الْمَنْحُورِ، وَالْعَقْرِ فِي غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ؛ مَقْرُونًا ذَلِكَ بِنِيَّةِ الْقَصْدِ إلَيْهِ. وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إنَّا لَاقُو الْعَدُوِّ غَدًا، وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى، أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ؟ فَقَالَ: مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوهُ، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ. وَسَأُخْبِرُكُمْ: أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ». وَرَوَى النَّسَائِيّ، وَأَبُو دَاوُد، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ قَالَ لَهُ: أَرَأَيْت إنْ أَصَابَ أَحَدُنَا صَيْدًا وَلَيْسَ مَعَهُ سِكِّينٌ، أَنَذْبَحُ بِالْمَرْوَةِ وَشِقَّةِ الْعَصَا؟ قَالَ: انْهَرْ الدَّمَ بِمَا شِئْت، وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى». وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ جَارِيَةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ.

مسألة لا تصح الذكاة إلا بنية

وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا ذُبِحَتْ بِمَرْوَةَ، وَأَجَازَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ذِكْرُ الذَّكَاةِ بِغَيْرِ إنْهَارِ الدَّمِ، فَأَمَّا فَرْيُ الْأَوْدَاجِ وَقَطْعُ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ فَلَمْ يَصِحَّ فِيهِ شَيْءٌ. وَقَالَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ: لَا تَصِحُّ الذَّكَاةُ إلَّا بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْوَدَجَيْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَصِحُّ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ وَلَا يُحْتَاجُ إلَى الْوَدَجَيْنِ بِتَفْصِيلٍ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسَائِلِ. وَتَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا بِحَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «افْرِ الْوَدَجَيْنِ وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ». وَلَمْ يَصِحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ لَا لَنَا وَلَا لَهُمْ؛ وَإِنَّمَا الْمُعَوَّلُ عَلَى الْمَعْنَى؛ فَالشَّافِعِيُّ اعْتَبَرَ قَطْعَ مَجْرَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الَّذِي لَا يَكُونُ مَعَهُ حَيَاةٌ، وَهُوَ الْغَرَضُ مِنْ الْمَوْتِ. وَعُلَمَاؤُنَا اعْتَبَرُوا الْمَوْتَ عَلَى وَجْهٍ يَطِيبُ مَعَهُ اللَّحْمُ، وَيَفْتَرِقُ فِيهِ الْحَلَالُ وَهُوَ اللَّحْمُ، مِنْ الْحَرَامِ، وَهُوَ الدَّمُ بِقَطْعِ الْأَوْدَاجِ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعَلَيْهِ يَدُلُّ صَحِيحُ الْحَدِيثِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ». وَهَذَا بَيِّنٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَة لَا تَصِحُّ الذَّكَاةُ إلَّا بِنِيَّةٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: لَا تَصِحُّ الذَّكَاةُ إلَّا بِنِيَّةٍ: وَلِذَلِكَ قُلْنَا: لَا تَصِحُّ مِنْ الْمَجْنُونِ وَمَنْ لَا يَعْقِلُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَهَا مِنْ الْمَجُوسِيِّ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ النِّيَّةِ، وَلَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ الْقَصْدُ لَمْ يُبَالَ مِمَّنْ وَقَعَتْ، وَسَنُكْمِلُ الْقَوْلَ فِيهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. [مَسْأَلَة ذَبَحَهَا مِنْ الْقَفَا ثُمَّ اسْتَوْفَى الْقَطْع وَأَنْهَرَ الدَّمَ وَقَطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْوَدَجَيْنِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: وَلَوْ ذَبَحَهَا مِنْ الْقَفَا، ثُمَّ اسْتَوْفَى الْقَطْعَ، وَأَنْهَرَ الدَّمَ، وَقَطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْوَدَجَيْنِ، لَمْ تُؤْكَلْ عِنْدَ عُلَمَائِنَا.

مسألة الذبح بالقصب والحجر

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُؤْكَلُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَدْ حَصَلَ، وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ نُحَقِّقُهُ لَكُمْ؛ وَهُوَ أَنَّ الذَّكَاةَ وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِهَا إنْهَارَ الدَّمِ، وَلَكِنْ فِيهَا ضَرْبٌ مِنْ التَّعَبُّدِ وَالتَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ؛ لِأَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كَانَتْ تَتَقَرَّبُ بِذَلِكَ لِأَصْنَامِهَا وَأَنْصَابِهَا، وَتُهِلُّ لِغَيْرِ اللَّهِ فِيهَا، وَتَجْعَلُهَا قُرْبَتَهَا وَعِبَادَتَهَا، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِرَدِّهَا إلَيْهِ وَالتَّعَبُّدِ بِهَا لَهُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لَهَا نِيَّةٌ وَمَحَلٌّ مَخْصُوصٌ. وَقَدْ ذَبَحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَلْقِ، وَنَحَرَ فِي اللَّبَّةِ؛ وَقَالَ: «إنَّمَا الذَّكَاةُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ»، فَبَيَّنَ مَحَلَّهَا، وَقَالَ مُبَيِّنًا لِفَائِدَتِهَا: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكُلْ». فَإِذَا أُهْمِلَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَقَعْ بِنِيَّةٍ وَلَا شَرْطٍ وَلَا صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ زَالَ مِنْهَا حَظُّ التَّعَبُّدِ. [مَسْأَلَة الذَّبْحُ بِالْقَصَبِ وَالْحَجَرِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: فِي الْآلَةِ: وَقَدْ بَيَّنَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي قَوْلِهِ: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ». وَتَجْوِيزُهُ الذَّبْحُ بِالْقَصَبِ، وَالْحَجَرِ إذَا وُجِدَ ذَلِكَ بِصِفَةِ الْحِدَةِ يَقْطَعُ وَيُرِيحُ الذَّبِيحَةَ، وَلَا يَكُونُ مِعْرَاضًا يَخْنُقُ وَلَا يَقْطَعُ، أَوْ يَجْرَحُ وَلَا يَفْصِلُ؛ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُؤْكَلْ. [مَسْأَلَة الذَّبْح بِالسِّنِّ وَالظُّفْرِ] وَأَمَّا السِّنُّ وَالظُّفُرُ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: يَجُوزُ بِالْعَظْمِ؛ قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ بِالْعَظْمِ وَالسِّنِّ؛ قَالَهُ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. الثَّالِثُ: إنْ كَانَا مُرَكَّبَيْنِ لَمْ يُذْبَحْ بِهِمَا، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَصِلًا ذُبِحَ بِهِمَا؛ قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ [وَأَبُو حَنِيفَةَ]. فَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَأَخَذَ بِمُطْلَقِ النَّهْيِ، وَجَعَلَهُ عَامًّا فِي حَالِ الِانْفِصَالِ وَالِاتِّصَالِ، وَأَمَّا ابْنُ حَبِيبٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ فَأَخَذَا بِالْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا كَانَا مُتَّصِلَيْنِ كَانَ الذَّبْحُ بِهِمَا

مسألة تذكية المريضة

خَنْقًا، وَأَمَّا إذَا كَانَا مُنْفَصِلَيْنِ كَانَا بِمَنْزِلَةِ الْحَجَرِ وَالْقَصَبِ، وَهَذَا أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، كَمَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَوْلَى بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الذَّكَاةَ عِنْدَنَا عِبَادَةٌ، فَكَانَتْ بِاتِّبَاعِ النَّصِّ فِي الْآلَةِ أَوْلَى، وَعِنْدَهُ أَنَّهَا مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى، فَكَانَ بِإِنْهَارِ الدَّمِ بِكُلِّ شَيْءٍ أَوْلَى، وَلَكِنْ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا نَصَّ عَلَى السِّنِّ وَالظُّفُرِ وَقَفَ الشَّافِعِيُّ عِنْدَهُ وَقْفَةَ قَاطِعٍ لِلنَّظَرِ حِينَ قَطَعَ الشَّرْعُ بِهِ عَنْهُ. وَرَأَى عُلَمَاؤُنَا أَنَّ النَّهْيَ عَنْ السِّنِّ وَالظُّفُرِ، إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ أَنَّ مَنْ كَانَ يَفْعَلُهُ لَمْ يُبَالِ أَنْ تُخْلَطَ الذَّكَاةُ بِالْخَنْقِ، فَإِذَا كَانَتْ عَلَى يَدَيْ مَنْ يَفْصِلُهُمَا جَازَ ذَلِكَ إذَا انْفَصَلَا. [مَسْأَلَة تَذْكِيَة الْمَرِيضَة] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: أَطْلَقَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى الْمَرِيضَةِ أَنَّ الْمَذْهَبَ جَوَازُ تَذْكِيَتِهَا وَلَوْ أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَوْتِ إذَا كَانَتْ فِيهَا بَقِيَّةُ حَيَاةٍ. وَلَيْتَ شِعْرِي أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ بَقِيَّةِ حَيَاةٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ بَقِيَّةِ حَيَاةٍ مِنْ سَبْعٍ لَوْ اتَّسَقَ النَّظَرُ وَسَلِمَتْ عَنْ الشَّبَهِ الْفِكَرُ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْمَسَائِلِ. [مَسْأَلَة الِاسْتِثْنَاء يَرْجِع إلَى التَّحْرِيمِ لَا إلَى الْمُحَرَّمِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُمْ: إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَرْجِعُ إلَى التَّحْرِيمِ لَا إلَى الْمُحَرَّمِ، وَهُوَ كَلَامُ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ مَا التَّحْرِيمُ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ التَّحْرِيمَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ شَرَحْنَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الْأَحْكَامَ لَيْسَتْ بِصِفَاتٍ لِلْأَعْيَانِ، وَإِنَّمَا هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَلَيْسَ فِي الْقَوْلِ اسْتِثْنَاءٌ، إنَّمَا الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْمَقُولِ [فِيهِ] وَهُوَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ.

مسألة معنى قوله تعالى وأن تستقسموا بالأزلام

[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ} [المائدة: 3] مَعْنَاهُ: تَطْلُبُوا مَا قُسِمَ لَكُمْ، وَجَعْلُهُ مِنْ حُظُوظِكُمْ وَآمَالِكُمْ وَمَنَافِعِكُمْ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ فِسْقٌ مِمَّنْ فَعَلَهُ فَإِنَّهُ تَعَرُّضٌ لِعِلْمِ الْغَيْبِ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلْغَيْبِ وَلَا يَطْلُبُهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ رَفَعَهُ بَعْدَ نَبِيِّهِ إلَّا فِي الرُّؤْيَا. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يَجُوزُ طَلَبُ ذَلِكَ فِي الْمُصْحَفِ. قُلْنَا: لَا يَجُوزُ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ الْمُصْحَفُ لِيُعْلَمَ بِهِ الْغَيْبُ؛ إنَّمَا بُيِّنَتْ آيَاتُهُ، وَرُسِمَتْ كَلِمَاتُهُ لِيُمْنَعَ عَنْ الْغَيْبِ؛ فَلَا تَشْتَغِلُوا بِهِ، وَلَا يَتَعَرَّضْ أَحَدُكُمْ لَهُ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: فَإِنْ قِيلَ: فَالْفَأْلُ وَالزَّجْرُ كَيْفَ حَالُهُمَا عِنْدَك؟ قُلْنَا: أَمَّا الْفَأْلُ فَمُسْتَحْسَنٌ بِاتِّفَاقٍ. وَأَمَّا الزَّجْرُ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ؛ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْفَأْلَ فِيمَا يَحْسُنُ، وَالزَّجْرُ فِيمَا يُكْرَهُ. وَإِنَّمَا نَهَى الشَّارِعُ عَنْ الزَّجْرِ لِئَلَّا تَمْرَضَ بِهِ النَّفْسُ وَيَدْخُلَ عَلَى الْقَلْبِ مِنْهُ الْهَمُّ، وَإِلَّا فَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ [فِي الشَّرْعِ] عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ حَيْثُ وَرَدَ ذِكْرُهُ فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ: الْأَزْلَامِ. كَانَتْ قِدَاحًا لِقَوْمٍ وَحِجَارَةً لِآخَرِينَ، وَقَرَاطِيسَ لِأُنَاسٍ، يَكُونُ أَحَدُهَا غُفْلًا، وَفِي الثَّانِي " افْعَلْ " أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ، وَفِي الثَّالِثِ " لَا تَفْعَلْ " أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ، ثُمَّ يَخْلِطُهَا فِي جَعْبَةٍ أَوْ تَحْتَهُ ثُمَّ يُخْرِجُهَا مَخْلُوطَةً مَجْهُولَةً، فَإِنْ خَرَجَ الْغُفْلُ أَعَادَ الضَّرْبَ حَتَّى يَخْرُجَ لَهُ " افْعَلْ " أَوْ " لَا تَفْعَلْ " وَذَلِكَ بِحَضْرَةِ أَصْنَامِهِمْ؛ فَيَمْتَثِلُونَ مَا يَخْرُجُ لَهُمْ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ ذَلِكَ هِدَايَةٌ مِنْ الصَّنَمِ لِمَطْلَبِهِمْ. وَكَذَا رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ كَمَا سَرَدْنَاهُ لَكُمْ.

مسألة معنى قوله تعالى فمن اضطر في مخمصة

[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَمَنْ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} [المائدة: 3] وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. [الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى يَسْأَلُونَك مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ] ُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [المائدة: 4]. فِيهَا خَمْسَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] رَوَى أَبُو رَافِعٍ قَالَ: «جَاءَ جِبْرِيلُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِ فَأَذِنَ لَهُ، وَقَالَ: قَدْ أَذِنَّا لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: أَجَلْ، وَلَكِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ، قَالَ أَبُو رَافِعٍ: فَأَمَرَ أَنْ نَقْتُلَ الْكِلَابَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَتَلْت حَتَّى انْتَهَيْت إلَى امْرَأَةٍ عِنْدَهَا كَلْبٌ يَنْبَحُ عَلَيْهَا، فَتَرَكْته وَجِئْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرْته، فَأَمَرَنِي فَرَجَعْت إلَى الْكَلْبِ فَقَتَلْته، فَجَاءُوا فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ مَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي أَمَرْت بِقَتْلِهَا، فَسَكَتَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ». الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْله تَعَالَى: {الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] وَهِيَ ضِدُّ الْخَبِيثَاتِ، وَقَدْ أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالطَّيِّبُ يَنْطَلِقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا يُلَائِمُ النَّفْسَ وَيُلِذُّهَا. وَالثَّانِي: مَا أَحَلَّ اللَّهُ. وَالْخَبِيثُ: ضِدُّهُ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] قِيلَ: مَعْنَاهُ الْكَوَاسِبُ، يُقَالُ: جَرَحَ إذَا كَسَبَ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60]

فَكُلُّ كَاسِبٍ جَارِحٌ إذَا كَسَبَ كَيْفَمَا كَانَ، وَمِمَّنْ كَانَ، إلَّا أَنَّ هَاهُنَا نُكْتَةً، وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4]. فَنَحْنُ فَرِيقٌ وَالطَّيِّبَاتُ فَرِيقٌ، وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ فَرِيقٌ غَيْرُ الِاثْنَيْنِ، وَذَلِكَ مِنْ الْبَهَائِمِ الَّتِي يَعْلَمُهَا بَنُو آدَمَ، وَقَدْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ مَعْلُومَةً وَهِيَ الْكِلَابُ الْمُعَلَّمَةُ؛ فَأَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُمْ فِي أَكْلِ مَا صِيدَ بِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فَإِنْ قِيلَ: فَمَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ تَحْقِيقًا؟ قُلْنَا: يُبَيِّنُهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ؛ أَمَّا ظَاهِرُ الْقُرْآنِ فَقَوْلُهُ: {مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4]، كَلَّبَ الرَّجُلُ وَأَكْلَبَ إذَا اقْتَنَى كَلْبًا. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ لِجَمِيعِ الْأَئِمَّةِ؛ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا لَيْسَ بِكَلْبِ مَاشِيَةٍ أَوْ صَيْدٍ نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ». وَالضَّارِي: هُوَ الَّذِي ضَرَّى الصَّيْدَ فِي اللُّغَةِ. وَرَوَى جَمِيعُهُمْ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنِّي أُرْسِلُ الْكِلَابَ الْمُعَلَّمَةَ فَيُمْسِكْنَ عَلَيَّ، وَأَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى. فَقَالَ: إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكَ عَلَيْك؛ فَإِنَّ ذَكَاتَهُ أَخْذُهُ وَإِنْ قَتَلَ، مَا لَمْ يُشْرِكْهُ كَلْبٌ آخَرُ. قَالَ: وَإِنْ أَدْرَكْته حَيًّا فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ وَجَدْت مَعَ كَلْبِك كَلْبًا غَيْرَهُ وَقَدْ قَتَلَ فَلَا تَأْكُلْ مِنْهُ؛ فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَيُّهُمَا قَتَلَهُ». وَعِنْدَ جَمِيعِهِمْ: «فَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ».

مسألة ركن التعليم في الكلب المعلم

وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ أَنَّهُ قَالَ: «وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ؟ قَالَ: وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ». وَرَوَى جَمِيعُهُمْ عَنْهُ نَحْوَ الْأَوَّلِ عَنْ عَدِيٍّ. وَفِيهِ: «فَإِنْ صِدْت بِكَلْبٍ غَيْرِ مُعَلَّمٍ فَأَدْرَكْت ذَكَاتَهُ فَكُلْ». فَقَدْ فَسَّرَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ التَّكْلِيبَ وَالتَّعْلِيمَ، وَهِيَ: [مَسْأَلَة رُكْنُ التَّعْلِيمِ فِي الْكَلْب الْمُعَلَّم] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: «إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك الْمُعَلَّمَ، وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكَ عَلَيْك». وَالْمُعَلَّمُ: هُوَ الَّذِي إذَا أَشْلَيْتَهُ انْشَلَى، وَإِذَا زَجَرْته انْزَجَرَ، فَهَذَا رُكْنُ التَّعْلِيمِ، وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي الْمَسَائِلِ. فَلَوْ اسْتَرْسَلَ عَلَى الصَّيْدِ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ أَغْرَاهُ صَاحِبُهُ فَفِيهَا رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا: يُؤْكَلُ بِهِ؛ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَالثَّانِيَةُ: لَا يُؤْكَلُ؛ وَالصَّحِيحُ جَوَازُ أَكْلِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَثَّرَ فِيهِ الِانْشِلَاءُ وَانْزَجَرَ عِنْدَ الِانْزِجَارِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ ضَعِيفٌ. [مَسْأَلَة النِّيَّةُ شَرْطٌ فِي الصَّيْدِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: النِّيَّةُ شَرْطٌ فِي الصَّيْدِ: لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك الْمُعَلَّمَ، وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ». فَاعْتَبَرَ الِاسْتِرْسَالَ مِنْهُ وَالذِّكْرَ؛ وَلِذَلِكَ قُلْنَا: إنَّهُ إذَا اسْتَرْسَلَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ أَغْرَاهُ فَغَرِيَ فِي سَيْرِهِ: إنَّهَا نِيَّةٌ أَثَّرَتْ فِي الْكَلْبِ، فَإِنَّهُ عَادَ إلَى رَأْيِ صَاحِبِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ خَرَجَ لِنَفْسِهِ. [مَسْأَلَة إذَا أَكَلَ الْكَلْبَ الصَّيْد] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: إنْ أَكَلَ الْكَلْبَ: فَفِيهَا رِوَايَتَانِ: أَحَدَاهُمَا: أَنَّهَا لَا تُؤْكَلُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.

مسألة صيد الكلب الأسود

وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مِثْلُهُ، وَالثَّانِي: يُؤْكَلُ. وَالرِّوَايَتَانِ مَبْنِيَّتَانِ عَلَى حَدِيثَيْ عَدِيٍّ وَأَبِي ثَعْلَبَةَ. وَحَدِيثُ عَدِيٍّ أَصَحُّ، وَهُوَ الَّذِي يَعْضُدُهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]. وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ؛ مِنْهَا أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ عَدِيٍّ يُحْمَلُ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِيهِ: «فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ». فَجَعَلَهُ خَوْفًا، وَذَلِكَ لَا يَسْتَقِلُّ بِالتَّحْرِيمِ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: الْأَصْلُ فِي الْحَيَوَانِ التَّحْرِيمُ، لَا يَحِلُّ إلَّا بِالذَّكَاةِ وَالصَّيْدُ، وَهُوَ مَشْكُوكٌ فِيهِ " فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ الْقَوْلَ الثَّانِيَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا لَمَا جَازَ الْبِدَارُ إلَى هَجْمِ الصَّيْدِ مِنْ فَمِ الْكَلْبِ، فَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يَكُونَ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ لِيَأْكُلَ، فَيَجِبُ إذًا التَّوَقُّفُ حَتَّى نَعْلَمَ حَالَ فِعْلِ الْكَلْبِ بِهِ، وَذَلِكَ لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْكَلْبَ قَدْ يَأْكُلُ لِفَرْطِ جُوعٍ أَوْ نِسْيَانٍ، وَقَدْ يَذْهَلُ الْعَالِمُ النِّحْرِيرُ عَنْ الْمَسْأَلَةِ، فَكَيْفَ بِالْبَهِيمَةِ الْعَجْمَاءِ أَنْ تَسْتَقْصِيَ عَلَيْهَا هَذَا الِاسْتِقْصَاءَ وَقَدْ أَخَذْنَا أَطْرَافَ الْكَلَامِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ فَلْيُنْظَرْ هُنَاكَ. [مَسْأَلَة صَيْدَ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4]: عَامٌّ فِي الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ. وَقَالَ مَنْ لَا يَعْرِفُ: إنَّ صَيْدَ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ لَا يُؤْكَلُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِنَّ الْكَلْبَ الْأَسْوَدَ شَيْطَانٌ». وَهَذَا إنَّمَا قَالَهُ النَّبِيُّ

مسألة إذا أدركت ذكاة الصيد فذكه دون تفريط

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَطْعِ الصَّلَاةِ، فَلَوْ كَانَ الصَّيْدُ مِثْلَهُ لَقَالَهُ، وَنَحْنُ عَلَى الْعُمُومِ حَتَّى يَأْتِيَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَفْظٌ يَقْتَضِي صَرْفَنَا عَنْهُ. [مَسْأَلَة إذَا أَدْرَكْت ذكاة الصَّيْد فَذَكِّهِ دُونَ تَفْرِيطٍ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إنْ أَدْرَكْت ذَكَاةَ الصَّيْدِ فَذَكِّهِ دُونَ تَفْرِيطٍ، فَإِنْ فَرَّطْت لَمْ يُؤْكَلْ: لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرَطَ ذَلِكَ عَلَيْك، وَفِي قَوْلِهِ: «إنْ وَجَدْت مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ فَلَا تَأْكُلْهُ، فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَنْ قَتَلَهُ»، نَصٌّ عَلَى اعْتِبَارِ النِّيَّةِ فِي الذَّكَاةِ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ صَاحِبُهُ إلَيْك وَتَجْتَمِعَا فَيَقُولَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا: قَدْ سَمَّيْت؛ فَيَكُونَانِ شَرِيكَيْنِ فِيهِ. [مَسْأَلَة إذَا أَرْسَلْت كَلْبًا غَيْرَ مُعَلَّمٍ فَأَدْرَكْت ذَكَاتَهُ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِنْ أَرْسَلْت كَلْبًا غَيْرَ مُعَلَّمٍ فَأَدْرَكْت ذَكَاتَهُ فَكُلْ»، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ بِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ لِغَيْرِ مَأْكَلَةٍ، إنَّمَا هُوَ عَلَى مَعْنَى الْعَبَثِ لَا عَلَى مَعْنَى طَلَبِ الْأَكْلِ؛ فَإِنَّهُ لَا نَدْرِي أَنَّا إذَا أَرْسَلْنَا غَيْرَ الْمُعَلَّمِ هَلْ يُدْرِكُ ذَكَاتَهُ أَمْ يَعْقِرُهُ. [مَسْأَلَة الْفَهْدُ وَنَحْوُهُ إذَا عُلِّمَ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أَمَّا الْفَهْدُ وَنَحْوُهُ إذَا عُلِّمَ فَيَجُوزُ الِاصْطِيَادُ بِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ صَادَ عَلَيَّ ابْنُ عُرْسٍ لَأَكَلْته، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَلْبٌ [كُلُّهُ] فِي مُطْلَقِ اللُّغَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ ". [مَسْأَلَة جَوَارِحُ الطَّيْرِ إذَا أَرْسَلَتْ] فَأَمَّا جَوَارِحُ الطَّيْرِ، وَهِيَ [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ]. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: جَوَارِحُ الطَّيْرِ: فَقَدْ رَوَى أَشْهَبُ، وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ: " أَنَّ الْبَازِيَ وَالصَّقْرَ وَالْعُقَابَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الطَّيْرِ إذَا كَانَ مُعَلَّمًا يَفْقَهُ مَا يَفْقَهُ الْكَلْبُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ صَيْدُهُ، وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ. وَفِيهِ خِلَافٌ عَنْ عَلِيٍّ لَا نُبَالِي بِهِ ".

مسألة معنى قوله تعالى وما علمتم من الجوارح مكلبين

وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا؛ هَلْ يُؤْخَذُ صَيْدُهَا مِنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ أَوْ مِنْ الْحَدِيثِ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يُؤْخَذُ مِنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ: {مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4]. وَالتَّكْلِيبُ هُوَ التَّضْرِيَةُ بِالشَّيْءِ وَالتَّسْلِيطُ عَلَيْهِ لُغَةً، وَهَذَا يَعُمُّ كُلَّ مُعَلَّمٍ مُكَلَّبٍ ضَارٍ. وَقَالَ: أُخِذَ مِنْ الْحَدِيثِ، وَرَوَى عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ صَيْدِ الْبَازِي، فَقَالَ: مَا أَمْسَكَ عَلَيْك فَكُلْ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، فَعَلَّقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَكْلَ فِي صَيْدِ الْبَازِي عَلَى مَا عَلَّقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْأَكْلَ فِي صَيْدِ الْكَلْبِ، وَهُوَ الْأَكْلُ مِمَّا أَمْسَكَ عَلَيْك حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَأْتِ لِبَيَانِ التَّحْلِيلِ فِي الْمُعَلَّمِ مِنْ الْجَوَارِحِ الْأَكْلَ، وَإِنَّمَا مَسَاقُهَا تَحْلِيلُ صَيْدِهِ، وَقَالُوا فِي تَأْوِيلِهِ: أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَصَيْدُ مَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ. فَحَذَفَ " صَيْدَ " وَهُوَ الْمُضَافُ، وَأَقَامَ مَا بَعْدَهُ وَهُوَ الْمُضَافُ إلَيْهِ مَقَامَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ، وَاَلَّذِي عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]. وَقَدْ تَدْخُلُ الْفَاءُ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَقَائِلَةٍ خَوْلَانَ فَانْكِحْ فَتَاتَهُمْ ... وَأُكْرُومَةُ الْحَيَّيْنِ خِلْوٌ كَمَا هِيَا وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي رِسَالَةِ مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ ". الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] عَامٌّ بِمُطْلَقِهِ فِي كُلِّ مَا أَمْسَكَ الْكَلْبُ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّهُ خَاصٌّ بِالدَّلِيلِ فِي كُلِّ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ مِنْ جِنْسٍ كَالظِّبَاءِ وَالْبَقَرِ وَالْحُمُرِ، أَوْ مِنْ جُزْءٍ كَاللَّحْمِ وَالْجِلْدِ دُونَ الدَّمِ. وَهَذَا عُمُومٌ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ بِدَلِيلٍ سَابِقٍ لَهُ.

مسألة معنى قوله تعالى فكلوا مما أمسكن عليكم

[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] هَلْ يَتَضَمَّنُ مَا إذَا غَابَ عَنْك الصَّيْدُ أَمْ لَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ: " إذَا غَابَ عَنْك فَلَيْسَ بِمُمْسِكٍ عَلَيْك " وَإِذَا بَاتَ فَلَا تَأْكُلْهُ فِي أَشْهَرِ الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُؤْكَلُ وَتَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلْ مَا أَصْمَيْت وَدَعْ مَا أَنْمَيْت». فَالْإِصْمَاءُ فِي اللُّغَةِ: الْإِسْرَاعُ، أَيْ كُلْ مَا قَتَلَ مُسْرِعًا، وَأَنْتَ تَرَاهُ، وَدَعْ مَا أَنْمَيْت: أَيْ مَا مَضَى مِنْ الصَّيْدِ وَسَهْمُك فِيهِ؛ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: فَهُوَ لَا تَنْمِي رَمِيَّتُهُ ... مَا لَهُ لَا عُدَّ مِنْ نَفَرِهِ وَالصَّحِيحُ أَكْلُهُ وَإِنْ غَابَ مَا لَا تَجِدُهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ أَوْ عَلَيْهِ أَثَرٌ غَيْرُ أَثَرِ سَهْمِك. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لَهُ: كُلْهُ مَا لَمْ تَجِدْهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ، فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَسَهْمُك قَتَلَهُ أَمْ لَا»، كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَفِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ: «إذَا رَمَيْت بِسَهْمِك فَغَابَ عَنْك فَأَدْرَكْته فَكُلْهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ مَا لَمْ يُنْتِنْ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا: زَادَ النَّسَائِيّ «وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ سَبْعٌ فَكُلْهُ». [الْآيَة الْخَامِسَة قَوْله تَعَالَى الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ] ْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 5].

فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ} [المائدة: 5] قَدْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ الْيَوْمُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَفِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ بِالْمَدِينَةِ. الثَّانِي: أَنَّهُ بِمَعْنَى الْآنَ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ الْيَوْمَ كَذَا بِمَعْنَى الْآنَ، كَأَنَّهُ وَقْتُ الزَّمَانِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَنْخِيلِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ: وَبَيَانُهُ أَنَّ كَوْنَهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا كَوْنُهُ بِمَعْنَى الزَّمَانِ فَصَحِيحٌ مُحْتَمَلٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَاقِضُ غَيْرَهُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ قَوْلَهُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] هُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ، لِمَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ أَنَّ يَهُودِيًّا قَالَ لِعُمَرَ: لَوْ نَزَلَتْ عَلَيْنَا هَذِهِ الْآيَةُ لَاِتَّخَذْنَا ذَلِكَ عِيدًا. فَقَالَ عُمَرُ: " قَدْ عَلِمْت فِي أَيِّ يَوْمٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، نَزَلَتْ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ ". وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ يَهُودِيًّا قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ ذَلِكَ، فَرَاجَعَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِمِثْلِ مَا رَاجَعَهُ عُمَرُ. فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْيَوْمَانِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ رَاجِعَةً إلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَيَّامًا سِوَاهَا؛ وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا هِيَ بِعَيْنِهَا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي مَعْنَى كَمَالِ الدِّينِ وَتَمَامِ النِّعْمَةِ فِيهِ: وَفِي ذَلِكَ كَلَامٌ طَوِيلٌ لُبَابُهُ فِي سَبْعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ، أَرَادَ: " الْيَوْمَ عَرَّفْتُكُمْ بِنَفْسِي بِأَسْمَائِي وَصِفَاتِي وَأَفْعَالِي فَاعْرِفُونِي ". الثَّانِي: الْيَوْمَ قَبِلْتُكُمْ وَكَتَبْت رِضَائِي عَنْكُمْ لِرِضَائِي لِدِينِكُمْ؛ فَإِنَّ تَمَامَ الدِّينِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْقَبُولِ. الثَّالِثُ: الْيَوْمَ أَكْمَلْت لَكُمْ دُعَاءَكُمْ؛ أَيْ اسْتَجَبْت لَكُمْ دُعَاءَكُمْ، وَدُعَاءَ نَبِيِّكُمْ لَكُمْ. ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ». الرَّابِعُ: الْيَوْمَ أَظْهَرْتُكُمْ عَلَى الْعَدُوِّ بِجَمْعِ الْحَرَمَيْنِ لَهُ أَوْ بِتَعْرِيفِ ذَلِكَ فِيهِ. الْخَامِسُ: الْيَوْمَ طَهَّرْت لَكُمْ الْحَرَمَ عَنْ دُخُولِ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ مَعَكُمْ، فَلَمْ يَحُجَّ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا طَافَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ، وَلَا كَانَ النَّاسُ صِنْفَيْنِ فِي مَوْقِفِهِمْ؛ بَلْ وَقَفُوا كُلُّهُمْ فِي مَوْقِفٍ وَاحِدٍ. السَّادِسُ: الْيَوْمَ أَكْمَلْت لَكُمْ الْفَرَائِضَ وَانْقَطَعَ النَّسْخُ. السَّابِعُ: أَنَّهُ بِكَمَالِ الدِّينِ لَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ شَيْءٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ يُصَرِّفُ نَبِيَّهُ وَأَصْحَابَهُ فِي دَرَجَاتِ الْإِسْلَامِ وَمَرَاتِبِهِ دَرَجَةً دَرَجَةً حَتَّى أَكْمَلَ شَرَائِعَهُ وَمَعَالِمَهُ وَبَلَغَ أَقْصَى دَرَجَاتِهِ، فَلَمَّا أَكْمَلَهُ تَمَّتْ بِهِ النِّعْمَةُ وَرَضِيَهُ دِينًا، كَمَا هُوَ عَلَيْهِ الْآنَ؛ يُرِيدُ: فَالْزَمُوهُ وَلَا تُفَارِقُوهُ وَلَا تُغَيِّرُوهُ، كَمَا فَعَلَ سِوَاكُمْ بِدِينِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي الْمُخْتَارِ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ: كُلُّهَا صَحِيحَةٌ، وَقَدْ فَعَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَلَا يُخْتَصُّ بَعْضُهَا دُونَ بَعْضٍ؛ بَلْ يُقَالُ إنَّ جَمِيعَهَا مُرَادُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَمَا تَعَلَّقَ بِهَا مِمَّا كَانَ فِي مَعْنَاهَا، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ: إنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ

مسألة معنى قوله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم

بَعْدَهُ آيَةٌ وَلَا ذُكِرَ بَعْدَهُ حُكْمٌ لَا يَصِحُّ؛ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ الْبَرَاءِ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْبَرَاءَ قَالَ: " آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ {يَسْتَفْتُونَكَ} [النساء: 176] وَآخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ " بَرَاءَةٌ ". وَفِي الصَّحِيحِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ آيَةُ الرِّبَا ". وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَسِيرٍ. وَاَلَّذِي ثَبَتَ فِي تَارِيخِهِ حَدِيثُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] أَنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ، فَهَذَا تَارِيخٌ صَحِيحٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ، وَيَأْتِي تَمَامُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] فِي ذِكْرِ الطَّعَامِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ مَطْعُومٍ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ مُطْلَقُ اللَّفْظِ وَظَاهِرُ الِاشْتِقَاقِ. وَكَانَ حَالُهُمْ يَقْتَضِي أَلَّا يُؤْكَلَ طَعَامُهُمْ لِقِلَّةِ احْتِرَاسِهِمْ عَنْ النَّجَاسَاتِ، لَكِنَّ الشَّرْعَ سَمَحَ فِي ذَلِكَ؟ لِأَنَّهُمْ أَيْضًا يَتَوَقَّوْنَ الْقَاذُورَاتِ، وَلَهُمْ فِي دِينِهِمْ مُرُوءَةٌ يُوصِلُونَهَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَجُوسَ الَّذِينَ لَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ لَا يُؤْكَلُ طَعَامُهُمْ وَيُسْتَقْذَرُونَ وَيُسْتَنْجَسُونَ فِي أَوَانِيهِمْ، رُوِيَ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قُدُورِ الْمَجُوسِ. فَقَالَ: أَنْقُوهَا غَسْلًا وَاطْبُخُوا فِيهَا». وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ، وَذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ وَصَحَّحَهُ أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنَّا بِأَرْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَنَطْبُخُ فِي قُدُورِهِمْ وَنَشْرَبُ فِي آنِيَتِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنْ لَمْ تَجِدُوا غَيْرَهَا فَارْحَضُوهَا بِالْمَاءِ». قَالَ: وَهُوَ صَحِيحٌ، خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَغَسْلُ آنِيَةِ الْمَجُوسِ فَرْضٌ، وَغَسْلُ آنِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَضْلٌ وَنَدْبٌ؛ فَإِنَّ أَكْلَ مَا فِي آنِيَتِهِمْ يُبِيحُ الْأَكْلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِيهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ " أَنَّ عُمَرَ تَوَضَّأَ مِنْ جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ "، وَصَحَّحَهُ وَأَدْخَلَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّرَاجِمِ. وَرُبَّمَا ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَكْلَ طَعَامِهِمْ رُخْصَةٌ، فَإِذَا احْتَجْت إلَى آنِيَتِهِمْ فَغَسْلُهَا عَزِيمَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضِعٍ لِلرُّخْصَةِ. قُلْنَا: رُخْصَةُ أَكْلِ طَعَامِهِمْ حِلٌّ تَأَصَّلَ فِي الشَّرِيعَةِ وَاسْتَقَرَّ، فَلَا يَقِفُ عَلَى مَوْضِعِهِ؛ بَلْ يَسْتَرْسِلُ عَلَى مَحَالِّهِ كُلِّهَا، كَسَائِرِ الْأُصُولِ فِي الشَّرِيعَةِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ ذَبَائِحُهُمْ، وَقَدْ أَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي طَعَامِهِمْ: قَالَ لِي شَيْخُنَا الْإِمَامُ الزَّاهِدُ أَبُو الْفَتْحِ نَصْرُ بْنُ إبْرَاهِيمَ النَّابُلُسِيُّ فِي ذَلِكَ كَلَامًا كَثِيرًا، لُبَابُهُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَذِنَ فِي طَعَامِهِمْ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ غَيْرَهُ عَلَى ذَبَائِحِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا تَمَسَّكُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَعَلَقُوا بِذَيْلِ نَبِيٍّ جُعِلَتْ لَهُمْ حُرْمَةً عَلَى أَهْلِ الْأَنْصَابِ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: " تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ الْمُطْلَقَةُ إلَّا مَا ذَبَحُوا يَوْمَ عِيدِهِمْ أَوْ لِأَنْصَابِهِمْ ". وَقَالَ جَمَاعَةُ الْعُلَمَاءِ: تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ وَإِنْ ذَكَرُوا عَلَيْهَا اسْمَ غَيْرِ الْمَسِيحِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ حَسَنَةٌ نَذْكُرُ لَكُمْ مِنْهَا قَوْلًا بَدِيعًا: وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ مَا لَمْ يُسَمَّ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ الذَّبَائِحِ، وَأَذِنَ فِي طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمْ يَقُولُونَ: [إنَّ] اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَإِنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ. تَعَالَى اللَّهُ

عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا. فَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أُكِلَ طَعَامُهُمْ، وَإِنْ ذَكَرُوا فَقَدْ عَلِمَ رَبُّك مَا ذَكَرُوا، وَأَنَّهُ غَيْرُ الْإِلَهِ، وَقَدْ سَمَحَ فِيهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَالَفَ أَمْرُ اللَّهِ، وَلَا يُقْبَلُ عَلَيْهِ، وَلَا تُضْرَبُ الْأَمْثَالُ لَهُ. وَقَدْ قُلْت لِشَيْخِنَا أَبِي الْفَتْحِ الْمَقْدِسِيِّ: إنَّهُمْ يَذْكُرُونَ غَيْرَ اللَّهِ. فَقَالَ لِي: هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ، وَقَدْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَبَعًا لِمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِهِمْ. وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ عَلَى الذَّبِيحَةِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ؛ قَالَ: لَوْ سَمَّى النَّصْرَانِيُّ الْإِلَهَ حَقِيقَةً لَمْ تَكُنْ تَسْمِيَتُهُمْ عَلَى شَرْطِ الْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ الْمَعْبُودَ، فَلَيْسَتْ تَسْمِيَتُهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْعِبَادَةِ، وَاشْتِرَاطُهُمْ التَّسْمِيَةَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْعِبَادَةِ لَا يُعْقَلُ. قُلْنَا: تُعْقَلُ صُورَةُ التَّسْمِيَةِ، وَلَهَا حُرْمَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُسَمِّي مَنْ يُسَمِّي. وَلَوْ شَرَطْنَا الْعِلْمَ بِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ مَا جَازَ أَكْلُ كَثِيرٍ مِنْ ذَبْحِ مَنْ يُسَمِّي مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ الشَّرْعُ ذَبْحًا يُذْكَرُ عَلَيْهِ غَيْرُ اللَّهِ تَصْرِيحًا. فَأَمَّا مَنْ يَقْصِدُ اللَّهَ فَيُصِيبُ قَصْدَهُ فَهُوَ الَّذِي لَا كَلَامَ فِيهِ. وَأَمَّا الَّذِي يُسَمِّيهِ فَيُخْطِئُ قَصْدَهُ فَذَلِكَ الَّذِي رُخِّصَ فِيهِ؛ فَإِذَا قَالَ " اللَّهُ " وَهُوَ يَقْصِدُ الْمَسِيحَ، أَوْ الْمَسِيحُ وَهُوَ يَقْصِدُ اللَّهَ فَيَرْجِعُ أَمْرُهُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَلَكِنَّهُ ضَلَّ عَنْ الطَّرِيقِ وَسَمَحَ لَك فِيهِ الْإِلَهُ الَّذِي ضَلَّ أَهْلُ الْكِتَابِ عَنْهُ، وَخَفَفَ حَالُهُمْ بِهَذِهِ الشُّعْبَةِ الْخَفِيَّةِ مِنْ الْقَصْدِ إلَيْهِ، فَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ. [فَإِنْ قِيلَ: فَمَا أَكَلُوهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الذَّكَاةِ كَالْخَنْقِ وَحَطْمِ الرَّأْسِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ مَيْتَةٌ، وَهِيَ حَرَامٌ بِالنَّصِّ، وَإِنْ أَكَلُوهَا فَلَا نَأْكُلُهَا نَحْنُ كَالْخِنْزِيرِ فَإِنَّهُ حَلَالٌ لَهُمْ، وَمِنْ طَعَامِهِمْ، وَهُوَ حَرَامٌ عَلَيْنَا، فَهَذِهِ أَمْثِلَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ]. وَأَمَّا ذَبَائِحُ الْكِتَابِيِّينَ فَقَدْ سُئِلَ أَبُو الدَّرْدَاءِ عَمَّا يُذْبَحُ لِكَنِيسَةٍ اسْمُهَا سَرْجِسُ، فَأَمَرَ بِأَكْلِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَعَطَاءٌ: تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ، وَإِنْ

مسألة معنى قوله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب

ذُكِرَ غَيْرُ اللَّهِ عَلَيْهَا، وَهَذَا نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْقِسَمِ الثَّانِي أَنَّهُ لَيْسَ بِنَسْخٍ، وَسَنُشِيرُ إلَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] تَضَمَّنَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَهُمْ بَنُو إسْرَائِيلَ، فَهَلْ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مَنْ دَانَ بِدِينِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ؟ يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ وَهُوَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَدْعُهُ النَّبِيُّ فَاتَّبَعَهُ، هَلْ يَكُونُ لَهُ حُكْمٌ مِنْ دُعَائِهِ أَمْ لَا؟ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَوْضِعِهِ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى شَرْعٍ دَخَلَ فِي حُكْمِهِمْ، أَوْ كَانَ عَلَى شَرْعٍ دُرِسَ عَنْهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ مِنْ الْعَرَبِ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ؛ فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ، وَأَلْحَقَهُمْ بِالْكِتَابِيِّينَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَرَأَ الشَّعْبِيُّ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]. وَقَالَهُ ابْنُ شِهَابٍ، وَقَالَ: لِأَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إشَارَةً إلَى مَا قُلْنَاهُ مِنْ تَعَلُّقِهِمْ بِاللَّفْظِ؛ وَبِهَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ. وَعَنْ عُلَمَائِنَا رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا مَا تَقَدَّمَ. وَالثَّانِيَةُ: لَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ وَعَلِيٌّ. وَقَالَ: لِأَنَّهُمْ لَا يُحَلِّلُونَ مَا تُحَلِّلُ النَّصَارَى وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا يُحَرِّمُونَ. وَهَذَا دَلِيلُ أَنَّهُ لَمْ يُلْحِقْهُمْ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَوَلَّوْهُمْ، وَلَا دَانُوا بِدِينِهِمْ، وَلَوْ تَعَلَّقُوا بِهِ لَوَافَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي حَالِهِمْ وَحُكْمِهِمْ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ. [مَسْأَلَة الصَّيْدَ وَطَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي أَبَاحَهَا اللَّهُ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ} [المائدة: 4]، إلَى قَوْلِهِ: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ وَطَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي أَبَاحَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ الْحَلَالُ الْمُطْلَقُ، وَإِنَّمَا كَرَّرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِيَرْفَعَ الشُّكُوكَ وَيُزِيلَ

مسألة معنى قوله تعالى والمحصنات من المؤمنات

الِاعْتِرَاضَاتِ [وَلَكِنَّ الْخَوَاطِرَ الْفَاسِدَةَ هِيَ الَّتِي تُوجِبُ الِاعْتِرَاضَاتِ]، وَيَخْرُجَ إلَى تَطْوِيلِ الْقَوْلِ. وَلَقَدْ سُئِلْت عَنْ النَّصْرَانِيِّ يَفْتِلُ عُنُقَ الدَّجَاجَةِ ثُمَّ يَطْبُخُهَا: هَلْ يُؤْكَلُ مَعَهُ أَوْ تُؤْخَذُ طَعَامًا مِنْهُ؟ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فَقُلْت: تُؤْكَلُ؛ لِأَنَّهَا طَعَامُهُ وَطَعَامُ أَحْبَارِهِ وَرُهْبَانِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ ذَكَاةً عِنْدَنَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ طَعَامَهُمْ مُطْلَقًا، وَكُلُّ مَا يَرَوْنَ فِي دِينِهِمْ فَإِنَّهُ حَلَالٌ لَنَا فِي دِينِنَا، إلَّا مَا كَذَّبَهُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهِ. وَلَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّهُمْ يُعْطُونَنَا أَوْلَادَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ مِلْكًا فِي الصُّلْحِ فَيَحِلُّ لَنَا وَطْؤُهُنَّ، فَكَيْفَ لَا تَحِلُّ ذَبَائِحُهُمْ وَالْأَكْلُ دُونَ الْوَطْءِ فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} [المائدة: 5] قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَبَيَّنَّا اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ وَاحْتِمَالَ اللَّفْظِ لَأَنْ يَكُونَ الْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ الْحَرَائِرِ وَالْعَفَائِفِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي قَصَصٍ مُخْتَلِفَةٍ؛ مِنْهَا أَنَّ امْرَأَةً مِنْ هَمْدَانَ يُقَالُ لَهَا نُبَيْشَةُ بَغَتْ، فَأَرَادَتْ أَنْ تَذْبَحَ نَفْسَهَا فَأَدْرَكُوهَا فَقَدُّوهَا، فَذَكَرُوهُ أَيْضًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: " انْكِحُوهَا نِكَاحَ الْحُرَّةِ الْعَفِيفَةِ الْمُسْلِمَةِ ". وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: " إحْصَانُهَا أَنْ تَغْتَسِلَ مِنْ الْجَنَابَةِ وَتُحْصِنَ فَرْجَهَا مِنْ الزِّنَا ". وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ النَّازِلَةِ فَقَالَ: مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَحِلُّ لَنَا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَحِلُّ لَنَا، ثُمَّ تَلَا: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] إلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29]. قَالَ: فَمَنْ أَعْطَى الْجِزْيَةَ حَلَّ لَنَا نِسَاؤُهُمْ، وَمَنْ لَمْ يُعْطِ لَمْ يَحِلَّ لَنَا نِسَاؤُهُ. وَمِنْ هَاهُنَا يَخْرُجُ أَنَّ نِكَاحَ إمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُنَّ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِنَّ.

مسألة معنى قوله تعالى محصنين غير مسافحين

فَإِنْ قِيلَ: وَكَذَلِكَ الْحَرَائِرُ. قُلْنَا: حَلُّوا بِدَلِيلٍ آخَرَ. وَقِيلَ: عَنَى بِذَلِكَ نِسَاءَ بَنْيِ إسْرَائِيلَ دُونَ سَائِرِ الْأُمَمِ الَّذِينَ دَانُوا بِدِينِ بَنِي إسْرَائِيلَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ مَعَهُمْ فِي ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحِهِمْ لِقَوْلِهِ: فَإِنَّهُ مِنْهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] هَلْ الْمُرَادُ بِذَلِكَ نَفْسُ الْإِعْطَاءِ وَالِالْتِزَامِ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ مَنْ تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ؟ قُلْنَا: أَمَّا مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلَقَدْ تَلَوْته عَلَيْكُمْ. وَأَمَّا سَائِرُ الْعُلَمَاءِ فَيَقُولُونَ: إنَّمَا الْمُرَادُ مَنْ تُقْبَلُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]. وَذِكْرُ الْجِزْيَةِ إنَّمَا هُوَ فِي الْقِتَالِ لَا فِي النِّكَاحِ، إلَّا أَنَّ الْعُلَمَاءَ كَرِهُوا نِكَاحَ الْحَرْبِيَّةِ لِئَلَّا يُولَدَ لَهُ فِيهِمْ فَيَتَنَصَّرُوا وَتَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُهُمْ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [المائدة: 5] قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَأَرَادَ بِهِ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا غَيْرَ مُتَعَالِنِينَ بِالزِّنَا كَالْبَغَايَا، وَلَا مِمَّنْ يَتَّخِذُ أَخْدَانًا، مَعْنَاهُ يَخْتَصُّ بِزَانٍ مَعْلُومٍ وَبِزَانِيَةٍ مَعْلُومَةٍ. وَفِي هَذَا تَخْصِيصُ قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور: 3] الْآيَةَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. [الْآيَة السَّادِسَة قَوْله تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ] الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6]

فِيهَا اثْنَتَانِ وَخَمْسُونَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَعْظَمِ آيَاتِ الْقُرْآنِ مَسَائِلَ وَأَكْثَرِهَا أَحْكَامًا فِي الْعِبَادَاتِ، وَبِحَقِّ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا شَطْرُ الْإِيمَانِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوُضُوءُ شَطْرُ الْإِيمَانِ»، فِي صَحِيحِ الْخَبَرِ عَنْهُ. وَلَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إنَّ فِيهَا أَلْفَ مَسْأَلَةٍ، وَاجْتَمَعَ أَصْحَابُنَا بِمَدِينَةِ السَّلَامِ فَتَتَبَّعُوهَا فَبَلَّغُوهَا ثَمَانَمِائَةِ مَسْأَلَةٍ، وَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُبَلِّغُوهَا الْأَلْفَ، وَهَذَا التَّتَبُّعُ إنَّمَا يَلِيقُ بِمَنْ يُرِيدُ تَعْرِيفَ طُرُقِ اسْتِخْرَاجِ الْعُلُومِ مِنْ خَبَايَا الزَّوَايَا، وَاَلَّذِي يَلِيقُ الْآنَ فِي هَذِهِ الْعُجَالَةِ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ الِانْتِدَابُ إلَى انْتِزَاعِ الْجَلِيِّ وَأَنْ نَتَعَرَّضَ لِمَا يَسْنَحُ خَاصَّةً مِنْ ظَاهِرِ مَسَائِلِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ عَائِشَةَ، كَمَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْوُضُوءَ كَانَ مَفْعُولًا قَبْلَ نُزُولِهَا غَيْرُ مَتْلُوٍّ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّ الْوُضُوءَ كَانَ بِمَكَّةَ سُنَّةً، مَعْنَاهُ كَانَ مَفْعُولًا بِالسُّنَّةِ، فَأَمَّا حُكْمُهُ فَلَمْ يَكُنْ قَطُّ إلَّا فَرْضًا. وَقَدْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَرَضَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَنَزَلَ جِبْرِيلُ ظُهْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ لِيُصَلِّيَ بِهِ فَغَمَزَ الْأَرْضَ بِعَقِبِهِ، فَأَنْبَعَتْ مَاءً، وَتَوَضَّأَ مُعَلِّمًا لَهُ، وَتَوَضَّأَ هُوَ مَعَهُ، وَصَلَّى، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَرْوِهِ أَهْلُ الصَّحِيحِ، وَلَكِنَّهُمْ تَرَكُوهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْتَاجُوا إلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ

مسألة الخطاب في قوله تعالى يأيها الذين آمنوا

السَّيِّدُ وَالْعُلَمَاءُ يَتَغَافَلُونَ عَنْ الْحَدِيثِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ، وَإِنْ ذَهَبَ. وَيَكْرَهُونَ أَنْ يَبْتَدِئُوا بِذِكْرِهِ حَتَّى يُحْتَاجَ إلَيْهِ بِخِلَافِ الْقُرْآنِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. [مَسْأَلَة الخطاب فِي قَوْله تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 6]: هَذَا الْخِطَابُ وَإِنْ كَانَ مُصَرِّحًا بِالْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ الْكَافِرِينَ دَاخِلُونَ فِيهِ؛ لِمَا ثَبَتَ مِنْ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ بِالْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هَاهُنَا خَصَّ الْخِطَابَ الْمُلْزِمَ لِلْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ النَّازِلَةَ عَرَضَتْ لَهُ، وَالْقِصَّةَ دَارَتْ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَة النِّيَّةَ فِي الطَّهَارَةِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ لَنَا شَيْخُنَا فَخْرُ الْإِسْلَامِ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6]: مَعْنَاهُ: إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ إلَى الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ حَالَةَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ لَا يُمْكِنُ، وَالْإِرَادَةُ هِيَ النِّيَّةُ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ فِي الطَّهَارَةِ وَاجِبَةٌ فِيهِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ. وَرَوَى الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَهِيَ مِنْ طُيُولِيَّاتِ مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِيهِ. وَالْأَصْلُ الْمُحَقَّقُ أَنَّهَا عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ بِدَلِيلِ أَنَّهَا شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْعِبَادَاتُ لَا يُتَعَبَّدُ بِهَا إلَّا مَعَ النِّيَّةِ، وَيُخَالِفُ الشَّعْبِيُّ إلَّا الْجُمُعَةَ. فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ مَقْصُودَةٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: مَعْنَاهُ إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ مِنْ النَّوْمِ، وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ الْآيَةُ. وَبَيَّنَ هَذَا أَنَّ النَّوْمَ حَدَثٌ، وَبِهِ قَالَ جُمْلَةُ الْأُمَّةِ، سَمِعْت عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرَاهُ حَدَثًا، وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عِنْدِي عَنْهُ. وَرُوِيَ لِي عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ حَدَثًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي النَّائِمِينَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَنَاوَلَهُمْ؛ لِأَنَّ

مسألة هل النوم حدث

الْآيَةَ وَالْخَبَرَ إذَا كَانَ الَّذِي أَثَارَهُمَا سَبَبًا فَلَا بُدَّ مِنْ دُخُولِ السَّبَبِ فِيهِمَا، وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ وَرَاءَ ذَلِكَ هَلْ يَقْتَصِرُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ بِهِمَا أَمْ يَكُونَانِ عَلَى عُمُومِهِمَا؟ وَثَبَتَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا كُنَّا فِي سَفَرٍ أَلَّا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهِنَّ إلَّا مِنْ جَنَابَةٍ، وَلَكِنْ مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ وَنَوْمٍ». وَالْأَمْرُ أَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ أَرَدْنَا أَنْ نُعَرِّفَكُمْ وُجُودَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي صَحِيحِ حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثُ صَفْوَانَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. [مَسْأَلَة هَلْ النَّوْمَ حَدَثٌ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّوْمَ حَدَثٌ فَهُوَ حَدَثٌ لِمَا يَصْحَبُهُ غَالِبًا مِنْ خُرُوجِ الْخَارِج. وَقَالَ الْمُزَنِيّ: هُوَ حَدَثٌ بِعَيْنِهِ، وَهَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا يَنَامُونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ. وَمِنْهُ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَّرَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى رَقَدَ النَّاسُ وَاسْتَيْقَظُوا. وَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ: أُقِيمَتْ صَلَاةُ الْعِشَاءِ. فَقَامَ رَجُلٌ يُنَاجِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى نَامَ الْقَوْمُ ثُمَّ صَلَّوْا». [مَسْأَلَة اسْتَثْقَلَ نَوْمًا عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ مِنْ الْأَحْوَالِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: وَإِذَا ثَبَتَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا تَفْصِيلَهُ فِي النَّوَازِلِ الْفِقْهِيَّةِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ مَنْ اسْتَثْقَلَ نَوْمًا عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ مِنْ الْأَحْوَالِ فَإِنَّ عَلَيْهِ الْوُضُوءَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ نَامَ عَلَى هَيْئَةٍ مِنْ هَيْئَاتِ الصَّلَاةِ لَمْ يَبْطُلْ وُضُوءُهُ، وَوَافَقَهُ ابْنُ حَبِيبٍ فِي الرُّكُوعِ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «نَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ سَاجِدٌ حَتَّى نَفَخَ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى؛ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنَّك قَدْ نِمْت. فَقَالَ: إنَّ الْوُضُوءَ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا، فَإِنَّهُ إذَا اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ».

مسألة إذا ثبت الوضوء في النوم

خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُد أَنْكَرَهُ، فَقَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَحْفُوظًا، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ: «تَنَامُ عَيْنَايَ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي». وَالْحَدِيثُ الثَّانِي قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ قَائِمًا أَوْ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا؛ إنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا، فَإِنَّهُ إذَا اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ». وَهُوَ بَاطِلٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَأَوْضَحْنَا خَلَلَهُ. وَأَمَّا ابْنُ حَبِيبٍ فِي الرُّكُوعِ فَإِنَّمَا بَنَى عَلَى أَنَّ الرَّاكِعَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَسْتَثْقِلَ نَوْمًا وَيَثْبُتَ رَاكِعًا، فَدَلَّ أَنَّ نَوْمَهُ ثَبَاتٌ وَخُلَسٌ لَا شَيْءَ فِيهَا. [مَسْأَلَة إذَا ثَبَتَ الْوُضُوءُ فِي النَّوْمِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: إذَا ثَبَتَ الْوُضُوءُ فِي النَّوْمِ فَالْإِغْمَاءُ فَوْقَهُ أَوْ مِثْلُهُ. [مَسْأَلَة الْوُضُوءَ يَلْزَمُ لِكُلِّ قَائِمٍ إلَى الصَّلَاةِ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي الْوُضُوءَ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ إلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ نَزَلَتْ فِي النَّائِمِينَ، وَإِيَّاهُمْ صَادَفَ الْخِطَابُ، وَلَكِنَّا مِمَّنْ يَأْخُذُ بِمُطْلَقِ الْخِطَابِ وَلَا يَرْبِطُ الْحُكْمَ بِالْأَسْبَابِ، وَكَذَلِكَ كُنَّا نَقُولُ: إنَّ الْوُضُوءَ يَلْزَمُ لِكُلِّ قَائِمٍ إلَى الصَّلَاةِ مُحْدِثًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْدِثٍ، إلَّا أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَوَى: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ.

قُلْت: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ؟ قَالَ: كَانَ يَجْزِي أَحَدَنَا الْوُضُوءُ مَا لَمْ يُحْدِثْ». خَرَّجَهُ جَمِيعُ الْأَئِمَّةِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ صَلَّى الصَّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَعَلْت شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ. فَقَالَ: عَمْدًا فَعَلْته». أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يَتَكَرَّرُ الْحُكْمُ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْتُمْ بِتَكَرُّرِهِ أَحَلْتُمْ، وَإِنْ قُلْتُمْ لَا يَتَكَرَّرُ فَمَا وَجْهُهُ؟ قُلْنَا: مِنْ الْمُتَعَجْرِفِينَ مَنْ تَكَلَّفَ فَقَالَ: إنَّمَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْعِلَّةِ، وَهُوَ الْحَدَثُ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ الْحَدَثَ لَا يُوجِبُ الطَّهَارَةَ لِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا وُجُوبُ الصَّلَاةِ يُوجِبُ الطَّهَارَةَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُكَلَّفُ مُحْدِثًا، فَالْحَدَثُ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الطَّهَارَةِ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ لَا عِلَّتِهِ. وَالْحُكْمُ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ شَرْعًا، وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ. وَقَدْ أَحْدَثَ بَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ فِي الْإِسْلَامِ بِدْعَةً شَنْعَاءَ، فَقَالَ: إنَّ الْمُحْدِثَ لَا يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ، إنَّمَا يُؤْمَرُ بِالْوُضُوءِ، وَعَلَيْهِ يُثَابُ، وَعَلَيْهِ يُعَاقَبُ، وَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ حَتَّى يَتَوَضَّأَ. وَهَذَا خَرْقٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَهَتْكٌ لِحِجَابِ الشَّرِيعَةِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ وَأَمْثَالُهَا رَدٌّ عَلَيْهِ إنْ أَقَرَّ بِثُبُوتِهِ، وَإِنْ أَنْكَرَهُ فَإِنَّ مَنْ يُنْكِرُ التَّوْحِيدَ مُخَاطَبٌ بِتَصْدِيقِ الرَّسُولِ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ إلَّا بَعْدَ تَوْحِيدِ الرَّبِّ، وَهَذَا مَا لَا جَوَابَ لَهُمْ عَنْهُ.

مسألة الترتيب في الوضوء

[مَسْأَلَةُ التَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6]: الْفَاءُ حَرْفٌ يَقْتَضِي الرَّبْطَ وَالسَّبَبَ وَهُوَ بِمَعْنَى التَّعْقِيبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي رِسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ، وَهِيَ هَاهُنَا جَوَابٌ لِلشَّرْطِ رَبَطَتْ الْمَشْرُوطَ بِهِ وَجَعَلَتْهُ جَوَابَهُ أَوْ جَزَاءَهُ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ؛ بَيْدَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ مِنْ عُلَمَائِنَا فِي وُجُوبِ التَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ قَالَ: إنَّ فِي هَذَا دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِ الْبُدَاءَةِ بِالْوَجْهِ؛ إذْ هُوَ جَزَاءُ الشَّرْطِ وَجَوَابُهُ. وَقَالَ الْآخَرُونَ الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ تَرْتِيبَ الْوُضُوءِ: إنَّ هَذَا الْقَوْلَ صَحِيحٌ فِيمَا إذَا كَانَ جَوَابُ الشَّرْطِ مَعْنًى وَاحِدًا؛ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ جُمَلٌ كُلُّهَا جَوَابًا وَجَزَاءً لَمْ نُبَالِ بِأَيِّهِمَا بَدَأَتْ؛ إذْ الْمَطْلُوبُ تَحْصِيلُهَا. وَهَذَا قَوْلٌ لَهُ رَوْنَقٌ وَلَيْسَ بِمُحَقَّقٍ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]؛ فَبَدَأَ بِالْوَجْهِ وَعَطَفَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ، فَالنَّظَرُ الصَّحِيحُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: تَجِبُ الْبُدَاءَةُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ وَهُوَ الْوَجْهُ، كَمَا «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ حَجَّ وَجَاءَ إلَى الصَّفَا: نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ»، وَكَانَتْ الْبُدَاءَةُ بِالصَّفَا وَاجِبَةً. وَيَعْضُدُ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ عُمْرَهُ كُلَّهُ مُرَتِّبًا تَرْتِيبَ الْقُرْآنِ، وَفِعْلُهُ هَذَا بَيَانُ مُجْمَلِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبَيَانُ الْمُجْمَلِ الْوَاجِبِ وَاجِبٌ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ عُظْمَى قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُخْتَارُ فِيهَا. [مَسْأَلَة كَيْفِيَّة الْغُسْل] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6]: وَظَنَّ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ مَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ فِي الْفَصَاحَةِ بَلْهُ أَبِي حَنِيفَةَ وَسِوَاهُ أَنَّ الْغَسْلَ صَبُّ الْمَاءِ عَلَى الْمَغْسُولِ مِنْ غَيْرِ عَرْكٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ ذَلِكَ فِي

مسألة الغسل يقتضي مغسولا مطلقا ومغسولا به

مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ الْغَسْلَ مَرُّ الْيَدِ مَعَ إمْرَارِ الْمَاءِ أَوْ مَا فِي مَعْنَى الْيَدِ. [مَسْأَلَة الْغَسْلُ يَقْتَضِي مَغْسُولًا مُطْلَقًا وَمَغْسُولًا بِهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: الْغَسْلُ يَقْتَضِي مَغْسُولًا مُطْلَقًا وَمَغْسُولًا بِهِ: وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وُجُوهَكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]: وَالْوَجْهُ فِي اللُّغَةِ: مَا بَرَزَ مِنْ بَدَنِهِ وَوَاجَهَ غَيْرَهُ بِهِ، وَهُوَ أَبْيَنُ مِنْ أَنْ يُبَيَّنَ، وَأَوْجَهُ مِنْ أَنْ يُوَجَّهَ، وَهُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ عُضْوٌ يَشْتَمِلُ عَلَى جُمْلَةِ أَعْضَاءٍ، وَمَحَلٌّ مِنْ الْجَسَدِ فِيهِ أَرْبَعُ طُرُقٍ لِلْعُلُومِ، وَلَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ، وَهُوَ أَيْضًا بَيِّنٌ إلَّا أَنَّهُ أَشْكَلَ عَلَى الْفُقَهَاءِ مِنْهُ سِتَّةُ مَعَانٍ: الْأَوَّلُ: إذَا اكْتَسَى الذَّقَنُ بِالشَّعْرِ، فَإِنَّهُ قَدْ انْتَقَلَ الْفَرْضُ فِيمَا يُقَابِلُهُ إلَى الشَّعْرِ قَطْعًا وَنَفْيِ الزَّائِدِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَا اسْتَرْسَلَ مِنْ اللِّحْيَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ اتَّصَلَ بِالْوَجْهِ وَوَاجَهَ كَمَا يُوَاجَهُ، فَيَكُونُ فَرْضًا غَسْلُهُ مِثْلُ الْوَجْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَدْبًا، وَبِالْأَوَّلِ أَقُولُ؛ لِمَا ثَبَتَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَغْسِلُ لِحْيَتَهُ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، فَعُيِّنَ الْمُحْتَمَلُ بِالْفِعْلِ. الثَّانِي: إذَا دَارَ الْعِذَارُ عَلَى الْخَدِّ، هَلْ يَلْزَمُ غَسْلُ مَا وَرَاءَهُ إلَى الْأُذُنِ أَمْ لَا؟ وَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَنَا فِي أَنْفُسِنَا وَبَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَيْضًا غَيْرِنَا. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ غَسْلُهُ لَا لِلْأَمْرَدِ وَلَا لِلْمُعْذِرِ. الثَّالِثُ: الْفَمُ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَجَمَاعَةٌ: إنَّ غَسْلَهُ فِي الْوُضُوءِ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْوَجْهِ؛ وَقَدْ وَاظَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِ. وَقَالَ: «إذَا تَمَضْمَضَ خَرَجَتْ الْخَطَايَا مِنْ فِيهِ».

مسألة غسل الوجه للصلاة

الرَّابِعُ: الْأَنْفُ، وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، فَقَالَ: «إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً ثُمَّ لِيَسْتَنْثِرْ، وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ». وَقَالَ أَيْضًا: «فَإِذَا اسْتَنْثَرَ خَرَجَتْ الْخَطَايَا مِنْ أَنْفِهِ». الْخَامِسُ: الْعَيْنُ، وَالْحُكْمُ فِيهَا وَاحِدٌ أَثَرًا وَنَظَرًا وَلُغَةً، وَلَكِنْ سَقَطَ غَسْلُهَا لِلتَّأَذِّي بِذَلِكَ وَالْحَرَجِ بِهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَمَّا عَمِيَ يَغْسِلُ عَيْنَيْهِ إذْ كَانَ لَا يَتَأَذَّى بِذَلِكَ. السَّادِسُ: لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ غَسْلِ جُزْءٍ مِنْ الرَّأْسِ مَعَ الْوَجْهِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ فِيهِ، كَمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِ عُمُومِ مَسْحِ الرَّأْسِ مِنْ مَسْحِ جُزْءٍ مَعَهُ مِنْ الْوَجْهِ لَا يَتَقَدَّرُ، وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ مَنْ أُصُولِ الْفِقْهِ؛ وَهُوَ أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ مِثْلُهُ؛ وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ؛ فَهَذِهِ تَتِمَّةُ تِسْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً. [مَسْأَلَة غَسْلَ الْوَجْهِ لِلصَّلَاةِ] الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ: قَالَ لَنَا فَخْرُ الْإِسْلَامِ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ فِي الدَّرْسِ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] كَانَ مَعْنَاهُ ضَرُورَةَ اللُّغَةِ: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ؛ وَذَكَرَ أَمْثِلَةً بَيَّنَّاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ؛ فَاقْتَضَى الْأَمْرُ بِظَاهِرِهِ غَسْلَ الْوَجْهِ لِلصَّلَاةِ، فَمَنْ غَسَلَهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، هَاهُنَا كَلَامًا مُخْتَلًّا وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: وَنَصُّهُ: " ظَنَّ ظَانُّونَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الَّذِينَ يُوجِبُونَ النِّيَّةَ فِي الْوُضُوءِ أَنَّهُ لَمَّا أَوْجَبَ الْوُضُوءَ عِنْدَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَوْجَبَهُ لِأَجْلِهِ، وَأَنَّهُ أَوْجَبَ بِهِ النِّيَّةَ؛ وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ إيجَابَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ الْوُضُوءَ لِأَجْلِ الْحَدَثِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ

عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ لِأَجْلِهِ وَيَحْصُلَ دُونَ قَصْدِ تَعْلِيقِ الطَّهَارَةِ بِالصَّلَاةِ وَبِنِيَّتِهَا لِأَجْلِهِ " إلَى تَخْلِيطٍ زِيدَ عَلَيْهِ لَا أَرْضَى ذِكْرَهُ. قُلْنَا: قَوْلُهُ: " ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ الْوُضُوءَ لَمَّا وُجِدَ عِنْدَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ أَنَّهُ وَجَبَ لِأَجْلِهِ ". لَمْ يَظُنَّ أَحَدٌ ذَلِكَ، إنَّمَا قُطِعَ الِاعْتِقَادُ بِهِ، لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: " إنَّهُ أَوْجَبَ لَهُ النِّيَّةَ ". قُلْنَا لَهُ: هَذَا تَلْبِيسٌ، وُجُوبُهُ لِأَجْلِهِ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِي النِّيَّةَ ضَرُورَةً فِيهِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا أُمِرَ لِمَأْمُورٍ بِهِ لَهُ. وَقَوْلُهُ: " هَذَا لَا يَصِحُّ ". قُلْنَا: لَا يَصِحُّ إلَّا هُوَ. قَوْلُهُ: " فَإِنَّ إيجَابَ اللَّهِ الْوُضُوءَ لِأَجْلِ الْحَدَثِ ". قُلْنَا: هَذَا هَوَسٌ، لَمْ يَجِبْ الْوُضُوءُ لِأَجْلِ الْحَدَثِ. وَقَوْلُهُ: " إنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ ". قُلْنَا: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ مَاذَا؟ إنْ أَرَدْت الْحَدَثَ، فَمَنْ ذَا الَّذِي يَقُولُ بِهِ؟ وَإِنْ أَرَدْت الصَّلَاةَ فَلَا يُعْطِي اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى إلَّا وُجُوبَ النِّيَّةِ لَهَا. وَقَوْلُهُ: " يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ لِأَجْلِهِ وَيَحْصُلَ دُونَ قَصْدٍ ". قُلْنَا: هَذَا لَا نُسَلِّمُهُ مُطْلَقًا إنْ أَرَدْت فِي الْعِبَادَاتِ فَلَا، وَإِنْ أَرَدْت فِي غَيْرِهَا فَلَا نُبَالِي بِهِ. وَقَوْلُهُ: " دُونَ قَصْدٍ ". إلَى هُنَا انْتَهَى كَلَامُهُ الْمَعْقُولُ لَفْظًا الْمُخْتَلُّ مَعْنًى. وَأَمَّا قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ تَعْلِيقُ الطَّهَارَةِ بِالصَّلَاةِ فَكَلَامٌ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ لَفْظًا، فَكَيْفَ مَعْنًى؟

مسألة إذا وجبت النية للوضوء أو الصلاة أو الصيام

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: هَذَا الَّذِي زَمْزَمَ بِهِ أَنَا أَعْرِفُهُ. قَوْلُهُ: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] لَا يَخْلُو مِنْ سِتَّةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يَرْبِطُ غَسْلَ الْوَجْهِ وَمَا بَعْدَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا تَقَدَّمَ. الثَّانِي: أَنَّهُ يَرْبِطُهُ بِالْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ أَوْ الْحَدَثِ وَبِالصَّلَاةِ، وَهُوَ: الثَّالِثُ، أَوْ بِالصَّلَاةِ وَهُوَ: الرَّابِعِ، أَوْ بِالْكُلِّ وَهُوَ: الْخَامِسِ، أَوْ بِبَعْضِهِ وَهُوَ: السَّادِسِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ نَرْبِطُهُ بِشَيْءٍ كَانَ مُحَالًا لُغَةً كَمَا تَقَدَّمَ، مُحَالًا بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّهُ قَدْ رُبِطَ بِمَا رُبِطَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِيهِ، وَإِنْ رَبَطَهُ بِالْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ فَمُحَالٌ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَمُحَالٌ مَعْنًى؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْقِيَامِ لَا يُقْصَدُ بِذَلِكَ مِنْ الْوُضُوءِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَاهُ إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ، وَنَفْسُ الْإِرَادَةِ هِيَ النِّيَّةُ. وَأَمَّا إنْ أَرَدْت رَبْطَهُ بِالْحَدِيثِ فَبِالْإِجْمَاعِ أَنَّ الْوُضُوءَ يَجِبُ بِهِ، لَا مِنْ أَجْلِهِ. وَإِنْ قُلْتُمْ بِالصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ هُوَ. وَقَدْ صَرَّحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ». وَإِذَا أَمَرَ بِغَسْلِ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَمْتَثِلْ مَا أُمِرَ بِهِ، وَإِنْ قَالَ: إنَّهُ وَجَبَ لِأَجْلِ الْكُلِّ فَقَدْ تَبَيَّنَ فَسَادُهُ؛ وَهَذَا تَحْقِيقٌ مِنْ كَلَامِهِ فِي غَرَضِهِ بِعَيْنِهِ. [مَسْأَلَة إذَا وَجَبَتْ النِّيَّةُ لِلْوُضُوءِ أَوْ الصَّلَاةِ أَوْ الصِّيَامِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: إذَا وَجَبَتْ النِّيَّةُ لِلْوُضُوءِ أَوْ الصَّلَاةِ أَوْ الصِّيَامِ، أَيْ لِأَيِّ عِبَادَةٍ وَجَبَتْ، فَمَحَلُّهَا أَنْ

مسألة معنى قوله تعالى وأيديكم

تَكُونَ مُقْتَرِنَةً مَعَ أَوَّلِهَا لَا تَجُوزُ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ بِالْفِعْلِ حَقِيقَتُهُ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ قَصْدًا لَهُ، فَنِيَّةُ الْوُضُوءِ مَعَ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ، وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ، وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ لَا خِلَافَ فِيهَا بَيْنَ الْعُقَلَاءِ، بَيْدَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا: إنَّ مَنْ خَرَجَ إلَى النَّهْرِ مِنْ مَنْزِلِهِ بِنِيَّةِ الْغُسْلِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ عَزَبَتْ نِيَّتُهُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ. وَإِنْ خَرَجَ إلَى الْحَمَّامِ فَعَزَبَتْ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ بَطَلَتْ النِّيَّةُ. فَرَكَّبَ عَلَى هَذَا سَفَاسِفَةُ الْمُفْتِينَ أَنَّ نِيَّةَ الصَّلَاةِ تَتَخَرَّجُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَأَوْرَدُوا فِيهَا نَصًّا عَمَّنْ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الظَّنِّ وَالْيَقِينِ [بِأَنَّهُ قَالَ:] يَجُوزُ أَنْ يُقَدِّمَ النِّيَّةَ فِيهَا عَلَى التَّكْبِيرِ. وَيَا لِلَّهِ وَيَا لِلْعَالَمِينَ مِنْ أُمَّةٍ أَرَادَتْ أَنْ تَكُونَ مُفْتِيَةً مُجْتَهِدَةً فَمَا وَفَّقَهَا اللَّهُ وَلَا سَدَّدَهَا، اعْلَمُوا رَحِمَكُمْ اللَّهُ أَنَّ النِّيَّةَ فِي الْوُضُوءِ مُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهَا قَوْلُ مَالِكٍ، فَلَمَّا نَزَلَتْ عَنْ مَرْتَبَةِ الِاتِّفَاقِ سُومِحَ فِي تَقْدِيمِهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ؛ لِأَنَّ أَصْلَهَا قَدْ لَا يَجِبُ. فَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِيهَا وَهِيَ أَصْلٌ مَقْصُودٌ، فَكَيْفَ يُحْمَلُ الْأَصْلُ الْمَقْصُودُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عَلَى الْفَرْعِ التَّابِعِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ؟ هَلْ هَذَا إلَّا غَايَةَ الْغَبَاوَةِ؟ فَلَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ حَتَّى تَكُونَ النِّيَّةُ فِيهَا مُقَارِنَةً لِلتَّكْبِيرِ. وَأَمَّا الصَّوْمُ فَإِنَّ الشَّرْعَ رَفَعَ الْحَرَجَ فِيهِ، لَمَّا كَانَ ابْتِدَاؤُهُ فِي وَقْتِ الْغَفْلَةِ بِتَقْدِيمِ النِّيَّةِ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَأَيْدِيَكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6]: الْيَدُ: عِبَارَةٌ عَمَّا بَيْنَ الْمَنْكِبِ وَالظُّفْرِ، وَهِيَ ذَاتُ أَجْزَاءٍ وَأَسْمَاءٍ؛ مِنْهَا الْمَنْكِبُ، وَمِنْهَا الْكَفُّ، وَالْأَصَابِعُ، وَهُوَ مَحَلُّ الْبَطْشِ وَالتَّصَرُّفِ الْعَامِّ فِي الْمَنَافِعِ، وَهُوَ مَعْنَى

الْيَدِ، وَغَسْلُهُمَا فِي الْوُضُوءِ مَرَّتَيْنِ: إحْدَاهُمَا عِنْدَ أَوَّلِ مُحَاوَلَةِ الْوُضُوءِ وَهُوَ سُنَّةٌ، وَالثَّانِيَةُ فِي أَثْنَاءِ الْوُضُوءِ، وَهُوَ فَرْضٌ. وَمَعْنَى غَسْلِهِمَا عِنْدَ الْوُضُوءِ تَنْظِيفُ الْيَدَيْنِ لِإِدْخَالِهَا [فِي] الْإِنَاءِ وَمُحَاوَلَةُ نَقْلِ الْمَاءِ بِهِمَا، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الِاسْتِيقَاظِ مِنْ النَّوْمِ، فَقَدْ رَوَى جَمِيعُ الْأَئِمَّةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ». وَرَوَى عُثْمَانُ وَغَيْرُهُ صِفَةَ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكُلُّهُمْ ذَكَرُوا «أَنَّهُ غَسَلَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ»، حَتَّى بَلَغَ مَكَانَهُمَا مِنْ عُلَمَائِنَا أَنْ جَعَلُوهُمَا مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ. فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إذَا غَسَلَ يَدَيْهِ ثُمَّ تَمَضْمَضَ ثُمَّ تَمَادَى فِي الْوُضُوءِ ثُمَّ أَحْدَثَ فِي أَثْنَائِهِ فَإِنَّهُ يُعِيدُ غَسْلَ يَدَيْهِ كَمَا يُعِيدُ مَا سَبَقَ مِنْ الْوُضُوءِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]: فَذَكَرَهَا. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ إدْخَالِهِمَا فِي الْغَسْلِ. وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ، وَذَكَرَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَقَاوِيلَ: الْأَوَّلُ: أَنَّ {إِلَى} [المائدة: 6] بِمَعْنَى مَعَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] مَعْنَاهُ مَعَ أَمْوَالِكُمْ. الثَّانِي: أَنَّ {إِلَى} [المائدة: 6] حَدٌّ، وَالْحَدُّ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمَحْدُودِ دَخَلَ فِيهِ، تَقُولُ:

مسألة معنى قوله تعالى وامسحوا

بِعْتُك هَذَا الْفَدَّانَ مِنْ هَاهُنَا إلَى هَاهُنَا، فَيَدْخُلُ الْحَدُّ فِيهِ. وَلَوْ قُلْت: مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ مَا دَخَلَ الْحَدُّ فِي الْفَدَّانِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَرَافِقَ حَدُّ السَّاقِطِ لَا حَدُّ الْمَفْرُوضِ؛ قَالَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ. وَمَا رَأَيْته لِغَيْرِهِ. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6] يَقْتَضِي بِمُطْلَقِهِ مِنْ الظُّفْرِ إلَى الْمَنْكِبِ، فَلَمَّا قَالَ: {إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] أَسْقَطَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبِ وَالْمِرْفَقِ، وَبَقِيَتْ الْمَرَافِقُ مَغْسُولَةً إلَى الظُّفْرِ؛ وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ يَجْرِي عَلَى الْأُصُولِ لُغَةً وَمَعْنًى. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ {إِلَى} [المائدة: 6] بِمَعْنَى مَعَ فَلَا سَبِيلَ إلَى وَضْعِ حَرْفٍ مَوْضِعَ حَرْفٍ، إنَّمَا يَكُونُ كُلُّ حَرْفٍ بِمَعْنَاهُ، وَتَتَصَرَّفُ مَعَانِي الْأَفْعَالِ، وَيَكُونُ مَعْنَى التَّأْوِيلِ فِيهَا لَا فِي الْحُرُوفِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] عَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ: فَاغْسِلُوا أَيْدِيَكُمْ مُضَافَةً إلَى الْمَرَافِقِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] مَعْنَاهُ مُضَافَةً إلَى أَمْوَالِكُمْ. وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا تَوَضَّأَ أَدَارَ الْمَاءَ عَلَى مِرْفَقَيْهِ». [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَامْسَحُوا] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا} [المائدة: 6]: الْمَسْحُ: عِبَارَةٌ عَنْ إمْرَارِ الْيَدِ عَلَى الْمَمْسُوحِ خَاصَّةً، وَهُوَ فِي الْوُضُوءِ عِبَارَةٌ عَنْ إيصَالِ الْمَاءِ إلَى الْآلَةِ الْمَمْسُوحِ بِهَا، وَالْغَسْلُ عِبَارَةٌ عَنْ إيصَالِ الْمَاءِ إلَى الْمَغْسُولِ؛ وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنْ ضَرُورَةِ اللُّغَةِ، وَبَيَانُهُ يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6]: وَالرَّأْسُ عِبَارَةٌ عَنْ الْجُمْلَةِ الَّتِي يَعْلَمُهَا النَّاسُ ضَرُورَةً، وَمِنْهَا الْوَجْهُ، فَلَمَّا ذَكَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْوُضُوءِ وَعَيَّنَ الْوَجْهَ لِلْغَسْلِ بَقِيَ بَاقِيهِ لِلْمَسْحِ. وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْغَسْلَ أَوَّلًا فِيهِ

لَلَزِمَ مَسْحُ جَمِيعِهِ: مَا عَلَيْهِ شَعْرٌ مِنْ الرَّأْسِ، وَمَا فِيهِ الْعَيْنَانِ وَالْأَنْفُ وَالْفَمُ؛ وَهَذَا انْتِزَاعٌ بَدِيعٌ مِنْ الْآيَةِ. وَقَدْ أَشَارَ مَالِكٌ إلَى نَحْوِهِ، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ الَّذِي يَتْرُكُ بَعْضَ رَأْسِهِ فِي الْوُضُوءِ؟ فَقَالَ: أَرَأَيْت لَوْ تَرَكَ بَعْضَ وَجْهِهِ أَكَانَ يُجْزِئُهُ؟ وَمَسْأَلَةُ مَسْحِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ مُعْضِلَةٌ، وَيَا طَالَمَا تَتَبَّعْتهَا لِأُحِيطَ بِهَا حَتَّى عَلَّمَنِي اللَّهُ تَعَالَى بِفَضْلِهِ إيَّاهَا؛ فَخُذُوهَا مُجْمَلَةً فِي عِلْمِهَا، مُسَجَّلَةً بِالصَّوَابِ فِي حُكْمِهَا؛ وَاسْتِيفَاؤُهَا فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ قَوْلًا: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إنْ مَسَحَ مِنْهُ شَعْرَةً وَاحِدَةً أَجْزَأَهُ. الثَّانِي: ثَلَاثُ شَعَرَاتٍ. الثَّالِثُ: مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ. ذَكَرَ لَنَا هَذِهِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ فِي الدَّرْسِ عَنْ الشَّافِعِيِّ. الرَّابِعُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَمْسَحُ النَّاصِيَةَ. الْخَامِسُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّ الْفَرْضَ أَنْ يَمْسَحَ الرُّبْعَ. السَّادِسُ: قَالَ أَيْضًا فِي رِوَايَتِهِ الثَّالِثَةِ: لَا يُجْزِيهِ إلَّا أَنْ يَمْسَحَ النَّاصِيَةَ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ أَوْ أَرْبَعٍ. السَّابِعُ: يَمْسَحُ الْجَمِيعَ؛ قَالَهُ مَالِكٌ. الثَّامِنُ: إنْ تَرَكَ الْيَسِيرَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ أَجْزَأَهُ؛ أَمْلَاهُ عَلَيَّ الْفِهْرِيُّ. التَّاسِعُ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: إنْ تَرَكَ الثُّلُثَ أَجْزَأَهُ. الْعَاشِرُ: قَالَ أَبُو الْفَرَجِ: إنْ مَسَحَ ثُلُثَهُ أَجْزَأَهُ. الْحَادِيَ عَشَرَ: قَالَ أَشْهَبُ: إنْ مَسَحَ مُقَدِّمَةً أَجْزَأَهُ. فَهَذِهِ أَحَدَ عَشَرَ قَوْلًا، وَمَنْزِلَةُ الرَّأْسِ فِي الْأَحْكَامِ مَنْزِلَتُهُ فِي الْأَبْدَانِ، وَهُوَ عَظِيمُ الْخَطَرِ فِيهِمَا جَمِيعًا؛ وَلِكُلِّ قَوْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مَطْلَعٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ:

فَمَطْلَعُ الْأَوَّلِ: أَنَّ الرَّأْسَ وَإِنْ كَانَ عِبَارَةً عَنْ الْعُضْوِ فَإِنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَى الشَّعْرِ بِلَفْظِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «احْلِقْ رَأْسَك»، وَالْحَلْقُ إنَّمَا هُوَ فِي الشَّعْرِ، إذَا ثَبَتَ هَذَا تَرَكَّبَ عَلَيْهِ: الْمَطْلَعُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ إضَافَةَ الْفِعْلِ إلَى الرَّأْسِ يَنْقَسِمُ فِي الْعُرْفِ وَالْإِطْلَاقِ إلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَقْتَضِي اسْتِيفَاءَ الِاسْمِ. وَالثَّانِي: يَقْتَضِي بَعْضَهُ؛ فَإِذَا قُلْت: " حَلَقْت رَأْسِي " اقْتَضَى فِي الْإِطْلَاقِ الْعُرْفِيِّ الْجَمِيعَ. وَإِذَا قُلْت: مَسَحْت الْجِدَارَ أَوْ رَأْسَ الْيَتِيمِ أَوْ رَأْسِي اقْتَضَى الْبَعْضَ، فَيَتَرَكَّبُ عَلَيْهِ: الْمَطْلَعُ: الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ الْبَعْضَ لَا حَدَّ لَهُ مُجْزِئٌ مِنْهُ مَا كَانَ قَالَ لَنَا الشَّاشِيُّ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} [البقرة: 196] وَكَانَ مَعْنَاهُ شَعْرَ رُءُوسِكُمْ، وَكَانَ أَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثًا. قُلْنَا: إنْ حَلَقَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ مَسَحَهَا أَجْزَأَهُ، وَالْمَسْحُ أَظْهَرُ، وَمَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ أَقَلُّهُ شَعْرَةٌ وَاحِدَةٌ. الْمَطْلَعُ الرَّابِعُ: نَظَرَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ الْوُضُوءَ إنَّمَا شَرَعَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيمَا يَبْدُو مِنْ الْأَعْضَاءِ فِي الْغَالِبِ، وَاَلَّذِي يَبْدُو مِنْ الرَّأْسِ تَحْتَ الْعِمَامَةِ النَّاصِيَةُ، وَلَا سِيَّمَا وَهَذَا يُعْتَضَدُ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ فَمَسَحَ نَاصِيَتَهُ وَعِمَامَتَهُ».

الْمَطْلَعُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ مَسْحُ النَّاصِيَةِ فَلَا يُتَيَقَّنُ مَوْضِعُهَا؛ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَعَلُّقُ الْعِبَادَةِ بِالرَّأْسِ؛ فَقَدْ ثَبَتَ مَسْحُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّاصِيَةَ، وَهِيَ نَحْوُ الرُّبْعِ فَيَتَقَدَّرُ الرُّبْعُ مِنْهُ أَيْنَ كَانَ، وَمَطْلَعُ الرُّبْعِ بِتَقْدِيرِ الْأَصَابِعِ يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَمَطْلَعُ الْجَمِيعِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَّقَ عِبَادَةَ الْمَسْحِ بِالرَّأْسِ، كَمَا عَلَّقَ عِبَادَةَ الْغَسْلِ بِالْوَجْهِ؛ فَوَجَبَ الْإِيعَابُ فِيهِمَا بِمُطْلَقِ اللَّفْظِ. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ: إنَّ مُطْلَقَ الْقَوْلِ فِي الْمَسْحِ لَا يَقْتَضِي الْإِيعَابَ عُرْفًا، فَمَا عُلِّقَ بِهِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ إنَّمَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَغْرَاضِ وَبِحَسَبِ الْأَحْوَالِ، تَقُولُ: مَسَحْت الْجِدَارَ، فَيَقْتَضِي بَعْضَهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْجِدَارَ لَا يُمْكِنُ تَعْمِيمُهُ بِالْمَسْحِ حِسًّا، وَلَا غَرَضَ فِي اسْتِيعَابِهِ قَصْدًا، وَتَقُولُ: مَسَحْت رَأْسَ الْيَتِيمِ لِأَجْلِ الرَّأْفَةِ، فَيُجْزِئُ مِنْهُ أَقَلُّهُ بِحُصُولِ الْغَرَضِ بِهِ. وَتَقُولُ: مَسَحْت الدَّابَّةَ فَلَا يُجْزِئُ إلَّا جَمِيعُهَا؛ لِأَجْلِ مَقْصَدِ النَّظَافَةِ فِيهَا، فَتَعَلُّقُ الْوَظِيفَةِ بِالرَّأْسِ يَقْتَضِي عُمُومَهُ بِقَصْدِ التَّطْهِيرِ فِيهِ؛ وَلِأَنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ يَقْتَضِيهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُولُ: مَسَحْت رَأْسِي كُلَّهُ فَتُؤَكِّدُهُ، وَلَوْ كَانَ يَقْتَضِي الْبَعْضَ لَمَا تَأَكَّدَ بِالْكُلِّ؛ فَإِنَّ التَّأْكِيدَ لِرَفْعِ الِاحْتِمَالِ الْمُتَطَرِّقِ إلَى الظَّاهِرِ فِي إطْلَاقِ اللَّفْظِ. وَمَطْلَعُ مَنْ قَالَ إنَّ تَرْكَ الْيَسِيرِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ أَجْزَأَهُ: أَنَّ تَحَقُّقَ عُمُومِ الْوَجْهِ بِالْغَسْلِ مُمْكِنٌ بِالْحِسِّ، وَتَحَقُّقَ عُمُومِ الْمَسْحِ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ فَسُومِحَ بِتَرْكِ الْيَسِيرِ مِنْهُ دَفْعًا لِلْحَرَجِ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ مُرُورَ الْيَدِ عَلَى الْجَمِيعِ مُمْكِنٌ تَحْصِيلُهُ حِسًّا وَعَادَةً. وَمَطْلَعُ مَنْ قَالَ: إنَّ تَرْكَ الثُّلُثِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ أَجْزَأَهُ: قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ، إلَّا أَنَّهُ رَأَى الثُّلُثَ يَسِيرًا، فَجَعَلَهُ فِي حَدِّ الْمَتْرُوكِ لَمَّا رَأَى الشَّرِيعَةَ سَامَحَتْ بِهِ فِي الثُّلُثِ وَغَيْرِهِ. وَمَطْلَعُ مَنْ قَالَ: إنْ مَسَحَ ثُلُثَهُ أَجْزَأَهُ إلَى أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ أَطْلَقَ اسْمَ الْكَثِيرِ عَلَى الثُّلُثِ فِي قَوْلِهِ مِنْ حَدِيثِ سَعْدٍ: " الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ".

وَلُحِظَ مَطْلَعُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي النَّاصِيَةِ حَسْبَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ، وَدَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ فِي تَعَلُّقِ الْعِبَادَاتِ بِالظَّاهِرِ. وَمَطْلَعُ قَوْلِ أَشْهَبَ فِي أَنَّ مَنْ مَسَحَ مُقَدِّمَةً أَجْزَأَهُ إلَى نَحْوٍ مِنْ ذَلِكَ تَنَاصُفٌ لَيْسَ يَخْفَى عَلَى اللَّبِيبِ عِنْدَ اطِّلَاعِهِ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَالْأَنْحَاءِ الْمُطَلَّعَاتِ أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَخْرُجْ اجْتِهَادُهُمْ عَنْ سَبِيلِ الدَّلَالَاتِ فِي مَقْصُودِ الشَّرِيعَةِ، وَلَا جَاوَزُوا طَرَفَيْهَا إلَى الْإِفْرَاطِ؛ فَإِنَّ لِلشَّرِيعَةِ طَرَفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: طَرَفُ التَّخْفِيفِ فِي التَّكْلِيفِ. وَالْآخَرُ: طَرَفُ الِاحْتِيَاطِ فِي الْعِبَادَاتِ. فَمَنْ احْتَاطَ اسْتَوْفَى الْكُلَّ، وَمَنْ خَفَّفَ أَخَذَ بِالْبَعْضِ. قُلْنَا: فِي إيجَابِ الْكُلِّ تَرْجِيحٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهُمَا: الِاحْتِيَاطُ. الثَّانِي: التَّنْظِيرُ بِالْوَجْهِ، لَا مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ؛ بَلْ مِنْ مُطْلَقِ اللَّفْظِ فِي ذِكْرِ الْفِعْلِ وَهُوَ الْغَسْلُ أَوْ الْمَسْحُ، وَذِكْرِ الْمَحَلِّ؛ وَهُوَ الْوَجْهُ أَوْ الرَّأْسُ. الثَّالِثُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ وَصَفَ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ أَنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ كُلَّهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ مَسَحَ نَاصِيَتَهُ وَعِمَامَتَهُ، وَهَذَا نَصٌّ عَلَى الْبَعْضِ؟ قُلْنَا: بَلْ هُوَ نَصٌّ عَلَى الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَلْزَمْ الْجَمِيعُ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْعِمَامَةِ وَالرَّأْسِ. فَلَمَّا مَسَحَ بِيَدِهِ عَلَى مَا أَدْرَكَ مِنْ رَأْسِهِ وَأَمَرَّ يَدَهُ عَلَى الْحَائِلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَاقِيهِ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْحَائِلِ مِنْ جَبِيرَةٍ أَوْ خُفٍّ، وَنَقَلَ الْفَرْضَ إلَيْهِ كَمَا نَقَلَهُ فِي هَذَيْنِ.

جَوَابٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ حِكَايَةُ حَالٍ وَقَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ؛ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَزْكُومًا فَلَمْ يُمْكِنْهُ كَشْفُ رَأْسِهِ؛ فَمَسَحَ الْبَعْضَ وَمَرَّ بِيَدِهِ عَلَى جَمِيعِ الْبَعْضِ، فَانْتَهَى آخِرُ الْكَفِّ إلَى آخِرِ النَّاصِيَةِ، فَأَمَرَّ الْيَدَ عَلَى الْعِمَامَةِ، فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهُ قَصَدَ مَسْحَ الْعِمَامَةِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ مَسْحَ النَّاصِيَةِ بِإِمْرَارِ الْيَدِ؛ وَهَذَا مِمَّا يُعْرَفُ مُشَاهَدَةً، وَلِهَذَا لَمْ يُرْوَ عَنْهُ قَطُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي أَطْوَارِهِ بِأَسْفَارِهِ عَلَى كَثْرَتِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ: ظَنَّ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَحَشْوِيَّةُ النَّحْوِيَّةِ أَنَّ الْبَاءَ لِلتَّبْعِيضِ، وَلَمْ يَبْقَ ذُو لِسَانٍ رَطْبٍ إلَّا وَقَدْ أَفَاضَ فِي ذَلِكَ حَتَّى صَارَ الْكَلَامُ فِيهَا إجْلَالًا بِالْمُتَكَلِّمِ، وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ شَدَا طَرَفًا مِنْ الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يَعْتَقِدَ فِي الْبَاءِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ تَرِدُ فِي مَوْضِعٍ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِيهِ لِرَبْطِ الْفِعْلِ بِالِاسْمِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِمَعْنًى؛ تَقُولُ: مَرَرْت بِزَيْدٍ، فَهَذَا لِإِلْصَاقِ الْفِعْلِ بِالِاسْمِ، ثُمَّ تَقُولُ: مَرَرْت زَيْدًا فَيَبْقَى الْمَعْنَى. وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ بَيَانُهُ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ ". وَقَدْ طَالَ الْقَوْلُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَتَرَامَتْ فِيهِ الْخَوَاطِرُ فِي الْمُخْتَصَرِ حَتَّى أَفَادَنِي فِيهِ بَعْضُ أَشْيَاخِي فِي الْمُذَاكَرَةِ وَالْمُطَالَعَةِ فَائِدَةً بَدِيعَةً: وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: {فَامْسَحُوا} [المائدة: 6] يَقْتَضِي مَمْسُوحًا، وَمَمْسُوحًا بِهِ. وَالْمَمْسُوحُ الْأَوَّلُ هُوَ مَا كَانَ. وَالْمَمْسُوحُ الثَّانِي هُوَ الْآلَةُ الَّتِي بَيْنَ الْمَاسِحِ وَالْمَمْسُوحِ، كَالْيَدِ وَالْمُحَصِّلِ لِلْمَقْصُودِ مِنْ الْمَسْحِ، وَهُوَ الْمِنْدِيلُ؛ وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ بِهِ؛ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَوْ قَالَ: امْسَحُوا رُءُوسَكُمْ لَأَجْزَأَ الْمَسْحُ بِالْيَدِ إمْرَارًا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ عَلَى الرَّأْسِ لَا مَاءَ وَلَا سِوَاهُ، فَجَاءَ بِالْبَاءِ لِتُفِيدَ مَمْسُوحًا بِهِ، وَهُوَ الْمَاءُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ الْمَاءَ، مِنْ بَابِ الْمَقْلُوبِ، وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُهُ، وَقَدْ أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ: كَنُوَاحِ رِيشِ حَمَامَةٍ نَجْدِيَّةٍ وَمَسَحْت بِاللِّثَتَيْنِ عَصْفَ الْإِثْمِدِ مِثْلُهُ: " مِثْلُ الْقَنَافِذِ ". وَمِثْلُهُ: {مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} [الإنسان: 16].

مسألة مسح شعر القفا

وَاللِّثَةُ: هِيَ الْمَمْسُوحَةُ بِعَصْفِ الْإِثْمِدِ، فَقَلْبٌ. وَلَكِنَّ الْأَمْرَ بَيِّنٌ وَالْفَصَاحَةَ قَائِمَةٌ، وَإِلَى هَذَا النَّحْوِ أَشَارَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي شَرْطِهِ الرَّابِعِ بِالثَّلَاثَةِ الْأَصَابِعِ أَوْ الْأَرْبَعِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هُنَالِكَ مَمْسُوحٌ بِهِ لِأَجْلِ الْبَاءِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَامْسَحُوا بِأَكُفِّكُمْ رُءُوسَكُمْ. وَالْكَفُّ خَمْسُ أَصَابِعَ وَمُعْظَمُهَا ثَلَاثٌ وَأَرْبَعٌ، وَالْمُعْظَمُ قَائِمٌ مَقَامَ الْكُلِّ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، فَفَطِنَ أَنَّ إدْخَالَ الْبَاءِ لِمَعْنًى، وَغَفَلَ عَنْ أَنَّ لَفْظَ الْمَسْحِ يَقْتَضِي الْيَدَ لُغَةً وَحَقِيقَةً؛ فَجَعَلَ فَائِدَةَ الْبَاءِ التَّعَلُّقَ بِالْيَدِ. وَهَذِهِ عَثْرَةٌ لِفَهْمِهِ لَا يُقَالُهَا، وَوَفَّقَ اللَّهُ هَذَا الْإِمَامَ الَّذِي أَفَادَنِي هَذِهِ الْفَائِدَةَ فِيهَا، إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَاَللَّهُ يَنْفَعُنِي وَإِيَّاكُمْ بِرَحْمَتِهِ. [مَسْأَلَة مَسْحَ شَعْرِ الْقَفَا] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: مِنْ أَغْرَبِ شَيْءٍ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَأَى مَسْحَ شَعْرِ الْقَفَا؛ وَلَيْسَ مِنْ الرَّأْسِ فِي وِرْدٍ وَلَا صَدْرٍ؛ فَإِنَّ الرَّأْسَ جُزْءٌ مِنْ الْإِنْسَانِ، وَالْيَدَ جُزْءٌ، وَالْبَدَنَ جُزْءٌ، وَالْعَيْنَ جُزْءٌ، وَالْعُنُقَ جُزْءٌ، وَمُقَدَّمَ الرَّقَبَةِ الْعُنُقُ، وَمُؤَخَّرَهَا الْقَفَا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ رَأْسَهُ حَتَّى بَلَغَ قَفَاهُ». وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ رَأْسَهُ حَتَّى بَلَغَ إلَى قَفَاهُ». الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ ثَلَاثِينَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] ثُمَّ تَوَضَّأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ، فَنَقَلَ أَصْحَابُهُ مَا شَاهَدُوا مِنْ صِفَةِ وُضُوئِهِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا لِكَيْفِيَّةِ الْمَغْسُولِ صِفَةً، وَنَقَلُوا كَيْفِيَّةَ مَسْحِ رَأْسِهِ بِاهْتِبَالٍ كَثِيرٍ، وَتَحْصِيلٍ عَظِيمٍ، وَاخْتِلَافٍ فِي الرِّوَايَاتِ مُتَفَاوِتٍ، نَشَأَتْ مِنْهُ مَسَائِلُ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْإِشَارَةِ إلَى مُعْظَمِهَا؛ لِأَنَّهَا مُفَسِّرَةٌ لِمَا أُطْلِقَ فِي كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مُبْهَمًا.

مسألة غسل المتوضئ شعره بدل المسح

[مَسْأَلَة غَسَلَ الْمُتَوَضِّئُ شَعَره بَدَلَ الْمَسْحِ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6]: وَقَالَ الرَّاوِي: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ رَأْسَهُ، فَلَوْ غَسَلَهُ الْمُتَوَضِّئُ بَدَلَ الْمَسْحِ فَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ، إلَّا مَا أَخْبَرَنَا فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي الدَّرْسِ أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ بْنَ الْقَاصِّ مِنْ أَصْحَابِهِمْ قَالَ: لَا يُجْزِئُهُ. وَهَذَا تَوَلُّجٌ فِي مَذْهَبِ الدَّاوُدِيَّةِ الْفَاسِدِ مِنْ اتِّبَاعِ الظَّاهِرِ الْمُبْطِلِ لِلشَّرِيعَةِ الَّذِي ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم: 7]. وَكَمَا قَالَ: {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} [الرعد: 33]؛ وَإِلَّا فَقَدْ جَاءَ هَذَا الْغَاسِلُ لِرَأْسِهِ بِمَا أُمِرَ بِهِ وَزِيَادَةٍ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ زِيَادَةٌ خَرَجَتْ عَنْ اللَّفْظِ الْمُتَعَبَّدِ بِهِ. قُلْنَا: وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ مَعْنَاهُ فِي إيصَالِ الْفِعْلِ إلَى الْمَحَلِّ وَتَحْقِيقِ التَّكْلِيفِ فِي التَّطْهِيرِ. [مَسْأَلَة تَجْدِيدِ الْمَاءِ لِكُلِّ عُضْوٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي تَجْدِيدِ الْمَاءِ لِكُلِّ عُضْوٍ: وَكَذَلِكَ فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أَنَّهُ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَغَسَلَ يَدَهُ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَمَسَحَ رَأْسَهُ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ». وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ " رَأَى «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ وَمَسَحَ رَأْسَهُ بِمَاءٍ غَيْرِ مَاءِ فَضْلِ يَدَيْهِ». قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهُوَ صَحِيحٌ، وَصَحَّ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ بِرَأْسِهِ مُطْلَقًا». وَكَذَلِكَ وَرَدَتْ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا فِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، وَرَدَتْ مُقَيَّدَةً، وَالْمُقَيَّدُ أَوْلَى مِنْ الْمُطْلَقِ؛ لِاحْتِمَالِ الْمُطْلَقِ وَتَنْصِيصِ الْمُقَيَّدِ. وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ مِنْ أَصْحَابِنَا: يَمْسَحُ رَأْسَهُ بِبَلَلِ لِحْيَتِهِ، وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلَيْنِ:

مسألة تكرار مسح الرأس

أَحَدُهُمَا: جَوَازُ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ. وَالثَّانِي: وُجُوبُ نَقْلِ الْمَاءِ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ: نَشَأَ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَرَى نَفْسَهُ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِنْبَاطِ، وَلَيْسَ مِنْهُ، مِنْ قَوْلِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنَّهُ يَمْسَحُ رَأْسَهُ مِنْ بَلَلِ لِحْيَتِهِ نَقْلُ الْمَاءِ إلَى الْعُضْوِ، وَلَيْسَ فِيهِ مِنْ الْفِقْهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّ الْمَسْحَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ؛ فَيَكْفِي مِنْهُ مَا يَظْهَرُ عَلَى الْيَدِ وَعَلَى الْعُضْوِ الْمَمْسُوحِ؛ فَأَمَّا نَقْلُ الْمَاءِ إلَى الْعُضْوِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ. [مَسْأَلَة تَكْرَارُ مَسْحِ الرَّأْسِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: تَكْرَارُ مَسْحِ الرَّأْسِ: وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ كَمَا وَصَفَ أَصْحَابُهُ، فَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ كُلُّهَا حَيْثُمَا وَرَدَتْ فَاخْتَلَفَتْ صِفَاتُ وُضُوئِهِ فِيهَا وَكَثْرَةُ الْأَعْدَادِ فِي الْأَعْضَاءِ وَقِلَّتُهَا حَاشَا الرَّأْسِ، وَجَاءَ فِي بَعْضِهَا عَنْ عُثْمَانَ وَغَيْرِهِ: «تَوَضَّأَ وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ ثَلَاثًا». قَالَ أَبُو دَاوُد: وَأَحَادِيثُ عُثْمَانَ الصِّحَاحُ عَلَى أَنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ مَسْحَةً وَاحِدَةً. وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [مَسْأَلَة صِفَةِ مَسْحِ الرَّأْسِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ: ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صِفَةِ مَسْحِ الرَّأْسِ: «أَنَّهُ أَقْبَلَ بِيَدَيْهِ وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ». وَفِي الْبُخَارِيِّ: «فَأَدْبَرَ بِهِمَا وَأَقْبَلَ»؛ وَهُمَا صَحِيحَانِ مُتَوَافِقَانِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ؛ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ فِي تَسْمِيَةِ الْفِعْلِ بِابْتِدَائِهِ وَبِغَايَتِهِ.

مسألة الخطاب للمرأة بالعبادة كما هو للرجل في الوضوء

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ: ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَسْحُ لِرَأْسِهِ بِيَدَيْهِ، فَلَوْ مَسَحَ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ أَجْزَأَهُ قَالَ ابْنُ سُفْيَانَ: حَتَّى لَوْ مَسَحَ رَأْسَهُ بِإِصْبَعٍ وَاحِدَةٍ لَأَجْزَأَهُ؛ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ هَيْئَةَ الْأَفْعَالِ فِي الْعِبَادَاتِ هَلْ هِيَ رُكْنٌ فِيهَا أَمْ لَا؟ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِنَا أَنَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مِنْهَا مَا يَتَعَيَّنُ فِي الْعِبَادَةِ كَأَصْلِهَا. وَالثَّانِي: كَوَضْعِ الْإِنَاءِ بَيْنَ يَدَيْ الْمُتَوَضِّئِ. وَالثَّالِثُ: كَاغْتِرَافِ الْمَاءِ بِالْيَدِ وَغَسْلِ الْأَعْضَاءِ وَمَسْحِ الرَّأْسِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْهَيْئَةِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْحِ تَفْسِيرُ الْأَمْرِ، وَهُوَ أَوْلَى فِي التَّعْمِيمِ، وَأَقْرَبُ إلَى التَّحْصِيلِ؛ لِأَنَّ مَا فَاتَهُ فِي الْإِقْبَالِ أَدْرَكَهُ فِي الْإِدْبَارِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: لَمَّا قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّ جَمِيعَ الرَّأْسِ أَصْلٌ فِي إيجَابِ عُمُومِهِ، وَكَانَتْ الْجَبْهَةُ خَارِجَةً عَنْهُ بِالسُّنَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْهُ بِالْحَقِيقَةِ وَالْخِلْقَةِ، نَشَأَتْ عَلَيْهِ مَسْأَلَةٌ، وَهِيَ مَنْزِلَةُ الْأَصْلَعِ وَالْأَنْزَعِ مِنْ الْأَغَمِّ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمَسَائِلِ؛ وَحُكْمُهُ الْأَظْهَرُ أَنْ يَمْسَحَ مِنْ الرَّأْسِ مِقْدَارَ الْعَادَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّعْمِيمِ. [مَسْأَلَة الْخِطَابُ لِلْمَرْأَةِ بِالْعِبَادَةِ كَمَا هُوَ لِلرَّجُلِ فِي الْوُضُوءِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ: الْخِطَابُ لِلْمَرْأَةِ بِالْعِبَادَةِ، كَمَا هُوَ لِلرَّجُلِ فِي الْوُضُوءِ، حَتَّى فِي مَسْحِ الرَّأْسِ؛ لَكِنَّ الْمَرْأَةَ تَمَيَّزَتْ عَنْ الرَّجُلِ بِاسْتِرْسَالِ الدَّلَّالَيْنِ، فَاخْتَلَفَ آرَاءُ مُتَأَخِّرِي عُلَمَائِنَا؛ فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ مَسْحَ جَمِيعِ شَعْرِ رَأْسِ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ انْتَقَلَ مِنْ الْجِلْدَةِ، وَبِهِ تَعَلُّقٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: تَمْسَحُ مِنْهُ مَا يُوَازِي الْفَرْضَ مِنْ مِقْدَارِ الرَّأْسِ كَمَا قُلْنَاهُ فِي اللِّحْيَةِ آنِفًا، وَكَمَا يَلْزَمُ فِي الْخُفَّيْنِ مَسْحُ مَا يُقَابِلُ مَحَلَّ الْفَرْضِ مِنْ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ. [مَسْأَلَة الْقَوْلُ فِي الْأُذُنَيْنِ فِي الْوُضُوء] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: الْقَوْلُ فِي الْأُذُنَيْنِ:

وَهُمَا إنْ كَانَتَا مِنْ الرَّأْسِ فَإِنَّهُمَا فِي الْإِشْكَالِ رَأْسٌ، وَقَدْ تَفَاقَمَ الْخَطْبُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِيهِمَا، وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِيهِمَا فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ فِي التَّفْرِيعِ، وَفِي كُتُبِ الْحَدِيثِ فِي الْآثَارِ. وَاَلَّذِي يُهَوِّنُ عَلَيْك الْخَطْبَ أَنَّ الْبَارِيَ تَعَالَى قَالَ: {بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] وَلَمْ يَذْكُرْ الْأُذُنَيْنِ، وَلَوْلَا أَنَّهُمَا دَاخِلَتَانِ فِي حُكْمِ الرَّأْسِ مَا أَهْمَلَهُمَا، وَمَا كَانَ رَبُّك نَسِيًّا. وَقَدْ رَوَى صِفَةَ وُضُوءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَاعَةٌ لَمْ أَجِدْ ذِكْرَ الْأُذُنَيْنِ فِيهَا إلَّا الْيَسِيرَ مِنْ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ؛ قَالَ: رَأَيْت «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ فَأَخَذَ مَاءً لِأُذُنَيْهِ خِلَافَ الْمَاءِ الَّذِي أَخَذَ لِرَأْسِهِ». وَمِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، رَوَى: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ رَأْسَهُ وَأُذُنَيْهِ بَاطِنَهُمَا بِالسِّبَابَتَيْنِ وَظَاهِرَهُمَا بِإِبْهَامَيْهِ»؛ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَمِنْهُمْ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذٍ؛ قَالَتْ: رَأَيْت «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ رَأْسَهُ مَا أَقْبَلَ مِنْهُ وَمَا أَدْبَرَ، وَمَسَحَ صُدْغَيْهِ وَأُذُنَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً». صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَمِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّمَ الْوُضُوءَ لِمَنْ سَأَلَهُ بِأَنْ تَوَضَّأَ لَهُ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ، وَأَدْخَلَ إصْبَعَيْهِ السَّبَّابَتَيْنِ فِي أُذُنَيْهِ، وَمَسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ ظَاهِرَهُمَا». وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حُكْمِ الْأُذُنَيْنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمَا مِنْ الرَّأْسِ حُكْمًا؛ قَالَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَالثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُمَا. الثَّانِي: أَنَّهُمَا مِنْ الْوَجْهِ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ. الثَّالِثُ: قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: يَغْسِلُ مَا أَقْبَلَ مِنْهُمَا مَعَ الْوَجْهِ، وَيَمْسَحُ مَا أَدْبَرَ مِنْهُمَا مَعَ الرَّأْسِ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ.

مسألة البياض الذي بين الأذنين والرأس الخالي من الشعر هل يمسح أم لا

أَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا مِنْ الرَّأْسِ فَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ تَذْكُرْهُمَا فِي الْوُضُوءِ؛ وَهَذَا ضَعِيفٌ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا ذَكَرَتْهُمَا. وَأَمَّا مَنْ قَالَ إنَّهُمَا مِنْ الْوَجْهِ فَنَزَعَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سُجُودِهِ: «سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ» وَإِنَّمَا أَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوَجْهِهِ جُمْلَتَهُ، وَالسَّمْعُ وَإِنْ كَانَ فِي الرَّأْسِ، وَالْبَصَرُ وَإِنْ كَانَ فِي الْوَجْهِ فَالْكُلُّ مُضَافٌ إلَى الْوَجْهِ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلْجَارِحَةِ وَلِلْقَصْدِ، فَأَضَافَهُ إلَى الِاسْمِ الْعَامِّ لِلْمَعْنَيَيْنِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِالْفَرْقِ فَلَا مَعْنَى لَهُ فَإِنَّهُ تَحَكُّمٌ لَا تَعْضُدُهُ لُغَةٌ، وَلَا تَشْهَدُ لَهُ شَرِيعَةٌ. وَالصَّحِيحُ أَلَّا يَشْتَغِلَ بِهِمَا، هَلْ هُمَا مِنْ الرَّأْسِ أَوْ مِنْ الْوَجْهِ؟ وَأَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَهُمَا، فَبَيَّنَ مَسْحَ الرَّأْسِ، وَأَنَّهُمَا يُمْسَحَانِ كَمَا يُمْسَحُ الرَّأْسُ، وَهُمَا مُضَافَانِ إلَيْهِ شَرْعًا؛ لِأَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَإِذَا مَسَحَ رَأْسَهُ خَرَجَتْ خَطَايَا رَأْسِهِ، حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ أُذُنَيْهِ. [مَسْأَلَة الْبَيَاضُ الَّذِي بَيْنَ الْأُذُنَيْنِ وَالرَّأْسِ الْخَالِي مِنْ الشَّعْرِ هَلْ يُمْسَحُ أَمْ لَا] الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ أَرْبَعِينَ: الْبَيَاضُ الَّذِي بَيْنَ الْأُذُنَيْنِ وَالرَّأْسِ الْخَالِي مِنْ الشَّعْرِ: اخْتَلَفَ فِيهِ عُلَمَاؤُنَا؛ هَلْ يُمْسَحُ أَمْ لَا؟ وَلَيْسَ عِنْدِي بِمَقْصُودٍ، لَا فِي الرَّأْسِ، وَلَا فِي الْأُذُنَيْنِ، لَكِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَتْرُكَهُ مَنْ يَسْتَوْثِقُ فِي مَسْحِ رَأْسِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْصِدَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدِي مِنْهُ. [مَسْأَلَة الْقِرَاءَة فِي قَوْله تَعَالَى وَأَرْجُلَكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6]: ثَبَتَتْ الْقِرَاءَةُ فِيهَا بِثَلَاثِ رِوَايَاتٍ: الرَّفْعُ، قَرَأَ بِهِ نَافِعٌ، رَوَاهُ عَنْهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ وَالْحَسَنِ. وَالنَّصْبُ، رَوَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ قَالَ: قَرَأَ عَلَيَّ

الْحَسَنُ أَوْ الْحُسَيْنُ فَقَرَأَ قَوْلَهُ: {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] فَسَمِعَ عَلِيٌّ ذَلِكَ، وَكَانَ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ، فَقَالَ: وَأَرْجُلَكُمْ بِالنَّصْبِ، هَذَا مِنْ مُقَدَّمِ الْكَلَامِ وَمُؤَخَّرِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَقَرَأَ أَنَسٌ وَعَلْقَمَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِالْخَفْضِ. وَقَالَ مُوسَى بْنُ أَنَسٍ لِأَنَسٍ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، إنَّ الْحَجَّاجَ خَطَبَنَا بِالْأَهْوَازِ وَنَحْنُ مَعَهُ، فَذَكَرَ الطَّهُورَ، فَقَالَ: اغْسِلُوا حَتَّى ذَكَرَ الرِّجْلَيْنِ وَغَسَلَهُمَا وَغَسَلَ الْعَرَاقِيبَ وَالْعَرَاقِبَ، فَقَالَ أَنَسٌ: صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ الْحُجَّاجُ. قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] قَالَ: فَكَانَ أَنَسٌ إذَا مَسَحَ قَدَمَيْهِ بَلَّهُمَا وَقَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالْمَسْحِ، وَجَاءَتْ السُّنَّةُ بِالْغَسْلِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ افْتَرَضَ اللَّهُ مَسْحَيْنِ وَغَسْلَيْنِ، وَبِهِ قَالَ عِكْرِمَةُ وَالشَّعْبِيُّ. وَقَالَ: مَا كَانَ عَلَيْهِ الْغَسْلُ جُعِلَ عَلَيْهِ التَّيَمُّمُ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْمَسْحُ أُسْقِطَ. وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ، وَجَعَلَ الْقِرَاءَتَيْنِ كَالرِّوَايَتَيْنِ فِي الْخَبَرِ يُعْمَلُ بِهِمَا إذَا لَمْ يَتَنَاقَضَا. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَطَفَ الرِّجْلَيْنِ عَلَى الرَّأْسِ، فَقَدْ يُنْصَبُ عَلَى خِلَافِ إعْرَابِ الرَّأْسِ أَوْ يُخْفَضُ مِثْلُهُ؛ وَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَأَصْحَابِهِ رُءُوسُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ لُغَةً وَشَرْعًا. وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُحْتَمَلَةٌ لُغَةً مُحْتَمَلَةٌ شَرْعًا، لَكِنْ تُعَضَّدُ حَالَةُ النَّصْبِ عَلَى حَالَةِ الْخَفْضِ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَسَلَ وَمَا مَسَحَ قَطُّ، وَبِأَنَّهُ رَأَى قَوْمًا تَلُوحُ أَعْقَابُهُمْ، فَقَالَ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ»، «وَوَيْلٌ

لِلْعَرَاقِيبِ مِنْ النَّارِ». فَتَوَعَّدَ بِالنَّارِ عَلَى تَرْكِ إيعَابِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ بِلَا خِلَافٍ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ قَالَ إنَّ الرِّجْلَيْنِ مَمْسُوحَتَانِ لَمْ يَعْلَمْ بِوَعِيدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى تَرْكِ إيعَابِهِمَا. وَطَرِيقُ النَّظَرِ الْبَدِيعِ أَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ مُحْتَمَلَتَانِ، وَأَنَّ اللُّغَةَ تَقْضِي بِأَنَّهُمَا جَائِزَتَانِ، فَرَدَّهُمَا الصَّحَابَةُ إلَى الرَّأْسِ مَسْحًا، فَلَمَّا قَطَعَ بِنَا حَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَقَفَ فِي وُجُوهِنَا وَعِيدُهُ، قُلْنَا: جَاءَتْ السُّنَّةُ قَاضِيَةً بِأَنَّ النَّصْبَ يُوجِبُ الْعَطْفَ عَلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، وَدَخَلَ بَيْنَهُمَا مَسْحُ الرَّأْسِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَظِيفَتُهُ كَوَظِيفَتِهِمَا؛ لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ قَبْلَ الرِّجْلَيْنِ لَا بَعْدَهُمَا، فَذُكِرَ لِبَيَانِ التَّرْتِيبِ لَا لِيَشْتَرِكَا فِي صِفَةِ التَّطْهِيرِ، وَجَاءَ الْخَفْضُ لِيُبَيِّنَّ أَنَّ الرِّجْلَيْنِ يُمْسَحَانِ حَالَ الِاخْتِيَارِ عَلَى حَائِلٍ، وَهُمَا الْخُفَّانِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ، فَعَطَفَ بِالنَّصْبِ مَغْسُولًا عَلَى مَغْسُولٍ، وَعَطَفَ بِالْخَفْضِ مَمْسُوحًا عَلَى مَمْسُوحٍ، وَصَحَّ الْمَعْنَى فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: أَنْتُمْ وَإِنْ قَرَأْتُمُوهَا بِالنَّصْبِ فَهِيَ عَطْفٌ عَلَى الرُّءُوسِ مَوْضِعًا، فَإِنَّ الرُّءُوسَ وَإِنْ كَانَتْ مَجْرُورَةً لَفْظًا فَهِيَ مَنْصُوبَةٌ مَعْنًى؛ لِأَنَّهَا مَفْعُولَةٌ، فَكَيْفَ قَرَأْتهَا خَفْضًا أَوْ نَصْبًا فَوَظِيفَتُهَا الْمَسْحُ مِثْلُ الَّذِي عُطِفَ عَلَيْهِ. قُلْنَا: يُعَارِضُهُ أَنَّا وَإِنْ قَرَأْنَاهَا خَفْضًا، وَظَهَرَ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الرُّءُوسِ فَقَدْ يُعْطَفُ الشَّيْءُ عَلَى الشَّيْءِ بِفِعْلٍ يَنْفَرِدُ بِهِ أَحَدُهُمَا، كَقَوْلِهِ:

مسألة المسح على الخفين

عَلَفْتهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا ... وَرَأَيْت زَوْجَك فِي الْوَغَى مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا ... فِعْلًا فَرُوعَ الْأَيْهَقَانِ وَأَطْفَلَتْ بِالْجَلْهَتَيْنِ ظِبَاؤُهَا وَنِعَامُهَا وَكَقَوْلِهِ: شَرَّابُ أَلْبَانٍ وَتَمْرٍ وَأَقِطٍ تَقْدِيرُهُ: عَلَفْتهَا تِبْنًا وَسَقَيْتهَا مَاءً. وَمُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَحَامِلًا رُمْحًا، وَأَطْفَلَتْ بِالْجَلْهَتَيْنِ ظِبَاؤُهَا وَفَرَّخَتْ نِعَامُهَا. وَشَرَّابُ أَلْبَانٍ وَآكِلُ تَمْرٍ وَأَقِطٍ. فَإِنْ قِيلَ: هَاهُنَا عَطَفَ وَشَرَكَ فِي الْفِعْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ مَفْعُولًا اتِّكَالًا عَلَى فَهْمِ السَّامِعِ لِلْحَقِيقَةِ. قُلْنَا: وَهَا هُنَا عَطَفَ الرِّجْلَيْنِ عَلَى الرُّءُوسِ وَشَرَكَهُمَا فِي فِعْلِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ مَفْعُولُهُ، تَعْوِيلًا عَلَى بَيَانِ الْمَبْلَغِ، فَقَدْ بَلَغَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَيْضًا أَنَّهَا تَكُونُ مَمْسُوحَةً تَحْتَ الْخُفَّيْنِ؛ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي الْبَيَانِ؛ وَقَدْ أَفْرَدْنَاهَا مُسْتَقِلَّةً فِي جُزْءٍ. [مَسْأَلَة الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: إذَا ثَبَتَ وَجْهُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَإِنَّهَا أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَعَلَامَةٌ مُفَرِّقَةٌ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ، وَرَدَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ. فَإِنْ قِيلَ: هِيَ أَخْبَارُ آحَادٍ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ عِنْدَ الْمُبْتَدِعَةِ بَاطِلٌ. قُلْنَا: خَبَرُ الْوَاحِدِ أَصْلٌ عَظِيمٌ لَا يُنْكِرُهُ إلَّا زَائِغٌ، وَقَدْ أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى الرُّجُوعِ إلَيْهِ، وَقَدْ جَمَعْنَاهُ فِي جُزْءٍ. الْجَوَابُ الثَّانِي: إنَّهَا مَرْوِيَّةٌ تَوَاتُرًا؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ اتَّفَقَتْ عَلَى نَقْلِهَا خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ، وَإِنْ أُضِيفَتْ إلَى آحَادٍ، كَمَا أُضِيفَ اخْتِلَافُ الْقِرَاءَاتِ إلَى الْقُرَّاءِ فِي نَقْلِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ مُتَوَاتِرٌ. وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ فِيهَا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ.

مسألة معنى قوله تعالى إلى الكعبين

[مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى إلَى الْكَعْبَيْنِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَوْله تَعَالَى: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]: اُخْتُلِفَ فِيهِمَا؛ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْجَمَاعَةُ: إنَّهُمَا الْعَظْمَاتُ النَّاتِئَانِ فِي الْمِفْصَلِ بَيْنَ السَّاقِ وَالرِّجْلِ. وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: إنَّهُمَا الْعَظْمَاتُ النَّاتِئَانِ فِي وَجْهِ الْقَدَمِ؛ وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْكَعْبُ هُوَ الَّذِي بَيْنَ السَّاقِ وَالْقَدَمِ. وَالْعَقِبُ هُوَ مَعْقِدُ الشِّرَاكِ، وَتَقْتَضِي لُغَةُ الْعَرَبِ أَنَّ كُلَّ نَاتِئٍ كَعْبٌ، يُقَالُ: كَعْبُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ إذَا بَرَزَ عَنْ صَدْرِهَا. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الَّذِي يُعْقَدُ فِيهِ الشِّرَاكُ، لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ مَشْهُورًا فِي اللُّغَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَتَحَصَّلُ بِهِ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَايَةٍ لَهُمَا وَلَا بِبَعْضِ مَعْلُومٍ مِنْهُمَا، وَالْإِحَالَةُ عَلَى الْمَجْهُولِ فِي التَّكْلِيفِ لَا تَجُوزُ إلَّا بِالْبَيَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا، وَلَا مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُنَّةٌ؛ فَبَطَلَ؛ بَلْ جَاءَتْ السُّنَّةُ بِضِدِّهَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَيْلٌ لِلْعَرَاقِيبِ مِنْ النَّارِ». وَهَذَا يُبْطِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْقِدُ الشِّرَاكِ حِذَاءَهُ لَا فَوْقَهُ، يَعْضُدُهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] وَلَوْ قَالَ: أَرَادَ مَعْقِدَ الشِّرَاكِ لَقَالَ إلَى الْكِعَابِ، كَمَا قَالَ: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] لَمَّا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ قَلْبٌ وَاحِدٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِي كُلِّ رِجْلٍ كَعْبَيْنِ اثْنَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: الْقَوْلُ فِي دُخُولِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْكَعْبَيْنِ كَالْقَوْلِ فِي دُخُولِ الْمَرَافِقِ فِي الْوُضُوءِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْكَعْبَ فِي السَّاقِ، كَمَا أَنَّ الْمِرْفَقَ فِي الْعَضُدِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُوَ فِي غَيْرِ الْمَذْكُورِ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّك إذَا غَسَلْت السَّاعِدَ إلَى الْمِرْفَقِ فَالْمِرْفَقُ آخِرُ الْعَضُدِ، وَإِذَا غَسَلْت الْقَدَمَ إلَى الْكَعْبَيْنِ فَالْكَعْبَانِ آخِرَ السَّاقَيْنِ، فَرَكِّبْهُ عَلَيْهِ وَافْهَمْهُ مِنْهُ.

مسألة تخليل الأصابع في الوضوء

[مَسْأَلَة تَخْلِيل الْأَصَابِعِ فِي الْوُضُوءِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي تَخْلِيلِ الْأَصَابِعِ فِي الْوُضُوءِ: وَذَلِكَ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ؛ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَهُوَ وَاجِبٌ فِي الْيَدَيْنِ مُسْتَحَبٌّ فِي الرِّجْلَيْنِ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ. وَقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ فِي الْجَمِيعِ، لِمَا رَوَى حُذَيْفَةُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «خَلِّلُوا بَيْنَ الْأَصَابِعِ لَا تَتَخَلَّلُهَا النَّارُ». وَقَالَ الْمُسْتَوْرِدُ بْنُ شَدَّادٍ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُدَلِّكُ بِخِنْصَرِهِ مَا بَيْنَ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ». وَالْحَقُّ أَنَّهُ وَاجِبٌ فِي الْيَدَيْنِ عَلَى الْقَوْلِ بِالدَّلْكِ، غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الرِّجْلَيْنِ، لِأَنَّ تَخْلِيلَهَا بِالْمَاءِ يُقَرِّحُ بَاطِنَهَا، وَقَدْ شَاهَدْنَا ذَلِكَ، وَمَا عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، فَكَيْفَ فِي تَخْلِيلٍ تَتَقَرَّحُ بِهِ الْأَقْدَامُ، [مَسْأَلَةُ حُكْم إزَالَة النَّجَاسَةِ فِي الْوُضُوء] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: نَزَعَ عُلَمَاؤُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ إلَى أَنَّ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، لِأَنَّهُ قَالَ: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6]؛ تَقْدِيرُهُ كَمَا سَبَقَ: وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ، فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ، فَلَمْ يَذْكُرْ الِاسْتِنْجَاءَ، وَذَكَرَ الْوُضُوءَ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَكَانَ أَوَّلَ مَبْدُوءٍ بِهِ، وَهِيَ رِوَايَةُ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: لَا تُجْزِئُ الصَّلَاةُ بِهَا لَا ذَاكِرًا وَلَا نَاسِيًا؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ: تَجِبُ مَعَ الذِّكْرِ وَتَسْقُطُ مَعَ النِّسْيَانِ.

مسألة ذكر الله تعالى أعضاء الوضوء وترتيبها

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَجِبُ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ إذَا زَادَتْ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ يُرِيدُ الْكَبِيرَ الَّذِي هُوَ عَلَى هَيْئَةِ الْمِثْقَالِ قِيَاسًا عَلَى فَمِ الْمَخْرَجِ الْمُعْتَادِ الَّذِي عُفِيَ عَنْهُ، وَتَوْجِيهُ ذَلِكَ وَتَفْرِيعُهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَكُتُبِ الْفُرُوعِ. وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ. وَلَا حُجَّةَ فِي ظَاهِرِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنَّمَا بَيَّنَ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ صِفَةَ الْوُضُوءِ خَاصَّةً، وَلِلصَّلَاةِ شُرُوطٌ: مِنْ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، وَبَيَانُ كُلِّ شَرْطٍ مِنْهَا فِي مَوْضِعِهِ وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَة ذَكَر اللَّهُ تَعَالَى أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ وَتَرْتِيبَهَا] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ وَتَرْتِيبَهَا وَأَمَرَ بِغَسْلِهَا مُعَقَّبَةً، فَهَلْ يَلْزَمُ كُلَّ مُكَلَّفٍ أَنْ تَكُونَ مَفْعُولَةً مَجْمُوعَةً فِي الْفِعْلِ كَجَمْعِهَا فِي الذِّكْرِ، أَوْ يُجْزِئُ التَّفْرِيقُ فِيهَا؟ فَقَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَكِتَابِ مُحَمَّدٍ: إنَّ التَّوَالِيَ سَاقِطٌ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ: إنْ فَرَّقَهُ مُتَعَمِّدًا لَمْ يُجْزِهِ، وَيُجْزِيهِ نَاسِيًا. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: لَا يُجْزِيهِ نَاسِيًا وَلَا مُتَعَمِّدًا. وَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ حَبِيبٍ: يُجْزِيهِ فِي الْمَغْسُولِ وَلَا يُجْزِيهِ فِي الْمَمْسُوحِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: يُجْزِيهِ نَاسِيًا وَمُتَعَمِّدًا. فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ الْأَصْلُ فِيهَا: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ أَمْرًا مُطْلَقًا فَوَالِ أَوْ فَرِّقْ، وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْفَوْرِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَوْرِ الْأَمْرُ بِأَصْلِ الْوُضُوءِ خَاصَّةً. وَالْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا عِبَادَةٌ ذَاتُ أَرْكَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَوَجَبَ فِيهَا التَّوَالِي كَالصَّلَاةِ، وَبِهَذَا نَقُولُ: إنَّهُ يَلْزَمُ الْمُوَالَاةُ مَعَ الذِّكْرِ وَالنِّسْيَانِ كَالصَّلَاةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا، فَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ. وَأَمَّا مُتَعَلِّقُ الْفَرْقِ بَيْنَ الذِّكْرِ وَالنِّسْيَانِ فَإِنَّ التَّوَالِيَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الطَّهَارَةِ، فَافْتَرَقَ فِيهَا الذِّكْرُ وَالنِّسْيَانُ، كَالتَّرْتِيبِ. وَاعْتِبَارُ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْعِبَادَةِ بِصِفَةٍ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ عِبَادَةٍ بِعِبَادَةٍ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي تَحْقِيقِ مَعْنًى لَمْ يَتَفَطَّنْ لَهُ أَحَدٌ حَاشَا مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، لِعَظِيمِ إمَامَتِهِ، وَسَعَةِ دِرَايَتِهِ، وَثَاقِبِ فِطْنَتِهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] الْآيَةَ. «وَتَوَضَّأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّةً مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَمَرَّتَيْنِ فِي بَعْضِ أَعْضَائِهِ وَثَلَاثًا فِي بَعْضِهَا فِي وُضُوءٍ وَاحِدٍ»، فَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ بَلْ كُلُّهُمْ أَنَّ الْوَاحِدَةَ فَرْضٌ، وَالثَّانِيَةَ فَضْلٌ، وَالثَّالِثَةَ مِثْلُهَا، وَالرَّابِعَةَ تَعَدٍّ، وَأَعْلَنُوا بِذَلِكَ فِي الْمَجَالِسِ، وَدَوَّنُوهُ فِي الْقَرَاطِيسِ؛ وَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوا وَإِنْ كَثُرُوا، فَالْحَقُّ لَا يُكَالُ بِالْقُفْزَانِ، وَلَيْسَ سَوَاءً فِي دَرْكِهِ الرِّجَالُ وَالْوِلْدَانِ. اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ قَوْلَ الرَّاوِي: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ وَثَلَاثًا أَنَّهُ أَوْعَبَ بِوَاحِدَةٍ، وَجَاءَ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةُ زَائِدَةً فَإِنَّ هَذَا غَيْبٌ لَا يُدْرِكُهُ بَشَرٌ؛ وَإِنَّمَا رَأَى الرَّاوِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ غَرَفَ لِكُلِّ عُضْوٍ مَرَّةً، فَقَالَ: تَوَضَّأَ مَرَّةً، وَهَذَا صَحِيحٌ صُورَةً وَمَعْنًى؛ ضَرُورَةً أَنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوعِبْ الْعُضْوَ بِمَرَّةٍ لَأَعَادَ؛ وَأَمَّا إذَا زَادَ عَلَى غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْعُضْوِ أَوْ غَرْفَتَيْنِ فَإِنَّنَا لَا نَتَحَقَّقُ أَنَّهُ أَوْعَبَ الْفَرْضَ فِي الْغَرْفَةِ الْوَاحِدَةِ وَجَاءَ مَا بَعْدَهَا فَضْلًا، أَوْ لَمْ يُوعِبْ فِي الْوَاحِدَةِ وَلَا فِي الِاثْنَتَيْنِ حَتَّى زَادَ عَلَيْهَا بِحَسَبِ الْمَاءِ وَحَالِ الْأَعْضَاءِ فِي النَّظَافَةِ وَتَأْتِي حُصُولُ التَّلَطُّفِ فِي إدَارَةِ الْمَاءِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ عَلَيْهَا، فَيُشْبِهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى أُمَّتِهِ بِأَنْ يُكَرِّرَ لَهُمْ الْفِعْلَ، فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُوعِبَ بِغَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ، فَجَرَى مَعَ اللُّطْفِ بِهِمْ وَالْأَخْذِ لَهُمْ بِأَدْنَى أَحْوَالِهِمْ إلَى التَّخَلُّصِ؛ وَلِأَجْلِ هَذَا لَمْ يُوَقِّتْ مَالِكٌ فِي الْوُضُوءِ مَرَّةً وَلَا مَرَّتَيْنِ وَلَا ثَلَاثًا إلَّا مَا أَسْبَغَ. قَالَ: وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الْآثَارُ فِي التَّوْقِيتِ، يُرِيدُ اخْتِلَافًا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ مَعْنَى الْإِسْبَاغِ لَا صُورَةُ الْأَعْدَادِ، وَقَدْ تَوَضَّأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا تَقَدَّمَ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ بِثَلَاثِ غَرَفَاتٍ، وَيَدَهُ بِغَرْفَتَيْنِ، لِأَنَّ الْوَجْهَ ذُو غُضُونٍ وَدَحْرَجَةٍ وَاحْدِيدَابٍ، فَلَا يَسْتَرْسِلُ الْمَاءُ عَلَيْهِ فِي

الْأَغْلَبِ مِنْ مَرَّةٍ بِخِلَافِ الذِّرَاعِ فَإِنَّهُ مُسَطَّحٌ فَيَسْهُلُ تَعْمِيمُهُ بِالْمَاءِ وَإِسَالَتُهُ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِمَّا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْوَجْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ «تَوَضَّأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّةً مَرَّةً، وَقَالَ: هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ». «وَتَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَقَالَ: مَنْ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ آتَاهُ اللَّهُ أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ». «ثُمَّ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَقَالَ: هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي، وَوُضُوءُ أَبِي إبْرَاهِيمَ». وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا أَعْدَادٌ مُتَفَاوِتَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْإِسْبَاغِ، يَتَعَلَّقُ الْأَجْرُ بِهَا مُضَاعَفًا عَلَى حَسَبِ مَرَاتِبِهَا. قُلْنَا: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ لَمْ تَصِحَّ، وَقَدْ أَلْقَيْت إلَيْكُمْ وَصِيَّتِي فِي كُلِّ وَقْتٍ وَمَجْلِسٍ أَلَّا تَشْتَغِلُوا مِنْ الْأَحَادِيثِ بِمَا لَا يَصِحُّ سَنَدُهُ، فَكَيْفَ يَنْبَنِي مِثْلُ هَذَا الْأَصْلِ عَلَى أَخْبَارٍ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ؛ عَلَى أَنَّ لَهُ تَأْوِيلًا صَحِيحًا، وَهُوَ أَنَّهُ «تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وَقَالَ: هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ» فَإِنَّهُ أَقَلُّ مَا يَلْزَمُ، وَهُوَ الْإِيعَابُ عَلَى ظَاهِرِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بِحَالِهَا. ثُمَّ تَوَضَّأَ بِغَرْفَتَيْنِ وَقَالَ: لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ فِي كُلِّ تَكَلُّفِ غَرْفَةٍ ثَوَابٌ. وَتَوَضَّأَ ثَلَاثًا وَقَالَ: هَذَا وُضُوئِي؛ مَعْنَاهُ الَّذِي فَعَلْته رِفْقًا بِأُمَّتِي وَسُنَّةً لَهُمْ؛ وَلِذَلِكَ يُكْرَهُ أَنْ يُزَادَ عَلَى ثَلَاثٍ؛ لِأَنَّ الْغَرْفَةَ الْأُولَى تَسُنُّ الْعُضْوَ لِلْمَاءِ وَتُذْهِبُ عَنْهُ شُعْثَ التَّصَرُّفِ. وَالثَّانِيَةُ تَرْحَضُ وَضَرَ الْعُضْوِ، وَتُدْحِضُ وَهَجَهُ. وَالثَّالِثَةُ تُنَظِّفُهُ، فَإِنْ قَصَّرْت دُرْبَةُ أَحَدٍ عَنْ هَذَا كَانَ بَدَوِيًّا جَافِيًا فَيُعَلَّمُ الرِّفْقَ حَتَّى يَتَعَلَّمَ، وَيُشْرَعُ لَهُ سَبِيلُ الطَّهَارَةِ حَتَّى يَنْهَضَ إلَيْهَا، وَيَتَقَدَّمَ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ: " فَمَنْ زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ ".

مسألة حكم السواك في الوضوء

[مَسْأَلَةُ حُكْم السِّوَاكَ فِي الْوُضُوء] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ غَسْلَ الْوَجْهِ مُطْلَقًا، وَتَمَضْمَضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَيَّنَ وَجْهَ النَّظَافَةِ فَتَعَيَّنَ فِي ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ، ثُمَّ لَازَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السِّوَاكَ فِعْلًا، وَنَدَبَ إلَيْهِ أَمْرًا، حَتَّى قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ». وَثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ»، وَمَا غَفَلَ عَنْهُ قَطُّ؛ بَلْ كَانَ يَتَعَاهَدُهُ لَيْلًا وَنَهَارًا، فَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَمِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ، لَا مِنْ فَضَائِلِهِ؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. [مَسْأَلَةُ الْمَسْح فِي التَّيَمُّمِ] الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ خَمْسِينَ: قَوْله تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6]: فِي التَّيَمُّمِ، فَأَدْخَلَ الْبَاءَ فِيهِ، كَمَا أَدْخَلَهَا فِي قَوْله تَعَالَى: {بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6]؛ وَهُوَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، لِيُبَيِّنَ وُجُوبَ الْمَمْسُوحِ بِهِ؛ وَأَكَّدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {مِنْهُ} [المائدة: 6] وَقَدْ كَانَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ تَأْكِيدٌ لِلْبَيَانِ.

مسألة تقدير الآية ونظامها

وَزَعَمَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ قَوْلَهُ {مِنْهُ} [المائدة: 6] إنَّمَا جَاءَ لِيُبَيِّنَ وُجُوبَ نَقْلِ التُّرَابِ إلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ؛ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ التَّيَمُّمُ عَلَى التُّرَابِ لَا عَلَى الْحِجَارَةِ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّمَا أَفَادَتْ {مِنْهُ} [المائدة: 6] وُجُوبَ ضَرْبِ الْأَرْضِ بِالْيَدَيْنِ، فَلَوْلَا ذَلِكَ وَتَرَكْنَا ظَاهِرَ الْقُرْآنِ لَجَازَتْ الْإِشَارَةُ إلَى الصَّعِيدِ وَضَرْبِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بَعْدَ الْإِشَارَةِ بِالْيَدَيْنِ إلَى الْأَرْضِ، وَلَكِنَّهُ أَكَّدَ بِقَوْلِهِ {مِنْهُ} [المائدة: 6] لِيَكُونَ الِابْتِدَاءُ بِوَضْعِ الْيَدَيْنِ عَلَى الْأَرْضِ تَعَبُّدًا، ثُمَّ ضَرَبَ الْوَجْهَ وَالْيَدَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ بِهِمَا، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَقَرَّرْنَا أَنَّ الصَّعِيدَ وَجْهُ الْأَرْضِ كَيْفَمَا كَانَ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْخَمْسُونَ: فَإِنْ قِيلَ: فَبَيِّنُوا لَنَا بَقِيَّةَ الْآيَةِ. قُلْنَا: أَمَّا قَوْلُهُ: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] وَحُكْمُ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ وَالْمَجِيءِ مِنْ الْغَائِطِ وَلَمْسِ النِّسَاءِ وَعَدَمِ الْمَاءِ وَالتَّيَمُّمِ بِالصَّعِيدِ الطَّيِّبِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهِ، وَالْقَوْلُ فِيهَا وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانَتْ اثْنَتَيْنِ فَلْيَنْظُرْ فِيهِمَا فَيَنْتَظِمُ الْمَعْنَى بِهِمَا. [مَسْأَلَة تَقْدِيرِ الْآيَةِ وَنِظَامِهَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْخَمْسُونَ: فِي تَقْدِيرِ الْآيَةِ وَنِظَامِهَا: [التَّقْدِيرُ الْأَوَّلُ]: رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ قَالَ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ مِنْ نَوْمٍ، أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ، أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ، فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ، وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ، وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا، وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا. الثَّانِي: تَقْدِيرُهَا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ، وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهَا تِلَاوَةً وَتَقْدِيرًا إلَى آخِرِهَا. الثَّالِثُ: تَقْدِيرُهَا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ، وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا، وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ. وَتَكُونُ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ.

الآية السابعة قوله تعالى يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط

[الْآيَة السَّابِعَة قَوْله تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ] الْآيَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]. تَقَدَّمَ أَكْثَرُ مَعْنَاهَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ عِنْدَ ذِكْرِنَا لِنَظِيرَتِهَا، وَنَحْنُ نُعِيدُ ذِكْرَ مَا تَجَدَّدَ هَاهُنَا مِنْهَا، وَنُعِيدُ مَا تَحْسُنُ إعَادَتُهُ فِيهَا فِي ثَلَاثِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، ذَهَبَ إلَيْهِمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَسْتَعِينَ بِهِمْ فِي دِيَةِ الْعَامِرِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ فَوَعَدُوهُ ثُمَّ هَمُّوا بِغَدْرِهِ، فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ، فَخَرَجَ عَنْهُمْ، وَأَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَلَّا يُحَمِّلَهُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْحَالَةِ الْمُبْغِضَةِ لَهُمْ عَلَى أَنْ يَخْرُجَ عَنْ الْحَقِّ فِيهَا قَضَاءً أَوْ شَهَادَةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 8]: أَوْ " قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ " سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ قِيَامُهُ لِلَّهِ فَشَهَادَتُهُ وَعَمَلُهُ يَكُونُ بِالْعَدْلِ، وَمَنْ كَانَ قِيَامُهُ بِالْعَدْلِ فَشَهَادَتُهُ وَعَمَلُهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ؛ لِارْتِبَاطِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ ارْتِبَاطَ الْأَصْلِ بِالْفَرْعِ، وَالْأَصْلُ هُوَ الْقِيَامُ لِلَّهِ وَالْعَدْلُ مُرْتَبِطٌ بِهِ. [مَسْأَلَةُ نُفُوذِ حُكْمِ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ فِي اللَّهِ تَعَالَى] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا} [المائدة: 8]: يُرِيدُ لَا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ عَلَى الْعُدُولِ عَنْ الْحَقِّ؛ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى نُفُوذِ حُكْمِ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ فِي اللَّهِ تَعَالَى، وَ [نُفُوذُ] شَهَادَتِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْعَدْلِ، وَإِنْ أَبْغَضَهُ، وَلَوْ كَانَ حُكْمُهُ عَلَيْهِ وَشَهَادَتُهُ لَا تَجُوزُ فِيهِ مَعَ الْبُغْضِ لَهُ لَمَا كَانَ لِأَمْرِهِ بِالْعَدْلِ فِيهِ وَجْهٌ.

الآية الثامنة قوله تعالى ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم

فَإِنْ قِيلَ: الْبُغْضُ وَرَدَ مُطْلَقًا فَلِمَ خَصَّصْتُمُوهُ بِمَا يَكُونُ فِي اللَّهِ تَعَالَى؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْبُغْضَ فِي غَيْرِهِ لَا يَجُوزُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْتِدَاءً، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ أَحَدًا بِقَوْلِ الْحَقِّ عَلَى عَدُوِّهِ مَعَ عَدَاوَةٍ لَا تَحِلُّ، فَيَكُونُ تَقْرِيرًا لِلْوَصْفِ، وَفِيهِ أَمْرٌ بِالْمَعْصِيَةِ؛ وَذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. [الْآيَة الثَّامِنَة قَوْله تَعَالَى وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ] الْآيَةُ الثَّامِنَةُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [المائدة: 12]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا خِطَابٌ أَخْبَرَ بِهِ عَنْ فِعْلِ مُوسَى مَعَ بَنِي إسْرَائِيلَ، وَبَعْثِهِ النُّقَبَاءَ مِنْهُمْ إلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، لِيَخْتَبِرُوا حَالَ مَنْ بِهَا، وَيُعْلِمُوهُ بِمَا أَطْلَعُوهُ عَلَيْهِ فِيهَا حَتَّى يَنْظُرُوا فِي الْغَزْوِ إلَيْهَا؛ وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفِي كِتَابِنَا هَذَا عِنْدَمَا عَرَضَ مِنْهَا مَا يَكُونُ مِثْلَهَا، وَلَمَّا كَانَ أَصْلُ مَالِكٍ ذَلِكَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، رَكَّبْنَا عَلَيْهِ الْمَسَائِلَ لِكَوْنِهِ مِنْ وَاضِحَاتِ الدَّلَائِلِ. [مَسْأَلَةُ يُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِيمَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ الْمَرْءُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِيمَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ الْمَرْءُ وَيَحْتَاجُ إلَى اطِّلَاعِهِ مِنْ حَاجَاتِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، فَيُرَكِّبُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامَ، وَيَرْبِطُ بِهِ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ. وَقَدْ جَاءَ أَيْضًا مِثْلُهُ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ وَفْدَ هَوَازِنَ لَمَّا جَاءُوا تَائِبِينَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّاسَ، وَسَأَلَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوا نَصِيبَهُمْ لَهُمْ مِنْ السَّبْيِ

فَقَالُوا قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ»، وَاحِدُهَا عَرِيفٌ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٌ، أَيْ يَعْرِفُ بِمَا عِنْدَ مَنْ كُلِّفَ أَنْ يَعْرِفَ مَا عِنْدَهُ. وَمِنْ حَدِيثِ «وَفْدِ هَوَازِنَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ إخْوَانَكُمْ هَؤُلَاءِ قَدْ جَاءُوا تَائِبِينَ، وَإِنِّي رَأَيْت أَنْ أَرُدَّ عَلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَطِيبَ بِذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ. فَقَالَ النَّاسُ: قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّا لَا نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ. فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ. فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا». لَفْظُ الْبُخَارِيِّ: وَهُوَ النَّقِيبُ أَوْ مَا فَوْقَهُ، وَيَنْطَلِقُ بِالْمَعْنَيَيْنِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَقِيبَ الْأَنْصَارِ. وَيَنْطَلِقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الْأَمِينِ وَالْكَفِيلِ. وَاشْتِقَاقُهُ؛ يُقَالُ: نَقَبَ الرَّجُلُ عَلَى الْقَوْمِ يَنْقُبُ إذَا صَارَ نَقِيبًا، وَمَا كَانَ الرَّجُلُ نَقِيبًا، وَلَقَدْ نَقَبَ، وَكَذَلِكَ عَرَفَ عَلَيْهِمْ إذَا صَارَ عَرِيفًا، وَلَقَدْ عَرَفَ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ نَقِيبٌ؛ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ دَخِيلَةَ أَمْرِ الْقَوْمِ وَمَنَاقِبَهُمْ، وَالْمَنَاقِبُ تُطْلَقُ عَلَى الْخِلْقَةِ الْجَمِيلَةِ وَعَلَى الْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَعَلَى هَذَا انْبَنَى قَبُولُ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا فِي الَّذِي يُبَلِّغُهُ إيَّاهَا مِنْ مَسَائِلِ الشَّرِيعَةِ

الآية التاسعة قوله تعالى وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم

وَأَحْكَامِ الدِّينِ وَدُخُولِ الدَّارِ بِإِذْنِ الْآذِنِ، وَأَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ لَا نُطَوِّلُ بِهَا؛ فَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَيْهَا وَعَلَى أَنْوَاعِهَا "، فَأَلْحِقْ كُلَّ شَيْءٍ بِجِنْسِهِ مِنْهَا، وَمِنْ هَاهُنَا اتَّخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النُّقَبَاءَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: كَانَتْ الْأَنْصَارُ سَبْعِينَ رَجُلًا يَعْنِي مَالِكٌ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، وَكَانَ مِنْهُمْ اثْنَا عَشَرَ نَقِيبًا، فَكَانَ أُسَيْدَ بْنُ الْحُضَيْرِ أَحَدَ النُّقَبَاءِ نَقِيبًا. قَالَ مَالِكٌ: النُّقَبَاءُ تِسْعَةٌ مِنْ الْخَزْرَجِ، وَثَلَاثَةٌ مِنْ الْأَوْسِ، مِنْهُمْ أُسَيْدَ بْنُ الْحُضَيْرِ وَعَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ. وَقَالَ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ: كَانَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ أَحَدَ النُّقَبَاءِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ: عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنُ حَرَامٍ الْأَنْصَارِيَّيْنِ ثُمَّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ النُّقَبَاءِ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: التِّسْعَةُ مِنْ الْخَزْرَجِ هُمْ: أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَسَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ عَمْرٍو، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ، وَالْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورِ بْنِ صَخْرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ. وَمِنْ الْأَوْسِ أُسَيْدَ بْنُ الْحُضَيْرِ، وَسَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ، وَرِفَاعَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعُدُّ فِيهِمْ أَبَا الْهَيْثَمِ بْنَ التَّيْهَانِ؛ فَجَعَلَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُقَبَاءَ عَلَى مَنْ كَانَ مَعَهُمْ وَعَلَى مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ. [الْآيَة التَّاسِعَة قَوْله تَعَالَى وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ] ْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 20].

الآية العاشرة قوله تعالى فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه

قَالَ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ: هُوَ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ مَسْكَنٌ يَأْوِي إلَيْهِ وَامْرَأَةٌ يَتَزَوَّجُهَا وَخَادِمٌ يَخْدُمُهُ. وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَكَمِ، وَقَتَادَةَ، زَادَ قَتَادَةُ: كَانَ بَنُو إسْرَائِيلَ أَوَّلَ مَنْ اتَّخَذَ الْخَدَمَةَ؛ وَفَائِدَةُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَمَلَكَ دَارًا وَخَادِمًا بَاعَهُمَا فِي الْكَفَّارَةِ وَلَمْ يُجْزِهِ الصِّيَامُ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الرَّقَبَةِ بِبَيْعِ خَادِمِهِ أَوْ دَارِهِ، وَهُوَ مَلِكٌ، وَالْمُلُوكُ لَا يُكَفِّرُونَ بِالصِّيَامِ وَلَا يُوصَفُونَ بِالْعَجْزِ عَنْ الْإِعْتَاقِ. [الْآيَة الْعَاشِرَة قَوْله تَعَالَى فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ] ِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 31] {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} [المائدة: 32]. فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا} [المائدة: 31]: اُخْتُلِفَ فِي الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ. الثَّانِي: أَنَّهُ وَلَدُ آدَمَ لِصُلْبِهِ، وَهُمَا قَابِيلُ وَهَابِيلُ؛ وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْأَكْثَرُ مِنْ النَّاسِ، جَرَى مِنْ أَمْرِهِمَا مَا قَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ الْأَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ قَتِيلٍ يُقْتَلُ ظُلْمًا إلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ».

مسألة دفن الميت

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا} [المائدة: 31]: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَابِيلَ لَمْ يَدْرِ كَيْفَ يَفْعَلُ بِهَابِيلَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ الْغُرَابَيْنِ، فَتَنَازَعَا فَاقْتَتَلَا، فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ. الثَّانِي: أَنَّ الْغُرَابَ إنَّمَا بُعِثَ لِيُرِيَ ابْنَ آدَمَ كَيْفِيَّةَ الْمُوَارَاةِ لِهَابِيلَ خَاصَّةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {سَوْأَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31]: قِيلَ: هِيَ الْعَوْرَةُ. وَقِيلَ: لَمَّا أَنْتَنَ صَارَ كُلُّهُ عَوْرَةً، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ سَوْأَةً لِأَنَّهَا تَسُوءُ النَّاظِرَ إلَيْهَا عَادَةً. [مَسْأَلَةُ دَفْنُ الْمَيِّتِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: دَفْنُ الْمَيِّتِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِسَتْرِهِ. الثَّانِي: لِئَلَّا يُؤْذِيَ الْأَحْيَاءَ بِجِيفَتِهِ. وَقِيلَ: إنَّهُمَا كَانَا مَلَكَيْنِ فِي صُورَةِ الْغُرَابَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كَانَا غُرَابَيْنِ أَخَوَيْنِ، فَبَحَثَ الْأَرْضَ عَلَى سَوْأَةِ أَخِيهِ حَتَّى عَرَفَ كَيْفَ يَدْفِنُهُ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ ابْنَ آدَمَ الَّذِي قَتَلَ أَخَاهُ حَمَلَهُ عَلَى عُنُقِهِ سَنَةً يَدُورُ بِهِ، فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ، وَدَفَنَ فَتَعَلَّمَ، وَعَمِلَ مِثْلَ مَا رَأَى، وَقَالَ: أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُ، وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَبَرِهِ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21]. وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات: 25] {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 26]. وَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ فَصَارَ ذَلِكَ سُنَّةً بَاقِيَةً فِي الْخَلْقِ، وَفَرْضًا عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ عَلَى الْكِفَايَةِ، مَنْ فَعَلَهُ مِنْهُمْ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ فَرْضُهُ؛ وَأَخَصُّ الْخَلْقِ بِهِ الْأَقْرَبُونَ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ مِنْ الْجِيرَةِ، ثُمَّ سَائِرُ النَّاسِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَهُوَ حَقٌّ فِي الْكَافِرِ أَيْضًا، وَهِيَ:

مسألة قوله تعالى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: رَوَى نَاجِيَةُ بْنُ كَعْبٍ عَنْ «عَلِيٍّ قَالَ: قُلْت لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ عَمَّك الشَّيْخَ الضَّالَّ مَاتَ، فَمَنْ يُوَارِيهِ؟ قَالَ: اذْهَبْ فَوَارِ أَبَاك، وَلَا تُحْدِثَنَّ حَدَثًا حَتَّى تَأْتِيَنِي. فَوَارَيْته، ثُمَّ جِئْت، فَأَمَرَنِي أَنْ أَغْتَسِلَ وَدَعَا لِي». [مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى أَعَجَزْت أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَاب] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ} [المائدة: 31]: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى قِيَاسِ الشَّبَهِ؛ وَقَدْ حَقَقْنَاهُ فِي الْأُصُولِ. [مَسْأَلَةُ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 31]: وَهِيَ تَابِعَةٌ لِلْأَحْكَامِ هَاهُنَا لِأَنَّهَا مِنْ الْأُصُولِ؛ لَكِنَّا نُشِيرُ إلَيْهَا لِتَعَلُّقِ الْقُلُوبِ بِهَا، فَنَقُولُ: مِنْ الْغَرِيبِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ نَدِمَ وَهُوَ فِي النَّارِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ». قُلْنَا: عَنْ هَذِهِ ثَلَاثَةَ أَجْوِبَةٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَدِيثُ لَيْسَ يَصِحُّ، لَكِنَّ الْمَعْنَى صَحِيحٌ، وَكُلُّ مَنْ نَدِمَ فَقَدْ سَلِمَ، لَكِنَّ النَّدَمَ لَهُ شُرُوطٌ، فَكُلُّ مَنْ جَاءَ بِشُرُوطِهِ قُبِلَ مِنْهُ، وَمَنْ أَخَلَّ بِهَا أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهَا لَمْ يُقْبَلْ.

مسألة معنى قوله تعالى من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل

الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ نَدِمَ وَلَمْ يَسْتَمِرَّ نَدَمُهُ، وَإِنَّمَا يُقْبَلُ النَّدَمُ إذَا اسْتَمَرَّ. الثَّالِثُ: أَنَّ النَّدَمَ عَلَى الْمَاضِي إنَّمَا يَنْفَعُ بِشَرْطِ الْعَزْمِ عَلَى أَلَّا يَفْعَلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 32]: تَعَلَّقَ بِهَذَا مَنْ قَالَ: إنَّ ابْنَيْ آدَمَ كَانَا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ، وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهُمْ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْقَتْلَ قَدْ جَرَى قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَخْلُ زَمَانُ آدَمَ وَلَا زَمَنُ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ شَرْعٍ. وَأَهَمُّ قَوَاعِدِ الشَّرَائِعِ حِمَايَةُ الدِّمَاءِ عَنْ الِاعْتِدَاءِ وَحِيَاطَتُهُ بِالْقِصَاصِ كَفًّا وَرَدْعًا لِلظَّالِمِينَ وَالْجَائِرِينَ وَهَذَا مِنْ الْقَوَاعِدِ الَّتِي لَا تَخْلُو عَنْهَا الشَّرَائِعُ وَالْأُصُولُ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ فِيهَا الْمِلَلُ؛ وَإِنَّمَا خَصَّ اللَّهُ بَنِي إسْرَائِيلَ بِالذِّكْرِ لِلْكِتَابِ فِيهِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَنْزِلُ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ الْمِلَلِ وَالشَّرَائِعِ كَانَ قَوْلًا مُطْلَقًا غَيْرَ مَكْتُوبٍ، بَعَثَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ فَكَتَبَ لَهُ الصُّحُفَ، وَشَرَعَ لَهُ دِينَ الْإِسْلَامِ، وَقَسَّمَ وَلَدَيْهِ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ، فَوَضَعَ اللَّهُ إسْمَاعِيلَ بِالْحِجَازِ مُقَدِّمَةً لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْلَاهَا عَنْ الْجَبَابِرَةِ تَمْهِيدًا لَهُ، وَأَقَرَّ إِسْحَاقَ بِالشَّامِ، وَجَاءَ مِنْهُ يَعْقُوبُ وَكَثُرَتْ الْإِسْرَائِيلِيَّة، فَامْتَلَأَتْ الْأَرْضُ بِالْبَاطِلِ فِي كُلِّ فَجٍّ، وَبَغَوْا؛ فَبَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُوسَى وَكَلَّمَهُ وَأَيَّدَهُ بِالْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ، وَخَطَّ لَهُ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، وَأَمَرَهُ بِالْقِتَالِ، وَوَعَدَهُ النَّصْرَ، وَوَفَّى لَهُ بِمَا وَعَدَهُ، وَتَفَرَّقَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ بِعَقَائِدِهَا، وَكَتَبَ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ فِي التَّوْرَاةِ الْقِصَاصَ مُحَدَّدًا مُؤَكَّدًا مَشْرُوعًا فِي سَائِرِ أَنْوَاعِ الْحُدُودِ، إلَى سَائِرِ الشَّرَائِعِ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَأَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِنَا بِكَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ. [مَسْأَلَةُ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]: هَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ؛ لِأَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا وَاحِدَةً لَيْسَ كَمَنْ قَتَلَ النَّاسَ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا سَبِيلُ هَذَا الْكَلَامِ الْمَجَازُ، وَلَهُ وَجْهٌ وَفَائِدَةٌ؛ فَأَمَّا وَجْهُ التَّشْبِيهِ فَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَاهُ قَتَلَ نَبِيًّا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ مِنْ الْخَلْقِ يُعَادِلُ الْخَلْقَ، وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ الْعَادِلُ بَعْدَهُ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي النَّبِيِّ. الثَّانِي: أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا عِنْدَ الْمَقْتُولِ، إمَّا لِأَنَّهُ فَقَدَ نَفْسَهُ، فَلَا يَعْنِيهِ

الآية الحادية عشرة قوله تعالى من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض

بَقَاءُ الْخَلْقِ بَعْدَهُ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ مَأْثُومٌ وَمُخَلَّدٌ كَمَنْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَاخْتَارَهُ مُجَاهِدٌ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الطَّبَرِيُّ فِي الْجُمْلَةِ، وَعَكْسُهُ فِي الْإِحْيَاءِ مِثْلُهُ. الثَّالِثُ: قَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إنَّ مَعْنَاهُ يُقْتَلُ بِمَنْ قُتِلَ، كَمَا لَوْ قَتَلَ الْخَلْقَ أَجْمَعِينَ، وَمَنْ أَحْيَاهَا بِالْعَفْوِ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ أَجْمَعِينَ. الرَّابِعُ: أَنَّ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ ذَمَّ الْقَاتِلِ، كَمَا عَلَيْهِمْ إذَا عَفَا مَدْحُهُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَجَازٌ. وَبَعْضُهَا أَقْرَبُ مِنْ بَعْضٍ. [الْآيَة الْحَادِيَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ] ِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، أَعْلَمَنَا اللَّهُ بِهِ وَأَمَرَنَا بِاتِّبَاعِهِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ} [المائدة: 32] اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَقِيلَ: هُوَ الْكُفْرُ. وَقِيلَ: هُوَ إخَافَةُ السَّبِيلِ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَصْلُ " فَسَدَ " فِي لِسَان الْعَرَبِ تَعَذُّرُ الْمَقْصُودِ وَزَوَالُ الْمَنْفَعَةِ؛ فَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ كَانَ أَبْلَغَ، وَالْمَعْنَى ثَابِتٌ بِدُونِهِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] أَيْ لَعَدِمَتَا، وَذَهَبَ الْمَقْصُودُ. وَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205] وَهُوَ الشِّرْكُ أَوْ الْإِذَايَةُ لِلْخَلْقِ، وَالْإِذَايَةُ أَعْظَمُ مِنْ سَدِّ السَّبِيلِ، وَمَنْعِ الطَّرِيقِ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْفَسَادُ الْمُطْلَقُ مَا يُزَيِّفُ مَقْصُودَ الْمُفْسِدِ، أَوْ يَضُرُّهُ، أَوْ مَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِ.

مسألة معنى قوله تعالى فكأنما قتل الناس جميعا

وَالْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ هُوَ الْإِذَايَةُ لِلْغَيْرِ. وَالْإِذَايَةُ لِلْغَيْرِ عَلَى قِسْمَيْنِ: خَاصٌّ، وَعَامٌ؛ وَلِكُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا جَزَاؤُهُ الْوَاقِعُ وَحْدَهُ الرَّادِعُ، حَسْبَمَا عَيَّنَهُ الشَّرْعُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْعُمُومِ فَجَزَاؤُهُ مَا فِي الْآيَةِ بَعْدَ هَذِهِ مِنْ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] ظَاهِرُهُ خِلَافُ مُشَاهَدَتِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقْتُلْ إلَّا وَاحِدًا، وَلَكِنَّهُ تَحَمَّلَ أَوْجُهًا مِنْ الْمَجَازِ. مِنْهَا: أَنَّ عَلَيْهِ إثْمَ مَنْ قَتَلَ جَمِيعَ النَّاسِ، وَلَهُ أَجْرُ مَنْ أَحْيَا جَمِيعَ النَّاسِ إذَا أَصَرُّوا عَلَى الْهَلَكَةِ. وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ قَتَلَ وَاحِدًا فَهُوَ مُتَعَرِّضٌ لَأَنْ يَقْتُلَ جَمِيعَ النَّاسِ، وَمَنْ أَنْقَذَ وَاحِدًا مِنْ غَرَقٍ أَوْ حَرْقٍ أَوْ عَدُوٍّ فَهُوَ مُعَرَّضٌ لَأَنْ يَفْعَلَ مَعَ جَمِيعِ النَّاسِ ذَلِكَ؛ فَالْخَيْرُ عَادَةٌ وَالشَّرُّ لَجَاجَةٌ. وَرُوِيَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ، ثُمَّ جَاءَ عَالِمًا فَسَأَلَهُ: هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ لَهُ: لَا، فَكَمَّلَ الْمِائَةَ بِهِ، ثُمَّ جَاءَ غَيْرَهُ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: لَك تَوْبَةٌ» الْحَدِيثَ «إلَى أَنْ قَبَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ». وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ قَتَلَ وَاحِدًا فَقَدْ سَنَّ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ، فَكُلُّ مَنْ يَقْتُلُ يَأْخُذُ بِحَظِّهِ مِنْ إثْمٍ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَحْيَا مِثْلُهُ فِي الْأَجْرِ، ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ إلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا»؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنّ الْقَتْلَ. [الْآيَة الثَّانِيَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ] ُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34]

مسألة سبب نزول قوله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله

فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] ظَاهِرُهَا مُحَالٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يُحَارَبُ وَلَا يُغَالَبُ وَلَا يُشَاقُّ وَلَا يُحَادُّ؛ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ صِفَاتِ الْجَلَالِ، وَعُمُومِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ عَلَى الْكَمَالِ، وَمَا وَجَبَ لَهُ مِنْ التَّنَزُّهِ عَنْ الْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ. الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَحَارِبِينَ فِي جِهَةٍ وَفَرِيقٍ عَنْ الْآخَرِ. وَالْجِهَةُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ لِمَا وَجَبَ مِنْ حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى الْمَجَازِ: مَعْنَاهُ يُحَارِبُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ؛ وَعَبَّرَ بِنَفْسِهِ الْعَزِيزَةِ سُبْحَانَهُ عَنْ أَوْلِيَائِهِ إكْبَارًا لِإِذَايَتِهِمْ، كَمَا عَبَّرَ بِنَفْسِهِ عَنْ الْفُقَرَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245] لُطْفًا بِهِمْ وَرَحْمَةً لَهُمْ، وَكَشْفًا لِلْغِطَاءِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «عَبْدِي مَرِضْت فَلَمْ تَعُدْنِي، وَجُعْت فَلَمْ تُطْعِمْنِي، وَعَطِشْت فَلَمْ تَسْقِنِي، فَيَقُولُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ فَيَقُولُ: مَرِضَ عَبْدِي فُلَانٌ، وَلَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ». وَذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى الْبَارِي سُبْحَانَهُ مُحَالٌ، وَلَكِنَّهُ كَنَّى بِذَلِكَ عَنْهُ تَشْرِيفًا لَهُ، كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا مِثْلُهُ. وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إنَّ الْحِرَابَةَ هِيَ الْكُفْرُ، وَهِيَ مَعْنًى صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ يَبْعَثُ عَلَى الْحَرْبِ؛ وَهَذَا مُبَيَّنٌ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [مَسْأَلَة سَبَب نُزُول قَوْله تَعَالَى إنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يحاربون اللَّه وَرَسُوله] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: وَفِيهَا خَمْسَةُ أَقْوَالٍ:

مسألة المرتد يقتل بالردة دون المحاربة

الْأَوَّلُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ؛ نَقَضُوا الْعَهْدَ، وَأَخَافُوا السَّبِيلَ، وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ، فَخَيَّرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ فِيهِمْ. الثَّانِي: نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ. الثَّالِثُ: «نَزَلَتْ فِي عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ، قَدِمَ مِنْهُمْ نَفَرٌ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ وَتَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ، فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ؛ إنَّا كُنَّا أَهْلَ ضَرْعٍ، وَلَمْ نَكُنْ أَهْلَ رِيفٍ، وَاسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَوْدٍ وَرَاعٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا فِيهِ، فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إذَا كَانُوا بِنَاحِيَةِ الْحَرَّةِ كَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ، وَقَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ؛ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي آثَارِهِمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَسَمَلُوا أَعْيُنَهُمْ، وَقَطَعُوا أَيْدِيَهُمْ، وَتُرِكُوا فِي نَاحِيَةِ الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا عَلَى حَالَتِهِمْ.» وَقَالَ قَتَادَةُ: فَبَلَغَنَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ يَحُثُّ عَلَى الصَّدَقَةِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُثْلَةِ». هَذَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ قِصَّتِهِمْ، وَتَمَامُهَا عَلَى الِاسْتِيفَاءِ فِي صَرِيحِ الصَّحِيحِ، زَادَ الطَّبَرِيُّ: وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ. الرَّابِعُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ مُعَاتَبَةً لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَأْنِ الْعُرَنِيِّينَ؛ قَالَهُ اللَّيْثُ. الْخَامِسُ: قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ نَاسِخَةٌ لِمَا فَعَلَ فِي الْعُرَنِيِّينَ. [مَسْأَلَة الْمُرْتَدُّ يُقْتَلُ بِالرِّدَّةِ دُونَ الْمُحَارَبَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ: لَوْ ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ لَكَانَ غَرَضًا ثَابِتًا، وَنَصَّا صَرِيحًا. وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَهُودَ، وَدَخَلَ تَحْتَهَا كُلُّ ذِمِّيٍّ وَمَلِّيٍّ. وَهَذَا مَا لَمْ يَصِحَّ، فَإِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْيَهُودِ حَارَبَ، وَلَا أَنَّهُ جُوزِيَ بِهَذَا الْجَزَاءِ.

وَمَنْ قَالَ: إنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ؛ لِأَنَّ عُكْلًا وَعُرَيْنَةَ ارْتَدُّوا وَقَتَلُوا وَأَفْسَدُوا، وَلَكِنْ يَبْعُدُ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُمْ فِي زَوَالِ الْعُقُوبَةِ عَنْهُمْ بِالتَّوْبَةِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ، كَمَا يَسْقُطُ قَبْلَهَا، وَقَدْ قِيلَ لِلْكُفَّارِ: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]. وَقَالَ فِي الْمُحَارِبِينَ: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34]. وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّ يُقْتَلُ بِالرِّدَّةِ دُونَ الْمُحَارَبَةِ، وَفِي الْآيَةِ النَّفْيُ لِمَنْ لَمْ يَتُبْ قَبْلَ الْقُدْرَةِ، وَالْمُرْتَدُّ لَا يُنْفَى، وَفِيهَا قَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ، وَالْمُرْتَدُّ لَا تُقْطَعُ لَهُ يَدٌ وَلَا رِجْلٌ؛ فَثَبَتَ أَنَّهَا لَا يُرَادُ بِهَا الْمُشْرِكُونَ وَلَا الْمُرْتَدُّونَ. فَإِنْ قِيلَ: وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إنَّهَا فِي شَأْنِ الْعُرَنِيِّينَ أَقْوَى؛ وَلَا يُمْكِن أَنْ يُحْكَمُ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْعُرَنِيِّينَ مِنْ سَمْلِ الْأَعْيُنِ، وَقَطْعِ الْأَيْدِي. قُلْنَا: ذَلِكَ مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا قَطَعَ الْأَيْدِيَ وَسَمَلَ الْأَعْيُنَ فُعِلَ بِهِ مِثْلُ ذَلِكَ إذَا تَعَيَّنَ فَاعِلُ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ حَرْبِيِّينَ، وَإِنَّمَا كَانُوا مُرْتَدِّينَ؛ وَالْمُرْتَدُّ يَلْزَمُ اسْتِتَابَتُهُ، وَعِنْدَ إصْرَارِهِ عَلَى الْكُفْرِ يُقْتَلُ. قُلْنَا: فِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ يُسْتَتَابُ، وَالْأُخْرَى: لَا يُسْتَتَابُ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، فَقِيلَ: لَا يُسْتَتَابُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتَلَ هَؤُلَاءِ وَلَمْ يَسْتَتِبْهُمْ. وَقِيلَ: يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ، وَهُوَ مَشْهُورُ الْمَذْهَبِ، وَإِنَّمَا تَرَكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتِتَابَةَ هَؤُلَاءِ لِمَا أَحْدَثُوا مِنْ الْقَتْلِ وَالْمُثْلَةِ وَالْحَرْبِ؛ وَإِنَّمَا يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ الَّذِي يَرْتَابُ فَيَسْتَرِيبُ بِهِ وَيُرْشَدُ، وَيُبَيَّنُ لَهُ الْمُشْكِلُ، وَتُجْلَى لَهُ الشُّبْهَةُ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَنَاوَلَتْ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ قَالَ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33]؛ وَتِلْكَ صِفَةُ الْكُفَّارِ؟

مسألة تحقيق المحاربة وهي إشهار السلاح

قُلْنَا: الْحِرَابَةُ تَكُونُ بِالِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ، وَقَدْ تَكُونُ بِالْمَعْصِيَةِ، فَيُجَازَى بِمِثْلِهَا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279]. فَإِنْ قِيلَ: ذَلِكَ فِيمَنْ يَسْتَحِلُّ الرِّبَا قُلْنَا: نَعَمْ، وَفِيمَنْ فَعَلَهُ، فَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأَمَةُ عَلَى أَنْ مَنْ يَفْعَلُ الْمَعْصِيَةَ يُحَارَبُ، كَمَا لَوْ اتَّفَقَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى الْعَمَلِ بِالرِّبَا، وَعَلَى تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ. [مَسْأَلَة تَحْقِيقِ الْمُحَارَبَةِ وَهِيَ إشْهَارُ السِّلَاحِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي تَحْقِيقِ الْمُحَارَبَةِ: وَهِيَ إشْهَارُ السِّلَاحِ قَصْدَ السَّلْبِ، مَأْخُوذٌ مِنْ الْحَرْبِ؛ وَهُوَ اسْتِلَابُ مَا عَلَى الْمُسْلِمِ بِإِظْهَارِ السِّلَاحِ عَلَيْهِ، وَالْمُسْلِمُونَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] {الَّذِينَ آمَنُوا} [يونس: 63]. وَقَدْ شَرَحَ ذَلِكَ مَالِكٌ شَرْحًا بَالِغًا فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: الْمُحَارِبُ الَّذِي يَقْطَعُ السَّبِيلَ وَيَنْفِرُ بِالنَّاسِ فِي كُلِّ مَكَان، وَيُظْهِرُ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ أَحَدًا، إذَا ظَهَرَ عَلَيْهِ يُقْتَلُ؛ وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَرَى فِيهِ رَأْيَهُ بِالْقَتْلِ، أَوْ الصَّلْبِ، أَوْ الْقَطْعِ، أَوْ النَّفْيِ؛ قَالَ مَالِكٌ: وَالْمُسْتَتِرُ فِي ذَلِكَ وَالْمُعْلِنُ بِحِرَابَتِهِ [سَوَاءٌ]. وَإِنْ اسْتَخْفَى بِذَلِكَ، وَظَهْرَ فِي النَّاسِ إذَا أَرَادَ الْأَمْوَالَ وَأَخَافَ فَقَطَعَ السَّبِيلَ أَوْ قَتَلَ، فَذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ؛ يَجْتَهِدُ أَيَّ هَذِهِ الْخِصَالِ شَاءَ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّ ذَلِكَ إنْ كَانَ قَرِيبًا وَأَخَذَ بِحِدْثَانِهِ فَلْيَأْخُذْ الْإِمَامُ فِيهِ بِأَشَدِّ الْعُقُوبَةِ، وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِمَالِكٍ. الثَّانِي: أَنَّهَا الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَالْقَتْلُ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ الْمُجَاهِرُ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ وَالْمُكَابِرُ بِاللُّصُوصِيَّةِ فِي الْمِصْرِ وَغَيْرِهِ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ الْمُجَاهِرُ فِي الطَّرِيقِ لَا فِي الْمِصْرِ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَعَطَاءٌ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي التَّنْقِيحِ: أَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ فَسَاقِطٌ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنْ يَفْعَلهُ مُجَاهَرَةً مُغَالَبَةً، فَإِنَّ ذَلِكَ أَفْحَشُ فِي الْحِرَابَةِ. قَالَ الْقَاضِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَلَقَدْ كُنْت أَيَّامَ تَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ قَدْ رُفِعَ إلَيَّ قَوْمٌ خَرَجُوا مُحَارِبِينَ إلَى رُفْقَةٍ، فَأَخَذُوا مِنْهُمْ امْرَأَةً مُغَالَبَةً عَلَى نَفْسِهَا مِنْ زَوْجِهَا وَمِنْ جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ مَعَهُ فِيهَا فَاحْتَمَلُوهَا، ثُمَّ جَدَّ فِيهِمْ الطَّلَبُ فَأُخِذُوا وَجِيءَ بِهِمْ، فَسَأَلْتُ مَنْ كَانَ ابْتَلَانِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْمُفْتِينَ، فَقَالُوا: لَيْسُوا مُحَارِبِينَ؛ لِأَنَّ الْحِرَابَةَ إنَّمَا تَكُونُ فِي الْأَمْوَالِ لَا فِي الْفُرُوجِ. فَقُلْت لَهُمْ: إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، أَلَم تَعْلَمُوا أَنَّ الْحِرَابَةَ فِي الْفُرُوجِ أَفْحَشُ مِنْهَا فِي الْأَمْوَالِ، وَأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ لَيَرْضَوْنَ أَنْ تَذْهَبَ أَمْوَالُهُمْ وَتُحْرَبَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهمْ وَلَا يُحْرَبُ الْمَرْءُ مِنْ زَوْجَتِهِ وَبِنْتِهِ، وَلَوْ كَانَ فَوْقَ مَا قَالَ اللَّهُ عُقُوبَةٌ لَكَانَتْ لِمَنْ يَسْلُبُ الْفُرُوجَ، وَحَسْبُكُمْ مِنْ بَلَاءٍ صُحْبَةُ الْجُهَّالِ، وَخُصُوصًا فِي الْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ سَوَاءٌ فِي الْمِصْرِ وَالْبَيْدَاءِ فَإِنَّهُ أَخَذَ بِمُطْلَقِ الْقُرْآنِ. وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ فَإِنَّهُ رَأَى أَنَّ الْحِرَابَةَ فِي الْبَيْدَاءِ أَفْحَشُ مِنْهَا فِي الْمِصْرِ لِعَدِمِ الْغَوْثِ فِي الْبَيْدَاءِ وَإِمْكَانِهِ فِي الْمِصْرِ. وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّ الْحِرَابَةَ عَامَّةٌ فِي الْمِصْرِ وَالْقَفْرِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَفْحَشَ مِنْ بَعْضٍ، وَلَكِنَّ اسْمَ الْحِرَابَةِ يَتَنَاوَلُهَا، وَمَعْنَى الْحِرَابَةِ مَوْجُودٌ فِيهَا، وَلَوْ أَخْرَجَ بَعْضًا مَنْ فِي الْمِصْرِ لَقُتِلَ بِالسَّيْفِ وَيُؤْخَذُ فِيهِ بِأَشَدِّ ذَلِكَ لَا بِأَيْسَرِهِ فَإِنَّهُ سَلَبَ غِيلَةً، وَفِعْلُ الْغِيلَةِ أَقْبَحُ مِنْ فِعْلِ الظَّاهِرَةِ، وَلِذَلِكَ دَخَلَ الْعَفْوُ فِي قَتْلِ الْمُجَاهَرَةِ، فَكَانَ قِصَاصًا، وَلَمْ يَدْخُلْ فِي قَتْلِ الْغِيلَةِ، وَكَانَ حَدًّا؛ فَتَحَرَّرَ أَنَّ قَطْعَ السَّبِيلِ مُوجِبٌ لِلْقَتْلِ فِي أَصَحِّ أَقْوَالِنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا لَا يُوجِبُ إجْرَاءَ الْبَاغِي بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ خَاصَّةً مَجْرَى الَّذِي يَضُمُّ إلَيْهِ الْقَتْلَ وَأَخْذَ الْمَالِ، لِعَظِيمِ الزِّيَادَةِ مِنْ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الَّذِي يَضُمُّ إلَى السَّعْيِ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ الْقَتْلَ وَأَخْذَ الْمَالِ يَجِبُ الْقَتْلُ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ عَنْهُ، وَاَلَّذِي يَنْفَرِدُ بِالسَّعْيِ فِي إخَافَةِ السَّبِيلِ خَاصَّةً يَجُوزُ تَرْكُ قَتْلِهِ؛ يُؤَكِّدهُ أَنَّ الْمُحَارِبَ إذَا قَتَلَ قُوبِلَ بِالْقَتْلِ، وَإِذَا أَخَذَ الْمَالَ قُطِعَتْ يَدُهُ لِأَخْذِهِ الْمَالَ، وَرِجْلُهُ لِإِخَافَتِهِ السَّبِيلَ، وَهَذِهِ عُمْدَةُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَيْنَا، وَخُصُوصًا أَهْلَ خُرَاسَانَ مِنْهُمْ، وَهِيَ بَاطِلَةٌ لَا يَقُولُهَا مُبْتَدِئٌ. أَمَّا قَوْلُهُمْ: كَيْف يُسَوَّى بَيْنَ مَنْ أَخَافَ السَّبِيلَ وَقَتَلَ، وَبَيْنَ مَنْ أَخَافَ السَّبِيلَ وَلَمْ يَقْتُلْ، وَقَدْ وُجِدَتْ مِنْهُ الزِّيَادَةُ الْعُظْمَى، وَهِيَ الْقَتْلُ؟ قُلْنَا: وَمَا الَّذِي يَمْنَعُ مِنْ اسْتِوَاءِ الْجَرِيمَتَيْنِ فِي الْعُقُوبَةِ وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا أَفْحَشَ مِنْ الْأُخْرَى؟ وَلِمَ أَحَلْتُمْ ذَلِكَ؟ أَعَقْلًا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ أَمْ شَرْعًا؟ أَمَّا الْعَقْلُ فَلَا مَجَالَ لَهُ فِي هَذَا، وَإِنْ عَوَّلْتُمْ عَلَى الشَّرْعِ فَأَيْنَ الشَّرْعُ؟ بَلْ قَدْ شَاهَدْنَا ذَلِكَ فِي الشَّرْعِ؛ فَإِنَّ عُقُوبَةَ الْقَاتِلِ كَعُقُوبَةِ الْكَافِرِ، وَإِحْدَاهُمَا أَفْحَشُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَوْ اسْتَوَى حُكْمُهُمَا لَمْ يَجُزْ إسْقَاطُ الْقَتْلِ عَمَّنْ أَخَافَ السَّبِيلَ وَلَمْ يَقْتُلْ، كَمَا لَمْ يَجُزْ إسْقَاطُهُ عَمَّنْ أَخَافَ وَقَتَلَ. قُلْنَا: هَذِهِ غَفْلَةٌ مِنْكُمْ؛ فَإِنَّ الَّذِي يُخِيفُ وَيَقْتُلُ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى تَعَيُّنِ الْقَتْلِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ مُخَالَفَتُهُ. أَمَّا إذَا أَخَافَ وَلَمْ يَقْتُلْ فَهِيَ مَسْأَلَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا وَمَحَلُّ اجْتِهَادٍ، فَمِنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى الْقَتْلِ حَكَمَ بِهِ، وَمَنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى إسْقَاطِهِ أَسْقَطَهُ؛ وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ قَالَ مَالِكٌ: وَلْيَسْتَشِرْ لِيَعْلَمَ الْحَقِيقَةَ مِنْ الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ وَطُرُقِ الِاجْتِهَادِ لِئَلَّا يُقْدِمَ عَلَى جَهَالَةٍ كَمَا أَقْدَمْتُمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الْقَتْلَ يُقَابِلُ الْقَتْلَ، وَقَطْعَ الْيَدِ يُقَابِلُ السَّرِقَةَ، وَقَطْعَ الرِّجْلِ يُقَابِلُ

مسألة معنى قوله تعالى أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم

الْمَالَ، فَهُوَ تَحَكُّمٌ مِنْهُمْ وَمَزْجٌ لِلْقِصَاصِ وَالسَّرِقَةِ بِالْحِرَابَةِ، وَهُوَ حُكْمٌ مُنْفَرِدٌ بِنَفْسِهِ خَارِجٌ عَنْ جَمِيعِ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ لِفُحْشِهِ وَقُبْحِ أَمْرِهِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهُمْ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] فِيهَا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ؛ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَإِبْرَاهِيمُ. الثَّانِي: أَنَّهَا عَلَى التَّفْصِيلِ. وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ التَّفْصِيلِ عَلَى سَبْعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى أَنْ يُقْتَلُوا إنْ قَتَلُوا. أَوْ يُصْلَبُوا إنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ. أَوْ تَقْطَعَ أَيَدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ إنْ أَخَذُوا الْمَالَ، أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ إنْ أَخَافُوا السَّبِيلَ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ. الثَّانِي: الْمَعْنَى إنْ حَارَبَ فَقَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ، وَقُتِلَ وَصُلِبَ، فَإِنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا قُتِلَ، وَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ، وَإِذَا لَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا نُفِيَ، وَهَذَا يُقَارِبُ الْأَوَّلَ، إلَّا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ قَطْعِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ وَالْقَتْلِ وَالصَّلْبِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ إنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ وَقَطَعَ الطَّرِيقَ يُخَيَّرُ فِيهِ الْإِمَامُ إنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ مِنْ خِلَافٍ وَصَلَبَهُ، وَإِنْ شَاءَ صَلَبَهُ وَلَمْ يَقْطَعْ يَدَهُ وَرِجْلَهُ، وَإِنْ شَاءَ قَتَلَهُ وَلَمْ يَقْطَعْ رِجْلَهُ وَيَدَهُ وَلَمْ يَصْلُبْهُ، فَإِنْ أَخَذَ بِالْأَوَّلِ فَقَتَلَ قُطِعَ مِنْ خِلَافٍ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ بِالْأَوَّلِ غُرِّبَ وَنُفِيَ مِنْ الْأَرْضِ. الرَّابِعُ: قَالَ الْحَسَنُ مِثْلَهُ، إلَّا فِي الْآخَرِ فَإِنَّهُ قَالَ: يُؤَدَّبُ وَيُسْجَنُ حَتَّى يَمُوتَ. الْخَامِسُ: قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إنْ اقْتَصَرُوا عَلَى الْقَتْلِ قُتِلُوا، وَإِنْ اقْتَصَرُوا عَلَى أَخْذِ الْمَالِ قُطِعُوا مِنْ خِلَافٍ، وَإِنْ أَخَذُوا الْمَالَ وَقَتَلُوا فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ

قَالَ: يُخَيَّرُ فِيهِمْ بِأَرْبَعِ جِهَاتِ: قَتْلٌ، صَلْبٌ، قَطْعٌ وَقَتْلٌ، قَطْعٌ وَصَلْبٌ، وَهَذَا نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا سَادِسٌ. السَّابِعُ: قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَمَالِكٌ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ بِتَخْيِيرِ الْإِمَامِ بِمُجَرَّدِ الْخُرُوجِ. أَمَّا مَنْ قَالَ: لِأَنَّ {أَوْ} [المائدة: 33] عَلَى التَّخْيِيرِ فَهُوَ أَصْلُهَا وَمَوْرِدُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا لِلتَّفْصِيلِ فَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ، وَقَالَ: هَذَا كَمَا لَوْ قَالَ: إنَّ جَزَاءَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ أَنْ تُرْفَعَ مَنَازِلُهُمْ أَوْ يَكُونُوا مَعَ الْأَنْبِيَاءِ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حُلُولَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَهُمْ فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الطَّبَرِيُّ لَا يَكْفِي إلَّا بِدَلِيلٍ، وَمِعْوَلُهُمْ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إحْصَانٍ، أَوْ كَفَرَ بَعْدَ إيمَانٍ، أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ». فَمَنْ لَمْ يَقْتُلْ كَيْفَ يُقْتَلُ؟ قَالُوا وَأَمَّا قَوْلُكُمْ إنَّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ فَإِنْ التَّخْيِيرَ يُبْدَأُ فِيهِ بِالْأَخَفِّ، ثُمَّ يُنْتَقَلُ فِيهِ إلَى الْأَثْقَلِ؛ وَهَا هُنَا بَدَأَ بِالْأَثْقَلِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى الْأَخَفِّ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَرَّرَ تَرْتِيبَ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَفْعَالِ، فَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ بِالْمَعْنَى، فَمَنْ قَتَلَ قُتِلَ، فَإِنْ زَادَ وَأَخَذَ الْمَالَ صُلِبَ؛ فَإِنَّ الْفِعْلَ جَاءَ أَفْحَشَ؛ فَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ وَحْدَهُ قُطِّعَ مِنْ خِلَافٍ، وَإِنْ أَخَافَ نُفِيَ. الْجَوَابُ: الْآيَةُ نَصٌّ فِي التَّخْيِيرِ، وَصَرْفُهَا إلَى التَّعْقِيبِ وَالتَّفْصِيلِ تَحَكُّمٌ عَلَى الْآيَةِ وَتَخْصِيصٌ لَهَا، وَمَا تَعَلَّقُوا مِنْهُ بِالْحَدِيثِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: يُقْتَلُ الرِّدْءُ وَلَمْ يُقْتَلْ: وَقَدْ جَاءَ الْقَتْلُ بِأَكْثَرَ مِنْ عَشْرَةِ أَشْيَاءَ، مِنْهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا وَمِنْهَا مُخْتَلَفٌ فِيهَا

مسألة معنى قوله تعالى أو ينفوا من الأرض

فَلَا تَعَلُّقَ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِأَحَدٍ. وَتَحْرِيرُ الْجَوَابِ الْقُطْعُ لِتَشْغِيبِهِمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَتَّبَ التَّخْيِيرَ عَلَى الْمُحَارَبَةِ وَالْفَسَادِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْفَسَادَ وَحْدَهُ مُوجِبٌ لِلْقَتْلِ وَمَعَ الْمُحَارَبَةِ أَشَدُّ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: يُسْجَنُ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ، وَهُوَ مَشْهُورٌ مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي غَيْرِ بَلَدِ الْجِنَايَةِ. الثَّانِي: يُنْفَى إلَى بَلَدِ الشِّرْكِ؛ قَالَهُ أَنَسٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمْ. الثَّالِثُ: يُخْرَجُونَ مِنْ مَدِينَةٍ إلَى مَدِينَةٍ أَبَدًا؛ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. الرَّابِعُ: يُطْلَبُونَ بِالْحُدُودِ أَبَدًا فَيَهْرُبُونَ مِنْهَا؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ. وَالْحَقُّ أَنْ يُسْجَنَ، فَيَكُونُ السِّجْنُ لَهُ نَفْيًا مِنْ الْأَرْضِ، وَأَمَّا نَفْيُهُ إلَى بَلَدِ الشِّرْكِ فَعَوْنٌ لَهُ عَلَى الْفَتْكِ. وَأَمَّا نَفْيُهُ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ فَشُغْلٌ لَا يُدَانُ بِهِ لِأَحَدٍ، وَرُبَّمَا فَرَّ فَقَطَعَ الطَّرِيقَ ثَانِيَةً. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: يُطْلَبُ أَبَدًا وَهُوَ يَهْرُبُ مِنْ الْحَدِّ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِجَزَاءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مُحَاوَلَةُ طَلَبِ الْجَزَاءِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ} [المائدة: 33] قَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا أُخِذَ فِي الْحِرَابَةِ نَصَّابًا. قُلْنَا: أَنْصِفْ مِنْ نَفْسِك أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَوَفِّ شَيْخَكَ حَقَّهُ لِلَّهِ. إنَّ رَبَّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]. فَاقْتَضَى هَذَا قَطْعَهُ فِي حَقِّهِ. وَقَالَ فِي الْمُحَارَبَةِ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] فَاقْتَضَى

مسألة إذا صلب الإمام المحارب

بِذَلِكَ تَوْفِيَةَ الْجَزَاءِ لَهُمْ عَلَى الْمُحَارَبَةِ عَنْ حَقِّهِ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي السَّارِقِ أَنَّ قَطْعَهُ فِي نِصَابٍ وَهُوَ رُبْعُ دِينَارٍ، وَبَقِيَتْ الْمُحَارَبَةُ عَلَى عُمُومِهَا. فَإِنْ أَرَدْت أَنْ تَرُدَّ الْمُحَارَبَةَ إلَى السَّرِقَةِ كُنْتَ مُلْحِقًا الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى وَخَافِضًا الْأَرْفَعَ إلَى الْأَسْفَلِ، وَذَلِكَ عَكْسُ الْقِيَاسِ. وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَاسَ الْمُحَارِبُ وَهُوَ يَطْلُبُ النَّفْسَ إنْ وَقَى الْمَالَ بِهَا عَلَى السَّارِقِ وَهُوَ يَطْلُبُ خَطْفَ الْمَالِ، فَإِنْ شَعَرَ بِهِ فَرَّ، حَتَّى إنَّ السَّارِقَ إذَا دَخَلَ بِالسِّلَاحِ يَطْلُبُ الْمَالَ، فَإِنْ مُنِعَ مِنْهُ أَوْ صِيحَ عَلَيْهِ وَحَارَبَ عَلَيْهِ، فَهُوَ مُحَارِبٌ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْمُحَارِبِ. [قَالَ الْقَاضِي]: وَكُنْت فِي أَيَّامِ حُكْمِي بَيْنَ النَّاسِ إذَا جَاءَنِي أَحَدٌ بِسَارِقٍ وَقَدْ دَخَلَ الدَّارَ بِسِكِّينٍ يَسْحَبُهُ عَلَى قَلْبِ صَاحِبِ الدَّارِ وَهُوَ نَائِمٌ، وَأَصْحَابُهُ يَأْخُذُونَ مَالَ الرَّجُلِ حَكَمْتُ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمُحَارِبِينَ؛ فَافْهَمُوا هَذَا مِنْ أَصْلِ الدِّينِ، وَارْتَفِعُوا إلَى يَفَاعِ الْعِلْمِ عَنْ حَضِيضِ الْجَاهِلِينَ. وَالْمُسْكِتُ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ الْحِرْزَ، فَلَوْ كَانَ الْمُحَارِبُ مُلْحَقًا بِالسَّارِقِ لِمَا كَانَ ذَلِكَ إلَّا عَلَى حِرْزٍ. وَتَحْرِيرُهُ أَنْ يَقُولَ: أَحَدُ شَرْطَيْ السَّرِقَةِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْمُحَارِبِ كَالْحِرْزِ وَالتَّعْلِيلِ النِّصَابُ. [مَسْأَلَة إذَا صَلَبَ الْإِمَامُ الْمُحَارِبَ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إذَا صَلَبَ الْإِمَامُ الْمُحَارِبَ فَإِنَّهُ يَصْلُبُهُ حَيًّا: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَصْلُبُهُ مَيِّتًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة: 33]، فَبَدَأَ بِالْقَتْلِ. قُلْنَا: نَعَمْ الْقَتْلُ مَذْكُورٌ أَوَّلًا، وَلَكِنْ بَقِيَ أَنَّا إذَا جَمَعْنَا بَيْنَهُمَا كَيْفَ يَكُونُ الْحُكْمُ هَاهُنَا هُوَ الْخِلَافُ. وَالصَّلْبُ حَيًّا أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ أَنْكَى وَأَفْضَحُ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَعْنَى الرَّدْعِ الْأَصْلَحِ.

مسألة الحرابة يقتل فيها من قتل

[مَسْأَلَة الْحِرَابَةَ يُقْتَلُ فِيهَا مَنْ قَتَلَ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْحِرَابَةَ يُقْتَلُ فِيهَا مَنْ قَتَلَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَقْتُولُ مُكَافِئًا لِلْقَاتِلِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: مِنْهُمَا أَنَّهُ تُعْتَبَرُ الْمُكَافَأَةُ فِي الدِّمَاءِ لِأَنَّهُ قَتْلٌ، فَاعْتُبِرَتْ فِيهِ الْمُكَافَأَةُ كَالْقِصَاصِ. وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ هَاهُنَا لَيْسَ عَلَى مُجَرَّدِ الْقَتْلِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الْفَسَادِ الْعَامِّ، مِنْ التَّخْوِيفِ وَسَلْبِ الْمَالِ، فَإِنْ انْضَافَتْ إلَيْهِ إرَاقَةُ الدَّمِ فَحُشَ، وَلِأَجْلِ هَذَا لَا يُرَاعَى مَالُ مُسْلِمٍ مِنْ كَافِرٍ. [مَسْأَلَة خَرَجَ الْمُحَارِبُونَ فَاقْتَتَلُوا مَعَ الْقَافِلَةِ فَقَتَلَ بَعْضُ الْمُحَارِبِينَ وَلَمْ يَقْتُلْ بَعْضٌ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: إذَا خَرَجَ الْمُحَارِبُونَ فَاقْتَتَلُوا مَعَ الْقَافِلَةِ فَقَتَلَ بَعْضُ الْمُحَارِبِينَ، وَلَمْ يَقْتُلْ بَعْضٌ، قُتِلَ الْجَمِيعُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُقْتَلُ إلَّا مَنْ قَتَلَ. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى تَخْيِيرِ الْإِمَامِ وَتَفْصِيلِ الْأَحْكَامِ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَيُعَضِّدُ هَذَا أَنَّ مَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ شُرَكَاءُ فِي الْغَنِيمَةِ، وَإِنْ لَمْ يَقْتُلُ جَمِيعُهُمْ. وَقَدْ اتَّفَقَ مَعَنَا عَلَى قَتْلِ الرِّدْءِ وَهُوَ الطَّالِعُ، فَالْمُحَارِبُ أَوْلَى. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ. الثَّانِي: إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَقَدْ حَارَبُوا بِأَرْضِ الشِّرْكِ. الثَّالِثُ: إلَّا الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ. الرَّابِعُ: إلَّا الَّذِينَ تَابُوا فِي حُقُوقِ اللَّهِ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ؛ إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ: وَفِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ بِيَدِهِ مَالٌ يُعْرَفُ، أَوْ يَقُومَ وَلِيٌّ يَطْلُبُ دَمَهُ فَلَهُ أَخْذُهُ وَالْقِصَاصُ مِنْهُ. الْخَامِسُ: قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: لَا يُطْلَبُ بِشَيْءٍ لَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَلَا مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ.

أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ الْآيَةَ فِي الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ الَّذِي يَقُولُ إنَّ قَوْله تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [المائدة: 34] عَائِدٌ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَهُ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ أَرَادَ إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِمَّنْ هُوَ بِأَرْضِ الشِّرْكِ فَهُوَ تَخْصِيصٌ طَرِيفٌ، وَلَهُ وَجْهٌ طَرِيفٌ؛ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] يُعْطِي أَنَّهُمْ بِغَيْرِ أَرْضِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ؛ وَلَكِنْ كُلُّ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ تَأْخُذُهُ الْأَحْكَامُ وَتَسْتَوْلِي عَلَيْهِ الْقُدْرَةُ، وَهَذَا إذَا تَبَيَّنْتَهُ لَمْ يَصِحَّ تَنْزِيلُهُ؛ فَإِنَّ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَمَّا الَّذِي خَرَجَ إلَى الْجَبَلِ، وَتَوَسَّطَ الْبَيْدَاءَ فِي مَنَعَةٍ فَلَا تَتَّفِقُ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ إلَّا بِجَرِّ جَيْشٍ وَنَفِيرِ قَوْمٍ؛ فَلَا يُقَالُ: إنَّا قَادِرُونَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: أَرَادَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَرْجِعُ إلَى الرَّابِعِ وَالْخَامِسِ. قُلْنَا: إنَّا نَقُولُ هُوَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْحُقُوقِ كُلِّهَا أَوْ فِي بَعْضِهَا. فَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْحُقُوقِ كُلِّهَا فَقَدْ عَلِمْنَا بُطْلَانَ ذَلِكَ بِمَا قَامَ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ لَا يَغْفِرُهَا الْبَارِّي سُبْحَانَهُ إلَّا بِمَغْفِرَةِ صَاحِبِهَا، وَلَا يُسْقِطُهَا إلَّا بِإِسْقَاطِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]. فَكَانَتْ هَذِهِ الْمَغْفِرَةُ عَامَّةً فِي كُلِّ حَقٍّ. قُلْنَا: هَذِهِ مَغْفِرَةٌ عَامَّةٌ بِلَا خِلَافٍ لِلْمَصْلَحَةِ فِي التَّحْرِيضِ لِأَهْلِ الْكُفْرِ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ؛ فَأَمَّا مَنْ الْتَزَمَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ فَلَا يُسْقِطُ عَنْهُ حُقُوقَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَرْبَابُهَا. وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الشَّهَادَةِ: إنَّهَا تُكَفِّرُ كُلَّ خَطِيئَةٍ إلَّا الدَّيْنَ». وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ حُكْمَهَا أَنَّهَا تُكَفِّرُ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ صَحِيحٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34]. وَأَمَّا مَنْ قَالَ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ: إنَّ الْإِمَامَ لَا يَتَوَلَّى طَلَبَهَا، وَإِنَّمَا يَطْلُبُهَا

الآية الثالثة عشرة قوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما

أَرْبَابُهَا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فَصَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَيْسَ بِوَكِيلٍ لِمُعَيِّنِينَ مِنْ النَّاسِ فِي حُقُوقِهِمْ الْمُعِينَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ نَائِبُهُمْ فِي حُقُوقِهِمْ الْمُجْمَلَةِ الْمُبْهَمَةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمُعَيَّنَةٍ. وَأَمَّا إنْ عَرَفْنَا بِيَدِهِ مَالًا لِأَحَدٍ أَخَذَهُ فِي الْحِرَابَةِ فَلَا نُبْقِيه فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ غَصْبٌ، وَنَحْنُ نُشَاهِدُهُ، وَالْإِقْرَارُ عَلَى الْمُنْكَرِ لَا يَجُوزُ، فَيَكُونُ بِيَدِ صَاحِبِهِ الْمُسْلِمِ حَتَّى يَأْخُذَهُ مَالِكُهُ مِنْ يَدِ صَاحِبِهِ وَأَخِيهِ الَّذِي يُوقِفُهُ الْإِمَامُ عِنْدَهُ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا] جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] فِيهَا تِسْعٌ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي شَرَحَ حَقِيقَةِ السَّرِقَةِ: وَهِيَ أَخْذُ الْمَالِ عَلَى خُفْيَةٍ مِنْ الْأَعْيُنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ قَطْعِ النَّبَّاشِ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ فِي كُتُبِهِ. وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: السَّارِقُ هُوَ الْمُعْلِنُ وَالْمُخْتَفِي. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: هُوَ الْمُخْتَفِي، وَالْمُعْلِنُ عَادٍ. وَبِهِ نَقُولُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ. [مَسْأَلَة الْأَلِفُ وَاللَّامُ مِنْ قَوْله السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ مِنْ السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ بَيَّنَّا مَعْنَاهُمَا فِي الرِّسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ. وَقُلْنَا: إنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ يَجْتَمِعَانِ فِي الِاسْمِ وَيَرِدَانِ عَلَيْهِ لِلتَّخْصِيصِ وَلِلتَّعْيِينِ، وَكِلَاهُمَا تَعْرِيفٌ بِمَنْكُورٍ عَلَى مَرَاتِبَ؛ فَإِنْ دَخَلَتْ لِتَخْصِيصِ الْجِنْسِ فَمِنْ فَوَائِدِهَا صَلَاحِيَةُ الِاسْمِ لِلِابْتِدَاءِ لَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]. و {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]. وَإِنْ دَخَلَتْ لِلتَّعْيِينِ فَفَوَائِدُهُ مُقَرَّرَةٌ هُنَالِكَ، وَهِيَ إذَا اقْتَضَتْ تَخْصِيصَ الْجِنْسِ

مسألة قراءة ابن مسعود لقوله تعالى والسارق والسارقة

أَفَادَتْ التَّعْمِيمَ فِيهِ بِحُكْمِ حَصْرِهَا لَهُ عَنْ غَيْرِهِ إذَا كَانَ الْخَبَرُ عَنْهَا وَالْمُتَعَلِّقُ بِهَا صَالِحًا فِي رَبْطِهِ بِهَا دُونَ مَا سِوَاهَا، وَهَذَا مَعْلُومٌ لُغَةً. وَقَدْ أَنْكَرَهُ أَهْلُ الْوَقْفِ فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ كَمَا أَنْكَرُوا جَمِيعَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ عَلَيْهِمْ فِي التَّلْخِيصِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] عَامٌّ فِي كُلِّ سَارِقٍ وَسَارِقَةٍ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رَدًّا عَلَى مَنْ يَرَى أَنَّهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ، وَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ الْمُجْمَلَ، وَلَا الْعَامَّ؛ فَإِنَّ السَّرِقَةَ إذَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً لُغَةً إذْ لَيْسَتْ لَفْظَةً شَرْعِيَّةً بِاتِّفَاقٍ رُبِطَتْ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ تَخْصِيصًا، وَعُلِّقَ عَلَيْهَا الْخَبَرُ بِالْحُكْمِ رَبْطًا، فَقَدْ أَفَادَتْ الْمَقْصُودَ، وَجَرَتْ عَلَى الِاسْتِرْسَالِ وَالْعُمُومِ، إلَّا فِيمَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَهَا: " وَالسَّارِقُونَ وَالسَّارِقَاتُ "؛ لِيُبَيِّنَ إرَادَةَ الْعُمُومِ. وَاَلَّذِي يَقْطَعُ لَك بِصِحَّةِ إرَادَةِ الْعُمُومِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّهُ لِحَصْرِ الْجِنْسِ، وَهُوَ الْعُمُومُ. [مَسْأَلَة قِرَاءَة ابْنِ مَسْعُودٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَالسَّارِقَ وَالسَّارِقَةَ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ: وَالسَّارِقَ وَالسَّارِقَةَ بِالنَّصْبِ، وَرُوِيَ عَنْ عِيسَى بْنِ عُمَرَ مِثْلُهُ. قَالَ سِيبَوَيْهِ هِيَ أَقْوَى؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْي فِي هَذَا النَّصْبُ؛ لِأَنَّ حَدَّ

الْكَلَامِ تَقَدُّمَ الْفِعْلَ، وَهُوَ فِيهِ أَوْجَبُ، وَإِنَّمَا قُلْت زَيْدًا ضَرَبَهُ، وَاضْرِبْهُ مَشْغُولُهُ، لِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لَا يَكُونَانِ إلَّا بِالْفِعْلِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِضْمَارِ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ. قَالَ الْقَاضِي: أَصْلُ الْبَابِ قَدْ أَحْكَمْنَاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ، وَنُخْبِتُهُ أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَاعِلٍ وَمَفْعُولِ، فَإِذَا أَخْبَرْت بِهِمْ أَوْ عَنْهُمْ خَبَرًا غَرِيبًا كَانَ عَلَى سِتِّ صِيَغٍ: الْأُولَى: ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا. الثَّانِيَةُ: زَيْدٌ ضَرَبَ عَمْرًا. الثَّالِثَةُ: عَمْرًا ضَرَبَ زَيْدٌ. الرَّابِعَةُ: ضَرَبَ عَمْرًا زَيْدٌ. الْخَامِسَةُ: زَيْدٌ عَمْرًا ضَرَبَ. السَّادِسَةُ: عَمْرًا زَيْدٌ ضَرَبَ. فَالْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ نَظْمٌ مُهْمَلٌ لَا مَعْنَى لَهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَجَاءَ مِنْ هَذَا جَوَازُ تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ، كَمَا جَازَ تَقَدُّمُ الْفَاعِلِ، بَيْدَ أَنَّهُ إذَا قَدَّمْت الْمَفْعُولَ بَقِيَ بِحَالِهِ إعْرَابًا، فَإِذَا قَدَّمْت الْفَاعِلَ خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ الْحَدِّ فِي الْإِعْرَابِ، وَبَقِيَ الْمَعْنَى الْمُخْبَرُ عَنْهُ، وَحَدَثَ فِي تَرْتِيبِ الْخَبَرِ مَا أَوْجَبَ تَغْيِيرَ الْإِعْرَابِ، وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يُسَمَّى الِابْتِدَاءُ، ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَى هَذَا الْبَابِ الْأَدَوَاتُ الَّتِي وُضِعَتْ لِتَرْتِيبِ الْمَعَانِي وَهِيَ كَثِيرَةٌ أَوْ الْمَقَاصِدِ وَهِيَ أَصْلٌ فِي التَّغْيِيرِ، وَمِنْهَا وَضْعُ الْأَمْرِ مَوْضِعَ الْخَبَرِ، تَقُولُ: اضْرِبْ زَيْدًا. وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ اسْتِدْعَاءَ إيقَاعِ الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ، وَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ هُنَالِكَ فَاعِلٌ سَقَطَ فِي إسْنَادِ الْفِعْلِ، وَثَبَتَ فِي تَعَلُّقِ الْخِطَابِ بِهِ وَارْتِبَاطِهِ، وَتَكُونُ لَهُ صِيغَتَانِ: إحْدَاهُمَا هَذِهِ. وَالثَّانِيَةُ: زَيْدًا اضْرِبْ، كَمَا كَانَ فِي الْخَبَرِ؛ وَلَا يُتَصَوَّرُ صِيغَةٌ ثَالِثَةٌ، فَلَمَّا جَازَ تَقْدِيمُهُ مَفْعُولًا كَانَ ظَاهِرُ أَمْرِهُ أَلَّا يَأْتِيَ إلَّا مَنْصُوبًا عَلَى حُكْمِ تَقْدِيرِ الْمَفْعُولِ، وَلَكِنْ رَفَعُوهُ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ بَعْدُ، وَإِنَّمَا يُطْلَبُ وُقُوعُهُ بِهِ فَيُخْبِرُ عَنْهُ، ثُمَّ يَقْتَضِي الْفِعْلَ فِيهِ، فَإِنْ اقْتَضَى وَلَمْ يُخْبِرْ لَمْ يَكُنْ إلَّا مَنْصُوبًا، وَإِنْ أَخْبَرَ وَلَمْ يَقْتَضِ لَمْ يَكُنْ إلَّا مَرْفُوعًا، فَهُمَا إعْرَابَانِ لِمَعْنَيَيْنِ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا أَقْوَى مِنْ الْآخَرِ.

مسألة السرقة تتعلق بخمسة معان

تَتْمِيمٌ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقُلْت: زَيْدٌ فَاضْرِبْهُ فَإِنْ نَصَبْته فَعَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ، وَإِنْ رَفَعْته فَعَلَى تَقْدِيرِ الِابْتِدَاءِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى قَصْدِ الْمُخْبِرِ، وَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ مَعَ النَّصْبِ اضْرِبْ زَيْدًا فَاضْرِبْهُ، فَأَمَّا إذَا طَالَ الْكَلَامُ فَقُلْت: زَيْدًا فَاقْطَعْ يَدَهُ كَانَ النَّصْبُ أَقْوَى؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ يَطُولُ فَيَقْبُحُ الْإِضْمَارُ فِيهِ لِطُولِهِ. وَهَذَا قَالَبُ سِيبَوَيْهِ أَفْرَغْنَا عَلَيْهِ. وَأَقُولُ: إنَّ الْكَلَامَ إذَا كَانَ فِيهِ مَعْنَى الْجَزَاءِ، أَوْ كَانَتْ الْفَاءُ فِيهِ مُنَزَّلَةً عَلَى تَقْدِيرِ جَوَابِهِ فَإِنَّ الرَّفْعَ فِيهِ أَعْلَى؛ لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ يَكُونُ لَهُ، فَلَا يَبْقَى لِتَقْدِيرِ الْمَفْعُولِ إلَّا وَجْهٌ بَعِيدٌ؛ فَهَذَا مُنْتَهَى الْقَوْلِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ. وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة السَّرِقَةُ تَتَعَلَّقُ بِخَمْسَةِ مَعَانٍ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ، لَا طَرِيقَ لِلْإِجْمَالِ إلَيْهَا، فَالسَّرِقَةُ تَتَعَلَّقُ بِخَمْسَةِ مَعَانٍ: فِعْلٌ هُوَ سَرِقَةٌ، وَسَارِقٌ، وَمَسْرُوقٌ مُطْلَقٌ، وَمَسْرُوقٌ مِنْهُ، وَمَسْرُوقٌ فِيهِ. فَهَذِهِ خَمْسَةُ مُتَعَلِّقَاتٍ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ عُمُومُهَا إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ. أَمَّا السَّرِقَةُ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا. وَأَمَّا السَّارِقُ، وَهِيَ [الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ]. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: [السَّارِقُ]: فَهُوَ فَاعِلٌ مِنْ السَّرِقَةِ، وَهُوَ كُلُّ مَنْ أَخَذَ شَيْئًا عَلَى طَرِيقِ الِاخْتِفَاءِ عَنْ الْأَعْيُنِ؛ لَكِنَّ الشَّرِيعَةَ شَرَطَتْ فِيهِ سِتَّةَ مَعَانٍ: الْعَقْلُ: لِأَنَّ مَنْ لَا يَعْقِلُ لَا يُخَاطَبُ عَقْلًا. وَالْبُلُوغُ: لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ لَا يَتَوَجَّه إلَيْهِ الْخِطَابُ شَرْعًا. وَبُلُوغُ الدَّعْوَةِ: لِأَنَّ مَنْ كَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ وَلَمْ يُثَافَنْ حَتَّى يَعْرِفَ الْأَحْكَامَ، وَادَّعَى الْجَهْلَ فِيمَا أَتَى مِنْ السَّرِقَةِ وَالزِّنَا وَظَهَرَ صِدْقُهُ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ

مسألة سرقة التافه

كَالْأَبِ فِي مَالِ ابْنِهِ، لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ مِنْ أَطْيَبِ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ». وَلِذَلِكَ قُلْنَا: إذَا وَطِئَ أَمَةَ ابْنِهِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ الَّتِي لَهُ فِيهَا، وَالْحُدُودُ تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ، فَهَذَا الْأَبُ وَإِنْ كَانَ جَاءَ بِصُورَةٍ السَّرِقَةِ فِي أَخْذِ الْمَالِ خِفْيَةً فَإِنَّ لَهُ فِيهِ سُلْطَانَ الْأُبُوَّةِ وَتَبَسُّطَ الِاسْتِيلَاءِ، فَانْتَصَبَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ. وَأَمَّا مُتَعَلِّقُ الْمَسْرُوقِ، وَهِيَ [الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ]. [مَسْأَلَة سَرِقَةَ التَّافِهِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: [مُتَعَلِّقُ الْمَسْرُوقِ]: فَهُوَ كُلُّ مَالٍ تَمْتَدُّ إلَيْهِ الْأَطْمَاعُ، وَيَصْلُحُ عَادَةً وَشَرْعًا لِلِانْتِفَاعِ بِهِ، فَإِنْ مَنَعَ مِنْهُ الشَّرْعُ لَمْ يَنْفَعْ تَعَلُّقُ الطَّمَاعِيَةِ فِيهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ الِانْتِفَاعُ مِنْهُ، كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مَثَلًا. وَقَدْ كَانَ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي قَطْعَ سَارِقِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ؛ لِإِطْلَاقِ الِاسْمِ عَلَيْهِ وَتَصَوُّرِ الْمَعْنَى فِيهِ. وَقَدْ قَالَ بِهِ قَوْمٌ مِنْهُمْ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَإِنَّهُ يُرْوَى أَنَّهُ قَطَعَ فِي دِرْهَمٍ. وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُ لَمْ يُلْتَفَتُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ ذَا شَوَاذٍّ، وَلَا يَسْتَرِيبُ اللَّبِيبُ، بَلْ يَقْطَعُ الْمُنْصِفُ أَنَّ سَرِقَةَ التَّافِهِ لَغْوٌ، وَسَرِقَةَ الْكَثِيرِ قَدْرًا أَوْ صِفَةً مَحْسُوبٌ، وَالْعَقْلُ لَا يَهْتَدِي إلَى الْفَصْلِ فِيهِ بِحَدٍّ تَقِفُ الْمَعْرِفَةُ عِنْدَهُ، فَتَوَلَّى الشَّرْعُ تَحْدِيدَهُ بِرُبْعِ دِينَارٍ. وَفِي الصَّحِيحِ، عَنْ عَائِشَةَ: " مَا طَالَ عَلَيَّ وَلَا نَسِيت: الْقَطْعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا ". وَهَذَا نَصٌّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَطْعَ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَرَوَى أَصْحَابُهُ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا قَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ.

فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَيَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ» قُلْنَا: هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ التَّحْذِيرِ بِالْقَلِيلِ عَنْ الْكَثِيرِ، كَمَا جَاءَ فِي مَعْرَضِ التَّرْغِيبِ بِالْقَلِيلِ عَنْ الْكَثِيرِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ مِثْلَ مَفْحَصِ قَطَاةِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ».

مسألة متعلق المسروق منه وهو على أقسام

وَقِيلَ: إنَّ هَذَا مَجَازٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا ظَفِرَ بِسَرِقَةِ الْقَلِيلِ سَرَقَ الْكَثِيرَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ؛ فَبِهَذَا تَنْتَظِمُ الْأَحَادِيثُ، وَيَجْتَمِعُ الْمَعْنَى وَالنَّصُّ فِي نِظَامِ الصَّوَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: وَمِنْهُ كُلُّ مَالٍ يُسْرِعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَالْفَوَاكِهِ؛ لِأَنَّهُ يُبَاعُ وَيُبْتَاعُ وَتَمْتَدُّ إلَيْهِ الْأَطْمَاعُ، وَتُبْذَلُ فِيهِ نَفَائِسُ الْأَمْوَالِ. وَشُبْهَةُ أَبِي حَنِيفَةَ مَا يَئُولُ إلَيْهِ مِنْ التَّغَيُّرِ وَالْفَسَادِ، وَلَوْ اُعْتُبِرَ ذَلِكَ فِيهِ لَمَا لَزِمَ الضَّمَانُ لِمُتْلِفِهِ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: وَمِنْهُ كُلُّ مَا كَانَ أَصْلُهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ؛ كَجَوَاهِرِ الْأَرْضِ وَمَعَادِنِهَا، وَشِبْهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُبَاحَ الْأَصْلِ، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ الْمِلْكُ، فَتَنْتَصِبُ إبَاحَةُ أَصْلِهِ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَطْعِ بِسَرِقَتِهِ. قُلْنَا: لَا تَضُرُّ إبَاحَةٌ مُتَقَدِّمَةٌ إذَا طَرَأَ التَّحْرِيمُ، كَالْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ قَوْمٍ، فَإِنَّ وَطْأَهَا حَرَامٌ يُوجِبُ الْحَدَّ عِنْد خُلُوصِهَا لِأَحَدِهِمْ، وَلَا تُوجِبُ الْإِبَاحَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ شُبْهَةً. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرِ وَلَا كَثَرٍ إلَّا مَا أَوَاهُ الْجَرِينُ». رَوَاهُ قَلِيلَهْ وَأَبُو دَاوُد. وَانْفَرَدَ قَلِيلَهْ: «وَلَا فِي حَرِيسَةِ جَبَلٍ إلَّا فِيمَا أَوَاهُ الْمَرَاحُ». الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: وَمِنْهُ مَا إذَا سَرَقَ حُرًّا صَغِيرًا. قَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ الْقَطْعُ. وَقِيلَ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ. قُلْنَا: هُوَ أَعْظَمُ مِنْ الْمَالِ؛ وَلَمْ يُقْطَعُ السَّارِقُ فِي الْمَالِ لِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا قُطِعَ لِتَعَلُّقِ النُّفُوسِ بِهِ، وَتَعَلُّقِهَا بِالْحُرِّ أَكْثَرُ مِنْ تَعَلُّقِهَا بِالْعَبْدِ. [مَسْأَلَة مُتَعَلَّقُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَهُوَ عَلَى أَقْسَامٍ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: مُتَعَلَّقُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ: وَهُوَ عَلَى أَقْسَامٍ يَرْجِعُ إلَى أَنَّهُ مَا كَانَ مَالُهُ مُحْتَرَمًا بِحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:

مسألة حكم السارق من ذي رحم

«فَقَدْ حُرِّمَ مَالُهُ وَدَمُهُ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ»، إنَّ مَالَ الزَّوْجَيْنِ مُحْتَرَمٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَتْ أَبْدَانُهُمَا حَلَالًا لَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَتَعَاقَدَا بِعَقْدٍ يَتَعَدَّى إلَى الْمَالِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ: لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ تَقْتَضِي الْخِلْطَةَ وَالتَّبَسُّطَ. وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا يَجُوزُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَنْ صَاحِبِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي مَالِ زَوْجِهِ تَبَسُّطٌ لَسَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ بِوَطْءِ جَارِيَتِهَا، وَلِذَلِكَ قُلْنَا، وَهِيَ: [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ]. [مَسْأَلَة حُكْمُ السَّارِقِ مِنْ ذِي رَحِمٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: [حُكْمُ السَّارِقِ مِنْ ذِي رَحِمٍ]: إنَّ مَنْ سَرَقَ مِنْ ذِي رَحِمٍ مُحْرِمٍ لِمِثْلِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ ذَاتَ الرَّحِمِ لَوْ وَطِئَهَا لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، فَكَذَلِكَ إذَا سَرَقَ مَالَهَا، وَشُبْهَةُ الْمَحْرَمِيَّةِ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْمَالِ. وَإِنَّمَا هِيَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ. [مَسْأَلَةُ سَرَقَ الْعَبْدُ مِنْ مَالِ سَيِّدِهِ أَوْ السَّيِّدُ مِنْ عَبْدِهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: إذَا سَرَقَ الْعَبْدُ مِنْ مَالِ سَيِّدِهِ، أَوْ السَّيِّدُ مِنْ عَبْدِهِ: فَلَا قَطْعَ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ وَمَالَهُ لِسَيِّدِهِ، فَلَمْ يَقْطَعْ أَحَدٌ بِأَخْذِ مَالِ عَبْدِهِ لِأَنَّهُ أَخْذٌ لِمَالِهِ، وَإِنَّمَا إذَا سَرَقَ الْعَبْدُ يَسْقُطُ الْقَطْعُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَبِقَوْلِ الْخَلِيفَةِ: " غُلَامُكُمْ سَرَقَ مَتَاعَكُمْ "، وَهَذَا يَشْتَرِكُ مَعَ الْأَبِ فِي الْبَابَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا كُلَّ وَاحِدٍ فِي مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا مُتَعَلَّقُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَهِيَ [الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ]. [مَسْأَلَة مُتَعَلَّقُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: [مُتَعَلَّقُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ]: فَهُوَ الْحِرْزُ الَّذِي نُصِبَ عَادَةً لِحِفْظِ الْأَمْوَالِ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِ حَالِهِ. وَالْأَصْلُ فِي اعْتِبَارِ الْحِرْزِ الْأَثَرُ وَالنَّظَرُ. أَمَّا الْأَثَرُ: فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ إلَّا مَا أَوَاهُ الْجَرِينُ».

مسألة الجماعة إذا اشتركوا في قطع يد رجل

وَأَمَّا النَّظَرُ فَهُوَ أَنَّ الْأَمْوَالَ خُلِقَتْ مُهَيَّأَةً لِلِانْتِفَاعِ لِلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، ثُمَّ بِالْحِكْمَةِ الْأَوَّلِيَّةِ الَّتِي بَيِّنَاهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ حُكِمَ فِيهَا بِالِاخْتِصَاصِ الَّذِي هُوَ الْمِلْكُ شَرْعًا، وَبَقِيَتْ الْأَطْمَاعُ مُعَلَّقَةً بِهَا، وَالْآمَالُ مُحَوَّمَةً عَلَيْهَا، فَتَكُفُّهَا الْمُرُوءَةُ وَالدِّيَانَةُ فِي أَقَلِّ الْخَلْقِ، وَيَكُفُّهَا الصَّوْنُ وَالْحِرْزُ عَنْ أَكْثَرِهِمْ، فَإِذَا أَحَرَزهَا مَالِكُهَا فَقَدْ اجْتَمَعَ بِهَا الصَّوْنَانِ، فَإِذَا هُتِكَا فَحُشَتْ الْجَرِيمَةُ فَعَظُمَتْ الْعُقُوبَةُ؛ وَإِذَا هُتِكَ أَحَدُ الصَّوْنَيْنِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَجَبَ الضَّمَانُ وَالْأَدَبُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَا يُمْكِنُهُ بَعْدَ الْحِرْزِ فِي الصَّوْنِ شَيْءٌ، لَمَّا كَانَ غَايَةَ الْإِمْكَانِ رَكَّبَ عَلَيْهِ الشَّرْعُ غَايَةَ الْعُقُوبَةِ مِنْ عِنْدِهِ رَدْعًا وَصَوْنًا، وَالْأُمَّةُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْحِرْزِ فِي الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ؛ لِاقْتِضَاءِ لَفْظِهَا، وَلَا تَضْمَنُ حِكْمَتُهَا وُجُوبَهُ، وَلَمْ أَعْلَمْ مَنْ تَرَكَ اعْتِبَارَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَلَا تَحَصَّلَ لِي مَنْ يُهْمِلُهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَإِنَّمَا هُوَ خِلَافٌ يُذْكَرُ، وَرُبَّمَا نُسِبَ إلَى مَنْ لَا قَدْرَ لَهُ، فَلِذَلِكَ أَعْرَضْت عَنْ ذِكْرِهِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَى الْمُخْتَلِسِ وَالْمُنْتَهِبِ لِعَدَمِ الْحِرْزِ فِيهِ، فَلَمَّا لَمْ يَهْتِكْ حِرْزًا لَمْ يُلْزِمْهُ أَحَدٌ قِطْعًا. [مَسْأَلَة الْجَمَاعَةَ إذَا اشْتَرَكُوا فِي قَطْعِ يَد رَجُلٍ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: [حُكْمُ الشَّرِيكِ]: لَمَّا ثَبَتَ اعْتِبَارُ النِّصَابِ فِي الْقَطْعِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إذَا اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ، فَاجْتَمَعُوا عَلَى إخْرَاجِ نِصَابٍ مِنْ حِرْزِهِ؛ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى إخْرَاجِهِ، أَوْ يَكُونَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ إخْرَاجَهُ إلَّا بِتَعَاوُنِهِمْ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ إخْرَاجُهُ إلَّا بِالتَّعَاوُنِ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ جَمِيعُهُمْ بِاتِّفَاقٍ مِنْ عُلَمَائِنَا. وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُخْرِجهُ وَاحِدٌ وَاشْتَرَكُوا فِي إخْرَاجِهِ فَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا قَطْعَ فِيهِ. وَالثَّانِي: فِيهِ الْقَطْعُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُقْطَعُ فِي السَّرِقَةِ الْمُشْتَرِكُونَ إلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَجِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي حِصَّتِهِ نِصَابٌ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النِّصَابِ وَمَحَلِّهِ حِينَ لَمْ يَقْطَعْ إلَّا مِنْ سَرَقَ نِصَابًا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَسْرِقْ نِصَابًا، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِمْ. وَدَلِيلُنَا: الِاشْتِرَاكُ فِي الْجِنَايَةِ لَا يُسْقِطُ عُقُوبَتَهَا، كَالِاشْتِرَاكِ فِي الْقَتْلِ، وَمَا أَقْرَبَ مَا بَيْنَهُمَا؛ فَإِنَّا قَتَلْنَا الْجَمَاعَةَ بِقَتْلِ الْوَاحِدِ، صِيَانَةً لِلدِّمَاءِ، لِئَلَّا يَتَعَاوَنَ عَلَى سَفْكِهَا الْأَعْدَاءُ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ مِثْلُهُ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ سَاعَدَنَا الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ إذَا اشْتَرَكُوا فِي قَطْعِ يَدِ رَجُلٍ قُطِعُوا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا.

مسألة اشتركوا في السرقة فنقب واحد الحرز وأخرج آخر

[مَسْأَلَة اشْتَرَكُوا فِي السَّرِقَةِ فَنَقَبَ وَاحِدٌ الْحِرْزَ وَأَخْرَجَ آخَرُ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: إذَا اشْتَرَكُوا فِي السَّرِقَةِ فَإِنْ نَقَبَ وَاحِدٌ الْحِرْزَ وَأَخْرَجَ آخَرُ فَلَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ هَذَا نَقَبَ وَلَمْ يَسْرِقْ، وَالْآخَرَ سَرَقَ مِنْ حِرْزٍ مَهْتُوكِ الْحُرْمَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ شَارَك فِي النَّقْبِ وَدَخَلَ وَأَخَذَ قُطِعَ. وَأَمَّا عُلَمَاؤُنَا فَقَالُوا: إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا تَعَاوُنٌ وَاتِّفَاقٌ قُطِعَا، وَإِنْ نَقَبَ سَارِقٌ وَجَاءَ آخَرُ لَمْ يَشْعُرْ بِهِ فَدَخَلَ النَّقْبَ وَسَرَقَ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ شَرْطِ الْقَطْعِ وَهُوَ الْحِرْزُ، وَفَصْلُ التَّعَاوُنِ قَدْ تَقَدَّمَ وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ. [مَسْأَلَة النَّبَّاشِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: فِي النَّبَّاشِ: قَالَ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ: يُقْطَعُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ مَالًا مُعَرَّضًا لِلتَّلَفِ لَا مَالِكَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَمْلِكُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ السَّرِقَةَ؛ لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ فِيهِ سَاكِنٌ، وَإِنَّمَا تَكُونُ السَّرِقَةُ بِحَيْثُ تُتَّقَى الْأَعْيُنُ، وَيُتَحَفَّظُ مِنْ النَّاس، وَعَلَى نَفْي السَّرِقَةِ عَوَّلَ أَهْلُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَقُلْنَا: إنَّهُ سَارِقٌ؛ لِأَنَّهُ تَدَرَّعَ اللَّيْلَ لِبَاسًا، وَاتَّقَى الْأَعْيُنَ، وَتَعَمَّدْ وَقْتًا لَا نَاظِرَ فِيهِ وَلَا مَارَّ عَلَيْهِ؛ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ سَرَقَ فِي وَقْتِ تَبَرُّزِ النَّاسِ لِلْعِيدِ وَخُلُوِّ الْبَلَدِ مِنْ جَمِيعِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الْقَبْرَ غَيْرُ حِرْزٍ فَبَاطِلٌ؛ لِأَنَّ حِرْزَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِ حَالِهِ الْمُمَكَّنَةِ فِيهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَلَا يُمْكِنُ تَرْكُ الْمَيِّتِ عَارِيًّا، وَلَا يُنْفَقُ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ دَفْنِهِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُدْفَنَ إلَّا مَعَ أَصْحَابِهِ؛ فَصَارَتْ هَذِهِ الْحَاجَةُ قَاضِيَةً بِأَنَّ ذَلِكَ حِرْزُهُ، وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات: 25] {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 26] لَيَسْكُنَ فِيهَا حَيًّا وَيُدْفَنَ فِيهَا مَيِّتًا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ عُرْضَةٌ لِلتَّلَفِ فَكُلُّ مَا يَلْبَسُهُ الْحَيُّ أَيْضًا مُعَرَّضٌ لِلتَّلَفِ وَالْإِخْلَاقِ بِلِبَاسِهِ، إلَّا أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ أَعْجَلُ مِنْ الثَّانِي.

مسألة تلفت العين بعد السرقة

[مَسْأَلَة تلفت الْعَيْنِ بَعْد السَّرِقَة] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إذَا سَرَقَ السَّارِقُ وَجَبَ الْقَطْعُ عَلَيْهِ وَرَدُّ الْعَيْنِ؛ فَإِنْ تَلِفَتْ فَعَلَيْهِ مَعَ الْقَطْعِ الْقِيمَةُ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْغُرْمُ ثَابِتٌ فِي ذِمَّتِهِ فِي الْحَالَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجْتَمِعُ الْقَطْعُ مَعَ الْغُرْمِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ} [المائدة: 38] وَلَمْ يَذْكُرْ غُرْمًا، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ، وَهِيَ نَسْخٌ، وَنَسْخُ الْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ، أَوْ بِخَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ، وَأَمَّا بِنَظَرٍ فَلَا يَجُوزُ قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ فَلْيُنْظَرْ هُنَاكَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] مُطْلَقًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْطَى لِذَوِي الْقُرْبَى إلَّا أَنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ؛ فَزَادَ عَلَى النَّصِّ بِغَيْرِ نَصٍّ مِثْلِهِ مِنْ قُرْآنٍ أَوْ خَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ. وَأَمَّا عُلَمَاءُ الشَّافِعِيَّةِ فَعَوَّلُوا عَلَى أَنَّ الْقَطْعَ وَالْغُرْمَ حَقَّانِ لِمُسْتَحِقَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَلَا يُسْقِطُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، كَالدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ. وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَيْسَ لَهُمْ مُتَعَلَّقٌ قَوِيٌّ، وَنَازَعَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا أُقِيمَ عَلَى السَّارِقِ الْحَدُّ فَلَا ضَمَانَ». وَهَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِأَنَّ الْإِتْبَاعَ بِالْغُرْمِ عُقُوبَةٌ، وَالْقَطْعَ عُقُوبَةٌ، وَلَا تَجْتَمِعُ عُقُوبَتَانِ، وَعَلَيْهِ عَوَّلَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَهُوَ كَلَامٌ مُخْتَلُّ اللَّفْظِ. وَصَوَابُهُ مَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ مِنْ أَنَّ الْقَطْعَ وَاجِبٌ فِي الْبَدَنِ، وَالْغُرْمَ عَلَى الْمُوسِرِ وَاجِبٌ فِي الْمَالِ، فَصَارَا حَقَّيْنِ فِي مَحَلَّيْنِ.

مسألة إذا سرق المال من الذي سرقه

وَإِذَا كَانَ مُعْسِرًا فَقُلْنَا: يَثْبُتُ الْغُرْمُ عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ، كَمَا أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الْقَطْعَ فِي الْبَدَنِ وَالْغُرْمَ وَهُوَ مَحَلٌّ وَاحِدٌ، فَلَمْ يَجُزْ، أَلَا تَرَى أَنَّ الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَالْكَفَّارَةَ فِي مَالِهِ أَوْ ذِمَّتِهِ، وَالْجَزَاءَ فِي الصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ يَنْقُضُ هَذَا الْأَصْلَ؛ لِأَنَّهُ يُجْمَعُ مَعَ الْقِيمَةِ، وَكَذَلِكَ الْحَدُّ وَالْمَهْرُ إلَّا أَنْ يَطَّرِدَ أَصْلُنَا، فَنَقُولُ: إذَا وَجَبَ الْحَدُّ وَكَانَ مُعْسِرًا لَمْ يَجِبْ الْمَهْرُ، وَإِنَّ الْجَزَاءَ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُعْسِرٌ، سَقَطَتْ الْقِيمَةُ عَنْهُ، فَحِينَئِذٍ تَطَّرِدُ الْمَسْأَلَةُ وَيَصِحُّ الْمَذْهَبُ؛ أَمَّا أَنَّهُ قَدْ رَوَى النَّسَائِيّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَغْرَمُ صَاحِبُ سَرِقَةٍ إذَا أَقَمْتُمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ». فَلَوْ صَحَّ هَذَا لَحَمَلْنَاهُ عَلَى الْمُعْسِرِ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ شَاءَ أَغْرَمَ السَّارِقَ وَلَمْ يَقْطَعْهُ، وَإِنْ شَاءَ قَطَعَهُ وَلَمْ يُغْرِمْهُ؛ فَجَعَلَ الْخِيَارَ إلَيْهِ؛ وَالْخِيَارُ إنَّمَا يَكُونُ لِلْمَرْءِ بَيْنَ حَقَّيْنِ هُمَا لَهُ، وَالْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُخَيَّرَ الْعَبْدُ فِيهِ كَالْحَدِّ وَالْمَهْرِ. [مَسْأَلَة إذَا سَرَقَ الْمَالَ مِنْ الَّذِي سَرَقَهُ] الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ: إذَا سَرَقَ الْمَالَ مِنْ الَّذِي سَرَقَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ، فَإِنَّ حُرْمَةَ الْمَالِكِ الْأَوَّلِ بَاقِيَةٌ عَلَيْهِ لَمْ تَنْقَطِعْ عَنْهُ، وَيَدَ السَّارِقِ كَلَا يَدٍ. فَإِنْ قِيلَ: اجْعَلُوا حِرْزَهُ كَلَا حِرْزٍ. قُلْنَا: الْحِرْزُ قَائِمٌ، وَالْمِلْكُ قَائِمٌ، وَلَمْ يَبْطُلْ الْمِلْكُ فِيهِ، فَيَقُولُوا لَنَا: أَبْطِلُوا الْحِرْزَ. [مَسْأَلَة تَكَرَّرَتْ السَّرِقَةُ بَعْدَ الْقَطْعِ فِي الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: إذَا تَكَرَّرَتْ السَّرِقَةُ بَعْدَ الْقَطْعِ فِي الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ قُطِعَ ثَانِيًا فِيهَا.

مسألة إذا ملك السارق العين المسروقة

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ. وَلَيْسَ لِلْقَوْمِ دَلِيلٌ يُحْكَى، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ مَعَنَا: إذَا تَكَرَّرَ الزِّنَا يُحَدُّ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا اعْتِرَاضَهُمْ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَأَبْطَلْنَاهُ. وَعُمُومُ الْقُرْآنِ يُوجِبُ عَلَيْهِ الْقَطْعَ. [مَسْأَلَة إذَا مَلَكَ السَّارِقُ الْعَيْنَ الْمَسْرُوقَةَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: [إذَا مَلَكَ السَّارِقُ الْعَيْنَ الْمَسْرُوقَةَ]: إذَا مَلَكَ السَّارِقُ قَبْلَ أَنْ يُقْطَعَ الْعَيْنَ الْمَسْرُوقَةَ بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ سَقَطَ الْقَطْعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]. فَإِذَا وَجَبَ الْقَطْعُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يُسْقِطْهُ شَيْءٌ وَلَا تَوْبَةُ السَّارِقِ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: إنَّ التَّوْبَةَ تُسْقِطُ حُقُوقَ اللَّهِ وَحُدُودَهُ، وَعَزَوْهُ إلَى الشَّافِعِيِّ قَوْلًا، وَتَعَلَّقُوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34]. وَذَلِكَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْوُجُوبِ، فَوَجَبَ حَمْلُ جَمِيعِ الْحُدُودِ عَلَيْهِ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ دَلِيلُنَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَدَّ الْمُحَارِبِ قَالَ: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34]. وَعَطَفَ عَلَيْهِ حَدَّ السَّارِقِ، وَقَالَ فِيهِ: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة: 39] فَلَوْ كَانَ ظُلْمُهُ فِي الْحُكْمِ مَا غَايَرَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا، وَيَا مَعْشَرَ الشَّافِعِيَّةِ؛ سُبْحَانَ اللَّهِ، أَيْنَ الدَّقَائِقُ الْفِقْهِيَّةُ وَالْحِكَمُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي تَسْتَنْبِطُونَهَا فِي غَوَامِضِ الْمَسَائِلِ، أَلَمْ تَرَوْا إلَى الْمُحَارِبِ الْمُسْتَبِدِّ بِنَفْسِهِ، الْمُجْتَرِئِ بِسِلَاحِهِ، الَّذِي يَفْتَقِرُ الْإِمَامُ مَعَهُ إلَى الْإِيجَافِ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، كَيْف أَسْقَطَ جَزَاءَهُ بِالتَّوْبَةِ اسْتِنْزَالًا عَنْ تِلْكَ الْحَالَةِ، كَمَا فُعِلَ بِالْكَافِرِ فِي مَغْفِرَةِ جَمِيعِ مَا سَلَفَ اسْتِئْلَافًا عَلَى الْإِسْلَامِ. فَأَمَّا السَّارِقُ وَالزَّانِي، وَهُمْ فِي قَبْضَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَحْتَ حُكْمِ الْإِمَامِ، فَمَا الَّذِي يُسْقِطُ عَنْهُمْ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ؟ أَوْ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ عَلَى الْمُحَارِبِ، وَقَدْ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمَا الْحَالَةُ وَالْحِكْمَةُ؟ هَذَا لَا يَلِيقُ بِمِثْلِكُمْ، يَا مَعْشَرَ الْمُحَقِّقِينَ.

مسألة حكم سارق المصحف

وَأَمَّا مِلْكُ السَّارِقِ الْمَسْرُوقَ، فَقَدْ «قَالَ صَفْوَانُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هُوَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: فَهَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ». خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ. [مَسْأَلَة حُكْمُ سَارِقِ الْمُصْحَفِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: [حُكْمُ سَارِقِ الْمُصْحَفِ]: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْطَعُ سَارِقُ الْمُصْحَفِ، وَلَيْسَ لَهُ فِيهِ مَا يَنْفَعُ إلَّا أَنْ مَنَعَ بَيْعَهُ وَتَمَلُّكَهُ. فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ قُلْنَا لَهُ: إذَا اشْتَرَى رَجُلٌ وَرَقًا وَكَتَبَ فِيهِ الْقُرْآنَ لَا يُبْطِلُ مَا ثَبَتَ فِيهِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ مِلْكَهُ، كَمَا لَمْ يُبْطِلْ مِلْكَهُ لَوْ كَتَبَ فِيهِ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ تَرَتَّبْ عَلَيْهِ وُجُوبُ الْقَطْعِ. وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] اعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ الْمُتَقَدِّمَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يُتَعَرَّضْ فِي الْقُرْآنِ لِذِكْرِهَا، وَلَكِنَّ الْعُمُومَ لَمَّا كَانَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ ذَلِكَ وَنُظَرَاءَهُ ذَكَرْنَا أُمَّهَاتِ النَّظَائِرِ، لِئَلَّا يَطُولَ عَلَيْكُمْ الِاسْتِيفَاءُ، وَبَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ التَّخْصِيصِ لِهَذَا الْعُمُومِ، لِتَعْلَمُوا كَيْفِيَّةَ اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَكَذَا عَقَدْنَا فِي كُلِّ آيَةٍ وَسَرَدْنَا، فَافْهَمُوهُ مِنْ آيَاتِ هَذَا الْكِتَابِ؛ إذْ لَوْ ذَهَبْنَا إلَى ذِكْرِ كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ لَصَعُبَ الْمَرَامُ. وَمِنْ أَهَمِّ الْمَسَائِلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا وَقَعَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهِ فِيهَا، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، فَنَذْكُرُ وَجْهَ إيرَادِهَا لُغَةً، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: ثُمَّ نُفِيضُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي تَمَامِهَا، فَإِنَّهَا عَظِيمَةُ الْإِشْكَالِ لُغَةً لَا فِقْهًا، فَنَقُولُ: إنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا، وَإِنَّمَا هُمَا يَمِينَانِ "؟

قُلْت: لَمَّا تَوَجَّهَ هَذَا السُّؤَالُ وَسَمِعَهُ النَّاسُ لَمْ يَحُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِطَائِلٍ مِنْ فَهْمِهِ. أَمَّا أَهْلُ اللُّغَةِ فَتَقَبَّلُوهُ، وَتَكَلَّمُوا عَلَيْهِ، وَتَابَعَهُمْ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ حُسْنَ ظَنٍّ بِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَحْقِيقٍ لِكَلَامِهِمْ، وَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ خَمْسَةَ أَوْجُهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْإِنْسَانِ مِنْ الْأَعْضَاءِ اثْنَانِ، فَحُمِلَ الْأَقَلُّ عَلَى الْأَكْثَرِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُولُ: بُطُونُهُمَا وَعُيُونُهُمَا، وَهُمَا اثْنَانِ؛ فَجَعَلَ ذَلِكَ مِثْلَهُ. الثَّانِي: أَنَّ الْعَرَبَ فَعَلَتْ ذَلِكَ لِلْفَصْلِ بَيْنَ مَا فِي الشَّيْءِ مِنْهُ وَاحِدٌ وَبَيْنَ مَا فِيهِ مِنْهُ اثْنَانِ، فَجَعَلَ مَا فِي الشَّيْءِ مِنْهُ وَاحِدٌ جَمْعًا إذَا ثُنِّيَ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ وَإِنْ جُعِلَ جَمْعًا فَالْإِضَافَةُ تَثْنِيَةٌ، لَا سِيَّمَا وَالتَّثْنِيَةُ جَمْعٌ، وَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ يُقَالَ اثْنَانِ رَجُلَانِ، وَلَكِنْ رَجُلَانِ يَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِ وَالتَّثْنِيَةِ جَمِيعًا، وَذُكِرَ كَذَلِكَ اخْتِصَارًا، وَكَذَلِكَ إذَا قُلْت: قُلُوبُهُمَا فَالتَّثْنِيَةُ فِيهِمَا قَدْ بَيَّنَتْ لَك عَدَدَ قَلْبٍ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ فَجَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ: وَمَهْمَهَيْنِ قَذْفَيْنِ مَرَّتَيْنِ ظَهْرَاهُمَا مِثْلُ ظُهُورِ التُّرْسَيْنِ الثَّالِثُ: قَالَ سِيبَوَيْهِ: إذَا كَانَ مُفْرَدًا قَدْ يُجْمَعْ إذَا أَرَدْت بِهِ التَّثْنِيَةَ، كَقَوْلِ الْعَرَبِ: وَضَعَا رِحَالَهُمَا، وَتُرِيدُ رَحْلَيْ رَاحِلَتَيْهِمَا، وَإِلَى مَعْنَى الثَّانِي يَرْجِعُ فِي الْبَيَانِ الرَّابِعِ، وَيَشْتَرِكُ الْفُقَهَاءُ مَعَهُمْ فِيهِ أَنَّهُ فِي كُلِّ جَسَدٍ يَدَانِ، فَهِيَ أَيْدِيهِمَا مَعًا حَقِيقَةٌ، وَلَكِنْ لَمَّا أَرَادَ الْيُمْنَى مِنْ كُلِّ جَسَدٍ، وَهِيَ وَاحِدَةٌ، جَرَى هَذَا الْجَمْعُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَتُؤَوَّلُ كَذَلِكَ. الْخَامِسُ: أَنَّ ذِكْرَ الْوَاحِدِ بِلَفْظِ الْجَمِيعِ عِنْدَ التَّثْنِيَةِ أَفْصَحُ مِنْ ذِكْرِهِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ مَعَ التَّثْنِيَةِ؛ فَهَذَا مُنْتَهَى مَا تَحَصَّلَ لِي مِنْ أَقْوَالِهِمْ، وَقَدْ تَتَقَارَبُ وَتَتَبَاعَدُ، وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ عَنْهُمْ فِي الْخَامِسِ، مِنْ أَنَّهُمْ بَنَوْا الْأَمْرَ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ وَحْدَهَا هِيَ الَّتِي تُقْطَعُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ تُقْطَعُ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ، فَيَعُودُ قَوْلُهُ: أَيْدِيَهُمَا إلَى أَرْبَعَةٍ، وَهِيَ جَمْعٌ فِي الْآيَتَيْنِ، وَهِيَ تَثْنِيَةٌ؛ فَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى فَصَاحَتِهِ، وَلَوْ قَالَ: فَاقْطَعُوا

مسألة قطع الأيدي والأرجل في السرقة

أَيْدِيَهُمْ لَكَانَ وَجْهًا؛ لِأَنَّ السَّارِقَ وَالسَّارِقَةَ لَمْ يُرَدْ بِهِمَا شَخْصَيْنِ خَاصَّةً، وَإِنَّمَا هُمَا اسْمًا جِنْسٍ يَعُمَّانِ مَا لَا يُحْصَى إلَّا بِالْفِعْلِ الْمَنْسُوبِ إلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ جَمْعٌ لِحَقِيقَةِ الْجَمْعِ فِيهِ. [مَسْأَلَة قَطْعِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ فِي السَّرِقَة] وَبَيَانُ مَا قُلْنَا مِنْ قَطْعِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ كَثِيرًا مَآلُهُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تُقْطَعُ يَمِينُ السَّارِقِ خَاصَّةً، وَلَا يَعُودُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ؛ قَالَهُ عَطَاءٌ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَقْطَعُ الْيُسْرَى وَلَا يَعُودُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ فِي رِجْلِ رَجُلٍ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ. الثَّالِثُ: تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى، فَإِنْ عَادَ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى، فَإِنْ عَادَ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى، فَإِنْ عَادَ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى؛ قَالَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَأَمَّا قَوْلُ عَطَاءٍ فَلَيْسَ عَلَى غَلَطِهِ غِطَاءٌ؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ قَبْلَهُ قَالُوا خِلَافَهُ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، فَجَاءَ بِالْجَمْعِ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِأَقْوَالِ النُّحَاةِ قُلْنَا: ذَلِكَ يَكُونُ تَأْوِيلًا مَعَ الضَّرُورَةِ إذَا جَاءَ دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ، فَيُرْجَعُ إلَيْهِ، فَبَطَلَ مَا قَالَهُ. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ يَرُدُّهُ حَدِيثُ الْحَارِثِ بْنِ حَاطِبٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِلِصٍّ فَقَالَ: اُقْتُلُوهُ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنَّمَا سَرَقَ. قَالَ: اقْطَعُوا يَدَهُ. قَالُوا: ثُمَّ سَرَقَ فَقُطِعَتْ رِجْلُهُ، ثُمَّ سَرَقَ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ فَقُطِعَتْ يَدُهُ حَتَّى قُطِعَتْ قَوَائِمُهُ كُلُّهَا». رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقَطَعَ يَدَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الثَّانِيَةَ فَقَطَعَ رِجْلَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ ثَالِثَةً فَقَطَعَ يَدَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ رَابِعَةً فَقَطَعَ رِجْلَهُ». أَمَّا النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد فَرَوَيَاهُ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ حَاطِبٍ. وَأَمَّا الدَّارَقُطْنِيُّ فَرَوَاهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِعْلًا، وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلًا. وَقَالَ الْحَارِثُ: إنَّ أَبَا بَكْرٍ تَمَّمَ قَطْعَهُ، وَاتَّفَقُوا عَلَى قَتْلِهِ فِي الْخَامِسَةِ؛ وَهَذَا يُسْقِط قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَكَذَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فِي قَطْعِ الْيَمِينِ أَنَّهُ قَطَعَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى

مسألة والسارق والسارقة يقتضي قطع يد الآبق

رُوِيَ أَيْضًا أَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَا؛ بَلْ تُقْطَعُ يَدُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى. قَالَ لَهُ: دُونَك. وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَصَحُّ وَأَثْبُتُ رِجَالًا. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: إذَا سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ، وَاتْرُكُوا لَهُ يَدًا يَأْكُلُ بِهَا الطَّعَامَ، وَيَسْتَنْجِي بِهَا مِنْ الْغَائِطِ، وَيُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ أَنْ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ كَانَ أَقْطَعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ فَإِنَّمَا قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى لِعَدَمِ الْيُمْنَى. [مَسْأَلَة وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ يَقْتَضِي قَطْعَ يَد الْآبِق] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: مِنْ تَوَابِعِهَا أَنَّ عُمُومَ قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] يَقْتَضِي قَطْعَ يَدِ الْآبِقِ. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد عَنْ بُسْرِ بْنِ أَرْطَاةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي فِي السَّفَرِ». وَرَوَى النَّسَائِيّ: «فِي الْغَزْوِ». فَأَمَّا قَوْلُهُ فِي السَّفَرِ فَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْآبِقِ، وَهُوَ غَلَطٌ بَيِّنٌ؛ لِأَجْلِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا اللَّفْظِ الْعَامِّ لَا يُقَالُ فِيهِ يُرَادُ بِهِ هَذَا الْمَعْنَى الشَّاذُّ النَّادِرُ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَذْكُرَ الْمُعَمِّمُ لَفْظَهُ وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ قَصَدَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْغَزْوِ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالُوا: إنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْغَانِمِينَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَظُّهُ فِي الْغَنِيمَةِ، فَلَا يُقْطَعُ وَلَا يُحَدُّ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ. وَقِيلَ: يُقْطَعُ وَيُحَدُّ لِعَدَمِ تَعْيِينِ حَظِّهِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ مُسْتَقِرٌّ يُورَثُ عَنْهُ وَتُؤَدَّى مِنْهُ دُيُونُهُ، فَصَارَ كَالْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ.

مسألة إذا وجب حد السرقة فقتل السارق رجلا

[مَسْأَلَة إذَا وَجَبَ حَدُّ السَّرِقَةِ فَقَتَلَ السَّارِقُ رَجُلًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ: إذَا وَجَبَ حَدُّ السَّرِقَةِ فَقَتَلَ السَّارِقُ رَجُلًا وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ قَالَ مَالِكٌ: يُقْتَلُ وَيَدْخُلُ الْقَطْعُ فِيهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْطَعُ لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ لِلْمُسْتَحِقَّيْنِ، فَوَجَبَ أَنْ يُوَفَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّهُ. فَإِنْ قِيلَ: أَحَدُهُمَا يَدْخُلُ فِي الْآخَرِ كَمَا قَالَ مَالِكٌ: الْقَتْلُ يَأْتِي عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ. قُلْنَا: إنَّ الَّذِي نَخْتَارُ أَنَّ حَدًّا لَا يُسْقِطُ حَدًّا. [مَسْأَلَة قَطْعِ السَّرِقَة هَلْ هُوَ شَرْعُنَا خَاصَّةً أَمْ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي قَطْعِ السَّرِقَةِ، هَلْ هُوَ شَرْعُنَا خَاصَّةً أَمْ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا؟ فَقِيلَ: كَانَ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا اسْتِرْقَاقَ السَّارِقِ. وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ إلَى زَمَنِ مُوسَى؛ فَعَلَى الْأَوَّلِ الْقَطْعُ فِي شَرْعِنَا نَاسِخٌ لِلرِّقِّ. وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ تَوْكِيدًا لَهُ، وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحَدَّ كَانَ مُطْلَقًا فِي الْأُمَمِ كُلِّهَا قَبْلَنَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْفِيَّتَهُ، إذْ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُ كَانَ إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَأَيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْت يَدَهَا». [الْآيَة الرَّابِعَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْك الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ] ِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ - سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 41 - 42] {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ - إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 43 - 44]

فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ «أَبِي لُبَابَةَ حِينَ أَرْسَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَخَانَهُ». الثَّانِي: نَزَلَتْ فِي شَأْنِ «بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ شَكَوَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا لَهُ: إنَّ النَّضِيرَ يَجْعَلُونَ خَرَاجَنَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ خَرَاجِهِمْ. وَيَقْتُلُونَ مِنَّا مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ، وَإِنْ قَتَلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَحَدًا مِنَّا وَدَوْهُ أَرْبَعِينَ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ». الثَّالِثُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي «الْيَهُودِ جَاءُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا لَهُ: إنَّ رَجُلًا مِنَّا وَامْرَأَةً زَنَيَا؛ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟ فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: كَذَبْتُمْ، إنَّ فِيهَا آيَةَ الرَّجْمِ، فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ، فَأَتَوْا بِهَا فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ. فَرَفَعَ يَدَهُ، فَإِذَا آيَةُ الرَّجْمِ تَلُوحُ. فَقَالُوا: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ، فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ. فَأَمَرَ

بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرُجِمَا». هَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ [وَالْبُخَارِيُّ] وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد. قَالَ أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: «إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُمْ: ائْتُونِي أَعْلَمَ رَجُلَيْنِ فِيكُمْ فَجَاءُوا بِابْنَيْ صُورِيَّا، فَنَشَدَهُمَا اللَّهَ كَيْفَ تَجِدَانِ أَمَرَ هَذَيْنِ فِي التَّوْرَاةِ قَالَا: نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ إذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ رُجِمَا. قَالَ: فَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْ تَرْجُمُوهُمَا؟ قَالَ: ذَهَبَ سُلْطَانُنَا، فَكَرِهْنَا الْقَتْلَ. فَدَعَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشُّهُودِ، فَجَاءُوا فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ. فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَجْمِهِمَا فَرُجِمَا». الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْمُخْتَارِ مِنْ ذَلِكَ: وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا فِي شَأْنِ أَبِي لُبَابَةَ وَمَا قَالَ عَلِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ لِبَنِي قُرَيْظَةَ فَضَعِيفٌ لَا أَصْلَ لَهُ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، وَمَا شَكَوْهُ مِنْ التَّفْضِيلِ بَيْنَهُمْ فَإِنَّهُ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ تَحْكِيمًا مِنْهُمْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا شَكْوًى. وَالصَّحِيحُ مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، كِلَاهُمَا فِي وَصْفِ الْقِصَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَكَّمُوهُ، فَكَانَ مَا ذَكَرْنَا فِي الْأَمْرِ.

مسألة مجيء اليهود إلى النبي في أمر الزانيين

[مَسْأَلَة مَجِيء الْيَهُود إلَى النَّبِيِّ فِي أَمْرَ الزَّانِيَيْنِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ثَبَتَ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرُوا لَهُ أَمْرَ الزَّانِيَيْنِ. وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مُصَالَحُونَ، وَعُمْدَةُ الصُّلْحِ أَلَّا يَعْرِضَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ، وَإِنْ تَعَرَّضُوا لَنَا وَرَفَعُوا أَمَرَهُمْ إلَيْنَا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَا رَفَعُوهُ ظُلْمًا لَا يَجُوزُ فِي شَرِيعَةٍ، أَوْ مِمَّا تَخْتَلِفُ فِيهِ الشَّرِيعَةُ؛ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الشَّرَائِعُ كَالْغَصْبِ وَالْقَتْلِ وَشِبْهِهِ لَمْ يُمَكَّنْ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ فِيهِ. وَإِذَا كَانَ مِمَّا تَخْتَلِفُ فِيهِ الشَّرَائِعُ وَيَحْكُمُونَنَا فِيهِ وَيَتَرَاضَوْا بِحُكْمِنَا عَلَيْهِمْ فِيهِ فَإِنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ حَكَمَ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُمْ أَعْرَضَ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُمْ. قُلْت: وَإِنَّمَا أَنْفَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ، لِيُحَقِّقَ تَحْرِيفَهُمْ وَتَبْدِيلَهُمْ وَتَكْذِيبَهُمْ وَكَتْمَهُمْ مَا فِي التَّوْرَاةِ. وَمِنْهُ صِفَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالرَّجْمُ عَلَى مَنْ زَنَا مِنْهُمْ. وَعَنْهُ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [المائدة: 15] فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِهِ الْبَاهِرَةِ، وَحُجَجِهِ الْبَيِّنَةِ، وَبَرَاهِينِهِ الْمُثَبِّتَةِ لِلْأُمَّةِ، الْمُخْزِيَةِ لِلْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ. [مَسْأَلَةُ التَّحْكِيمِ مِنْ الْيَهُود فِي أَمَرَ الزِّنَا] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي التَّحْكِيمِ مِنْ الْيَهُودِ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إذَا جَاءَ الْأَسَاقِفَةُ وَالزَّانِيَانِ فَالْحَاكِمُ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ حَكَمَ أَوْ لَا؟ لِأَنَّ إنْفَاذَ الْحُكْمِ حَقُّ الْأَسَاقِفَةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إذَا حَكَّمَ الزَّانِيَانِ الْإِمَامَ جَازَ إنْفَاذُهُ الْحُكْمَ، وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى الْأَسَاقِفَةِ؛ وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ مُسْلِمَيْنِ لَوْ حَكَّمَا بَيْنَهُمَا رَجُلًا لَنَفَذَ [حُكْمُهُ] وَلَمْ يَعْتَبِرْ رِضَا

مسألة ذكر الله الجاسوس بقوله سماعون لقوم آخرين لم يأتوك

الْحَاكِمِ؛ فَالْكِتَابِيُّونَ بِذَلِكَ أَوْلَى، إذْ الْحُكْمُ لَيْسَ بِحَقٍّ لِلْحَاكِمِ عَلَى النَّاسِ، وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ لِلنَّاسِ عَلَيْهِ. وَقَالَ عِيسَى، عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ، إنَّمَا كَانُوا أَهْلَ حَرْبٍ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ عِيسَى عَنْهُ إنَّمَا نَزَعَ بِهِ لِمَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ «أَنَّ الزَّانِيَيْنِ كَانَا مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ أَوْ فَدَكَ، وَكَانُوا حَرْبًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْمُ الْمَرْأَةِ الزَّانِيَةِ يَسْرَةُ، وَكَانُوا بَعَثُوا إلَى يَهُودِ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ لَهُمْ: اسْأَلُوا مُحَمَّدًا عَنْ هَذَا، فَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِغَيْرِ الرَّجْمِ فَخُذُوهُ مِنْهُ وَاقْبَلُوهُ، وَإِنْ أَفْتَى بِهِ فَاحْذَرُوهُ، وَهَذِهِ فِتْنَةٌ أَرَادَهَا اللَّهُ فِيهِمْ فَنَفَذَتْ، فَأَتَوْا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ: مَنْ أَعْلَمُ يَهُودَ فِيكُمْ؟ قَالُوا: ابْنُ صُورِيَّا. فَأَرْسَلَ إلَيْهِ فِي فَدَكَ، فَجَاءَ فَنَشَدَهُ اللَّهَ، فَانْتَشَدَ لَهُ وَصَدَّقَهُ بِالرَّجْمِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَالَ لَهُ: وَاَللَّهِ يَا مُحَمَّدُ، إنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ أَنَّك رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ، فَبَقِيَ عَلَى كُفْرِهِ.» وَهَذَا لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ مَجِيئُهُمْ بِالزَّانِيَيْنِ وَسُؤَالُهُمْ عَهْدًا وَأَمَانًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَهْدَ ذِمَّةٍ وَدَارٍ لَكَانَ لَهُمْ حُكْمُ الْكَفِّ عَنْهُمْ وَالْعَدْلُ فِيهِمْ، فَلَا حُجَّةَ لِرِوَايَةِ عِيسَى فِي هَذَا، وَعَنْهُمْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} [المائدة: 41]. [مَسْأَلَة ذِكْر اللَّه الْجَاسُوسَ بِقَوْلِهِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوك] قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إنَّ اللَّهَ ذَكَرَ الْجَاسُوسَ بِقَوْلِهِ: {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} [المائدة: 41]؛ فَهَؤُلَاءِ هُمْ الْجَوَاسِيسُ، وَلَمْ يَعْرِضْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ تَقَرَّرَتْ الْأَحْكَامُ، وَلَا تَمَكَّنَ الْإِسْلَامُ؛ وَسَنُبَيِّنُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَة إذَا حَكَّمَ رَجُلٌ رَجُلًا آخِر فِيمَا بَيْنهمْ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: لَمَّا حَكَّمُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْفَذَ عَلَيْهِمْ الْحُكْمَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ الرُّجُوعُ، وَكُلُّ مَنْ حَكَّمَ رَجُلًا فِي الدِّينِ فَأَصْلُهُ هَذِهِ الْآيَةُ. قَالَ مَالِكٌ: إذَا حَكَّمَ رَجُلٌ رَجُلًا فَحُكْمُهُ مَاضٍ، وَإِنْ رُفِعَ إلَى قَاضٍ أَمْضَاهُ إلَّا أَنْ يَكُون جَوْرًا بَيِّنًا.

وَقَالَ سَحْنُونٌ: يُمْضِيه إنْ رَآهُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ وَالْحُقُوقِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالطَّالِبِ، فَأَمَّا الْحُدُودُ فَلَا يُحَكَّمُ فِيهَا إلَّا السُّلْطَانَ. وَالضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ حَقٍّ اخْتَصَّ بِهِ الْخَصْمَانِ جَازَ التَّحْكِيمُ فِيهِ وَنَفَذَ تَحْكِيمُ الْمُحَكَّمِ بِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: التَّحْكِيمُ جَائِزٌ، وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ؛ وَإِنَّمَا هُوَ فَتْوَى قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يُقَدِّمُ آحَادُ النَّاسِ الْوُلَاةَ وَالْحُكَّامَ، وَلَا يَأْخُذُ آحَادُ النَّاسِ الْوِلَايَةَ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَسَنَعْقِدُ فِي تَعْلِيمِ التَّحْكِيمِ مَقَالًا يُشْفِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، إشَارَتُهُ إلَى أَنَّ كُلَّ مُحَكَّمٍ فَإِنَّهُ هُوَ مُفَعَّلٌ مِنْ حَكَّمَ، فَإِذَا قَالَ: حَكَّمْت، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَقَعَ لَغْوًا أَوْ مُفِيدًا، وَلَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ مُفِيدًا، فَإِذَا أَفَادَ فَلَا يَخْلُو أَنْ يُفِيدَ التَّكْثِيرَ كَقَوْلِك: كَلَّمْته وَقَلَّلْته، أَوْ يَكُونَ بِمَعْنَى جَعَلْت لَهُ، كَقَوْلِك: رَكَّبْته وَحَسَّنْته، أَيْ جَعَلْت لَهُ مَرْكُوبًا وَحُسْنًا؛ وَهَذَا يُفِيدُ جَعَلْتُهُ حَكَمًا. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ إنَّمَا هُوَ حَقُّهُمْ لَا حَقُّ الْحَاكِمِ، بَيْدَ أَنَّ الِاسْتِرْسَالَ عَلَى التَّحْكِيمِ خَرْمٌ لِقَاعِدَةِ الْوِلَايَةِ وَمُؤَدٍّ إلَى تَهَارُجِ النَّاسِ تَهَارُجَ الْحُمُرِ، فَلَا بُدَّ مِنْ نَصْبِ فَاصِلٍ؛ فَأَمَرَ الشَّرْعُ بِنَصْبِ الْوَالِي لِيَحْسِمَ قَاعِدَةَ الْهَرَجِ، وَأَذِنَ فِي التَّحْكِيمِ تَخْفِيفًا عَنْهُ وَعَنْهُمْ فِي مَشَقَّةِ التَّرَافُعِ، لِتَتِمَّ الْمَصْلَحَتَانِ، وَتَحْصُلَ الْفَائِدَتَانِ. وَالشَّافِعِيُّ وَمَنْ سِوَاهُ لَا يَلْحَظُونِ الشَّرِيعَةَ بِعَيْنِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا يَلْتَفِتُونَ إلَى الْمَصَالِحِ، وَلَا يَعْتَبِرُونَ الْمَقَاصِدَ، وَإِنَّمَا يَلْحَظُونَ الظَّوَاهِرَ وَمَا يَسْتَنْبِطُونَ مِنْهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَالْقَبَسِ فِي شَرْحِ مُوَطَّأِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ. وَلَمْ أَرْوِ فِي التَّحْكِيمِ حَدِيثًا حَضَرَنِي ذِكْرُهُ الْآنَ إلَّا مَا أَخْبَرَنِي بِهِ الْقَاضِي الْعِرَاقِيُّ، أَخْبَرَنَا الْجَوْنِيُّ، أَخْبَرَنَا النَّيْسَابُورِيُّ، أَخْبَرَنَا قَلِيلَهْ، أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ يَعْنِي ابْنَ الْمِقْدَامِ بْنَ شُرَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ شُرَيْحٍ، عَنْ أَبِيهِ «هَانِئٍ قَالَ: لَمَّا وَفَدَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ قَوْمِهِ سَمِعَهُمْ وَهُمْ يُكَنُّونَهُ أَبَا الْحَكَمِ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

مسألة كيف أنفذ النبي الحكم بين أهل الكتاب

فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ، وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ، فَلِمَ تُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ فَقَالَ: إنَّ قَوْمِي إذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي فَحَكَمْت بَيْنَهُمْ، فَرَضِيَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ. فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا فَمَا لَك مِنْ الْوَلَدِ؟ قَالَ: لِي شُرَيْحٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَمُسْلِمٌ. قَالَ: فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ؟ قَالَ: شُرَيْحٌ. قَالَ: فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ وَدَعَا لَهُ وَلِوَلَدِهِ». [مَسْأَلَة كَيْفَ أَنْفَذَ النَّبِيُّ الْحُكْم بَيْن أَهْل الْكتاب] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: كَيْفَ أَنْفَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ؟: اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ جَوَابُ الْعُلَمَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ حَكَمَ بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مَنْ زَنَى مِنْهُمْ وَقَدْ تَزَوَّجَ عَلَيْهِ الرَّجْمُ، فَيَحْكُمُ عَلَيْهِمْ بِهِ الْإِمَامُ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِسْلَامُ فِي الْإِحْصَانِ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ. الثَّانِي: حَكَمَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَيْهِمْ بِشَرِيعَةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَشَهَادَةِ الْيَهُودِ، إذْ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، فَيَلْزَمُ الْعَمَلُ بِهَا حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى تَرْكِهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِنَا، وَإِنَّهُ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ الْحَقِّ فِي الدَّلِيلِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ؛ قَالَهُ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ. الثَّالِثُ: إنَّمَا حَكَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ، وَلَا يَحْكُمُ الْحَاكِمُ الْيَوْمَ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ؛ قَالَهُ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فِي الْمُخْتَارِ: أَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَلَا يَصِحُّ فَإِنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاخْتِيَارِهِمْ، وَسَأَلُوهُ عَنْ أَمْرِهِمْ، فَفِي هَذَا يَكُونُ النَّظَرُ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مُخْبِرًا عَنْ الْحَقِيقَةِ فِيهِ: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [المائدة: 43] وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ جَاءُوا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ، فَقَالَ {فَإِنْ جَاءُوكَ} [المائدة: 42]. ثُمَّ خَيَّرَهُ

مسألة قوله تعالى وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط

فَقَالَ: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42]. [مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ] ثُمَّ قَالَ لَهُ: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42]، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: وَالْقِسْطُ هُوَ الْعَدْلُ، وَذَلِكَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ، وَحُكْمُ الْإِسْلَامِ شُهُودٌ مِنَّا عُدُولٌ؛ إذْ لَيْسَ فِي الْكُفَّارِ عَدْلٌ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِنَّمَا أَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إقَامَةَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَفَضِيحَةَ الْيَهُودِ حَسْبَمَا شَرَحْنَا؛ وَذَلِكَ بَيِّنٌ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ. وَلَوْ نَظَرَ إلَى الْحُكْمِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ لَمَا أَرْسَلَ إلَى ابْنِ صُورِيَّا، وَلَكِنَّهُ اجْتَمَعَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوُجُوهُ فِيهِ مِنْ قَبُولِ التَّحْكِيمِ وَإِنْفَاذِهِ عَلَيْهِمْ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ، وَهِيَ الْحَقُّ حَتَّى يُنْسَخَ، وَبِشَهَادَةِ الْيَهُودِ، وَذَلِكَ دِينٌ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ بِالْعُدُولِ مِنَّا. [مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} [المائدة: 44] قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُ: وَمُحَمَّدٌ مِنْهُمْ؛ يَحْكُمُونَ بِمَا فِيهَا مِنْ الْحَقِّ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيه ظَاهِرُ اللَّفْظِ وَمُطْلَقُهُ فِي قَوْلِهِ: {النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ} [المائدة: 44]، آخِرُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ. [مَسْأَلَةُ قَوْله تَعَالَى وَمِنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُفَسِّرُونَ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْكَافِرُونَ وَالظَّالِمُونَ وَالْفَاسِقُونَ كُلُّهُ لِلْيَهُودِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْكَافِرُونَ لِلْمُشْرِكِينَ، وَالظَّالِمُونَ لِلْيَهُودِ، وَالْفَاسِقُونَ لِلنَّصَارَى، وَبِهِ أَقُولُ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْآيَاتِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَابْنِ أَبِي زَائِدَةَ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ. قَالَ طَاوُسٌ وَغَيْرُهُ: لَيْسَ بِكُفْرٍ يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ، وَلَكِنَّهُ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ. وَهَذَا يَخْتَلِفُ إنْ حَكَمَ بِمَا عِنْدَهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؛ فَهُوَ تَبْدِيلٌ لَهُ يُوجِبُ الْكُفْرَ، وَإِنْ حَكَمَ بِهِ هَوًى وَمَعْصِيَةً فَهُوَ ذَنْبٌ تُدْرِكُهُ الْمَغْفِرَةُ عَلَى أَصْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْغُفْرَانِ لِلْمُذْنِبِينَ.

الآية الخامسة عشرة قوله تعالى وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس

[الْآيَة الْخَامِسَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ] ِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]. فِيهَا اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: [فِي سَبَبِ النُّزُولِ]: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: لَمَّا رَأَتْ قُرَيْظَةُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ حَكَمَ بِالرَّجْمِ وَكَانُوا يُخْفُونَهُ فِي كِتَابِهِمْ، قَالُوا: يَا مُحَمَّد: اقْضِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إخْوَاننَا بَنِي النَّضِيرِ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ دَمٌ، وَكَانَتْ النَّضِيرُ تَتَعَزَّزُ عَلَى قُرَيْظَةَ فِي دِمَائِهَا وَدِيَاتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَالُوا: لَا نُطِيعُك فِي الرَّجْمِ، وَلَكِنَّا نَأْخُذُ بِحُدُودِنَا الَّتِي كُنَّا عَلَيْهَا، فَنَزَلَتْ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]، وَنَزَلَتْ: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة: 50]. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى: فَمَا بَالُهُمْ يُخَالِفُونَ فَيَقْتُلُونَ النَّفْسَيْنِ بِالنَّفْسِ وَيَفْقَئُونَ الْعَيْنَيْنِ بِالْعَيْنِ؛ وَكَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ عِنْدَهُمْ الْقِصَاصُ خَاصَّةً، فَشَرَّفَ اللَّهُ هَذِهِ الْأَمَةَ بِالدِّيَةِ. [مَسْأَلَة قَتْلُ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّهُ نَفْسٌ بِنَفْسٍ. قَالَتْ لَهُ الشَّافِعِيَّةُ: هَذَا خَبَرٌ عَنْ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا لَيْسَ شَرْعًا لَنَا. وَقُلْنَا نَحْنُ لَهُ: هَذِهِ الْآيَةُ، إنَّمَا جَاءَتْ لِلرَّدِّ عَلَى الْيَهُودِ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْقَبَائِلِ وَأَخْذِهِمْ مِنْ قَبِيلَةٍ رَجُلًا بِرَجُلٍ، وَنَفْسًا بِنَفْسٍ، وَأَخْذِهِمْ مِنْ قَبِيلَةٍ أُخْرَى نَفْسَيْنِ بِنَفْسٍ، فَأَمَّا اعْتِبَارُ أَحْوَالِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ فَلَيْسَ لَهُ تَعَرُّضٌ فِي ذَلِكَ، وَلَا سِيقَتْ الْآيَةُ لَهُ، وَإِنَّمَا تُحْمَلُ الْأَلْفَاظُ عَلَى الْمَقَاصِدِ.

مسألة قتل الحر بالعبد

جَوَابٌ آخَرُ وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا عُمُومٌ يَدْخُلُهُ التَّخْصِيصُ بِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَبَعْضُهُمْ أَوْعَبُ مِنْ بَعْضٍ؛ «عَنْ عَلِيٍّ، وَقَدْ سُئِلَ: هَلْ خَصَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَيْءٍ؟ قَالَ: لَا، إلَّا مَا فِي هَذَا، وَأَخْرَجَ كِتَابًا مِنْ قِرَابِ سَيْفِهِ، وَإِذَا فِيهِ: الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، أَلَا لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ». جَوَابٌ ثَالِثٌ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]. وَقَالَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] فَاقْتَضَى لَفْظُ الْقِصَاصِ الْمُسَاوَاةَ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَكَافِر؛ لِأَنَّ نَقْصَ الْكُفْرِ الْمُبِيحِ لِلدَّمِ مَوْجُودٌ بِهِ، فَلَا تَسْتَوِي نَفْسٌ مُبِيحُهَا مَعَهَا مَعَ نَفْسٍ قَدْ تَطَهَّرَتْ عَنْ الْمُبِيحَاتِ، وَاعْتَصَمَتْ بِالْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى الْعِصَمِ. وَقَدْ ذَكَر بَعْضُ عُلَمَائِنَا فِي ذَلِكَ نُكْتَةً حَسَنَةً، قَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ فَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي مِلَّتِهِمْ أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ مِنْهُمْ تَعَادُلُ نَفْسًا؛ فَإِذَا الْتَزَمْنَا نَحْنُ ذَلِكَ فِي مِلَّتِنَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ الصَّحِيحُ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ فِي مِلَّتِنَا نَحْنُ أَيْضًا أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ مِنَّا تُقَابِلُ نَفْسًا، فَأَمَّا مُقَابَلَةُ كُلِّ نَفْسٍ مِنَّا بِنَفْسٍ مِنْهُمْ فَلَيْسَ مِنْ مُقْتَضَى الْآيَةِ، وَلَا مِنْ مَوَارِدِهَا. [مَسْأَلَة قَتْلَ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ: قَوْله تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] يُوجِبُ قَتْلَ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ خَاصَّةً.

مسألة قتل الرجل الحر بالمرأة الحرة

وَقَالَ غَيْرُهُ: يُوجِبُ ذَلِكَ أَخْذَ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، وَأَخْذَ أَطْرَافِهِ بِأَطْرَافِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45]. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا. وَنَخُصُّ هَذَا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمَا شَخْصَانِ لَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ مَعَ السَّلَامَةِ فِي الْخِلْقَةِ فَلَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا فِي الْأَنْفُسِ، وَيُقَالُ لِلْآخَرَيْنِ: إنَّ نَقْصَ الرِّقِّ الْبَاقِيَ فِي الْعَبْدِ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ يَمْنَعُ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُرِّ؛ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُؤْخَذَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ سِلْعَةٌ مِنْ السِّلَعِ يَصْرِفُهُ الْحُرُّ كَمَا يَصْرِفُ الْأَمْوَالَ. [مَسْأَلَةُ قَتْلَ الرَّجُلِ الْحُرّ بِالْمَرْأَةِ الْحُرَّة] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] يُوجِبُ قَتْلَ الرَّجُلِ [الْحُرِّ] بِالْمَرْأَةِ [الْحُرَّةِ] مُطْلَقًا؛ وَبِهِ قَالَ كَافَّةُ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يُحْكَمُ بَيْنَهُمْ بِالتَّرَاجُعِ، فَإِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ خُيِّرَ وَلِيُّهَا، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَتَهَا، وَإِنْ شَاءَ أُعْطِيَ نِصْفَ الْعَقْلِ. وَقَتَلَ الرَّجُلَ. وَعُمُومُ الْآيَةِ يَرُدُّ عَلَيْهِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ، فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ يَقْتُلُوا أَوْ يَأْخُذُوا الْعَقْلَ». وَالْمَعْنَى يُعَضِّدُهُ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا قَتَلَ الْمَرْأَةَ فَقَدْ قَتَلَ مُكَافِئًا لَهُ فِي الدَّمِ، فَلَا يَجِبُ فِيهِ زِيَادَةٌ كَالرَّجُلَيْنِ. [مَسْأَلَةُ قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَا تُقْتَل الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]. قُلْنَا: هَذَا عُمُومٌ تَخُصُّهُ حِكْمَتُهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا قَتَلَ مَنْ قَتَلَ صِيَانَةً لِلْأَنْفُسِ عَنْ الْقَتْلِ، فَلَوْ عَلِمَ الْأَعْدَاءُ أَنَّهُمْ بِالِاجْتِمَاعِ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنْهُمْ لَقَتَلُوا عَدُوَّهُمْ فِي جَمَاعَتِهِمْ، فَحَكَمْنَا بِإِيجَابِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِمْ رَدْعًا لِلْأَعْدَاءِ، وَحَسْمًا لِهَذَا الدَّاءِ، وَلَا كَلَامَ لَهُمْ عَلَى هَذَا.

مسألة إذا جرح أو قطع اليد أو الأذن ثم قتل

[مَسْأَلَة إذَا جَرَحَ أَوْ قَطَعَ الْيَد أَوْ الْأُذُنَ ثُمَّ قَتَلَ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ: إذَا جَرَحَ أَوْ قَطَعَ الْيَدَ أَوْ الْأُذُنَ ثُمَّ قَتَلَ فُعِلَ بِهِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] الْآيَةَ؛ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَا أَخَذَ، وَيُفْعَلُ بِهِ كَمَا فَعَلَ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنْ قَصْدَ بِذَلِكَ الْمُثْلَةَ فُعِلَ بِهِ مِثْلُهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ مُضَارَبَتِهِ لَمْ يُمَثَّلْ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقِصَاصِ إمَّا أَنْ يَكُونَ التَّشَفِّيَ، وَإِمَّا إبْطَالَ الْعُضْوِ. وَأَيُّ ذَلِكَ كَانَ فَالْقَتْلُ يَأْتِي عَلَيْهِ. وَهَذَا لَيْسَ بِقِصَاصٍ [وَلَا انْتِصَافٍ]؛ لِأَنَّ الْمَقْتُولَ تَأَلَّمَ بِقَطْعِ الْأَعْضَاءِ [كُلِّهَا] وَبِالْقَتْلِ، فَلَا بُدَّ فِي تَحْقِيقِ الْقِصَاصِ مِنْ أَنْ يَأْلَمَ كَمَا آلَمَ، وَبِهِ أَقُولُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وَذَكَرَ الْعَيْنَ وَالْأَنْفَ وَالْأُذُنَ وَالسِّنَّ وَتَرَكَ الْيَدَ، فَقِيلَ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْيَدَ آلَةٌ بِهَا يُفْعَلُ [كُلُّ] ذَلِكَ. الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ حَالِ الْيَدَيْنِ، بِخِلَافِ الْعَيْنَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ، فَإِنَّ الْيُسْرَى لَا تُسَاوِي الْيُمْنَى؛ فَتَرَكَ الْقَوْلَ فِيهَا لِتَدْخُلَ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]. ثُمَّ يَقَعُ النَّظَرُ فِيهَا بِدَلِيلٍ آخَرَ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْيَدَ بِالْيَدِ لَا تَفْتَقِرُ إلَى نَظَرٍ؛ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ، وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ، وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ يَفْتَقِرُ إلَى نَظَرٍ، وَفِيهِ إشْكَالٌ يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. [مَسْأَلَة قِرَاءَة قَوْله تَعَالَى وَالْعَيْن بِالْعَيْنِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] قَرَأَ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، فَالنَّصْبُ إتْبَاعٌ لِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ؛ وَالرَّفْعُ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى حَالِ النَّفْسِ قَبْلَ دُخُولِ أَنْ.

مسألة كيفية القصاص من العين

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ كَلَامٍ. وَلَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا كُتِبَ فِي التَّوْرَاةِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. [مَسْأَلَة كَيْفِيَّةَ الْقِصَاصِ مِنْ الْعَيْن] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فَقَأَهَا، أَوْ أَذْهَبَ بَصَرَهَا وَبَقِيَتْ صُورَتُهَا، أَوْ أَذْهَبَ بَعْضَ الْبَصَرِ. وَقَدْ أَفَادَنَا كَيْفِيَّةَ الْقِصَاصِ مِنْهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَمَرَ بِمِرْآةٍ فَحُمِّيَتْ، ثُمَّ وَضَعَ عَلَى الْعَيْنِ الْأُخْرَى قُطْنًا، ثُمَّ أُخِذَتْ الْمِرْآةُ بِكَلْبَتَيْنِ فَأُدْنِيَتْ مِنْ عَيْنِهِ حَتَّى سَالَ إنْسَانُ عَيْنِهِ. فَلَوْ أَذْهَبَ رَجُلٌ بَعْضَ بَصَرِهِ فَإِنَّهُ تُعْصَبُ عَيْنُهُ وَتُكْشَفُ الْأُخْرَى، ثُمَّ يَذْهَبُ رَجُلٌ بِالْبَيْضَةِ وَيَذْهَبُ وَيَذْهَبُ حَتَّى يَنْتَهِيَ بَصَرُ الْمَضْرُوبِ فَيُعَلَّمَ، ثُمَّ تُغَطَّى عَيْنُهُ وَتُكْشَفُ الْأُخْرَى، ثُمَّ يَذْهَبُ رَجُلٌ بِالْبَيْضَةِ وَيَذْهَبُ وَيَذْهَبُ، فَحَيْثُ انْتَهَى الْبَصَرُ عَلَّمَ، ثُمَّ يُقَاسُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْمَسَّاحَةِ، فَكَيْفَ كَانَ الْفَضْلُ نَسَبًا، وَيَجِبُ مِنْ الدِّيَةِ بِحِسَابِ ذَلِكَ مَعَ الْأَدَبِ الْوَجِيعِ وَالسِّجْنِ الطَّوِيلِ؛ إذْ الْقِصَاصُ فِي مِثْلِ هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَلَا يَزَالُ هَذَا يُخْتَبَرُ فِي مَوَاضِعَ مُخْتَلِفَةٍ لِئَلَّا يَتَدَاهَى الْمَضْرُوبُ فَيَنْقُصَ مِنْ بَصَرِهِ، لِيَكْثُرَ حَظُّهُ مِنْ مَالِ الضَّارِبِ؛ وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا. [مَسْأَلَة فَقَأَ أَعْوَرُ عَيْنَ صَحِيحٍ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: لَوْ فَقَأَ أَعْوَرُ عَيْنَ صَحِيحٍ: قِيلَ: لَا قَوَدَ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ. وَقِيلَ: عَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ شَاءَ فَقَأَ عَيْنَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةً كَامِلَةً. وَمُتَعَلَّقُ عُثْمَانَ [أَنَّهُ] فِي الْقِصَاصِ مِنْهُ أَخَذَ جَمِيعَ الْبَصَرِ بِبَعْضِهِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُسَاوَاةِ. وَمُتَعَلَّقُ الشَّافِعِيِّ قَوْله تَعَالَى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45].

مسألة فقأ صحيح عين أعور

وَمُتَعَلَّقُ مَالِكٍ أَنَّ الْأَدِلَّةَ لَمَّا تَعَارَضَتْ خُيِّرَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، وَالْأَخْذُ بِعُمُومِ الْقُرْآنِ أَوْلَى فَإِنَّهُ أَسْلَمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. [مَسْأَلَة فَقَأَ صَحِيحٌ عَيْنَ أَعْوَرَ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: إذَا فَقَأَ صَحِيحٌ عَيْنَ أَعْوَرَ: فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً عِنْدَ عُلَمَائِنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: فِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ الظَّاهِرُ. وَلَكِنْ عُلَمَاؤُنَا قَالُوا: إنَّ مَنْفَعَةَ الْأَعْوَرِ بِبَصَرِهِ كَمَنْفَعَةِ السَّالِمِ أَوْ قَرِيبٍ مِنْ ذَلِكَ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ مِثْلُ دِيَتِهِ. [مَسْأَلَة إذَا ضَرَبَ سِنَّهُ فَاسْوَدَّتْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَالُوا: إذَا ضَرَبَ سِنَّهُ فَاسْوَدَّتْ فَفِيهَا دِيَتُهَا كَامِلَةً، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِيهَا حُكُومَةٌ، وَهَذَا عِنْدِي خِلَافٌ يَئُولُ إلَى وِفَاقٍ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ سَوَادُهَا أَذْهَبَ مَنْفَعَتَهَا، وَإِنَّمَا بَقِيَتْ صُورَتُهَا كَالْيَدِ الشَّلَّاءِ وَالْعَيْنِ الْعَمْيَاءِ، فَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ. وَإِنْ كَانَ بَقِيَ مِنْ مَنْفَعَتِهَا شَيْءٌ أَوْ جَمِيعُهَا لَمْ يَجِبْ إلَّا بِمِقْدَارِ مَا نَقَصَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ حُكُومَةٌ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا ضُرِبَ سِنُّهُ فَاسْوَدَّتْ فَفِيهَا ثُلُثُ دِيَتِهَا، وَهَذَا مِمَّا لَا يَصِحُّ عَنْهُ سَنَدًا وَلَا فِقْهًا. [مَسْأَلَة أَخَذَ الْكَبِيرُ دِيَةَ ضِرْسِهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَالَ مَالِكٌ: إذَا أَخَذَ الْكَبِيرُ دِيَةَ ضِرْسِهِ، ثُمَّ ثَبَتَتْ. فَلَا يَرُدُّهَا. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: يَرُدُّهَا؛ لِأَنَّ عِوَضَهَا قَدْ ثَبَتَ، أَصْلُهُ سِنُّ الصَّغِيرِ؛ وَدَلِيلُنَا أَنَّ هَذَا ثَبَاتٌ لَمْ تَجْرِ بِهِ عَادَةٌ، وَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِالنَّادِرِ كَسَائِرِ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، فَلَوْ قَلَعَ رَجُلٌ سِنَّ رَجُلٍ فَرَدَّهَا صَاحِبُهَا فَالْتَحَمَتْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَجَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَطَاءٌ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا ثَانِيَةً، وَإِنْ رَدَّهَا أَعَادَ كُلَّ صَلَاةٍ صَلَّاهَا لِأَنَّهَا مَيْتَةٌ. [مَسْأَلَة قُطِعَتْ أُذُنُهُ فَأَلْصَقَهَا بِحَرَارَةِ الدَّمِ فَالْتَزَقَتْ] وَكَذَلِكَ لَوْ قُطِعَتْ أُذُنُهُ فَأَلْصَقَهَا بِحَرَارَةِ الدَّمِ فَالْتَزَقَتْ مِثْلُهُ، وَهِيَ:

مسألة حكم قلع السن الزائد

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَالَ ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا. وَقَالَ عَطَاءٌ: يَجْبُرُهُ السُّلْطَانُ عَلَى قَلْعِهَا؛ لِأَنَّهَا مَيْتَةٌ أَلْصَقَهَا؛ وَهَذَا غَلَطٌ بَيِّنٌ، وَقَدْ جَهِلَ مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ أَنَّ رَدَّهَا وَعَوْدَهَا لِصُورَتِهَا مُوجِبٌ عَوْدَهَا لِحُكْمِهَا؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ كَانَتْ فِيهَا لِلِانْفِصَالِ، وَقَدْ عَادَتْ مُتَّصِلَةً، وَأَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ لَيْسَتْ صِفَاتٍ لِلْأَعْيَانِ، وَإِنَّمَا هِيَ أَحْكَامٌ تَعُودُ إلَى قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِيهَا وَإِخْبَارِهِ عَنْهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَسْقُطُ عَنْ قَالِعِ السِّنِّ دِيَتُهَا، وَإِنْ رَجَعَتْ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ لِقَلْعِهَا، وَذَلِكَ لَا يَنْجَبِرُ. قُلْنَا: إنَّمَا وَجَبَتْ لِفَقْدِهَا وَذَهَابِ مَنْفَعَتِهَا؛ فَإِذَا عَادَتْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، كَمَا لَوْ ضَرَبَ عَيْنَهُ فَفَقَدَ بَصَرَهُ، فَلَمَّا قَضَى عَلَيْهِ عَادَ بَصَرُهُ لَمْ يَجِبْ لَهُ شَيْءٌ. [مَسْأَلَة حُكْمُ قَلْعِ السِّنِّ الزَّائِدِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: [حُكْمُ قَلْعِ السِّنِّ الزَّائِدِ]: فَلَوْ كَانَتْ لَهُ سِنٌّ زَائِدَةٌ فَقُلِعَتْ فَفِيهَا حُكُومَةٌ، وَبِهِ قَالَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: فِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَلَيْسَ فِي التَّقْدِيرِ دَلِيلٌ، فَالْحُكُومَةُ أَعْدَلُ. [مَسْأَلَةُ حُكْمُ قَطْعِ أُذُنَيْ رَجُلٍ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: [حُكْمُ قَطْعِ أُذُنَيْ رَجُلٍ]: قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي الَّذِي يَقْطَعُ أُذُنَيْ رَجُلٍ: عَلَيْهِ حُكُومَةٌ؛ وَإِنَّمَا تَكُونُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي السَّمْعِ، وَيُقَاسُ كَمَا يُقَاسُ الْبَصَرُ، فَإِنْ أَجَابَ جَوَابَ مَنْ يَسْمَعُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يُجِبْ أُحْلِفَ، لَقَدْ صُمَّتْ مِنْ ضَرْبِ هَذَا، وَأُغْرِمَ دِيَتَهُ، وَمِثْلُهُ فِي الْيَمِينِ فِي الْبَصَرِ. [مَسْأَلَةُ الْقَوَد فِي اللِّسَانُ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: اللِّسَانُ: اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْقَوَدِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ، وَالْعِلَّةُ فِي التَّوَقُّفِ عَنْ الْقَوَدِ فِيهِ عَدَمُ الْإِحَاطَةِ بِاسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ، فَإِنْ أَمْكَنَ فَالْقَوَدُ هُوَ الْأَصْلُ، وَيُخْتَبَرُ بِالْكَلَامِ فَمَا نَقَصَ مِنْ الْحُرُوفِ فَبِحِسَابِهِ مِنْ الدِّيَةِ تَجِبُ عَلَى الضَّارِبِ. [مَسْأَلَةُ قَلَعَ لِسَانُ الْأَخْرَس] فَإِنْ قَلَعَ لِسَانَ أَخْرَسَ، وَهِيَ:

مسألة اليمين باليمين واليسار باليسار في القطع

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: [إذَا قَلَعَ لِسَانُ أَخْرَس]: فَفِيهِ حُكُومَةٌ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: فِيهِ الدِّيَةُ، يُقَالُ لَهُ: إذَا أَسْقَطْت الْقَوَدَ فَلَا يَبْقَى إلَّا الْحُكُومَةُ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ قَرِينَةُ الْقَوَدِ. [مَسْأَلَة الْيَمِينُ بِالْيَمِينِ وَالْيَسَارُ بِالْيَسَارِ فِي الْقطْع] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: [الْيَمِينُ بِالْيَمِينِ وَالْيَسَارُ بِالْيَسَارِ]: إذَا قَطَعَ يَمِينَ رَجُلٍ أَوْ يَسَارَهُ لَمْ يُؤْخَذْ الْيَمِينُ إلَّا بِالْيَمِينِ وَالْيَسَارُ إلَّا بِالْيَسَارِ عِنْدَ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: تُؤْخَذُ الْيَمِينُ بِالْيَسَارِ وَالْيَسَارُ بِالْيَمِينِ نَظَرًا إلَى اسْتِوَائِهِمَا فِي الصُّورَةِ وَالِاسْمِ، وَلَمْ يَنْظُرْ إلَى الْمَنْفَعَةِ، وَهُمَا فِيهَا مُتَفَاوِتَتَانِ أَشَدَّ تَفَاوُتًا مِمَّا بَيْنَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ، فَإِذَا لَمْ تُؤْخَذْ الْيَدُ بِالرِّجْلِ فَلَا تُؤْخَذُ يُمْنَى بِيُسْرَى. [مَسْأَلَة كُلُّ عُضْوٍ بَطَلَتْ مَنْفَعَتُهُ وَبَقِيَتْ صُورَتُهُ فَلَا قَوَدَ فِيهِ وَفِيهِ الدِّيَةُ] الْمَسْأَلَةُ الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ: نَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى أُمَّهَاتِ الْأَعْضَاءِ وَتَرَكَ بَاقِيَهَا لِلْقِيَاسِ عَلَيْهَا، وَكُلُّ عُضْوٍ فِيهِ الْقِصَاصُ إذَا أَمْكَنَ وَلَمْ يُخْشَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ عُضْوٍ بَطَلَتْ مَنْفَعَتُهُ وَبَقِيَتْ صُورَتُهُ فَلَا قَوَدَ فِيهِ، وَفِيهِ الدِّيَةُ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْقَوَدِ فِيهِ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ فِي الْأَعْضَاءِ وَالصُّوَرِ بَيَّنَّاهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. [مَسْأَلَة حُكْمُ الْجُرُوحِ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: [حُكْمُ الْجُرُوحِ]: لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ مَا ذَكَرَ وَخَصَّ مَا خَصَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] فَعَمَّ بِمَا نَبَّهَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ وَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَسَرَتْ الرُّبَيِّعُ وَهِيَ عَمَّةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَطَلَبَ الْقَوْمُ الْقِصَاصَ، فَأَتَوْا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقِصَاصِ. فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ، عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: لَا وَاَللَّهِ، لَا تُكْسَر ثَنِيَّتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا أَنَسُ، كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ، فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَقَبِلُوا الْأَرْشَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ».

مسألة معنى قوله تعالى فمن تصدق به فهو كفارة له

[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: [فَهُوَ كَفَّارَةُ لَهُ هُوَ] الْمَجْرُوحُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْجَارِحُ. وَحَقِيقَةُ الْكَلَامِ هَلْ هُوَ فِي الضَّمِيرَيْنِ وَاحِدٌ أَوْ كُلُّ ضَمِيرٍ يَعُودُ إلَى مُضْمَرٍ ثَانٍ؟ وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّهُ يَعُودُ إلَى وَاحِدِ الضَّمِيرَيْنِ جَمِيعًا؛ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ مَنْ وَجَبَ لَهُ الْقِصَاصُ فَأَسْقَطَهُ كَفَّرَ مِنْ ذُنُوبِهِ بِقَدْرِهِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَابُ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ فَيَهَبُهُ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهِ دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْهُ بِهِ خَطِيئَةً». وَاَلَّذِي يَقُولُ: إنَّهُ إذَا عَفَا عَنْهُ الْمَجْرُوحُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، فَلَا مَعْنَى لَهُ. [الْآيَة السَّادِسَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ] ْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة: 49]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: قِيلَ: نَزَلَتْ فِيمَا تَقَدَّمَ.

مسألة معنى قوله تعالى واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك

وَقِيلَ: «جَاءَ ابْنُ صُورِيَّا، وَشَأْسُ بْنُ قَيْسٍ، وَكَعْبُ بْنُ أُسَيْدَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرِيدُونَ أَنْ يَفْتِنُوهُ عَنْ دِينِهِ، فَقَالُوا لَهُ: نَحْنُ أَحْبَارَ يَهُودَ، إنْ آمَنَّا لَك آمَنَ النَّاسُ جَمِيعُهُمْ بِك، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ خُصُومَةٌ فَنُحَاكِمُهُمْ إلَيْك لِتَقْضِيَ لَنَا عَلَيْهِمْ، وَنُؤْمِنُ بِك وَنُصَدِّقُك؛ فَأَبَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْآيَةَ، وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42]» بِمَعْنَى وَاحِدٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ قَوْمٌ: هَذَا نَاسِخٌ لِلتَّخْيِيرِ، وَهَذِهِ دَعْوَى عَرِيضَةٌ؛ فَإِنَّ شُرُوطَ النُّسَخِ أَرْبَعَةٌ مِنْهَا: مَعْرِفَةُ التَّارِيخِ بِتَحْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ. وَهَذَا مَجْهُولٌ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، فَامْتَنَعَ أَنْ يُدَّعَى أَنَّ وَاحِدَةً مِنْهُمَا نَاسِخَةٌ لِلْأُخْرَى، وَبَقِيَ الْأَمْرُ عَلَى حَالِهِ. [مَسْأَلَةُ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوك عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْك] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49] قَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهُ عَنْ كُلِّ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْك، وَالْبَعْضُ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْكُلِّ قَالَ الشَّاعِرُ: تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إذَا لَمْ أَرْضَهَا ... أَوْ يَغْتَبِطْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا وَيُرْوَى: أَوْ يَرْتَبِطْ. أَرَادَ كُلَّ النُّفُوسِ، وَعَلَيْهِ حَمَلُوا قَوْله تَعَالَى: {وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} [الزخرف: 63]. وَالصَّحِيحُ أَنَّ {بَعْضِ} [المائدة: 49] عَلَى حَالِهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الرَّجْمُ أَوْ الْحُكْمُ الَّذِي كَانُوا أَرَادُوهُ وَلَمْ يَقْصِدُوا أَنْ يَفْتِنُوهُ عَنْ الْكُلِّ. [الْآيَة السَّابِعَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ] َ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51]

مسألة اتخاذ ولي للمسلمين من أهل الذمة

فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 51] اُخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عُبَادَةَ، وَابْنِ أُبَيٍّ؛ وَذَلِكَ «أَنَّ عُبَادَةَ تَبَرَّأَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حِلْفِ قَوْمٍ مِنْ الْيَهُودِ كَانَ لَهُ حِلْفُهُمْ مِثْلُ مَا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَتَمَسَّكَ ابْنُ أُبَيٍّ بِهِمْ، وَقَالَ: إنِّي رَجُلٌ أَخَافُ الدَّوَائِرَ». الثَّانِي: كَانَ الْمُنَافِقُونَ يُوَازُونَ يَهُودَ قُرَيْظَةَ وَنَصَارَى نَجْرَانَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ رِيفٍ، وَكَانُوا يَمِيرُونَهُمْ وَيُقْرِضُونَهُمْ، فَقَالُوا: كَيْفَ نَقْطَعُ مَوَدَّةَ قَوْمٍ إذَا أَصَابَتْنَا سَنَةٌ فَاحْتَجْنَا إلَيْهِمْ وَسَعَوْا عَلَيْنَا الْمَنَازِلَ وَعَرَضُوا عَلَيْنَا الثِّمَارَ إلَى أَجَلٍ، فَنَزَلَتْ، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة: 52]. الثَّالِثُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ وَالزُّبَيْرِ وَطَلْحَةَ؛ فَأَمَّا نُزُولُهَا فِي أَبِي لُبَابَةَ فَمُمْكِنٌ؛ لِأَنَّهُ أَشَارَ إلَى يَهُودِ [بَنِي قُرَيْظَةَ] إلَى حَلْقِهِ بِأَنَّهُمْ إنْ نَزَلُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الذَّبْحُ فَخَانَهُ، ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الزُّبَيْرُ وَطَلْحَةُ فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إلَى ذَلِكَ فِيهِمَا. وَهَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ ذَكَرَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ لَا تَخُصُّ بِهِ أَحَدًا دُونَ أَحَدٍ. [مَسْأَلَة اتِّخَاذ وَلِي للمسلمين مِنْ أَهْلِ الذِّمَّة] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ اتَّخَذَ بِالْيَمَنِ كَاتِبًا ذِمِّيًّا، فَكَتَبَ إلَيْهِ

مسألة ذبائح نصارى العرب

هَذِهِ الْآيَةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلِيَ وِلَايَةً أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلِيًّا فِيهَا لِنَهْيِ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يُخْلِصُونَ النَّصِيحَةَ، وَلَا يُؤَدُّونَ الْأَمَانَةَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ. [مَسْأَلَة ذَبَائِح نَصَارَى الْعَرَبِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ ذَبَائِحِ نَصَارَى الْعَرَبِ،، فَقَرَأَ: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مُوَضَّحًا، وَعَلَى هَذَا جَاءَ بَيَانُ تَمَامِ الْآيَةِ، ثُمَّ جَاءَتْ الْآيَةُ الْأُخْرَى عَامَّةً فِي نَفْيِ اتِّخَاذِ الْأَوْلِيَاءِ مِنْ الْكُفَّارِ أَجْمَعِينَ. [الْآيَة الثَّامِنَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَإِذَا نَادَيْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا] ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 58]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَانَ الْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ إذَا سَمِعُوا النِّدَاءَ إلَى الصَّلَاةِ وَقَعُوا فِي ذَلِكَ وَسَخِرُوا مِنْهُ؛ فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ عَنْهُمْ، وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُ الْأَذَانِ إلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَمَّا إنَّهُ ذُكِرَتْ الْجُمُعَةُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ النَّصَارَى، وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ، إذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: حُرِقَ الْكَاذِبُ، فَسَقَطَتْ فِي بَيْتِهِ شَرَارَةٌ مِنْ نَارٍ وَهُوَ نَائِمٌ، فَتَعَلَّقَتْ النَّارُ بِالْبَيْتِ فَأَحْرَقَتْهُ، وَأَحْرَقَتْ ذَلِكَ الْكَافِرَ مَعَهُ؛ فَكَانَتْ عِبْرَةً لِلْخَلْقِ. وَالْبَلَاءُ مُوَكَّلٌ بِالْمَنْطِقِ. وَقَدْ كَانُوا يُمْهِلُونَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى يَسْتَفْتِحُوا فَلَا يُؤَخَّرُوا بَعْدَ ذَلِكَ.

مسألة كان النبي إذا غزا قوما لم يغز حتى يصبح

[مَسْأَلَة كَانَ النَّبِيّ إذَا غَزَا قَوْمًا لَمْ يَغْزُ حَتَّى يُصْبِحَ] الْمَسْأَلَة الثَّالِثَةُ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا غَزَا قَوْمًا لَمْ، يَغْزُ حَتَّى يُصْبِحَ وَيَنْظُرَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ، وَإِلَّا أَغَارَ»؛ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. [مَسْأَلَةُ كَانَ الْمُسْلِمُونَ إذَا قَدِمُوا الْمَدِينَة يَتَجَنَّبُونَ الصَّلَاةَ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: رَوَى الْأَئِمَّةُ بِأَجْمَعِهِمْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ الْمُسْلِمُونَ إذَا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَتَجَنَّبُونَ الصَّلَاةَ فَيَجْتَمِعُونَ، وَلَيْسَ يُنَادِي بِهَا أَحَدٌ، فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اتَّخِذُوا نَاقُوسًا مِثْلَ النَّصَارَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: اتَّخِذُوا قَرْنًا مِثْل قَرْنِ الْيَهُودِ؛ فَقَالَ عُمَرُ: أَلَا تَبْعَثُونَ رَجُلًا يُنَادِي بِالصَّلَاةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا بِلَالُ؛ قُمْ فَنَادِ بِالصَّلَاةِ». وَفِي الْمُوَطَّإِ وَأَبِي دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: «لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنَّاقُوسِ لِيُعْمَلَ حَتَّى يُضْرَبَ بِهِ فَيَجْتَمِعَ النَّاسُ لِلصَّلَاةِ طَافَ بِي وَأَنَا نَائِمٌ رَجُلٌ يَحْمِلُ نَاقُوسًا، فَقُلْت لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، تَبِيعُ هَذَا النَّاقُوسَ؟ فَقَالَ لِي: مَا تَصْنَعُ بِهِ؟ فَقُلْت: نَدْعُو بِهِ لِلصَّلَاةِ. قَالَ: أَفَلَا أَدُلُّكَ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقُلْت: بَلَى. فَقَالَ: تَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ فَذَكَرَ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ. فَلَمَّا أَصْبَحْنَا أَتَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا رَأَيْت، فَقَالَ: إنَّهَا لِرُؤْيَا حَقٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، قُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْت فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ. فَفَعَلْت». «فَلَمَّا سَمِعَ عُمَرُ الْأَذَانَ خَرَجَ مُسْرِعًا، فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ، فَأُخْبِرَ الْخَبَرَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ، لَقَدْ رَأَيْت مِثْلَ الَّذِي رَأَى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ».

الآية التاسعة عشرة قوله تعالى قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق

وَفِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ عَلَى أَخْبَارِ الْأَذَانِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَمَسَائِلِهِ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ. [الْآيَة التَّاسِعَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى قُلْ يَا أَهْل الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقّ] ِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ مِنْ طَرِيقَيْهِ: فِي التَّوْحِيدِ، وَفِي الْعَمَلِ؛ فَغُلُوُّهُمْ فِي التَّوْحِيدِ نِسْبَتُهُمْ لَهُ الْوَلَدَ سُبْحَانَهُ، وَغُلُوُّهُمْ فِي الْعَمَلِ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الرَّهْبَانِيَّةِ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْعِبَادَةِ وَالتَّكْلِيفِ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرِ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ». وَهَذَا صَحِيحٌ لَا كَلَامَ فِيهِ ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ امْرَأَةً مِنْ اللَّيْلِ تُصَلِّي، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قِيلَ: الْحَوْلَاءُ بِنْتُ تُوَيْتٍ لَا تَنَامُ اللَّيْلَ كُلَّهُ. فَكَرِهَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى عُرِفَتْ الْكَرَاهِيَةُ فِي وَجْهِهِ، وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، اكْلَفُوا مِنْ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ».

مسألة الكفرة شبهت الله سبحانه بالخلق في الولد

وَرُوِيَ فِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى». [مَسْأَلَة الْكَفَرَةُ شَبَّهَتْ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِالْخَلْقِ فِي الْوَلَدِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّا نَتَّبِعُ مَنْ قَبْلَنَا فِي سُنَنِهِ، وَكَانَتْ الْكَفَرَةُ قَدْ شَبَّهَتْ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِالْخَلْقِ فِي الْوَلَدِ، وَشَبَّهَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ الْبَارِيَ تَعَالَى بِالْخَلْقِ فِي مَصَائِبَ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي الْأُصُولِ لَا تَقْصُرُ فِي الْبَاطِلِ عَنْ الْوَلَدِ، وَغَلَتْ طَائِفَةٌ فِي الْعَمَلِ حَتَّى تَرَهَّبَتْ وَتَرَكَتْ النِّكَاحَ، وَوَاظَبَتْ عَلَى الصَّوْمِ، وَتَرَكَتْ الطَّيِّبَاتِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ رَغِبَ عَنْ سَنَتِي فَلَيْسَ مِنِّي». وَسَنَكْشِفُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ هَاهُنَا بِالِاخْتِصَارِ؛ إذْ قَدْ بَيَّنَّاهُ بِالطُّولِ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَخُصُوصًا فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87]. وَهِيَ:. [الْآيَة الْمُوفِيَة عشرين قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ] ْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ عَلِيٌّ، وَالْمِقْدَادُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، جَلَسُوا فِي الْبُيُوتِ، وَأَرَادُوا أَنْ يَفْعَلُوا كَفِعْلِ النَّصَارَى مِنْ تَحْرِيمِ طَيِّبَاتِ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَاعْتِزَالِ النِّسَاءِ، وَهَمَّ بَعْضُهُمْ أَنْ يَجُبَّ نَفْسَهُ، وَأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ كَانَ مِمَّنْ حَرَّمَ النِّسَاءَ وَالزِّينَةَ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَرَادُوا أَنْ يَتَرَهَّبُوا، وَلَا يَأْكُلُوا لَحْمًا وَلَا وَدَكًا؛ وَقَالُوا: نَقْطَعُ مَذَاكِيرَنَا، وَنَسِيحُ فِي الْأَرْضِ، كَمَا فَعَلَ الرُّهْبَانُ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَاهُمْ عَنْهُ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ يَنْكِحُ النِّسَاءَ، وَيَأْكُلُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ، وَيَنَامُ وَيَقُومُ، وَيُفْطِرُ وَيَصُومُ، وَأَنَّهُ مَنْ رَغِبَ عَنْ سَنَتِي فَلَيْسَ مِنِّي، وَقَالَ لَهُمْ: «إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالتَّشْدِيدِ، فَشَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. أُولَئِكَ بَقَايَاهُمْ فِي الدِّيَارِ وَالصَّوَامِعِ، اُعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَآتُوا الزَّكَاةَ، وَصُومُوا رَمَضَانَ، وَحُجُّوا وَاعْتَمِرُوا، وَاسْتَقِيمُوا يَسْتَقِمْ لَكُمْ». وَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. الثَّانِي: رُوِيَ «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ ضَافَهُ ضَيْفٌ، فَانْقَلَبَ ابْنُ رَوَاحَةَ وَلَمْ يَتَعَشَّ. فَقَالَ لِزَوْجَتِهِ: مَا عَشَّيْتِيهِ؟ فَقَالَتْ: كَانَ الطَّعَامُ قَلِيلًا، فَانْتَظَرْتُك أَنْ تَأْتِيَ. قَالَ: حَرَمْت ضَيْفِي مِنْ أَجْلِي، فَطَعَامُك عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ ذُقْته. فَقَالَتْ هِيَ: وَهُوَ عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ لَمْ تُذَقْهُ. وَقَالَ الضَّيْفُ: هُوَ عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ ذُقْته إنْ لَمْ تَذُوقُوهُ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ ابْنُ رَوَاحَةَ قَالَ: قَرِّبِي طَعَامَك، كُلُوا بِسْمِ اللَّهِ، وَغَدَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ. فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَحْسَنْت. وَنَزَلَتْ الْآيَةُ: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ.» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِهِ: «فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ نَصْنَعُ بِأَيْمَانِنَا، فَنَزَلَتْ: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225]».

مسألة تحريم ما أحل الله من المباحات

الثَّالِثُ: رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنِّي إذَا أَصَبْت اللَّحْمَ انْتَشَرْت لِلنِّسَاءِ وَأَخَذَتْنِي شَهْوَةٌ، فَحَرَّمْت عَلَيَّ اللَّحْمَ، فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] إلَى مُؤْمِنِينَ». قَالَ التِّرْمِذِيُّ: صَحِيحَةُ الْإِرْسَالِ. [مَسْأَلَة تَحْرِيم مَا أحل اللَّه مِنْ الْمُبَاحَات] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَنَّ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهُمْ طَرِيقُ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ رَفْضِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالنِّسَاءِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] فَكَانَتْ شَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا بِالرَّهْبَانِيَّةِ وَشَرِيعَتُنَا بِالسَّمْحَةِ الْحَنِيفِيَّةِ. وَفِي الصَّحِيحِ «أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ نَهَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ التَّبَتُّلِ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا». وَاَلَّذِي يُوجِبُ فِي ذَلِكَ الْعِلْمَ، وَيَقْطَعُ الْعُذْرَ، وَيُوَضِّحُ الْأَمْرَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ لِنَبِيِّهِ: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا} [المزمل: 8] فَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّبَتُّلَ بِفِعْلِهِ؛ وَشَرَحَ أَنَّهُ امْتِثَالُ الْأَمْرِ، وَاجْتِنَابُ النَّهْيِ، وَلَيْسَ بِتَرْكِ الْمُبَاحَاتِ، «وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ اللَّحْمَ إذَا وَجَدَهُ، وَيَلْبَسُ الثِّيَابَ تُبْتَاعُ بِعِشْرِينَ جَمَلًا، وَيُكْثِرُ مِنْ الْوَطْءِ، وَيَصْبِرُ إذَا عَدِمَ ذَلِكَ»، وَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِهِ لِسُنَّةِ عِيسَى فَلَيْسَ مِنْهُ. [مَسْأَلَة إذَا فَسَدَ الدِّينُ عِنْدَ النَّاسِ وَعَمَّ الْحَرَامُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا إذَا كَانَ الدِّينُ قِوَامًا، وَلَمْ يَكُنْ الْمَالُ حَرَامًا؛ فَأَمَّا إذَا فَسَدَ الدِّينُ عِنْدَ النَّاسِ، وَعَمَّ الْحَرَامُ فَالتَّبَتُّلُ وَتَرْكُ اللَّذَّاتِ أَوْلَى، وَإِذَا وُجِدَ الْحَلَالُ فَحَالُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلُ وَكَانَ داتشمند - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُول: إذْ عَمَّ الْحَرَامُ وَطَبَقَ الْبِلَادَ، وَلَمْ

مسألة قال هذا علي حرام لشيء من الحلال

يُوجَدْ حَلَالٌ اُسْتُؤْنِفَ الْحُكْمُ، وَصَارَ الْكُلُّ مَعْفُوًّا عَنْهُ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ أَحَقَّ بِمَا فِي يَدِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ صَاحِبَهُ. وَأَنَا أَقُولُ: إنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُنْقَاسٌ إذَا انْقَطَعَ الْحَرَامُ، فَأَمَّا وَالْغَصْبُ مُتَمَادٍ، وَالْمُعَامَلَاتُ الْفَاسِدَةُ مُسْتَمِرَّةٌ، وَلَا يَخْرُجُ الْمَرْءُ مِنْ حَرَامٍ إلَّا إلَى حَرَامٍ فَأَشْبَهَ الْمَعَاشُ مَنْ كَانَ لَهُ عَقَارٌ قَدِيمُ الْمِيرَاثِ يَأْكُلُ مِنْ غَلَّتِهُ، وَمَا رَأَيْت فِي رِحْلَتِي أَحَدًا يَأْكُلُ مَالًا حَلَالًا مَحْضًا إلَّا سَعِيدًا الْمَغْرِبِيَّ، كَانَ يَخْرُجُ فِي صَائِفَةِ الْخِطْمِيِّ، فَيَجْمَعُ مِنْ زَرِيعَتِهِ قُوَّتَهُ وَيَطْحَنُهَا وَيَأْكُلُهَا بِزَيْتٍ يَجْلِبُهُ الرُّومُ مِنْ بِلَادِهِمْ. [مَسْأَلَة قَالَ هَذَا عَلَيَّ حَرَامٌ لِشَيْءٍ مِنْ الْحَلَالِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إذَا قَالَ: هَذَا عَلَيَّ حَرَامٌ لِشَيْءٍ مِنْ الْحَلَالِ عَدَا الزَّوْجَةَ فَإِنَّهُ كِذْبَةٌ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهَا، وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا حَرَّمَهُ. هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَكْثَرِ الصَّحَابَةِ؛ وَرُوِيَ أَنَّهُ قَوْلٌ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ الْمُتَقَدِّمُ. وَفِي حَدِيثِ الْجَمَاعَةِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلُهُ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْهُمْ «أَنَّهُمْ حَلَفُوا بِاَللَّهِ فَأَذِنَ لَهُمْ فِي الْكَفَّارَةِ»، فَتَعَلَّقَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِمَسْأَلَةِ الْيَمِينِ، وَتَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَمَّا إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَمَوْضِعُهَا سُورَةُ التَّحْرِيمِ، وَاَللَّهُ يُسَهِّلُ فِي الْبُلُوغِ إلَيْهَا بِعَوْنِهِ. [الْآيَة الْحَادِيَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ] ْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 89]. فِيهَا سَبْعٌ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْيَمِينُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: لَغْوٌ وَمُنْعَقِدَةٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا لَغْوَ الْيَمِينِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَأَمَّا الْيَمِينُ الْمُنْعَقِدَةُ فَهِيَ الْمُنْفَعِلَةُ مِنْ الْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: حِسِّيٌّ كَعَقْدِ الْحَبْلِ، وَحُكْمِيٌّ كَعَقْدِ الْبَيْعِ؛ وَهُوَ رَبْطُ الْقَوْلِ بِالْقَصْدِ الْقَائِمِ بِالْقَلْبِ، يَعْزِمُ بِقَلْبِهِ أَوَّلًا مُتَوَاصِلًا مُنْتَظِمًا، ثُمَّ يُخْبِرُ عَمَّا انْعَقَدَ مِنْ ذَلِكَ بِلِسَانِهِ. فَإِنْ قِيلَ: صُورَةُ الْيَمِينِ اللَّغْوِ وَالْمُنْعَقِدَةِ عَلَى هَذَا وَاحِدَةٌ، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ قُلْنَا: قَدْ آنَ الْآنَ أَنْ نَلْتَزِمَ بِذَلِكَ الِاحْتِفَاءِ، وَنَكْشِفَ عَنْهُ الْخَفَاءَ، فَنَقُولُ: إنَّ الْيَمِينَ الْمُنْعَقِدَةَ مَا قُلْنَاهُ. وَاللَّغْوَ ضِدُّهُ وَالْيَمِينَ اللَّغْوَ سَبْعُ مُتَعَلِّقَاتٍ فِي اخْتِلَافِ النَّاسِ: الْمُتَعَلِّقُ الْأَوَّلُ: الْيَمِينُ مَعَ النِّسْيَانِ، فَلَا شَكَّ فِي إلْغَائِهَا؛ لِأَنَّهُ إذْ قَصَدَ زَيْدًا فَتَلَفَّظَ بِعَمْرٍو فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهَا جَاءَتْ عَلَى خِلَافِ قَصْدِهِ، فَهِيَ لَغْوٌ مَحْضٌ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ الْيَمِينُ الْمُكَفِّرَةُ فَلَا مُتَعَلِّقَ لَهُ يُحْكَى. وَالْمُتَعَلِّقُ الثَّالِثُ: فِي دُعَاءِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ كَذَا، فَيَنْزِلْ بِهِ كَذَا، فَهَذَا قَوْلٌ لَغْوٌ فِي طَرِيقِ الْكَفَّارَةِ، وَلَكِنَّهُ مُنْعَقِدٌ فِي الْعَقْدِ مَكْرُوهٌ، وَرُبَّمَا يُؤَاخَذُ بِهِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَدْعُوَنَّ أَحَدُكُمْ عَلَى نَفْسِهِ، فَرُبَّمَا صَادَفَ سَاعَةً لَا يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا أَحَدٌ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهَا». وَالْمُتَعَلِّقُ الرَّابِعُ: فِي يَمِينِ الْمَعْصِيَةِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ عَلَى تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ عِبَادَةً، وَالْحَالِفَ عَلَى فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ مَعْصِيَةً، وَيُقَالُ لَهُ: لَا تَفْعَلْ فَكَفَّرَ، فَإِنْ أَقْدَمَ عَلَى الْفِعْلِ فَجَرَ فِي إقْدَامِهِ وَبَرَّ فِي يَمِينِهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهَا تَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِقَلْبِهِ الْفِعْلَ أَوْ الْكَفَّ فِي زَمَانٍ مُسْتَقْبَلٍ يَتَأَتَّى فِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَهَذَا ظَاهِرٌ.

وَالْمُتَعَلِّقُ الْخَامِسُ: فِي يَمِينِ الْغَضَبِ مَوْضِعُ فِتْنَةٍ؛ فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقُولُ: يَمِينُ الْغَضَبِ لَا يَلْزَمُ، وَيَنْظُرُ فِي ذَلِكَ إلَى حَدِيثٍ يُرْوَى: «لَا يَمِينَ فِي إغْلَاقٍ»، وَهَذَا لَمْ يَصِحَّ، وَالْإِغْلَاقُ: الْإِكْرَاهُ؛ لِأَنَّهُ تُغْلِقُ الْأَبْوَابَ عَلَى الْمُكْرَهِ وَتَرُدُّهُ إلَى مَقْصِدِهِ، وَقَدْ «حَلَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَاضِبًا أَلَّا يَحْمِلَ الْأَشْعَرِيِّينَ وَحَمَلَهُمْ، وَقَالَ: وَاَللَّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ إنِّي لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْت عَنْ يَمِينِي». وَهَذَا بَيِّنٌ ظَاهِرٌ جِدًّا. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ قَوْلُ الرَّجُلِ: لَا وَاَللَّهِ، وَبَلَى وَاَللَّهِ. فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: نَزَلَتْ: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] فِي قَوْلِ الرَّجُلِ: لَا وَاَللَّهِ، وَبَلَى وَاَللَّهِ. قُلْنَا: هَذَا صَحِيحٌ، وَمَعْنَاهُ إذَا أَكْثَرَ الرَّجُلُ فِي يَمِينِهِ مِنْ قَوْلِ: لَا وَاَللَّهِ، وَبَلَى وَاَللَّهِ، عَلَى أَشْيَاءَ يَظُنُّهَا كَمَا قَالَ، فَتَخْرُجُ بِخِلَافِهِ. أَوْ عَلَى حَقِيقَةٍ، فَهِيَ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: قِسْمًا يُظَنُّ وَقِسْمًا يُعْقَدُ، فَلَا يُؤَاخَذُ مِنْهَا فِيمَا وَقَعَ عَلَى ظَنٍّ، وَيُؤَاخَذُ فِيمَا عَقَّدَ، وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ أَحَدٌ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا وَاَللَّهِ، وَبَلَى وَاَللَّهِ، فِيمَا يَعْتَقِدُهُ وَيُعَقِّدُهُ أَنَّهُ لَغْوٌ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ الِاسْتِرْسَالِ فِيهِ وَالتَّهَافُتِ بِهِ. قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة: 224] فَنُهِيَ عَنْهَا وَلَا يُؤَاخَذُ إذَا فَعَلَهَا. هَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ هُوَ الْقَوْلُ اللَّغْوُ، وَهَذَا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ الْقَوْلَ مَا قَالَهُ مَالِكٌ، وَأَنَّهُ الْيَمِينُ عَلَى ظَنٍّ يَخْرُجُ بِخِلَافِهِ. فَإِنْ قِيلَ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ فِي أَيِّ قِسْمٍ هِيَ؟: قُلْنَا هِيَ مَسْأَلَةٌ عُظْمَى وَدَاهِيَةٌ كُبْرَى تَكَلَّمَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ، وَقَدْ أَفَضْنَا فِيهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.

مسألة حقيقة اليمين في قوله تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم

وَوَجْهُ إشْكَالِهَا أَنَّهَا إنْ كَانَتْ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا فَهِيَ فِي قِسْمِ اللَّغْوِ، فَلَا تَقَعُ فِيهَا مُؤَاخَذَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يُؤَاخَذُ بِهَا فَهِيَ فِي قِسْمِ الْمُنْعَقِدَةِ، تَلْزَمُ فِيهَا الْكَفَّارَةُ. وَحَلُّهُ طَوِيلٌ؛ اخْتِصَارُهُ أَنَّ الْآيَةَ وَرَدَتْ بِقِسْمَيْنِ: لَغْوٌ، وَمُنْعَقِدَةٌ خَرَجَتْ عَلَى الْغَالِبِ فِي أَيْمَانِ النَّاسِ؛ فَأَمَّا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ فَلَا يَرْضَى بِهَا ذُو دِينٍ أَوْ مُرُوءَةٍ، وَيَحِلُّ الْإِشْكَالُ أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَّقَ الْكَفَّارَةَ عَلَى قِسْمَيْ الْيَمِينِ الْمُنْعَقِدَةِ، فَدَعْ مَا بَعْدَهَا يَكُونُ مِائَةَ قِسْمٍ فَإِنَّهُ لَمْ تُعَلَّقْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: الْيَمِينُ الْغَمُوسُ مُنْعَقِدَةٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا مُكْتَسَبَةٌ بِالْقَلْبِ، مَعْقُودَةٌ بِخَبَرٍ، مَقْرُونَةٌ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى. قُلْنَا: عَقْدُ الْقَلْبِ إنَّمَا يَكُونُ عَقْدًا إذَا تُصُوِّرَ حِلُّهُ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ مَكْرٌ وَخَدِيعَةٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا الَّذِي صَوَّرَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ مَوْجُودٌ فِي يَمِينِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا؛ فَثَبَتَ أَنَّ مُجَرَّدَ الْقَصْدِ لَا يَكْفِي فِي الْكَفَّارَةِ، هَذَا وَقَدْ فَارَقَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ الْحِلَّ. وَكَيْفَ تَنْعَقِدُ؟ وَقَدْ مَهَدْنَا الْقَوْلَ فِيهَا فِي تَخْلِيصِ التَّلْخِيصِ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ. [مَسْأَلَة حَقِيقَة الْيَمِين فِي قَوْله تَعَالَى لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي حَقِيقَةِ الْيَمِينِ: قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي الْمَسَائِلِ، وَهِيَ رَبْطُ الْعَقْدِ بِالِامْتِنَاعِ وَالتَّرْكِ أَوْ بِالْإِقْدَامِ عَلَى فِعْلٍ بِمَعْنَى مُعَظَّمٍ حَقِيقَةً أَوْ اعْتِقَادًا. وَالْمُعَظَّمُ حَقِيقَةً، كَقَوْلِهِ: وَاَللَّهِ لَا دَخَلْت الدَّارَ أَوْ لَأَدْخُلَنَّ. وَالْمُعَظَّمُ اعْتِقَادًا، كَقَوْلِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ أَنْتَ حُرٌّ. وَالْحُرِّيَّةُ مُعَظَّمَةٌ عِنْدَهُ، لِاعْتِقَادِهِ عَظِيمَ مَا يَخْرُجُ عَنْ يَدِهِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالطَّلَاقِ. وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ». فَسَمَّى الْحَالِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ حَالِفًا.

مسألة قال أقسمت عليك أو أقسمت ليكونن كذا وكذا

وَقَدْ اتَّفَقَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَعَلَيَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ مِنْ جِهَةِ النَّذْرِ لَا مِنْ جِهَةِ الْيَمِينِ. وَالنَّذْرُ يَمِينٌ حَقِيقَةً، وَلِأَجْلِهِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ». وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [مَسْأَلَة قَالَ أَقْسَمْت عَلَيْك أَوْ أَقْسَمْت لَيَكُونَنَّ كَذَا وَكَذَا] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إذَا قَالَ: أَقْسَمْت عَلَيْك، أَوْ أَقْسَمْت لَيَكُونَنَّ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا إذَا قَصَدَ بِاَللَّهِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَكُونُ يَمِينًا حَتَّى يُذْكَرَ بِهِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى؛ قَالَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ بِاَللَّهِ، فَلَا يَكُونُ يَمِينًا. قُلْنَا: إنْ كَانَ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ فَقَدْ نَوَاهُ، وَاللَّفْظُ يَحْتَمِلُهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى». [مَسْأَلَة حَلَفَ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِصِفَاتِهِ الْعُلْيَا وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِصِفَاتِهِ الْعُلْيَا وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى فَهِيَ يَمِينٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا قَالَ: وَعِلْمِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا. وَظَنَّ قَوْمٌ مِمَّنْ لَمْ يُحَصِّلْ مَذْهَبَهُ أَنَّهُ يُنْكِرُ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ: إذَا حَلَفَ: وَقُدْرَةِ اللَّهِ كَانَتْ يَمِينًا. وَإِنَّمَا الَّذِي أَوْقَعَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعِلْمَ قَدْ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمَعْلُومِ، وَهُوَ الْمُحْدَثُ، فَلَا يَكُونُ يَمِينًا، وَذُهِلَ عَنْ أَنَّ الْقُدْرَةَ أَيْضًا تَنْطَلِقُ عَلَى الْمَقْدُورِ، وَكُلُّ كَلَامٍ لَهُ فِي الْمَقْدُورِ فَهُوَ حُجَّتُنَا فِي الْمَعْلُومِ.

مسألة لا ينعقد اليمين بغير الله وصفاته وأسمائه

[مَسْأَلَة لَا يَنْعَقِد الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: لَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ: وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: إذَا حَلَفَ بِالنَّبِيِّ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ حَلَفَ بِمَا لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إلَّا بِهِ، فَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، كَمَا لَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلِيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ» وَلِأَنَّ هَذَا يُنْتَقَضُ بِمَنْ قَالَ: وَآدَمَ وَإِبْرَاهِيمَ، فَإِنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَقَدْ حَلَفَ بِمَا لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إلَّا بِهِ. [مَسْأَلَة قِرَاءَة قَوْله تَعَالَى عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] فِيهِ ثَلَاثُ قِرَاءَاتِ: عَقَّدْتُمْ بِتَشْدِيدِ الْقَافِ، وَعَقَدْتُمْ بِتَخْفِيفِ الْقَافِ، وَعَاقَدْتُمْ بِالْأَلِفِ. فَأَمَّا التَّخْفِيفُ فَهُوَ أَضْعَفُهَا رِوَايَةً وَأَقْوَاهَا مَعْنًى؛ لِأَنَّهُ فَعَلْتُمْ مِنْ الْعَقْدِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَإِذَا قُرِئَ عَاقَدْتُمْ فَهُوَ فَاعَلْتُمْ، وَذَلِكَ يَكُونُ مِنْ اثْنَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ الثَّانِي مِنْ حَلَفَ لِأَجْلِهِ فِي كَلَامٍ وَقَعَ مَعَهُ، وَقَدْ يَعُودُ ذَلِكَ إلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ رَبَطَ بِهِ الْيَمِينَ، وَقَدْ يَكُونُ فَاعَلَ بِمَعْنَى فَعَلَ، كَقَوْلِك: طَارَقَ النَّعْلَ، وَعَاقَبَ اللِّصَّ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِي اللِّصِّ خَاصَّةً. وَإِذَا قَرَأَ عَقَّدْتُمْ بِتَشْدِيدِ الْقَافِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: تَعَمَّدْتُمْ. الثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ مَا تَعَمَّدْت بِهِ الْمَأْثَمَ فَعَلَيْك فِيهِ الْكَفَّارَةُ. الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: التَّشْدِيدُ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إلَّا إذَا كَرَّرَ الْيَمِينَ. الرَّابِعُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: التَّشْدِيدُ لِلتَّأْكِيدِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ: مَا تَعَمَّدْتُمْ فَهُوَ صَحِيحٌ يَعْنِي مَا قَصَدْتُمْ إلَيْهِ احْتِرَازًا مِنْ اللَّغْوِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْحَسَنِ مَا تَعَمَّدْتُمْ فِيهِ الْمَأْثَمَ فَيَعْنِي بِهِ مُخَالَفَةَ الْيَمِينِ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْكَفَّارَةُ

مسألة اليمين لا يقتضي تحريم المحلوف عليه

وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ حَسَنَانِ يَفْتَقِرَانِ إلَى تَحْقِيقٍ، وَهُوَ بَيَانُ وَجْهِ التَّشْدِيدِ، فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ حَمَلَهُ عَلَى التَّكْرَارِ، وَهُوَ قَوْلٌ لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ لِضَعْفِهِ. فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَإِنِّي وَاَللَّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْت عَنْ يَمِينِي». فَذَكَرَ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ الَّتِي لَمْ تَتَكَرَّرْ. وَأَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ: إنَّ التَّشْدِيدَ فِي التَّأْكِيدِ مَحْمُولٌ عَلَى تَكْرَارِ الصِّفَاتِ؛ فَإِنَّ قَوْلَنَا: " وَاَللَّهِ " يَقْتَضِي جَمِيعَ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا، فَإِذَا ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: وَاَللَّهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا فَائِدَةُ التَّغْلِيظِ بِالْأَلْفَاظِ؟ قُلْنَا: لَا تَغْلِيظَ عِنْدَنَا بِالْأَلْفَاظِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَإِنْ غَلَّظْنَا فَلَيْسَ عَلَى مَعْنَى أَنَّ مَا لَيْسَ بِمُغَلَّظٍ لَيْسَ بِيَمِينٍ، وَلَكِنْ عَلَى مَعْنَى الْإِرْهَابِ عَلَى الْحَالِفِ فَإِنَّهُ كُلَّمَا ذَكَرَ بِلِسَانِهِ اللَّهَ تَعَالَى حَدَثَ لَهُ غَلَبَةُ حَالٍ مِنْ الْخَوْفِ، وَرُبَّمَا اقْتَضَتْ لَهُ رَعْدَةً، وَقَدْ يَرْهَبُ بِهَا عَلَى الْمَحْلُوفِ لَهُ، كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْيَهُودِ: «وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ» فَأَرْهَبَ عَلَيْهِمْ بِالتَّوْحِيدِ، لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ عُزَيْرًا ابْنَ اللَّهِ. وَاَلَّذِي يَتَحَصَّلُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ التَّشْدِيدَ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ الْمَرْءَ يَعْقِدُ عَلَى الْمَعْنَى بِالْقَصْدِ إلَيْهِ، ثُمَّ يُؤَكِّدُ الْحَلِفَ بِقَصْدٍ آخَرَ، فَهَذَا هُوَ الْعَقْدُ الثَّانِي الَّذِي حَصَلَ بِهِ التَّكْرَارُ أَوْ التَّأْكِيدُ، بِخِلَافِ اللَّغْوِ فَإِنَّهُ قَصَدَ الْيَمِينَ وَفَاتَهُ التَّأْكِيدُ بِالْقَصْدِ الصَّحِيحِ إلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَة الْيَمِينُ لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الْيَمِينُ لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي تَلْخِيصِ الطَّرِيقَتَيْنِ الْعِرَاقِيَّةِ وَالْخُرَاسَانِيَّة عَلَى التَّمَامِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْ قَالَ: حَرَّمْت عَلَى نَفْسِي هَذَا الطَّعَامَ، أَوْ هَذَا الثَّوْبَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الْيَمِينَ تُحَرِّمُ، فَرَكَّبَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ.

مسألة إذا لم يؤكد اليمين

وَلَمَّا رَأَى عُلَمَاؤُنَا أَنَّ مَسْأَلَةَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ مُرَكَّبَةٌ عَلَى الْيَمِينِ أَنْكَرُوا لَهُ أَنَّ الْيَمِينَ تُحَرِّمُ، وَكَانَ هَذَا لِأَنَّ النُّظَّارَ تَحْمِلُهُمْ مُقَارَعَةُ الْخُصُومِ عَلَى النَّظَرِ فِي الْمُنَاقَضَاتِ وَتَرْكِ التَّحْقِيقِ، وَالنَّظَّارُ الْمُحَقِّقُ يَتَفَقَّدُ الْحَقَائِقَ، وَلَا يُبَالِي عَلَى مَنْ دَار النَّظَرُ، وَلَا مَا صَحَّ مِنْ مَذْهَبٍ. وَاَلَّذِي نَعْتَقِدُهُ أَنَّ الْيَمِينَ تُحَرِّمُ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَا دَخَلْت الدَّارَ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ قَدْ مَنَعَهُ مِنْ الدُّخُولِ حَتَّى يُكَفِّرَ، فَإِنْ أَقْدَمَ عَلَى الْفِعْلِ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ لَزِمَهُ أَدَاؤُهَا؛ وَالِامْتِنَاعُ هُوَ التَّحْرِيمُ بِعَيْنِهِ، وَالْبَارِي تَعَالَى هُوَ الْمُحَرِّمُ وَهُوَ الْمُحَلِّلُ، وَلَكِنَّ تَحْرِيمَهُ يَكُونُ ابْتِدَاءً كَمُحَرَّمَاتِ الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ يَكُونُ بِأَسْبَابٍ يُعَلِّقُهَا عَلَيْهِ مِنْ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، كَتَعْلِيقِ التَّحْرِيمِ بِالطَّلَاقِ، وَالتَّحْرِيمِ بِالْيَمِينِ. وَيَرْفَعُ التَّحْرِيمُ الْكَفَّارَةَ مَفْعُولَةً أَوْ مَعْزُومًا عَلَيْهَا. وَيَرْفَعُ تَحْرِيمُ الطَّلَاقِ النِّكَاحَ بِحَسَبِ مَا رَتَّبَ سُبْحَانَهُ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَبَيَّنَ مِنْ الشُّرُوطِ. هَذَا لُبَابُهُ، وَتَمَامُهُ فِي التَّلْخِيصِ، فَلْيُنْظَرْ فِيهِ [بَاقِي قِسْمَيْ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ فِيهِ لَغُنْيَةُ الْأَلْبَابِ]. وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِينَ كَانُوا قَدْ اجْتَمَعُوا وَاعْتَقَدُوا تَحْرِيمَ الْأَطَايِبِ مِنْ الطَّعَامِ وَالزِّينَةِ مِنْ الثِّيَابِ وَاللَّذَّةِ مِنْ النِّسَاءِ حَلَفُوا عَلَى ذَلِكَ، وَلِأَجْلِهِ نَزَلَتْ الْآيَةُ فِيهِمْ؛ وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَحْلِفُوا، وَلَكِنَّهُمْ اعْتَقَدُوا، فَقَدْ دَخَلَتْ مَسْأَلَتُهُمْ فِي قِسْمِ اللَّغْوِ؛ وَإِذَا أَرَادَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يُلْحِقَ قَوْلَهُ: حَرَّمْت عَلَى نَفْسِي الْأَكْلَ، بِقَوْلِهِ: وَاَللَّهِ لَا أَكَلْت، تَبَيَّنَ لَكُمْ نُقْصَانُ هَذَا الْإِلْحَاقِ وَفَسَادُهُ؛ لِأَنَّهُ بِالْيَمِينِ حَرَّمَ وَأَكَّدَ التَّحْرِيمَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا قَالَ: حَرَّمْت عَلَى نَفْسِي الْأَكْلَ، فَتَحْرِيمُهُ وَحْدَهُ دُونَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَيْفَ يَلْحَقُ بِالتَّحْرِيمِ الْمَقْرُونِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ إسْقَاطِهِ هَذَا الْإِلْحَاقَ؟ لَا يَخْفَى تَهَاتُرُهُ عَلَى أَحَدٍ. [مَسْأَلَة إذَا لَمْ يُؤَكِّد الْيَمِين] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: رَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: إذَا لَمْ يُؤَكِّدْ الْيَمِينَ أَطْعَمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ، وَإِذَا أَكَّدَهَا

مسألة إذا انعقدت اليمين حلت الكفارة

أَعْتَقَ رَقَبَةً. قِيلَ لِنَافِعٍ: مَا التَّأْكِيدُ؟ قَالَ: أَنْ تَحْلِفَ عَلَى الشَّيْءِ مِرَارًا؛ وَهَذَا تَحَكُّمٌ لَا يَشْهَدُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْأَثَرِ وَلَا مِنْ النَّظَرِ. [مَسْأَلَة إذَا انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ حَلَّتْ الْكَفَّارَةُ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: إذَا انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ كَمَا قَدَّمْنَا حَلَّتْهَا الْكَفَّارَةُ أَوْ الِاسْتِثْنَاءُ، وَكِلَاهُمَا رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. فَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فَقَالَ الْعُلَمَاءُ: إنَّهُ يَكُونُ مُتَّصِلًا بِالْيَمِينِ وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَكُونُ مُتَّصِلًا بِالْيَمِينِ نَسْقًا عَلَيْهَا لَا يَكُونُ مُتَرَاخِيًا عَنْهَا. الثَّانِي: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ: يَكُونُ مُقْتَرِنًا بِالْيَمِينِ اعْتِقَادًا أَوْ بِآخِرِ حَرْفٍ مِنْهَا، فَإِنْ بَدَا لَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا فَاسْتَثْنَى لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُدْرِكُ الْيَمِينَ الِاسْتِثْنَاءَ [وَلَوْ] بَعْدَ سَنَةٍ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68] إلَى آخِرِ الْآيَةِ إلَى قَوْلِهِ: {مُهَانًا} [الفرقان: 69] فَإِنَّهَا نَزَلَتْ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ عَامٍ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {إِلا مَنْ تَابَ} [الفرقان: 70]. وَأَمَّا قَوْلُ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ هَلْ يَحِلُّ الْيَمِينَ بَعْدَ عَقْدِهَا [أَوْ يَمْنَعُهَا مِنْ الِانْعِقَادِ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِحِلِّ الْيَمِينِ]؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنِّي وَاَللَّهِ إنْ شَاءَ اللَّهَ» [فَجَاءَ] فِيهَا بِالِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ الْيَمِينِ لَفْظًا فَكَذَلِكَ يَكُونُ عَقْدًا. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَخَارِجٌ عَنْ اللُّغَةِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {إِلا مَنْ تَابَ} [الفرقان: 70] فَإِنَّ الْآيَتَيْنِ كَانَتَا مُتَّصِلَتَيْنِ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي لَوْحِهِ؛ وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ نُزُولُهَا لِحِكْمَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى ذَلِكَ فِيهَا، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا؛ أَمَّا إنَّهُ

يَتَرَكَّبُ عَلَيْهَا فَرْعٌ حَسَنٌ، وَهُوَ أَنَّ الْحَالِفَ إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَا دَخَلْت الدَّارَ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ، وَاسْتَثْنَى فِي يَمِينِهِ الْأَوَّلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ، وَاسْتَثْنَى فِي الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ فِي قَلْبِهِ أَيْضًا مَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي يَرْفَعُ الْيَمِينَ لِمُدَّةٍ وَلِسَبَبٍ أَوْ لِمَشِيئَةِ أَحَدٍ، وَلَمْ يُظْهِرْ شَيْئًا مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ إرْهَابًا عَلَى الْمَحْلُوفِ لَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُ وَلَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينَانِ عَلَيْهِ وَهَذَا فِي الطَّلَاق مَا لَمْ تَحْضُرْهُ الْبَيِّنَةُ، فَإِنْ حَضَرَتْهُ بَيِّنَةٌ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ دَعْوَاهُ، لِئَلَّا يَكُونَ نَدَمًا. وَقَدْ تَيَقَّنَّا التَّحْرِيمَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَلَا يَنْفَعُهُ دَعْوَاهُ الِاسْتِثْنَاءَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ نَافِعًا لَهُ وَحْدَهِ إذَا جَاءَ مُسْتَفْتِيًا. نُكْتَةٌ: كَانَ أَبُو الْفَضْلِ الْمَرَاغِيُّ يَقْرَأُ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ، فَكَانَتْ الْكُتُبُ تَأْتِي إلَيْهِ مِنْ بَلَدِهِ، فَيَضَعُهَا فِي صُنْدُوقٍ، وَلَا يَقْرَأُ مِنْهَا وَاحِدًا مَخَافَةَ أَنْ يَطَّلِعَ فِيهَا عَلَى مَا يُزْعِجُهُ أَوْ يَقْطَعُ بِهِ عَنْ طَلَبِهِ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ خَمْسَةِ أَعْوَامٍ، وَقَضَى غَرَضًا مِنْ الطَّلَبِ، وَعَزَمَ عَلَى الرَّحِيلِ شَدَّ رَحْلَهُ، وَأَبْرَزَ كُتُبَهُ، وَأَخْرَجَ تِلْكَ الرَّسَائِلِ وَقَرَأَ مِنْهَا مَا لَوْ أَنَّ وَاحِدَةً مِنْهَا قَرَأَهَا فِي وَقْتِ وُصُولِهَا مَا تَمَكَّنَ بَعْدَهَا مِنْ تَحْصِيلِ حَرْفٍ مِنْ الْعِلْمِ، فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى، وَرَحَّلَ عَلَى دَابَّتِهِ قاشه، وَخَرَجَ إلَى بَابِ الْحَلْبَةِ طَرِيقِ خُرَاسَانَ، وَتَقَدَّمَهُ الْكَرِيُّ بِالدَّابَّةِ، وَأَقَامَ هُوَ عَلَى فَامِيٍّ يَبْتَاعُ مِنْهُ سُفْرَتَهُ؛ فَبَيْنَمَا هُوَ يُحَاوِلُ ذَلِكَ مَعَهُ إذْ سَمِعَهُ يَقُولُ لِفَامِيٍّ آخَرَ: أَيْ فُلَ، أَمَا سَمِعْت الْعَالِمَ يَقُولُ يَعْنِي الْوَاعِظَ: إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يُجَوِّزُ الِاسْتِثْنَاءَ وَلَوْ بَعْدَ سَنَةٍ، لَقَدْ اشْتَغَلَ بَالِي بِذَلِكَ مِنْهُ مُنْذُ سَمِعْته يَقُولُهُ: وَظَلَلْتُ فِيهِ مُتَفَكِّرًا؛ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا لَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَيُّوبَ: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44]. وَمَا الَّذِي كَانَ يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَقُولَ حِينَئِذٍ: قُلْ إنْ شَاءَ اللَّهُ؟ فَلَمَّا سَمِعْته يَقُولُ ذَلِكَ قُلْت: بَلَدٌ يَكُونُ الْفَامِيُّونَ بِهِ مِنْ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ أَخْرُجُ عَنْهُ إلَى الْمَرَاغَةِ؟ لَا أَفْعَلُهُ أَبَدًا؛ وَاقْتَفَى أَثَرَ الْكَرِيِّ، وَحَلَّلَهُ مِنْ الْكِرَاءِ، وَصَرَفَ رَحْلَهُ. وَأَقَامَ بِهَا حَتَّى مَاتَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

مسألة هل الأفضل استمرار البر في اليمين أو الحنث إلى الكفارة

[مَسْأَلَة هَلْ الْأَفْضَلِ اسْتِمْرَار الْبَرِّ فِي الْيَمِين أَوْ الحنث إلَى الْكَفَّارَة] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: فِي الْأَفْضَلِ: مِنْ اسْتِمْرَارِ الْبِرِّ فِي الْيَمِينِ أَوْ الْحِنْثِ إلَى الْكَفَّارَةِ: فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «لَأَنْ يَلِجَ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ عَنْهَا كَفَّارَتَهُ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ». وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ حَالِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ؛ فَإِنْ حَلَفَ أَلَّا يَأْتِيَ أَمْرًا لَا يَجُوزُ فَالْبِرُّ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فِي الصَّحِيحَيْنِ حِينَ «نَبَذَ خَاتَمَ الذَّهَبِ مِنْ يَدِهِ وَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَلْبَسُهُ أَبَدًا». وَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ. وَإِنْ حَلَفَ عَلَى مَكْرُوهٍ فَالْبِرُّ مَكْرُوهٌ. وَإِنْ حَلَفَ عَلَى وَاجِبٍ عَصَى وَالْحِنْثُ وَاجِبٌ. وَإِنْ حَلَفَ عَلَى مُبَاحٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ النَّظَرُ إلَيْهِ: فَإِنْ كَانَ تَرْكُهُ مُضِرًّا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحِنْثُ. وَإِنْ كَانَ فِي فِعْلِهِ مَنْفَعَةٌ اُسْتُحِبَّ لَهُ الْحِنْثُ. وَفِيهِ جَاءَ قَوْلُهُ: «لَأَنْ يَلِجَّ أَحَدُكُمْ فِي أَهْلِهِ بِيَمِينِهِ» إلَى آخِرِهِ حَسْبَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ:. [مَسْأَلَة تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: فِي تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ: لِعُلَمَائِنَا رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا يَجُوزُ ذَلِكَ لَهُ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: لَا يَجُوزُ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالْمَسْأَلَةُ طَوِيلَةٌ قَدْ أَفَضْنَا فِيهَا عِنْدَ ذِكْرِنَا مَسَائِلَ الْخِلَافِ بِالتَّحْقِيقِ الْكَامِلِ، وَهَا هُنَا مَا يَحْتَمِلُ بَعْضَ ذَلِكَ، فَنَذْكُرُ مِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ: قَالَ رَبُّنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]، فَعَلَّقَ الْكَفَّارَةَ عَلَى سَبَبٍ، وَهُوَ الْحَلِفُ.

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنَّا وَمِنْهُمْ: مَعْنَاهُ إذَا حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا هِيَ لِرَفْعِ الْإِثْمِ، وَمَا لَمْ يَحْنَثْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ مَا يُرْفَعُ، فَلَا مَعْنَى لِفِعْلِهَا، لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَرْفَعُ الْمُسْتَقْبَلَ، وَإِنَّمَا تَرْفَعُ الْمَاضِيَ مِنْ الْإِثْمِ، فَهَذَا الَّذِي يَقْتَضِيه ظَاهِرُ قَوْلِنَا: الْكَفَّارَةُ، وَهُوَ الَّذِي أَوْجَبَ أَنْ تُقَدَّرُ الْآيَةُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ. وَتَعَلَّقَ الَّذِينَ جَوَّزُوا التَّقْدِيمَ بِأَنَّ الْيَمِينَ سَبَبُ الْكَفَّارَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] فَأَضَافَ الْكَفَّارَةَ إلَى الْيَمِينِ. وَالْمَعَانِي تُضَافُ إلَى أَسْبَابِهَا وَأَكَّدُوا ذَلِكَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحِنْثَ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ، كَقَوْلِهِ: وَاَللَّهِ لَا جَاءَ فُلَانٌ غَدًا مِنْ سَفَرِهِ، وَلَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ غَدًا. الثَّانِي: أَنَّ شُهُودَ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ عَلَى الزَّوْجِ إذَا رَجَعُوا وَجَبَ عَلَيْهِمْ الصَّدَاقُ، وَلَوْلَا كَوْنُ الْيَمِينِ سَبَبًا مَا ضَمِنُوا مَا لَا تَعَلُّقَ بِهِ بِالتَّفْوِيتِ؛ لِأَنَّ التَّفْوِيتَ عَلَى قَوْلِهِمْ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّبَبِ الَّذِي هُوَ الْحِنْثُ لَا بِالْيَمِينِ. وَتَعَيَّنَ عَلَيْنَا أَنْ نَنْظُرَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي هُوَ آكَدُ مِنْ النَّظَرِ فِي الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى، وَهِيَ الْمَحِلُّ الثَّانِي، فَوَجَدْنَا الْآثَارَ فِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ مُخْتَلِفَةً فِي ذَلِكَ: رَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، وَسَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ قَالَ أَبُو مُوسَى: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَإِنِّي إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا كَفَّرْت عَنْ يَمِينِي، وَأَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ». وَقَدْ رُوِيَ لَنَا «فَلِيَأْتِهَا وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ». وَفِي رِوَايَةٍ: «فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَفْعَلْ». قَالَ عَدِيٌّ: فَلْيُكَفِّرْهَا وَلِيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ؛ فَوَجَبَ التَّرْجِيحُ، فَكَانَ تَقْدِيمُ الْحِنْثِ أَوْلَى؛ لِأَنَّا إذَا رَدَدْنَا حَدِيثَ تَقْدِيمِ الْحِنْثِ إلَى حَدِيثِ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ يُسْقِطُهُ، وَرَدُّ حَدِيثِ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ إلَى تَقْدِيمِ الْحِنْثِ يُثْبِتُهُمَا جَمِيعًا. وَأَمَّا الْمَعَانِي فَهِيَ مُتَعَارِضَةٌ، فَمَنْ أَرَادَ التَّلْخِيصَ مِنْهَا فَلْيَنْظُرْهَا فِي التَّلْخِيصِ.

مسألة كفارات اليمين

[مَسْأَلَة كَفَّارَات الْيَمِين] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْكِتَابِ الْخِلَالَ الثَّلَاثَ مُخَيِّرًا فِيهَا، وَعَقَّبَ عِنْدَ عَدَمِهَا بِالصِّيَامِ فَالْخُلَّةُ الْأُولَى هِيَ الْإِطْعَامُ، وَبَدَأَ بِهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ الْأَفْضَلَ فِي بِلَادِ الْحِجَازِ لِغَلَبَةِ الْحَاجَةِ فِيهَا عَلَى الْخَلْقِ، وَعَدَمِ شِبَعِهِمْ. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ عَلَى التَّخْيِيرِ؛ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْأَفْضَلِ مِنْ خِلَالِهَا. وَعِنْدِي أَنَّهَا تَكُونُ بِحَسَبِ الْحَالِ؛ فَإِنْ عَلِمْت مُحْتَاجًا فَالْإِطْعَامُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّك إذَا أَعْتَقْت لَمْ تَرْفَعْ حَاجَتَهُمْ وَزِدْت مُحْتَاجًا حَادِيَ عَشَرَ إلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ الْكِسْوَةُ تَلِيه، وَلَمَّا عَلِمَ اللَّهُ [غَلَبَةَ] الْحَاجَةِ بَدَأَ بِالْمُهِمِّ الْمُقَدَّمِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] وَقَوْلُهُ: {تُطْعِمُونَ} [المائدة: 89] يَحْتَمِلُ طَعَامَهُمْ بَقِيَّةَ عُمْرِهِمْ، وَيَحْتَمِلُ غَدَاءً وَعَشَاءً؛ وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَكْلَةِ الْيَوْمِ وَسَطًا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَشِبَعًا فِي غَيْرِهَا، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: تَتَقَدَّرُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ فِي الْبُرِّ بِنِصْفِ صَاعٍ، وَفِي التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ بِصَاعٍ. وَأَصْلُ الْكَلَامِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْوَسَطَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْأَعْلَى وَالْخِيَارِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] أَيْ عُدُولًا خِيَارًا. وَيَنْطَلِقُ عَلَى مَنْزِلَةٍ بَيْنَ مَنْزِلَتَيْنِ، وَنِصْفًا بَيْنَ طَرَفَيْنِ، وَإِلَيْهِ يُعْزَى الْمِثْلُ الْمَضْرُوبُ: " خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا ". وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَسَطَ بِمَعْنَى الْخِيَارِ هَاهُنَا مَتْرُوكٌ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ الْمَنْزِلَةُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا مَعْلُومَةً عَادَةً، وَمِنْهُ مَنْ قَدَّرَهَا كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صَغِيرٍ قَالَ: «قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطِيبًا، فَأَمَرَ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ، صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ رَأْسٍ، أَوْ صَاعِ بُرٍّ بَيْنَ اثْنَيْنِ»، وَبِهِ أَخَذَ سُفْيَانُ وَابْنُ الْمُبَارَكِ.

مسألة تمليك المساكين ما يخرج لهم من كفارة اليمين

وَاَلَّذِي ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ صَاعٌ مِنْ الْكُلِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي سَعِيدٍ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ مَشْهُورٌ. وَاَلَّذِي أَوْقَعَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْوَسَطُ مِنْ الْجِنْسِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] وَإِنَّمَا يُخْرِجُ الرَّجُلُ مِمَّا يَأْكُلُ. وَقَدْ زَلَّتْ هَاهُنَا جُمْلَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ؛ فَقَالُوا: إنَّهُ إذَا كَانَ يَأْكُلُ الشَّعِيرَ وَيَأْكُلُ النَّاسُ الْبُرَّ فَلْيُخْرِجْ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ، وَهَذَا سَهْوٌ بَيِّنٌ، فَإِنَّ الْمُكَفِّرَ إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ إلَّا الشَّعِيرَ لَمْ يُكَلَّفْ أَنْ يُعْطِيَ لِغَيْرِهِ سِوَاهُ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ». فِي مَوْضِعٍ كَانَ فِيهِ الشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ أَكْثَرَ مِنْ الْبُرِّ، وَالْبُرُّ أَكْثَرَ مِنْ الشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ، فَإِنَّمَا فَصَّلَ ذِكْرَهُمَا لِيُخْرِجَ كُلُّ أَحَدٍ فَرْضَهُ مِمَّا يَأْكُلُ مِنْهَا، وَهَذَا مِمَّا لَا خَفَاءَ بِهِ. وَنَحْنُ نَقُولُ: أَرَادَ بِهِ الْجِنْسَ وَالْقَدْرَ جَمِيعًا، وَذَلِكَ مُدٌّ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الْعَدْلُ مِنْ الْقَدْرِ. وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كَفَّارَةِ الْأَذَى فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ. وَالْفَرَقُ ثَلَاثَةُ آصُعٍ مُجْمَلُ قَوْلِهِ: صَدَقَةٌ، وَلَمْ يُجْمِلْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، بَلْ قَالَ {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89]، وَقَدْ كَانَ عِنْدَهُمْ جِنْسُ مَا يُطْعِمُونَ وَقَدْرُهُ مَعْلُومًا، وَوَسَطُ الْقَدْرِ مُدٌّ، وَأَطْلَقَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فَقَالَ: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4]. فَحُمِلَ عَلَى الْأَكْثَرِ، وَهَذِهِ سَبِيلُ مَهْيَعٌ، وَلَمْ يُرَدَّ مُطْلَقُ ذَلِكَ إلَى مُقَيَّدِهِ، وَلَا عَامُّهُ إلَى خَاصِّهِ، وَلَا مُجْمَلُهُ إلَى مُفَسَّرِهِ. [مَسْأَلَة تَمْلِيكِ الْمَسَاكِينِ مَا يَخْرُجُ لَهُمْ مِنْ كَفَّارَة الْيَمِين] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: لَا بُدَّ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْ تَمْلِيكِ الْمَسَاكِينِ مَا يَخْرُجُ لَهُمْ، وَدَفْعِهِ إلَيْهِمْ حَتَّى يَتَمَلَّكُوهُ وَيَتَصَرَّفُوا فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ جَازَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِثْلُهُ. وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ؛ وَهِيَ طُيُولِيَةٌ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. وَحَقِيقَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ قَالَ: إنَّ التَّمْكِينَ مِنْ الطَّعَامِ إطْعَامٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]. فَبِأَيِّ وَجْهٍ أَطْعَمَهُ دَخَلَ فِي الْآيَةِ.

مسألة دفع كفارة اليمين إلى مسكين واحد

وَأَمَّا غَيْرُهُ فَقَالَ: إنَّ الْإِطْعَامَ هُوَ التَّمْلِيكُ حَقِيقَةً قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [الأنعام: 14]. وَفِي الْحَدِيثِ: «أَطْعَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجَدَّةَ السُّدُسَ»؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ (أَطْعَمَ) مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ إلَى مَفْعُولَيْنِ، كَقَوْلِنَا أَعْطَيْته، فَيَقُولُ: طَعِمَ زَيْدٌ، وَأَطْعَمْته أَيْ جَعَلْته يَطْعَمُ، وَحَقِيقَتُهُ بِالتَّمْلِيكِ هَذِهِ بِنِيَّةِ النَّظَرِ لِلْفَرِيقَيْنِ. وَتَحْرِيرُهُ: أَنَّ الْآيَةَ مُحْتَمِلَةٌ لِلْوَجْهَيْنِ، فَمَنْ يَدَّعِي التَّمْلِيكَ هُوَ الَّذِي يُخَصِّصُ الْعُمُومَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَنَخُصُّهُ نَحْنُ بِالْقِيَاسِ حَمْلًا عَلَى زَكَاةِ الْفِطْرِ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَغْنُوهُمْ عَنْ سُؤَالِ هَذَا الْيَوْمِ». فَلَمْ يَجُزْ فِيهِ إلَّا التَّمْلِيكُ. وَهَذَا بَالِغٌ، وَلَا سِيَّمَا وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْإِطْعَامِ التَّمْلِيكُ التَّامُّ الَّذِي يَتَمَكَّنُ مِنْهُ الْمِسْكِينُ مِنْ الطَّعَامِ تَمَكُّنَ الْمَالِكِ، كَالْكِسْوَةِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا أَحَدُ نَوْعَيْ الْكَفَّارَةِ الْمَدْفُوعَةِ إلَى الْمِسْكِينِ، فَلَمْ يَجُزْ فِيهَا إلَّا التَّمْلِيكُ، أَصْلُهُ الْكِسْوَةُ وَمَا أَقْرَبُ مَا بَيْنَهُمَا. [مَسْأَلَة دَفَعَ كَفَّارَة الْيَمِين إلَى مِسْكِينٍ وَاحِد] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: إذَا دَفَعَهَا إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ لَمْ يُجْزِهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُجْزِيهِ، وَكَذَلِكَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَتَعَلَّقَ بِالْآيَةِ وَهِيَ عَكْسُ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْعُمُومَ مَعَهُمْ، وَنَحْنُ نَفْتَقِرُ إلَى تَخْصِيصِهِ بِالْقِيَاسِ، وَمَعَنَا نَحْنُ ظَاهِرُ الْعَدَدِ وَذِكْرُهُ وَهُمْ يُحَاوِلُونَ إسْقَاطَهُ بِالْمَعْنَى. وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4]. فَذَكَرَ الْإِطْعَامَ وَالْمَطْعُومَ فَتَعَيَّنَا. فَإِنْ قِيلَ: أَرَادَ فَعَلَيْهِ إطْعَامُ طَعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا. قُلْنَا: الْإِطْعَامُ مَصْدَرٌ، وَالْمَصْدَرُ مُقَدَّرٌ مَعَ الْفِعْلِ، كَمَا سَبَقَ فِي التَّحْرِيرِ وَالصِّيَامِ، وَكَذَلِكَ هُنَا، وَمَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ: فَعَلَيْهِ إطْعَامُ طَعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا، كَلَامُ مَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ بِاللِّسَانِ؛ فَإِنَّ الْإِطْعَامَ يَتَعَدَّى إلَى مَفْعُولَيْنِ، وَلَا يَنْتَظِمُ مِنْهُمَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، بِخِلَافِ مَفْعُولَيْ ظَنَنْت، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَجُوزُ فِيهِ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَلَا يَجُوزُ

مسألة الكسوة في كفارة اليمين

فِي مَفْعُولَيْ ظَنَنْت أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَحَدِهِمَا أَصْلًا، فَإِنْ صَرَّحَ بِأَحَدِهِمَا وَتَرَكَ الْآخَرَ فَهُوَ مُضْمَرٌ؛ فَأَمَّا أَنْ يُقَدِّرَ مَا أَضْمَرَ وَيُسْقِطَ مَا صَرَّحَ فَكَلَامٌ غَبِيٌّ. [مَسْأَلَة الْكِسْوَة فِي كَفَّارَة الْيَمِين] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: أَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: أَقَلُّ مَا تُجْزِئُ فِيهِ الصَّلَاةُ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْفَرَجِ عَنْ مَالِكٍ، وَبِهِ قَالَ إبْرَاهِيمُ وَمُغِيرَةُ: مَا يَسْتُرُ جَمِيعَ الْبَدَنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُجْزِئُ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ. وَلَعَلَّ قَوْلَ الْمُخَالِفِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ يُمَاثِلُ مَا تُجْزِئُ فِيهِ الصَّلَاةُ؛ فَإِنَّ مِئْزَرًا وَاحِدًا تُجْزِئُ فِيهِ الصَّلَاةُ، وَيَقَعُ بِهِ الِاسْمُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْأَقَلِّ. وَمَا كَانَ أَحَرَصَنِي عَلَى أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ لَا يُجْزِئُ فِيهِ إلَّا كِسْوَةٌ تَسْتُرُ عَنْ أَذَى الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، كَمَا أَنَّ عَلَيْهِ طَعَامًا يُشْبِعُهُ مِنْ الْجُوعِ فَأَقُولُ بِهِ. وَأَمَّا الْقَوْلُ بِمِئْزَرٍ وَاحِدٍ فَلَا أَدْرِيه، وَاَللَّهُ يَفْتَحُ لِي وَلَكُمْ فِي الْمَعْرِفَةِ بِمَعُونَتِهِ. [مَسْأَلَة هَلْ تُجْزِئ الْقِيمَة عَنْ الطَّعَام وَالْكِسْوَة فِي الْكَفَّارَة] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: لَا تُجْزِئُ الْقِيمَةُ عَنْ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُجْزِئُ، وَهُوَ يَقُولُ: تُجْزِئُ الْقِيمَةُ فِي الزَّكَاةِ، فَكَيْفَ فِي الْكَفَّارَةِ؟ وَعُمْدَتُهُ أَنَّ الْغَرَضَ سَدُّ الْخُلَّةِ، وَرَفْعُ الْحَاجَةِ، فَالْقِيمَةُ تُجْزِئُ فِيهِ. قُلْنَا: إنْ نَظَرْتُمْ إلَى سَدِّ الْخُلَّةِ فَأَيْنَ الْعِبَادَةُ؟ وَأَيْنَ نَصُّ الْقُرْآنِ عَلَى الْأَعْيَانِ الثَّلَاثَةِ وَالِانْتِقَالُ بِالْبَيَانِ مِنْ نَوْعٍ إلَى نَوْعٍ؛ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْقِيمَةَ لَكَانَ فِي ذِكْرِ نَوْعٍ وَاحِدٍ مَا يُرْشِدُ إلَيْهِ وَيُغْنِي عَنْ ذِكْرِ غَيْرِهِ. [مَسْأَلَة دَفَعَ الْكِسْوَةَ إلَى ذِمِّيٍّ فِي كَفَّارَة الْيَمِين] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: إذَا دَفَعَ الْكِسْوَةَ إلَى ذِمِّيٍّ أَوْ الطَّعَامَ لَمْ يُجْزِهِ: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُجْزِئُ لِأَنَّهُ مِسْكِينٌ يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ الْمَسْكَنَةِ، وَيَشْتَمِلُ عَلَيْهِ عُمُومُ الْآيَةِ، فَعَلَيْنَا التَّخْصِيصُ، فَتَخْصِيصُهُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ نَقُولَ: هُوَ كَافِرٌ، فَلَا يَسْتَحِقُّ فِي الْكَفَّارَةِ حَقًّا كَالْحَرْبِيِّ. أَوْ نَقُولَ: جُزْءٌ مِنْ الْمَالِ يَجِبُ إخْرَاجُهُ لِلْمَسَاكِينِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْكَافِرِ، أَصْلُهُ الزَّكَاةُ. وَقَدْ اتَّفَقْنَا مَعَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا لِلْمُرْتَدِّ، فَكُلُّ دَلِيلٍ خَصَّ بِهِ الْمُرْتَدَّ فَهُوَ دَلِيلُنَا فِي الذِّمِّيِّ.

مسألة قوله تعالى أو تحرير رقبة

[مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ] الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ: قَوْله تَعَالَى {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89]: سَمِعْت، عَنْ الْبَائِسِ أَنَّهُ قَالَ: يُجْزِئُ الْمَعِيبُ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْعَيْبَ الْيَسِيرَ الَّذِي لَا يُفْسِدُ جَارِحَةً، وَلَا مُعْظَمَ مَنْفَعَتِهَا، كَثَلَاثَةِ أَصَابِعَ مِنْ كَفٍّ، فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَإِنْ أَرَادَ الْعَيْبَ الْمُطْلَقَ فَقَدْ خَسِرَتْ صَفْقَتُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا مِنْ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَعْتِقُ امْرَأً مُسْلِمًا إلَّا كَانَ فِكَاكُهُ مِنْ النَّارِ، كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ بِعُضْوٍ حَتَّى الْفَرْجِ بِالْفَرْجِ»؛ وَلِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَعِيبَ رَقَبَةٌ مُطْلَقَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: وَلَا تَكُونُ كَافِرَةً، وَإِنْ كَانَ مُطْلَقُ اللَّفْظِ يَقْتَضِيهَا؛ لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ وَاجِبَةٌ، فَلَا يَكُونُ الْكَافِرُ مَحِلًّا لَهَا كَالزَّكَاةِ. وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي التَّلْخِيصِ، وَهِيَ طُيُولِيَةٌ فَلْتُنْظَرْ هُنَاكَ. [مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى فَمَنْ لَمْ يَجِدْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [المائدة: 89] الْمُعْدَمُ لِلْقُدْرَةِ عَلَى مَا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ يَكُونُ لِوَجْهَيْنِ: إمَّا لِمَغِيبِ الْمَالِ عَنْ الْحَالِفِ، أَوْ لِعَدَمِ ذَاتِ الْيَدِ؛ فَإِنْ كَانَ لِمَغِيبِ الْمَالِ فَحَيْثُ كَانَ ثَاوِيًا كَانَ كَعَدَمِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ آخَرَ، وَوَجَدَ مِنْ يُسَلِّفُهُ لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُسَلِّفُهُ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَقِيلَ: يَنْتَظِرُ إلَى بَلَدِهِ، وَذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ؛ بَلْ يُكَفِّرُ بِالصِّيَامِ فِي مَوْضِعِهِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَلْتَفِتَ إلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ قَدْ تَقَرَّرَ فِي الذِّمَّةِ، وَالشَّرْطُ مِنْ الْعَدَمِ قَدْ تَحَقَّقَ، فَلَا وَجْهَ لِتَأْخِيرِ الْأَمْرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي تَحْدِيدِ الْعَدَمِ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَنْ لَمْ يَجِدْ: مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: دِرْهَمَانِ. وَقِيلَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَضْلٌ عَنْ رَأْسِ مَالِهِ الَّذِي يَعِيشُ مِنْهُ مَعَ عِيَالِهِ فَهُوَ الَّذِي لَمْ يَجِدْ. وَقِيلَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا قُوتُ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ؛ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهَا دَلِيلٌ يَقُومُ عَلَيْهِ، وَلَا سِيَّمَا مَنْ قَالَ بِدِرْهَمٍ وَدِرْهَمَيْنِ.

مسألة قوله تعالى فصيام ثلاثة أيام

وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ إنْ لَمْ يَقْدِرْ أَطْعَمَ كُلَّ يَوْمٍ أَوْ كُلَّ جُمُعَةٍ مِسْكِينًا حَتَّى يُتِمَّ كَفَّارَتَهُ. وَأَمَّا الْكِسْوَةُ فَلَا يُعْطِيهَا إلَّا مَنْ كَانَ لَهُ فَوْقَ قُوتِ سَنَةٍ. وَأَمَّا الرَّقَبَةُ فَقَدْ تَفَطَّنَ مَالِكٌ لِلْحَقِّ، فَقَالَ: إنَّ مَنْ لَمْ يَمْلِكْ إلَّا رَقَبَةً أَوْ دَارًا لَا فَضْلَ فِيهِمَا؛ أَوْ عَرَضًا ثَمَنَ رَقَبَةٍ لَمْ يُجْزِهِ إلَّا الْعِتْقُ، فَذَكَرَ الدَّارَ وَالْعَرَضَ وَالرَّقَبَةَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هُنَالِكَ رَمَقًا، لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ مَا مَعَهُ غَيْرُهُمَا، هَلْ يُعْتِقُ الرَّقَبَةَ الَّتِي كَانَتْ تُعَيِّشُهُ بِخَرَاجِهَا وَكَسْبِهَا أَمْ عِنْدَهُ فَضْلٌ غَيْرُهَا؟ فَإِنْ كَانَتْ الرَّقَبَةُ هِيَ الَّتِي كَانَتْ تُعَيِّشُهُ بِخَرَاجِهَا فَلَا سَبِيلَ إلَى عِتْقِهَا. وَبِالْجُمْلَةِ الْمُغْنِيَةِ عَنْ التَّفْصِيلِ ذَلِكَ عَلَى التَّرَاخِي، وَلَيْسَ عَلَى الْفَوْرِ فَلْيَتَرَيَّثْ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ لَهُ. أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الْفَوْتُ أَوْ يُؤْثِرَ الْعِتْقَ، أَوْ الْإِطْعَامَ بِسَبَبٍ يَدْعُوهُ إلَى ذَلِكَ. [مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] قَرَأَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ مُتَتَابِعَاتٍ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: يُجْزِئُ التَّفْرِيقُ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ، إذْ التَّتَابُعُ صِفَةٌ لَا تَجِبُ إلَّا بِنَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ عَلَى مَنْصُوصٍ، وَقَدْ عُدِمَا فِي مَسْأَلَتِنَا. [مَسْأَلَة مَا يُعْطَى فِي الْكَفَّارَةِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يُعْطَى فِي الْكَفَّارَةِ الْخُبْزُ، وَالْإِدَامُ زَيْتٌ أَوْ كِشْكٌ أَوْ كَامِخٌ أَوْ مَا تَيَسَّرَ، وَهَذِهِ زِيَادَةٌ مَا أَرَاهَا عَلَيْهِ وَاجِبَةً. أَمَّا إنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُطْعِمَ مَعَ الْخُبْزِ السُّكَّرَ نَعَمْ وَاللَّحْمَ، وَأَمَّا تَضْمِينُ الْإِدَامِ لِلطَّعَامِ مَعْنًى يَتَضَمَّنَهُ لَفْظُهُ فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ. [مَسْأَلَة مَا بَدَأَ اللَّهُ فِي كَفَّارَة الْيَمِين] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: بَدَأَ اللَّهُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِالْأَهْوَنِ؛ لِأَنَّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ، فَإِذَا

مسألة معنى قوله تعالى ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم

شَاءَ انْتَقَلَ إلَى الْأَعْلَى وَهُوَ الْإِعْتَاقُ، وَبَدَأَ فِي الظِّهَارِ بِالْأَشَدِّ؛ لِأَنَّهُ عَلَى التَّرْتِيبِ؛ فَإِنْ شَاءَ أَنْ يَنْتَقِلَ لَمْ يَقْدِرْ، وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ لَهُ تَأْوِيلًا بِالْعِرَاقِ حَيْثُ الْبُرُّ ثَلَاثُمِائَةٍ رِطْلٍ بِدِينَارٍ إذَا طُلِبَ، فَإِذَا زُهِدَ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَمَنٌ. فَأَمَّا بِالْحِجَازِ حَيْثُ الْبُرُّ فِيهِ إذَا رَخُصَ أَرْبَعَةُ آصُعٍ وَخَمْسَةُ آصُعٍ بِدِينَارٍ فَإِنَّ الْعَبْدَ فِيهِ أَرْخَصُ، وَالْحَاجَةَ إلَى الطَّعَامِ أَعْظَمُ، فَقَدْ يُوجَدُ فِيهَا عَبْدٌ بِدِينَارٍ، وَلَكِنْ يُخْرِجُهُ مِنْ الرِّقِّ إلَى الْجُوعِ، وَيَتَفَادَى مِنْهُ سَيِّدَهُ. [مَسْأَلَةُ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ: الْأَوَّلُ: احْفَظُوهَا، فَلَا تَحْلِفُوا فَتَتَوَجَّهُ عَلَيْكُمْ هَذِهِ التَّكْلِيفَاتُ. الثَّانِي: احْفَظُوهَا إذَا حَنِثْتُمْ؛ فَبَادِرُوا إلَى مَا لَزِمَكُمْ. الثَّالِثُ: احْفَظُوهَا فَلَا تَحْنَثُوا؛ وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ الْبُرُّ أَفْضَلَ أَوْ الْوَاجِبَ. وَالْكُلُّ عَلَى هَذَا مِنْ الْحِفْظِ صَحِيحٌ عَلَى وَجْهِهِ الْمَذْكُورِ وَصِفَتِهِ الْمُنْقَسِمَةِ إلَيْهِ، فَلْيُرَكَّبْ عَلَى ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الثَّانِيَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ] ُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: " اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا فَإِنَّهَا تُذْهِبُ الْعَقْلَ وَالْمَالَ " فَنَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219]. فَدُعِيَ عُمَرُ، فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا " فَنَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي فِي النِّسَاءِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]؛ فَدُعِيَ عُمَرُ، فَقُرِئَتْ

مسألة تحقيق اسم الخمر والأنصاب والأزلام

عَلَيْهِ، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا " فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] إلَى قَوْلِهِ: {مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]؛ فَدُعِيَ عُمَرُ، فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: " انْتَهَيْنَا. انْتَهَيْنَا ". وَرُوِيَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مُلَاحَاةٍ جَرَتْ بَيْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ. وَهُمَا عَلَى شَرَابٍ لَهُمَا، وَقَدْ انْتَشَيَا، فَتَفَاخَرَتْ الْأَنْصَارُ وَقُرَيْشٌ، فَأَخَذَ الْأَنْصَارِيُّ لَحْيَيْ جَمَلٍ فَضَرَبَ بِهِ أَنْفَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَفَزَرَهُ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ. وَرُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ، رَوَى ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَهَذَا لَيْسَ بِمُتَعَارِضٍ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَجْرِيَ بَيْنَ سَعْدٍ وَبَيْنِ عِتْبَانَ مَا يُوجِبُ نُزُولَ الْآيَةِ كَمَا رَوَى الطَّبَرِيُّ، فَيُدْعَى عُمَرُ فَتُقْرَأُ عَلَيْهِ، كَمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ. [مَسْأَلَةُ تَحْقِيقِ اسْمِ الْخَمْرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَحْقِيقِ اسْمِ الْخَمْرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ: وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَصَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَأَمَّا الْمَيْسِرُ: فَهُوَ شَيْءٌ مُحَرَّمٌ لَا سَبِيلَ إلَى عَمَلِهِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِ؛ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَمُوتَ ذِكْرُهُ وَيُمْحَى رَسْمُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْله تَعَالَى: {رِجْسٌ} [المائدة: 90]: وَهُوَ النَّجَسُ، وَقَدْ رُوِيَ فِي صَحِيحِ حَدِيثِ الِاسْتِنْجَاءِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ، فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ، وَقَالَ: إنَّهَا رِكْسٌ» أَيْ نَجَسٌ. وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ إلَّا مَا يُؤْثَرُ عَنْ رَبِيعَةَ أَنَّهُ قَالَ: إنَّهَا مُحَرَّمَةٌ، وَهِيَ طَاهِرَةٌ، كَالْحَرِيرِ عِنْدَ مَالِكٍ مُحَرَّمٌ، مَعَ أَنَّهُ طَاهِرٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، الرِّجْسِ النَّجِسِ، الْخَبِيثِ الْمُخْبِثِ».

الآية الثالثة والعشرون قوله تعالى إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء

وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ تَمَامَ تَحْرِيمِهَا وَكَمَالَ الرَّدْعِ عَنْهَا الْحُكْمُ بِنَجَاسَتِهَا حَتَّى يَتَقَذَّرَهَا الْعَبْدُ، فَيَكُفُّ عَنْهَا، قُرْبَانًا بِالنَّجَاسَةِ وَشُرْبًا بِالتَّحْرِيمِ، فَالْحُكْمُ بِنَجَاسَتِهَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] يُرِيدُ أَبْعِدُوهُ، وَاجْعَلُوهُ نَاحِيَةً؛ وَهَذَا أَمْرٌ بِاجْتِنَابِهَا، وَالْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ عُلِّقَ بِهِ الْفَلَاحُ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ] َ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 92]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: نَزَلَتْ فِي قَبِيلَتَيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ شَرِبُوا الْخَمْرَ وَانْتَشَوْا، فَعَبَثَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَلَمَّا صَحَوْا، وَرَأَى بَعْضُهُمْ فِي وَجْهِ بَعْضٍ آثَارَ مَا فَعَلُوا، وَكَانُوا إخْوَةً لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ضَغَائِنُ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَقُولُ: لَوْ كَانَ أَخِي بِي رَحِيمًا مَا فَعَلَ هَذَا بِي، فَحَدَثَتْ بَيْنَهُمْ الضَّغَائِنُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ} [المائدة: 91] الْآيَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] كَمَا فُعِلَ بِعَلِيٍّ، وَرُوِيَ: بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي الصَّلَاةِ حِينَ أَمَّ النَّاسَ، فَقَرَأَ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ.

الآية الرابعة والعشرون قوله تعالى ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] فَقَالَ عُمَرُ: انْتَهَيْنَا. حِينَ عَلِمَ أَنَّ هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ، «وَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنَادِيَهُ أَنْ يُنَادِيَ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ: أَلَا إنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ؛ فَكُسِرَتْ الدِّنَانُ، وَأُرِيقَتْ الْخَمْرُ حَتَّى جَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ، وَمَا كَانَ خَمْرُهُمْ يَوْمئِذٍ إلَّا مِنْ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ»، وَهَذَا ثَابِتٌ صَحِيحٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} [المائدة: 92] وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِلتَّحْرِيمِ، وَتَشْدِيدٌ فِي الْوَعِيدِ. قَالَ: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَلَيْسَ عَلَى الرَّسُولِ إلَّا الْبَلَاغُ، فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ. أَمَّا عِقَابُ التَّوْلِيَةِ وَالْمَعْصِيَةِ فَعَلَى الْمُرْسِلِ لَا عَلَى الرَّسُولِ. [الْآيَة الرَّابِعَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا] إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 93]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنْت سَاقِيَ الْقَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ، فَنَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، فَأَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي؛ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: اُخْرُجْ فَانْظُرْ مَا هَذَا الصَّوْتُ؛ قَالَ: فَخَرَجْت، فَقُلْت: هَذَا مُنَادٍ يُنَادِي: أَلَا إنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ. فَقَالَ لِي: اذْهَبْ فَأَهْرِقْهَا، وَكَانَ الْخَمْرُ مِنْ الْفَضِيخِ. قَالَ: فَجَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ. فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: قُتِلَ قَوْمٌ وَهِيَ فِي بُطُونِهِمْ. قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] إلَى قَوْلِهِ: {الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 93]. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ صَحِيحًا عَنْ الْبَرَاءِ أَيْضًا.

مسألة قوله تعالى إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ نَزَلَتْ الْآيَةُ فِيمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ، ثُمَّ قَالَ فِيهِ: إذَا مَا طَعِمُوا؛ فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى تَسْمِيَةِ الشُّرْبِ طَعَامًا، وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. [مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى إذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة: 93] إلَى: {الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 93] اُخْتُلِفَ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: اتَّقَوْا فِي اتِّبَاعِ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ، وَاتَّقَوْا فِي الثَّبَاتِ عَلَى ذَلِكَ، وَاتَّقَوْا فِي لُزُومِ النَّوَافِلِ؛ وَهُوَ الْإِحْسَانُ إلَى آخِرِ الْعُمْرِ. الثَّانِي: اتَّقَوْا قَبْلَ التَّحْرِيمِ فِي غَيْرِهَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ، ثُمَّ اتَّقَوْا بَعْدَ تَحْرِيمِهَا شُرْبَهَا، ثُمَّ اتَّقَوْا فِي الَّذِي بَقِيَ مِنْ أَعْمَارِهِمْ، فَاجْتَنَبُوا الْعَمَلَ الْمُحَرَّمَ. الثَّالِثُ: اتَّقَوْا الشِّرْكَ، وَآمَنُوا، ثُمَّ اتَّقَوْا الْحَرَامَ، ثُمَّ اتَّقَوْا تَرْكَ الْإِحْسَانِ، فَيَعْبُدُونَ اللَّهَ، وَإِنْ لَمْ يَرَوْهُ كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ. وَقَدْ صُرِفَتْ فِيهَا أَقْوَالٌ عَلَى قَدْرِ وَظَائِفِ الشَّرِيعَةِ يَكْثُرُ تَعْدَادُهَا، وَأَشْبَهُهَا بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الشُّرَّابَ كَانُوا يُضْرَبُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بِالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ وَبِالْعِصِيِّ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانُوا فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُمْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَجْلِدُهُمْ أَرْبَعِينَ حَتَّى تُوُفِّيَ، فَكَانَ عُمَرُ مِنْ بَعْدِهِ يَجْلِدُهُمْ كَذَلِكَ أَرْبَعِينَ، ثُمَّ أُتِيَ بِرَجُلٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَقَدْ شَرِبَ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُجْلَدَ، فَقَالَ: أَتَجْلِدُنِي، بَيْنِي وَبَيْنَك كِتَابُ اللَّهِ ". فَقَالَ عُمَرُ: " أَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَجِدُ أَلَّا أَجْلِدَك؟ " فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] الْآيَةَ؛ فَأَنَا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا، ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا، شَهِدْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا. فَقَالَ عُمَرُ: " أَلَا تَرُدُّونَ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ "؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ أُنْزِلَتْ

عُذْرًا لِمَنْ صَبَرَ وَحُجَّةً عَلَى النَّاسِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] الْآيَةَ، ثُمَّ قَرَأَ حَتَّى أَنْفَذَ الْآيَةَ الْأُخْرَى؛ فَإِنْ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَهَاهُ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ. فَقَالَ عُمَرُ: " صَدَقْت، مَاذَا تَرَوْنَ "؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: " إنَّهُ إذَا شَرِبَ سَكِرَ، وَإِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، وَعَلَى الْمُفْتَرِي جَلْدُ ثَمَانِينَ ". [فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ فَجُلِدَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً]. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ قَالَ: اسْتَعْمَلَ عُمَرُ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ عَلَى الْبَحْرَيْنِ، وَقَدْ كَانَ يَشْهَدُ بَدْرًا، وَهُوَ خَالُ ابْنِ عُمَرَ وَحَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ زَادَ الْبَرْقَانِيُّ: فَقَدِمَ الْجَارُودُ مِنْ الْبَحْرَيْنِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنَّ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ قَدْ شَرِبَ مُسْكِرًا، وَإِنِّي إذَا رَأَيْت حَدًّا مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى حُقَّ عَلَيَّ أَنْ أَرْفَعَهُ إلَيْك. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: " مَنْ يَشْهَدُ لِي عَلَى مَا تَقُولُ؟ " فَقَالَ: أَبُو هُرَيْرَةَ. فَدَعَا عُمَرُ أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ: " عَلَامَ تَشْهَدُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ "؟ فَقَالَ: " لَمْ أَرَهُ حِينَ شَرِبَ، وَقَدْ رَأَيْته سَكْرَانَ يَقِيءُ ". فَقَالَ عُمَرُ: " لَقَدْ تَنَطَّعْت فِي الشَّهَادَةِ ". ثُمَّ كَتَبَ عُمَرَ إلَى قُدَامَةَ وَهُوَ بِالْبَحْرَيْنِ يَأْمُرُهُ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ. فَلَمَّا قَدِمَ قُدَامَةُ وَالْجَارُودُ بِالْمَدِينَةِ كَلَّمَ الْجَارُودُ عُمَرَ، فَقَالَ لَهُ: أَقِمْ عَلَى هَذَا كِتَابَ اللَّهِ فَقَالَ عُمَرُ لِلْجَارُودِ: " أَشَهِيدٌ أَنْتَ أَمْ خَصْمٌ "؟ فَقَالَ الْجَارُودُ: أَنَا شَهِيدٌ. قَالَ: " قَدْ كُنْت أَدَّيْت الشَّهَادَةَ ". فَسَكَتَ الْجَارُودُ، ثُمَّ قَالَ: لَتَعْلَمَنَّ أَنِّي أَنْشُدُك اللَّهَ. فَقَالَ عُمَرُ: " أَمَا وَاَللَّهِ لَتَمْلِكَنَّ لِسَانَك أَوْ لَأَسُوءَنَّكَ ". فَقَالَ الْجَارُودُ: أَمَا وَاَللَّهِ مَا ذَلِكَ بِالْحَقِّ أَنْ يَشْرَبَ ابْنُ عَمِّك وَتَسُوءَنِي: فَتَوَعَّدَهُ عُمَرُ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَهُوَ جَالِسٌ: " يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنْ كُنْت تَشُكُّ فِي شَهَادَتِنَا فَسَلْ بِنْتَ الْوَلِيدِ امْرَأَةَ ابْنِ مَظْعُونٍ ". فَأَرْسَلَ عُمَرُ إلَى هِنْدَ يَنْشُدُهَا بِاَللَّهِ، فَأَقَامَتْ هِنْدُ عَلَى زَوْجِهَا قُدَامَةَ الشَّهَادَةَ. فَقَالَ عُمَرُ: " يَا قُدَامَةُ؛ إنِّي جَالِدُك ". فَقَالَ قُدَامَةُ: وَاَللَّهِ لَوْ شَرِبْت كَمَا تَقُولُونَ مَا كَانَ لَك أَنْ تَجْلِدَنِي يَا عُمَرُ. قَالَ: " لِمَ يَا قُدَامَةُ؟ " قَالَ: لِأَنَّ

الآية الخامسة والعشرون قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد

اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] الْآيَةَ إلَى: {الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 93]. فَقَالَ عُمَرُ: " إنَّك أَخْطَأْت التَّأْوِيلَ يَا قُدَامَةُ؛ إذَا اتَّقَيْت اللَّهَ اجْتَنَبْت مَا حَرَّمَ اللَّهُ ". ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى الْقَوْمِ فَقَالَ: " مَا تَرَوْنَ فِي جَلْدِ قُدَامَةَ؟ " فَقَالَ الْقَوْمُ: لَا نَرَى أَنْ تَجْلِدَهُ مَا دَامَ وَجِعًا، فَسَكَتَ عُمَرُ عَنْ جَلْدِهِ أَيَّامًا، ثُمَّ أَصْبَحَ يَوْمًا وَقَدْ عَزَمَ عَلَى جَلْدِهِ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: " مَا تَرَوْنَ فِي جَلْدِ قُدَامَةَ؟ " فَقَالُوا: لَا نَرَى أَنْ تَجْلِدَهُ مَا دَامَ وَجِعًا. فَقَالَ عُمَرُ: " إنَّهُ وَاَللَّهِ لَأَنْ يَلْقَى اللَّهَ وَهُوَ تَحْتَ السَّوْطِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَهِيَ فِي عُنُقِي، وَاَللَّهِ لَأَجْلِدَنَّهُ، ائْتُونِي بِسَوْطٍ ". فَجَاءَ مَوْلَاهُ أَسْلَمُ بِسَوْطٍ رَقِيقٍ صَغِيرٍ، فَأَخَذَهُ عُمَرُ فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ لِأَسْلَمَ: " قَدْ أَخَذْتُك بِإِقْرَارِ أَهْلِكَ، ائْتُونِي بِسَوْطٍ غَيْرِ هَذَا ". قَالَ: فَجَاءَهُ أَسْلَمُ بِسَوْطٍ تَامٍّ، فَأَمَرَ عُمَرُ بِقُدَامَةَ فَجُلِدَ، فَغَاضَبَ قُدَامَةُ عُمَرَ وَهَجَرَهُ، فَحَجَّا وَقُدَامَةُ مُهَاجِرٌ لِعُمَرَ، حَتَّى قَفَلُوا مِنْ حَجِّهِمْ، وَنَزَلَ عُمَرُ بِالسُّقْيَا وَقَامَ بِهَا؛ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ عُمَرُ قَالَ: " عَجِّلُوا عَلَيَّ بِقُدَامَةَ، انْطَلِقُوا فَأْتُونِي بِهِ، فَوَاَللَّهِ إنِّي لَأَرَى فِي النَّوْمِ أَنَّهُ جَاءَنِي آتٍ فَقَالَ لِي: سَالِمْ قُدَامَةُ فَإِنَّهُ أَخُوكَ ". فَلَمَّا جَاءُوا قُدَامَةَ أَبَى أَنْ يَأْتِيَهُ؛ فَأَمَرَ عُمَرُ بِقُدَامَةَ أَنْ يُجَرَّ إلَيْهِ جَرًّا حَتَّى كَلَّمَهُ عُمَرُ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ، فَكَانَ أَوَّلَ صُلْحِهِمَا. فَهَذَا يَدُلُّك عَلَى تَأْوِيلِ الْآيَةِ، وَمَا ذُكِرَ فِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِ الدَّارَقُطْنِيِّ وَعُمَرَ فِي حَدِيثِ الْبَرْقَانِيِّ، وَهُوَ صَحِيحٌ. وَبَسْطُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ وَاتَّقَى اللَّهَ فِي غَيْرِهِ لَا يُحَدُّ عَلَى الْخَمْرِ مَا حُدَّ أَحَدٌ، فَكَانَ هَذَا مِنْ أَفْسَدِ تَأْوِيلٍ، وَقَدْ خَفِيَ عَلَى قُدَامَةَ، وَعَرَفَهُ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ لَهُ كَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنَّ حَرَامًا لَا أَرَى الدَّهْرَ بَاكِيًا ... عَلَى شَجْوِهِ إلَّا بَكَيْت عَلَى عُمَرَ [الْآيَة الْخَامِسَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ] ِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 94]

مسألة المخاطب بقوله تعالى ليبلونكم الله بشيء من الصيد

فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: وَقَدْ قِيلَ: إنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، أَحْرَمَ بَعْضُ النَّاسِ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُحْرِمْ بَعْضُهُمْ فَكَانَ إذَا عَرَضَ صَيْدٌ اخْتَلَفَتْ فِيهِ أَحْوَالُهُمْ، وَاشْتَبَهَتْ أَحْكَامُهُ عَلَيْهِمْ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ بَيَانًا لِأَحْكَامِ أَحْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَمَحْظُورَاتِ حَجِّهِمْ وَعُمْرَتِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، خَاطَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهَا كُلَّ مُسْلِمٍ مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ، وَبَيَّنَّا حَقِيقَتَهَا، وَأَوْضَحْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ مَعْنَاهَا فِي كُلِّ آيَةٍ تَجْرِي عَلَيْهَا. [مَسْأَلَةُ الْمُخَاطَبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ليبلونكم اللَّه بِشَيْءِ مِنْ الصَّيْد] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُخَاطَبِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ الْمُحِلُّونَ؛ قَالَهُ مَالِكٌ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ الْمُحْرِمُونَ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، وَتَعَلَّقَ مَنْ عَمَّمَ بِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 94] مُطْلَقٌ فِي الْجَمِيعِ. وَتَعَلَّقَ مَنْ خَصَّ بِأَنَّ قَوْلَهُ: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ} [المائدة: 94] يَقْتَضِي أَنَّهُمْ الْمُحْرِمُونَ، فَإِنَّ تَكْلِيفَ الِامْتِنَاعِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِهِ الِابْتِلَاءُ هُوَ مَعَ الْإِحْرَامِ. وَهَذَا لَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ} [المائدة: 94] الَّذِي يَقْتَضِي التَّكْلِيفَ يَتَحَقَّقُ فِي الْمُحِلِّ بِمَا شُرِطَ لَهُ مِنْ أُمُورِ الصَّيْدِ، وَمَا شُرِعَ لَهُ مِنْ وَظِيفَةٍ فِي كَيْفِيَّةِ الِاصْطِيَادِ، وَالتَّكْلِيفُ كُلُّهُ ابْتِلَاءٌ وَإِنْ تَفَاضَلَ فِي الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ، وَتَبَايَنَ فِي الضَّعْفِ وَالشِّدَّةِ.

مسألة الأصل في حكم الصيد

[مَسْأَلَةُ الْأَصْلُ فِي حُكْم الصَّيْدِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ قَوْمٌ: الْأَصْلُ فِي الصَّيْدِ التَّحْرِيمُ، وَالْإِبَاحَةُ فَرْعُهُ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ، وَهَذَا يَنْعَكِسُ فَيُقَالُ: الْأَصْلُ فِي الصَّيْدِ الْإِبَاحَةُ وَالتَّحْرِيمُ فَرْعُهُ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ، وَلَا دَلِيلَ يُرَجَّحُ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ بِهِ. وَنَحْنُ نَقُولُ: لَا أَصْلَ فِي شَيْءٍ إلَّا مَا أَصَّلَهُ الشَّرْعُ بِتِبْيَانِ حُكْمِهِ وَإِيضَاحِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ مِنْ حِلٍّ أَوْ تَحْرِيمٍ، وَوُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ أَوْ كَرَاهِيَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي مَسْأَلَةِ الْأَكْلِ لِمَا أَكَلَهُ الْكَلْبُ مِنْ الصَّيْدِ، حَتَّى قِيلَ الْأَصْلُ فِي الصَّيْدِ التَّحْرِيمُ. وَإِذَا أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْ الصَّيْدِ فَهُوَ مَشْكُوكٌ فِيهِ. وَقُلْنَا: إنَّ الْأَصْلَ فِي الصَّيْدِ الْإِبَاحَةُ فَلَا يُحَرِّمُهُ أَكْلُ الْكَلْبِ مِنْهُ إلَّا بِدَلِيلٍ. ثُمَّ ذَكَرْنَا التَّعَارُضَ فِيهِ وَالِانْفِصَالَ عَنْهُ، فَلْيُنْظَرْ فِي مَوْضِعِهِ. [مَسْأَلَةُ بَيَان حُكْمِ صِغَارِ الصَّيْدِ وَكِبَارِهِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94] بَيَانٌ لِحُكْمِ صِغَارِ الصَّيْدِ وَكِبَارِهِ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94] فَكُلُّ شَيْءٍ يَنَالُهُ الْإِنْسَانُ بِيَدِهِ، أَوْ بِرُمْحِهِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ سِلَاحِهِ فَقَتَلَهُ، فَهُوَ صَيْدٌ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95]، وَهَذَا بَيَانٌ شَافٍ. [مَسْأَلَةُ صَيْدُ الذِّمِّيِّ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: [صَيْدُ الذِّمِّيِّ]: قَالَ مَالِكٌ: لَا يَحِلُّ صَيْدُ الذِّمِّيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُحَلِّينَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، فَخَرَجَ عَنْهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ، لِاخْتِصَاصِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْإِيمَانِ، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ اقْتِصَارَهُ عَلَيْهِمْ إلَّا بِدَلِيلٍ يَقْتَضِي التَّعْمِيمَ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ دَلِيلِ الْخِطَابِ الَّذِي هُوَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِأَحَدِ وَصْفَيْ الشَّيْءِ، لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْآخَرَ بِخِلَافِهِ، وَلَكِنَّهُ مِنْ بَابِ أَنَّ أَحَدَ الْوَصْفَيْنِ مَنْطُوقٌ بِهِ، مُبَيَّنٌ حُكْمُهُ، وَالثَّانِي مَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَلَيْسَ فِي مَعْنَى مَا نُطِقَ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إنْ كَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ فَحَمَلَهُ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5].

مسألة صيد المجوسي

قُلْنَا: هَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ طَعَامِهِمْ. وَالصَّيْدُ بَابٌ آخَرُ؛ فَلَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ ذِكْرِ الطَّعَامِ، وَلَا يَتَنَاوَلُهُ مُطْلَقُ لَفْظِهِ. فَإِنْ قِيلَ: نَقِيسُهُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ نَوْعُ ذَكَاةٍ، فَجَازَ مِنْ الذِّمِّيِّ كَذَبْحِ الْإِنْسِيِّ. قُلْنَا: لِلْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِمَّا يُذَكَّى شُرُوطٌ، وَلِمَا لَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ شُرُوطٌ أُخَرُ؛ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْضُوعٌ وُضِعَ عَلَيْهِ، وَمَنْصِبٌ جُعِلَ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ الْإِلْحَاقُ فِيمَا اخْتَلَفَ مَوْضُوعُهُ فِي الْأَصْلِ؛ وَهَذَا فَنٌّ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ. [مَسْأَلَةُ صَيْدُ الْمَجُوسِيِّ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ أَمَّا صَيْدُ الْمَجُوسِيِّ: فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ الْوَاقِعَ مِنْهُ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] وَالْمَجُوسِيُّ إنَّمَا يَزْعُمُ أَنَّهُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، وَيَتَحَرَّكُ وَيَسْكُنُ، وَيَفْعَلُ جَمِيعَ أَفْعَالِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا ذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ عَلَى كَلْبِك الْمُعَلَّمِ فَكُلْ». فَإِنْ قِيلَ: فَالذِّمِّيُّ لَا يَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ وَيُؤْكَلُ صَيْدُهُ. قُلْنَا: لَا يُؤْكَلُ صَيْدُ الذِّمِّيِّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَيَسْقُطُ عَنَّا هَذَا الِالْتِزَامُ. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ يُؤْكَلُ فَلِمُطْلَقِ قَوْله تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] عَلَى أَحَدِ الْأَدِلَّةِ، وَعَلَى الدَّلِيلِ الثَّانِي نَأْكُلُهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُخَاطَبُوا بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ. وَعَلَى الدَّلِيلِ الثَّالِثِ يَكُونُ كَمَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَهَذَا كُلُّهُ مُتَرَدِّدٌ عَلَى الْآيَاتِ بِحُكْمِ التَّعَارُضِ فِيهَا. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي جَوَازُ أَكْلِ صَيْدِهِ، وَأَنَّ الْخِطَابَ فِي الْآيَةِ لِجَمِيعِ النَّاسِ مُحِلِّهِمْ وَمُحْرِمِهِمْ؛ وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنُ حَبِيبٍ: إنَّ مَعْنَى قَوْلِ: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ} [المائدة: 94] لَيُكَلِّفَنَّكُمْ. ثُمَّ بَيَّنَ التَّكْلِيفَ بَعْدَهُ فَقَالَ وَهِيَ:

الآية السادسة والعشرون قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم

[الْآيَة السَّادِسَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ] ٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [المائدة: 95]. فِيهَا ثَمَانِ وَثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: وَقَدْ تَقَدَّمَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ} [المائدة: 95] وَالْقَتْلُ: كُلُّ فِعْلٍ يُفِيتُ الرُّوحَ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا الذَّبْحُ وَالنَّحْرُ، وَالْخَنْقُ وَالرَّضْخُ وَشِبْهُهُ؛ فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُحْرِمِ فِي الصَّيْدِ كُلَّ فِعْلٍ يَكُونُ مُفِيتًا لِلرُّوحِ، وَحَرَّمَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى نَفْسَ الِاصْطِيَادِ؛ فَقَالَ: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] فَاقْتَضَى ذَلِكَ تَحْرِيمَ كُلِّ فِعْلٍ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الصَّيْدِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَيْسَ بِصِفَةٍ لِلْأَعْيَانِ وَالذَّوَاتِ، وَإِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَعَلُّقِ خِطَابِ الشَّارِعِ بِالْأَعْيَانِ، فَالْمُحْرِمُ هُوَ الْقَوْلُ فِيهِ: لَا تَقْرَبُوهُ، وَالْوَاجِبُ هُوَ الْمَقُولُ فِيهِ: لَا تَتْرُكُوهُ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. [مَسْأَلَةُ ذَبْحُ الْمُحْرِمِ لِلصَّيْدِ عَلَى وَجْهِ التَّذْكِيَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَمَّا نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُحْرِمَ عَنْ قَتْلِ الصَّيْدِ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ وَقَعَ عَامًّا. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَا يَجُوزُ ذَبْحُ الْمُحْرِمِ لِلصَّيْدِ عَلَى وَجْهِ التَّذْكِيَةِ؛ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: ذَبْحُ الْمُحْرِمِ لِلصَّيْدِ ذَكَاةٌ؛ وَتَعَلَّقَ بِأَنَّهُ ذَبْحٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ، وَهُوَ

مسألة النهى عن قتل الصيد حالة الأحرام

الْمُسْلِمُ، مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ وَهُوَ الْأَنْعَامُ، فَأَفَادَ مَقْصُودَهُ مِنْ حِلِّ الْأَكْلِ مِنْ أَصْلِهِ ذَبْحِ الْحَلَالِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا بِنَاءٌ عَلَى دَعْوَى؛ فَإِنَّ الْمُحْرِمَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَبْحِ الصَّيْدِ؛ إذْ الْأَهْلِيَّةُ لَا تُسْتَفَادُ عَقْلًا، وَإِنَّمَا يُفِيدُهَا الشَّرْعُ، وَذَلِكَ بِإِذْنِهِ فِي الذَّبْحِ؛ أَوْ يَنْفِيهَا الشَّرْعُ أَيْضًا؛ وَذَلِكَ بِنَهْيِهِ عَنْ الذَّبْحِ. وَالْمُحْرِمُ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَبْحِ الصَّيْدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] فَقَدْ انْتَفَتْ الْأَهْلِيَّةُ بِالنَّهْيِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: فَأَفَادَ مَقْصُودَهُ، فَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا ذَبَحَ الصَّيْدَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَكْلُهُ؛ وَإِنَّمَا يَأْكُلُ مِنْهُ عِنْدَهُمْ غَيْرُهُ، فَإِذَا كَانَ الذَّبْحُ لَا يُفِيدُ الْحِلَّ لِلذَّابِحِ فَأَوْلَى وَأَحْرَى أَلَا يُفِيدَهُ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْفَرْعَ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ فِي أَحْكَامِهِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ مَا لَا يَثْبُتُ لِأَصْلِهِ. وَإِذَا بَطَلَ مَنْزَعُ الشَّافِعِيِّ وَمَأْخَذُهُ فَقَدْ اعْتَمَدَ عُلَمَاؤُنَا سِوَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَلَى أَنَّهُ ذَبْحٌ مُحَرَّمٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِمَعْنًى فِي الذَّابِحِ، فَلَا يَجُوزُ كَذَبْحِ الْمَجُوسِيِّ، وَهَذَا صَحِيحٌ. فَإِنَّ الَّذِي قَالَ: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] هُوَ الْقَائِلُ: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95]. وَالْأَوَّلُ: نَهْيٌ عَنْ الْمَقْصُودِ بِالسَّبَبِ، فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ السَّبَبِ. وَالثَّانِي: نَهْيٌ عَنْ السَّبَبِ، فَدَلَّ عَلَى عَدَمِهِ شَرْعًا، فَلَا يُفِيدُ مَقْصُودُهُ حُكْمًا، وَهَذَا مِنْ نَفِيسِ الْأُصُولِ فَتَأَمَّلُوهُ. وَقَوْلُ عُلَمَائِنَا: لِمَعْنًى فِي الذَّابِحِ فِيهِ احْتِرَازٌ مِنْ السِّكِّينِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْكَالَّةِ وَمِلْكِ الْغَيْرِ، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ التَّذْكِيَةِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ مَا لَمْ يَكُنْ لِمَعْنًى فِي الذَّابِحِ وَلَا فِي الْمَذْبُوحِ لَمْ يُحَرَّمْ. [مَسْأَلَةُ النُّهَى عَنْ قَتْلِ الصَّيْد حَالَة الأحرام] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] فَجَعَلَ الْقَتْلَ مُنَافِيًا لِلتَّذْكِيَةِ

مسألة صيد البحر

خَارِجًا عَنْ حُكْمِ الذَّبْحِ لِلْأَكْلِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَقْتُلَ وَلَدِي فَهُوَ عَاصٍ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَإِذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَذْبَحَ وَلَدِي فَإِنَّهُ يَفْتَدِيه بِشَاةٍ عَلَى تَفْصِيلِ بَيَانِهِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ بَيَانُهُ. وَالْمِقْدَارُ الْمُتَعَلِّقُ مِنْهُ هَاهُنَا بِهَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْقَتْلَ لَيْسَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّذْكِيَةِ بِمُطْلَقِهِ وَلَا الْخَنْقَ، وَلَا يُعَدُّ مِنْ بَابِ الذَّبْحِ أَوْ النَّحْرِ اللَّذَيْنِ شُرِعَا فِي الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ لِتَطْيِيبِهِ. [مَسْأَلَةُ صَيْدَ الْبَحْرِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] جَرَى عُمُومُهُ عَلَى كُلِّ صَيْدٍ بَرِّيٍّ وَبَحْرِيٍّ، حَتَّى جَاءَ قَوْله تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] فَأَبَاحَ صَيْدَ الْبَحْرِ إبَاحَةً مُطْلَقَةً، وَحَرَّمَ صَيْدَ الْبَرِّ عَلَى الْمُحْرِمِينَ؛ فَصَارَ هَذَا التَّقْسِيمُ وَالتَّنْوِيعُ دَلِيلًا عَلَى خُرُوجِ صَيْدِ الْبَحْرِ مِنْ النَّهْيِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] عَامٌّ فِي التَّحْرِيمِ بِالزَّمَانِ، وَفِي التَّحْرِيمِ بِالْمَكَانِ، وَفِي التَّحْرِيمِ بِحَالَةِ الْإِحْرَامِ، إلَّا أَنَّ تَحْرِيمَ الزَّمَانِ خَرَجَ بِالْإِجْمَاعِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا، وَبَقِيَ تَحْرِيمُ الْمَكَانِ وَحَالَةُ الْإِحْرَامِ عَلَى أَصْلِ التَّكْلِيفِ. [مَسْأَلَةُ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] عَامٌّ فِي كُلِّ صَيْدٍ كَانَ، مَأْكُولًا أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ، سَبُعًا أَوْ غَيْرَ سَبُعٍ، ضَارِيًا أَوْ غَيْرَ ضَارٍ، صَائِلًا أَوْ سَاكِنًا؛ بَيْدَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي خُرُوجِ السِّبَاعِ عَنْهُ وَتَخْصِيصِهِ مِنْهَا؛ فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ قَتْلُ السِّبَاعِ الْعَادِيَةِ الْمُبْتَدِئَةِ بِالْمَضَرَّةِ كَالْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالذِّئْبِ وَالْفَهْدِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَمِنْ الطَّيْرِ كَالْغُرَابِ وَالْحَدَأَةِ؛ وَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِنَا فِي الْكَلْبِ الْعَقُورِ وَالذِّئْبِ وَالْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ، وَخَالَفَنَا فِي السَّبُعِ وَالْفَهْدِ وَالنَّمِرِ وَغَيْرِهَا مِنْ السِّبَاعِ، فَأَوْجَبَ عَلَى الْمُحْرِمِ الْجَزَاءَ بِقَتْلِهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: كُلُّ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَلَا جَزَاءَ فِيهِ إلَّا السَّمْعُ وَهُوَ الْمُتَوَلِّدُ بَيْنَ الذِّئْبِ وَالضَّبُعِ.

وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «خَمْسٌ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ». وَفِي رِوَايَةٍ: «يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْحِدَأَةُ وَالْغُرَابُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ». وَفِي رِوَايَةٍ: «الْحَيَّةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ بِأَجْمَعِهِمْ. وَفِيهِ «الْغُرَابُ الْأَبْقَعُ» خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ، وَفِيهِ: «السَّبُعُ الْعَادِي» خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى الْعِلَّةِ وَعَلَى الْأَجْنَاسِ. أَمَّا الْعِلَّةُ فَهِيَ الْفِسْقُ بِالْإِذَايَةِ، وَأَمَّا الْأَجْنَاسُ فَنَبَّهَ بِكُلِّ مَذْكُورٍ عَلَى نَوْعٍ مِنْ الْجِنْسِ وَذَكَرَ الْكَلْبَ الْعَقُورَ، وَذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَهُ بِعِلَّةِ الْعَقْرِ الْفَهْدُ وَالسَّبُعُ، وَلَا سِيَّمَا بِالنَّصِّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ السِّجْزِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ. وَالْعَجَبُ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنْ يَحْمِلَ التُّرَابَ عَلَى الْبُرِّ بِعِلَّةِ الْكَيْلِ، وَلَا يَحْمِلَ السِّبَاعَ الْعَادِيَةَ عَلَى الْكَلْبِ الْعَقُورِ بِعِلَّةِ الْفِسْقِ وَالْعَقْرِ.

مسألة النهى عن قتل الصيد حالة الأحرام للرجال والنساء

وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِذَا قُلْنَا بِأَنَّ لَحْمَهَا لَا يُؤْكَلُ فَهِيَ مَعْقُورَةٌ لَا جَزَاءَ فِيهَا؛ لِأَنَّ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لَا جَزَاءَ فِيهِ كَالْخِنْزِيرِ. وَأَمَّا إنْ قُلْنَا: إنَّهَا تُؤْكَلُ فَفِيهَا الْجَزَاءُ لِأَنَّهَا صَيْدٌ مَأْكُولٌ. وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِي أَكْلِهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ إنْ شَاءَ اللَّهَ تَعَالَى. وَتَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّهُ صَيْدٌ تَتَنَاوَلُهُ الْآيَةُ بِالنَّهْيِ وَالْجَزَاءِ بَعْدَ ارْتِكَابِ النَّهْيِ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ صَيْدٌ أَنَّهُ يُقْصَدُ لِأَجْلِ جِلْدِهِ، وَالْجِلْدُ مَقْصُودٌ فِي الْمَالِيَّةِ، كَمَا أَنَّ اللَّحْمَ مَقْصُودٌ فِي الْأَكْلِ. قُلْنَا: لَا تُسَمِّي الْعَرَبُ صَيْدًا إلَّا مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ. فَإِنْ قِيلَ: بَلْ كَانَتْ الْحَيَوَانَاتُ كُلُّهَا عِنْدَ الْعَرَبِ صَيْدًا. فَإِنَّهَا كَانَتْ تَأْكُلُ كُلَّ مَا دَبَّ وَدَرَجَ، ثُمَّ جَاءَ الشَّرْعُ بِالتَّحْرِيمِ، فَغَيَّرَ الشَّرْعُ الْأَحْكَامَ دُونَ الْأَسْمَاءِ. قُلْنَا: هَذَا جَهْلٌ عَظِيمٌ، إنَّ الصَّيْدَ لَا يُعْرَفُ إلَّا فِيمَا يُؤْكَلُ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الشَّرْعَ غَيَّرَ الْأَحْكَامَ دُونَ الْأَسْمَاءِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَابِعَةٌ لِلْأَسْمَاءِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي عَمَّارٍ أَنَّهُ قَالَ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. الضَّبُعُ أَصَيْدٌ هِيَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فِيهَا جَزَاءٌ؛ قَالَ: نَعَمْ، كَبْشٌ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ جَوَازِ أَكْلِهَا، وَبَعْدَ ذَلِكَ سَأَلَهُ عَنْ جَزَائِهَا. [مَسْأَلَة النُّهَى عَنْ قَتْلَ الصَّيْد حَالَة الأحرام لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاء] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] عَامٌّ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 95]. وَلِقَوْلِهِ: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] وَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 95] عَامٌّ فِي النَّوْعَيْنِ. وَقَوْلِهِ: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95]، يُقَالُ: رَجُلٌ حَرَامٌ وَامْرَأَةٌ حَرَامٌ، وَجَمْعُ ذَلِكَ حُرُمٌ، كَقَوْلِنَا: قَذَالٌ وَقُذُلٌ. وَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ الْأَحْرَارُ وَالْعَبِيدُ، وَهِيَ:

مسألة قوله تعالى ومن قتله منكم متعمدا

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَعَانِي فِي كُتُبِ الْأُصُولِ. [مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] فَذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُتَعَمِّدَ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ خَاصَّةً، وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ، مُتَعَمِّدٌ، وَمُخْطِئٌ، وَنَاسٍ؛ فَالْمُتَعَمِّدُ هُوَ الْقَاصِدُ لِلصَّيْدِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْإِحْرَامِ، وَالْمُخْطِئُ هُوَ الَّذِي يَقْصِدُ شَيْئًا فَيُصِيبُ صَيْدًا. وَالنَّاسِي هُوَ الَّذِي يَتَعَمَّدُ الصَّيْدَ وَلَا يَذْكُرُ إحْرَامَهُ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ. الثَّانِي: إذَا قَتَلَهُ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ، نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ؛ فَأَمَّا إذَا كَانَ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ فَقَدْ حَلَّ وَلَا حَجَّ لَهُ، وَمَنْ أَخْطَأَ فَذَلِكَ الَّذِي يُجْزِي. الثَّالِثُ: لَا شَيْءَ عَلَى الْمُخْطِئِ وَالنَّاسِي، وَبِهِ قَالَ الطَّبَرِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ. وَاخْتَلَفَ الَّذِينَ قَالُوا بِعُمُومِ الْكَفَّارَةِ فِي تَوْجِيهِ ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ وَرَدَ الْقُرْآنُ بِالْعَمْدِ، وَجَعَلَ الْخَطَأُ تَغْلِيظًا؛ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: {مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] خَرَجَ عَلَى الْغَالِبِ، فَأُلْحِقَ بِهِ النَّادِرُ، كَسَائِرِ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ. الثَّالِثُ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: إنَّهُ وَجَبَ الْجَزَاءُ فِي الْعَمْدِ بِالْقُرْآنِ، وَفِي الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ بِالسُّنَّةِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ وَجَبَ بِالْقِيَاسِ عَلَى قَاتِلِ الْخَطَأِ بِعِلَّةِ أَنَّهَا كَفَّارَةُ إتْلَافِ نَفْسٍ؛ فَتَعَلَّقَتْ بِالْخَطَأِ، كَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ؛ وَتَعَلَّقَ مُجَاهِدٌ بِأَنَّهُ أَرَادَ مُتَعَمِّدًا لِلْقَتْلِ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ، لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95]، وَلَوْ كَانَ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ لَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ.

مسألة معنى قوله تعالى فجزاء مثل ما قتل من النعم

وَتَعَلَّقَ أَحْمَدُ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ وَمَنْ تَابَعَهُ عَلَيْهَا بِأَنَّهُ خَصَّ الْمُتَعَمِّدَ بِالذِّكْرِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ بِخِلَافِهِ، وَزَادَ بِأَنْ قَالَ الْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، فَمَنْ ادَّعَى شَغْلَهَا فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ. وَأَمَّا مُتَعَلِّقُ مَنْ قَالَ: وَجَبَ فِي النِّسْيَانِ تَغْلِيظًا فَدَعْوَى تَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ خَرَجَ عَلَى الْغَالِبِ فَحِكْمَةُ الْآيَةِ وَفَائِدَةُ التَّخْصِيصِ مَا قَالُوهُ، فَأَيْنَ دَلِيلُهُ؟ وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ وَجَبَ فِي النِّسْيَانِ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ بِهِ الْآثَارَ الَّتِي وَرَدَتْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ فَنِعِمَّا هِيَ، وَمَا أَحْسَنُهَا أُسْوَةً، وَأَمَّا مَنْ تَعَلَّقَ بِالْقِيَاسِ عَلَى كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَيَصِحُّ ذَلِكَ لِلشَّافِعِيِّ الَّذِي يَرَى الْكَفَّارَةَ فِي قَتْلِ الْآدَمِيِّ عَمْدًا وَخَطَأً، فَأَمَّا نَحْنُ وَقَدْ عَقَدْنَا أَصْلَنَا عَلَى أَنَّ قَتْلَ الْعَمْدِ فِي الْآدَمِيِّ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ، وَفِي قَتْلِ الصَّيْدِ عَمْدًا الْكَفَّارَةَ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ مِنَّا لِوُجُودِ الْمُنَاقَضَةِ مِنَّا بِالْمُخَالَفَةِ فِيهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ عِنْدَنَا. وَاَلَّذِي يَتَحَقَّقُ مِنْ الْآيَةِ أَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّ مَنْ قَتَلَ الصَّيْدَ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ، أَوْ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِهِ، فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكْفِي لِوَصْفِ التَّعَمُّدِ، فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ، لِاكْتِفَاءِ الْمَعْنَى مَعَهُ. وَهَذَا دَقِيقٌ فَتَأَمَّلُوهُ. فَأَمَّا إذَا قَتَلَهُ مُتَعَمِّدًا لِلْقَتْلِ وَالْإِحْرَامِ فَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي وَصْفِ الْعَمْدِيَّةِ؛ لَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: لَا حَجَّ لَهُ. وَهَذِهِ دَعْوَى لَا يَدُلُّك عَلَيْهَا دَلِيلٌ مِنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَلَا مِنْ السُّنَّةِ وَلَا مِنْ الْمَعْنَى، وَسَنَسْتَوْفِي بَقِيَّةَ الْقَوْلِ فِي آخِرِ الْآيَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. [مَسْأَلَةُ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] الْجَزَاءُ فِي اللُّغَةِ هُوَ: الْمُقَابِلُ لِلشَّيْءِ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ فِي مُقَابِلِ مَا أَتْلَفَ وَبَدَلٌ مِنْهُ؛ وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ " مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ "

مسألة معنى قوله تعالى مثل ما قتل من النعم

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَمْثَالُهُ قَبْلَ هَذَا، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ جَزَاءُ الْأَعْمَالِ؛ لِأَنَّ فِي مُقَابَلَتِهَا ثَوَابًا بِثَوَابٍ وَعِقَابًا بِعِقَابٍ، وَدَرَجَاتٍ وَدَرَكَاتٍ؛ وَذَلِكَ مُحَقَّقٌ فِي كِتَابِ الْمُشْكَلَيْنِ. [مَسْأَلَةُ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى مِثْلُ مَا قَتْلَ مِنْ النَّعَمِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: {مِثْلُ} [المائدة: 95] قُرِئَ بِخَفْضِ مِثْلَ عَلَى الْإِضَافَةِ إلَى {فَجَزَاءٌ} [المائدة: 95]. وَبِرَفْعِهِ وَتَنْوِينِهِ صِفَةً لِلْجَزَاءِ؛ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ رِوَايَةً، صَوَابٌ مَعْنًى، فَإِذَا كَانَ عَلَى الْإِضَافَةِ اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ غَيْرَ الْمِثْلِ؛ إذْ الشَّيْءُ لَا يُضَافُ إلَى نَفْسِهِ، وَإِذَا كَانَ الصِّفَةُ بِرَفْعِهِ وَتَنْوِينِهِ اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمِثْلُ هُوَ الْجَزَاءَ بِعَيْنِهِ، لِوُجُوبِ كَوْنِ الصِّفَةِ عَيْنَ الْمَوْصُوفِ؛ وَسَتَرَى ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ مَشْرُوحًا إنْ شَاءَ اللَّهَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] قَدْ بَيَّنَّا فِي " مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ " دَرَجَاتِ حَرْفِ مِنْ، وَأَنَّ مِنْ جُمْلَتِهَا بَيَانُ الْجِنْسِ، كَقَوْلِك: خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ، وَقَدَّمْنَا قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ السَّرَّاجِ فِي شَرْحِ كِتَابِ سِيبَوَيْهِ الَّذِي أَوْقَفَنَا عَلَيْهِ شَيْخُ السُّنَّةِ فِي وَقْتِهِ أَبُو عَلِيٍّ الْحَضْرَمِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّهَا لَا تَكُونُ لِلتَّبْعِيضِ بِحَالٍ، وَلَا فِي مَوْضِعٍ، وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّبْعِيضُ فِيهَا بِالْقَرِينَةِ، فَجَاءَتْ مُقْتَرِنَةً بِقَوْلِهِ: {مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] لِبَيَانِ جِنْسٍ مِثْلِ الْمَقْتُولِ الْمُفْدَى، وَأَنَّهُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةُ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] قَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ، وَمِثْلُ الشَّيْءِ حَقِيقَتُهُ وَهُوَ شَبَهُهُ فِي الْخِلْقَةِ الظَّاهِرَةِ، وَيَكُونُ مِثْلَهُ فِي مَعْنًى، وَهُوَ مَجَازُهُ؛ فَإِذَا أُطْلِقَ الْمِثْلُ اقْتَضَى بِظَاهِرِهِ حَمْلَهُ عَلَى الشَّبَهِ الصُّورِيِّ دُونَ الْمَعْنَى، لِوُجُوبِ الِابْتِدَاءِ بِالْحَقِيقَةِ فِي مُطْلَقِ الْأَلْفَاظِ قَبْلَ الْمَجَازِ حَتَّى يَقْتَضِيَ الدَّلِيلُ مَا يَقْضِي فِيهِ مِنْ صَرْفِهِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إلَى مَجَازِهِ؛ فَالْوَاجِبُ هُوَ الْمِثْلُ الْخِلْقِيُّ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّمَا يُعْتَبَرُ بِالْمِثْلِ. فِي الْقِيمَةِ دُونَ الْخِلْقَةِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ الْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَذَلِكَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمِثْلَ حَقِيقَةً هُوَ الْمِثْلُ مِنْ طَرِيقِ الْخِلْقَةِ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: {مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] فَبَيَّنَ جِنْسَ الْمِثْلِ، وَلَا اعْتِبَارَ عِنْدَ الْمُخَالِفِ بِالنَّعَمِ بِحَالٍ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] وَهَذَا ضَمِيرٌ رَاجِعٌ إلَى مِثْلِ مِنْ النَّعَمِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرٌ سِوَاهُ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ إلَيْهِ. وَالْقِيمَةُ الَّتِي يَزْعُمُ الْمُخَالِفُ أَنَّهُ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ إلَيْهَا لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهَا ذِكْرٌ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ قَالَ: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] وَاَلَّذِي يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْهَدْيُ مِثْلُ الْمَقْتُولِ مِنْ النَّعَمِ؛ فَأَمَّا الْقِيمَةُ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ هَدْيًا. فَإِنْ قِيلَ: الْقِيمَةُ مِثْلٌ شَرْعِيٌّ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى فِي الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ، حَتَّى يُقَالَ الْقِيمَةُ مِثْلٌ لِلْعَبْدِ، وَلَا يَجْعَلُ فِي الْإِتْلَافِ مِثْلَهُ عَبْدًا يَغْرَمُ فِيهِ، وَأَوْجَبْنَا فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فِي الْمُتْلِفَاتِ الْمِثْلَ خِلْقَةً؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ كَالطَّعَامِ وَالدُّهْنَ كَالدُّهْنِ؛ وَلَمْ يُوجَبْ فِي الْعَبْدِ عَبْدٌ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ الْخِلْقَةَ لَمْ تَقُمْ بِالْمِثْلِيَّةِ، فَكَيْفَ أَنْ يَجْعَلَ الْبَدَنَةَ مِثْلًا لِلنَّعَامَةِ. قُلْنَا: هَذَا مَزْلَقٌ يَنْبَغِي أَنْ يَتَثَبَّتَ فِيهِ قَدَمُ النَّاظِرِ قَلِيلًا، وَلَا يَطِيشَ حُلْمُهُ، فَاسْمَعْ مَا نَقُولُ، فَلَا خَفَاءَ بِوَاضِحِ الدَّلِيلِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَلَيْسَ يُعَارِضُهُ الْآنَ مَا مَوَّهُوا بِهِ مِنْ أَنَّ النَّعَامَةَ لَا تُمَاثِلُهَا الْبَدَنَةُ؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ قَضَوْا بِهَا فِيهَا، وَهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ أَفْهَمُ، وَبِالْمِثْلِ مِنْ طَرِيقِ الْخِلْقَةِ وَالْمَعْنَى أَعْلَمُ، فَلَا يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ سِوَاهُ إلَّا وَهَمَ، وَلَا يَتَّهِمُهُمْ فِي قُصُورِ النَّظَرِ، إلَّا مَنْ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ. وَالدَّقِيقَةُ فِيهِ أَنَّ مُرَاعَاةَ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ مَعَ شَبَهٍ وَاحِدٍ مِنْ طَرِيقِ الْخِلْقَةِ أَوْلَى مِنْ إسْقَاطِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ مَعَ التَّوَفُّرِ عَلَى مُرَاعَاةِ الشَّبَهِ الْمَعْنَوِيِّ؛ هَذَا مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِدَرْكِهِ فِي مَطْرَحِ النَّظَرِ إلَّا نَافِذُ الْبَصِيرَةِ وَالْبَصَرِ. فَإِنْ قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ قَوَّمُوا النَّعَامَةَ بِدَرَاهِمَ، ثُمَّ قَوَّمُوا الْبَدَنَةَ بِدَرَاهِمَ. قُلْنَا: هَذَا جَهْلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ سَرْدَ الرِّوَايَاتِ عَلَى مَا سَنُورِدُهُ يُبْطِلُ هَذَا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْهُ.

الثَّانِي: أَنَّ قِيمَةَ النَّعَامَةِ لَمْ تُسَاوِ قَطُّ قِيمَةَ الْبَدَنَةِ فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ، لَا مُتَقَدِّمٍ وَلَا مُتَأَخِّرٍ، عُلِمَ ذَلِكَ ضَرُورَةً وَعَادَةً، فَلَا يَنْطِقُ بِمِثْلِ هَذَا إلَّا مُتَسَاخِفٌ بِالنَّظَرِ. وَإِنَّمَا سَقَطَتْ الْمِثْلِيَّةُ فِي الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْحَيَوَانِ مِنْ بَابِ الْمُزَابَنَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الشَّبَهُ مِنْ طَرِيقِ الْخِلْقَةِ مُعْتَبَرًا، فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ، وَفِي الْحِمَارِ بَقَرَةٌ، وَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ لَمَا أَوْقَفَهُ عَلَى عَدْلَيْنِ يَحْكُمَانِ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ عُلِمَ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الِارْتِيَاءِ وَالنَّظَرِ، وَإِنَّمَا يَفْتَقِرُ إلَى الْعُدُولِ وَالْحُكْمِ مَا يُشْكَلُ الْحَالُ فِيهِ وَيَضْطَرِبُ وَجْهُ النَّظَرِ عَلَيْهِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ اعْتِبَارَ الْحُكْمَيْنِ إنَّمَا وَجَبَ فِي حَالِ الْمَصِيدِ مِنْ صِغَرٍ وَكِبَرٍ، وَمَا لَهُ جِنْسٌ مِمَّا لَا جِنْسَ لَهُ، وَلْيَعْتَبِرْ مَا وَقَعَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهِ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَيَلْحَقُ بِهِ مَا لَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمْ نَصٌّ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95]، فَشَرَكَ بَيْنَهُمَا بِ " أَوْ " فَصَارَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ، أَوْ مِنْ الطَّعَامِ، أَوْ مِنْ الصِّيَامِ، وَتَقْدِيرُ الْمِثْلِيَّةِ فِي الطَّعَامِ وَالصِّيَامِ بِالْمَعْنَى، وَكَذَلِكَ فِي الْمِثْلِ الْأَوَّلِ. قُلْنَا: هَذَا جَهْلٌ أَوْ تَجَاهُلٌ؛ فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] ظَاهِرٌ كَمَا قَدَّمْنَا فِي مِثْلِ الْخِلْقَةِ، وَمَا عَدَاهُ يَمْتَنِعُ فِيهِ مِثْلِيَّةُ الْخِلْقَةِ حِسًّا؛ فَرَجَعَ إلَى مِثْلِيَّةِ الْمَعْنَى حُكْمًا، وَلَيْسَ إذَا عُدِمَ الْمَعْنَى الْمَطْلُوبُ فِي مَوْضِعٍ وَيَرْجِعُ إلَى بَدَلِهِ يَلْزَمُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى بَدَلِهِ مَعَ وُجُودِهِ. تَكْمِلَةٌ: وَمَنْ يَعْجَبُ فَعَجَبٌ مِنْ قِرَاءَةِ الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ وَالْبَصْرِيِّ وَالشَّامِيِّ: فَجَزَاءُ مِثْلِ بِالْإِضَافَةِ؛ وَهَذَا يَقْتَضِي الْغَيْرِيَّةَ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إلَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ لِمِثْلِ

الْمَقْتُولِ لَا الْمَقْتُولِ، وَمِنْ قِرَاءَةِ الْكُوفِيِّينَ: فَجَزَاءً مِثْلَ عَلَى الْوَصْفِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ هُوَ الْمِثْلَ. وَيَقُولُ أَهْلُ الْكُوفَةِ مِنْ الْفُقَهَاءِ: إنَّ الْجَزَاءَ غَيْرُ الْمِثْلِ. وَيَقُولُ الْمَدَنِيُّونَ وَالْمَكِّيُّونَ وَالشَّامِيُّونَ مِنْ الْفُقَهَاءِ: إنَّ الْجَزَاءَ هُوَ الْمِثْلُ؛ فَيَبْنِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَذْهَبَهُ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى ظَاهِرِ قِرَاءَةِ قُرَّاءِ بَلَدِهِ. وَقَدْ قَالَ لَنَا الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ الْقَرَافِيُّ الزَّاهِدُ: إنَّ ابْنَ مَعْقِلٍ الْكَاتِبَ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ النَّحْوِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ جَزَاءُ الْمَقْتُولِ لَا جَزَاءُ مِثْلِ الْمَقْتُولِ. وَالْإِضَافَةُ تُوجِبُ جَزَاءَ الْمِثْلِ لَا جَزَاءَ الْمَقْتُولِ. قَالَ: وَمَنْ أَضَافَ الْجَزَاءَ إلَى الْمِثْلِ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ عَلَى تَقْدِيرِ إقْحَامِ الْمِثْلِ؛ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ: أَنَا أُكْرِمُ مِثْلَك؛ أَيْ أُكْرِمُك. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: وَذَلِكَ سَائِغٌ فِي اللُّغَةِ، وَعَلَيْهِ يُخَرَّجُ أَحَدُ التَّأْوِيلَاتِ فِي قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]. وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: فِي سَرْدِ الْآثَارِ عَنْ السَّلَفِ فِي الْبَابِ: وَفِي ذَلِكَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ، لُبَابُهَا سَبْعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ السُّدِّيُّ: " فِي النَّعَامَةِ وَالْحِمَارِ بَدَنَةٌ، وَفِي بَقَرَةِ الْوَحْشِ أَوْ الْإِبِلِ أَوْ الْأَرْوَى بَقَرَةٌ، وَفِي الْغَزَالِ وَالْأَرْنَبِ شَاةٌ، وَفِي الضَّبِّ وَالْيَرْبُوعِ سَخْلَةٌ قَدْ أَكَلَتْ الْعُشْبَ، وَشَرِبَتْ الْمَاءَ، فَفَرَّقَ بَيْنَ صَغِيرِ الصَّيْدِ وَكَبِيرِهِ. الثَّانِي: قَالَ عَطَاءٌ: " صَغِيرُ الصَّيْدِ وَكَبِيرُهُ سَوَاءٌ " لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]، مُطْلَقًا، وَلَا يَفْصِلُ بَيْنَ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ. الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " تُطْلَبُ صِفَةُ الصَّيْدِ، فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ قُوِّمَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ قُوِّمَتْ الدَّرَاهِمُ بِالْحِنْطَةِ، ثُمَّ صَامَ مَكَانَ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا ". الرَّابِعُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " تُذْبَحُ عَنْ الظَّبْيِ شَاةٌ؛ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَطْعَمَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ سِتَّةَ أَيَّامٍ ".

مسألة الفرق بين صغير الصيد وكبيره

الْخَامِسُ: قَالَ الضَّحَّاكُ: " الْمِثْلُ مَا كَانَ لَهُ قَرْنٌ كَوَعْلٍ وَأُيَّلٍ فَدَاهُ بِبَقَرَةٍ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قَرْنٌ كَالنَّعَامَةِ وَالْحِمَارِ فَفِيهِ بَدَنَةٌ، وَمَا كَانَ مِنْ ظَبْيٍ فَمِنْ النَّعَمِ مِثْلُهُ، وَفِي الْأَرْنَبِ ثَنِيَّةٌ، وَمَا كَانَ مِنْ يَرْبُوعٍ فَفِيهِ جَمَلٌ صَغِيرٌ. فَإِنْ أَصَابَ فَرْخَ صَيْدٍ أَوْ بِيضَهُ تَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ، أَوْ صَامَ مَكَانَ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا ". السَّادِسُ: قَالَ النَّخَعِيُّ: " يُقَوِّمُ الصَّيْدَ الْمَقْتُولَ بِقِيمَتِهِ مِنْ الدَّرَاهِمِ، ثُمَّ يَشْتَرِي الْقَاتِلُ بِقِيمَتِهِ فِدَاءً مِنْ النَّعَمِ، ثُمَّ يُهْدِيه إلَى الْكَعْبَةِ ". السَّابِعُ: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: " أَحْسَنُ مَا سَمِعْت فِي الَّذِي يَقْتُلُ الصَّيْدَ فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ فِيهِ أَنَّهُ يُقَوِّمُ الصَّيْدَ الَّذِي أَصَابَ، فَيَنْظُرُ كَمْ ثَمَنُهُ مِنْ الطَّعَامِ؛ فَيُطْعِمُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا، أَوْ يَصُومُ مَكَانَ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا ". وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ: " إنْ قَوَّمَ الصَّيْدَ دَرَاهِمَ ثُمَّ قَوَّمَهَا طَعَامًا أَجْزَأَهُ ". وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِثْلَهُ قَالَ عَنْهُ: وَهُوَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِالْخِيَارِ أَيْ ذَلِكَ فِعْلٌ أَجْزَأَهُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ. [مَسْأَلَةُ الْفَرْقُ بَيْنَ صَغِير الصَّيْد وَكَبِيرِهِ] فَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ صَغِيرِ الصَّيْدِ وَكَبِيرِهِ وَهِيَ [الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: [الْفَرْقُ بَيْنَ صَغِيرِ الصَّيْدِ وَكَبِيرِهِ]: فَصَحِيحٌ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِالْمِثْلِيَّةِ فِي الْخِلْقَةِ، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ مُتَفَاوِتَانِ فِيهَا، فَوَجَبَ اعْتِبَارُ التَّفَاوُتُ فَإِنَّهُ أَمْرٌ يَعُودُ إلَى التَّقْوِيمِ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الصَّغِيرِ فِيهِ وَالْكَبِيرِ كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ؛ وَهُوَ اخْتِيَارُ عُلَمَائِنَا، وَلِذَلِكَ قَالُوا: لَوْ كَانَ الصَّيْدُ أَعْوَرَ أَوْ أَعْرَجَ أَوْ كَسِيرًا لَكَانَ الْمِثْلُ عَلَى صِفَتِهِ لِتَحَقُّقِ الْمِثْلِيَّةِ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُتْلِفَ فَوْقَ مَا أَتْلَفَ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: وَأَمَّا تَرْتِيبُ الثَّلَاثَةِ الْوَاجِبَاتِ فِي هَذِهِ الْمِثْلِيَّةِ وَهِيَ:

مسألة تقدير الطعام والصيام

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: فَاَلَّذِي اخْتَارَهُ عُلَمَاؤُنَا كَمَا تَقَدَّمَ أَنْ يَكُونَ بِالْخِيَارِ فِيهَا، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، وَقَالُوا: كُلُّ شَيْءٍ يَكُونُ فِيهِ " أَوْ " فَهُوَ فِيهِ بِالْخِيَارِ. وَتَحْقِيقُ الْمَسْأَلَةِ عِنْدِي أَنَّ الْأَمْرَ مَصْرُوفٌ إلَى الْحَكَمَيْنِ، فَمَا رَأَيَاهُ مِنْ ذَلِكَ لَزِمَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة تَقْدِيرُ الطَّعَامِ وَالصِّيَامِ] وَأَمَّا تَقْدِيرُ الطَّعَامِ وَالصِّيَامِ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: فَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، حَيْثُ قَدَّرَهُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ مِسْكِينًا بِيَوْمٍ، وَلَا يُعْدَلُ عَنْ تَقْدِيرِهِ تَعَالَى وَتُقَدَّسُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ التَّقْدِيرَاتِ تَتَعَارَضُ فِيهِ الْأَقْوَالُ، وَلَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ؛ فَالِاقْتِصَارُ عَلَى الشَّاهِدِ الْجَلِيِّ أَوْلَى. [مَسْأَلَةُ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ: قَوْله تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يُقِيمُ الْمُتْلِفُ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ فَقِيهَيْنِ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَيَنْظُرَانِ فِيمَا أَصَابَ، وَيَحْكُمَانِ عَلَيْهِ بِمَا رَأَيَاهُ فِي ذَلِكَ، فَمَا حَكَمَا عَلَيْهِ لَزِمَهُ. وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ إنْ كَانَ الْإِمَامُ حَاضِرًا أَوْ نَائِبَهُ أَنَّهُ يَكُونُ الْحُكْمُ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا أَقَامَ حِينَئِذٍ الْمُتْلِفُ مَنْ يَحْكُمُ عَلَيْهِ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى التَّحْكِيمِ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: وَقَدْ تَقَدَّمَ الذِّكْرُ فِيهِ، وَلِأَجْلِهِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّهُ يَجُوزُ حُكْمُهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ؛ وَذَلِكَ عِنْدِي صَحِيحٌ؛ إذْ يَتَعَذَّرُ أَمْرُهُ. وَقَدْ رَوَى جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ قَالَ: أَصَبْت صَيْدًا، وَأَنَا مُحْرِمٌ، فَأَتَيْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَأَخْبَرْته، فَقَالَ: " ائْتِ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِك فَلْيَحْكُمَا عَلَيْك " فَأَتَيْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَسَعْدًا، فَحَكَمَا عَلَيَّ بِتَيْسٍ أَعْفَرَ. وَهُوَ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى فَصْلَ الْقَضَاءِ رَجُلَانِ، وَقَدْ مَنَعَتْهُ الْجَهَلَةُ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ اجْتِهَادِهِمَا يُوجِبُ تَوَقُّفَ الْأَحْكَامِ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ بَعَثَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى إلَى الْيَمَنِ، كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى مِخْلَافٍ، وَبَعَثَ أُنَيْسًا إلَى الْمَرْأَةِ الْمَرْجُومَةِ، وَلَمْ

مسألة هديا بالغ الكعبة

يَأْتِ الِاشْتِرَاكُ فِي الْحُكْمِ إلَّا فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ؛ لِأَجْلِ أَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا خُصُومَةَ فِيهَا، فَإِنْ اتَّفَقَا لَزِمَ الْحُكْمُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ اخْتَلَفَا نُظِرَ فِي غَيْرِهِمَا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ: وَلَا يَأْخُذُ بِأَرْفَعِ قَوْلِهِمَا؛ يُرِيدُ لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِغَيْرِ تَحْكِيمٍ، وَكَذَلِكَ لَا يَنْتَقِلُ عَنْ الْمِثْلِ الْخِلْقِيِّ، إذَا حَكَمَا بِهِ، إلَى الطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ قَدْ لَزِمَ قَالَهُ ابْنُ شَعْبَانَ؛ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إنْ أَمَرَهُمَا أَنْ يَحْكُمَا بِالْجَزَاءِ مِنْ الْمِثْلِ فَفَعَلَا، فَأَرَادَ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى الطَّعَامِ جَازَ. وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَجَاوُزٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: إنْ أَمَرَهُمَا أَنْ يَحْكُمَا بِالْمِثْلِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُحَكِّمُهُمَا. ثُمَّ يَنْظُرَانِ فِي الْقَضِيَّةِ، فَمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُمَا لَزِمَهُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْهُ. وَهُوَ الثَّانِي لِأَنَّهُ نَقْضٌ لِحُكْمِهِمَا؛ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِالْتِزَامِهِ لِحُكْمِهِمَا. [مَسْأَلَة هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]: الْمَعْنَى إذَا حَكَمَا بِالْمِثْلِ يَفْعَلُ بِهِ مَا يَفْعَلُ بِالْهَدْيِ، يُقَلِّدُهُ وَيُشْعِرُهُ، وَيُرْسِلُهُ إلَى مَكَّةَ وَيَنْحَرُهُ بِهَا، وَيَتَصَدَّقُ بِهِ فِيهَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْهَدْيَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْحَرَمِ. وَاخْتُلِفَ هَلْ يُفْتَقَرُ إلَى حِلٍّ مَعَهُ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ يَبْتَاعُ بِالْحِلِّ، وَيُقَلِّدُ وَيُشْعِرُ، وَيَدْفَعُ إلَى الْحَرَمِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَحْتَاجُ إلَى الْحِلِّ. وَحَقِيقَةُ قَوْله تَعَالَى: {بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] يَقْتَضِي أَنْ يَهْدِيَ مِنْ مَكَان يَبْلُغُ مِنْهُ إلَى الْكَعْبَةِ، وَلَمْ يُرِدْ الْكَعْبَةَ بِعَيْنِهَا؛ فَإِنَّ الْهَدْيَ لَا يَبْلُغُهَا، إذْ هِيَ فِي الْمَسْجِدِ وَإِنَّمَا أَرَادَ الْحَرَمَ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّ الصَّغِيرَ مِنْ الْهَدْيِ يَجِبُ فِي الصَّغِيرِ مِنْ الصَّيْدِ، لِأَنَّهُ يَبْتَاعُهُ فِي الْحَرَمِ وَيُهْدِيه فِيهِ.

مسألة إذا قتل المحرم ظبيا ونحوه

وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَكُونُ الْجَزَاءُ فِي الصَّغِيرِ إلَّا بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ الصَّغِيرَ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ إلَى الْحَرَمِ، وَهَذَا لَا يُغْنِي؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ قَضَتْ فِي الصَّغِيرِ صَغِيرًا، وَفِي الْكَبِيرِ كَبِيرًا، وَإِذَا تَعَذَّرَ حَمْلُهُ إلَى الْحَرَمِ حُمِلَتْ قِيمَتُهُ، كَمَا لَوْ قَالَ بِالْمَغْرِبِ: بَعِيرِي هَذَا هَدْيٌ، فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُحْمَلُ ثَمَنُهُ إلَى مَكَّةَ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي صَغِيرِ الْهَدْيِ مِثْلُهُ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ صَغِيرَ الْهَدْيِ مِثْلُ كَبِيرِهِ فِي الْقِيمَةِ، كَمَا أَنَّ صَغِيرَ الْآدَمِيِّ مِثْلُ كَبِيرِهِ فِي الدِّيَةِ. وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ الدِّيَةَ مُقَدَّرَةٌ جَبْرًا، وَهَذَا مُقَدَّرٌ نَظَرًا، يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ، فَافْتَرَقَا. [مَسْأَلَة إذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ ظَبْيًا وَنَحْوَهُ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ كَفَّارَةٌ} [المائدة: 95] سَمَّاهُ بِهَا لِيُبَيِّنَّ أَنَّ الطَّعَامَ عَنْ الصَّيْدِ لَا عَنْ الْهَدْيِ، وَلِيُلْحِقَهَا بِأَمْثَالِهَا وَنَظَائِرِهَا عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة: 95] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ ظَبْيًا وَنَحْوَهُ فَعَلَيْهِ شَاةٌ تُذْبَحُ بِمَكَّةَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَإِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَإِنْ قَتَلَ أُيَّلًا أَوْ نَحْوَهُ فَعَلَيْهِ بَقَرَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَطْعَمَ عِشْرِينَ مِسْكِينًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ عِشْرِينَ يَوْمًا، وَإِنْ قَتَلَ نَعَامَةً أَوْ حِمَارًا فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ مِنْ الْإِبِلِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَإِطْعَامُ ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَالطَّعَامُ مُدٌّ مُدٌّ لِشِبَعِهِمْ وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا: إنْ لَمْ يَجِدْ جَزَاءً قَوَّمَ الْجَزَاءَ دَرَاهِمَ، ثُمَّ قُوِّمَتْ الدَّرَاهِمُ حِنْطَةً، ثُمَّ صَامَ مَكَانَ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا. وَقَالَ: إنَّمَا أُرِيدَ بِالطَّعَامِ الصَّوْمَ، فَإِذَا وَجَدَ طَعَامًا وَجَبَ جَزَاءً. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ النَّخَعِيِّ، وَمُجَاهِدٍ، وَالسُّدِّيِّ، وَحَمَّادٍ، وَغَيْرِهِمْ.

مسألة الاشتراك في قتل الصيد المحرم

فَأَمَّا قَوْلُهُ: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَإِطْعَامُ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ عَلَى التَّخْيِيرِ لَا عَلَى التَّرْتِيبِ بِمَا يَقْتَضِيه حَرْفُ " أَوْ " فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. وَأَمَّا تَقْدِيرُ الطَّعَامِ فِي الظَّبْيِ بِسِتَّةِ مَسَاكِينَ، وَفِي الْبَدَنَةِ بِثَلَاثِينَ مِسْكِينًا فَلَيْسَ بِتَقْدِيرٍ نَافِذٍ؛ وَإِنَّمَا هُوَ تَحَكُّمٌ بِاخْتِيَارِ قِيمَةِ الطَّعَامِ بِالدَّرَاهِمِ أَصْلًا أَوْ بَدَلًا كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ يُعْطَى عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا لَا نِصْفَ صَاعٍ. وَقَدْ رَوَى بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ: كَانَ رَجُلَانِ مِنْ الْأَعْرَابِ مُحْرِمِينَ، فَحَاشَ أَحَدُهُمَا صَيْدًا فَقَتَلَهُ الْآخَرُ، فَأَتَيَا عُمَرُ، وَعِنْدَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا تَرَى؟ قَالَ: شَاةٌ. قَالَ: وَأَنَا أَرَى ذَلِكَ. اذْهَبَا فَأَهْدَيَا شَاةً. فَلَمَّا مَضَيَا قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا دَرَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَا يَقُولُ، حَتَّى سَأَلَ صَاحِبَهُ. فَسَمِعَهُ عُمَرُ، فَرَدَّهُمَا، فَقَالَ: هَلْ تَقْرَآنِ سُورَةَ الْمَائِدَةِ؟ فَقَالَا: لَا. فَقَرَأَ عَلَيْهِمَا: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا} [المائدة: 95] ثُمَّ قَالَ: اسْتَعَنْت بِصَاحِبِي هَذَا. وَعَنْ قَبِيصَةَ وَصَاحِبٍ لَهُ أَنَّهُمَا أَصَابَا وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَقَالَ لِصَاحِبِهِ: إنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ. فَسَمِعَهُمَا عُمَرُ. فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ ضَرْبًا بِالدِّرَّةِ، وَقَالَ: تَقْتُلُ الصَّيْدَ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ، وَتَغْمِصُ الْفُتْيَا، إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95]. وَهَذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَأَنَا عُمَرُ. [مَسْأَلَة الِاشْتِرَاكَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ الْمُحَرَّمِ] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ الْمُحَرَّمِ يُوجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِكِينَ كَفَّارَةً وَاحِدَةً لِقَضَاءِ عُمَرَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى رَجُلَيْنِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ كَامِلٌ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: وَهِيَ تَنْبَنِي عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لُغَوِيٌّ قُرْآنِيٌّ، وَالْآخَرُ مَعْنَوِيٌّ. أَمَّا اللُّغَوِيُّ الْقُرْآنِيُّ: فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَاتِلِينَ لِلصَّيْدِ قَاتِلٌ نَفْسًا عَلَى الْكَمَالِ

وَالتَّمَامِ، بِدَلِيلِ قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُتْلِفٌ نَفْسًا عَلَى الْكَمَالِ وَمُذْهِبٌ رَوْحًا عَلَى التَّمَامِ. وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ الْقِصَاصُ، وَقَدْ قُلْنَا بِوُجُوبِهِ إجْمَاعًا مِنَّا وَمِنْهُمْ فَثَبَتَ مَا قُلْنَا. وَأَمَّا الْمَعْنَوِيُّ: فَإِنَّ عِنْدَنَا أَنَّ الْجَزَاءَ كَفَّارَةٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قِيمَةٌ. وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْجَزَاءَ كَفَّارَةٌ وَمُقَابِلٌ لِلْجِنَايَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ جَنَى عَلَى إحْرَامِهِ جِنَايَةً كَامِلَةً، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُسَمَّى قَاتِلًا؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ سَمَّى الْجَزَاءَ كَفَّارَةً فِي كِتَابِهِ. وَأَمَّا كَمَالُ الْجِنَايَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الْإِحْرَامِ فَصَحِيحٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ارْتَكَبَ مَحْظُورَ إحْرَامِهِ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ، وَسُمِّيَ قَاتِلًا حَقِيقَةً فَوَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءً. فَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ يَقُومُ بِقِيمَةِ الصَّيْدِ، وَيَلْحَظُ فِيهِ شِبْهَهُ. وَلَوْ كَانَ كَفَّارَةً لَاعْتُبِرَ مُطْلَقًا مِنْ اعْتِبَارِ ذَلِكَ كُلِّهِ، كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ كَالدِّيَةِ. قُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ دُخُولُ الصَّوْمِ عَلَيْهِ. وَلَوْ كَانَ بَدَلَ مُتْلَفٍ مَا دَخَلَ الصِّيَامُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الصِّيَامَ إنَّمَا مَوْضِعُهُ وَمَوْضُوعُهُ الْكَفَّارَاتُ، لَا أَبْدَالُ الْمُتْلَفَاتِ. جَوَابٌ آخَرُ: وَذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا تُقَدَّرُ بِقَدْرِ الْمَحِلِّ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَهَا، مَحِلٌّ، فَيَزِيدُ بِزِيَادَتِهِ، وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهِ، بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْآدَمِيِّ فَإِنَّهُ حَدٌّ لَا يَتَقَدَّرُ حَقِيقَةً فَيُقَدَّرُ كَفَّارَةً. جَوَابٌ ثَالِثُ: وَذَلِكَ أَنَّ الْجَزَاءَ لَا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ، وَالدِّيَةُ يَجُوزُ إسْقَاطُهَا، فَدَلَّ عَلَى اخْتِلَافِهِمَا بِالصِّفَةِ وَالْمَوْضُوعِ. جَوَابٌ رَابِعُ: وَذَلِكَ أَنَّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى يَسْتَوِي فِي الْجَزَاءِ، وَيَخْتَلِفُ فِي الدِّيَةِ، وَقِيمَةِ الْإِتْلَافِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَظَهَرَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ضَعِيفٌ جِدًّا. وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.

مسألة قتل جماعة صيدا في حرم وهم محلون

[مَسْأَلَة قَتَلَ جَمَاعَةٌ صَيْدًا فِي حَرَمٍ وَهُمْ مُحِلُّونَ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: خَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ مَالِكًا فِي فَرْعٍ؛ وَهُوَ إذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ صَيْدًا فِي حَرَمٍ وَهُمْ مُحِلُّونَ فَعَلَيْهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَتَلَهُ الْمُحْرِمُونَ فِي الْحِلِّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَتَلَ نَفْسًا مُحَرَّمَةً، فَسَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْحِلِّ أَوْ فِي الْحَرَمِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ. وَأَمَّا الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ فَبَنَاهُ فِي أَسْرَارِ اللَّهِ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: السِّرُّ فِيهِ أَنَّ الْجِنَايَةَ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى الْعِبَادِ، فَقَدْ ارْتَكَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَحْظُورًا فِي إحْرَامِهِ. وَإِذَا قَتَلَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ فَإِنَّمَا أَتْلَفَ نَفْسًا مُحْتَرَمَةً فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَتْلَفَ جَمَاعَةٌ دَابَّةً، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ دَابَّةً، وَيَشْتَرِكُونَ فِي الْقِيمَةِ، وَهَذَا مِمَّا يَسْتَهِينُ بِهِ عُلَمَاؤُنَا، وَهُوَ عَسِيرُ الِانْفِصَالِ. وَقَدْ عَوَّلَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ مُحْرِمًا بِدُخُولِهِ فِي الْحَرَمِ، كَمَا يَكُونُ مُحْرِمًا بِتَلْبِيَتِهِ بِالْإِحْرَامِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْفِعْلَيْنِ قَدْ أَكْسَبَهُ صِفَةً تَعَلَّقَ بِهَا نَهْيٌ، فَهُوَ هَاتِكٌ لَهَا فِي الْحَالَيْنِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ أَقْوَى مِنَّا، عَلَى أَنَّ عُلَمَاءَنَا قَالُوا: إذَا قَتَلَ الصَّيْدَ فِي الْحِلِّ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَإِنْ قَتَلَهُ فِي الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ حُكُومَةٌ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا جَزَاءَ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ أَصْلًا. وَقَالَ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ: حُرْمَةُ الْحَرَمِ كَالْإِحْرَامِ، وَاللَّفْظُ فِيهِمَا وَاحِدٌ، يُقَالُ: أَحْرَمَ الرَّجُلُ إذَا تَلَبَّسَ بِالْإِحْرَامِ، كَمَا يُقَالُ: أَحْرَمَ إذَا دَخَلَ فِي الْحَرَمِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، فَلَا مَعْنَى لِمَا قَالَهُ مَنْ أَسْقَطَ الْجَزَاءَ فِيهِ، وَيُضَعَّفُ قَوْلُ عُلَمَائِنَا لِاقْتِضَاءِ اللَّفْظِ لِوُجُوبِ الْجَزَاءِ وَعُمُومِ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.

مسألة الوقت الذي تعتبر به قيمة المتلف

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: وَكَذَلِكَ كَفَّارَةُ الْعَبْدِ إذَا أَحْرَمَ أَوْ دَخَلَ الْحَرَمَ كَكَفَّارَةِ الْحُرِّ سَوَاءٌ؛ لَكِنْ يَكُونُ حُكْمُهُ فِي الْكَفَّارَةِ الْمَالِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ مُخْتَلِفَ الْحَالِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي آيَةِ الظِّهَارِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَةُ الْوَقْتِ الَّذِي تُعْتَبَرُ بِهِ قِيمَةُ الْمُتْلَفِ] الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ ثَلَاثِينَ: إذَا قُوِّمَ الطَّعَامُ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيْنَ يُقَوَّمُ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: يُقَوَّمُ فِي مَوْضِعِ الْجِنَايَةِ؛ قَالَهُ حَمَّادٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَسِوَاهُمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُقَوَّمُ حَيْثُ يُكَفِّرُ بِمَكَّةَ. وَرُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ جِدًّا؛ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْوَقْتِ الَّذِي تُعْتَبَرُ بِهِ قِيمَةُ الْمُتْلَفِ؛ فَقَالَ قَوْمٌ: يَوْمَ الْإِتْلَافِ. وَقَالَ آخَرُ: يَوْمَ الْقَضَاءِ. وَقَالَ آخَرُونَ: يَلْزَمُ الْمُتْلِفُ أَكْثَرَ الْقِيمَتَيْنِ مِنْ الْإِتْلَافِ إلَى يَوْمِ الْحُكْمِ، وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا كَاخْتِلَافِهِمْ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْقِيمَةَ يَوْمَ الْإِتْلَافِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَيْهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْوُجُوبَ كَانَ حَقًّا لِلْمُتْلَفِ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَعْدَمَهُ الْمُتْلِفُ لَزِمَهُ إيجَادُهُ بِمِثْلِهِ، وَذَلِكَ فِي وَقْتِ الْعَدَمِ، فَالْقَضَاءُ يُظْهِرُ الْوَاجِبَ فِي ذِمَّةِ الْمُتْلِفِ، وَلَا يَسْتَأْنِفُ الْقَاضِي إيجَابًا لَمْ يَكُنْ، وَهَذَا يُعَضِّدُ فِي مَسْأَلَتِنَا الْوُجُوبَ فِي مَوْضِعِ الْإِتْلَافِ، فَأَمَّا فِي مَوْضِعِ فِعْلِ الْكَفَّارَةِ فَلَا وَجْهَ لَهُ. [مَسْأَلَة مَكَان الْهُدَى فِي مَكَّة] الْمَسْأَلَة الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فَأَمَّا الْهَدْيُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَكَّةَ. وَأَمَّا الْإِطْعَامُ فَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ مَالِكٍ؛ هَلْ يَكُونُ بِمَكَّةَ أَوْ بِمَوْضِعِ الْإِصَابَةِ. وَأَمَّا الصَّوْمُ فَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ: إنَّهُ يَصُومُ حَيْثُ شَاءَ. وَقَالَ حَمَّادٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يُكَفِّرُ بِمَوْضِعِ الْإِصَابَةِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَا كَانَ مِنْ دَمٍ أَوْ طَعَامٍ بِمَكَّةَ، وَيَصُومُ حَيْثُ شَاءَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: يُكَفِّرُ حَيْثُ شَاءَ. فَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: إنَّهُ يُكَفِّرُ حَيْثُ أَصَابَ، فَلَا

مسألة معنى قوله تعالى أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره

وَجْهَ لَهُ فِي النَّظَرِ وَلَا أَثَرَ فِيهِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَصُومُ حَيْثُ شَاءَ فَلِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ بِالصَّائِمِ، فَتَكُونُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ كَصِيَامِ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ فِي الْحَجِّ وَغَيْرِهَا. وَأَمَّا وَجْهُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الطَّعَامَ يَكُونُ بِمَكَّةَ فَلِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ الْهَدْيِ أَوْ نَظِيرٌ لَهُ؛ وَالْهَدْيُ حَقٌّ لِمَسَاكِينِ مَكَّةَ؛ فَلِذَلِكَ يَكُونُ بِمَكَّةَ بَدَلَهُ أَوْ نَظِيرَهُ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَكُونُ بِكُلِّ مَوْضِعٍ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ، فَإِنَّهُ اعْتِبَارٌ بِكُلِّ طَعَامٍ وَفِدْيَةٍ، فَإِنَّهَا تَجُوزُ بِكُلِّ مَوْضِعٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95] قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الْعَدْلُ وَالْعِدْلُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا: هُوَ الْمِثْلُ، وَيُؤْثَرُ عَنْ السَّكَّاكِيِّ أَنَّهُ قَالَ: عِدْلُ الشَّيْءِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ مِثْلُهُ مِنْ جِنْسِهِ، وَبِفَتْحِ الْعَيْنِ مِثْلُهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَأَرَادَ أَوْ يَصُومُ صَوْمًا مُمَاثِلًا لِلطَّعَامِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُمَاثِلَ الطَّعَامُ الطَّعَامَ فِي وَجْهٍ أَقْرَبَ مِنْ الْعَدَدِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ. وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: يَصُومُ عَلَى عَدَدِ الْمَسَاكِينِ فِي الطَّعَامِ لَا عَلَى عَدَدِ الْأَمْدَادِ الْأَشْهُرِ، وَهُوَ عِنْدَ عُلَمَائِنَا، وَالْكَافَّةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ بِالْأَمْدَادِ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِمَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدَّيْنِ يَوْمًا اعْتِبَارًا بِفِدْيَةِ الْأَذَى. وَاعْتِبَارُ الْكَفَّارَةِ بِالْفِدْيَةِ لَا وَجْهَ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي نُظَرَائِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: إنَّمَا يُفْتَقَرُ إلَى الْحَكَمَيْنِ فِي مَوْضِعَيْنِ؛ فِي الْجَزَاءِ مِنْ النَّعَمِ، وَالْإِطْعَامِ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ يَحْتَاجُ إلَيْهِمَا فِي الْحَالِ كُلِّهَا، وَهِيَ تَنْحَصِرُ فِي مَوَاضِعَ سَبْعَةٍ: الْأَوَّلُ: هَلْ يُحْكَمُ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ أَوْ فِي الْعَمْدِ وَحْدَهُ؟ الثَّانِي: هَلْ يُحْكَمُ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ كَمَا يَكُونُ فِي الْإِحْرَامِ؟ الثَّالِثُ: هَلْ يُحْكَمُ بِالْجَزَاءِ حَيَوَانًا أَوْ قِيمَةً؟

مسألة قتل محرم صيدا فجزاه ثم قتله ثانية

الرَّابِعُ: إذَا رَأَى الْحَيَوَانَ جَزَاءً عَنْ حَيَوَانٍ. فِي تَعْيِينِ الْحَيَوَانِ خِلَافٌ كَثِيرٌ لَا بُدَّ مِنْ تَسْلِيطِ نَظَرِهِ عَلَيْهِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ مِنْ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ؛ هَلْ يَسْتَوِي صَغِيرُهُ وَكَبِيرُهُ كَمَا قَالَ مَالِكٌ فِي الْكِتَابِ حِينَ جَعَلَهُ كَالدِّيَةِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يُرَاعِي صِفَاتِهِ أَجْمَعَ حَتَّى الْجَمَالِ وَالْحُسْنِ، أَمْ تُرَاعَى الْأُصُولُ، أَوْ يُرَاعَى الْعَيْبُ وَالسَّلَامَةُ، أَوْ هُمَا وَاحِدٌ؟ وَهَلْ يَكُونُ فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ كَمَا فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِ، أَمْ يَكُونُ فِيهَا الْقِيمَةُ؛ لِأَنَّهَا لَا تُقَارِبُ خَلْقَ الْبَقَرِ وَلَا تَبْلُغُ خَلْقَ الْإِبِلِ؟ الْخَامِسُ: هَلْ الْحَيَوَانَاتُ كُلُّهَا تُجْزِئُ أَمْ بَعْضُهَا؟ السَّادِسُ: هَلْ يَقُومُ الْمِثْلُ بِالطَّعَامِ أَوْ بِالدَّرَاهِمِ؟ السَّابِعُ: هَلْ يَكُونُ التَّقْوِيمُ بِمَوْضِعِ الْإِصَابَةِ أَمْ بِمَوْضِعِ الْكَفَّارَةِ؟ وَهَكَذَا إلَى آخِرِ فُصُولِ الِاخْتِلَافِ، فَيُرْفَعُ الْأَمْرُ إلَى الْحُكْمَيْنِ حَتَّى يُخَلِّصَ اجْتِهَادُهُمَا مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْوُجُوهِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَيَلْزَمُهُ مَا قَالَا. وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة قَتَلَ مُحْرِمٌ صَيْدًا فَجَزَاهُ ثُمَّ قَتَلَهُ ثَانِيَةً] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: إذَا قَتَلَ مُحْرِمٌ صَيْدًا فَجَزَاهُ. ثُمَّ قَتَلَهُ ثَانِيَةً وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95]، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْمَرَّةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، وَمِمَّنْ تَعَلَّقَ بِهَذَا الدَّلِيلِ أَحْبَارٌ مِمَّنْ لَا يَلِيقُ بِمَرْتَبَتِهِمْ إيرَادُ هَذَا الدَّلِيلِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ؛ فَإِنَّ كُلَّ حُكْمٍ عُلِّقَ بِشَرْطٍ لَا يَتَكَرَّرُ بِتَكْرَارِ الشَّرْطِ، فَمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ [فَإِنَّ الطَّلَاقَ] لَا يَتَكَرَّرُ بِتَكْرَارِ الدُّخُولِ، فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى تَكْرَارِ الْحُكْمِ بِتَكْرَارِ الشَّرْطِ فَذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ الدَّلِيلِ الْقَائِمِ عَلَيْهِ لَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْطِ الْمُضَافِ إلَيْهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] فَإِنَّ الْوُضُوءَ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْقِيَامِ مَعَ الْحَدَثِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ». وَهَا هُنَا تَكَرَّرَ الِاسْمُ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ، بِقَوْلِهِ: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]

وَالنَّهْيُ دَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ عَلَيْهِ، فَالْجَزَاءُ لِأَجْلِ ذَلِكَ مُتَوَجِّهٌ لَازِمٌ ذِمَّتَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] وَلَمْ يَذْكُرْ جَزَاءً وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قُلْنَا: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} [المائدة: 95] يَعْنِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا الْإِسْلَامِ، أَوْ عَمَّا قَبْلَ بَيَانِ الْحُكْمِ؛ فَإِنَّ الْوَاقِعَ قَبْلَهُ عَفْوٌ. وقَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ عَادَ} [المائدة: 95] وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ: يَعْنِي فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ، وَعَلَيْهِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الدَّلِيلِ الْكَفَّارَةُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَمَادِي التَّحْرِيمِ فِي الْإِحْرَامِ وَتَوَجُّهِ الْخِطَابِ عَلَيْهِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ. وَوَجْهٌ آخَرُ مِنْ الدَّلِيلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] يَعْنِي وَهُوَ مُحْرِمٌ، {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]. وَقَدْ قَالَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُجَاهِدٌ وَشُرَيْحٌ. وَيُرْوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: نَعَمْ نَحْكُمُ عَلَيْهِ أَفَيُخْلَعُ يَعْنِي يُخْرَجُ عَنْ حُكْمِ الْمُحْرِمِينَ؛ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ: إنَّهُ إذَا قَتَلَهُ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ حَلَّ إحْرَامُهُ؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَحْظُورًا [يُنَافِي] عِبَادَةً فِيهَا، فَأَبْطَلَهَا، كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ أَحْدَثَ فِيهَا. وَدَلِيلُنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْجَزَاءَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْفَسَادَ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ مَا يُفْسِدُ الْحَجَّ مِنْ مَحْظُورَاتِهِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ، فَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الْحَجِّ بِالصَّلَاةِ فَإِنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ شَرْطًا وَوَصْفًا وَوَضْعًا فِي الْأَصْلِ، فَلَا يُعْتَبَرُ أَحَدُهُمَا بِالْآخِرِ بِحَالٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفِيمَا تَقَدَّمَ، كَمَا أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ الْمُعَلَّيْ

الآية السابعة والعشرون قوله تعالى أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم

أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ صَيْدًا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَتَجُوزُ عَنْهُ، ثُمَّ عَادَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَارًا مِنْ السَّمَاءِ فَأَحْرَقَتْهُ، وَهَذِهِ عِبْرَةٌ لِلْأُمَّةِ وَكَفٌّ لِلْمُعْتَدِينَ عَنْ الْمَعْصِيَةِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: مَا تَقَدَّمَ فِيهِ لِلصَّحَابَةِ حُكْمٌ مِنْ الْجَزَاءِ فِي صَيْدٍ يَبْتَدِئُ الْآنَ الْحَكَمَانِ النَّظَرَ فِيهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُنْظَرُ فِيمَا نَظَرَتْ فِيهِ الصَّحَابَةُ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ نَفَذَ، وَهَذَا يَبْطُلُ بِقَضَايَا الدِّينِ؛ فَإِنَّ كُلَّ حُكْمٍ أَنْفَذَتْهُ الصَّحَابَةُ يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ ثَانِيًا. وَذَلِكَ فِيمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ وَلَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ إجْمَاعٌ، وَهَذَا أَبْيَنُ مِنْ إطْنَابٍ فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَانِي أَحَدَ الْحَكَمَيْنِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَانِي أَحَدَ الْحَكَمَيْنِ، وَهَذَا تَسَامُحٌ مِنْهُ؛ فَإِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي جَانِيًا وَحَكَمَيْنِ، فَحَذْفُ بَعْضِ الْعَدَدِ إسْقَاطٌ لِلظَّاهِرِ، وَإِفْسَادٌ لِلْمَعْنَى لِأَنَّ حُكْمَ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَاسْتَغْنَى بِنَفْسِهِ عَنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، فَزِيَادَةُ ثَانٍ إلَيْهِ غَيْرَهُ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِئْنَافِ الْحُكْمِ بِرَجُلَيْنِ سِوَاهُ. [الْآيَة السَّابِعَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ] الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة: 96]. فِيهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96]: عَامٌّ فِي الْمُحِلِّ وَالْمُحْرِمِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ جِهَةِ التَّقْسِيمِ وَالتَّنْوِيعِ قَبْلَ هَذَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {الْبَحْرِ} [المائدة: 96] هُوَ كُلُّ مَاءٍ كَثِيرٍ، وَأَصْلُهُ الِاجْتِمَاعُ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ الْمَدَائِنُ بِحَارًا. وَيُقَالُ لِلْبَلْدَةِ:

مسألة صيد البحر وفيه ثلاثة أقوال

الْبَحْرَةُ وَالْبُحَيْرَةُ؛ لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِيهَا؛ وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الروم: 41]: إنَّ الْبَحْرَ الْبِلَادُ، وَالْبَرَّ الْفَيَافِي وَالْقِفَارُ. وَفَائِدَتُهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ بَرًّا وَبَحْرًا وَهَوَاءً، وَجَعَلَ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ مِنْ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ الثَّلَاثَةِ عِمَارَةً، فَعِمَارَةُ الْهَوَاءِ الطَّيْرُ، وَعِمَارَةُ الْمَاءِ الْحِيتَانُ، وَعِمَارَةُ الْأَرْضِ سَائِرُ الْحَيَوَانِ، وَجَعَلَ كُلَّ ذَلِكَ مُبَاحًا لِلْإِنْسَانِ عَلَى شُرُوطٍ وَتَنْوِيعٍ، هِيَ مُبَيَّنَةٌ فِي مَسَائِلِ الْأَحْكَامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]. [مَسْأَلَة صَيْدُ الْبَحْرِ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96]: وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: مَا صِيدَ مِنْهُ عَلَى مَعْنَى تَسْمِيَةِ الْمَفْعُولِ بِالْفِعْلِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. الثَّانِي: هُوَ حِيتَانُهُ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. الثَّالِثُ: السَّمَكُ الْجَرِيُّ؛ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ تَرْجِعُ إلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، وَهِيَ حِيتَانُهُ تَفْسِيرًا، وَيَرْجِعُ مِنْ طَرِيقِ الِاشْتِقَاقِ إلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَا حُووِلَ أَخْذُهُ بِحِيلَةٍ وَعَمَلٍ، وَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ: مَا صِيدَ مِنْهُ، وَهُوَ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: " أُحِلَّ لَكُمْ أَخْذُ مَا فِي الْبَحْرِ مِنْ الْحِيتَانِ بِالْمُحَاوَلَةِ، وَأُحِلَّ لَكُمْ طَعَامُهُ، وَهُوَ مَا أُخِذَ بِغَيْرِ مُحَاوَلَةٍ " وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَاَلَّذِي يُؤْخَذُ بِغَيْرِ مُحَاوَلَةٍ وَلَا حِيلَةَ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا طَفَا عَلَيْهِ مَيْتًا. وَالثَّانِي: مَا جَزَرَ عَنْهُ الْمَاءُ، فَأَخَذَهُ النَّاسُ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96]: عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: مَا جَزَرَ عَنْهُ.

وَالثَّانِي: مَا طَفَا عَلَيْهِ؛ قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَقَتَادَةُ، وَهِيَ رِوَايَةُ مَعْنٍ عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: صَيْدُ الْبَحْرِ مَا صِيدَ، وَطَعَامُهُ مَيْتَتُهُ. الثَّالِثُ: مَمْلُوحُهُ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا أَلْقَاهُ الْبَحْرُ أَوْ جَزَرَ عَنْهُ فَكُلُوهُ، وَمَا مَاتَ فِيهِ فَطَفَا فَلَا تَأْكُلُوهُ». وَقَالَ أَبُو دَاوُد: الصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى جَابِرٍ. وَرَوَى مَالِكٌ وَالنَّسَائِيُّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي الْبَحْرِ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ». وَهَذَا نَصٌّ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ، وَلَا كَلَامَ بَعْدَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَتَعَلَّقَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِينَ قَالُوا: إنَّ مَيْتَةَ الْبَحْرِ حَرَامٌ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وَهِيَ كُلُّ حَيَوَانٍ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَخُصُّ هَذَا الْعُمُومَ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ بِهِ الْخَلِيفَتَانِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَثَبَتَ بِحَدِيثِ جَابِرٍ «عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَكْلِهِمْ الْحُوتَ الْمَيِّتَ فِي غُزَاةِ سَيْفِ الْبَحْرِ، وَمِنْ ادِّخَارِهِمْ مِنْهُ جُزْءًا، حَتَّى لَقُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَكَلَ مِنْهُ».

مسألة معنى قوله تعالى وللسيارة

فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ إنَّمَا سِيقَتْ لِبَيَانِ مَا يُحَرَّمُ بِالْإِحْرَامِ، وَمَا لَا يُحَرَّمُ بِهِ، لَا لِبَيَانِ مَا حَرُمَ بِنَفْسِهِ. وَإِنَّمَا بَيَانُ هَذِهِ الْحُرْمَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] إلَى آخِرِهَا. وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ السَّمَكُ الْمَذْكُورُ. وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالسَّمَكُ وَالْجَرَادُ. وَهَذِهِ عُمْدَةُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. قُلْنَا: هَذَا قَلْبُ الْمَبْنَى، وَإِفْسَادُ الْمَعْنَى لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا إنَّمَا جَاءَتْ لِبَيَانِ تَحْلِيلِ الصَّيْدِ، وَهُوَ أَخْذُ مَا لَا قُدْرَةَ لِلْعَبْدِ عَلَيْهِ، وَلَا أَنَسَ لَهُ بِهِ، وَصِفَةُ تَذْكِيَتِهِ حَتَّى يَحِلَّ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَاطَبَ بِهِ الْمُحِلِّينَ، فَبَيَّنَ رُكْنَ التَّحْلِيلِ فِي ذَلِكَ وَأَخْذَهُ بِالْقَهْرِ وَالْحِيلَةِ فِي كِبَارِهِ، وَبِالْيُسْرِ فِي صِغَارِهِ، ثُمَّ أَطْلَقَ تَحْلِيلَ صَيْدِ الْبَحْرِ فِي بَابِهِ، وَزَادَ مَا لَا يُصَادُ مِنْهُ؛ وَإِنَّمَا يَرْمِيهِ الْبَحْرُ رَمْيًا، ثُمَّ قَيَّدَ تَحْرِيمَ صَيْدِ الْبَرِّ خَاصَّةً بِالْإِحْرَامِ، وَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ. فَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ وَأَجْنَاسُهَا فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] فَهُوَ عَامٌّ خَصَّصَهُ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ، فِي مَيْتَةِ الْمَاءِ خَاصَّةً. وَأَمَّا حَدِيثُ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ»؛ فَلَمْ يَصِحَّ فَلَا يَلْزَمُنَا عَنْهُ جَوَابٌ، ثُمَّ نَقُولُ: إنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ قَوْلُهُ: السَّمَكُ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَا فِي الْبَحْرِ، اسْمٌ عَامٌّ. وَقَدْ يُطْلَقُ بِالْعُرْفِ فِي بَعْضِهَا فَيُحْمَلُ عَلَى أَصْلِ الْإِطْلَاقِ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِمْ عِنْدَنَا لِبَعْضِ الْحُوتِ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ سَمَكٌ دُونَ سَائِرِهَا. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَلِلسَّيَّارَةِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96]: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لِلْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ " أَبِي عُبَيْدَةَ: إنَّهُمْ أَكَلُوهُ وَهُمْ

مسألة معنى قوله تعالى وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما

مُسَافِرُونَ، وَأَكَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُقِيمٌ " فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ حَلَالٌ لِمَنْ أَقَامَ، كَمَا أَحَلَّهُ فِي حَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ لِمَنْ سَافَرَ. الثَّانِي: إنَّ السَّيَّارَةَ هُمْ الَّذِينَ يَرْكَبُونَهُ كَمَا ثَبَتَ فِي أَصْلِ الْحَدِيثِ: «أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ الْعَرَكِيُّ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَمَعَنَا الْقَلِيلُ مِنْ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا، أَفَنَتَوَضَّأُ لَهُ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ». قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فَلَوْ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " نَعَمْ " لَمَا جَازَ الْوُضُوءُ بِهِ إلَّا عِنْدَ خَوْفِ الْعَطَشِ لِأَنَّ الْجَوَابَ مُرْتَبِطٌ بِالسُّؤَالِ. وَلَكِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْتَدَأَ بِتَأْسِيسِ الْحُكْمِ وَبَيَانِ الشَّرْعِ؛ فَقَالَ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ». فَزَادَ فِي جَوَابِ السَّائِلِ جَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ» ابْتِدَاءً. الثَّانِي: «الْحِلُّ مَيْتَتُهُ». [مَسْأَلَةُ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّحْرِيمَ لَيْسَ بِصِفَةٍ لِلْأَعْيَانِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِأَفْعَالٍ؛ فَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] إنْ كَانَ الصَّيْدُ الْفِعْلَ فَمَعْنَاهُ مَعَ الِاصْطِيَادِ كُلِّهِ عَلَى أَنْوَاعِهِ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَى الصَّيْدِ الْمَصِيدَ عَلَى مَعْنَى تَسْمِيَةِ الْمَفْعُولِ بِالْفِعْلِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ، وَهَذَا مِنْ غَرِيبِ الْمُتَعَلِّقَاتِ لِلتَّكْلِيفِ بِالْأَفْعَالِ، وَتَفْسِيرُ وَجْهِ التَّعَلُّقِ؛ فَصَارَ الصَّيْدُ فِي الْبَرِّ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ مُمْتَنِعًا بِكُلِّ وَجْهٍ، وَكَانَتْ إضَافَتُهُ إلَيْهِ كَإِضَافَةِ الْخَمْرِ إلَى الْمُكَلَّفِينَ وَالْمَيْتَةِ؛ إذْ إنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُحَرَّمَاتِ. وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ " أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى إذَا كُنَّا بِالْقَاحَةِ وَمِنَّا الْمُحْرِمُ وَمِنَّا غَيْرُ الْمُحْرِمِ إذْ أَبْصَرْت أَصْحَابِي يَتَرَاءَوْنَ، فَنَظَرْت فَإِذَا حِمَارُ وَحْشٍ، فَأَسْرَجْت فَرَسِي، وَأَخَذْت رُمْحِي، ثُمَّ رَكِبْت، فَسَقَطَ سَوْطِي، فَقُلْت

لِأَصْحَابِي وَكَانُوا مُحْرِمِينَ: نَاوِلُونِي السَّوْطَ. فَقَالُوا: وَاَللَّهِ لَا نُعِينُك عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، فَنَزَلْت فَتَنَاوَلْته، ثُمَّ رَكِبْت فَأَدْرَكْته مِنْ خَلْفِهِ، وَهُوَ وَرَاءَ أَكَمَةٍ، فَطَعَنْته بِرُمْحِي، فَعَقَرْته، فَأَتَيْت بِهِ أَصْحَابِي، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُلُوهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نَأْكُلُهُ. وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَنَا، فَحَرَّكْت دَابَّتِي فَأَدْرَكْته، فَقَالَ: هُوَ حَلَالٌ، فَكُلُوهُ». وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَوْ أَشَارَ إلَيْهِ بِشَيْءٍ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَكُلُوا. هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ؟ قَالُوا: مَعَنَا رِجْلُهُ. قَالَ: فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَكَلَهَا». وَرَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ " الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ أَنَّهُ «أَهْدَى إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِمَارًا وَحْشِيًّا وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ. قَالَ: فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا فِي وَجْهِهِ مِنْ الْكَرَاهَةِ قَالَ: إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْك إلَّا أَنَّا حُرُمٌ». وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُمْ». قَالَ أَبُو عِيسَى: هُوَ أَحْسَنُ حَدِيثٍ فِي الْبَابِ.

مسألة إذا أحرم وفي ملكه صيد

وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ عُثْمَانَ فَأُتِيَ عُثْمَانُ بِلَحْمِ صَيْدٍ صَادَهُ حَلَالٌ، فَأَكَلَ عُثْمَانُ، وَأَبَى عَلِيٌّ أَنْ يَأْكُلَ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا صِدْنَا وَلَا أَمَرْنَا وَلَا أَشَرْنَا. فَقَالَ عَلِيٌّ: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: إنَّمَا صِيدَ قَبْلَ أَنْ نُحْرِمَ؛ فَقَالَ عَلِيٌّ: وَنَحْنُ قَدْ بَدَأْنَا وَأَهْلَلْنَا وَنَحْنُ حَلَالٌ، أَفَيَحِلُّ لَنَا الْيَوْمَ؟ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَرِهَ لَحْمَ الصَّيْدِ وَهُوَ مُحْرِمٌ، أُخِذَ لَهُ أَوْ لَمْ يُؤْخَذْ، وَإِنْ صَادَهُ الْحَلَالُ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُهُ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَطَاوُسٍ مِثْلُهُ. وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْمُحَرَّمَ الْفِعْلُ بِقَوْلِهِ صَيْدُ الْبَرِّ، أَوْ الْمُحَرَّمَ مُضْمَرٌ؛ وَالْمُرَادُ بِالصَّيْدِ الْمَصِيدُ، وَاَلَّذِي ثَبَتَ عَلَى الدَّلِيلِ أَنَّ حُكْمَ التَّحْرِيمِ إنَّمَا تَعَلَّقَ بِالْمَصِيدِ لَا بِالصَّيْدِ؛ فَيَكُونُ التَّحْرِيمُ يَتَعَلَّقُ بِتَنَاوُلِ الْحِيلَةِ فِي تَحْصِيلِهِ أَوْ بِقَصْدِ تَنَاوُلِ الْحِيلَةِ فِي تَحْصِيلِهِ لَهُ، بَيَّنَ ذَلِكَ حَدِيثُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُمْ»؛ فَإِذَا لَمْ يَتَنَاوَلْ الْمُحْرِمُ صَيْدَهُ بِنَفْسِهِ وَلَا قَصَدَ بِهِ حَلَّ لَهُ أَكْلُهُ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ وَلَا مِلْكُهُ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّهُ عَلَى الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ لِأَنَّهُ كَانَ حَيًّا»، وَالْمُحْرِمُ لَا يَمْلِكُ الصَّيْدَ. وَقِيلَ: إنَّمَا رَدَّهُ لِأَنَّهُ صِيدَ لَهُ، وَيَكُونُ بِذَلِكَ دَاخِلًا فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا لَمْ يُعَنْ فِيهِ بِدَلَالَةٍ وَلَا سِلَاحٍ جَازَ لَهُ أَكْلُهُ، وَإِنْ كَانَ صِيدَ مِنْ أَجْلِهِ. وَالْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ يَرُدُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: «مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُمْ». [مَسْأَلَة إذَا أَحْرَمَ وَفِي مِلْكِهِ صَيْدٌ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: إذَا أَحْرَمَ وَفِي مِلْكِهِ صَيْدٌ: فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَحِلُّ لَهُ إمْسَاكُهُ وَيَلْزَمُهُ إرْسَالُهُ. وَالْآخَرُ يُمْسِكُهُ حَتَّى يَحِلَّ فِي تَفْصِيلٍ بَيَانُهُ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ مِثْلُهُمَا. وَجْهُ الْقَوْلِ بِإِرْسَالِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96].

مسألة صاد حلالا في الحل فأدخله في الحرم

وَهَذَا عَامٌّ فِي [مَنْعِ] الْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ كُلِّهِ. وَجْهُ الْقَوْلِ بِإِمْسَاكِهِ أَنَّهُ مَعْنَى يَمْتَنِعُ مَعَ ابْتِدَاءِ الْإِحْرَامِ، فَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ اسْتِدَامَةِ مِلْكِهِ؛ أَصْلُهُ النِّكَاحُ. [مَسْأَلَة صاد حَلَالًا فِي الْحِلِّ فَأَدْخَلَهُ فِي الْحَرَمِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فَإِنْ صَادَهُ الْحَلَالُ فِي الْحِلِّ، فَأَدْخَلَهُ فِي الْحَرَمِ جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ ذَبْحِهِ وَأَكْلِ لَحْمِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ؛ وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ مَعْنَى يَفْعَلُ فِي الصَّيْدِ؛ فَجَازَ فِي الْحَرَمِ الْحَلَالُ كَالْإِمْسَاكِ وَالشِّرَاءِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِمَا. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَلِأَنَّ الْمَقَامَ فِي الْحَرَمِ يَدُومُ، وَالْإِحْرَامُ يَنْقَطِعُ، فَلَوْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي الْحَرَمِ لَأَدَّى إلَى مَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ، فَسَقَطَ التَّكْلِيفُ عَنْهُ فِيهِ لِذَلِكَ. وَهَذَا مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْمَصَالِحِ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَالْمَصْلَحَةُ مِنْ أَقْوَى أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ. [مَسْأَلَة حَرَمِ الْمَدِينَة هَلْ يَجُوزْ لَهُ الِاصْطِيَادُ فِيهِ لِلْمُحْرِمِ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إذَا كَانَ الْمُحْرِمُ مُحْرِمًا بِدُخُولِ حَرَمِ الْمَدِينَةِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الِاصْطِيَادُ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُمَّ إنَّ إبْرَاهِيمَ عَبْدُك وَخَلِيلُك حَرَّمَ مَكَّةَ، وَإِنِّي أُحَرِّمُ الْمَدِينَةَ بِمِثْلِ مَا حَرَّمَ بِهِ إبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَمِثْلُهُ مَعَهُ؛ لَا يُقْطَعُ عِضَاهُهَا وَلَا يُصَادُ صَيْدُهَا». وَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ، خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ: وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

مسألة حكم الصيد بالمدينة

[مَسْأَلَة حُكْم الصَّيْدِ بِالْمَدِينَةِ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: إذَا صَادَ بِالْمَدِينَةِ كَانَ آثِمًا وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ جَزَاءٌ إنْ قَتَلَهُ بِهَا. وَقَالَ سَعْدٌ: جَزَاؤُهُ أَخْذُ سَلَبِهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ: عَلَيْهِ الْجَزَاءُ. أَمَّا قَوْلُ سَعْدٍ: فَإِنَّ مُسْلِمًا خَرَّجَ عَنْهُ «أَنَّ رَجُلًا صَادَ بِالْمَدِينَةِ فَلَقِيَهُ سَعْدٌ فَأَخَذَ سَلَبَهُ فَكُلِّمَ فِي رَدِّهِ، فَقَالَ: مَا كُنْت لِأَرُدَّ شَيْئًا نَفَّلَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -»؛ وَهَذَا مَخْصُوصٌ بِسَعْدٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقُلْ مَنْ لَقِيَ صَائِدًا بِالْمَدِينَةِ فَلْيَسْتَلِبْهُ ثِيَابَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ. وَأَمَّا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ فَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ حَرَمٌ، فَكَانَ الْجَزَاءُ عَلَى مَنْ قَتَلَ فِيهِ صَيْدًا، كَمَا يُفْعَلُ فِي حَرَمِ مَكَّةَ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَوْ كَانَ حَرَمُ الْمَدِينَةِ كَحَرَمِ مَكَّةَ مَا جَازَ دُخُولُهَا إلَّا بِالْإِحْرَامِ، فَافْتَرَقَا. وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَزَاءَ الْمُتَعَدِّي فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ: «مَنْ أَحْدَثَ أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا». فَأَرْسَلَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْكَفَّارَةَ. [مَسْأَلَة إذَا دَلّ الْحَرَامُ حَلَالًا عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ الْحَلَالُ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: إذَا دَلَّ الْحَرَامُ حَلَالًا عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ الْحَلَالُ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ عُلَمَاؤُنَا؛ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَشْهَبُ: يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ؛ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.

مسألة الحيوان الذي يكون في البر والبحر هل يحل صيده للمحرم

وَالْمَسْأَلَةُ غَامِضَةُ الْمَأْخَذِ بَعِيدَةُ الْغَوْرِ، وَلِعُلَمَائِنَا فِيهَا ثَلَاثَةُ طُرُقٍ بَيَّنَّاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. أَقْوَاهَا طَرِيقُ مَنْشَأِ غَوْرٍ. وَقَالَ الْجَوْنِيُّ: الضَّمَانُ إنَّمَا يَجِبُ فِي الشَّرِيعَةِ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: إمَّا بِإِتْلَافٍ مُبَاشِرٍ، كَالْقَتْلِ. أَوْ بِتَلَفٍ تَحْتَ يَدٍ عَادِيَةٍ، كَمَا لَوْ مَاتَ الْحَيَوَانُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ. أَوْ بِسَبَبٍ يَتَعَلَّقُ بِالْفَاعِلِ؛ كَحَفْرِ الْبِئْرِ فِي جِهَةِ التَّعَدِّي؛ وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَبَطَلَ تَعَلُّقُ الْجَزَاءِ بِهِ. وَعَوَّلَ مَنْ أَوْجَبَ الْجَزَاءَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ الْمُتَقَدِّمِ: «هَلْ أَشَرْتُمْ؟ هَلْ أَعَنْتُمْ؟» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْجَزَاءِ لَوْ أَشَارَ أَوْ أَعَانَ عَلَيْهِ. قُلْنَا: إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ؛ فَأَمَّا عَلَى وُجُوبِ الْجَزَاءِ فَلَا. [مَسْأَلَة الْحَيَوَانِ الَّذِي يَكُونُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ هَلْ يَحِلُّ صَيْدُهُ لِلْمُحْرِمِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي الْحَيَوَانِ الَّذِي يَكُونُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، هَلْ يَحِلُّ صَيْدُهُ لِلْمُحْرِمِ لِأَنَّهُ مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ أَمْ لَا يَحِلُّ لِأَنَّهُ مِنْ حَيَوَانِ الْبَرِّ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ. وَالصَّحِيحُ مَنْعُهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَارَضَ فِيهِ دَلِيلَانِ: دَلِيلُ تَحْلِيلٍ، وَدَلِيلُ تَحْرِيمٍ، فَغَلَّبْنَا دَلِيلَ التَّحْرِيمِ احْتِيَاطًا؛ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة حُكْم مَا خَرَجَ مِنْ اللُّؤْلُؤِ وَالْعَنْبَرِ مِنْ الْبَحْرِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَالَ أَبُو يُوسُفَ: مَا أَخْرَجَ مِنْ اللُّؤْلُؤِ وَالْعَنْبَرِ مِنْ الْبَحْرِ يُخَمَّسُ، وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ؛ لِأَنَّ الْبَحْرَ شَبِيهُ الْبَرِّ وَقَسِيمُهُ وَنَظِيرُهُ؛ إذْ الدُّنْيَا بَرٌّ وَبَحْرٌ، فَنَقُولُ: فَائِدَةُ أُخْرِجَتْ مِنْ الْبَاطِنِ فَوَجَبَ فِيهِ الْخُمُسُ، أَصْلُهُ الرِّكَازُ، أَوْ لِأَنَّهُ أَحَدُ قِسْمَيْ الْمَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِيَّةِ، فَجَازَ أَنْ يَجِبَ حَقُّ اللَّهِ فِيمَا يُوجَدُ فِي بَاطِنِهِ، أَصْلُهُ الرِّكَازُ. وَالتَّعْلِيلُ لِلْبَحْرِ. وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: " لَا زَكَاةَ فِي الْعَنْبَرِ، إنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يَقْذِفُهُ الْبَحْرُ " وَلِأَنَّهُ مِنْ فَوَائِدِ الْبَحْرِ، فَلَا يَجِبُ فِيهِ حَقٌّ أَصْلُهُ السَّمَكُ.

الآية الثامنة والعشرون قوله تعالى جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس

وَهَذَا الْفِقْهُ صَحِيحٌ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَحْرَ لَمْ يَكُنْ فِي أَيْدِي الْكَفَرَةِ فَتَجْرِي فِيهِ الْغَنِيمَةُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُبَاحِ الْمُطْلَقِ، كَالصَّيْدِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ فِي ذَهَبٍ يُوجَدُ فِي الْبَحْرِ؟ قُلْنَا: لَا رِوَايَةَ فِيهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ يَجِبُ؛ لِأَنَّ الْبَحْرَ لَيْسَ بِمَعْدِنٍ لِلذَّهَبِ، فَوُجُودُهُ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّيُولَ قَذَفَتْهُ فِيهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: يَحْتَمِلُ أَلَّا يَجِبَ فِيهِ شَيْءٌ لِأَنَّ فِي الْبَحْرِ جِبَالًا لَا يَدَ لِأَحَدٍ عَلَيْهَا. [الْآيَة الثَّامِنَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ] قَوْله تَعَالَى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة: 97]. فِيهِ تِسْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {جَعَلَ اللَّهُ} [المائدة: 97]: وَهُوَ يَتَصَرَّفُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: بِمَعْنَى سَمَّى، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3]. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ بِمَا يَنْبَغِي. الثَّانِي: بِمَعْنَى خَلَقَ، كَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا، مِنْهَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1]. الثَّالِثُ: بِمَعْنَى صَيَّرَ، كَقَوْلِك، جَعَلْت الْمَتَاعَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ. وَتَحْقِيقُهُ هَاهُنَا خَلَقَ ثَانِيًا وَصْفًا لِشَيْءٍ مَخْلُوقٍ أَوَّلًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ خَلَقَ الْكَعْبَةَ وُجُودًا أَوَّلًا، ثُمَّ خَلَقَ فِيهَا صِفَاتٍ ثَانِيًا، فَ " خَلَقَ " عَامٌّ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، وَ " جَعَلَ " خَاصٌّ فِي الثَّانِي خَبَرٌ عَنْ الصِّفَاتِ الَّتِي فِيهَا عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

مسألة لماذا سميت الكعبة كعبة

[مَسْأَلَة لِمَاذَا سميت الْكَعْبَة كَعْبَة] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: الْكَعْبَةُ: وَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا سُمِّيَتْ كَعْبَةً لِتَرَبُّعِهَا؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ. الثَّانِي: أَنَّهَا سُمِّيَتْ كَعْبَةً لِنُتُوئِهَا وَبُرُوزِهَا؛ فَكُلُّ نَاتِئٍ بَارِزٌ كَعْبٌ، مُسْتَدِيرًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُسْتَدِيرٍ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ، يُقَالُ: كَعَبَ ثَدْيُ الْمَرْأَةِ؛ وَهَذِهِ صِفَتُهَا هُنَا، وَقَدْ شَرَحْنَا أَمْرَهَا فِي " إيضَاحِ الصَّحِيحَيْنِ ". الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة: 97]: سَمَّاهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيْتًا؛ لِأَنَّهَا ذَاتُ سَقْفٍ وَجِدَارٍ، وَهِيَ حَقِيقَةُ الْبَيْتِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَا سَاكِنٌ؛ وَلَكِنْ جَعَلَ لَهَا شَرَفَ الْإِضَافَةِ بِقَوْلِهِ: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [البقرة: 125]. وَقَالَ: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]. عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَةُ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {الْحَرَامَ} [المائدة: 97]: سَمَّاهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ حَرَامًا بِتَحْرِيمِهِ إيَّاهَا. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا أَوْ يَعْضِدَ بِهَا شَجَرًا، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُولُوا لَهُ: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، وَلْيُبْلِغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ». رَوَاهُ الْكُلُّ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَثَبَتَ عَنْهُ فِي رِوَايَةِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ فَسَكَتْنَا، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَقَالَ: أَلَيْسَ ذَا الْحِجَّةِ؟ قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ فَسَكَتْنَا، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ.

مسألة معنى قوله تعالى قياما للناس

فَقَالَ: أَلَيْسَ الْبَلْدَةُ؟» يَعْنِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} [النمل: 91]. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: «أَلَيْسَ الْبَلَدَ الْحَرَامَ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ». وَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى: حَرَّمَهَا أَيْ بِعِلْمِهِ وَكِتَابِهِ وَكَلَامِهِ وَإِخْبَارِهِ بِتَحْرِيمِهَا وَخَلْقِهِ لِتَحْرِيمِهَا، كُلُّ ذَلِكَ مِنْهُ صَحِيحٌ، وَإِلَيْهِ مَنْسُوبٌ. فَإِنْ قِيلَ: وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ حَرَّمَهَا؟ قُلْنَا: مِنْ سَطْوَةِ الْجَبَابِرَةِ وَمِنْ ظَلَمَةِ الْكُفْرِ فِيهَا بَعْدَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لِيُخَرِّبَن الْكَعْبَةَ ذُو السَّوِيقَتَيْنِ مِنْ الْحَبَشَةِ». قُلْنَا: هَذَا عِنْدَ انْقِلَابِ الْحَالِ، وَانْقِضَاءِ الزَّمَنِ، وَإِقْبَالِ السَّاعَةِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ الْآنَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَةُ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى قِيَامًا لِلنَّاسِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: 97] قِيَامُ الشَّيْءِ قَوَامُهُ وَمِلَاكُهُ أَيْ يَقُومُونَ بِهِ قِيَامًا، كَمَا قَالَ: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5]؛ أَيْ يَقُومُونَ بِهَا. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

[الْأَوَّلُ]: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قِيَامًا لِلنَّاسِ، أَيْ صَلَاحًا. الثَّانِي: قِيَامًا لِلنَّاسِ أَيْ أَمْنًا. الثَّالِثُ: يَعْنِي فِي الْمَنَاسِكِ وَالْمُتَعَبِّدَات؛ قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ يَدْخُلُ فِيهِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْأَمْنَ مِنْ الصَّلَاحِ، وَيَدْخُلُ التَّمَكُّنُ مِنْ الْمَنَاسِكِ وَالْعِبَادَاتِ؛ فَإِنَّ لِكُلٍّ مَصْلَحَةً. وَفَائِدَةُ ذَلِكَ وَحِكْمَتُهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْخَلْقَ فِي الْجِبِلَّةِ أَخْيَافًا يَتَقَاطَعُونَ تَدَابُرًا وَاخْتِلَافًا، وَيَتَنَافَسُونَ فِي لَفِّ الْحُطَامِ إسْرَافًا، لَا يَبْتَغُونَ فِيهِ إنْصَافًا، وَلَا يَأْتَمِرُونَ فِيهِ بِرُشْدٍ اعْتِرَافًا، فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْخِلَافَةِ، وَجَعَلَ فِيهِمْ الْمَمْلَكَةَ، وَصَرَفَ أُمُورَهُمْ إلَى تَدْبِيرِ وَاحِدٍ يَزَعُهُمْ عَنْ التَّنَازُعِ، وَيَحْمِلُهُمْ عَلَى التَّأَلُّفِ مِنْ التَّقَاطُعِ، وَيَرْدَعُ الظَّالِمَ عَنْ الْمَظْلُومِ، وَيُقَرِّرُ كُلَّ يَدٍ عَلَى مَا تَسْتَوْلِي عَلَيْهِ حَقًّا، وَيَسُوسُهُمْ فِي أَحْوَالِهِمْ لُطْفًا وَرِفْقًا، وَأَوْقَعَ فِي قُلُوبِهِمْ صِدْقَ ذَلِكَ وَصَوَابَهُ، وَأَرَاهُمْ بِالْمُعَايَنَةِ وَالتَّجْرِبَةِ صَلَاحَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ وَمَآلِهِ، وَلَقَدْ يَزَعُ اللَّهُ بِالسُّلْطَانِ مَا لَا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ، فَالرِّيَاسَةُ لِلسِّيَاسَةِ وَالْمُلْكُ لِنَفْيِ الْمُلْكِ، وَجَوْرُ السُّلْطَانِ عَامًا وَاحِدًا أَقَلُّ إذَايَةً مِنْ كَوْنِ النَّاسِ فَوْضَى لَحْظَةً وَاحِدَةً، فَأَنْشَأَ اللَّهُ الْخَلِيقَةَ لِهَذِهِ الْفَائِدَةِ وَالْمَصْلَحَةِ عَلَى الْمُلُوكِ وَالْخُلَفَاءِ، كُلَّمَا بَانَ خَلِيفَةٌ خَلَفَهُ آخَرُ، وَكُلَّمَا هَلَكَ مَلِكٌ مَلَكَ بَعْدَهُ غَيْرُهُ؛ لِيَسْتَتِبَّ بِهِ التَّدْبِيرُ، وَتَجْرِيَ عَلَى مُقْتَضَى رَأْيِهِ الْأُمُورُ، وَيَكُفَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ عَادِيَةَ الْجُمْهُورِ؛ فَإِذَا بَعَثَ نَبِيًّا سَخَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ الْمُلْكَ فِي وَقْتِهِ إنْ كَانَ ضَعِيفًا، فَكَانَ صَغْوُهُ إلَيْهِ وَعَوْنُهُ مَعَهُ، كَمَا فَعَلَ بِدَانْيَالَ وَأَمْثَالِهِ. وَإِنْ بَعَثَهُ قَوِيًّا يَسَّرَ لَهُ الِاسْتِيلَاءَ عَلَى الزَّمَانِ وَأَهْلِهِ، وَأَعْرَى أَرْضَ السُّلْطَانِ عَنْ ظِلِّهِ، وَجَعَلَ الْأَمْرَ فِي الدِّينِ وَأَهْلِهِ، كَمَا فَعَلَ بِمُوسَى، وَلِمَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْ التَّيْسِيرِ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ، وَالتَّقْدِيمِ لَهُ، وَالتَّشْرِيفِ لِقَوْمِهِ أَسْكَنَ أَبَاهُ إسْمَاعِيلَ الْبَلْدَةَ الْحَرَامَ حَيْثُ لَا إنْسَ وَلَا أَنِيسَ، وَاسْتَخْرَجَ فِيهَا ذُرِّيَّتَهُ، وَسَاقَ إلَيْهِ مِنْ الْجُوَارِ مَنْ عَمَرَتْ بِهِ تِلْكَ الْبِلَادُ وَالدِّيَارُ، وَجَرَّدَهُمْ عَنْ الْمُلْكِ تَقَدُّمَةً لِرِئَاسَةِ الْمِلَّةِ، وَكَانُوا عَلَى جِبِلَّةِ الْخَلِيقَةِ

وَسَلِيقَةِ الْآدَمِيَّةِ، مِنْ التَّحَاسُدِ وَالتَّنَافُسِ، وَالتَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ، وَالسَّلْبِ وَالْغَارَةِ، وَالْقَتْلِ وَالثَّارَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ فِي الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْمَشِيئَةِ الْأَوَّلِيَّةِ مِنْ كَافٍّ يَدُومُ مَعَ الْحَالِ، وَرَادِعٍ يُحْمَدُ مَعَهُ الْمَآلُ؛ فَعَظَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي قُلُوبِهِمْ الْبَيْتَ الْحَرَامَ لِحَقِّهِ، وَأَوْقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ هَيْبَتَهُ لِحِكْمَتِهِ، وَعَظَّمَ بَيْنَهُمْ حُرْمَتَهُ لِقَهْرِهِ؛ فَكَانَ مَنْ لَجَأَ إلَيْهِ مَعْصُومًا بِهِ، وَكَانَ مَنْ اُضْطُهِدَ مَحْمِيًّا بِالْكَوْنِ فِيهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67]. بَيْدَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَوْضِعًا مَخْصُومًا لَا يُدْرِكُهُ كُلُّ مَظْلُومٍ وَلَا يَنَالُهُ كُلُّ خَائِفٍ جَعَلَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: مَلْجَأٌ آخَرُ، فَقَرَّرَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَأَوْقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ حُرْمَةَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ؛ فَكَانُوا لَا يَرُوعُونَ فِيهَا سَرْبًا، وَلَا يَطْلُبُونَ فِيهَا ذَنْبًا، وَلَا يَتَوَقَّعُونَ فِيهَا ثَأْرًا، حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى قَاتِلَ أَبِيهِ وَابْنِهِ وَأَخِيهِ فَلَا يُؤْذِيهِ. وَاقْتَطَعُوا فِيهَا ثُلُثَ الزَّمَانِ، وَوَصَلُوا مِنْهَا ثَلَاثَةً مُتَوَالِيَةً، فُسْحَةً وَرَاحَةً، وَمَجَالًا لِلسِّيَاحَةِ فِي الْأَمْنِ وَاسْتِرَاحَةً، وَجَعَلُوا مِنْهَا وَاحِدًا مُفْرَدًا فِي نِصْفِ الْعَامِ دَرْكًا لِلِاحْتِرَامِ؛ ثُمَّ يَسَّرَ لَهُمْ الْإِلْهَامَ، وَشَرَعَ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ الْكِرَامِ الْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ، فَكَانُوا إذَا أَخَذُوا بَعِيرًا أَشْعَرُوهُ دَمًا، وَعَلَّقُوا عَلَيْهِ نَعْلًا. رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: أَنَّ الْقَلَائِدَ حَبْلٌ يَفْتِلُهُ، وَنَعْلَانِ يُقَلِّدُهُمَا، وَالنَّعْلُ الْوَاحِدُ تُجْزِي؛ وَلِذَلِكَ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُقَلِّدُ نَعْلَيْنِ. وَرُبَّمَا قَلَّدَ نَعْلًا وَاحِدًا، فَإِذَا فَعَلَ الرَّجُلُ ذَلِكَ فِي بَعِيرِهِ أَوْ فِي نَفْسِهِ لَمْ يَرُعْهُ ذَلِكَ حَيْثُ لَقِيَهُ، وَكَانَ الْفَيْصَلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ طَلَبَهُ أَوْ ظَلَمَهُ، حَتَّى جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ، وَبَيَّنَ الْحَقَّ بِمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَانْتَظَمَ الدِّينُ فِي سَلْكِهِ، وَعَادَ الْحَقُّ إلَى نِصَابِهِ، وَبِهَذَا وَجَبَتْ الْخِلَافَةُ هُدًى، وَمَنَعَ اللَّهُ الْخَلْقَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُتْرَكَ

الآية التاسعة والعشرون قوله تعالى قل لا يستوي الخبيث والطيب

سُدًى، فَأُسْنِدَتْ الْإِمَامَةُ إلَيْهِ، وَانْبَنَى وُجُوبُهَا عَلَى الْخَلْقِ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [المائدة: 97] إلَى آخِرِ الْآيَةِ: الْمَعْنَى أَنَّهُ دَبَّرَ ذَلِكَ مِنْ حُكْمِهِ، وَأَنْفَذَهُ مِنْ قَضَائِهِ بِقُدْرَتِهِ عَلَى مُقْتَضَى عِلْمِهِ، لِيَعْلَمُوا بِظُهُورِ هَذَا التَّقْدِيرِ وَانْتِظَامِهِ فِي التَّدْبِيرِ عُمُومَ عِلْمِهِ، وَشُمُولَ قُدْرَتِهِ، وَإِحَاطَتَهُ بِذَلِكَ كُلِّهِ، كَيْفَمَا تَصَرَّفَ أَوْ تَقَدَّرَ. [الْآيَة التَّاسِعَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ] قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 100]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْخَبِيثِ: وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْكَافِرُ. وَالثَّانِي: الْحَرَامُ. وَأَمَّا الطَّيِّبُ وَهِيَ: [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ]: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: [الطَّيِّبُ]: وَفِيهِ أَيْضًا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُؤْمِنُ. الثَّانِي: الْحَلَالُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100]: وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخِطَابَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُعْجِبُهُ الْكُفَّارُ وَلَا الْحَرَامُ، وَإِنَّمَا يُعْجِبُ ذَلِكَ النَّاسَ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِعْجَابًا بِهِ لَهُ أَنَّهُ صَارَ عِنْدَهُ عَجَبًا مِمَّا يُشَاهِدُ مِنْ كَثْرَةِ الْكُفَّارِ، وَالْمَالِ الْحَرَامِ، وَقِلَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقِلَّةِ الْمَالِ الْحَلَالِ. وَقَدْ سَبَقَ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَحُكْمُهُ بِذَلِكَ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا آدَم، ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ فَيَقُولُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ لِلنَّارِ وَوَاحِدٌ لِلْجَنَّةِ». الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي وَجْهِ عَدَمِ اسْتِوَائِهِ وَوُجُوبِ تَفَاوُتِهِ: إنَّ الْحَرَامَ يُؤْذِي فِي الدِّينِ، وَيَجِبُ فَسْخُهُ وَرَدُّهُ، وَالْحَلَالُ يَنْفَعُ وَيَجِبُ إمْضَاؤُهُ [وَيَصِحُّ تَنْفِيذُهُ]. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28]. وَقَالَ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21] وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]. فَلَا يُعْجِبَنَّكَ كَثْرَةُ الْمَالِ الرِّبَوِيِّ، وَنُقْصَانُ الْمَالِ بِصَدَقَتِهِ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَمْحَقُ ذَلِكَ الْكَثِيرَ فِي الْعَاقِبَةِ، وَيُنَمِّي الْمَالَ الزَّكَاتِيَّ بِالصَّدَقَةِ؛ وَبِهَذَا احْتَجَّ مِنْ عُلَمَائِنَا مَنْ رَأَى أَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ يُفْسَخُ، وَلَا يُمْضَى بِحَوَالَةِ سُوقٍ، وَلَا بِتَغَيُّرِ بَدَنٍ؛ فَيَسْتَوِي فِي إمْضَائِهِ مَعَ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ؛ بَلْ يُفْسَخُ أَبَدًا.

مسألة حقيقة الاستواء في قوله تعالى قل لا يستوي الخبيث والطيب

وَقَدْ احْتَجَّ أَيْضًا مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَنْ اكْتَرَى قَاعَةً إلَى أَمَدٍ فَكَمُلَ أَمَدُهُ، وَقَدْ بَنَى بِهَا وَأَسَّسَ، فَأَرَادَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَنْ يُخْرِجَهُ، فَإِنَّهُ يَدْفَعُ إلَيْهِ قِيمَةَ بِنَائِهِ قَائِمًا، وَلَا يَهْدِمُهُ عَلَيْهِ، كَمَا يُفْعَلُ بِالْغَاصِبِ إذَا بَنَى فِي الْبُقْعَةِ الْمَغْصُوبَةِ. وَنَظَرَ آخَرُونَ إلَى أَنَّ الْبَيْعَ إذَا فُسِخَ بَعْدَ الْفَوْتِ يَكُونُ فِيهِ غَبْنٌ عَلَى أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَلَا عُقُوبَةَ فِي الْأَمْوَالِ. وَكَذَلِكَ إذَا كَمُلَ أَمَدُ الْبَانِي فَأَيُّ حُجَّةٍ لَهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الْبُنْيَانَ إلَى أَمَدٍ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْعَرْصَةِ سَيَحْتَاجُ إلَى عَرْصَتِهِ لِمِثْلِ مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ الْبِنَاءِ أَوْ لِغَيْرِهِ، فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَلْزَمَهُ إخْلَاؤُهَا مِمَّا شَغَلَهَا بِهِ. وَهَذِهِ كُلُّهَا حُقُوقٌ مُرْتَبِطَةٌ بِحَقَائِقَ وَأَدِلَّةٍ تَتَّفِقُ تَارَةً وَتَفْتَرِقُ أُخْرَى، وَتَتَبَايَنُ تَارَةً وَتَتَمَاثَلُ أُخْرَى. وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [مَسْأَلَة حَقِيقَةُ الِاسْتِوَاء فِي قَوْله تَعَالَى قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: حَقِيقَةُ الِاسْتِوَاءِ: الِاسْتِمْرَارُ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمِثْلُهُ الِاسْتِقَامَةُ، وَضِدُّهُ الِاعْوِجَاجُ، وَذَلِكَ يَتَصَرَّفُ إلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: الِاسْتِوَاءُ فِي الْمِقْدَارِ، وَلَا يَتَسَاوَى الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ مِقْدَارًا فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الْخَبِيثَ أَوْزَنُ دُنْيَا وَالطَّيِّبُ أَوْزَنُ أُخْرَى. الثَّانِي: الِاسْتِوَاءُ فِي الْمَكَانِ، وَلَا يَسْتَوِيَانِ أَيْضًا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْخَبِيثَ فِي النَّارِ وَالطَّيِّبَ فِي الْجَنَّةِ. الثَّالِثُ: الِاسْتِوَاءُ فِي الذَّهَابِ، وَلَا يَتَسَاوَيَانِ أَيْضًا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْخَبِيثَ يَأْخُذُ جِهَةَ الشِّمَالِ وَالطَّيِّبَ يَأْخُذُ فِي جِهَةِ الْيَمِينِ. الرَّابِعُ: الِاسْتِوَاءُ فِي الْإِنْفَاقِ، وَلَا يَسْتَوِيَانِ أَيْضًا فِيهِ؛ لِأَنَّ مُنْفِقَ الْخَبِيثِ يَعُودُ عَلَيْهِ الْخُسْرَانُ فِي الدَّارَيْنِ، وَمُنْفِقَ الطَّيِّبِ يَرْبَحُ فِي الدَّارَيْنِ. أَمَّا خُسْرَانُ الْأَوَّلِ فَنَقْصُ مَالِهِ

الآية الموفية ثلاثين قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم

فِي الدُّنْيَا، وَنَقْصُ مَالِهِ فِي الْآخِرَةِ؛ وَرَبِحَ مُنْفِقُ الطَّيِّبِ فِي الدُّنْيَا حُسْنُ النِّيَّةِ وَصِدْقُ الرَّجَاءِ فِي الْعِوَضِ، وَرِبْحُهُ فِي الْآخِرَةِ ثِقَلُ الْمِيزَانِ. [الْآيَة الْمُوفِيَة ثَلَاثِينَ قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ] الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ ثَلَاثِينَ: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة: 101] {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة: 102]. فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُطْبَةً مَا سَمِعْنَا مِثْلَهَا. قَالَ: لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا. قَالَ: فَغَطَّى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وُجُوهَهُمْ، وَلَهُمْ حُنَيْنٌ. فَقَالَ رَجُلٌ: مَنْ أَبِي؟ فَقَالَ: أَبُوك فُلَانٌ»، فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]. الثَّانِي: ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، «كَانُوا يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتِهْزَاءً، فَيَقُولُ الرَّجُلُ: مَنْ أَبِي؟ وَيَقُولُ الرَّجُلُ: تَضِلُّ نَاقَتُهُ: أَيْنَ نَاقَتِي»؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]. الثَّالِثُ: رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ قَالَ: لَا. وَلَوْ قُلْت: نَعَمْ لَوَجَبَتْ». فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ بَعْضُهُ.

مسألة معنى قوله تعالى وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم

الرَّابِعُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْبَحِيرَةِ، وَالسَّائِبَةِ، وَالْوَصِيلَةِ، وَالْحَامِ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]: هَذَا الْمَسَاقُ يُعَضِّدُ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى أَنَّ سَبَبَهَا سُؤَالُ ذَلِكَ الرَّجُلِ: مَنْ أَبِي؟ لِأَنَّهُ لَوْ كَشَفَ لَهُ عَنْ سِرِّ أُمِّهِ رُبَّمَا كَانَتْ قَدْ بَغَتْ عَلَيْهِ فَيَلْحَقُ الْعَارُ بِهِمْ. وَلِذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ أُمَّ السَّائِلِ قَالَتْ لَهُ: يَا بُنَيَّ؛ أَرَأَيْت أُمَّك لَوْ قَارَفْت بَعْضَ مَا كَانَ يُقَارِفُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، أَكُنْت تَفْضَحُهَا؟ فَكَانَ السَّتْرُ أَفْضَلَ. وَيُعَضِّدُهُ أَيْضًا رِوَايَةُ مَنْ رَوَى عَنْ تَفْسِيرِ فَرْضِ الْحَجِّ؛ فَإِنَّ تَكْرَارَهُ مُسْتَثْنًى لِعَظِيمِ الْمَشَقَّةِ فِيهِ، وَعَظِيمِ الِاسْتِطَاعَةِ عَلَيْهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ بِأَشْيَاءَ فَامْتَثِلُوهَا، وَنَهَاكُمْ عَنْ أَشْيَاءَ فَاجْتَنِبُوهَا، وَسَكَتَ لَكُمْ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً مِنْهُ، فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهَا». [مَسْأَلَةُ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} [المائدة: 101]: وَهَذَا يَشْهَدُ لِكَوْنِهَا مِنْ بَابِ التَّكْلِيفِ الَّذِي لَا يُبَيِّنُهُ إلَّا نُزُولُ الْقُرْآنِ، وَجَعَلَ نُزُولَ الْقُرْآنِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْجَوَابِ؛ إذْ لَا شَرْعَ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَقِّقُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} [المائدة: 101] أَيْ أَسْقَطَهَا، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَاَلَّذِي يَسْقُطُ لِعَدَمِ بَيَانِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِيهِ وَسُكُوتِهِ عَنْهُ هُوَ بَابُ التَّكْلِيفِ فَإِنَّهُ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، فَيُحَرِّمُ عَالِمٌ، وَيُحِلُّ آخَرُ، وَيُوجِبُ مُجْتَهِدٌ. وَيُسْقِطُ آخَرُ؛ وَاخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةٌ لِلْخَلْقِ، وَفُسْحَةٌ فِي الْحَقِّ، وَطَرِيقٌ مَهْيَعٌ إلَى الرِّفْقِ. [مَسْأَلَةُ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 102]: فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:

مسألة تحريم أسئلة النوازل

الْأَوَّلُ: قَوْمُ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْمَائِدَةِ. الثَّانِي: قَوْمُ صَالِحٍ فِي النَّاقَةِ. الثَّالِثُ: قُرَيْشٌ فِي الصَّفَا ذَهَبًا. الرَّابِعُ: بَنُو إسْرَائِيلَ، كَانَتْ تَسْأَلُ: فَإِذَا عَرَفْت بِالْحُكْمِ لَمْ تُقِرَّ وَلَمْ تَمْتَثِلْ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي الْكُلِّ، وَلَقَدْ كَفَرَتْ الْعِيسَوِيَّةُ بِعِيسَى وَبِالْمَائِدَةِ، وَالصَّالِحِيَّةِ بِالنَّاقَةِ، وَالْمَكِّيَّةِ بِكُلِّ مَا شَهِدَتْ مِنْ آيَةٍ، وَعَايَنَتْ مِنْ مُعْجِزَةٍ مِمَّا سَأَلَتْهُ وَمِمَّا لَمْ تَسْأَلْهُ عَلَى كَثْرَتِهَا؛ وَهَذَا تَحْذِيرٌ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ مَنْ سَبَقَ مِنْ الْأُمَمِ. [مَسْأَلَة تَحْرِيمَ أَسْئِلَةِ النَّوَازِلِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اعْتَقَدَ قَوْمٌ مِنْ الْغَافِلِينَ تَحْرِيمَ أَسْئِلَةِ النَّوَازِلِ حَتَّى تَقَعَ تَعَلُّقًا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ جَهْلٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَدْ صَرَّحَتْ بِأَنَّ السُّؤَالَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ إنَّمَا كَانَ فِيمَا تَقَعُ الْمَسَاءَةُ فِي جَوَابِهِ، وَلَا مَسَاءَةَ فِي جَوَابِ نَوَازِلِ الْوَقْتِ، وَقَدْ كَانَ مَنْ سَلَفَ مِنْ السَّلَفِ الصَّالِحِ يَكْرَهُهَا أَيْضًا، وَيَقُولُ فِيمَا يَسْأَلُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ: دَعُوهُ دَعُوهُ حَتَّى يَقَعَ، يُرِيدُ: فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حِينَئِذٍ يُعِينُ عَلَى جَوَابِهِ، وَيَفْتَحُ إلَى الصَّوَابِ مَا اسْتَبْهَمَ مِنْ بَابِهِ؛ وَتَعَاطِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ غُلُوٌّ فِي الْقَصْدِ، وَسَرَفٌ مِنْ الْمُجْتَهِدِ؛ وَقَدْ وَقَفَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى رَبِيعَةِ الرَّأْيِ وَهُوَ يُفَرِّعُ الْمَسَائِلَ، فَقَالَ: مَا الْعِيُّ عِنْدَنَا إلَّا مَا هَذَا فِيهِ مُنْذُ الْيَوْمِ. وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَنِيَ بِبَسْطِ الْأَدِلَّةِ، وَإِيضَاحِ سُبُلِ النَّظَرِ، وَتَحْصِيلِ مُقَدَّمَاتِ الِاجْتِهَادِ، وَإِعْدَادِ الْآلَةِ الْمُعِينَةِ عَلَى الِاسْتِمْدَادِ؛ فَإِذَا عَرَضَتْ النَّازِلَةُ أَتَيْت مِنْ بَابِهَا، وَنُشِدَتْ فِي مَظَانِّهَا، وَاَللَّهُ يَفْتَحُ فِي صَوَابِهَا. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاء إنْ تَبْدُ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: وَهُمْ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي ثَلَاثَةِ فُصُولٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ: إنَّ قَوْلَهُ: {لا تَسْأَلُوا} [المائدة: 101] إلَى قَوْلِهِ: {تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] سُؤَالٌ عَمَّا لَا يَعْنِي، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ هُوَ سُؤَالٌ عَمَّا يَضُرُّ وَيَسُوءُ، فَفَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنْ شَيْءٍ يَضُرُّ. وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَمَّا لَا يَعْنِي. وَهَذَا بَيِّنٌ.

الآية الحادية والثلاثون قوله تعالى ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة

الثَّانِي: قَالَ: قَوْلُهُ: {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} [المائدة: 101] يَعْنِي: وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُ نَهَاهُمْ فَكَيْفَ يَنْهَاهُمْ وَيَقُولُ: إنَّهُ يُبَيِّنُ لَهُمْ إنْ سَأَلُوهُ عَنْهَا. وَهَذَا اسْتِبْعَادٌ مَحْضٌ عَارٍ عَنْ الْبُرْهَانِ؛ وَأَيُّ فَرْقٍ أَوْ أَيُّ اسْتِحَالَةٍ فِي أَنْ يُقَالَ: لَا تَسْأَلْ، فَإِنَّك إنْ سَأَلْت يُبَيِّنُ لَك مَا يَسُوءُك، فَالسُّكُوتُ عَنْهُ أَوْلَى بِك، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَفَا عَنْهَا لَك. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 102]: قَالَ: فَهَذَا السُّؤَالُ لِغَيْرِ الشَّيْءِ، وَالْأَوَّلُ وَالثَّانِي هُوَ سُؤَالٌ عَنْ غَيْرِ الشَّيْءِ، وَهَذَا كَلَامٌ فَاتِرٌ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ضِدُّهُ حِينَ قَالَ: إنَّ السُّؤَالَ الثَّانِيَ هُوَ سُؤَالٌ عَنْ الشَّيْءِ، وَفِيمَا قَدَّمْنَاهُ بَلَاغٌ فِي الْآيَةِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ، وَبِهِ التَّوْفِيقُ. [الْآيَة الْحَادِيَة وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ] الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103]. فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {جَعَلَ} [المائدة: 103]: وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْسِيمُهُ وَتَفْسِيرُهُ، وَمَعْنَى اللَّفْظِ هَاهُنَا: مَا سَمَّى اللَّهُ ذَلِكَ حُكْمًا وَلَا يُعْتَدُّ بِهِ شَرْعًا، بَيْدَ أَنَّهُ قَضَى بِهِ عِلْمًا، وَأَوْجَدَهُ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ خَلْقًا؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَنَفْعٍ وَضُرٍّ، وَطَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ. [مَسْأَلَةُ تَفْسِير الْمُسَمَّيَاتِ فِي قَوْله تَعَالَى مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَة] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ الْمُسَمَّيَاتِ فِيهَا لُغَةٌ: فَالْبَحِيرَةُ، هِيَ: النَّاقَةُ الْمَشْقُوقَةُ الْأُذُنُ لُغَةً، يُقَالُ: بَحَرْت أُذُنَ النَّاقَةِ أَيْ شَقَقْتهَا. وَالسَّائِبَةُ، هِيَ: الْمُخَلَّاةُ لَا قَيْدَ عَلَيْهَا وَلَا رَاعِيَ لَهَا. وَالْوَصِيلَةُ فِي الْغَنَمِ: كَانَتْ الْعَرَبُ إذَا وَلَدَتْ الشَّاةُ أُنْثَى كَانَتْ لَهُمْ، وَإِنْ وَلَدَتْ

ذَكَرًا كَانَتْ لِآلِهَتِهِمْ، وَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى قَالُوا: وَصَلَتْ أَخَاهَا، فَكَانَ الْكُلُّ لِلْآلِهَةِ، وَلَمْ يَذْبَحُوا الذَّكَرَ. وَالْحَامِي: كَانَتْ الْعَرَبُ إذَا نَتَجَتْ مِنْ صُلْبِ الْفَحْلِ عَشَرَةُ أَبْطُنٍ قَالُوا: حَمَى ظَهْرَهُ فَسَيَّبُوهُ لَا يُرْكَبُ وَلَا يُهَاجُ. وَلِهَذِهِ الْآيَةِ تَفْسِيرٌ طَوِيلٌ بِاخْتِلَافٍ كَثِيرٍ يَرْجِعُ إلَى مَا أَوْضَحَهُ مَالِكٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْتِقُونَ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ يُسَيِّبُونَهَا، فَأَمَّا الْحَامِي فَمِنْ الْإِبِلِ؛ كَانَ الْفَحْلُ إذَا انْقَضَى ضِرَابُهُ جَعَلُوا عَلَيْهِ مِنْ رِيشِ الطَّوَاوِيسِ وَسَيَّبُوهُ. وَأَمَّا الْوَصِيلَةُ فَمِنْ الْغَنَمِ وَلَدَتْ أُنْثَى بَعْدَ أُنْثَى سَيَّبُوهَا. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَوَّلُ مَنْ نَصَبَ النُّصُبَ، وَسَيَّبَ السَّوَائِبَ، وَغَيَّرَ عَهْدَ إبْرَاهِيمَ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ؛ وَلَقَدْ رَأَيْته يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، يُؤْذِي أَهْلَ النَّارِ بِرِيحِهِ». قَالَ: وَأَوَّلُ مَنْ بَحَرَ الْبَحَائِرَ «رَجُلٌ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ عَمَدَ إلَى نَاقَتَيْنِ لَهُ، فَجَدَعَ آذَانَهُمَا، وَحَرَّمَ أَلْبَانَهُمَا وَظُهُورَهُمَا، ثُمَّ احْتَاجَ إلَيْهِمَا، فَشَرِبَ أَلْبَانَهُمَا، وَرَكِبَ ظُهُورَهُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَقَدْ رَأَيْتهمَا فِي النَّارِ يَخْبِطَانِهِ بِأَخْفَافِهِمَا وَيَعَضَّانِهِ بِأَفْوَاهِهِمَا». وَنَحْوُهُ عَلِيُّ بْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: " لَقَدْ رَأَيْته يُؤْذِي أَهْلَ النَّارِ بِرِيحِهِ " وَلَمْ يَزِدْ. وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ: السَّوَائِبُ الْغَنَمُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: الْبَحِيرَةُ بِنْتُ السَّائِبَةِ. وَالسَّائِبَةُ هِيَ النَّاقَةُ إذَا تَابَعَتْ بَيْنَ عَشْرِ إنَاثٍ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ ذَكَرٌ لَمْ يَرْكَبْ ظَهْرَهَا، وَلَمْ يُجَزَّ وَبَرَهَا، وَلَمْ يَشْرَبْ لَبَنَهَا إلَّا ضَيْفٌ فَمَا نَتَجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أُنْثَى شُقَّتْ أُذُنُهَا، وَخُلِّيَ سَبِيلُهَا مَعَ أُمِّهَا، فَلَمْ يَرْكَبْ ظَهْرَهَا، وَلَمْ يَجُزَّ وَبَرَهَا، وَلَمْ يَشْرَبْ لَبَنَهَا إلَّا ضَيْفٌ، كَمَا فُعِلَ بِأُمِّهَا؛ فَهِيَ الْبَحِيرَةُ بِنْتُ السَّائِبَةِ.

وَالْوَصِيلَةُ: الشَّاةُ إذَا أَتَأَمَّتْ عَشْرَ إنَاثٍ مُتَتَابِعَاتٍ فِي خَمْسَةِ أَبْطُنٍ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ ذَكَرٌ جُعِلَتْ وَصِيلَةً، قَالُوا: قَدْ وُصِلَتْ، فَكَانَ مَا وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لِلذُّكُورِ مِنْهُمْ دُونَ الْإِنَاثِ إلَّا أَنْ يَمُوتَ مِنْهَا شَيْءٌ فَيَشْتَرِكُونَ فِي أَكْلِهِ ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ. وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَكَانَ مَا وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لِذُكُورِهِمْ دُونَ إنَاثِهِمْ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَالْحَامِي الْفَحْلُ إذَا نَتَجَ لَهُ عَشْرُ إنَاثٍ مُتَتَابِعَاتٍ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ ذَكَرٌ حُمِيَ ظَهْرُهُ، فَلَمْ يُرْكَبْ ظَهْرُهُ، وَلَمْ يُجَزَّ وَبَرُهُ، وَخُلِّيَ فِي إبِلِهِ يَضْرِبُ، لَا يُنْتَفَعُ مِنْهُ بِشَيْءٍ بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْبَحِيرَةُ النَّاقَةُ. وَالْوَصِيلَةُ الشَّاةُ. وَالْحَامِي الْفَحْلُ. وَسَائِبَةٌ يَقُولُ يُسَيِّبُونَهَا لِأَصْنَامِهِمْ. وَرُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى عَمْرَو بْنَ لُحَيِّ بْنَ قَمْعَةَ بْنَ خِنْدِفٍ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ. قَالَ: فَسَأَلْته عَمَّنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مِنْ النَّاسِ. قَالَ: هَلَكُوا». وَرُوِيَ أَنَّ سَبَبَ نَصْبِ الْأَوْثَانِ وَتَغْيِيرِ دِينِ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إلَى الشَّامِ، فَلَمَّا قَدِمَ مَأْرِبَ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ؛ وَبِهَا يَوْمَئِذٍ الْعَمَالِيقُ أَوْلَادُ عِمْلِيقَ، وَيُقَالُ عِمْلَاقُ بْنُ لَاوِذْ بْنُ سَامِ بْنُ نُوحٍ، رَآهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا هَذِهِ الْأَصْنَامُ الَّتِي أَرَاكُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: هَذِهِ أَصْنَامٌ نَسْتَمْطِرُهَا فَتُمْطِرُنَا، وَنَسْتَنْصِرُنَا فَتَنْصُرُهَا. فَقَالَ لَهُمْ: أَفَلَا تُعْطُونِي مِنْهَا صَنَمًا أَسِيرُ بِهِ إلَى أَرْضِ الْعَرَبِ فَيَعْبُدُوهُ؟ فَأَعْطَوْهُ صَنَمًا يُقَالُ لَهُ هُبَلُ. فَقَدِمَ بِهِ مَكَّةَ فَنَصَبَهُ، وَأَخَذَ النَّاسُ بِعِبَادَتِهِ وَتَعْظِيمِهِ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحَقِّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة: 103]؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا بِزَعْمِهِمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِرِضَا رَبِّهِمْ وَفِي طَاعَتِهِ، وَطَاعَةُ اللَّهِ وَرِضَاهُ إنَّمَا تُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ

عِنْدَهُمْ لِلَّهِ بِذَلِكَ قَوْلٌ، فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَفْتَرُونَهُ عَلَى اللَّهِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 139]. وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]. وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام: 143]. وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [الأنعام: 138]. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لِأَكْثَمَ بْنِ الْجَوْنِ: «رَأَيْت عَمْرَو بْنَ لُحَيِّ بْنَ قَمْعَةَ بْنَ خِنْدِفٍ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، فَمَا رَأَيْت رَجُلًا أَشْبَهَ بِرَجُلٍ مِنْك بِهِ وَلَا بِهِ مِنْك. فَقَالَ أَكْثَمُ: أَخْشَى أَنْ يَضُرَّنِي شَبَهُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: لَا؛ لَأَنَّك مُؤْمِنٌ وَهُوَ كَافِرٌ؛ إنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إسْمَاعِيلَ، وَبَحَرَ الْبَحِيرَةَ، وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ، وَحَمَى الْحَامِيَ». وَرَوَى أَبُو الْأَحْوَصِ عَوْنُ بْنُ مَالِكٍ بْنُ نَضْلَةَ الْجُشَمِيُّ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّهُ وَفَدَ عَلَى

مسألة ذم الله تعالى العرب على ما كانت تفعله

النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَرَبُّ إبِلٍ أَنْتَ أَمْ رَبُّ غَنَمٍ؟ فَقَالَ: مِنْ كُلِّ الْمَالِ آتَانِي اللَّهُ فَأَكْثَرَ وَأَطْيَبَ. فَقَالَ: هَلْ تُنْتِجُ إبِلُك صِحَاحًا آذَانُهَا فَتَعْمِدَ إلَى الْمَوَاسِي فَتَقْطَعَ آذَانَهَا، فَتَقُولَ: هَذِهِ بُحُرٌ. وَتَشُقُّ جُلُودَهَا، فَتَقُولَ: هَذِهِ صُرُمٌ، فَتُحَرِّمُهَا عَلَيْك وَعَلَى أَهْلِك؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَحَلَّ لَك مَا آتَاك، وَمُوسَى اللَّهِ أَحَدُّ، وَسَاعِدُ اللَّهِ أَشَدُّ». [مَسْأَلَة ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الْعَرَبَ عَلَى مَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَمَّا ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الْعَرَبَ عَلَى مَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ مِنْ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ تَحْذِيرًا لِلْأُمَّةِ عَنْ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ مِنْ الْبَاطِلِ، وَلَزِمَهُمْ الِانْقِيَادُ إلَى مَا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، دُونَ التَّعَلُّقِ بِمَا كَانَ يُلْقِيهِ إلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ مِنْ الْأَبَاطِيلِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: الْحَبْسُ الَّذِي جَاءَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِطْلَاقِهَا الَّتِي فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} [المائدة: 103]. قَالَ الشَّافِعِيُّ: هَذَا الَّذِي كَلَّمَ بِهِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ أَبَا يُوسُفَ عِنْدَ هَارُونَ. وَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ أَبَا يُوسُفَ خَالَفَ مَالِكًا فِي الْأَحْبَاسِ، وَرَأَى رَأْيَ شَيْخِهِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّ الْحَبْسَ بَاطِلٌ. وَرَوَى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: حَضَرْت مَالِكًا وَقَدْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَنْ صَدَقَةِ الْحَبْسِ، فَقَالَ: إذَا حِيزَتْ مَضَتْ. قَالَ الْعِرَاقِيُّ: إنَّ شُرَيْحًا قَالَ: لَا حَبْسَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ. فَضَحِكَ مَالِكٌ، وَكَانَ قَلِيلَ الضَّحِكِ، وَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ شُرَيْحًا لَوْ دَرَى مَا صَنَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَاهُنَا.

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مَالِكًا قَالَ لَهُ أَبُو يُوسُفَ بِحَضْرَةِ الرَّشِيدِ: إنَّ الْحَبْسَ لَا يَجُوزُ. فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: فَهَذِهِ الْأَحْبَاسُ أَحْبَاسُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَيْبَرَ وَفَدَكَ وَأَحْبَاسُ أَصْحَابِهِ؟ فَأَمَّا «حَظُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ». وَأَمَّا أَصْحَابُهُ: فَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرِ، وَعَائِشَةَ، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَرَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَجَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنَ عُمَرَ، وَأُمَّ سَلَمَةَ، وَحَفْصَةَ، وَقَدْ رَوَى حَدِيثَ عُمَرَ جَمَاعَةٌ، قَالُوا: «إنَّ عُمَرَ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنِّي أَصَبْت مَالًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ قَطُّ مَالًا أَنْفَسَ مِنْهُ يَعْنِي بِسَمْعٍ، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: احْبِسْ الْأَصْلَ وَسَبِّلْ الثَّمَرَاتِ». وَأَشَارَ بِهِ إلَى الصَّدَقَةِ الدَّائِمَةِ فَإِنَّهُ لَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عُمَرُ صَدَقَةً فَبِيعَ لَانْقَطَعَ أَجْرُهُ فِي الْحَبْسِ؛ وَكَتَبَ عُمَرُ فِي شَرْطِهِ: " هَذَا مَا تَصَدَّقَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ صَدَقَةً لَا تُبَاعُ وَلَا تُورَثُ وَلَا تُوهَبُ، لِلْفُقَرَاءِ، وَالْقُرْبَى، وَالرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالضَّيْفِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا ". وَجَاءَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ هَذِهِ أُمَّهَاتُهَا. وَتَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَابَ عَلَى الْعَرَبِ مَا كَانَتْ تَفْعَلُ مِنْ تَسْيِيبِ الْبَهَائِمِ وَحِمَايَتِهَا وَحَبْسِ أَنْفُسِهَا عَنْهَا. وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَابَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَصَرَّفُوا بِعُقُولِهِمْ بِغَيْرِ شَرْعٍ تَوَجَّهَ إلَيْهِمْ، أَوْ تَكْلِيفٍ فُرِضَ عَلَيْهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا عَابَ عَلَيْهِمْ أَنْ نَقَلُوا الْمِلْكَ إلَى غَيْرِ مَالِكٍ، وَالْمِلْكُ قَدْ عَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَمْوَالِ، وَجَعَلَ الْأَيْدِي تَتَبَادَلُ فِيهِ بِوُجُوهٍ شَرْعِيَّةٍ، أَوْ تَبْطُلُ فِي الْأَعْيَانِ بِمَعَانٍ قَرِيبَةٍ، كَالْعِتْقِ وَالْهَدْيِ؛ فَأَمَّا هَذِهِ الطَّرِيقُ فَبِدْعَةٌ. قُلْنَا: بَلْ سُنَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ.

مسألة عتق السائبة

جَوَابٌ ثَانٍ: وَذَلِكَ أَنَّ الْحَبْسَ عِنْدَنَا لَا يَنْقُلُ الْمِلْكَ؛ بَلْ يَبْقَى عَلَى حُكْمِ مَالِكِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْحَبْسُ فِي الْغَلَّةِ وَالْمَنْفَعَةِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي يُنْقَلُ الْمِلْكُ إلَى الْمَحْبُوسِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَالِكٌ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا كَانَ يَصِحُّ هَذَا لَوْ كَانُوا مُعَيَّنِينَ، فَأَمَّا الْمَجْهُولُ وَالْمَعْدُومُ فَلَا يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ إلَيْهِ. قُلْنَا: هَذَا يَبْطُلُ بِأَرْبَعَةِ مَسَائِلَ: الْأُولَى الْمَسْجِدُ. الثَّانِيَةُ الْمَقْبَرَةُ. الثَّالِثَةُ الْقَنْطَرَةُ، قَالُوا يَصِحُّ هَذَا، وَهُوَ حَبْسٌ عَلَى مَعْدُومٍ وَمَجْهُولٍ [وَهُوَ الرَّابِعُ]. جَوَابٌ خَامِسٌ: وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ نَاقَضَ؛ فَقَالَ: إذَا أَوْصَى بِالْحَبْسِ جَازَ، وَهَذِهِ الْمُنَاقَضَاتُ الْخَمْسُ لَا جَوَابَ لَهُ عَنْهَا إلَّا وَيَنْعَكِسُ عَلَيْهِمْ فِي مَسْأَلَتِنَا، وَلَهُمْ آثَارٌ لَمْ نَرْضَ ذِكْرَهَا لِبُطْلَانِهَا. [مَسْأَلَةُ عِتْقِ السَّائِبَةِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي عِتْقِ السَّائِبَةٍ: قَالَ أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ: أَكْرَهُ عِتْقَ السَّائِبَةِ؛ لِأَنَّهُ كَهِبَةِ الْوَلَاءِ. وَقَالَ عِيسَى: أَكْرَهُهُ وَأَنْهَى عَنْهُ. قَالَ سَحْنُونٌ: لَا يُعْجِبُنَا كَرَاهِيَتُهُ لَهُ، وَهُوَ جَائِزٌ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتِقَ عَنْ غَيْرِهِ يُرِيدَانِ: وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ هِبَةً لِلْوَلَاءِ، كَذَلِكَ فِي السَّائِبَةِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَاهُ صَحِيحٌ عَلَى تَعْلِيلِهِ. وَأَمَّا لَوْ عَلَّلَ الْكَرَاهَةَ بِأَنَّهَا لَفْظَةٌ مَذْمُومَةٌ شَرْعًا، فَلَا يَتَقَرَّبُ بِهَا؛ إذْ لَهُ فِي غَيْرِهَا مِنْ أَلْفَاظِ الْعِتْقِ فِي كِنَايَاتِهِ وَصَرَائِحِهِ مَنْدُوحَةٌ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ، وَتَبَيَّنَتْ الْمَسْأَلَةُ؛ وَبِالْكَرَاهَةِ أَقُولُ لِلْمَعْنَى الَّذِي نَبَّهْت عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي تَصْوِيرِهِ: وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِلْعَبْدِ: أَنْتَ سَائِبَةٌ، وَيَنْوِيَ الْعِتْقَ. أَوْ يَقُولَ: أُعْتِقُك سَائِبَةً.

مسألة معنى قوله تعالى ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب

فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَلَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ شِهَابٍ، رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَمُطَرِّفٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: وَلَاؤُهُ لِمُعْتِقِهِ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَابْنُ نَافِعٍ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ. وَجْهُ الْأَوَّلِ: أَنَّ اللَّفْظَ يَقْتَضِي أَنْ يَزُولَ عَنْهُ الْمِلْكُ وَالْيَدُ وَيَبْقَى كَالْجَمَلِ الْمُسَيَّبِ الَّذِي لَا يُعْرَضُ لَهُ، وَلَوْ تَبَيَّنَ الْوَلَاءُ لِأَحَدٍ لَمْ يَتَحَقَّقْ هَذَا الْمَعْنَى. وَوَجْهُ الثَّانِي وَبِهِ أَقُولُ: إنَّهُ لَا سَائِبَةَ فِي الْإِسْلَامِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ». وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يُعْتَقْ عَنْ مُعَيَّنٍ، فَلَا يَخْرُجُ الْوَلَاءُ عَنْهُ، كَمَا لَوْ أَطْلَقَ الْعِتْقَ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة: 103]: وَهَذَا عَامٌّ فِيهِمْ، لَكِنْ افْتِرَاؤُهُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهُمْ: افْتِرَاءُ مُعَانِدٍ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا كَذِبٌ وَزُورٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَعْلَمُهُ، وَهُمْ الْأَتْبَاعُ لِرُؤَسَائِهِمْ وَأَهْلُ الْغَفْلَةِ مِنْهُمْ، وَهُمْ الْأَكْثَرُ؛ وَالْعَذَابُ يُشْرِكُهُمْ وَيَعُمُّهُمْ، وَالْعِنَادُ أَعْظَمُ عَذَابًا. [الْآيَة الثَّانِيَة وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ] الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ارْتِبَاطُهَا بِمَا قَبْلَهَا: وَذَلِكَ بَيِّنٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ جَهَالَةِ الْعَرَبِ فِيمَا تَحَكَّمَتْ فِيهِ بِآرَائِهَا السَّقِيمَةِ فِي الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَالْحَوَامِي، وَاحْتِجَاجُهُمْ فِي ذَلِكَ بِأَنَّهُ أَمْرٌ وَجَدُوا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ؛ فَاتَّبَعُوهُمْ فِي ذَلِكَ، وَتَرَكُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَأَمَرَ بِهِ مِنْ دِينِهِ.

مسألة العقول لا حكم لها بتحسين ولا تقبيح ولا تحليل ولا تحريم

[مَسْأَلَة الْعُقُولَ لَا حُكْمَ لَهَا بِتَحْسِينٍ وَلَا تَقْبِيحٍ وَلَا تَحْلِيلٍ وَلَا تَحْرِيمٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْعُقُولَ لَا حُكْمَ لَهَا بِتَحْسِينٍ وَلَا تَقْبِيحٍ، وَلَا تَحْلِيلٍ وَلَا تَحْرِيمٍ؛ وَإِنَّمَا ذَلِكَ إلَى الشَّرْعِ؛ إذْ الْعُقُولُ لَا تَهْتَدِي إلَى الْمَنَافِعِ الَّتِي تُرْشِدُ مِنْ ضَلَالِ الْخَوَاطِرِ، وَتُنْجِي مِنْ أَهْوَالِ الْآخِرَةِ بِمَا لَا يَهْتَدِي الْعَقْلُ إلَى تَفْصِيلِهِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْصِيلِهِ، فَكَيْفَ إنْ تَغَيَّرَ مَا مَهَّدَهُ الشَّرْعُ، وَتَبَدَّلَ مَا سَنَّهُ وَأَوْضَحَهُ، وَذَلِكَ [كُلُّهُ] مِنْ غُرُورِ الشَّيْطَانِ وَوَسَاوِسِهِ وَتَحَكُّمِهِ عَلَى الْخَلْقِ بِالْوَعْدِ الصَّادِقِ: لَأَجْلِبَنَّ عَلَيْهِمْ وَلِأُشَارِكَنهُمْ وَلَأَعِدَنَّهُمْ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا} [الإسراء: 64]. . [مَسْأَلَة ذَمِّ التَّقْلِيد وَذَمّ اللَّه الْكُفَّارِ بِاتِّبَاعِهِمْ لِآبَائِهِمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَعَلَّقَ قَوْمٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي ذَمِّ التَّقْلِيدِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَمَّ الْكُفَّارِ بِاتِّبَاعِهِمْ لِآبَائِهِمْ بِالْبَاطِلِ، وَاقْتِدَائِهِمْ بِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ. وَأَكَّدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ كَمَا فَسَّرْنَاهُ فِي الْبَاطِلِ. فَأَمَّا التَّقْلِيدُ فِي الْحَقِّ فَأَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَعِصْمَةٌ مِنْ عِصَمِ الْمُسْلِمِينَ يَلْجَأُ إلَيْهَا الْجَاهِلُ الْمُقَصِّرُ عَنْ دَرْكِ النَّظَرِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِهِ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ، فَأَمَّا جَوَازُهُ، بَلْ وُجُوبُهُ، فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ فَصَحِيحٌ، وَهُوَ قَبُولُ قَوْلِ الْعَالِمِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِدَلِيلِهِ؛ وَلِذَلِكَ مَنَعَ الْعُلَمَاءُ أَنْ يُقَالَ: إنَّا نُقَلِّدُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّا إنَّمَا قَبِلْنَا قَوْلَهُ بِدَلِيلٍ ظَاهِرٍ، وَأَصْلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَهُوَ الْمُعْجِزَةُ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى يَدِهِ مُوَافِقَةً لِدَعْوَاهُ، وَدَالَّةً عَلَى صِدْقِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَحْكَامَ التَّقْلِيدِ وَوَجْهَهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ. لِبَابِهِ: أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْعَامِّيِّ إذَا نَزَلَتْ بِهِ نَازِلَةٌ أَنْ يَقْصِدَ أَعْلَمَ مَنْ فِي زَمَانِهِ وَبَلَدِهِ فَيَسْأَلُهُ عَنْ نَازِلَتِهِ، فَيَمْتَثِلُ فِيهَا فَتْوَاهُ، وَعَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِي مَعْرِفَةِ [أَعْلَمَ] أَهْلِ وَقْتِهِ

مسألة معنى قوله تعالى أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون

بِالْبَحْثِ عَنْ ذَلِكَ، حَتَّى يَتَّصِلَ لَهُ الْحَدِيثُ بِذَلِكَ وَيَقَعُ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ مِنْ الْأَكْثَرِ مِنْ النَّاسِ. وَعَلَى الْعَالِمِ أَيْضًا فَرْضُ أَنْ يُقَلِّدَ عَالِمًا مِثْلَهُ فِي نَازِلَةٍ خَفِيَ عَلَيْهِ فِيهَا وَجْهُ الدَّلِيلِ وَالنَّظَرِ، وَأَرَادَ أَنْ يُرَدِّدَ فِيهَا الْفِكْرَ، حَتَّى يَقِفَ عَلَى الْمَطْلُوبِ؛ فَضَاقَ الْوَقْتُ عَنْ ذَلِكَ، وَخِيفَ عَلَى الْعِبَادَةِ أَنْ تَفُوتَ، أَوْ عَلَى الْحُكْمِ أَنْ يَذْهَبَ فِي تَفْصِيلٍ طَوِيلٍ، وَاخْتِلَافٍ كَثِيرٍ، عَوَّلُوا مِنْهُ عَلَى مَا أَشَرْنَا لَكُمْ إلَيْهِ. [مَسْأَلَةُ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104]: هَذِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْأَدِلَّةَ وَالِاحْتِجَاجَاتِ لَا تَكُونُ بِمُحْتَمَلٍ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الِاتِّبَاعُ فِيهَا بِمَا خَرَجَ مِنْ الِاحْتِمَالِ، وَوَجَبَتْ لَهُ الصِّحَّةُ فِي طُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا، فَنَحْنُ نَقْتَدِي بِهِمْ فِي أَفْعَالِهِمْ، وَنَمْتَثِلُ مَا شَاهَدْنَاهُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُمْ أَنَّ آبَاءَهُمْ بِالْهُدَى عَامِلُونَ، وَعَنْ غَيْرِ الْحَقِّ مَعْصُومُونَ، وَنَسُوا أَنَّ الْبَاطِلَ جَائِزٌ عَلَيْهِمْ، وَالْخَطَأَ وَالْجَهْلَ لَاحِقٌ بِهِمْ؛ فَبَطَلَ وَجْهُ الْحُجَّةِ فِيهِ، وَوَضَحَ الْعَمَلُ بِالدَّلِيلِ بِشُرُوطِهِ حَسْبَمَا قَرَرْنَاهُ مِنْ شُرُوطِ الْأَدِلَّةِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ] قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة: 105]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَرِيبَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ لَيْسَ لَهَا أُخْتٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَذَلِكَ أَنَّهَا آيَةٌ يَنْسَخُ آخِرُهَا أَوَّلَهَا؛ نَسَخَ قَوْلُهُ: {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] قَوْلَهُ: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105]. وَقَدْ حَقَّقْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ، فَالْحَظُوهُ هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعْلَمُوهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَتَأَوَّلُونَهَا عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهَا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]. وَإِنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ. وَرَوَى «أَبُو أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيُّ قَالَ: أَتَيْت أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ، فَقُلْت لَهُ: كَيْفَ تَصْنَعُ بِهَذِهِ الْآيَةِ؟ فَقَالَ: أَيَّةُ آيَةٍ؟ قُلْت: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]؛ فَقَالَ: أَمَا وَاَللَّهِ لَقَدْ سَأَلْت عَنْهَا خَبِيرًا، سَأَلْت عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: بَلْ ائْتَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إذَا رَأَيْت شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْك بِخَاصَّةِ نَفْسِك، وَدَعْ أَمْرَ الْعَامَّةِ؛ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا، الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا، يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ» الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أُصُولِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الدِّينِ وَخِلَافَةُ الْمُسْلِمِينَ: وَقَدْ ذَكَرَ عُلَمَاؤُنَا أَبْوَابَهُ وَمَسَائِلَهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ، وَهِيَ مِنْ فُرُوعِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهَا فِي آيَاتٍ قَبْلَ هَذَا، وَذَكَرْنَا بَعْضَ شُرُوطِهِ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ الْقِيَامَ بِهِ فَرْضٌ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ. وَعَرَضْت هَذِهِ الْآيَةَ الْمُوهِمَةَ فِي ابْتِدَاءِ الْحَالِ لِمُعَارَضَتِهَا لِمَا تَقَدَّمَ، أَوْ لِمَا يَتَأَخَّرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْآيَاتِ الْمُؤَكِّدَةِ لِلْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَعِنْدَ سَدَادِ النَّظَرِ وَانْتِهَائِهِ إلَى الْغَايَةِ يَتَبَيَّنُ الْمَطْلُوبُ.

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة: 79]. وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْعَذَابَ وَاقِعٌ بِهِمْ لِأَجْلِ سُكُوتِهِمْ عَنْ الْمُنْكَرِ الْمَفْعُولِ، وَالْمَعْرُوفِ الْمَتْرُوكِ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مُخَاطَبَةِ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، وَأَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَلَى تَرْكِهَا، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - آنِفًا بِقَوْلِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ». وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ بِيَقِينِ الْأَمْنِ مِنْ الضَّرَرِ عِنْدَ الْقِيَامِ بِهِ؛ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ: «فَإِذَا رَأَيْت شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْك بِخَاصَّةِ نَفْسِك، وَدَعْ أَمْرَ الْعَامَّةِ». وَذَلِكَ لِعَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ عَلَى مُعَارَضَةِ الْخَلْقِ، وَالْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ أَوْ الْمَالِ مِنْ الْقِيَامِ بِالْحَقِّ. وَتِلْكَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَسَّرَهَا عَلَيْنَا، وَفَضْلُهُ الْعَمِيمُ آتَانَاهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ الْعَمَلِ فِيهِ وَالِاخْتِلَافَ عَلَيْهِ. وَيَعْضُدُ ذَلِكَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُغَيِّرْهُ بِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُغَيِّرْهُ بِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ». وَلِهَذَا الْمَعْنَى حَدَّثَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَصْعَدَ الْمِنْبَرَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فِي خُطْبَةِ الْعِيدَيْنِ، فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: ذَهَبَ مَا كُنْت تَعْلَمُ. فَسَكَتَ أَبُو سَعِيدٍ، وَذَكَرَ نَحْوَ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ؛ إذْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُخَالَفَةِ الْمَلِكِ، وَلَا اسْتَطَاعَ مُنَازَعَةَ الْإِمَارَةِ، وَسَكَتَ.

مسألة أجر من يأتي من الأمة أضعاف أجر الصحابة

فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ النَّاسِ، وَلِمَ يَحْضُرُ بِدْعَةً، وَيُقِيمُ سُنَّةً مُبْدَلَةً؟ قُلْنَا: فِي الْجَوَابِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا قَالَ عُثْمَانُ، حِينَ قِيلَ لَهُ إنَّهُ يُصَلِّي لَنَا إمَامُ فِتْنَةٍ. قَالَ: " الصَّلَاةُ أَحْسَنُ مَا يَفْعَلُ النَّاسُ؛ فَإِذَا أَحْسَنَ النَّاسُ فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ، وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إسَاءَتَهُمْ ". الثَّانِي: أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ لَمْ يَسْتَطِعْ الْخُرُوجَ؛ فَإِنَّ الْمَوْضِعَ كَانَ مُحَاطًا بِهِ مِنْ الْحَرَسِ مَشْحُونًا بِحَاشِيَةِ مَرْوَانَ، يَحْفَظُونَ أَعْمَالَ النَّاسِ، وَيَلْحَظُونَ حَرَكَاتِهِمْ، فَلَوْ خَرَجَ أَبُو سَعِيدٍ لَخَافَ أَنْ يَلْقَى هَوَانًا، فَأَقَامَ مَعَ النَّاسِ فِي الطَّاعَةِ، وَخَلَصَ بِنَفْسِهِ مِنْ التَّبَاعَةِ. [مَسْأَلَة أَجْرُ مَنْ يَأْتِي مِنْ الْأُمَّةِ أَضْعَافَ أجر الصَّحَابَة] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: تَذَاكَرْت بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى طَهَّرَهُ اللَّهُ مَعَ شَيْخِنَا أَبِي بَكْرٍ الْفِهْرِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ: «إنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ لِلْعَامِلِ فِيهَا أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ. فَقَالُوا: بَلْ مِنْهُمْ. فَقَالَ: بَلْ مِنْكُمْ؛ لِأَنَّكُمْ تَجِدُونَ عَلَى الْخَيْرِ أَعْوَانًا، وَهُمْ لَا يَجِدُونَ عَلَيْهِ أَعْوَانًا»، وَتَفَاوَضْنَا كَيْفَ يَكُونُ أَجْرُ مَنْ يَأْتِي مِنْ الْأُمَّةِ أَضْعَافَ أَجْرِ الصَّحَابَةِ، مَعَ أَنَّهُمْ أَسَّسُوا الْإِسْلَامَ، وَعَضَّدُوا الدِّينَ، وَأَقَامُوا الْمَنَارَ، وَافْتَتَحُوا الْأَمْصَارَ، وَحَمَوْا الْبَيْضَةَ، وَمَهَّدُوا الْمِلَّةَ؟ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «دَعُوا لِي أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ كُلَّ يَوْمٍ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ». فَتَرَاجَعْنَا الْقَوْلَ فَكَانَ الَّذِي تَنَخَّلَ مِنْ الْقَوْلِ، وَتَحَصَّلَ مِنْ الْمَعْنَى لُبَابًا أَوْضَحْنَاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، الْإِشَارَةُ إلَيْهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانَ لَهُمْ أَعْمَالٌ كَثِيرَةٌ فِيهَا مَا تَقَدَّمَ سَرْدُهُ؛ وَذَلِكَ لَا يَلْحَقُهُمْ فِيهِ أَحَدٌ، وَلَا يُدَانِي شَأْوَهُمْ فِيهَا بَشَرٌ، وَالْأَعْمَالُ سِوَاهَا مِنْ

فُرُوعِ الدِّينِ يُسَاوِيهِمْ فِيهَا فِي الْأَجْرِ مَنْ أَخْلَصَ إخْلَاصَهُمْ، وَخَلَّصَهَا مِنْ شَوَائِبِ الْبِدَعِ وَالرِّيَاءِ بَعْدَهُمْ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ بَابٌ عَظِيمٌ هُوَ ابْتِدَاءُ الدِّينِ وَالْإِسْلَامِ، وَهُوَ أَيْضًا انْتِهَاؤُهُ؛ وَقَدْ كَانَ قَلِيلًا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، صَعْبَ الْمَرَامِ لِغَلَبَةِ الْكُفَّارِ عَلَى الْحَقِّ، وَفِي آخِرِ الزَّمَانِ أَيْضًا يَعُودُ كَذَلِكَ بِوَعْدِ الصَّادِقِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفَسَادِ الزَّمَانِ، وَظُهُورِ الْفِتَنِ، وَغَلَبَةِ الْبَاطِلِ، وَاسْتِيلَاءِ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ عَلَى الْحَقِّ مِنْ الْخَلْقِ، وَرُكُوبِ مَنْ يَأْتِي سَنَنَ مَنْ مَضَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ خَرِبٍ لَدَخَلْتُمُوهُ». وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ». قَالَ عُلَمَاؤُنَا فَلَا بُدَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحُكْمِ هَذَا الْوَعْدِ الصَّادِقِ أَنْ يَرْجِعَ الْإِسْلَامُ إلَى وَاحِدٍ كَمَا بَدَأَ مِنْ وَاحِدٍ، وَيَضْعُفَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إذَا قَامَ بِهِ قَائِمٌ مَعَ احْتِوَاشِهِ بِالْمَخَاوِفِ، وَبَاعَ نَفْسَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّعَاءِ إلَيْهِ كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ أَضْعَافُ مَا كَانَ لِمَنْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ، مُعَانًا عَلَيْهِ بِكَثْرَةِ الدُّعَاةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ: " لِأَنَّكُمْ تَجِدُونَ عَلَى الْخَيْرِ أَعْوَانًا وَهُمْ لَا يَجِدُونَ إلَيْهِ أَعْوَانًا حَتَّى يَنْقَطِعَ ذَلِكَ انْقِطَاعًا بَاتًّا، لِضَعْفِ الْيَقِينِ، وَقِلَّةِ الدِّينِ " كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَقُومُ

الآية الرابعة والثلاثون قوله تعالى يأيها الذين آمنوا شهادة بينكم

السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ اللَّهُ اللَّهُ». يُرْوَى بِرَفْعِ الْهَاءِ وَنَصْبِهَا مِنْ الْمَكْتُوبَةِ، فَإِنْ رُوِيَتْ بِرَفْعِ الْهَاءِ كَانَ مَعْنَاهُ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يَبْقَى مُوَحِّدٌ يَذْكُرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِذَا نَصَبْت الْهَاءَ كَانَ مَعْنَاهُ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يَبْقَى آمِرٌ بِمَعْرُوفٍ، وَلَا نَاهٍ عَنْ مُنْكَرٍ يَقُولُ: خَافُوا اللَّهَ، وَحِينَئِذٍ يَتَمَنَّى الْعَاقِلُ الْمَوْتَ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي مَكَانَهُ». . [الْآيَة الرَّابِعَة وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ] الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ} [المائدة: 106] {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ - ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 107 - 108]. وَإِنَّمَا نَظَمْنَاهَا؛ لِأَنَّهَا فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ؛ وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ الْمُشْكِلَاتِ، وَقَدْ عَسُرَ الْقَوْلُ فِيهَا عَلَى الْمُتَبَحِّرِينَ، فَأَمَّا الشَّادُونَ فَالْحِجَابُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مِعْزَفٌ، وَالسَّبِيلُ الْمُوَصِّلَةُ إلَيْهَا لَا تُعْرَفُ، وَمَا زِلْنَا مُدَّةَ الطَّلَبِ نَقْرَعُ بَابَهَا وَنَجْذِبُ حِجَابَهَا إلَى أَنْ فَتَحَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا بِمَا سَرَدْنَاهُ لَكُمْ وَجَلَوْنَاهُ عَلَيْكُمْ فِي تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ مَسْأَلَةً:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: وَفِيهِ رِوَايَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ لَوْ سَرَدْنَاهَا بِطُرُقِهَا، وَسَطَرْنَاهَا بِنُصُوصِهَا، وَكَشَفْنَا عَنْ أَحْوَالِ رُوَاتِهَا بِالتَّجْرِيحِ وَالتَّعْدِيلِ لَاتَّسَعَ الشَّرْحُ، وَطَالَ عَلَى الْقَارِئِ الْبَرْحُ، فَلِذَا نَذْكُرُ لَكُمْ مِنْ ذَلِكَ أَيْسَرَهُ وَوَرَدَ فِي الْكِتَابِ الْكَبِيرِ أَكْثَرُهُ، فَنَقُولُ: رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي النَّضْرِ عَنْ بَاذَانَ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، «عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة: 106] بَرِئَ مِنْهَا النَّاسُ غَيْرِي وَغَيْرَ عَدِيِّ بْنِ بَدَاءَ، وَكَانَا نَصْرَانِيَّيْنِ يَخْتَلِفَانِ إلَى الشَّامِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَأَتَيَا الشَّامَ لِتِجَارَتِهِمَا، وَقَدِمَ عَلَيْهِمَا مَوْلًى لِبَنِي سَهْمٍ يُقَالُ لَهُ بُدَيْلُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ بِتِجَارَتِهِ، وَمَعَهُ جَامُ فِضَّةٍ يُرِيدُ بِهِ الْمَلِكَ، وَهُوَ عُظْمُ تِجَارَتِهِ، فَمَرِضَ، فَأَوْصَى إلَيْهِمَا، وَأَمَرَهُمَا أَنْ يُبَلِّغَا مَا تَرَكَ أَهْلَهُ. قَالَ تَمِيمٌ: فَلَمَّا مَاتَ أَخَذْنَا ذَلِكَ الْجَامَ فَبِعْنَاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ اقْتَسَمْنَاهَا أَنَا وَعَدِيُّ بْنُ بَدَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا إلَى أَهْلِهِ دَفَعْنَا إلَيْهِمْ مَا كَانَ مَعَنَا، وَفَقَدُوا الْجَامَ، فَسَأَلُونَا عَنْهُ، فَقُلْنَا: مَا تَرَكَ غَيْرَ هَذَا، وَمَا دَفَعَ إلَيْنَا غَيْرَهُ. قَالَ تَمِيمٌ: فَلَمَّا أَسْلَمْت بَعْدَ قُدُومِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ تَأَثَّمْتُ مِنْ ذَلِكَ، فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ، فَأَخْبَرْتُهُمْ الْخَبَرَ، وَأَدَّيْت إلَيْهِمْ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَخْبَرْتُهُمْ أَنَّ عِنْدَ صَاحِبِي مِثْلَهَا، فَأَتَوْا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَهُمْ الْبَيِّنَةَ، فَلَمْ يَجِدُوا، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَحْلِفُوهُ بِمَا يُقْطَعُ بِهِ عَلَى أَهْلِ دِينِهِ، فَحَلَفَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 106] إلَى قَوْله تَعَالَى: {أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} [المائدة: 108] فَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَرَجُلٌ آخَرُ فَحَلَفَا، فَنُزِعَتْ الْخَمْسُمِائَةِ مِنْ عَدِيِّ بْنِ بَدَاءَ». قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَلَيْسَ إسْنَادُهُ بِصَحِيحٍ. وَقَدْ رُوِيَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى الِاخْتِصَارِ قَالَ: «خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَعَدِيِّ بْنِ بَدَاءَ، فَمَاتَ السَّهْمِيُّ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ، فَلَمَّا قَدِمَا بِتَرِكَتِهِ فَقَدُوا جَامًا مِنْ فِضَّةٍ مُخَوَّصًا بِالذَّهَبِ، فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ وَجَدُوا

الْجَامَ بِمَكَّةَ، فَقَالُوا: اشْتَرَيْنَاهُ مِنْ عَدِيِّ بْنِ بَدَاءَ وَتَمِيمٍ، فَقَامَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ السَّهْمِيِّ، فَحَلَفَا بِاَللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا، وَإِنَّ الْجَامَ لِصَاحِبِهِمْ. قَالَ: وَفِيهِمْ نَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة: 106]». قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَكَذَلِكَ خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ بِلَفْظِهِ وَالدَّارَقُطْنِيّ فَهُوَ صَحِيحٌ. وَذَكَرَ يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ الْجُعْفِيُّ صَاحِبُ التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، حَدَّثَنَا الْكَلْبِيُّ أَنَّ أَبَا صَالِحٍ حَدَّثَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «وَأَمَّا قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة: 106]. قَالَ: بَلَغَنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مَوْلًى مِنْ مَوَالِي قُرَيْشٍ، ثُمَّ لِآلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ انْطَلَقَ فِي تِجَارَةٍ نَحْوَ الشَّامِ، وَمَعَهُ تَمِيمُ بْنُ أَوْسٍ الدَّارِيِّ وَعَدِيُّ بْنُ بَدَاءَ، وَيُرْوَى بَيْدَاءَ، وَهُمَا نَصْرَانِيَّانِ يَوْمَئِذٍ، فَتُوُفِّيَ الْمَوْلَى فِي مَسِيرِهِ؛ فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ كَتَبَ وَصِيَّتَهُ ثُمَّ جَعَلَهَا فِي مَالِهِ وَمَتَاعِهِ، ثُمَّ دَفَعَهَا إلَيْهِمَا، وَقَالَ لَهُمَا: أَبْلِغَا أَهْلِي مَالِي وَمَتَاعِي؛ فَانْطَلَقَا لِوَجْهِهِمَا الَّذِي تَوَجَّهَا إلَيْهِ، فَفَتَّشَا مَتَاعَ الْمَوْلَى الْمُتَوَفَّى بَعْدَ مَوْتِهِ، فَأَخَذَا مَا أَعْجَبَهُمَا مِنْهُ، ثُمَّ رَجَعَا بِالْمَالِ وَالْمَتَاعِ الَّذِي بَقِيَ إلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ فَدَفَعَاهُ إلَيْهِمْ، فَلَمَّا فَتَّشَ الْقَوْمُ الْمَالَ وَالْمَتَاعَ الَّذِي بَقِيَ فَقَدُوا بَعْضَ مَا خَرَجَ بِهِ صَاحِبُهُمْ مَعَهُ مِنْ عِنْدِهِمْ، فَنَظَرُوا إلَى الْوَصِيَّةِ وَهِيَ فِي الْمَتَاعِ فَوَجَدُوا الْمَالَ وَالْمَتَاعَ فِيهِمَا مُسَمًّى، فَدَعَوْا تَمِيمًا وَصَاحِبَهُ، فَقَالُوا لَهُمَا: هَلْ بَاعَ صَاحِبُنَا شَيْئًا مِمَّا كَانَ عِنْدَهُ أَوْ اشْتَرَى؟ فَقَالُوا: لَا. قَالُوا: فَهَلْ مَرِضَ فَطَالَ مَرَضُهُ فَأَنْفَقَ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ؟ قَالُوا: لَا. قَالُوا: فَإِنَّا نَفْقِدُ بَعْضَ الَّذِي مَضَى بِهِ صَاحِبُنَا مَعَهُ. قَالُوا: مَا لَنَا عَمَّا مَضَى بِهِ مِنْ عِلْمٍ، وَلَا بِمَا كَانَ فِي وَصِيَّتِهِ؛ وَلَكِنْ دَفَعَ إلَيْنَا هَذَا الْمَالَ وَالْمَتَاعَ، فَبَلَّغْنَاكُمُوهُ كَمَا دَفَعَهُ إلَيْنَا. فَرَفَعُوا أَمْرَهُمْ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرُوا لَهُ الْأَمْرَ، فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة: 106] إلَى {الآثِمِينَ} [المائدة: 106] فَقَامَا فَحَلَفَا عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إدْبَارَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، فَخَلَّى سَبِيلَهُمَا، ثُمَّ طَلَعُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى إنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ مَنْقُوشٍ مُمَوَّهٍ بِالذَّهَبِ عِنْدَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، فَقَالُوا: هَذَا مِنْ آنِيَةِ صَاحِبِنَا الَّتِي مَضَى بِهَا مَعَهُ، وَقَدْ قُلْتُمَا

إنَّهُ لَمْ يَبِعْ مِنْ مَتَاعِهِ شَيْئًا، فَقَالَا: إنَّا كُنَّا قَدْ اشْتَرَيْنَاهُ مِنْهُ، فَنَسِينَا أَنْ نُخْبِرَكُمْ بِهِ؛ فَرَفَعُوا أَمْرَهُمْ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلَ: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} [المائدة: 107] إلَى {الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 108] فَقَامَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ السَّهْمِيِّ، فَحَلَفَا بِاَللَّهِ إنَّهُ فِي وَصِيَّتِهِ، وَإِنَّهَا لَحَقٌّ، وَلَقَدْ خَانَهُ تَمِيمٌ وَعَدِيٌّ. فَأَخَذَ تَمِيمٌ وَعَدِيٌّ بِكُلِّ مَا وُجِدَ فِي الْوَصِيَّةِ لَمَّا اطَّلَعَ عِنْدَهُمَا مِنْ الْخِيَانَةِ». وَقَدْ ذَكَرَهُ مُقَاتِلُ بْنُ حِبَّانَ عَنْ الْحَسَنِ، وَعَنْ الضَّحَّاكِ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ: «رَكِبُوا الْبَحْرَ مَعَ الْمَوْلَى بِمَالٍ مَعْلُومٍ، وَقَدْ عَلِمَهُ أَوْلِيَاؤُهُ وَعَرَفُوهُ مِنْ بَيْنِ آنِيَةٍ وَوَرِقٍ وَهِيَ الْفِضَّةُ، فَمَرِضَ الْمَوْلَى، فَجَعَلَ وَصِيَّتَهُ إلَى تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ النَّصْرَانِيِّينَ، وَذَكَرَ مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ، وَقَالَ: أَمَرَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَامَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، فَحَلَفَا بِاَللَّهِ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ مَا تَرَكَ مَوْلَاكُمْ مِنْ الْمَتَاعِ إلَّا مَا أَتَيْنَاكُمْ بِهِ، وَإِنَّا لَا نَشْتَرِي بِأَيْمَانِنَا ثَمَنًا قَلِيلًا مِنْ الدُّنْيَا. قَالَ: ثُمَّ وُجِدَ عِنْدَهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ إنَاءٌ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ، فَأُخِذَا بِهِ، فَقَالَا: اشْتَرَيْنَاهُ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ وَكَذَبَا، فَكَلَّفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَيِّنَةَ فَلَمْ يَقْدِرَا عَلَى بَيِّنَةٍ، فَرَفَعَا ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} [المائدة: 107] إلَى {الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 108]. فَحَلَفَ وَلِيَّانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ: إنَّ مَالَ صَاحِبِنَا كَذَا، وَإِنَّ الَّذِي نَطْلُبُهُ قِبَلَ الدَّارِيَّيْنِ حَقٌّ». وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ رَجُلَيْنِ نَصْرَانِيَّيْنِ مِنْ أَهْلِ دَارِينَ أَحَدُهُمَا تَمِيمِيٌّ، وَالْآخَرُ يَمَانٍ، صَحِبَهُمَا مَوْلًى لِقُرَيْشٍ فِي تِجَارَةٍ، وَمَعَ الْقُرَشِيِّ مَالٌ مَعْلُومٌ، قَدْ عَلِمَهُ أَهْلُهُ مِنْ بَيْنِ آنِيَةٍ وَوَرِقٍ فَمَرِضَ، فَجَعَلَ وَصِيَّتَهُ إلَى الدَّارِيَّيْنِ، فَمَاتَ وَقَبَضَهَا الدَّارِيَّانِ، فَدَفَعَاهَا إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ وَخَانَاهُ بِبَعْضِ مَالِهِ، فَقَالُوا: إنَّ صَاحِبَنَا قَدْ خَرَجَ، وَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ الْجُعْفِيِّ. وَذَكَرَ سُنَيْدٌ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي «تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَعَدِيِّ بْنِ بَدَاءَ النَّصْرَانِيِّينَ وَكَانَا يَخْتَلِفَانِ إلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ بَعْدَمَا هَاجَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْمَدِينَةِ؛ فَبَعَثَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَالْمُطَّلِبُ بْنُ وَدَاعَةَ السَّهْمِيُّ مَعَهُمَا رَجُلًا يُقَالُ لَهُ بُدَيْلُ بْنُ أَبِي مَارِيَةَ الرُّومِيُّ مَوْلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ

بِمَتَاعٍ إلَى أَرْضِ الشَّامِ فِيهِ آنِيَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَآنِيَةٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَآنِيَةٌ مُمَوَّهَةٌ بِالذَّهَبِ. فَلَمَّا قَدِمُوا الشَّامَ مَرِضَ بُدَيْلٌ، وَكَانَ مُسْلِمًا، فَكَتَبَ وَصِيَّتَهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا تَمِيمٌ الدَّارِيِّ وَلَا عَدِيٌّ، وَأَدْخَلَهَا فِي مَتَاعِهِ، ثُمَّ تُوُفِّيَ وَلَمْ يَبِعْ شَيْئًا مِنْ مَتَاعِهِ، فَقَدِمَ تَمِيمٌ الدَّارِيِّ وَعَدِيٌّ الْمَدِينَةَ، وَدَفَعَا الْمَتَاعَ إلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَإِلَى الْمُطَّلِبِ، وَأَخْبَرَاهُمَا بِمَوْتِ بُدَيْلٍ، فَقَالَ عَمْرٌو وَالْمُطَّلِبُ: لَقَدْ مَضَى مِنْ عِنْدِنَا بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا، فَهَلْ بَاعَ شَيْئًا؟ قَالَا: لَا. فَمَضَوْا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَحْلَفَ لَهُمَا تَمِيمًا وَعَدِيًّا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ مَا تَرَكَ عِنْدَنَا غَيْرَ هَذَا. ثُمَّ إنَّ عَمْرًا وَالْمُطَّلِبَ ظَهَرَا عَلَى آنِيَةٍ عِنْدَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَعَدِيٍّ، فَقَالَا: هَذِهِ الْآنِيَةُ لَنَا، وَهِيَ مِمَّا مَضَى بِهِ بُدَيْلٌ مِنْ عِنْدِنَا. فَقَالَ لَهُمْ تَمِيمٌ وَصَاحِبُهُ عَدِيٌّ: اشْتَرَيْنَا هَذِهِ الْآنِيَةَ مِنْهُ. فَقَالَ عَمْرٌو وَالْمُطَّلِبُ: قَدْ سَأَلْنَاكُمَا هَلْ بَاعَ شَيْئًا؟ فَقُلْتُمَا: لَا، وَقَدْ كَانَتْ وَصِيَّةُ بُدَيْلٍ أَنَّهُ لَمْ يَبِعْ شَيْئًا. فَحَلَفَ عَمْرٌو وَالْمُطَّلِبُ وَاسْتَحَقَّا الْآنِيَةَ». وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ نَزَلَتْ فِي «تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَأَخِيهِ عَدِيٍّ، وَكَانَا نَصْرَانِيَّيْنِ، وَكَانَ مَتْجَرُهُمَا إلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْمَدِينَةِ قَدِمَ ابْنُ أَبِي مَارِيَةَ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ الْمَدِينَةَ، وَهُوَ يُرِيدُ الشَّامَ تَاجِرًا فَخَرَجَ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَأَخِيهِ عَدِيٍّ حَتَّى إذَا كَانَا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ مَرِضَ ابْنُ أَبِي مَارِيَةَ، وَكَتَبَ وَصِيَّتَهُ، وَدَسَّهَا فِي مَتَاعِهِ، وَأَوْصَى إلَى تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ، فَلَمَّا مَاتَ فَتَحَا مَتَاعَهُ، وَأَخَذَا مِنْهُ مَا أَرَادَا، وَأَوْصَلَا بَقِيَّةَ التَّرِكَةِ إلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ، فَفَتَحُوا فَوَجَدُوا وَصِيَّتَهُ، وَقَدْ كُتِبَ فِيهَا مَا خَرَجَ بِهِ، فَفَقَدُوا أَشْيَاءَ، فَسَأَلُوا تَمِيمًا وَعَدِيًّا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: مَا نَدْرِي، هَذَا الَّذِي قَبَضْنَا لَهُ، فَرَفَعُوهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلَتْ الْآيَةُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 106] الْآيَةَ. فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُسْتَحْلَفَا بِاَللَّهِ مَا قَبَضْنَا لَهُ غَيْرَ هَذَا، وَمَا كَتَمْنَاهُ شَيْئًا. فَحَلَفَا بَعْدَ الْعَصْرِ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى إنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ مَنْقُوشٍ بِذَهَبٍ مَعَهُمَا، فَقَالَا اشْتَرَيْنَاهُ مِنْهُ، فَارْتَفَعُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلَتْ الْآيَةُ الْأُخْرَى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} [المائدة: 107]. فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ الْمَيِّتِ فَحَلَفَا، وَاسْتَحَقَّا الْإِنَاءَ». ثُمَّ إنَّ تَمِيمًا أَسْلَمَ، فَكَانَ يَقُولُ: صَدَقَ اللَّهُ، وَبَلَّغَ رَسُولُهُ؛ أَنَا أَخَذْت الْإِنَاءَ. وَرَوَى الشَّعْبِيُّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ خَثْعَمَ خَرَجَ مِنْ الْكُوفَةِ إلَى السَّوَادِ. فَمَاتَ بِدَقُوقَاءَ

مسألة معنى قوله تعالى شهادة بينكم

فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا يَشْهَدُ عَلَى وَصِيَّتِهِ، فَأَشْهَدَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَدِمَا الْكُوفَةَ، فَأَتَيَا أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ، فَأَخْبَرَاهُ، وَقَدِمَا بِتَرِكَتِهِ وَوَصِيَّتِهِ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَحْلَفَهُمَا، وَأَمْضَى شَهَادَتَهُمَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ بِمَسْجِدِ الْكُوفَةِ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، مَا كَتَمَا وَلَا غَيَّرَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى الْعِلْجَيْنِ حَتَّى انْتَهَى بِهِمَا إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، فَفَتَحَ الصَّحِيفَةَ؛ فَأَنْكَرَ أَهْلُ الْمَيِّتِ وُجُوهَهُمَا، فَأَرَادَ أَبُو مُوسَى أَنْ يَسْتَحْلِفَهُمَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، فَقُلْت: لَا يُبَالُونَ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَلَكِنْ اسْتَحْلَفَهُمَا بَعْدَ صَلَاتِهِمَا فِي دِينِهِمَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 106] قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة: 106] وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى (شَهِيدٍ) فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا بِعَيْنِهَا، وَبَيَّنَّا اخْتِلَافَ أَنْوَاعِهَا، وَقَدْ وَرَدَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ، مِنْهَا قَوْلُهُ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] قِيلَ: مَعْنَاهُ أَحْضِرُوا. وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} [آل عمران: 18] قَضَى. وَمِنْهَا شَهِدَ، أَيْ أَقَرَّ، كَقَوْلِهِ: {وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} [النساء: 166]. وَمِنْهَا شَهِدَ بِمَعْنَى حَكَمَ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف: 26]. وَمِنْهَا شَهِدَ بِمَعْنَى حَلَفَ، كَمَا جَاءَ فِي اللِّعَانِ. وَمِنْهَا شَهِدَ بِمَعْنَى عَلِمَ. كَمَا قَالَ: {وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} [المائدة: 106] أَيْ عِلْمَ اللَّهِ. وَمِنْهَا شَهِدَ بِمَعْنَى وَصَّى، كَقَوْلِهِ هَاهُنَا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة: 106]. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ نَقَصَ مَوَارِدُ مِنْهُ، مِنْهَا قَوْلُهُ: {وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف: 81].

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي ذَلِكَ تَحْقِيقُ ذَلِكَ: وَهُوَ أَنَّ بِنَاءَ " شَهِدَ " مَوْضُوعٌ لِلْعِبَارَةِ عَمَّا يُعْلَمُ بِدَرْكِ الْحَوَاسِّ، كَمَا أَنَّ " غَيَّبَ " مَوْضُوعٌ لِلْعِبَارَةِ عَمَّا لَمْ يُدْرَكْ بِهَا وَلِذَلِكَ قُلْنَا: إنَّ الْبَارِي تَعَالَى وَتَقَدَّسَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَمَعْنَى شَهِدْت: أَدْرَكْت بِحَوَاسِّي، أَيْ عَلِمْت بِهَذِهِ الطَّرِيقِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ طُرُقًا لِعِلْمِي، ثُمَّ يُنْقَلُ مَجَازًا إلَى مُتَعَلَّقَاتِهِ، فَمَعْنَى شَهِدَ اللَّهُ: عَلِمَ مُشَاهَدَةً، وَأَخْبَرَ عَمَّا عَلِمَ بِكَلَامِهِ، وَهَذَا يَكُونُ فِي الْمُحَدِّثِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَوْلُهُ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] أَيْ أَحْضِرُوا مَنْ يَعْلَمُ لَكُمْ مَا يُشَاهِدُ مِنْ عَقْدِكُمْ. وَقَوْلُهُ: شَهِدَ اللَّهُ أَيْ عَلِمَ وَأَخْبَرَ عَنْ عِلْمِهِ، وَبَيَّنَ مَا عَلِمَ لَنَا حَتَّى نَتَبَيَّنَهُ. فَأَخْبَرَ عَنْ حُكْمِهِ، فَيَرْجِعُ إلَى عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُخْبِرُ عَنْهُ، لِارْتِبَاطِ الْخَبَرِ وَالْعِلْمِ. وَشَهِدَ بِمَعْنَى حَلَفَ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ حَالِهِ، وَقَرَنَ بِخَبَرِهِ تَعْظِيمَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَقَوْلُهُ: {وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} [المائدة: 106] يُرِيدُ مَا عَلِمْنَاهُ وَعَلِمَهُ اللَّهُ مَعَنَا، فَإِنْ صَدَقَ وَإِلَّا كَانَ خَبَرُهُ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ كَذِبًا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ الْعَالِمُ الَّذِي لَا يَجْهَلُ، وَالصَّادِقُ الْمُتَقَدِّسُ عَنْ الْكَذِبِ. وَأَمَّا شَهِدَ بِمَعْنَى وَصَّى فَلَا مَعْنَى لَهُ إلَّا عَلَى بُعْدٍ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة: 106] فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهِيَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا بِمَعْنَى حَلَفَ. وَالثَّانِي: بِمَعْنَى حَضَرَ لِلتَّحَمُّلِ. وَالثَّالِثُ: بِمَعْنَى الْأَدَاءِ عِنْدَ الْحَاكِمِ. تَقُولُ: أَشْهَدُ عِنْدَك، أَيْ حَضَرْت لِأُؤَدِّيَ عِنْدَك مَا عَلِمْت، وَأَدَاؤُهَا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ بَعِيدٌ لَا دَرْكَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ لِمَعْنَاهُ، وَلَا يُجْزِي غَيْرُهُ عَنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {بَيْنِكُمْ} [المائدة: 106] قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: مَعْنَاهُ شَهَادَةُ مَا بَيْنِكُمْ، فَحُذِفَتْ مَا، وَأُضِيفَتْ الشَّهَادَةُ إلَى الظَّرْفِ، اُسْتُعْمِلَ الْبَيْنُ اسْمًا عَلَى الْحَقِيقَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سبأ: 33]. وَأَنْشَدُوا: تُصَافِحُ مَنْ لَاقَيْت لِي ذَا عَدَاوَةٍ ... صِفَاحًا وَعَنِّي غَيْبُ عَيْنَيْك مُنْزَوِي

وَأَنْشَدُوا: وَأَهْلُ خِبَاءٍ صَالِحٌ ذَاتُ بَيْنِهِمْ ... قَدْ احْتَرَبُوا فِي عَاجِلٍ أَتَى آجِلُهُ وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ " بَيْنَ " فِي أَصْلِهِ مَصْدَرُ قَوْلِك: بَانَ يَبِينُ بَيْنًا أَيْ فَارَقَ مَا كَانَ مُجْتَمِعًا مَعَهُ، وَانْفَصَلَ عَمَّا كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ». الْمَعْنَى مَا فُصِلَ مِنْ أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ عَنْهُ حَالَ حَيَاتِهِ فَهُوَ مَيْتَةٌ يَعْنِي لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ؛ وَاسْتُعْمِلَ ظَرْفًا عَلَى مَعْنَى الصَّدْر، وَهُوَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ النَّحْوِ، تَقُولُ: بَيْنَ الدَّارِ وَالْمَسْجِدِ مَسَافَةٌ. وَلَوْ كَانَا مُجْتَمِعَيْنِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا بَيْنٌ، أَيْ مَوْضِعٌ خَالٍ مِنْهُمَا. وَمَا كَانَ الِاجْتِمَاعُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: اجْتِمَاعُ أَجْسَامٍ، وَاجْتِمَاعُ مَعَانٍ، وَهِيَ الْأَخْلَاقُ وَالْأَهْوَاءُ جَعَلَ افْتِرَاقَ الْأَهْوَاءِ كَافْتِرَاقِ الْأَجْسَامِ، وَاسْتَعْمَلَ فِيهِ " بَيْنَ " الَّذِي هُوَ الِافْتِرَاقُ فِيهِمَا جَمِيعًا. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5]. وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُهُ: بَيْنِي وَبَيْنَهُ رَحِمٌ، أَيْ مَا افْتَرَقْنَا إلَّا عَنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ. وَبَيْنِي وَبَيْنَهُ شَرِكَةٌ أَيْ افْتَرَقْنَا فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا عَنْ جَمْعِ الْمَالِ الْمَخْصُوصِ. فَقَالَ أَهْلُ الصِّنَاعَةِ: هُوَ مَصْدَرٌ فِي الْمَعَانِي، ظَرْفٌ فِي الْأَجْسَامِ لَمَّا كَانَتْ ذَوَاتُ مِسَاحَاتٍ مَحْسُوسَاتٍ فَرْقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَعَانِي، وَالْكُلُّ فِي الْحَقِيقَةِ تَبَايُنٌ وَتَبَاعُدٌ وَفُرْقَةٌ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] مَرْفُوعًا وَمَنْصُوبًا. الْمَعْنَى: لَقَدْ تَقَطَّعَ تَبَاعُدُكُمْ وَافْتِرَاقُكُمْ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لَهُ اتِّصَالٌ؛ فَإِنَّ الَّذِي يَبِينُ عَلَى قِسْمَيْنِ، مِنْهُ مَا يُرْجَى لَهُ اتِّصَالٌ، وَمِنْهُ مَا لَا يُرْجَى لَهُ اتِّصَالٌ، فَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّقَطُّعِ. وَقَدْ جَعَلَ أَهْلُ الصِّنَاعَةِ هُنَا " بَيْنَ " لِلظَّرْفِ، وَكَثُرَ ذَلِكَ حَتَّى جُعِلَ اسْمًا فِي الْأَهْوَاءِ الْمُتَبَايِنَةِ، مَجَازًا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْهَا، وَعَلَيْهِ يُخَرَّجُ: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنُكُمْ عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ. الْمَعْنَى: لَقَدْ تَفَرَّقَتْ أَهْوَاؤُكُمْ وَأَخْلَاقُكُمْ.

مسألة معنى قوله تعالى حين الوصية اثنان

وَتَارَةً تُضَافُ بِالْكِنَايَةِ إلَيْهِ فَيُقَالُ: ذَاتُ الْبَيْنِ. قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1]. قَالَ الشَّاعِرُ: وَأَهْلُ خِبَاءٍ صَالِحٌ ذَاتُ بَيْنِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ. وَيُقَالُ: الْأَمْرُ الَّذِي بَيْنَكُمْ، وَمَا بَيْنَكُمْ مُبْهَمٌ، مَعْنَاهُ الْأَمْرُ الَّذِي فَرَّقَكُمْ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمَعْنَى قَوْلِهِ: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة: 106]، أَيْ شَهَادَةُ اخْتِلَافِكُمْ وَتَنَازُعِكُمْ؛ فَتَكُونُ الشَّهَادَةُ مُضَافَةً إلَى الْمَصْدَرِ، لَا إلَى الظَّرْفِ وَلَا عَلَى تَقْدِيرٍ مَحْذُوفٍ. وَهَذِهِ غَايَةُ الْبَيَانِ، وَلَوْ هُدِيَ لَهُ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى الْآيَةِ وَمَا تَخَبَّطَ فِيهَا وَلَا خَلَطَ مَعَانِيهَا. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المائدة: 106]: وَلَفْظُ {حَضَرَ} [المائدة: 106] يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْوُجُودِ مُشَاهَدَةً، وَضِدُّهُ غَابَ، وَهُوَ أَيْضًا عِبَارَةٌ عَنْ الْوُجُودِ الَّذِي لَمْ يُشَاهَدْ، وَقَدْ يُعَبَّرُ بِقَوْلِك: " غَابَ " عَنْ الْمَعْدُومِ. وَالْبَارِي سُبْحَانَهُ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ؛ أَيْ عَالِمُ الْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ؟ لِأَنَّهُ مِثْلُ الْوُجُودِ فِي عَدَمِ الْمُشَاهَدَةِ. وَقَدْ وَرَدَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ عِبَارَةً عَنْ الْمَوْتِ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقِيقَةً، وَهُوَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} [النساء: 18]. وَفِي قَوْلِهِ: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99] فَهُوَ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ حَقِيقَةُ الْوُجُودِ مُشَاهَدَةً. وَأَمَّا وُرُودُهَا مَجَازًا فَبِأَنْ يُعَبَّرَ عَنْ حُضُورِ سَبَبِهِ بِحُضُورِهِ، وَهُوَ الْمَرَضُ، فَيُعَبَّرَ عَنْ الْمُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ، وَهُوَ أَحَدُ قِسْمَيْ الْمَجَازِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ} [المائدة: 106] وَمَعْنَى {حِينَ} [المائدة: 106] وَقْتَ؛ وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا أَرَدْتُمْ الْوَصِيَّةَ وَقَدْ مَرِضْتُمْ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَكُونُ فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ

مسألة وقت الوصية وسننها

الْأَوَّلُ: حَالَ الْبِدَارِ إلَى السَّنَةِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ». وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ وَقْتِ ذَلِكَ وَسَبَبِهِ وَحَقِيقَةِ الْوَصِيَّةِ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ. [مَسْأَلَة وَقْتِ الْوَصِيَّةِ وَسُنَنِهَا] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: فِي وَقْتِ الْوَصِيَّةِ وَسُنَنِهَا بِالْإِيضَاحِ وَالْبَسْطِ: وَذَلِكَ عِنْدَ السَّفَرِ لِلْمَخَافَةِ فِيهِ، وَالْمَرَضِ؛ لِأَنَّهُ رَائِدُ الْمَنِيَّةِ وَمَظِنَّتُهَا. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ: إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ فِي مَرَضِهِ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهَا حَالَةُ مَرَضٍ، فَاقْتَضَتْ ذَلِكَ قَرِينَةً فِي الْحُكْمِ بِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ، فَجَازَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ. وَقَدْ كُنْت أَرَدْت بَسْطَهُ، فَلَمَّا ذَكَرْت طُولَهُ قَبَضْت عَنْهُ الْعَنَانَ، وَأَحَلْت عَلَى مَسَائِلِ الْفِقْهِ بِالْبَيَانِ. [مَسْأَلَةُ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى اثْنَانِ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى: {اثْنَانِ} [المائدة: 106] وَكَانَ بِمُطْلَقِهِ يَقْتَضِي شَخْصَيْنِ، وَيَحْتَمِلُ رَجُلَيْنِ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: ذَوَا عَدْلٍ، فَيُبَيِّنُ أَنَّهُ أَرَادَ رَجُلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَفْظٌ لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلْمُذَكَّرِ، كَمَا أَنَّ " ذَوَاتَيْ " لَا تَصْلُحُ إلَّا لِلْمُؤَنَّثِ الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: إعْرَابُهُ: وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ " شَهَادَةُ " مُرْتَفِعًا بِالِابْتِدَاءِ وَاثْنَانِ خَبَرُهُ التَّقْدِيرُ شَهَادَةُ اثْنَيْنِ. الثَّانِي: أَنْ يَرْتَفِعَ اثْنَانِ بِشَهَادَةٍ؛ التَّقْدِيرُ وَفِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ أَنْ يَشْهَدَ اثْنَانِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ اثْنَانِ مَفْعُولًا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ بِشَهَادَةٍ. الرَّابِعُ: يَكُونُ تَقْدِيرُهُ: شُهُودُ شَهَادَةِ بَيْنِكُمْ اثْنَانِ، وَيَجُوزُ الْحَذْفُ مَعَ الِابْتِدَاءِ، كَمَا يَجُوزُ مَعَ الْخَبَرِ

مسألة معنى قوله تعالى منكم

وَفِي الثَّالِثِ بُعْدٌ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ مَصْدَرُ شَهِدَ، وَهُوَ بِنَاءٌ لَا يَتَعَدَّى، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106] وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. [مَسْأَلَةُ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى مِنْكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {مِنْكُمْ} [المائدة: 106] فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَالْكَافُ وَالْمِيمُ لِضَمِيرِهِمَا؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ. الثَّانِي: مِنْ قَبِيلَتِكُمْ: قَالَهُ الْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ. الثَّالِثُ: مِنْكُمْ: مِنْ أَهْلِ الْمَيِّتِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ} [المائدة: 106] قِيلَ: هِيَ لِلتَّخْيِيرِ. وَقِيلَ: لِلتَّفْصِيلِ. مَعْنَاهُ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إنْ لَمْ تَجِدُوا مِنْكُمْ قَالَهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ، وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَشُرَيْحٌ؛ وَيُرْوَى عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَتَحْقِيقُ النَّظَرِ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ قَوْلَهُ: {مِنْكُمْ} [المائدة: 106] قَدْ تَقَدَّمَ فِيهِ الْخِلَافُ، وَعَلَيْهِ يَتَرَكَّبُ قَوْلُهُ: أَوْ آخَرَانِ، وَقَوْلُهُ: غَيْرِكُمْ؟ وَهِيَ مَسْأَلَتَانِ تَتِمُّ بِهِمَا سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً، فَإِنْ كَانَ مِنْكُمْ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ كَانَ قَوْلُهُ: غَيْرِكُمْ لِلْكَافِرِينَ، وَكَانَ الْآخَرَانِ مَنْ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِكُمْ كَانَ كَمَا قَالَ الزُّهْرِيُّ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمَا " فَقَبِيلُ الْمَيِّتِ وَعَشِيرَتُهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِ. وَتَعَلَّقَ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ مِنْ غَيْرِ مِلَّتِكُمْ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: مِنْ غَيْرِكُمْ؛ وَغَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ هُمْ الْكَافِرُونَ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مِنْ أَهْلِ الْمَيِّتِ فَلِأَنَّ الْحَجَّ لَهُمْ وَالْكَلَامَ مِنْهُمْ وَمَعَهُمْ؛ وَيُؤَكِّدُهُ أَيْضًا

مسألة حبس من وجب عليه الحق

بِأَنَّهُ قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 106]. ثُمَّ قَالَ {مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] يَعْنِي أَوْ آخَرَانِ عَدْلَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ. وَبِهِ يَصِحُّ الْعَطْفُ، وَقَالَ: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} [المائدة: 106] فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ، وَإِذَا كَانَا مُؤْمِنَيْنِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ الْقَبِيلَةِ أَوْ مِنْ الْوَرَثَةِ، وَيَتَرَجَّحُ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا تَقَدَّمَ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [المائدة: 106] وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: إنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الشَّهَادَةَ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا ذِكْرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَيَتَخَصَّصُ بِهِ هَاهُنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [المائدة: 106]، كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا فِيهِ حَيْثُ لَا يُوجَدُ مُسْلِمٌ فِي الْغَالِبِ، فَيُؤْخَذُ الْكَافِرُ عِوَضًا مِنْهُ لِلضَّرُورَةِ فِي الشَّهَادَةِ؛ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ، وَاخْتَارَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَجَازَ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي السَّفَرِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُسْلِمِينَ وَاحْتَجَّ بِالْحَدِيثِ وَالْآيَةِ. وَنُبَيِّنُهُ فِيمَا بَعْدُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة: 106] يَعْنِي وَقَدْ أَسْنَدْتُمْ النَّظَرَ إلَيْهِمَا، وَاسْتَشْهَدْتُمُوهُمَا. أَوْ ارْتَبْتُمْ بِهِمَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سَرْدِ الْقَصَصِ وَالرِّوَايَاتِ وَذِكْرِ الْآثَارِ وَالْمَقَالَاتِ [مَسْأَلَة حَبْسِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَقُّ] الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ: قَوْله تَعَالَى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} [المائدة: 106] وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى حَبْسِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَهُوَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْحُكُومَةِ، وَحُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ؟ فَإِنَّ الْحُقُوقَ الْمُتَوَجِّهَةَ عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهَا مَا يَصِحُّ اسْتِيفَاؤُهُ مُعَجَّلًا، وَمِنْهَا مَا لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ إلَّا مُؤَجَّلًا فَإِنْ خُلِّيَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ وَغَابَ وَاخْتَفَى بَطَلَ الْحَقُّ وَتَوِيَ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ التَّوَثُّقِ مِنْهُ، فَإِمَّا بِعِوَضٍ عَنْ الْحَقِّ وَيَكُونُ

مسألة معنى قوله تعالى من بعد الصلاة

بِمَالِيَّةٍ مَوْجُودَةٍ فِيهِ؛ وَهِيَ الْمُسَمَّى رَهْنًا، وَهُوَ الْأَوْلَى وَالْأَوْكَدُ؛ وَإِمَّا شَخْصٌ يَنُوبُ مَنَابَهُ فِي الْمُطَالَبَةِ وَالذِّمَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَغِيبَ كَغَيْبَتِهِ، وَيَتَعَذَّرُ وُجُودُهُ كَتَعَذُّرِهِ، وَلَكِنْ لَا يَمْلِكُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا. فَإِنْ تَعَذَّرَا جَمِيعًا لَمْ يَبْقَ إلَّا التَّوَثُّقُ بِحَبْسِهِ، حَتَّى تَقَعَ مِنْهُ التَّوْفِيَةُ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ حَقٍّ؛ فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ بَدَنِيًّا لَا يُقْبَلُ الْبَدَلُ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَلَمْ يَتَّفِقْ اسْتِيفَاؤُهُ مُعَجَّلًا، لَمْ يَبْقَ إلَّا التَّوَثُّقُ بِسِجْنِهِ؛ وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْحِكْمَةِ شُرِعَ السِّجْنُ. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَبَسَ فِي تُهْمَةٍ رَجُلًا ثُمَّ خَلَّى عَنْهُ». وَفِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقَالَ: احْبِسُوهُ؛ فَإِنْ مَاتَ صَاحِبُهُ فَاقْتُلُوهُ». وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ يَمِينٌ وَأَنَّهُ عَنَى بِهِمْ الْمُتَنَازِعَيْنِ فِي الْحَقِّ لَا الْقَائِمَيْنِ بِالشَّهَادَةِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْقَائِمَ بِالشَّهَادَةِ لَا حَبْسَ عَلَيْهِ [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} [المائدة: 106] وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: بَعْدَ الْعَصْرِ؛ قَالَهُ شُرَيْحٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ. الثَّانِي: مِنْ بَعْدِ الظُّهْرِ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ. الثَّالِثُ: أَيُّ صَلَاةٍ كَانَتْ. الرَّابِعُ: مِنْ بَعْدِ صَلَاتِهِمَا، عَلَى أَنَّهُمَا كَافِرَانِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَّفَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَرُوِيَ بَعْدَ الظُّهْرِ».

وَفِي الصَّحِيحِ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لَقِيَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ». وَهَذَا عَلَى طَرِيقِ التَّغْلِيظِ بِالزَّمَانِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَشَرَحْنَا أَنَّ حُكْمَ التَّغْلِيظِ يَتَعَلَّقُ بِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: تَغْلِيظٌ بِالْأَلْفَاظِ. الثَّانِي: تَغْلِيظٌ بِالْمَكَانِ، كَالْمَسْجِدِ وَالْمِنْبَرِ؛ لِأَنَّهُ مُجْتَمَعُ النَّاسِ، فَيَكُونُ لَهُ أَخْزَى، وَلِفَضِيحَتِهِ أَشْهَرُ. الثَّالِثُ: التَّغْلِيظُ بِالزَّمَانِ، كَمَا بَعْدَ الْعَصْرِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ " النُّورِ " إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَمِنْ عُلَمَائِنَا مَنْ قَالَ: إنَّ التَّغْلِيظَ يَكُونُ بِسِتَّةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: بِاللَّفْظِ. الثَّانِي: بِالتَّكْرَارِ. الثَّالِثُ: بِالْمُصْحَفِ. الرَّابِعُ: بِالْحَالِ. الْخَامِسُ: بِالْمَكَانِ. السَّادِسُ: بِالزَّمَانِ. أَمَّا التَّغْلِيظُ بِالْأَلْفَاظِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِهِ بِاَللَّهِ. وَقَالَ أَشْهَبُ: لَا تُجْزِئُهُ. الثَّانِي: الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِهِ: بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ. وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ عَنْ مَالِكٍ: أَمَّا رُبْعُ دِينَارٍ وَالْقَسَامَةُ، وَاللِّعَانُ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَقُولَ فِيهِ: بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ. وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَلَقَدْ شَاهَدْت الْقُضَاةَ مِنْ أَهْلِ مَذْهَبِهِ يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، الطَّالِبُ الْغَالِبُ، الضَّارُّ النَّافِعُ، الْمُدْرِكُ الْمُهْلِكُ، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ. وَهَذَا مَا لَا آخِرَ لَهُ إلَّا التِّسْعَةُ وَالتِّسْعُونَ اسْمًا، وَغَيْرُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي حَلَفُوا بِهَا أَرْهَبُ وَأَعْظَمُ مَعْنًى مِنْ غَيْرِهَا.

مسألة معنى قوله تعالى فيقسمان بالله

وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحِ: " الْحَلِفُ بِاَللَّهِ وَبِاَلَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، وَهُوَ التَّغْلِيظُ، وَبِالْمُصْحَفِ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ بِدْعَةٌ مَا ذَكَرَهَا أَحَدٌ قَطُّ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَكُلُّ فَصْلٍ يُسْتَوْفَى بِمَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَيُقْسِمَانِ بِاَللَّهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة: 106] قِيلَ: هُمَا الْوَصِيَّانِ إذَا اُرْتِيبَ بِقَوْلِهَا. وَقِيلَ: هُمَا الشَّاهِدَانِ إذَا لَمْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ وَارْتَابَ بِهِمَا الْحَاكِمُ حَلَّفَهُمَا. وَاَلَّذِي سَمِعْت وَهُوَ بِدْعَةٌ عَنْ أَبِي لَيْلَى أَنْ يَحْلِفَ الطَّالِبُ مَعَ شَاهِدَيْهِ أَنَّ الَّذِي شَهِدَا بِهِ حَقٌّ، وَحِينَئِذٍ يُقْضَى لِلْمُدَّعِي بِالْحَقِّ. وَتَأْوِيلُ هَذَا عِنْدِي إذَا ارْتَابَ الْحَاكِمُ بِالْقَبْضِ لِلْحَقِّ فَيَحْلِفُ إنَّهُ لَبَاقٍ. وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ. هَذَا فِي الْمُدَّعِي فَكَيْفَ يُحْبَسُ الشَّاهِدُ أَوْ يَحْلِفُ؟ هَذَا مِمَّا لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ [مَسْأَلَة كَانَ الْحَالِفُ كَافِرًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْلُهُ: {بِاللَّهِ} [المائدة: 106] وَهَذَا نَصٌّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فِي تَرْكِ التَّغْلِيظِ بِالْأَلْفَاظِ. وَاَلَّذِي أَقُولُ: إنَّهُ إنْ كَانَ الْحَالِفُ كَافِرًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي سَرْدِ الْأَقْوَالِ وَالرِّوَايَاتِ، وَقُلْنَا بِالتَّغْلِيظِ فَلَا يُقَالُ لَهُ فِي التَّغْلِيظِ قُلْ: بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِهَا. وَعَلَى إقْرَارِهِمْ عَلَى هَذَا الْإِنْكَارِ بَذَلُوا الْجِزْيَةَ، وَلَكِنَّهُمْ يَحْلِفُونَ، كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْيَهُودِ: أَنْشُدُكُمْ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى»، وَتَغَلَّظَ عَلَيْهِمْ بِالْمَكَانِ فِي كَنَائِسِهِمْ وَبِالزَّمَانِ بَعْدَ صَلَاتِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ

ذَكَرَهُ فِي قِصَّةِ دَقُوقَاءَ؛ فَإِنَّ الْغَرَضَ مِنْ هَذَا التَّغْلِيظِ كُلِّهِ زَجْرُ الْحَالِفِ عَنْ الْبَاطِلِ، وَالرُّجُوعُ إلَى الْحَقِّ، وَرَهْبَتُهُ بِمَا يُحِلُّ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ دَاعِيَةً لِلِانْكِفَافِ عَنْ الْبَاطِلِ وَالرُّجُوعِ إلَى الْحَقِّ، وَهُوَ مَعْنَى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} [المائدة: 108]. وَقَدْ حَقَّقْنَا هَذَا الْغَرَضَ، فَقُلْنَا: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَا غَلَّظَ فِي كِتَابِهِ يَمِينًا، إنَّمَا قَالَ: فَيُقْسِمَانِ بِاَللَّهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53]. وَقَالَ مُخْبِرًا عَنْ خَلِيلِهِ: {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57]. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ». وَلَكِنْ قَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اتَّقُوا اللَّهَ، فَوَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ لَتَعْلَمُنَّ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا». وَرَوَى النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد أَنَّ «خَصْمَيْنِ أَتَيَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُدَّعِي: الْبَيِّنَةُ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَيْسَ لِي بَيِّنَةٌ. فَقَالَ لِلْآخَرِ: احْلِفْ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ مَا لَهُ عَلَيْك شَيْءٌ، أَوْ مَا لَهُ عِنْدَك شَيْءٌ». وَتَغْلِيظُ الْعَدَدِ فِي اللِّعَانِ، وَهُوَ التَّكْرَارُ، وَفِي الْقَسَامَةِ مِثْلُهُ. وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ رَأَى ابْنَ مَازِنٍ قَاضِي صَنْعَاءَ يَحْلِفُ بِالْمُصْحَفِ وَيُؤْثِرُ أَصْحَابُهُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَمْ يَصِحَّ. وَأَمَّا التَّغْلِيظُ بِالْحَالِ فَرُوِيَ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَحْلِفُ قَائِمًا مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ. وَرَوَى ابْنُ كِنَانَةَ عَنْ مَالِكٍ: يَحْلِفُ جَالِسًا. وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ يَحْلِفُ كَمَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِهَا إنْ قَائِمًا فَقَائِمًا، وَإِنْ جَالِسًا فَجَالِسًا؛ إذْ لَمْ يَثْبُتْ فِي أَثَرٍ وَلَا نَظَرٍ اعْتِبَارُ قِيَامٍ أَوْ جُلُوسٍ.

مسألة معنى قوله تعالى إن ارتبتم

وَتَغْلِيظُ الْمَكَانِ كَمَا قُلْنَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي بِيَمِينٍ كَاذِبَةٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ». فَقِيلَ: أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ الْحَالَ؛ لِأَنَّهُ مَقْطَعُ الْحُقُوقِ. وَقِيلَ: أَرَادَ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ قَوْمٍ عَاهَدُوا وَحَلَفُوا عَلَى الْمِنْبَرِ لِلنَّاسِ ثُمَّ غَدَرُوا. وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رَأَى رَجُلًا يَحْلِفُ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ فَقَالَ: أَعَلَى دَمٍ أَوْ عَلَى مَالٍ عَظِيمٍ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَهُمْ مِنْ الْمُسْتَقِرِّ فِي الشَّرْعِ أَلَّا يَحْلِفَ هُنَالِكَ إلَّا عَلَى مَا وَصَفَ، فَكُلُّ مَالٍ تُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ، وَتَسْقُطُ فِيهِ حُرْمَةُ الْعُضْوِ فَهُوَ عَظِيمٌ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى إنْ ارْتَبْتُمْ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} [المائدة: 106] وَالرِّيبَةُ: هِيَ التُّهْمَةُ يَعْنِي مَنْ ادَّعَى عَلَيْهِمَا بِخِيَانَةٍ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرْتَابِ، فَقِيلَ: هُوَ الْحَاكِمُ. وَقِيلَ: هُمْ الْوَرَثَةُ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَالتُّهْمَةُ وَالرِّيبَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا تَقَعُ الرِّيبَةُ فِيهِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَقِّ أَوْ تَوَجُّهِ الدَّعْوَى؛ فَهَذَا لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْيَمِينِ. الثَّانِي: التُّهْمَةُ الْمُطْلَقَةُ فِي الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ؛ وَهُوَ تَفْصِيلٌ طَوِيلٌ، بَيَانُهُ فِي أُصُولِ الْمَسَائِلِ وَصُوَرُهَا مِنْ الْمَذْهَبِ، وَقَدْ تَحَقَّقَتْ هَاهُنَا الدَّعْوَى، وَثَبَتَتْ عَلَى مَا سَطَّرَ فِي الرِّوَايَاتِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا} [المائدة: 106] قَالَ عُلَمَاؤُنَا: مَعْنَاهُ لَا نَشْتَرِي بِهِ ذَا ثَمَنٍ، ثُمَّ حَذَفَ الْمُضَافَ وَأَقَامَ الْمُضَافَ إلَيْهِ مَقَامَهُ. وَهَذَا مَا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ؛ فَإِنَّ الثَّمَنَ عِنْدَنَا مُشْتَرًى، كَمَا أَنَّ الْمَثْمُونَ مُشْتَرًى؛ فَكُلُّ

مسألة كان المشهود له ذا قربى

وَاحِدٍ مِنْ الْمَبِيعَيْنِ ثَمَنًا وَمَثْمُونًا، كَانَ الْبَيْعُ دَائِرًا عَلَى عَرْضٍ أَوْ نَقْدٍ، أَوْ عَلَى عَرْضَيْنِ أَوْ نَقْدَيْنِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَنْبَنِي مَسْأَلَةُ مَا إذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي وَوُجِدَ مَتَاعُهُ عِنْدَ الْبَائِعِ، هَلْ يَكُونُ أَوْلَى بِهِ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَكُونُ أَوْلَى بِهِ، وَبَنَاهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {بِهِ} [المائدة: 106] فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: يَعْنِي الْقَوْلَ الَّذِي قُلْنَاهُ. الثَّانِي: أَنَّ الْهَاءَ تَعُودُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. الْمَعْنَى: لَا نَبِيعُ حَظَّنَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِهَذَا الْعَرْضِ. الثَّالِثُ: هُوَ ضَمِيرُ الْجَمَاعَةِ، وَهُمْ الْوَرَثَةُ، وَهُمْ الْمُتَّهِمُونَ الَّذِينَ لَهُمْ الطَّلَبُ وَلَهُمْ التَّحْلِيفُ، وَالْحَاكِمُ يَقْتَضِي لَهُمْ وَيَنُوبُ عَنْهُمْ فِي إيفَاءِ الْحَقِّ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي: أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى الْقَوْلِ، فَبِهِ يَتَمَكَّنُ الْمَعْنَى وَلَا يُحْتَاجُ إلَى سِوَاهُ [مَسْأَلَة كَانَ الْمَشْهُودُ لَهُ ذَا قُرْبَى] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [المائدة: 106] مَعْنَاهُ: لَا نَشْهَدُ الزُّورَ، وَلَا نَأْخُذُ رِشْوَةً لِنَكْذِبَ، وَلَوْ كَانَ الْمَشْهُودُ لَهُ ذَا قُرْبَى قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ؛ وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّهَا شَهَادَةٌ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهَا يَمِينٌ قَالَ: التَّقْدِيرُ: لَا نَأْخُذُ بِيَمِينِنَا بَدَلًا مَنْفَعَةً، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لِذِي الْقُرْبَى، فَكَيْفَ لِأَجْنَبِيٍّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} [المائدة: 106] يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ مَا عَلِمَ اللَّهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ لَا نَكْتُمُ مَا أَعْلَمَنَا اللَّهُ مِنْ الشَّهَادَةِ؛ أَضَافَهَا إلَيْهِ لِعِلْمِهِ بِهَا، وَأَمْرِهِ بِأَدَائِهَا، وَنَهْيِهِ عَنْ كِتْمَانِهَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَيَقُولَانِ فِي يَمِينِهِمَا: بِاَللَّهِ إنَّ صَاحِبَكُمْ بِهَذَا أَوْصَى أَنَّ هَذِهِ تَرِكَتُهُ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} [المائدة: 106] يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لَا تَتَعَيَّنُ لِلْيَمِينِ، وَلَا لِلشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْيَمِينُ عَلَى نَفْيِ

مسألة معنى قوله تعالى فإن عثر على أنهما استحقا إثما

الدَّعْوَى كَيْفَمَا كَانَتْ، وَتَكُونُ الشَّهَادَةُ بِصِفَةِ الْحَالِ كَمَا جَرَتْ، فَأَمَّا أَنْ يَقُولَ الشَّاهِدُ: إنِّي لَا أَشْتَرِي بِشَهَادَتِي شَيْئًا، وَلَوْ كَانَ قَرَابَتِي. أَوْ يَقُولُهَا الْحَالِفُ فِي يَمِينِهِ، فَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ عِنْدِي وَلَا عِنْدَ أَحَدٍ، وَلَكِنْ يَحْلِفُ أَوْ يَشْهَدُ كَمَا وَصَفْنَا وَيَعْتَقِدُ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، فَهَذَا الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ يَكُونُ فِي اعْتِقَادِهِ لَا فِي لَفْظِهِ فِي شَهَادَةٍ أَوْ يَمِينٍ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إثْمًا] الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ ثَلَاثِينَ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} [المائدة: 107] يُرِيدُ ظَهَرَ، وَأَظْهَرُ شَيْءٍ فِي الطَّرِيقِ مَا عُثِرَ عَلَيْهِ فِيهَا، وَيُسْتَعْمَلُ فِيمَا كَانَ غَائِبًا عَنْك وَكُنْت جَاهِلًا بِهِ، ثُمَّ حَضَرَ لَدَيْك وَاطَّلَعْت عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} [الكهف: 21] لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَهُمْ، وَقَدْ خَفِيَ عَلَيْهِمْ مَوْضِعُهُمْ. التَّقْدِيرُ: إذَا نَفَذَ الْحُكْمُ عَلَيْهِمْ فِي الظَّاهِرِ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ ظَهَرَ وَتَبَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ كَذِبُهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى: إنَّهُمَا قِيلَ: هُمَا الشَّاهِدَانِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: هُمَا الْوَصِيَّانِ؛ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَيَتَرَكَّبُ عَلَيْهِ، وَيَخْتَلِفُ التَّقْدِيرُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى: {إِثْمًا} [المائدة: 107] يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ عُقُوبَةً، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ غُرْمًا، وَظَاهِرُ الْإِثْمِ الْعُقُوبَةُ، لَكِنْ صَرَفَ عَنْ هَذَا الظَّاهِرِ قَوْلُهُ: اسْتَحَقَّا، وَالْعُقُوبَةُ لَا تُسْتَحَقُّ بِالْمَعَاصِي، وَلَا يُسْتَحَقُّ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ حَسْبَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ اسْتَوْجَبَا غُرْمًا بِطَرِيقَةٍ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الِاحْتِمَالِ قَوْله تَعَالَى: {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ} [المائدة: 107] فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ عَلَى هَؤُلَاءِ مَا كَانَا اسْتَحَقَّاهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ الْقَوْمَ ادَّعَوْا أَنَّهُ كَانَ لِلْمَيِّتِ دَعْوَى مِنْ انْتِقَالِ مِلْكٍ عَنْهُ إلَيْهِمَا بِبَعْضِ مَا تَزُولُ بِهِ الْأَمْلَاكُ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ الْيَمِينُ عَلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ دُونَ الْمُدَّعِي، وَتَكُونُ الْبَيِّنَةُ فِيهِ عَلَى الْمُدَّعِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَآخَرَانِ} [المائدة: 107] إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الِاتِّفَاقِ أَنَّ الْوَارِثَيْنِ كَانَا اثْنَيْنِ، وَلَوْ كَانَ وَاحِدًا لَأَجْزَأَهُ.

مسألة معنى قوله تعالى الأوليان

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى: {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ} [المائدة: 107] مَعْنَاهُ: مِمَّنْ كَانَ نَفَذَ عَلَيْهِمْ الْقَضَاءُ قَبْلَ ذَلِكَ بِوَصِيَّةٍ أَوْ دَيْنٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ الْمَيِّتُ ذَكَرَهُ، وَهُمْ الْوَرَثَةُ. وَمَنْ يَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُ عُلَمَائِنَا: إنَّ فِي قَوْلِهِ {عَلَيْهِمُ} [المائدة: 107] ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ، لَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِهَا، وَلَا نَحْفِلُ بِهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {اسْتَحَقَّ} [المائدة: 107] مَعَ قَوْلِهِ: " عَلَى " مُتَلَائِمٌ فَلَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى الْأَوْلَيَانِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى: {الأَوْلَيَانِ} [المائدة: 107] وَهَذَا فَصْلٌ مُشْكِلُ الْمَعْنَى مُشْكِلُ الْإِعْرَابِ، كَثُرَ فِيهِ الِاخْتِلَاطُ: أَمَّا إعْرَابُهُ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ الضَّمِيرِ فِي " يَقُومَانِ " وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَالْأَوْلَيَانِ يَقُومَانِ مَقَامَ الْأَوَّلَيْنِ. وَهَذَا حَسَنٌ؛ لَكِنَّهُ فِيهِ رَدُّ الْبَعِيدِ إلَى الْقَرِيبِ فِي الْبَدَلِيَّةِ بَعْدَمَا حَالَ بَيْنَهُمَا مِنْ طَوِيلِ الْكَلَامِ، وَيَكُونُ فَاعِلُ " اُسْتُحِقَّ " بِضَمِّ التَّاءِ مُضْمَرًا تَقْدِيرُهُ الْحَقُّ أَوْ الْوَصِيَّةُ أَوْ الْإِيصَاءُ أَوْ الْمَالُ. وَقِيلَ: فَاعِلُ اُسْتُحِقَّ عَائِدٌ عَلَى الْإِثْمِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، وَهُوَ الْغُرْمُ لِلْمَالِ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ. الثَّانِي: أَنَّ " الْأَوْلَيَانِ " فَاعِلٌ بِاسْتُحِقَّ، يُرِيدُ الْأَوْلَيَانِ بِالْيَمِينِ بِأَنْ يُحَلِّفَا مَنْ يَشْهَدُ بَعْدَهُمَا، فَإِنْ جَازَتْ شَهَادَةُ النَّصْرَانِيِّينَ كَانَ الْأَوْلَيَانِ النَّصْرَانِيِّينَ، وَالْآخَرَانِ مِنْ غَيْرِ بَيْتِ أَهْلِ الْمَيِّتِ. هَذَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ. وَلَا أَقُولُ بِهِ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا: مِنْ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ الْأَوَّلُ وَبِالْحَقِّ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: آخَرَانِ.

يمين الحالف لا تكون إلا بلفظ الدعوى

الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مُقَدَّمٌ، تَقْدِيرُهُ فَالْأَوْلَيَانِ آخَرَانِ. وَالصَّحِيحُ مِنْ هَذَا هُوَ الْأَوَّلُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ، وَأَكْمَلْنَا تَقْدِيرَ الْآيَةِ فِيهِ. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ الْأَوَّلَيْنِ وَهُوَ حَمْزَةُ، وَأَبُو بَكْرٍ فَيُرْجَعُ إلَى الْأَوَّلَيْنِ، وَهُوَ حَسَنٌ. وَقَرَأَ حَفْصٌ اسْتَحَقَّ بِمَعْنَى حَقَّ عَلَيْهِمْ. وَمِنْ الْغَرِيبِ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: {عَلَيْهِمُ} [المائدة: 107] فَقِيلَ فِيهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102] أَيْ فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ. وَهَذَا كَثِيرٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهُ مِنْهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين: 2]. وَهَذِهِ دَعَاوَى وَضَرُورَاتٌ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا، وَلَا يَصِحُّ مُرَادُهُمْ فِي بَعْضِ مَا اُسْتُشْهِدَ بِهِ مِنْهَا. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ: مَعْنَى الْأَوْلَيَانِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْأَوْلَى بِالشَّهَادَةِ. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الْأَوْلَى بِالْمَيِّتِ مِنْ الْوَرَثَةِ. الثَّالِثُ: الْأَوْلَى بِتَحْلِيفِ غَيْرِهِ؛ قَالَهُ ابْنُ فُورَكٍ؛ وَهُوَ يَرْجِعُ إلَى الثَّانِي، وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ الْأَوَّلِ. [يَمِينَ الْحَالِفِ لَا تَكُونُ إلَّا بِلَفْظِ الدَّعْوَى] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى: {لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا} [المائدة: 107] الْمَعْنَى: لَقَوْلُنَا أَحَقُّ مِنْ قَوْلِهِمَا. وَهَذَا الْقَوْلُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى، وَأَنَّ يَمِينَ الْحَالِفِ لَا تَكُونُ إلَّا بِلَفْظِ الدَّعْوَى. وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْيَمِينَ إذَا كَانَتْ بِإِنَّ قَوْلِي أَصْدَقُ مِنْ قَوْلِك رُبَّمَا وَرَدَ فِي يَمِينِهِ، بِأَنْ يَكُونَ مُدَّعِيهِ قَدْ كَذَبَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَكَذَبَ هُوَ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، فَيَلْزَمُ التَّصْرِيحُ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْكَذِبَ، وَتَحْصُلُ الْمُجَاهَرَةُ إنْ خَالَفَ، لِيَأْتِيَ بِالصِّدْقِ

مسألة بقاء معنى هذه الآية أو ارتفاعه فإن عثر على أنهما استحقا إثما

عَلَى وَجْهِهِ؛ فَإِذَا صَحَّ بِالْقَوْلِ فِي الْيَمِينِ لَمْ يَنْفَعْهُ مَا نَوَى إذَا أَضْمَرَ مِنْ مَعْنَى الْيَمِينِ خِلَافَ الظَّاهِرِ مِنْهَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَمِينُك عَلَى مَا يُصَدِّقُك عَلَيْهِ صَاحِبُك». وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَمَعْنًى قَوِيمٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ قَرَرْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ. [مَسْأَلَة بَقَاءِ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَوْ ارْتِفَاعِهِ فَإِن عَثَرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إثْمًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي بَقَاءِ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَوْ ارْتِفَاعِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ حُكْمُهَا مَنْسُوخٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: حُكْمُهَا ثَابِتٌ، فَمَنْ قَالَ: إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ قَالَ: إنَّ الْيَمِينَ الْآنَ لَا تَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ؛ لِأَنَّهُ إنْ اُرْتِيبَ بِهِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ رِيبَةٌ وَلَا فِي حَالِهِ خُلَّةٌ لَمْ يُحْتَجْ إلَى الْيَمِينِ، وَعَلَى هَذَا عَوَّلَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَنُخْبَتُهُمْ. وَقَدْ قَرَّرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ وَحَقَّقَهُ بِأَمْرِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]. وَ {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]. فَوَقَعَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْعَدَالَةِ، وَاقْتُضِيَتْ الْيَمِينُ مِنْهَا إنْ كَانَتْ فِيهَا. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا ثَابِتَةٌ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ جَائِزَةٌ فِي السَّفَرِ؛ مِنْهُمْ أَحْمَدُ كَمَا تَقَدَّمَ يُجَوِّزُهَا فِي السَّفَرِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَصَارَ بَعْضُ أَشْيَاخِنَا إلَى أَنَّ ذَلِكَ بَاقٍ بِالْيَمِينِ، وَهُوَ خَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَجَهْلٌ بِالتَّأْوِيلِ، وَقُصُورٌ عَنْ النَّظَرِ، وَإِذَا أَسْقَطَ أَحْمَدُ الْيَمِينَ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَةِ وَلَا فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ تَثْبُتُ فِيهِمَا جَمِيعًا. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الشَّهَادَةَ الْيَمِينُ، وَهِيَ هَاهُنَا يَمِينُ الْوَصِيَّيْنِ، كَمَا سُمِّيَتْ الْيَمِينُ فِي اللِّعَانِ شَهَادَةً. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: إنَّمَا حَكَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْيَمِينِ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ أَجْلِ دَعْوَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ عَلَى الْمُسْنَدِ إلَيْهِمَا الْوَصِيَّةُ بِالْخِيَانَةِ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، مَا لَا يَبْرَأُ فِيهِ

الْمُدَّعِي ذَلِكَ قِبَلَهُ إلَّا بِيَمِينٍ؛ فَإِنَّ نَقْلَ الْيَمِينِ إلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ إنَّمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ عَثَرَ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ فِي أَيْمَانِهِمَا بِإِثْمٍ، وَظَهَرَ عَلَى كَذِبِهِمَا فِي ذَلِكَ بِمَا ادَّعَوْا مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ أَنَّهُ بَاعَهُ مِنْهُمَا، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْخِيَانَةَ ظَهَرَتْ فِي أَدَاءِ الْمَالِ، وَلِذَلِكَ حَلَفَا مَعَ الشَّهَادَةِ. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا يَصِحُّ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَاتِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا أَنَّهُمَا ادَّعَيَا بَيْعَ الْجَامِ مِنْهُمَا. وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَلَا يَسْتَقِيمُ هَذَا التَّأْوِيلُ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ أَدَّيَا التَّرِكَةَ فِيمَا ذُكِرَ فِيهَا، وَانْقَلَبَا عَلَى سَتْرٍ وَسَلَامَةٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهَرَتْ الْخِيَانَةُ فِي الْجَامِ؛ إمَّا بِأَنَّهُ وُجِدَ يُبَاعُ، وَإِمَّا بِتَحَرُّجِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَتَأَثُّمِهِ وَأَدَائِهِ مَا كَانَ أَخَذَهُ مِنْهُ. وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ كُلَّ رِوَايَةٍ مِنْ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ عَضَّدَتْهَا صِيغَةُ الْقِصَّةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسَرَدُوهَا فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ، وَكُلُّ مَا لَمْ يُعَضِّدْهُ مِنْهَا فَهُوَ مَرْدُودٌ. أَمَّا إنَّهُ إذَا فَسَّرْت الْكَلَامَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَاحْتَجْت إلَى تَجْوِيزٍ أَوْ تَقْدِيمٍ أَوْ تَأْخِيرٍ فَكُلَّمَا كَانَ أَقَلَّ فِي ذَلِكَ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ فَهُوَ أَرْجَحُ، وَكُلَّمَا كَانَ مِنْ خِلَافِ الْأُصُولِ فِيهِ أَقَلَّ فَهُوَ أَرْجَحُ، كَتَأْوِيلٍ فِيهِ إجَازَةُ شَهَادَةِ الْكَافِرِ وَإِحْلَافُ الشَّاهِدِ عَلَى شَهَادَتِهِ؛ فَإِنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي يُخَرَّجُ عَنْهُ هَذَا هُوَ أَرْجَحُ، وَلَا يَسْلَمُ تَأْوِيلٌ مِنْ اعْتِرَاضٍ؛ فَإِنَّ الْبَيَانَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْأَحْكَامِ جَاءَ عَلَى صِفَةٍ غَرِيبَةٍ وَهُوَ سِيَاقُهُ عَلَى الْإِشَارَةِ إلَى الْقِصَّةِ؛ وَلِذَلِكَ جَاءَ بِانْتِقَالَاتٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا أَنَّهُ قَالَ: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} [المائدة: 107]. وَرُبَّمَا كَانَ الْمُدَّعِي وَاحِدًا، فَلَيْسَ قَوْله تَعَالَى: {فَآخَرَانِ} [المائدة: 107] خَارِجًا مَخْرَجَ الشَّرْطِ، وَإِنَّمَا هُوَ كِنَايَةٌ عَمَّا جَرَى مِنْ الْعَدَدِ فِي الْقِصَّةِ، وَالْوَاحِدُ كَالِاثْنَيْنِ فِيهَا؛ فَيَطْلُبُ النَّاظِرُ مَخْرَجًا أَوْ تَأْوِيلًا لِلَّفْظِ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ، فَيُدْخِلُ الْإِشْكَالَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ، فَلَا يُسَاحَلُ عَنْ هَذَا الْبَحْرِ أَبَدًا؛ وَكَذَلِكَ مَا جَرَى مِنْ التَّعْدِيدِ لَا يُمْنَعُ مِنْ كَوْنِ

مسألة تقدير قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في الأرض

الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْيَمِينِ كَمَا فِي اللِّعَانِ. وَإِنْ كَانَ لَمْ يَذْكَرْ فِي اللِّعَانِ عَدَدًا، وَجَرَى ذِكْرُهُ هَاهُنَا لِاتِّفَاقِهِ فِي الْقِصَّةِ؛ لَا لِأَنَّهُ شَرْطٌ فِي الْحُكْمِ. وَكَذَلِكَ ذِكْرُ الْعَدَالَةِ تَنْبِيهًا عَلَى مَا يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَشْهَدَهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا لِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ، فَإِنْ ائْتَمَنَهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا لِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ. [مَسْأَلَة تَقْدِيرِ قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي تَقْدِيرِ الْآيَةِ: وَهُوَ: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ، وَحَضَرَكُمْ الْمَرَضُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْمَوْتِ، وَأَرَدْتُمْ الْوَصِيَّةَ فَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ مِنْ قَرَابَتِكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ فَإِنْ خَافَا فَاحْبِسُوهُمَا عَلَى الْيَمِينِ إنْ عَدِمْتُمْ الْبَيِّنَةَ. فَإِنْ تَبَيَّنَتْ بَعْدَ ذَلِكَ خِيَانَتُهُمْ حَلَفَ مِمَّنْ حَلَفُوا لَهُ وَهُوَ أَوْلَى بِاسْتِحْقَاقِ مَا يَجِبُ بِالْيَمِينِ ". وَعَلَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ يَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: " فَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَأَشْهِدُوا الْكُفَّارَ " فَإِنْ أَدَّيَا مَا أُحْضِرَا لَهُ أَوْ ائْتُمِنَا عَلَيْهِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَإِنْ أَدْرَكَتْهُمْ تُهْمَةٌ أَوْ تَبَيَّنَتْ عَلَيْهِمْ خِيَانَةٌ، حَلَفُوا. وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ فِي الْوَصِيَّةِ عَلَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ. وَإِنَّمَا قَبِلْنَا نَحْنُ شَهَادَةَ الْعَدْلِ فِي الْوَصِيَّةِ بِدَلِيلٍ آخَرَ غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْكُفَّارِ إذَا عُدِمَ الْمُسْلِمُونَ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إلَّا التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا، فَكُلُّ شَيْءٍ يَعْتَرِضُكُمْ مِنْ الْإِشْكَالِ عَلَى دَلِيلِنَا وَتَقْدِيرِنَا الَّذِي قَدَّرْنَاهُ آنِفًا، فَانْظُرُوهُ فِي مَوْضِعِهِ هَاهُنَا تَجِدُوهُ مُبَيَّنًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

سورة الأنعام فيها ثمان عشرة آية

[سُورَةُ الْأَنْعَامِ فِيهَا ثَمَانِ عَشْرَةَ آيَةً] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا هُوَ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]. فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {وَعِنْدَهُ} [الأنعام: 59] اعْلَمُوا أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْآيَةَ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ " بِمَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ هَاهُنَا أَنَّ " عِنْدَهُ " كَلِمَةً يُعَبَّرُ بِهَا عَمَّا قَرُبَ مِنْك وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ دُنُوَّ الشَّيْءِ مِنْ الشَّيْءِ يُقَالُ فِيهِ قَرِيبٌ، وَنَأْيُهُ عَنْهُ يُقَالُ فِيهِ بَعِيدٌ، وَأَصْلُهُ: الْمَكَانُ فِي الْمِسَاحَةِ، تَقُولُ: زَيْدٌ قَرِيبٌ مِنْك، وَعَمْرٌو بَعِيدٌ عَنْك. وَيُوضَعُ الْفِعْلُ مَوْضِعَ الِاسْمِ؛ فَتَقُولُ: زَيْدٌ قُرْبُك، ثُمَّ يُنْقَلُ إلَى الْمَكَانَةِ الْمَعْقُولَةِ غَيْرِ الْمَحْسُوسَةِ، فَيُقَالُ: الْعِلْمُ مِنْك قَرِيبٌ، وَعَلَيْهِ يُتَأَوَّلُ مَا يُخْبَرُ بِهِ عَنْ الْبَارِي سُبْحَانَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَبِهِ يُفَسَّرُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186] بِعِشْرِينَ مَعْنًى جَائِزَةٍ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ بِهَا وَيُخْبَرُ عَنْهُ بِمَعْنَاهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ ".

مسألة المراد بقوله تعالى وعنده مفاتح الغيب

وَتَقُولُ: زَيْدٌ قُدَّامُك، وَعَمْرٌو وَرَاءَك. فَإِذَا قُلْت زَيْدٌ قُدَّامُك احْتَمَلَ الْمَسَافَةَ مِنْ لَدُنْ جِسْمِهِ إلَى مَا لَا يَنْحَصِرُ مُنْتَهَاهُ قَدَمًا، وَكَذَلِكَ وَرَاءَك، فَصَغَّرُوهُ إذَا أَرَادُوا قُرْبَ الْمَسَافَةِ مِنْ الْمُخْبَرِ عَنْهُ، فَقَالُوا: قُدَيْدِيمَةُ. وَإِذَا أَرَادُوا تَخْلِيصَ الْقُرْبِ بِغَايَةِ الدُّنُوِّ قَالُوا: زَيْدٌ عِنْدَك، عَبَّرُوا بِهِ عَنْ نِهَايَةِ الْقُرْبِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُصَغِّرُوهُ، فَيَقُولُوا فِيهِ عُنَيْدَ. وَقَدْ يُعَبَّرُ بِهَا أَيْضًا عَمَّا فِي مِلْكِ الْإِنْسَانِ، فَيُقَالُ: عِنْدَهُ كَذَا وَكَذَا؛ أَيْ فِي مِلْكِهِ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَخْتَصُّ بِالْمَرْءِ اخْتِصَاصَ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ؛ فَعَبَّرُوا بِأَقْرَبِ الْوُجُوهِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: عِنْدَهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَك» يَعْنِي فِي مِلْكِك. إذَا ثَبَتَ هَذَا وَهِيَ: [مَسْأَلَة الْمُرَاد بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} [الأنعام: 59] يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ قُرْبَهَا مِنْهُ قُرْبَ مَكَانَةٍ وَتَيْسِيرٍ، لَا قُرْبَ مَكَان. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهَا فِي مِلْكِهِ يُظْهِرُ مِنْهَا مَا يَشَاءُ وَيُخْفِي مَا يَشَاءُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ عَقَائِدِ الْمُسْلِمِينَ، وَرُكْنٌ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ، مُعْظَمُهَا يَتَفَسَّرُ بِهَا، وَفِيهَا مِنْ الْأَحْكَامِ نُكْتَةٌ وَاحِدَةٌ؛ فَأَمَّا مَنْزَعُهَا فِي الْأُصُولِ فَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ؛ وَأَمَّا نُكْتَتُهَا الْأَحْكَامِيَّةُ فَنُشِيرُ إلَيْهَا فِي هَذَا الْمَجْمُوعِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ مَضْمُونِهِ، وَمَعَ هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِشَارَةِ إلَى مَا تَضَمَّنَهُ كِتَابُ الْمُشْكِلَيْنِ لِيَنْفَتِحَ بِذَلِكَ غَلْقُ الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ فِي هَذَا الْمَجْمُوعِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} [الأنعام: 59] وَاحِدُهَا مَفْتَحٌ وَمِفْتَاحٌ، وَجَمْعُهُ مَفَاتِحُ وَمَفَاتِيحُ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَعْنَى يَحِلُّ غَلْقًا، مَحْسُوسًا كَانَ كَالْقُفْلِ عَلَى الْبَيْتِ، أَوْ مَعْقُولًا كَالنَّظَرِ، وَالْخَبَرُ يَفْتَحُ قُفْلَ الْجَهْلِ عَنْ الْعِلْمِ وَالْغَيْبِ، وَهِيَ:

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: عِبَارَةٌ عَنْ مُتَعَلِّقٍ لَا يُدْرَكُ حِسًّا أَوْ عَقْلًا، وَكَمَا لَا يُدْرِكُ الْبَصَرُ مَا وَرَاءَ الْجِدَارِ أَوْ مَا فِي الْبَيْتِ الْمُقْفَلِ، كَذَلِكَ لَا تُدْرِكُ الْبَصِيرَةُ مَا وَرَاءَ الْمَحْسُوسَاتِ الْخَمْسِ، وَالْمَحْسُوسَاتُ مُنْحَصِرَةُ الطُّرُقِ بِانْحِصَارِ الْحَوَاسِّ وَالْمَعْقُولَاتُ لَا تَنْحَصِرُ طُرُقُهَا إلَّا مِنْ جِهَةِ قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا يُدْرَكُ بِبَدِيهَةِ النَّظَرِ. الثَّانِي: مَا يَتَحَصَّلُ مِنْ سَبِيلِ النَّظَرِ. أَمَّا إنَّهُ لَهُ أُمَّهَاتٌ خَمْسٌ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهَا وَجَاءَتْ الْعِبَارَةُ عَنْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34]. فَالْأُمُّ الْكُبْرَى: السَّاعَةُ؛ وَمَا تَضَمَّنَتْ مِنْ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْمَوْقِفِ، وَمَا فِيهِ مِنْ الْأَهْوَالِ، وَحَالُ الْخَلْقِ فِي الْحِسَابِ، وَمِنْقَلُهُمْ بَعْدَ تَفْضِيلٍ وَحَطٍّ وَتَفْصِيلِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. الْأُمُّ الثَّانِيَةُ: تَنْزِيلُ الْغَيْثِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْإِحْيَاءِ وَالْإِنْبَاتِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَثَرِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَضَعَ ذَلِكَ عَلَى يَدَيْ مِيكَائِيلَ وَتَحْتَ نَظَرِهِ مَلَائِكَةٌ لَا يُحْصِيهَا إلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ تَصْدُرُ عَنْ أَمْرِهِ فِي تَنْفِيذِ الْمَقَادِيرِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِذَلِكَ مِنْ إنْشَاءِ الرِّيَاحِ، وَتَأْلِيفِ السَّحَابِ، وَإِلْقَاحِهَا بِالْمَاءِ، وَفَتْقِهَا بِالْقَطْرِ، وَعَلَى يَدَيْ كُلِّ مَلِكٍ قَطْرَةٌ يُنْزِلُهَا إلَى بُقْعَةٍ مَعْلُومَةٍ لِيُنَمِّيَ بِهَا شَجَرَةً مَخْصُوصَةً؛ لِيَكُونَ رِزْقًا لِحَيَوَانٍ مُعَيَّنٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَيْهِ الْأُمُّ الثَّالِثَةُ: مَا تَحْوِيهِ الْأَرْحَامُ، وَقَدْ وَكَّلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ فِي مَوْرِدِ الْأَمْرِ مَلَكًا يُقَالُ لَهُ إسْرَافِيلُ، وَفِي زِمَامِهِ: مِنْ الْمَلَائِكَةِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَرَنَ بِكُلِّ رَحِمٍ مَلَكًا يَجْرِي عَلَى يَدَيْهِ تَدْبِيرُ النُّطْفَةِ فِي أَطْوَارِ الْخِلْقَةِ.

الْأُمُّ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34]. وَهُوَ مَعْنًى خَبَّأَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ الْخَلْقِ تَحْتَ أَسْتَارِ الْأَقْدَارِ، بِحِكْمَتِهِ الْقَائِمَةِ، وَحُجَّتِهِ الْبَالِغَةِ، وَقُدْرَتِهِ الْقَاهِرَةِ، وَمَشِيئَتِهِ النَّافِذَةِ، فَكَائِنَاتُ غَدٍ تَحْتَ حِجَابِ اللَّهِ، وَنَبَّهَ: بِالْكَسْبِ عَنْ تَعْمِيَتِهَا؛ لِأَنَّهُ أَوْكَدُ مَا عِنْدَ الْمَرْءِ لِلْمَعْرِفَةِ، وَأَوْلَاهُ لِلتَّحْصِيلِ، وَعَلَيْهِ يَتَرَكَّبُ الْعُمْرُ وَالرِّزْقُ، وَالْأَجَلُ، وَالنَّجَاةُ، وَالْهَلَكَةُ، وَالسُّرُورُ، وَالْغَمُّ، وَالْغَرَائِزُ الْمُزْدَوِجَةُ فِي جِبِلَّةِ الْآدَمِيِّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ أَوْ مَكْرُوهٍ لَهُ. الْأُمُّ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34]. نَبَّأَ بِهِ عَنْ الْعَاقِبَةِ الَّتِي انْفَرَدَ بِالِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا رَبُّ الْعِزَّةِ. وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَأْكِيدِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ؛ مِنْهُمْ أَبُو ذَرٍّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ؛ قَالَا: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْلِسُ بَيْنَ ظَهْرَانِيْ أَصْحَابِهِ، فَيَجِيءُ الْغَرِيبُ فَلَا يَدْرِي أَيُّهُمْ هُوَ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْهُ، فَطَلَبْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَجْعَلَ لَهُ مَجْلِسًا يَعْرِفُهُ الْغَرِيبُ إذَا أَتَاهُ، فَبَنَيْنَا لَهُ دُكَّانًا مِنْ طِينٍ، كَانَ يَجْلِسُ عَلَيْهِ، وَكُنَّا نَجْلِسُ جَانِبَيْهِ، فَإِنَّا لَجُلُوسٌ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَجْلِسِهِ إذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا، وَأَطْيَبِ النَّاسِ رِيحًا، وَأَنْقَى النَّاسِ ثَوْبًا، كَأَنَّ ثِيَابَهُ لَمْ يَمَسَّهَا دَنَسٌ، إذْ وَقَفَ فِي طَرَفِ السِّمَاطِ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَدْنُو؟ قَالَ: ادْنُهْ. فَمَا زَالَ بِهِ يَقُولُ: أَدْنُو؟ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لَهُ: ادْنُهْ، حَتَّى وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَخْبِرْنِي مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: الْإِسْلَامُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ. قَالَ: فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ فَقَدْ أَسْلَمْت؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: صَدَقْت. قَالَ: فَلَمَّا أَنْ سَمِعْنَا قَوْلَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ أَنْكَرْنَا ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنِي مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ كُلِّهِ.

قَالَ: فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ فَقَدْ آمَنْت؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: صَدَقْت. قَالَ: فَمَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ: الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك. قَالَ: صَدَقْت. قَالَ: فَمَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: فَنَكَّسَ فَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ دَعَاهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَحَلَفَ بِاَللَّهِ، وَقَالَ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ، وَلَكِنْ لَهَا عَلَامَاتٌ يَجِئْنَ، إذَا رَأَيْت رِعَاءَ الْغَنَمِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ، وَرَأَيْت الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ مُلُوكَ الْأَرْضِ، وَرَأَيْت الْمَرْأَةَ تَلِدُ رَبَّهَا، هُنَّ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إلَّا اللَّهُ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34]. وَذَكَرَ كَلِمَةً مَعْنَاهَا، ثُمَّ صَعِدَ إلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَاَلَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ مَا كُنْت بِأَعْلَمَ بِهِ مِنْ رَجُلٍ مِنْكُمْ، وَإِنَّهُ لَجِبْرِيلُ نَزَلَ عَلَيْكُمْ فِي صُورَةِ دَحْيَةَ الْكَلْبِيِّ، يُعَلِّمُكُمْ أَمْرَ دِينِكُمْ». الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ السُّدِّيُّ: الْمُرَادُ بِهَذَا خَزَائِنُ الْغَيْبِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ، وَقَرَأَ الْآيَاتِ الْخَمْسَ الْمُتَقَدِّمَةَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى عِلْمِ الْغَيْبِ مِنْ قَوْلِ النَّاسِ: افْتَحْ عَلَيَّ كَذَا أَيْ أَعْطِنِي، أَوْ عَلِّمْنِي مَا أَتَوَصَّلُ [بِهِ] إلَيْهِ. فَأَمَّا قَوْلُ السُّدِّيِّ: إنَّ الْمُرَادَ بِالْمَفَاتِحِ الْخَزَائِنُ فَمَجَازٌ بَعِيدٌ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَعِلْمٌ سَدِيدٌ مِنْ فَكٍّ شَدِيدٍ.

مسألة مقامات الغيب الخمسة التي لا يعلمها إلا الله

وَأَمَّا قَوْلُ الثَّالِثِ فَأَنْكَرَهُ شَيْخُنَا النَّحْوِيُّ نَزِيلُ مَكَّةَ، وَقَالَ: أَجْمَعَتْ أَيْ الْفِرْقَةُ السَّالِفَةُ الصَّالِحَةُ مِنْ الْأُمَّةِ عَلَى غَيْرِهِ؛ وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ أَصَحُّ وَأَوْلَى. وَأَظُنُّهُ لَمْ يَفْهَمْ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، وَلَا اغْتَزَى فِيهِ الْمَغْزَى، وَلَقَدْ أَلْحَمَ فِيهِ الصَّوَابَ وَسَدَى، وَإِذَا مَنَحْته نَقْدًا لَمْ تَعْدَمْ فِيهِ هُدًى؛ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى عِلْمُ الْغَيْبِ، وَبِيَدِهِ الطُّرُقِ الْمُوصِلَةِ إلَيْهِ، لَا يَمْلِكُهَا إلَّا هُوَ؛ فَمَنْ شَاءَ إطْلَاعَهُ عَلَيْهَا أَطْلَعَهُ، وَمَنْ شَاءَ حَجْبَهُ عَنْهَا حَجَبَهُ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ إفَاضَتِهِ إلَّا عَلَى رُسُلِهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 179]. [مَسْأَلَة مَقَامَاتُ الْغَيْبِ الْخَمْسَةُ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إلَّا اللَّهُ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: مَقَامَاتُ الْغَيْبِ الْخَمْسَةُ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إلَّا اللَّهُ لَا أَمَارَةَ عَلَيْهَا، وَلَا عَلَامَةَ عَلَيْهَا، إلَّا مَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ الْمُجْتَبَى لِاطِّلَاعِ الْغَيْبِ مِنْ أَمَارَاتِ السَّاعَةِ، وَالْأَرْبَعَةُ سِوَاهَا لَا أَمَارَةَ عَلَيْهَا؛ فَكُلُّ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَنْزِلُ الْغَيْثُ غَدًا فَهُوَ كَافِرٌ، أَخْبَرَ عَنْهُ بِأَمَارَاتٍ ادَّعَاهَا، أَوْ بِقَوْلٍ مُطْلَقٍ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي الرَّحِمِ فَهُوَ كَافِرٌ؛ فَأَمَّا الْأَمَارَةُ عَلَى هَذَا فَتَخْتَلِفُ؛ فَمِنْهَا كُفْرٌ، وَمِنْهَا تَجْرِبَةٌ، وَالتَّجْرِبَةُ مِنْهَا أَنْ يَقُولَ الطَّبِيبُ: إذَا كَانَ الثَّدْيُ الْأَيْمَنُ مُسْوَدَّ الْحَلَمَةِ فَهُوَ ذَكَرٌ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الثَّدْيِ الْأَيْسَرِ فَهُوَ أُنْثَى؛ وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَجِدُ الْجَنْبَ الْأَيْمَنَ أَثْقَلَ فَهُوَ ذَكَرٌ، وَإِنْ وَجَدَتْ الْجَنْبَ الْأَشْأَمَ أَثْقَلَ فَالْوَلَدُ أُنْثَى، وَادَّعَى ذَلِكَ عَادَةً لَا وَاجِبًا فِي الْخِلْقَةِ لَمْ نُكَفِّرْهُ، وَلَمْ نُفَسِّقْهُ. فَأَمَّا مَنْ ادَّعَى عِلْمَ الْكَسْبِ فِي مُسْتَقْبَلِ الْعُمْرِ فَهُوَ كَافِرٌ، أَوْ أَخْبَرَ عَنْ الْكَوَائِنِ الْجُمَلِيَّةِ أَوْ الْمُفَصَّلَةِ فِيمَا يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، فَلَا رِيبَةَ فِي كُفْرِهِ أَيْضًا. فَأَمَّا مَنْ أَخْبَرَ عَنْ كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يُؤَدَّبُ وَيُسْجَنُ وَلَا يُكَفَّرُ، أَمَّا عَدَمُ تَكْفِيرِهِ فَلِأَنَّ جَمَاعَةً قَالُوا: إنَّهُ أَمْرٌ يُدْرَكُ بِالْحِسَابِ، وَتَقْدِيرِ الْمَنَازِلِ، حَسْبَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس: 39] فَلِحِسَابِهِمْ لَهُ، وَإِخْبَارِهِمْ عَنْهُ، وَصِدْقِهِمْ فِيهِ، تَوَقَّفَتْ عُلَمَاؤُنَا عَنْ الْحُكْمِ بِتَكْفِيرِهِمْ.

الآية الثانية قوله تعالى وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم

وَأَمَّا أَدَبُهُمْ فَلِأَنَّهُمْ يُدْخِلُونَ الشَّكَّ عَلَى الْعَامَّةِ فِي تَعْلِيقِ الْعِلْمِ بِالْغَيْبِ الْمُسْتَأْنَفِ وَلَا يَدْرُونَ قَدْرَ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَغَيْرِهِ، فَتُشَوَّشُ عَقَائِدُهُمْ فِي الدِّينِ، وَتَتَزَلْزَلُ قَوَاعِدُهُمْ فِي الْيَقِينِ، فَأُدِّبُوا حَتَّى يُسِرُّوا ذَلِكَ إذَا عَرَفُوهُ وَلَا يُعْلِنُوا بِهِ. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى وَإِذَا رَأَيْت الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ] ْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْإِعْرَاضِ عَنْ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ، وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ. وَالْخَوْضُ هُوَ الْمَشْيُ فِيمَا لَا يَتَحَصَّلُ حَقِيقَةً، مِنْ الْخَائِضِ فِي الْمَاءِ الَّذِي لَا يُدْرَى بَاطِنُهُ، اُسْتُعِيرَ مِنْ الْمَحْسُوسِ لِلْمَعْقُولِ عَلَى مَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ فِي الْأُصُولِ، وَحَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُشَارَكَةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى رَسُولِهِ بِالْمُجَالَسَةِ، سَوَاءٌ تَكَلَّمَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ أَوْ كَرِهَهُ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُجَالَسَةَ أَهْلِ الْمُنْكَرِ لَا تَحِلُّ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَإِمَّا يُنْسِيَنَّك الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68] قَالَ قَوْمٌ: هَذَا خِطَابٌ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ الْأُمَّةُ، وَكَأَنَّ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ ذَهَبُوا إلَى تَنْزِيهِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ النِّسْيَانِ وَهُمْ كِبَارُ الرَّافِضَةِ، قَبَّحَهُمْ اللَّهُ، وَإِنْ عَذَرْنَا أَصْحَابَنَا فِي قَوْلِهِمْ: إنْ قَوْله تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]، خِطَابٌ لِلْأُمَّةِ بِاسْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِاسْتِحَالَةِ الْإِشْرَاكِ عَلَيْهِ

فَلَا عُذْرَ لَهُمْ فِي هَذَا لِجَوَازِ النِّسْيَانِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى: 6]. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُخْبِرًا عَنْ نَفْسِهِ: «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ»، وَقَالَ وَقَدْ سَمِعَ قِرَاءَةَ رَجُلٍ يَقْرَأُ: «لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً كُنْت أُنْسِيتهَا». وَقَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: «تَلَاحَى رَجُلَانِ فَنَسِيتهَا». وَقَالَ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ نَسِيت آيَةَ كَذَا، بَلْ نُسِّيتهَا»، كَرَاهِيَةَ إضَافَةِ اللَّفْظِ إلَى الْقُرْآنِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 126]. وَفَائِدَتُهُ: أَنَّ لَفْظَ " نَسِيت " يَنْطَلِقُ عَلَى تَرَكْت انْطِلَاقًا طِبْقِيًّا، ثُمَّ نَقُولُ فِي تَقْسِيمِ وَجْهَيْ مُتَعَلِّقِهِ سَهَوْت إذَا كَانَ تَرَكَهُ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَعَمَدْت إذَا كَانَ تَرَكَهُ عَنْ قَصْدٍ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّ قَوْلَهُ: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا» عَامٌّ فِي وَجْهَيْ النِّسْيَانِ الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ. وَقَوْلُهُ إذَا ذَكَرَهَا: يَعْنِي أَنَّ السَّاهِيَ يَطْرَأُ عَلَيْهِ الذِّكْرُ فَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْخِطَابُ، وَأَنَّ الْعَامِدَ ذَاكِرٌ أَبَدًا فَلَا يَزَالُ الْخِطَابُ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ أَبَدًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

الآية الثالثة قوله تعالى وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه

[الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ] ِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 83]. رَوَى ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَالْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] قَالَ: بِالْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ وَإِنَّمَا هُوَ نُورٌ يَضَعُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ مَنْ يَشَاءُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ.: لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ؛ وَإِنَّمَا هُوَ خَشْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى. رَوَى الْمَنْصُورُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هِمَّةُ السُّفَهَاءِ الرِّوَايَةُ، وَهِمَّةُ الْعُلَمَاءِ الدِّرَايَةُ». وَقَالَ مَالِكٌ، لِابْنَيْ أُخْتِهِ أَبِي بَكْرٍ وَإِسْمَاعِيلَ: إنْ أَحْبَبْتُمَا أَنْ يَنْفَعَكُمَا اللَّهُ بِهَذَا الشَّأْنِ فَأَقِلَّا مِنْهُ، وَتَفَقَّهَا فِيهِ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ فِي الدُّنْيَا. قَالَ الْقَاضِي: وَصَدَقَ؛ عِلْمُ الدُّنْيَا عِنْوَانُ الْآخِرَةِ وَسَبِيلُهَا. وَاَلَّذِي أُوتِيَهُ إبْرَاهِيمَ مِنْ الْعِلْمِ بِالْحُجَّةِ، وَهِيَ الَّتِي تُذْكَرُ لِلْخَصْمِ عَلَى طَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ كَانَ فِي الدُّنْيَا بِظُهُورِ دَلَالَةِ التَّوْحِيدِ وَبَيَانِ عِصْمَةِ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْجَهْلِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَالشَّكِّ فِيهِ، وَالْإِخْبَارِ أَنَّ مَا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ إنَّمَا كَانَ احْتِجَاجًا، وَلَمْ يَكُنْ اعْتِقَادًا، وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي الْمُشْكِلَيْنِ

الآية الرابعة قوله تعالى أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده

[الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ] ِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام: 90]. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ بْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذِهِ الْآيَةُ أُصُولِيَّةٌ فَإِنَّهَا تُفِيدُ مَسْأَلَةً مِنْ الْأُصُولِ، وَهِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُمَّتَهُ: هَلْ تَعَبَّدُوا بِشَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَهُمْ أَمْ لَا؟ وَقَدْ حَقَّقْنَاهَا فِي الْأُصُولِ، فَلْتُنْظَرْ هُنَاكَ. وَفِيهَا مِنْ الْأَحْكَامِ الْعَمَلُ بِمَا ظَهَرَ مِنْ أَفْعَالِهِمْ، وَأَخْبَرَنَا عَنْهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ الْعَوَّامِ قَالَ سَأَلْت مُجَاهِدًا عَنْ سَجْدَةِ " ص " فَقَالَ: سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ مِنْ أَيْنَ سَجَدْت؟ فَقَالَ: أَوَمَا تَقْرَأُ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام: 84] " إلَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90]. وَكَانَ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِمَّنْ أُمِرَ نَبِيُّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ، فَسَجَدَهَا دَاوُد، فَسَجَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَسَتَرَاهَا مُسْتَوْفَاةً فِي سُورَةِ " ص " إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [الْآيَة الْخَامِسَة قَوْله تَعَالَى اُنْظُرُوا إلَى ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ] ِ} [الأنعام: 99]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ الْيَنْعِ: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: الطِّيبُ وَالنُّضْجُ؛ يُقَال: أَيْنَعَ الثَّمَرُ يَيْنَعُ وَيُونِعُ، وَالثَّمَرُ يَانِعٌ وَمُونِعٌ، إذَا أَدْرَكَ. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْيَنْعُ جَمْعُ يَانِعٍ، وَهُوَ الْمُدْرِكُ الْبَالِغُ. الثَّالِثُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: " يَنَعَ " أَقَلُّ مِنْ " أَيْنَعَ " وَمَعْنَاهُ احْمَرَّ، وَمِنْهُ مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ

الْمُلَاعَنَةِ: «إنْ وَلَدَتْهُ أَحْمَرَ مِثْلَ الْيَنَعَةِ»، وَهِيَ: خَرَزَةٌ حَمْرَاءُ، يُقَالُ: إنَّهُ الْعَقِيقُ، أَوْ نَوْعٌ مِنْهُ؛ وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ يَقِفُ جَوَازُ بَيْعِ الثَّمَرِ، وَبِهِ يَطِيبُ أَكْلُهَا، وَيَأْمَنُ الْعَاهَةَ، وَذَلِكَ عِنْدَ طُلُوعِ الثُّرَيَّا مَعَ الْفَجْرِ، بِمَا أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْعَادَةِ، وَأَحْكَمَهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَفَصَّلَهُ مِنْ الْحُكْمِ وَالشَّرِيعَةِ؛ وَمِنْ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ: «نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ أَنْ يُشَقَّحَ» قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: إذَا تَغَيَّرَ الْبُسْرُ إلَى الْحُمْرَةِ قِيلَ: هَذِهِ شُقْحَةٌ، وَقَدْ أَشَقَحَتْ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ قَالَ مَالِكٌ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: {إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} [الأنعام: 99] الْإِينَاعُ: الطِّيبُ بِغَيْرِ فَسَادٍ وَلَا نَقْشٍ. قَالَ مَالِكٌ: وَالنَّقْشُ أَنْ تَنْقُشَ أَسْفَلَ الْبُسْرَةِ حَتَّى تَرْطُبَ، يُرِيدُ يَثْقُبُ فِيهَا، بِحَيْثُ يُسْرِعُ دُخُولُ الْهَوَاءِ إلَيْهِ فَيَرْطُبُ مُعَجَّلًا؛ فَلَيْسَ ذَلِكَ الْيَنْعُ الْمُرَادَ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا هُوَ الَّذِي رَبَطَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَيْعَ؛ وَإِنَّمَا هُوَ مَا يَكُونُ مِنْ ذَاتِهِ بِغَيْرِ مُحَاوَلَةٍ، وَفِي بَعْضِ بِلَادِ التِّينِ، وَهِيَ الْبِلَادُ الْبَارِدَةُ، لَا يَنْضَجُ حَتَّى يَدْخُلَ فِي فَمِهِ عَمُودٌ قَدْ دُهِنَ بِزَيْتٍ، فَإِذَا طَابَ حَلَّ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ضَرُورَةُ الْهَوَاءِ وَعَادَةُ الْبِلَادِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا طَابَ فِي وَقْتِ الطِّيبِ. وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: قُلْت لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمَلِكِ بْنِ الْمَاجِشُونِ وَقَدْ رَأَيْته يَأْكُلُ الرُّطَبَ يُقَصِّعُهُ، كَيْفَ تَفْعَلُ هَذَا، وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تَقْصِيعِ الرُّطَبِ»؟ فَقَالَ: إنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تَقْصِيعِ الرُّطَبِ حَيْثُ كَانَ أَكْلُهُ: يَتَشَبَّعُ بِهِ؛ وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالرَّخَاءِ وَالْخَيْرِ، وَالْمُرَادُ هَاهُنَا بِالتَّقْصِيعِ أَكْلُ الرُّطَبَةِ فِي لُقْمَةٍ، وَذَلِكَ يَكُونُ مَعَ الشِّبَعِ؛ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ غَيْرُهَا فَأَكْلُهَا فِي لُقَمٍ أَثْبَتُ لِلشِّبَعِ.

الآية السادسة قوله تعالى ولا تسبوا الذي يدعون من دون الله

[الْآيَة السَّادِسَة قَوْله تَعَالَى وَلَا تَسُبُّوا الَّذِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّه] الْآيَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 108]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: لَا تَسُبُّوا آلِهَةَ الْكُفَّارِ فَيَسُبُّوا إلَهَكُمْ وَكَذَلِكَ هُوَ؛ فَإِنَّ السَّبَّ فِي غَيْرِ الْحُجَّةِ فِعْلُ الْأَدْنِيَاءِ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ الرَّجُلَ يَسُبُّ أَبَوَيْهِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ وَكَيْفَ يَسُبُّ أَبَوَيْهِ؟ قَالَ: يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ»؛ فَمَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ أَحَدًا أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا جَائِزًا يُؤَدِّي إلَى مَحْظُورٍ؛ وَلِأَجْلِ هَذَا تَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ، وَهُوَ كُلُّ عَقْدٍ جَائِزٍ فِي الظَّاهِرِ يُؤَوَّلُ أَوْ يُمْكِنُ أَنْ يُتَوَصَّلَ بِهِ إلَى مَحْظُورٍ؛ وَسَتَرَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُسْتَوْفَاةً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُنَّ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنَا لَنَسُبَّنَّ إلَهَكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْمُحِقِّ أَنْ يَكُفَّ عَنْ حَقٍّ [يَكُونُ] لَهُ إذَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى

الآية السابعة قوله تعالى وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن

ضَرَرٍ يَكُونُ فِي الدِّينِ؟ وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ طَوِيلٌ، اخْتِصَارُهُ: أَنَّ الْحَقَّ إنْ كَانَ وَاجِبًا فَيَأْخُذُهُ بِكُلِّ حَالٍ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فَفِيهِ يَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة السَّابِعَة قَوْله تَعَالَى وَأَقْسَمُوا بِاَللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لِيُؤْمِنُنَّ] َّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رُوِيَ «أَنَّ قُرَيْشًا كَلَّمَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، تُخْبِرُنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ مَعَهُ عَصًا يَضْرِبُ بِهَا الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، وَتُخْبِرُنَا أَنَّ عِيسَى كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَتُخْبِرُنَا أَنَّ ثَمُودَ كَانَتْ لَهُمْ نَاقَةٌ؛ فَأْتِنَا مِنْ الْآيَاتِ حَتَّى نُصَدِّقَك. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ شَيْءٍ تُحِبُّونَ أَنْ آتِيَكُمْ بِهِ؟ قَالُوا: تَجْعَلُ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا. قَالَ لَهُمْ: فَإِنْ فَعَلْت تُصَدِّقُونِي؟ قَالُوا: نَعَمْ؛ وَاَللَّهِ لَئِنْ فَعَلْت لَنَتَّبِعَنَّكَ أَجْمَعُونَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ مَا شِئْت، إنْ شِئْت أَصْبَحَ ذَهَبًا، وَلَئِنْ أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةً وَلَمْ يُصَدِّقُوا عِنْدَ ذَلِكَ لَيُعَذِّبَنَّهُمْ، وَإِنْ شِئْت فَاتْرُكْهُمْ حَتَّى يَتُوبَ تَائِبُهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بَلْ يَتُوبُ تَائِبُهُمْ» ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ إلَى قَوْلِهِ: {يَجْهَلُونَ} [الأنعام: 111]. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109]: يَعْنِي غَايَةَ أَيْمَانِهِمْ الَّتِي بَلَغَهَا عِلْمُهُمْ، وَانْتَهَتْ إلَيْهِ قُدْرَتُهُمْ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا

مسألة معنى قوله تعالى بالله

يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْإِلَهُ الْأَعْظَمُ، وَأَنَّ هَذِهِ الْآلِهَةَ إنَّمَا يَعْبُدُونَهَا ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ إلَى اللَّهِ زُلْفَى. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى بِاَللَّهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {بِاللَّهِ} [الأنعام: 109] وَإِنْ كَانَ غَايَةُ أَيْمَانِ الْكُفَّارِ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ الَّذِي قَدَّمْنَا، فَإِنَّهُ غَايَةُ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ». وَهَذَا يُفِيدُ الْمَنْعَ مِنْ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ. وَالْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى وَجْهِ التَّحْرِيمِ، بِأَنْ يَحْلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ تَعَالَى مُعَظِّمًا لَهُ مَعَ اللَّهِ، أَوْ مُعَظِّمًا لَهُ مِنْ دُونِهِ؛ فَهَذَا كُفْرٌ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْكَرَاهِيَةِ، بِأَنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ مَعْنًى مِمَّا يَلْزَمُهُ جِنْسُهُ فِي الشَّرْعِ ابْتِدَاءً بِوَجْهِ مَا إذَا رَبَطَهُ بِفِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ، وَهُوَ مَعْنَى اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ فِيمَا إذَا قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، أَوْ عَبْدِي حُرٌّ، فَهَذِهِ يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ، وَهِيَ أَصْلٌ لِغَيْرِهَا مِنْ الْأَيْمَانِ، وَقَدْ تَكَرَّرَتْ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَتَرَكَّبَ عَلَيْهَا مَسْأَلَةٌ رَابِعَةٌ: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ: مَا إذَا قَالَ: الْأَيْمَانُ تَلْزَمُهُ إنْ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْيَمِينُ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ مَعْرُوفَةً بِغَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ؛ كَانُوا يَقُولُونَ: عَلَيَّ أَشَدُّ مَا أَخَذَهُ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، فَقَالَ مَالِكٌ: يُطَلِّقُ نِسَاءَهُ، ثُمَّ تَكَاثَرَتْ الصُّوَرُ حَتَّى آلَتْ بَيْنَ النَّاسِ إلَى صُورَةٍ هَذِهِ أُمُّهَا. وَقَدْ كَانَ شَيْخُنَا أَبُو بَكْرٍ الْفِهْرِيُّ يَقُولُ: يَلْزَمُهُ إطْعَامُ ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا إذَا حَنِثَ

فِيهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: " الْأَيْمَانُ " جَمْعُ يَمِينٍ، وَهُوَ لَوْ قَالَ: عَلَيَّ يَمِينٌ، وَحَنِثَ لَلَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ. وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ يَمِينَانِ لَلَزِمَتْهُ كَفَّارَتَانِ إذَا حَنِثَ. وَالْأَيْمَانُ جَمْعُ يَمِينٍ فَيَلْزَمُهُ فِيهَا ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ. وَكَانَ أَهْلُ الْقَيْرَوَانِ قَدْ اخْتَلَفُوا فِيهَا اخْتِلَافًا كَثِيرًا مَرْجِعُهُ إلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الطَّلَاقَ فِيهَا ثَلَاثٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الطَّلَاقَ فِيهَا وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ. وَقَدْ جَمَعْت فِي الْمَسْأَلَةِ رِسَالَةً إبَّانَ كُنْت بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَقَدْ كَثُرَ السُّؤَالُ فِيهَا عَلَيَّ، فَاسْتَخَرْت اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى مُتَوَسِّطٍ مِنْ الْأَقْوَالِ لَمْ أَخْرُجْ فِيهِ عَنْ جَادَّةِ الْأَدِلَّةِ، وَلَا عَنْ أَصْلِ إمَامِ الْأَئِمَّةِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ. أَمَّا أَصْلُ مَالِكٍ فَقَوْلُهُ فِيمَنْ قَالَ: عَلَيَّ أَشَدُّ مَا أَخَذَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يُطَلِّقُ نِسَاءَهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا فِي زَمَانِهِ، وَقَبْلَ ذَلِكَ، يَحْلِفُونَ فِي الْبَيْعَةِ وَيَتَوَثَّقُونَ فِيمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ الْعُهُودِ فِي الْمُحَالَفَةِ، وَيُدْخِلُونَ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ الْيَمِينَ بِالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهِ؛ فَلَمَّا سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ هَذِهِ النَّازِلَةِ وَأَصْحَابُهُ رَأَوْا أَنَّ الْحَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي أَنْ يَتْرُكُوا مَعَهُ أَزْوَاجَهُ مُحْتَبَسِينَ فِي النِّكَاحِ، وَمِمَّا يَأْخُذُهُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ الطَّلَاقُ فَتَحَرَّجُوا فِي ذَلِكَ، وَقَالُوا: يُطَلِّقُ نِسَاءَهُ. وَأَمَّا طَرِيقُ الْأَدِلَّةِ فَلِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لَا يَخْلُو أَنْ يُرَادَ بِهَا هَاهُنَا الْجِنْسُ أَوْ الْعَهْدُ، فَإِنْ دَخَلَتْ لِلْعَهْدِ فَالْمَعْهُودُ قَوْلُك بِاَللَّهِ، فَيَكُونُ مَا قَالَهُ الْفِهْرِيُّ. وَإِنْ دَخَلَتْ لِلْجِنْسِ فَالطَّلَاقُ جِنْسٌ، فَيَدْخُلُ فِيهَا وَلَا يُسْتَوْفَى عَدَدُهُ؛ فَإِنَّ الَّذِي يَكْفِي أَنْ يَدْخُلَ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ مَعْنًى وَاحِدٌ، فَإِنَّهُ لَوْ دَخَلَ فِي الْجِنْسِ الْمَعْنَى كُلُّهُ لَلَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ؛ إذْ قَدْ تَكُونُ الصَّدَقَةُ بِجَمِيعِ الْمَالِ يَمِينًا، وَنَافِذَةً فِيمَا إذَا كَانَ الْمَالُ مُعَيَّنًا فِي دَارٍ أَوْ عَبْدٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ كَبْشٍ وَتَصَدَّقَ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ إجْمَاعًا؛ فَتَبَصَّرْنَا ذَلِكَ، وَأَخَذْنَا

الآية الثامنة قوله تعالى ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه

بِالْوَسَطِ مِنْهُ، وَقَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي الرِّسَالَةِ الْحَاكِمَةِ عَلَى الْأَيْمَانِ اللَّازِمَةِ، وَهُنَاكَ يَسْتَوْفِي النَّاظِرُ غَرَضَهُ مِنْهَا، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ، وَبِهِ التَّوْفِيقُ. [الْآيَة الثَّامِنَة قَوْله تَعَالَى وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ] ِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121]. فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَتَى أُنَاسٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَنَأْكُلُ مَا نَقْتُلُ، وَلَا نَأْكُلُ مَا قَتَلَ اللَّهُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ} [الأنعام: 118] إلَى قَوْلِهِ: {لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121]». الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 118] يَقْضِي بِدَلِيلِ الْخِطَابِ عَلَى رَأْيِ مَنْ قَرَأَ أَلَّا يُؤْكَلَ مَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْحُكْمَ وَهُوَ جَوَازُ الْأَكْلِ عَلَى أَحَدِ وَصْفَيْ الشَّيْءِ، وَهُوَ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآخَرَ بِخِلَافِهِ، بَيْدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ الْحُكْمَيْنِ بِنَصَّيْنِ، وَتَكَلَّمَ فِيهِمَا بِكَلَامَيْنِ صَرِيحَيْنِ، فَقَالَ فِي الْمُقَابِلِ الثَّانِي: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]. الْمَعْنَى: مَا الْمَانِعُ لَكُمْ مِنْ أَكْلِ مَا سَمَّيْتُمْ عَلَيْهِ رَبَّكُمْ، وَإِنْ قَتَلْتُمُوهُ بِأَيْدِيكُمْ؛ وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لَكُمْ الْمُحَرَّمَ، وَأَوْضَحَ لَكُمْ الْمُحَلَّلَ، فَإِنَّ مَنْ حَرَّمَ عَلَيْك مَعْنًى خَاصِّيًّا أَبَاحَ مَا سِوَاهُ، فَكَيْفَ وَقَدْ أَذِنَ لَهُ فِي الْقَتْلِ وَالتَّسْمِيَةِ عَلَيْهِ وَأَكْلِهِ، فَكَيْفَ يُقَابَلُ ذَلِكَ مِنْ

مسألة وذروا ظاهر الإثم وباطنه

تَفْصِيلِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ وَإِيضَاحِهِ وَشَرْحِهِ بِهَوًى بَاطِلٍ وَرَأْيٍ فَاسِدٍ، صَدَرَا عَنْ غَيْرِ عِلْمٍ وَكَانَا بِاعْتِدَاءٍ وَإِثْمٍ، وَرَبُّك أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ. [مَسْأَلَة وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام: 120]. الْمَعْنَى: قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ الْمُحَرَّمَ فَذَرُوهُ وَهُوَ الْإِثْمُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَفِي ذَلِكَ لِلْعُلَمَاءِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ: سِرُّهُ وَعَلَانِيَتُهُ: قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ. الثَّانِي: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ظَاهِرُ الْإِثْمِ نِكَاحُ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، وَبَاطِنُهُ الزِّنَا. الثَّالِثُ: ظَاهِرُ الْإِثْمِ أَصْحَابُ الرَّايَاتِ مِنْ الزَّوَانِي، وَبَاطِنُهُ ذَوَاتِ الْأَخْدَانِ؛ قَالَهُ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ. الرَّابِعُ: ظَاهِرُ الْإِثْمِ طَوَافُ الْعُرْبَانِ، وَبَاطِنُهُ الزِّنَا؛ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقَدْ قَالَتْ طَائِفَةٌ: إنَّ الْإِثْمَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْخَمْرِ؛ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ فِي الْقَوْلِ الْخَامِسِ ظَاهِرُ الْإِثْمِ الْخَمْرُ، وَبَاطِنُهُ الْمُثَلَّثُ وَالْمُنَصَّفُ، وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَيُحْتَمَلُ وَجْهًا سَادِسًا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُ الْإِثْمِ وَاضِحَ الْمُحَرَّمَاتِ. وَبَاطِنُهُ الشُّبُهَاتِ وَمِنْهَا الذَّرَائِعُ، وَهِيَ الْمُبَاحَاتُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الْمُحَرَّمَاتِ؛ وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ. [مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] يَعْنِي: فَمُطْلَقُ سَبَبِ الْآيَةِ الْمَيْتَةُ، وَهِيَ الَّتِي قَالُوا هُمْ فِيهَا: وَلَا نَأْكُلُ مِمَّا قَتَلَ اللَّهُ. فَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ: لَا تَأْكُلُوا مِنْهَا؛ فَإِنَّكُمْ لَمْ تَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا. فَإِنْ قِيلَ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: هَذَا هُوَ السَّبَبُ الَّذِي خَرَجَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ، وَقَصْرُ اللَّفْظِ الْوَارِدِ عَلَى السَّبَبِ الْمَوْرُودِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ اللَّفْظُ مُسْتَقِلًّا دُونَ عَطْفِهِ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ لُغَةً وَلَا حُكْمًا.

مسألة ما ترك المسلم التسمية عليه عمدا من الذبائح

قُلْنَا: قَدْ آنَ أَنْ نَكْشِفَ لَكُمْ نُكْتَةً أُصُولِيَّةً وَقَعَتْ تَفَارِيقَ فِي أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ تَلَقَّفْتهَا جُمْلَةً مِنْ فَكٍّ شَدِيدٍ؛ وَذَلِكَ أَنَّا نَقُولُ: مَهْمَا قُلْنَا: إنَّ اللَّفْظَ الْوَارِدَ عَلَى سَبَبٍ، هَلْ يَقْصُرُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ فَإِنَّا لَا نُخْرِجُ السَّبَبَ عَنْهُ، بَلْ نُقِرُّهُ فِيهِ، وَنَعْطِفُ بِهِ عَلَيْهِ، وَلَا نَمْتَنِعُ أَنْ يُضَافَ غَيْرُهُ إلَيْهِ إذَا احْتَمَلَهُ اللَّفْظُ، أَوْ قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ؛ فَقَوْلُهُ: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] ظَاهِرٌ فِي تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ بِعُمُومِ لَفْظِهِ، وَكَوْنِهَا سَبَبًا لِوُرُودِهِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ مِنْ الْآلِهَةِ الْمُبْطَلَةِ وَهِيَ: [مَسْأَلَة مَا تَرَكَ الْمُسْلِمُ التَّسْمِيَةَ عَلَيْهِ عَمْدًا مِنْ الذَّبَائِحِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: بِعُمُومِ أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَبِزِيَادَةِ ذِكْرِ غَيْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ الَّذِي يَقْتَضِي تَحْرِيمُهُ هَذَا اللَّفْظَ عُمُومًا وَمَعْنَاهُ تَنْبِيهًا مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى، وَيَقْتَضِي تَحْرِيمُهُ نَصًّا قَوْلُهُ: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3]، فَقَدْ تَوَارَدَ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ النَّصُّ وَالْعُمُومُ وَالتَّنْبِيهُ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ لِظَاهِرِ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ عَلَيْهِ أَوَّلًا. وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الِاسْتِنْبَاطِ فِي مَوَارِدِ الْأَدِلَّةِ الْمُمَاثَلَةِ فِي اقْتِضَاءِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ عَلَيْهِ، وَهَلْ يَدْخُلُ فِيهِ مَا تَرَكَ الْمُسْلِمُ التَّسْمِيَةَ عَلَيْهِ عَمْدًا مِنْ الذَّبَائِحِ أَمْ لَا؟ مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ جِدًّا قَدْ مَهَّدْنَا الْقَوْلَ فِيهَا فِي تَخْلِيصِ الطَّرِيقَتَيْنِ، وَلَكِنَّنَا نُشِيرُ فِيهَا هَاهُنَا إلَى نُكْتَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْمَقْصُودِ؛ فَنَقُولُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: إنْ تَرَكَهَا سَهْوًا أُكِلَتْ. وَإِنْ تَرَكَهَا عَمْدًا لَمْ تُؤْكَلْ قَالَهُ فِي الْكِتَابِ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَعِيسَى، وَأَصْبَغُ. الثَّانِي: إنْ تَرَكَهَا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا تُؤْكَلُ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ، وَالشَّافِعِيُّ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ إنْ تَرَكَهَا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا حَرُمَ أَكْلُهَا؛ قَالَهُ ابْنُ سِيرِينَ، وَأَحْمَدُ. الرَّابِعُ: إنْ تَرَكَهَا مُتَعَمِّدًا كُرِهَ أَكْلُهَا وَلَمْ تُحَرَّمْ؛ قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ، وَالشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ.

الْخَامِسُ: قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: التَّسْمِيَةُ شَرْطٌ فِي إرْسَالِ الْكَلْبِ دُونَ السَّهْمِ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ. السَّادِسُ: قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَجِبُ أَنْ تُعَلَّقَ هَذِهِ الْأَحْكَامُ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالدَّلَائِلِ الْمَعْنَوِيَّةِ الَّتِي أَسَّسَتْهَا الشَّرِيعَةُ. فَأَمَّا الْقُرْآنُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 118]. {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] فَبَيَّنَ الْحَالَيْنِ وَأَوْضَحَ الْحُكْمَيْنِ. وَقَوْلُهُ: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] نَهْيٌ مَحْمُولٌ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الْكَرَاهَةِ؛ لِتَنَاوُلِهِ فِي بَعْضِ مُقْتَضَيَاتِهِ الْحَرَامَ الْمَحْضَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَبَعَّضَ. وَهَذَا مِنْ نَفِيسِ عِلْمِ الْأُصُولِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصِّحَاحِ: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ». وَقَالَ أَيْضًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك الْمُعَلَّمَ، وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ». وَقَالَ أَيْضًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَإِنْ وَجَدْت مَعَ كَلْبِك كَلْبًا آخَرَ فَلَا تَأْكُلْ؛ فَإِنَّك إنَّمَا سَمَّيْت عَلَى كَلْبِك وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى الْآخَرِ».

وَهَذِهِ أَدِلَّةٌ ظَاهِرَةٌ غَالِبَةٌ عَالِيَةٌ، وَذَلِكَ مِنْ أَظْهَرِ الْأَدِلَّةِ. وَأَعْجَبُ لِرَأْسِ الْمُحَقِّقِينَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ يَقُولُ فِي مُعَارَضَةِ هَذَا: [وَذِكْرُ اللَّهِ] إنَّمَا شُرِعَ فِي الْقُرَبِ، وَالذَّبْحُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ. قُلْنَا: هَذَا فَاسِدٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُعَارِضُهُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ، كَمَا قُلْنَا. الثَّانِي: أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ حَرَكَةٍ وَسَكْنَةٍ، حَتَّى فِي خُطْبَةِ النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ دَرَجَاتُهُ: بِالْوُجُوبِ وَالِاسْتِحْبَابِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الذَّبِيحَةَ قُرْبَةٌ بِدَلِيلِ افْتِقَارِهَا إلَى النِّيَّةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَك، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37]. فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ بِالْقَلْبِ؛ لِأَنَّ الذِّكْرَ يُضَادُّ النِّسْيَانَ، وَمَحَلُّ النِّسْيَانِ الْقَلْبُ، فَمَحَلُّ الذِّكْرِ الْقَلْبُ. وَقَدْ رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اسْمُ اللَّهِ عَلَى قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ يُسَمِّي أَوْ لَمْ يُسَمِّ»، وَلِهَذَا تُجْزِئُهُ الذَّبِيحَةُ إذَا نَسِيَ التَّسْمِيَةَ تَعْوِيلًا عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ اسْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.

مسألة قوله تعالى وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم

قُلْنَا: الذِّكْرُ يَكُونُ بِاللِّسَانِ، وَيَكُونُ بِالْقَلْبِ، وَاَلَّذِي كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ تَسْمِيَةَ الْأَصْنَامِ وَالنُّصُبِ بِاللِّسَانِ، فَنَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِذِكْرِ اللَّهِ فِي الْأَلْسِنَةِ، وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ، حَتَّى قِيلَ لِمَالِكٍ: هَلْ يُسَمِّي اللَّهَ إذَا تَوَضَّأَ؟ فَقَالَ: أَيُرِيدُ أَنْ يَذْبَحَ؟ إشَارَةً إلَى أَنَّ مَوْضِعَ التَّسْمِيَةِ وَمَوْضُوعَهَا إنَّمَا هُوَ فِي الذَّبَائِحِ لَا فِي الطَّهَارَةِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي تَعَلَّقُوا بِهِ فِي قَوْلِهِ: «اسْمُ اللَّهِ عَلَى قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ» فَحَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا تَلْتَفِتُوا إلَيْهِ. وَأَمَّا النَّاسِي لِلتَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ فَإِنَّهَا لَمْ تُحَرَّمْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] وَلَيْسَ النَّاسِي فَاسِقًا بِإِجْمَاعٍ، فَلَا تُحَرَّمُ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: وَكَذَلِكَ الْمُتَعَمِّدُ لَيْسَ بِفَاسِقٍ إنْ أَكَلَهَا إجْمَاعًا؛ لِأَنَّهَا مَسْأَلَةُ اجْتِهَادٍ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا. قُلْنَا: قَدْ أَجَبْنَا عَنْ هَذِهِ النُّكْتَةِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَصَرَّحْنَا فِيهِ بِالْحَقِّ مِنْ وُجُوهٍ؛ أَظْهَرُهَا أَنَّ تَارِكَ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتْرُكَ التَّسْمِيَةَ إذَا أَضْجَعَ الذَّبِيحَةَ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ: قَلْبِي مَمْلُوءٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ، فَلَا أَفْتَقِرُ إلَى ذِكْرِ ذَلِكَ بِلِسَانِي: فَذَلِكَ يُجْزِيهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ اللَّهَ وَعَظَّمَهُ. وَإِنْ قَالَ: لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ التَّسْمِيَةِ صَرِيحَةً، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِقُرْبَةٍ، فَهَذَا يُجْزِيهِ لِكَوْنِهِ عَلَى مَذْهَبٍ يَصِحُّ اعْتِقَادُهُ اجْتِهَادًا لِلْمُجْتَهِدِ فِيهِ وَتَقْلِيدًا لِمَنْ قَلَّدَهُ. وَإِنْ قَالَ: لَا أُسَمِّي، وَأَيُّ قَدْرٍ لِلتَّسْمِيَةِ؟ فَهَذَا مُتَهَاوِنٌ كَافِرٌ فَاسِقٌ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ، فَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ الْخِلَافُ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى الصُّورَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، فَأَمَّا عَلَى الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ فَلَا تَشْخِيصَ لَهَا. وَاَلَّذِي نَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي صُورَةِ النَّاسِي أَنَّ الْخِطَابَ لَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ، لِاسْتِحَالَةِ خِطَابِ النَّاسِي؛ فَالشَّرْطُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام: 121] سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى مَا يَقَعُ فِي الْقُلُوبِ مِنْ إلْهَامٍ وَحْيًا، وَهَذَا مِمَّا يُطْلِقُهُ شُيُوخُ

مسألة معنى قوله تعالى ليجادلوكم

التَّصَوُّفِ، وَيُنْكِرُهُ جُهَّالُ الْمُتَوَسِّمِينَ بِالْعِلْمِ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْوَحْيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ، وَأَنَّ إطْلَاقَهُ فِي جَمِيعِهَا جَائِزٌ فِي دِينِ اللَّهِ، أَوْ لَسْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ سَمَّى إلْهَامَ الشَّيَاطِينِ وَحْيًا؛ وَكُلُّ مَا يَقُومُ بِالْقَلْبِ مِنْ الْخَوَاطِرِ فَهُوَ خَلْقُ اللَّهِ؛ فَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ الشَّرِّ أَضَافَهُ اللَّهُ إلَى الشَّيْطَانِ، وَمَا كَانَ مِنْ الْخَيْرِ أَضَافَهُ اللَّهُ إلَى الْمَلَكِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «إنَّ الْقَلْبَ بَيْنَ لَمَّتَيْنِ: لَمَّةٌ مِنْ الْمَلَكِ وَلَمَّةٌ مِنْ الشَّيْطَانِ؛ فَلَمَّةُ الْمَلَكِ إيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ إيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ». [مَسْأَلَةُ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى لِيُجَادِلُوكُمْ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121] الْمُجَادَلَةُ دَفْعُ الْقَوْلِ عَلَى الْقَوْلِ عَلَى طَرِيقِ الْحُجَّةِ بِالْقُوَّةِ مَأْخُوذٌ مِنْ " الْأَجْدَلِ ": طَائِرٌ قَوِيٌّ، أَوْ لِقَصْدِ الْمُغَالَبَةِ؛ كَأَنْ يَطْرَحَهُ عَلَى الْجَدَالَةِ، وَيَكُونُ حَقًّا فِي نُصْرَةِ الْحَقِّ وَبَاطِلًا فِي نُصْرَةِ الْبَاطِلِ قَالَ تَعَالَى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46]. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] إنَّمَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ بِطَاعَةِ الْمُشْرِكِ مُشْرِكًا إذَا أَطَاعَهُ فِي اعْتِقَادِهِ: الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ؛ فَإِذَا أَطَاعَهُ فِي الْفِعْلِ وَعَقْدُهُ سَلِيمٌ مُسْتَمِرٌّ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالتَّصْدِيقِ فَهُوَ عَاصٍ. فَافْهَمُوا ذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة التَّاسِعَة وَالْعَاشِرَة وَالْحَادِيَة عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا] فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136] {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 137] {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 138] {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 139] {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [الأنعام: 140]

فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ جَهْلَ الْعَرَبِ فَلْيَقْرَأْ مَا فَوْقَ الثَّلَاثِينَ وَالْمِائَةِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ إلَى قَوْله تَعَالَى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 140]. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَلَامٌ صَحِيحٌ، فَإِنَّهَا تَصَرَّفَتْ بِعُقُولِهَا الْقَاصِرَةِ فِي تَنْوِيعِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ سَفَاهَةً بِغَيْرِ مَعْرِفَةٍ وَلَا عَدْلٍ؛ وَاَلَّذِي تَصَرَّفَتْ بِالْجَهْلِ فِيهِ مِنْ اتِّخَاذِ آلِهَةٍ أَعْظَمَ جَهْلًا وَأَكْبَرَ جُرْمًا؛ فَإِنَّ الِاعْتِدَاءَ عَلَى اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمَخْلُوقِينَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ، وَاحِدٌ فِي صِفَاتِهِ، وَاحِدٌ فِي مَخْلُوقَاتِهِ أَبْيَنُ وَأَوْضَحُ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ هَذَا حَلَالٌ، وَهَذَا حَرَامٌ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: إنَّكُمْ عَلَى كَمَالِ عُقُولِكُمْ وَوُفُورِ أَحْلَامِكُمْ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ الْحَجَرَ. فَقَالَ عَمْرٌو: تِلْكَ عُقُولٌ كَادَهَا بَارِيهَا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذَا الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مِنْ سَخَافَةِ الْعَرَبِ وَجَهْلِهَا أَمْرٌ أَذْهَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِسْلَامِ، وَأَبْطَلَهُ بِبَعْثَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ مِنْ الظَّاهِرِ لَنَا أَنْ نُمِيتَهُ حَتَّى لَا

يَظْهَرَ، وَنَنْسَاهُ حَتَّى لَا يُذْكَرَ [إلَّا] أَنَّ رَبَّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَكَرَهُ بِنَصِّهِ، وَأَوْرَدَهُ بِشَرْحِهِ، كَمَا ذَكَرَ كُفْرَ الْكَافِرِينَ بِهِ. وَكَانَتْ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ قَضَاءَهُ قَدْ سَبَقَ، وَحُكْمَهُ قَدْ نَفَذَ، بِأَنَّ الْكُفْرَ وَالتَّخْلِيطَ لَا يَنْقَطِعَانِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ قَضَى اللَّهُ أَلَّا يَصُدَّ كَافِرٌ عَنْ ذِكْرِ الْكُفْرِ، وَلَا مُبْتَدِعٌ عَنْ تَغْيِيرِ الدِّينِ، قَصَدَهُ بِبَيَانِ الْأَدِلَّةِ، ثُمَّ وَفَّقَ مَنْ سَبَقَ لَهُ عِنْدَهُ الْخَيْرُ فَيَسَّرَ لَهُ مَعْرِفَتَهَا، فَآمَنَ وَأَطَاعَ، وَخَذَلَ مَنْ سَبَقَ لَهُ عِنْدَهُ الشَّرُّ فَصَدَفَهُ عَنْهَا، فَكَفَرَ وَعَصَى {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42] فَتَعَيَّنَ عَلَيْنَا أَنْ نُشِيرَ إلَى بَسْطِ مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ} [الأنعام: 136] أَيْ: أَظْهَرَ بِالْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ مِنْ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا، وَجَمِيعُهُ لَهُ لَا شَرِيكَ مَعَهُ فِي خَلْقِهِ، فَكَيْفَ جَعَلُوا لَهُ شَرِيكًا فِي الْقُرْبَانِ بِهِ مِنْ الْأَوْثَانِ الَّتِي نَصَبُوهَا لِلْعِبَادَةِ مَعَهُ، وَشَرُّ الْعَبِيدِ كَمَا يَأْتِي [بَيَانُهُ] فِي الْأَثَرِ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ سَيِّدُهُ بِنِعْمَةٍ فَجَعَلَ يَشْكُرُ غَيْرَهُ عَلَيْهَا، وَكَانَ هَذَا النَّصِيبُ الَّذِي لِلْأَوْثَانِ جَعَلُوهُ لِلَّهِ مِنْ الْحَرْثِ مَصْرُوفًا فِي النَّفَقَةِ عَلَيْهَا وَعَلَى خُدَّامِهَا، وَكَذَلِكَ نَصِيبُ الْأَنْعَامِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَهَا قُرْبَانًا لِلْآلِهَةِ. وَقِيلَ: كَانَ لِلَّهِ الْبَحِيرَةُ وَالسَّائِبَةُ وَالْوَصِيلَةُ وَالْحَامُ، وَكَانَ مَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ إذَا اخْتَلَطَ بِأَمْوَالِهِمْ لَمْ يَرُدُّوهُ، وَإِذَا اخْتَلَطَ مَا لِلْأَوْثَانِ بِهَا رَدُّوهُ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ} [الأنعام: 136] الْآيَةَ. وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ إذَا هَلَكَ مَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ لَمْ يَغْرَمُوهُ، وَإِذَا هَلَكَ مَا جُعِلَ لِلْأَوْثَانِ غَرِمُوهُ. وَقِيلَ: كَانُوا يَذْكُرُونَ اسْمَ الْأَوْثَانِ عَلَى نَصِيبِ اللَّهِ، وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى نَصِيبِ الْأَوْثَانِ، وَهِيَ:

مسألة معنى قوله تعالى وكذلك زين لكثير من المشركين

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فَإِنَّ تَرْكَهُمْ لِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ مَذْمُومٌ مِنْهُمْ وَفِيهِمْ؛ فَكَانَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي تَرْكِ أَكْلِ مَا لَمْ يُسَمَّ اللَّهُ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام: 137] يَعْنِي: فِي الْوَأْدِ لِلْبَنَاتِ مَخَافَةَ السِّبَاءِ وَعَدَمِ الْحَاجَةِ وَمَا حُرِمْنَ مِنْ النُّصْرَةِ، كَمَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ. وَقِيلَ: كَمَا فَعَلَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ حِينَ نَذَرَ ذَبْحَ وَلَدِهِ عَبْدَ اللَّهِ. وَحَقِيقَةُ التَّزْيِينِ إظْهَارُ الْجَمِيلِ، وَإِخْفَاءُ الْقَبِيحِ، وَقَدْ يَتَغَلَّبُ بِخِذْلَانِ اللَّهِ لِلْعَبْدِ، كَمَا يَتَحَقَّقُ بِتَوْفِيقِهِ لَهُ. وَمِنْ الْبَاطِلِ الَّذِي ارْتَكَبُوهُ بِتَزْيِينِ الشَّيْطَانِ تَصْوِيرَهُ عِنْدَهُمْ جَوَازُ أَكْلِ الذُّكُورِ مِنْ الْقَرَابِينِ، وَمَنْعُ الْإِنَاثِ مِنْ أَكْلِهَا، كَالْأَوْلَادِ وَالْأَلْبَانِ، وَكَانَ تَفْضِيلُهُمْ لِلذُّكُورِ لِأَحَدِ وَجْهَيْنِ، أَوْ بِمَجْمُوعِهِمَا: إمَّا لِفَضْلِ الذَّكَرِ فِي نَفْسِهِ عَلَى الْأُنْثَى، وَإِمَّا لِأَنَّ الذُّكُورَ كَانُوا سَدَنَةَ بُيُوتِ الْأَصْنَامِ؛ فَكَانُوا يَأْكُلُونَ مِمَّا جُعِلَ لَهُمْ مِنْهَا؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ تَعَدٍّ فِي الْأَفْعَالِ، وَابْتِدَاءٌ فِي الْأَقْوَالِ، وَعَمَلٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ مِنْ الشَّرْعِ؛ وَلِذَلِكَ أَنْكَرَ جُمْهُورٌ مِنْ النَّاسِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلَ بِالِاسْتِحْسَانِ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فَقَالُوا: إنَّهُ يُحَرِّمُ وَيُحَلِّلُ بِالْهَوَى مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَمَا كَانَ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَتْبَاعِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَيْفَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَعُلَمَاؤُنَا مِنْ الْمَالِكِيَّةِ كَثِيرًا مَا يَقُولُونَ: الْقِيَامُ كَذَا فِي مَسْأَلَةٍ، وَالِاسْتِحْسَانُ كَذَا، وَالِاسْتِحْسَانُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الْعَمَلُ بِأَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. نُكْتَتُهُ الْمُجْزِئَةُ هَاهُنَا أَنَّ الْعُمُومَ إذَا اسْتَمَرَّ وَالْقِيَاسُ إذَا اطَّرَدَ فَإِنَّ مَالِكًا وَأَبَا حَنِيفَةَ يَرَيَانِ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ بِأَيِّ دَلِيلٍ كَانَ مِنْ

الآية الثانية عشرة قوله تعالى وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات

ظَاهِرٍ أَوْ مَعْنًى، وَيَسْتَحْسِنُ مَالِكٌ أَنْ يَخُصَّ بِالْمَصْلَحَةِ، وَيَسْتَحْسِنُ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَخُصَّ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ مِنْ الصَّحَابَةِ الْوَارِدِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ. وَيَرَى مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ تَخْصِيصَ الْقِيَاسِ بِبَعْضِ الْعِلَّةِ، وَلَا يَرَى الشَّافِعِيَّ الْعِلَّةَ الشَّرْعَ إذَا ثَبَتَ تَخْصِيصًا، وَلَمْ يَفْهَمْ الشَّرِيعَةَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِالْمَصْلَحَةِ وَلَا رَأَى تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ، وَقَدْ رَامَ الْجُوَيْنِيُّ رَدَّ ذَلِكَ فِي كُتُبِهِ الْمُتَأَخِّرَةِ الَّتِي هِيَ نُخْبَةُ عَقِيدَتِهِ وَنَخِيلَةُ فِكْرَتِهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْهُ، وَفَاوَضْت الطُّوسِيَّ الْأَكْبَرَ فِي ذَلِكَ وَرَاجَعْته حَتَّى وَقَفَ، وَقَدْ بَيَّنْت ذَلِكَ فِي الْمَحْصُولِ وَالِاسْتِيفَاءُ بِمَا فِي تَحْصِيلِهِ شِفَاءٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: فَقَدْ تَاخَمْتُمْ هَذِهِ الْمَهْوَاةَ، وَأَشْرَفْتُمْ عَلَى التَّرَدِّي فِي الْمَغْوَاةِ؛ فَإِنَّكُمْ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْيَمِينَ يُحَرِّمُ الْحَلَالَ وَيَقْلِبَ الْأَوْصَافَ الشَّرْعِيَّةَ، وَنَحْنُ بَرَاءٌ مِنْ ذَلِكَ؟ قُلْنَا: هَيْهَاتَ، مَا حَرَّمْنَا إلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَلَا قُلْنَا إلَّا مَا قَالَ اللَّهُ، أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَهُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: وَسَنُبَيِّنُهَا فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. [الْآيَة الثَّانِيَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ] ٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141]. فِيهَا خَمْسَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {أَنْشَأَ} [الأنعام: 141]: أَيْ: ابْتَدَأَ الْفِعْلَ مِنْ غَيْرِ احْتِذَاءِ مِثَالٍ؛ وَكَانَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ عَلَى مَا وَرَدَ فِي

الْخَبَرِ الصَّحِيحِ، وَأَوْضَحْنَاهُ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ أَنْشَأَ فِي كُلِّ فِعْلٍ كَانَ عَلَى مِثَالٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْجَنَّاتُ: هِيَ: الْبَسَاتِينُ الَّتِي يَجِنُّهَا الشَّجَرُ، أَيْ: يَسْتُرُهَا؛ وَمِنْهُ جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْجِنُّ، لِاجْتِنَانِهِمْ عَنْ الْأَبْصَارِ، وَكَذَلِكَ الْجِنَّةُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158]؛ سُمُّوا بِذَلِكَ لِاجْتِنَانِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} [الأنعام: 141] يَعْنِي: رُفِعَتْ عَلَى الْأَعْوَادِ، وَصِينَتْ عَنْ تَدَلِّي الثَّمَرِ عَلَى الْأَرْضِ، وَأُظْهِرَتْ لِلْإِدْرَاكِ، وَسَهُلَ جَمْعُهَا دُونَ انْحِنَاءٍ. وَالْعَرْشُ: كُلُّ مَا ارْتَفَعَ فَوْقَ غَيْرِهِ. وَقِيلَ: تَعْرِيشُهَا حِيَاطَتُهَا بِالْجُدُرِ، وَمَا قَامَ مَقَامَهَا، حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهَا مَدْخَلٌ لِأَحَدٍ؛ وَالْأَوَّلُ أَقْوَى فِي الِاشْتِقَاقِ. وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ: {خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة: 259]: يَعْنِي عَلَى أَعَالِيهَا، وَلَعَلَّهُ عَلَى جُدْرَانِهَا، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إلَى حَدَائِقِ الْأَعْنَابِ الَّتِي هِيَ الْكُرُومُ فِي أَلْسِنَةِ الْعَرَبِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: {وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ} [الأنعام: 141] وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا أَصْلَا الْمَعَاشِ، وَعِمَادَا الْقُوتِ، ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ الزَّيْتُونِ وَالرُّمَّانِ فِي وِزَانٍ آخَرَ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: وَوَصْفُهَا بِأَنَّهَا مُتَشَابِهَةٌ وَغَيْرُ مُتَشَابِهَةٍ؛ يَعْنِي: أَنَّ مِنْهَا مَا يَتَشَابَهُ فِي الظَّاهِرِ، وَيُخَالِفُهُ فِي الْبَاطِنِ؛ وَمِنْهَا مَا يَشْتَبِهُ فِي اللَّوْنِ، وَيَخْتَلِفُ فِي الطَّعْمِ؛ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلَانِ عَظِيمَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى الْمِنَّةِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْنَا وَالنِّعْمَةِ الَّتِي هَيَّأَهَا لَنَا وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فَلَوْ شَاءَ رَبُّنَا إنْ خَلَقَنَا أَحْيَاءً أَلَّا يَخْلُقَ لَنَا غِذَاءً، أَوْ إذَا خَلَقَهُ أَلَّا يَكُونَ جَمِيلَ الْمَنْظَرِ

مسألة معنى قوله تعالى كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده

طَيِّبَ الطَّعْمِ، أَوْ إذَا خَلَقَهُ كَذَلِكَ أَلَّا يَكُونَ سَهْلَ الْجَنْيِ، فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِنْ فَعَلَهُ فَبِفَضْلِهِ، كَابْتِدَاءِ خَلْقِهِ: فِي تَعْدِيدِ النِّعَمِ وَتَقْرِيرِ الْفَضْلِ وَالْكَرْمِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى الِابْتِدَاءِ بِالثَّوَابِ قَبْلَ الْعِقَابِ، وَبِالْعَطَاءِ قَبْلَ الْعَمَلِ. الدَّلِيلُ الثَّانِي عَلَى الْقُدْرَةِ فِي أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ الرُّسُوبُ يَصْعَدُ بِقُدْرَةِ الْوَاحِدِ الْقَادِرِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ مِنْ أَسَافِلِ الشَّجَرِ إلَى أَعَالِيهَا، وَيَتَرَقَّى مِنْ أُصُولِهَا إلَى فُرُوعِهَا، حَتَّى إذَا انْتَهَى إلَى آخِرِهَا نَشَأَ فِيهَا أَوْرَاقٌ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِهَا، وَثِمَارٌ خَارِجَةٌ عَنْ صِفَتِهَا، فِيهَا الْجِرْمُ الْوَافِرُ، وَاللَّوْنُ الزَّاهِرُ، وَالْجَنْيُ الْجَدِيدُ، وَالطَّعْمُ اللَّذِيذُ؛ فَأَيْنَ الطَّبَائِعُ وَأَجْنَاسُهَا؟ وَأَيْنَ الْفَلَاسِفَةُ وَأُنَاسُهَا؟ هَلْ فِي قُدْرَةِ الطَّبِيعَةِ إذَا سَلَّمْنَا وَقُلْنَا لَهَا قُدْرَةٌ عَلَى طَرِيقِ الْجَدَلِ أَنْ تُتْقِنَ هَذَا الْإِتْقَانَ الْبَدِيعَ، أَوْ تُرَتِّبَ هَذَا التَّرْتِيبَ الْعَجِيبَ؟ كَلًّا، لَا يَتِمُّ ذَلِكَ فِي الْمَعْقُولِ إلَّا لِحَيٍّ عَالِمٍ قَادِرٍ مُرِيدٍ، فَقَدْ عَلِمَ الْأَلِبَّاءُ أَنَّ أُمِّيًّا لَا يَنْظِمُ سُطُورَ الْكِتَابَةِ، وَأَنَّ سَوَادِيًّا لَا يَقْدِرُ عَلَى مَا فِي الدِّيبَاجِ مِنْ التَّزَيُّنِ وَالنِّسَاجَةِ؛ فَسُبْحَانَ مَنْ لَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ آيَةُ بِدَايَةٍ وَنِهَايَةٍ، فَمِنْ اللَّهِ الِابْتِدَاءُ، وَإِنَّ إلَى رَبِّك الْمُنْتَهَى، تَقَدَّسَ وَتَعَالَى. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] فَهَذَانِ بِنَاءَانِ جَاءَا بِصِيغَةِ أَفْعَلَ، وَأَحَدُهُمَا مُبَاحٌ لِقَوْلِهِ: {فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 10]. وَالثَّانِي: وَاجِبٌ عَلَى مَا يَأْتِي تَفْصِيلُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ فِي الشَّرِيعَةِ اقْتِرَانُ الْمُبَاحِ وَالْوَاجِبِ؛ لِمَا يَأْتِي فِي ذَلِكَ مِنْ الْفَوَائِدِ، وَيَتَرَكَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ، فَأَمَّا الْأَكْلُ فَلِقَضَاءِ اللَّذَّةِ، وَأَمَّا إيتَاءُ الْحَقِّ فَلِقَضَاءِ حَقِّ النِّعْمَةِ، فَلِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعَبْدِ نِعْمَةٌ فِي الْبَدَنِ بِالصِّحَّةِ، وَاسْتِقَامَةِ الْأَعْضَاءِ، وَسَلَامَةِ الْحَوَاسِّ، وَنِعْمَةٌ فِي الْمَالِ بِالتَّمْلِيكِ وَالِاسْتِغْنَاءِ، وَقَضَاءِ اللَّذَّاتِ، وَبُلُوغِ الْآمَالِ؛ فَفَرْضُ الصَّلَاةِ كِفَاءُ نِعْمَةِ الْبَدَنِ، وَفَرْضُ الزَّكَاةِ كِفَاءُ نِعْمَةِ الْمَالِ، وَبَدَأَ بِذِكْرِ نِعْمَةِ الْأَكْلِ قَبْلَ الْأَمْرِ بِإِيتَاءِ الْحَقِّ؛ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالنِّعْمَةِ كَانَ مِنْ فَضْلِهِ قَبْلَ التَّكْلِيفِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ} [الأنعام: 141] اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَقِّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلِ: أَنَّهُ الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ؛ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرُهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. الثَّانِي: أَنَّهَا الصَّدَقَةُ غَيْرُ الْمَفْرُوضَةِ تَكُونُ يَوْمَ الْحَصَادِ وَعِنْدَ الصِّرَامِ؛ وَهِيَ إطْعَامُ مَنْ حَضَرَ وَالْإِيتَاءُ لِمَنْ غَبَرَ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. الثَّالِثِ: أَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ بِالزَّكَاةِ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَقَدْ زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُجْمَلٌ وَلَمْ يَخْلُصُوا الْقَوْلَ فِيهِ، وَحَقِيقَةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ: آتُوا مُفَسَّرٌ، وَقَوْلُهُ: {حَقَّهُ} [الأنعام: 141] مُفَسَّرٌ فِي الْمُؤْتَى، مُجْمَلٌ فِي الْمِقْدَارِ؛ إنَّمَا يَقَعُ النَّظَرُ فِي رَفْعِ الْإِشْكَالِ الَّذِي أَنْشَأَهُ احْتِمَالُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ: وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ وَجْهَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ، وَتَحْقِيقُهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ، وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ هَذَا التَّأْلِيفِ، وَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ هَاهُنَا الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ. وَقَدْ أَفَادَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِيمَا سَمَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَأَفَادَتْ بَيَانَ مَا يَجِبُ فِيهِ مِنْ مُخْرَجَاتِ الْأَرْضِ الَّتِي أَجْمَلهَا فِي قَوْلِهِ: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267]، وَفَسَّرَهَا هَاهُنَا؛ فَكَانَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ عَامَّةً فِي الْمُخْرَجِ كُلِّهِ مُجْمَلَةً فِي الْقَدْرِ؛ وَهَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةٌ فِي مُخْرَجَاتِ الْأَرْضِ مُجْمَلَةٌ فِي الْقَدْرِ، فَبَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي أُمِرَ بِأَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ، فَقَالَ: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِنَضْحٍ أَوْ دَالِيَةٍ نِصْفُ الْعُشْرِ»؛ فَكَانَ هَذَا بَيَانًا لِمِقْدَارِ الْحَقِّ الْمُجْمَلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.

وَقَالَ أَيْضًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ حَبٍّ أَوْ تَمْرٍ صَدَقَةٌ». خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، فَكَانَ هَذَا بَيَانًا لِلْمِقْدَارِ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْهُ الْحَقُّ، وَاَلَّذِي يُسَمَّى فِي أَلْسِنَةِ الْعُلَمَاءِ نِصَابًا. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا قَدِيمًا وَحَدِيثًا؛ فَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ: أَنَّ الزَّكَاةَ فِي كُلِّ مُقْتَاتٍ لَا قَوْلَ لَهُ سِوَاهُ. وَقَدْ أَوْرَدْنَاهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَشَرَحْنَاهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَجِبُ فِي كُلِّ مَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ مِنْ الْمَأْكُولَاتِ مِنْ الْقُوتِ وَالْفَاكِهَةِ وَالْخُضَرِ، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ فِي أُصُولِ الثِّمَارِ دُونَ الْبُقُولِ. وَقَالَ أَحْمَدُ أَقْوَالًا؛ أَظْهَرُهَا أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي كُلِّ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إذَا كَانَ يُوسَقُ، فَأَوْجَبَهَا فِي اللَّوْزِ؛ لِأَنَّهُ مَكِيلٌ دُونَ الْجَوْزِ لِأَنَّهُ مَعْدُودٌ، مُعَوِّلًا عَلَى قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ حَبٍّ صَدَقَةٌ»؛ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مَحَلَّ الْوَاجِبِ هُوَ الْمُوسَقُ، وَبَيَّنَ الْقَدْرَ الَّذِي يَجِبُ إخْرَاجُ الْحَقِّ مِنْهُ. وَتَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ بِالْقُوتِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّوْسِيقَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمُقْتَاتِ غَالِبًا دَائِمًا. وَأَمَّا الْخُضَرُ فَأَمْرُهَا نَادِرٌ. وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ «فَتَعَلَّقَتْ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْخُذْ مِنْ خُضَرِ الْمَدِينَةِ صَدَقَةً». وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَجَعَلَ الْآيَةَ مِرْآتَهُ فَأَبْصَرَ الْحَقَّ، وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي الْمَأْكُولِ قُوتًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ وَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ»: وَقَدْ أَشَرْنَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ إلَى مَسَالِكِ النَّظَرِ فِيهَا فِي كِتَابِ الْإِنْصَافِ وَالتَّخْلِيصِ. وَقَدْ آنَ تَحْدِيدُ النَّظَرِ فِيهَا كَمَا يَلْزَمُ كُلَّ مُجْتَهِدٍ.

فَاَلَّذِي لَاحَ بَعْدَ التَّرَدُّدِ فِي مَسَالِكِهِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَّرَ الْإِنْسَانَ بِنِعَمِهِ فِي الْمَأْكُولَاتِ الَّتِي هِيَ قِوَامُ الْأَبْدَانِ وَأَصْلُ اللَّذَّاتِ فِي الْإِنْسَانِ، عَلَيْهَا تَنْبَنِي الْحَيَاةُ، وَبِهَا يَتِمُّ طِيبُ الْمَعِيشَةِ عَدَّدَ أُصُولَهَا تَنْبِيهًا عَلَى تَوَابِعِهَا، فَذَكَرَ مِنْهَا خَمْسَةً: الْكَرْمَ، وَالنَّخْلَ، وَالزَّرْعَ، وَالزَّيْتُونَ، وَالرُّمَّانَ. فَالْكَرْمُ وَالنَّخْلُ: يُؤْكَلُ فِي حَالَيْنِ فَاكِهَةً وَقُوتًا. وَالزَّرْعُ يُؤْكَلُ فِي نَوْعَيْنِ: فَاكِهَةً وَقُوتًا. وَالزَّيْتُ: يُؤْكَلُ قُوتًا وَاسْتِصْبَاحًا. وَالرُّمَّانُ: يُؤْكَلُ فَاكِهَةً مَحْضَةً. وَمَا لَمْ يُذْكَرْ مِمَّا يُؤْكَلُ لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ. فَقَالَ تَعَالَى: هَذِهِ نِعْمَتِي فَكُلُوهَا طَيِّبَةً شَرْعًا بِالْحِلِّ طَيِّبَةً حِسًّا بِاللَّذَّةِ، وَآتُوا الْحَقَّ مِنْهَا يَوْمَ الْحَصَادِ، وَكَانَ ذَلِكَ بَيَانًا لِوَقْتِ الْإِخْرَاجِ، وَجَعَلَ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ الْحَقَّ الْوَاجِبَ مُخْتَلِفًا بِكَثْرَةِ الْمُؤْنَةِ وَقِلَّتِهَا، فَمَا كَانَ خَفِيفَ الْمُؤْنَةِ قَدْ تَوَلَّى اللَّهُ سَقْيَهُ فَفِيهِ الْعُشْرُ، وَمَا عَظُمَتْ مُؤْنَتُهُ بِالسَّقْيِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْإِتْيَانِ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ. فَأَمَّا قَوْلُ أَحْمَدَ: إنَّهُ فِيمَا يُوسَقُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ حَبٍّ أَوْ تَمْرٍ صَدَقَةٌ»، فَضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَقْتَضِي ظَاهِرَ الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ النِّصَابُ مُعْتَبَرًا فِي التَّمْرِ وَالْحَبِّ. فَأَمَّا سُقُوطُ الْحَقِّ عَمَّا عَدَاهَا فَلَيْسَ فِي قُوَّةِ الْكَلَامِ. وَأَمَّا التَّعْلِيقُ بِالْقُوتِ فَدَعْوَى وَمَعْنَى لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ يَرْجِعُ إلَيْهِ؛ وَإِنَّمَا تَكُونُ الْمَعَانِي مُوجِبَةً لِأَحْكَامِهَا بِأُصُولِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْقِيَاسِ. وَكَيْفَ يَذْكُرُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ النِّعْمَةَ فِي الْقُوتِ وَالْفَاكِهَةِ، وَأَوْجَبَ الْحَقَّ مِنْهَا كُلِّهَا فِيمَا تَنَوَّعَ حَالُهُ كَالْكَرْمِ وَالنَّخِيلِ، وَفِيمَا تَنَوَّعَ جِنْسُهُ كَالزَّرْعِ، وَفِيمَا يَنْضَافُ إلَى الْقُوتِ مِنْ الِاسْتِسْرَاجِ الَّذِي بِهِ تَمَامُ النِّعْمَةِ فِي الْمَتَاعِ بِلَذَّةِ الْبَصَرِ إلَى اسْتِيفَاءِ النِّعَمِ فِي الظُّلَمِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْمُقْتَاتِ الَّذِي يَدُومُ، فَأَمَّا فِي الْخُضَرِ فَلَا بَقَاءَ لَهَا؛ وَلِذَلِكَ لَمْ تُؤْخَذْ الزَّكَاةُ فِي الْأَقْوَاتِ مِنْ أَخْضَرِهَا، وَإِنَّمَا أُخِذَتْ مِنْ يَابِسِهَا. قُلْنَا: إنَّمَا تُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ عِنْدَ انْتِهَائِهِ، بِالْيُبْسِ، وَانْتِهَاءُ الْيَابِسِ وَالطَّيِّبِ انْتِهَاءُ الْأَخْضَرِ؛ وَلِذَلِكَ إذَا كَانَ الرَّطْبُ لَا يُثْمِرُ، وَالْعِنَبُ لَا يَتَزَبَّبُ تُؤْخَذُ الزَّكَاةُ

مِنْهُمَا عَلَى حَالِهِمَا، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْفَاكِهَةُ الْخُضَرِيَّةُ أَصْلًا فِي اللَّذَّةِ وَرُكْنًا فِي النِّعْمَةِ مَا وَقَعَ الِامْتِنَانُ بِهَا فِي الْجَنَّةِ. أَلَا تَرَاهُ وَصَفَ جَمَالَهَا وَلَذَّتَهَا، فَقَالَ: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] فَذَكَرَ النَّخْلَ أَصْلًا فِي الْمُقْتَاتِ، وَالرُّمَّانَ أَصْلًا فِي الْخَضْرَاوَاتِ. أَوَلَا يَنْظُرُونَ إلَى وَجْهِ امْتِنَانِهِ عَلَى الْعُمُومِ لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ بِقَوْلِهِ: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} [عبس: 25] {ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا} [عبس: 26] {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا} [عبس: 27] {وَعِنَبًا وَقَضْبًا} [عبس: 28] {وَزَيْتُونًا وَنَخْلا} [عبس: 29] {وَحَدَائِقَ غُلْبًا} [عبس: 30] {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31]. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]. وَاَلَّذِي يُحْصَدُ الزَّرْعُ. قُلْنَا: جَهِلْتُمْ؛ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ نَبْتٍ فِي الْأَرْضِ. وَأَصْلُ الْحَصَادِ إذْهَابُ الشَّيْءِ عَنْ مَوْضِعِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ؛ قَالَ تَعَالَى: {مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} [هود: 100]. وَقَالَ: {حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء: 15]. وَقَالَ: {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس: 24]. وَفِي الْحَدِيثِ: «وَهَلْ يُكِبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ». فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مَجَازٌ؛ وَأَصْلُهُ فِي الزَّرْعِ. قُلْنَا: هَذَا كُلُّهُ حَقِيقَةٌ؟ وَأَصْلُهَا الذَّهَابُ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ يُقَالُ جِدَادُ النَّخْلِ، وَحَصَادُ الزَّرْعِ، جُذَاذُ الْبَقْلِ؟ قُلْنَا: الِاسْمُ الْعَامُّ الْحَصَادُ؛ وَهَذِهِ خَوَاصُّ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ مُتَنَاوَلَاتِهِ. وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّهُ ذَكَرَ الْحَصَادَ فِيمَا يُحْصَدُ دَلِيلًا عَلَى الْجِدَادِ فِيمَا يُجَدُّ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَكْفِي عَنْ الْآخَرِ، وَلَكِنَّ النَّبَاتَ كَانَ أَصْلًا لِقَوْلِهِ: فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ [فَجَعَلَهَا قِسْمًا]

وَحَبَّ الْحَصِيدِ، فَجَعَلَهُ قِسْمًا آخَرَ؛ فَلَمَّا عَادَلَ الْجَمِيعَ اكْتَفَى بِذِكْرِهِ عَنْ ذِكْرِ غَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَخَذَ الزَّكَاةَ مِنْ خُضَرِ الْمَدِينَةِ وَلَا خَيْبَرَ. قُلْنَا: كَذَلِكَ عَوَّلَ عُلَمَاؤُنَا. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ عَدَمُ دَلِيلٍ لَا وُجُودُ دَلِيلٍ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ أَخَذَهَا لَنُقِلَ. قُلْنَا: وَأَيُّ حَاجَةٍ إلَى نَقْلِهِ، وَالْقُرْآنُ يَكْفِي عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَ [آيَةُ] الزَّكَاةِ مَدَنِيَّةٌ. قُلْنَا: قَدْ قَالَ مَالِكٌ: إنَّ الْمُرَادَ بِهِ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ. وَتَحْقِيقُهُ: فِي نُكْتَةٍ بَدِيعَةٍ؛ وَهِيَ أَنَّ الْقَوْلَ فِي أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ أَوْ مَدَنِيَّةٌ يَطُولُ. فَهَبْكُمْ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ؛ إنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ بِهَا إيجَابًا مُجْمَلًا فَتَعَيَّنَ فَرْضُ اعْتِقَادِهَا، وَوَقَفَ الْعَمَلُ بِهَا عَلَى بَيَانِ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ وَالْوَقْتِ، فَلَمْ تَكُنْ بِمَكَّةَ حَتَّى تَمَهَّدَ الْإِسْلَامُ بِالْمَدِينَةِ؛ فَوَقَعَ الْبَيَانُ، فَتَعَيَّنَ الِامْتِثَالُ، وَهَذَا لَا يَفْقُهُهُ إلَّا الْعُلَمَاءُ بِالْأُصُولِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ وَفِيمَا سُقِيَ بِنَضْحٍ أَوْ دَالِيَةٍ نِصْفُ الْعُشْرِ» كَلَامٌ جَاءَ لِبَيَانِ تَفْصِيلِ قَدْرِ الْوَاجِبِ بِحَالِ الْمُوجِبِ فِيهِ، وَلَيْسَ الْقَصْدُ مِنْهُ الْعُمُومَ حَتَّى يَقَعَ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ فِي اسْتِعْمَامِ مَا سَقَتْ السَّمَاءُ. قُلْنَا: هَذَا هُوَ كَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَهُوَ مِنْ مُذْهَبَاتِهِ الَّتِي بَنَى عَلَيْهَا كِتَابَ الْبُرْهَانِ، وَظَنَّ أَنَّهَا لَمْ تُدْرَكْ فِي غَابِرِ الْأَزْمَانِ، وَلَيْسَ لَهَا فِي الدَّلَائِلِ مَكَانٌ. نَحْنُ نَقُولُ: إنَّ الْحَدِيثَ جَاءَ لِلْعُمُومِ فِي كُلِّ مَسْقِيٍّ، وَلِتَفْصِيلِ قَدْرِ الْوَاجِبِ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُوجِبِ فِيهِ، وَلَا يَتَعَارَضُ ذَلِكَ؛ فَيَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُهُ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ خَصَّصْتُمْ الْحَدِيثَ فِي الْمَأْكُولَاتِ مِنْ الْمُقْتَاتِ، فَنَحْنُ نَخُصُّهُ فِي الْمَأْكُولَاتِ أَيْضًا.

مسألة وقت وجوب الزكاة في هذه الأموال النباتية

قُلْنَا: نَحْنُ خَصَّصْنَاهُ فِي الْمَأْكُولَاتِ مِنْ الْمُقْتَاتِ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ، وَلَا دَلِيلَ لَكُمْ عَلَى تَخْصِيصِهِ فِي الْمُقْتَاتِ؛ فَإِنْ أَعَادُوا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ أَعَدْنَا مَا سَبَقَ عَلَيْهَا مِنْ الْأَجْوِبَةِ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا زَكَاةَ فِي الزَّيْتُونِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ؛ قَالَ: لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ إدَامًا، وَأَيْضًا فَإِنَّ التِّينَ أَنْفَعُ مِنْهُ فِي الْقُوتِ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ. قُلْنَا لَهُ: الزَّكَاةُ تَجِبُ عِنْدَنَا فِي التِّينِ، فَلَا قَوْلَ لَك فِي ذَلِكَ، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ التِّينِ وَالزَّبِيبِ، وَالزَّيْتُونُ قُوتٌ يُدَّخَرُ ذَاتُهُ وَيُدَّخَرُ زَيْتُهُ؛ فَلَا كَلَامَ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَالَ مَالِكٌ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْهِ: إنَّمَا تَكُونُ الزَّكَاةُ فِيمَا يُقْتَاتُ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ دُونَ مَا يُقْتَاتُ بِهِ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ، فَلَا زَكَاةَ فِي الْقَطَّانِي، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي التِّينِ، فَكَانَ لَا يُوجِبُ فِيهِ الزَّكَاةَ، لِأَنَّهُ لَا يَدْرِيهِ، فَإِذَا أُخْبِرَ عَنْهُ وَرَأَى مَوْقِعَهُ فِي بِلَادِهِ أَوْجَبَ فِيهِ الزَّكَاةَ؛ وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ؛ وَهُوَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى إذَا وَرَدَ، هَلْ يُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ الْمُطْلَقِ أَوْ الْغَالِبِ مِنْ الْمُتَنَاوَلِ فِيهِ؟ وَالصَّحِيحُ حَمْلُهُ: عَلَى الْعُمُومِ الْمُطْلَقِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة وَقْتِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ النَّبَاتِيَّةِ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَقْتِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ النَّبَاتِيَّةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلِ: أَنَّهَا تَجِبُ وَقْتَ الْجِدَادِ؛ قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ؛ بِقَوْلِهِ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141].

الثَّانِي: أَنَّهَا تَجِبُ يَوْمَ الطِّيبِ لِأَنَّ مَا قَبْلَ الطِّيبِ يَكُونُ عَلَفًا لَا قُوتًا وَلَا طَعَامًا؛ فَإِذَا طَابَتْ وَكَانَ الْأَكْلُ الَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ وَجَبَ الْحَقُّ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، إذْ بِتَمَامِ النِّعْمَةِ يَجِبُ شُكْرُ النِّعْمَةِ، وَيَكُونُ الْإِيتَاءُ يَوْمَ الْحَصَادِ لِمَا قَدْ وَجَبَ يَوْمَ الطِّيبِ. الثَّالِثِ: أَنَّهُ يَكُونُ بَعْدَ تَمَامِ الْخَرْصِ؛ قَالَهُ الْمُغِيرَةُ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَتَحَقَّقُ الْوَاجِبُ فِيهِ مِنْ الزَّكَاةِ، فَيَكُونُ شَرْطًا لِوُجُوبِهَا، أَصْلُهُ مَجِيءُ السَّاعِي فِي الْغَنَمِ. وَلِكُلِّ قَوْلٍ وَجْهٌ كَمَا تَرَوْنَ؛ لَكِنَّ الصَّحِيحَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ بِالطِّيبِ، لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ الدَّلِيلِ؛ وَإِنَّمَا خَرَصَ عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمَ قَدْرَ الْوَاجِبِ فِي ثِمَارِهِمْ. وَالْأَصْلُ فِي الْخَرْصِ حَدِيثُ الْمُوَطَّإِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إلَى أَهْلِ خَيْبَرَ فَخَرَصَ عَلَيْهِمْ وَخَيَّرَهُمْ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذُوا وَلَهُ مَا قَالَ، أَوْ يَنْخُلُوا وَلَهُمْ مَا قَالَ: فَقَالُوا: بِهَذَا قَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ». وَيَا وَيْحَ الْبُخَارِيَّ يَتَخَيَّرُ عَلَى مَالِكٍ، وَلَا يُدْخِلُ هَذَا الْحَدِيثَ فِي بَابِ الْخَرْصِ، وَيُدْخِلُ مِنْهُ حَدِيثَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ مَرَّ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ بِحَدِيقَةٍ فَقَالَ: اُخْرُصُوا هَذِهِ فَخَرَصُوا؛ فَلَمَّا رَجَعَ عَنْ الْغَزْوِ وَسَأَلَ الْمَرْأَةَ كَمْ جَاءَتْ حَدِيقَتُك؟ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا جَاءَتْ كَمَا قَالَ؟» فَكَانَتْ إحْدَى مُعْجِزَاتِهِ فِي قَوْلٍ. فَإِنْ تَلِفَتْ بَعْدَ الطِّيبِ فَلَا شَيْءَ فِيهَا عَلَى الْمَالِكِ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: إنَّ اللَّهَ ذَهَبَ بِمَالِهِ وَمَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يُلْزِمْهُ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ تَلِفَتْ بَعْدَ الْخَرْصِ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: فَلَا بُدَّ لَهُ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى تَلَفِهَا.

مسألة معنى قوله تعالى ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَحْلِفُ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ عِنْدَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، فَلَا يُبَرِّئُهُ مِنْهَا إلَّا إيجَادُ الْبَرَاءَةِ؛ وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْأَمَانَاتِ الَّتِي تَكُونُ مُسْتَحْفَظَةً عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ ذَكَرَهُ: فِي الْفُرُوعِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: تَرَكَّبَتْ عَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ مَسْأَلَةٌ؛ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي الْكَرْمِ وَالْفُرُوعِ وَالنَّخْلِ مُطْلَقًا، ثُمَّ فَسَّرَ النِّصَابَ بِقَوْلِهِ: لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ تَمْرٍ وَلَا حَبٍّ صَدَقَةٌ. فَمَنْ حَصَلَ لَهُ مِنْ تَمْرٍ وَزَبِيبٍ مَعًا خَمْسَةُ أَوْسُقٍ، أَوْ مِنْ زَبِيبٍ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِيهَا، فَإِنْ حَصَلَ لَهُ مِنْ تَمْرٍ وَزَبِيبٍ مَعًا خَمْسَةُ أَوْسُقٍ لَمْ تَلْزَمْهُ زَكَاتُهُ إجْمَاعًا فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا صِنْفَانِ مُخْتَلِفَانِ. فَإِنْ حَصَلَ لَهُ مِنْ طَعَامٍ بُرٍّ وَشَعِيرٍ مَعًا خَمْسَةُ أَوْسُقٍ زَكَّاهُمَا [مَعًا] عِنْدَ مَالِكٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُجْمَعَانِ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمَا، وَإِنَّمَا هِيَ أَنْوَاعٌ كُلُّهَا يُعْتَبَرُ النِّصَابُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى الِانْفِرَادِ؛ لِأَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الِاسْمِ الْخَاصِّ؛ وَفِي حَالَةِ الطَّعْمِ. وَالصَّحِيحُ ضَمُّهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا قُوَّتَانِ يَتَقَارَبَانِ، فَلَا يَضُرُّ اخْتِلَافُ الِاسْمِ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَلَا تُسْرِفُوا إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141] الْإِسْرَافُ: هُوَ الزِّيَادَةُ، فَقِيلَ لَهُمْ: لَا تُسْرِفُوا فِي الْأَكْلِ بِزِيَادَةِ الْحَرَامِ عَلَى مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تُسْرِفُوا فِي أَخْذِ زِيَادَةٍ عَلَى حَقِّكُمْ، وَهُوَ التِّسْعَةُ الْأَعْشَارُ، حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ، وَأَدُّوا مَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْكُمْ بِالْخَرْصِ أَوْ بِالْجِذَاذِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ عَشْرَة قَوْله تَعَالَى قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا] الْآيَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 145].

مسألة المحرمات على ثلاثة أقسام مطعومات ومنكوحات وملبوسات

فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] قَدْ بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ أَنَّ الْوَحْيَ يَنْقَسِمُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ: مِنْهَا مَجِيءُ الْمَلَكِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ اللَّهِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ؛ فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْمَلَكَ لَمْ يَأْتِ إلَيْهِ الْآنَ إلَّا بِهَذَا؛ إذْ قَدْ جَاءَ إلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ بِالْمُحَرَّمَاتِ وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِ، نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ نَزَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] وَذَلِكَ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهَا نَاسِخٌ؛ فَهِيَ مُحْكَمَةٌ. . [مَسْأَلَة الْمُحَرَّمَاتُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مَطْعُومَاتٌ وَمَنْكُوحَاتٌ وَمَلْبُوسَاتٌ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {عَلَى طَاعِمٍ} [الأنعام: 145] الْمُحَرَّمَاتُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مَطْعُومَاتٌ، وَمَنْكُوحَاتٌ، وَمَلْبُوسَاتٌ. فَأَمَّا الْمَطْعُومَاتُ وَالْمَنْكُوحَاتُ فَقَدْ اسْتَوْفَى اللَّهُ بَيَانَهَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا، وَمِنْهَا فِي السُّنَّةِ تَوَابِعُ. وَأَمَّا الْمَلْبُوسَاتُ فَمِنْهَا فِي الْقُرْآنِ إشَارَاتٌ وَتَمَامُ ذَلِكَ فِي السُّنَّةِ؛ وَقَالَ اللَّهُ: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} [الأنعام: 145] الْآيَةَ. فَأَمَّا الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا فِي الْبَقَرَةِ وَالْمَائِدَةِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173]. وَكَانَ وُرُودُ ذِكْرِ الدَّمِ مُطْلَقًا هُنَالِكَ وَوَرَدَ هَاهُنَا مُقَيَّدًا بِالسَّفْحِ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حَمْلِ الْمُطْلَقِ هَاهُنَا عَلَى الْمُقَيَّدِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ كُلَّ دَمٍ مُحَرَّمٌ إلَّا الْكَبِدَ وَالطِّحَالَ، بِاسْتِثْنَاءِ السُّنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ التَّحْرِيمَ يَخْتَصُّ بِالْمَسْفُوحِ؛ قَالَتْهُ عَائِشَةُ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ قَالَ: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] لَتَتَبَّعَ النَّاسُ مَا فِي الْعُرُوقِ. قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ: الصَّحِيحُ أَنَّ الدَّمَ إذَا كَانَ مُفْرَدًا حَرُمَ مِنْهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَإِنْ خَالَطَ اللَّحْمَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا حَرُمَ الدَّمُ بِالْقَصْدِ إلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلِ: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالسُّنَّةِ، وَحَرَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَحَرَّمَ كُلَّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ؛ خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ. الثَّانِي: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ لَا حَرَامَ فِيهَا إلَّا فِيمَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ. الثَّالِثِ: قَالَ الزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: هِيَ مُحْكَمَةٌ، وَيَضُمُّ إلَيْهَا بِالسُّنَّةِ مَا فِيهَا مِنْ مُحَرَّمٍ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالسُّنَّةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ كَمَا اخْتَلَفُوا فِي نَسْخِ السُّنَّةِ بِهَا. وَالصَّحِيحُ جَوَازُ ذَلِكَ كُلِّهِ: كَمَا فِي تَفْصِيلِ الْأُصُولِ، لَكِنْ لَوْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ مُحَرَّمٌ غَيْرُ هَذِهِ لَمَا كَانَ ذَلِكَ نَسْخًا؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ مُحَرَّمٍ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ أَوْ فَرْضٍ عَلَى الْمَفْرُوضَاتِ لَا يَكُونُ نَسْخًا بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، لَا سِيَّمَا وَمَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ مُخْتَلَفٌ فِي تَأْوِيلِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلِ: أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ كَمَا قَالُوا. الثَّانِي: أَنَّهَا حُرِّمَتْ بِعِلَّةِ «أَنَّ جَائِيًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: فَنِيَتْ الْحُمُرُ. فَنِيَتْ

الْحُمُرُ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يُنَادَى بِتَحْرِيمِهَا» لِعِلَّةٍ مِنْ خَوْفِ الْفَنَاءِ عَلَيْهَا؛ فَإِذَا كَثُرَتْ وَلَمْ يَضُرَّ فَقْدُهَا بِالْحُمُولَةِ جَازَ أَكْلُهَا؛ فَإِنَّ الْحُكْمَ يَزُولُ بِزَوَالِ الْعِلَّةِ. الثَّالِثِ: أَنَّهَا حُرِّمَتْ لِأَنَّهَا طُبِخَتْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ. الرَّابِعِ: أَنَّهَا حُرِّمَتْ لِأَنَّهَا كَانَتْ جَلَّالَةً خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد. وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْلِ جَلَّالَةِ الْبَقَرِ». وَهَذَا بَدِيعٌ فِي وَجْهِ الِاحْتِجَاجِ بِهَا، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْهُ فِي كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَمِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ إنَّمَا وَرَدَ فِي الْمُسْنَدِ الصَّحِيحِ بِقَوْلِهِ نَهَى، وَيَحْتَمِلُ ذَلِكَ النَّهْيُ التَّحْرِيمَ، وَيَحْتَمِلُ الْكَرَاهِيَةَ، مَعَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ السِّبَاعِ فِي الِافْتِرَاسِ. أَلَا تَرَى إلَى الْكَلْبِ وَالْهِرِّ وَالضَّبُعِ فَإِنَّهَا سِبَاعٌ، وَقَدْ وَقَعَ الْأُنْسُ بِالْهِرِّ مُطْلَقًا وَبِبَعْضِ الْكِلَابِ، وَجَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ الضَّبُعَ صَيْدٌ، وَفِيهَا كَبْشٌ. وَلَسْنَا نَمْنَعُ أَنْ يُضَافَ إلَيْهَا بِالسُّنَّةِ مَا صَحَّ سَنَدُهُ، وَتَبَيَّنَ مَوْرِدُهُ، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إحْصَانٍ، أَوْ كَفَرَ بَعْدَ إيمَانٍ، أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ». وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى أَنَّ مَوْرِدَ الْآيَةِ

مَجْهُولٌ. فَأَمَّا إذَا تَبَيَّنَّا أَنَّ مَوْرِدَهَا يَوْمُ عَرَفَةَ فَلَا يَحْرُمُ إلَّا مَا فِيهَا، وَإِلَيْهِ أَمِيلُ، وَبِهِ أَقُولُ. قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: قُلْت لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ: إنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ». قَالَ: قَدْ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيُّ، وَلَكِنْ أَبَى ذَلِكَ الْحَبْرُ يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ، وَقَرَأَ: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ} [الأنعام: 145] الْآيَةَ، وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ عَائِشَةَ مِثْلُهُ. وَقَرَأَتْ الْآيَةَ كَمَا قَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا مِمَّا كُنْتُمْ تَسْتَخْبِثُونَهُ وَتَجْتَنِبُونَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ [مَيْتَةً] الْآيَةَ. فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فَلَا؛ بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ أَشْيَاءَ مِنْهَا الْمُنْخَنِقَةُ وَأَخَوَاتُهَا. وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ أَشْيَاءَ غَيْرِ ذَلِكَ، مِنْهَا الْقَاذُورَاتُ، وَمِنْهَا الْخَمْرُ وَالْآدَمِيُّ. الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ سَبْعَةِ أَوْجُهٍ: الْجَوَابُ الْأَوَّلُ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ رَدَّ هَذَا وَأَوْضَحَ الْمُرَادَ مِنْهُ وَالْحَقَّ فِيهِ، وَهُوَ الْحَبْرُ الْبَحْرُ التُّرْجُمَانُ. الْجَوَابُ الثَّانِي: دَعْوَى وُرُودِ الْآيَةِ عَلَى سُؤَالٍ لَا يُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ نَقْلٍ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. الْجَوَابُ الثَّالِثُ: لَوْ صَحَّ السُّؤَالُ لَمَا آثَرَ خُصُوصَ السُّؤَالِ فِي عُمُومِ الْجَوَابِ الْوَارِدِ عَلَيْهِ. وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَيْهِ وَبَيَّنَّاهُ فِيمَا قَبْلُ. الْجَوَابُ الرَّابِعُ: وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ غَيْرَ ذَلِكَ كَالْمُنْخَنِقَةِ وَأَخَوَاتِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الْمَيْتَةِ إلَّا أَنَّهُ بَيَّنَ أَنْوَاعَ الْمَيْتَةِ وَشَرَحَ مَا يُسْتَدْرَكُ ذَكَاتُهُ مِمَّا تَفُوتُ ذَكَاتُهُ لِئَلَّا يَشْكُلَ أَمْرُهُ وَيُمْزَجَ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ فِي حُكْمِهَا. الْجَوَابُ الْخَامِسُ: وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ الْقَاذُورَاتِ فَلَا قَاذُورَ مُحَرَّمٌ عِنْدَنَا إلَّا أَنْ يَكُونَ رِجْسًا فَيَدْخُلَ فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَكَذَلِكَ الْخَمْرُ، وَهُوَ:

الْجَوَابُ السَّادِسُ: دَخَلَتْ فِي تَعْلِيلِ الرِّجْسِيَّةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ السَّابِعُ: عَنْ الْآدَمِيِّ فَهَيْهَاتَ أَيُّهَا الْمُتَكَلِّمُ، لَقَدْ حَطَطْت مُسَمَّاك إذْ أَبْعَدْت مَرْمَاك، مَنْ أَدْخَلَ الْآدَمِيَّ فِي هَذَا؟ وَهُوَ الْمُحَلَّلُ لَهُ الْمُحَرَّمُ، الْمُخَاطَبُ الْمُثَابُ الْمُعَاقَبُ، الْمُمْتَثِلُ الْمُخَالِفُ، فَبَيْنَمَا كَانَ مُتَصَرِّفًا جَعَلْته مُصَرِّفًا، انْصَرِفْ عَنْ الْمَقَامِ فَلَسْت فِيهِ بِإِمَامٍ، فَإِنَّ الْإِمَامَ هَاهُنَا وَرَاءٌ، وَالْوَرَاءُ أَمَامٌ، وَقَدْ انْدَرَجَتْ: الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي هَذَا الْكَلَامِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: رَوَى مُجَاهِدٌ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَرِهَ مِنْ الشَّاءِ سَبْعًا: الدَّمَ، وَالْمِرَارَ، وَالْحَيَاءَ، وَالْغُدَّةَ، وَالذَّكَرَ، وَالْأُنْثَيَيْنِ.» وَهَذِهِ زِيَادَاتٌ عَلَى هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ. قُلْنَا: عَنْهُ جَوَابَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكَرَاهِيَةَ غَيْرُ التَّحْرِيمِ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ كَالنَّدْبِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوُجُوبِ. الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْكَرَاهِيَةَ إنَّمَا هِيَ عِيَافَةُ نَفْسٍ، وَتَقَزُّزُ جِبِلَّةٍ، وَتَقَذُّرُ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُحَلَّلِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ الدَّمَ. قُلْنَا: عَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِالْقَرَائِنِ، فَكَمْ مِنْ مَكْرُوهٍ قُرِنَ بِمُحَرَّمٍ، كَقَوْلِهِ: «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفْتِرٍ». وَكَمْ مِنْ غَيْرِ وَاجِبٍ قُرِنَ بِوَاجِبٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]. وَقَوْلُهُ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]. الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ الدَّمَ الْمُخَالِطَ لِلَّحْمِ الَّذِي عُفِيَ عَنْهُ لِلْخَلْقِ وَأَمَّا الْمِرَارُ الْمَذْكُورُ فِي

الآية الرابعة عشرة قوله تعالى وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر

الْحَدِيثِ فَهُوَ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ الْأَمَرُّ، وَهُوَ الْمَصَارِينُ، وَلَا أُرَاهُ أَرَادَ إلَّا الْمِرَارَ بِعَيْنِهِ، وَنَبَّهَ بِذِكْرِهِ عَلَى عِلَّةِ كَرَاهَةِ غَيْرِهِ بِأَنَّهُ مَحَلُّ الْمُسْتَخْبَثِ؛ فَكُرِهَ لِأَجْلِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الرَّابِعَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ] ٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 146]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا} [الأنعام: 146] فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: هَادُوا: تَابُوا. هَادَ يَهُودُ: تَابَ. الثَّانِي: هَادَ: إذَا سَكَنَ. الثَّالِثُ: هَادَ: فَتَرَ. الرَّابِعُ: هَادَ: دَخَلَ فِي الْيَهُودِيَّةِ. وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى: {كُونُوا هُودًا} [البقرة: 135] أَيْ يَهُودًا. ثُمَّ حَذَفَ الْيَاءَ. فَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ التَّائِبُ يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: 156] أَيْ تُبْنَا، وَكُلُّ تَائِبٍ إلَى رَبِّهِ: سَاكِنٌ إلَيْهِ فَاتِرٌ عَنْ مَعْصِيَتِهِ. وَهَذَا مَعْنَى مُتَقَارِبٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146] يَعْنِي مَا لَيْسَ بِمُنْفَرِجِ الْأَصَابِعِ، كَالْإِبِلِ وَالنَّعَامِ وَالْإِوَزِّ وَالْبَطِّ؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا يَصِيدُ بِظُفْرِهِ: مِنْ [سِبَاعِ] الطَّيْرِ وَالْكِلَابِ. وَالْحَوَايَا: وَاحِدُهَا حَاوِيَاءُ أَوْ حَوِيَّةٌ، وَهِيَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلِ: الْمَبَاعِرُ.

مسألة ذبح اليهود أنعامهم فأكلوا ما أحل الله في التوراة وتركوا ما حرم فهل يحل لنا

الثَّانِي: أَنَّهَا خَزَائِنُ اللَّبَنِ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا الْأَمْعَاءُ الَّتِي عَلَيْهَا الشُّحُومُ. [مَسْأَلَة ذَبَحَ الْيَهُود أَنْعَامَهُمْ فَأَكَلُوا مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ وَتَرَكُوا مَا حَرَّمَ فَهَلْ يَحِلُّ لَنَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ كَتَبَ عَلَيْهِمْ تَحْرِيمَ هَذَا فِي التَّوْرَاةِ، وَقَدْ نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَاحَ لَهُمْ مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ؛ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى طَرِيقِ التَّشْدِيدِ فِي التَّكْلِيفِ لِعَظِيمِ الْحُرْمِ، وَزَوَالِ الْحَرَجِ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[وَأُمَّتِهِ]، وَأَلْزَمَ جَمِيعَ الْخَلِيقَةِ دِينَ الْإِسْلَامِ بِحِلِّهِ وَحُرْمِهِ، وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ؛ فَإِذَا ذَبَحُوا أَنْعَامَهُمْ فَأَكَلُوا مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ، وَتَرَكُوا مَا حَرَّمَ، فَهَلْ يَحِلُّ لَنَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: هِيَ مُحَرَّمَةٌ [عَلَيْهِمْ]. وَقَالَ فِي سَمَاعِ الْمَبْسُوطِ: هِيَ مُحَلَّلَةٌ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ نَافِعٍ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: أَكْرَهُهُ. وَالصَّحِيحُ أَكْلُهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ رَفَعَ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ بِالْإِسْلَامِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ بَقِيَ اعْتِقَادُهُمْ فِيهِ عِنْدَ الذَّكَاةِ. قُلْنَا: هَذَا لَا يُؤَثِّرُ؛ لِأَنَّهُ اعْتِقَادٌ فَاسِدٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فَلَوْ ذَبَحُوا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ؛ فَقَالَ أَصْبَغُ: كُلُّ مَا كَانَ مُحَرَّمًا فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ فَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ. وَقَالَهُ أَشْهَبُ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَجَازَهُ ابْنُ وَهْبٍ. وَالصَّحِيحُ تَحْرِيمُهُ؛ لِأَنَّ ذَبْحَهُ مِنْهُمْ لَيْسَ بِذَكَاةٍ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام: 146] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ إنَّمَا يَكُونُ عَنْ ذَنْبٍ؛ لِأَنَّهُ ضَيِّقٌ فَلَا يُعْدَلُ عَنْ السِّعَةِ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الْمَوْجِدَةِ.

الآية الخامسة عشرة قوله تعالى قل هلم شهداءكم

[الْآيَة الْخَامِسَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمْ] ُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 150]. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ: رَضِيت بِفُلَانٍ فَإِذَا شَهِدَ أَنْكَرَهُ، وَقَالَ: ظَنَنْت أَنَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ. وَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَلْزَمُهُ ذَلِكَ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَلْزَمُهُ مَا قَالَ. وَلِلْمَالِكِيَّةِ الْقَوْلَانِ. وَمَشْهُورٌ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ الرِّضَا بِالشَّهَادَةِ ثُمَّ الْإِنْكَارُ؛ إنَّمَا فِيهَا طَلَبُ الدَّلِيلِ وَاسْتِدْعَاءُ الْبُرْهَانِ عَلَى الدَّعْوَى؛ فَإِنَّ الْعَرَبَ تَحَكَّمَتْ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ، فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ: قُلْ لَهُمْ: هَاتُوا شُهَدَاءَكُمْ بِأَنَّ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَيْ حُجَّتَكُمْ حَتَّى نَسْمَعَهَا، وَنَنْظُرَ فِيهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ: {فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} [الأنعام: 150]؟ قُلْنَا: هَذَا تَحْذِيرٌ مِنْ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ لِتَعْلَمَ أُمَّتُهُ الْمَعْنَى. فَإِنْ قَالَ شُهَدَاؤُهُمْ مِثْلَ مَا يَقُولُونَ فَلَا تَقُلْهُ مَعَهُمْ؛ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ إذَا قَالَ مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِهِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ. [الْآيَة السَّادِسَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ] ُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ تَقَدَّمَ حَالُ الْوَلِيِّ مَعَ الْيَتِيمِ فِي مَالِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى

الآية السابعة عشرة قوله تعالى قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين

جَوَازِ عَمَلِ الْوَصِيِّ فِي مَالٍ الْيَتِيمِ إذَا كَانَ حَسَنًا حَتَّى يَبْلُغَ الْغُلَامُ أَشُدَّهُ، زَادَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَيُونُسَ رُشْدَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبُلُوغَ أَشُدٌّ، وَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْأَشُدُّ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ عَامًا، وَعَجَبًا مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّ الْمُقَدَّرَاتِ لَا تَثْبُتُ نَظَرًا وَلَا قِيَاسًا، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ نَقْلًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَهُوَ يُثْبِتُهَا بِالْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ، وَلَكِنَّهُ سَكَنَ دَارَ الضَّرْبِ فَكَثُرَ عِنْدَهُ الْمُدَلِّسُ، وَلَوْ سَكَنَ الْمَعْدِنُ كَمَا قَيَّضَ اللَّهُ لِمَالِكٍ لِمَا صَدَرَ عَنْهُ إلَّا إبْرِيزُ الدِّينِ وَإِكْسِيرُ الْمِلَّةِ كَمَا صَدَرَ عَنْ مَالِكٍ. [الْآيَة السَّابِعَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى قُلْ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] َ} [الأنعام: 162] {لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 163]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ صَلاتِي} [الأنعام: 162] الْآيَةَ: مَقَامُ التَّسْلِيمِ لِلَّهِ وَدَرَجَةُ التَّفْوِيضِ إلَى اللَّهِ بِنَاءً عَنْ مُشَاهَدَةِ تَوْحِيدٍ وَمُعَايَنَةِ يَقِينٍ وَتَحْقِيقٍ؛ فَإِنَّ الْكُلَّ مِنْ الْإِنْسَانِ لِلَّهِ أَصْلٌ وَوَصْفٌ، وَظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ، وَاعْتِقَادٌ وَعَمَلٌ، وَابْتِدَاءٌ وَانْتِهَاءٌ، وَتَوَقُّفٌ وَتَصَرُّفٌ، وَتَقَدُّمٌ وَتَخَلُّفٌ، لَا شَرِيكَ لَهُ فِيهِ، لَا مِنْهُ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ يُضَاهِيهِ أَوْ يُدَانِيهِ. [مَسْأَلَة مِنْ سُنَنِ الصَّلَوَاتِ الِاسْتِفْتَاح بِقَوْلِهِ قل إنَّ صَلَاتِي ونسكي] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْتَفْتِحُ بِهِ صَلَاتَهُ، وَثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي اسْتِفْتَاحِهَا أَيْضًا: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك».

الآية الثامنة عشرة قوله تعالى قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء

وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ بِذَلِكَ؛ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَمْ يَرَ مَالِكٌ هَذَا الَّذِي يَقُولُ النَّاسُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك. وَفِي مُخْتَصَرِ مَا لَيْسَ فِي الْمُخْتَصَرِ أَنَّ مَالِكًا يَقُولُ: وَإِنَّمَا كَانَ يَقُولُ فِي خَاصَّتِهِ لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ بِهِ؛ وَكَانَ لَا يُرِيهِ لِلنَّاسِ مَخَافَةَ أَنْ يَعْتَقِدُوا وُجُوبَهُ. وَرَآهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ سُنَنِ الصَّلَوَاتِ، وَهُوَ الصَّوَابُ؛ لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إذَا قُلْنَا إنَّهُ يَقُولُهَا فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ فَإِنَّهُ يَقُولُ فِي آخِرِهَا: وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَقُولُ: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ؛ إذْ لَيْسَ أَحَدٌ بِأَوَّلِهِمْ إلَّا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَإِنْ قِيلَ: أَوَلَيْسَ إبْرَاهِيمُ قَبْلَهُ؟ قُلْنَا: عَنْهُ أَجْوِبَةً، أَظْهَرُهَا الْآنَ أَنَّ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الثَّامِنَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ] ٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الأنعام: 164] فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اسْتَدَلَّ بَعْضُ عُلَمَائِنَا الْمُخَالِفِينَ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ لَا يَصِحُّ بِقَوْلِهِ: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164]. وَعَارَضَهُمْ عُلَمَاؤُنَا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ تَحَمُّلُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ دُونَ أَحْكَامِ الدُّنْيَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ كَسْبَ الْإِلْزَامِ وَالِالْتِزَامِ، لَا كَسْبَ الْمَعُونَةِ وَالِاسْتِخْدَامِ؛ فَقَدْ يَتَعَاوَنُ الْمُسْلِمُونَ وَيَتَعَامَلُونَ بِحُكْمِ الْعَادَةِ وَالْمُرُوءَةِ وَالْمُشَارَكَةِ؛ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ قَدْ بَاعَ لَهُ وَاشْتَرَى عُرْوَةُ الْبَارِقِيُّ فِي دِينَارٍ وَتَصَرَّفَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَأَجَازَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمْضَاهُ؛ نَصُّهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَفَعَ إلَى عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ دِينَارًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ شَاةً مِنْ الْجَلَبِ فَاشْتَرَى لَهُ بِهِ شَاتَيْنِ، وَبَاعَ إحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ، وَجَاءَ بِالدِّينَارِ وَبِالشَّاةِ

فَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْبَرَكَةِ؛ فَكَانَ لَا يَتَّجِرُ فِي سُوقٍ إلَّا رَبِحَ فِيهَا حَتَّى لَوْ اتَّجَرَ فِي التُّرَابِ لَرَبِحَ فِيهِ». قَالَ: وَلَقَدْ كُنْت أَخْرُجُ إلَى الْكُنَاسَةِ بِالْكُوفَةِ فَلَا أَرْجِعُ إلَّا وَقَدْ رَبِحْت رِبْحًا عَظِيمًا. وَقَدْ مَهَّدْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي صَرِيحِ الْحَدِيثِ وَتَلْخِيصِ الطَّرِيقَتَيْنِ، فَانْظُرُوهُ تَجِدُوهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] لِلْوِزْرِ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: الثِّقَلُ؛ وَهُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا، يُقَالُ وَزَرَهُ يَزِرُهُ إذَا حَمَلَ ثِقَلَهُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} [الشرح: 2]. وَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا الذَّنْبُ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} [الأنعام: 31] يَعْنِي ذُنُوبَهُمْ {أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام: 31] أَيْ: بِئْسَ الشَّيْءُ شَيْئًا يَحْمِلُونَ. وَالْمَعْنَى لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ مُذْنِبَةٌ عُقُوبَةَ الْأُخْرَى؛ وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ كُلُّ نَفْسٍ مِنْهُمْ بِجَرِيرَتِهَا الَّتِي اكْتَسَبَتْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]. وَقَدْ وَفَدَ أَبُو رِمْثَةَ رِفَاعَةُ بْنُ يَثْرِبِيٍّ التَّمِيمِيُّ مَعَ ابْنِهِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَقَالَ: أَمَا إنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْك وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ. وَهَذَا إنَّمَا بَيَّنَّهُ لَهُمْ رَدًّا عَلَى اعْتِقَادِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ مُؤَاخَذَةِ الرَّجُلِ بِابْنِهِ وَبِأَبِيهِ وَبِجَرِيرَةِ حَلِيفِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَهَذَا حُكْمٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى نَافِذٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ وَهُوَ أَلَّا يُؤْخَذَ أَحَدٌ بِجُرْمِ أَحَدٍ، بَيْدَ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ النَّاسِ مِنْ بَعْضِ أَحْكَامٍ فِي مَصَالِحِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَحِمَايَةِ النَّفْسِ وَالْأَهْلِ عَنْ الْعَذَابِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:

{قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6]. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ الْمَرْءَ كَمَا يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ أَنْ يُصْلِحَ نَفْسَهُ بِاكْتِسَابِ الْخَيْرِ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يُصْلِحَ غَيْرَهُ بِالْأَمْرِ بِهِ وَالدُّعَاءِ إلَيْهِ وَالْحَمْلِ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ فَائِدَةُ الصُّحْبَةِ، وَثَمَرَةُ الْمُعَاشَرَةِ، وَبَرَكَةُ الْمُخَالَطَةِ، وَحُسْنُ الْمُجَاوَرَةِ؛ فَإِنْ [حَسُنَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ كَانَ مُعَافًى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ] قَصَّرَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ كَانَ مُعَاقَبًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَعَلَيْهِ أَوَّلًا إصْلَاحُ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، ثُمَّ إصْلَاحُ خَلِيطِهِ وَجَارِهِ، ثُمَّ سَائِرُ النَّاسِ بَعْدَهُ، بِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَدُعَائِهِمْ وَحَمْلِهِمْ؛ فَإِنْ فَعَلُوا، وَإِلَّا اسْتَعَانَ بِالْخَلِيفَةِ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ عَلَيْهِمْ، فَهُوَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَسْرًا، وَمَتَى أَغْفَلَ الْخَلْقُ هَذَا فَسَدَتْ الْمَصَالِحُ، وَتَشَتَّتَ الْأَمْرُ، وَاتَّسَعَ الْخَرْقُ، وَفَاتَ التَّرْقِيعُ، وَانْتَشَرَ التَّدْمِيرُ؛ وَلِذَلِكَ يَرْوُونَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَفَّلَ الْمُتَّهَمِينَ عَشَائِرَهُمْ، وَذَلِكَ بِالْتِزَامِهِمْ كَفَّهُمْ أَوْ رَفْعَهُمْ إلَيْهِ حَتَّى يَنْظُرَ فِيهِمْ، وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى التَّوْفِيقَ بِرَحْمَتِهِ.

سورة الأعراف فيها سبع وعشرون آية

[سُورَةُ الْأَعْرَافِ فِيهَا سَبْعٌ وَعِشْرُونَ آيَةً] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى كِتَابٌ أُنْزِلَ إلَيْك فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِك حَرَجٌ مِنْهُ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 2]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ بَعْضُهُمْ: قَوْلُهُ: {فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} [الأعراف: 2] نَهْيٌ فِي الظَّاهِرِ، وَلَكِنَّهُ لِنَفْيِ الْحَرَجِ. وَعَجَبًا لَهُ مَعَ عَمَلٍ يَقَعُ فِي مِثْلِهِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي نَفْيَهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَنْهَى عَنْ أَشْيَاءَ وَتُوجَدُ، وَيَأْمُرُ بِأَشْيَاءَ فَلَا تُوجَدُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ حَالِهِ؛ قِيلَ لِمُحَمَّدٍ: {فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} [الأعراف: 2]، وَأُعِينَ عَلَى امْتِثَالِ النَّهْيِ بِخَلْقِ الْقُدْرَةِ لَهُ عَلَيْهِ؛ كَمَا فَعَلَ بِهِ فِي سَائِرِ التَّكْلِيفَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْحَرَجُ: هُوَ الضِّيقُ. وَقِيلَ: هُوَ الشَّكُّ. وَقِيلَ: هُوَ التَّبَرُّمُ؛ وَإِلَى الْأَوَّلِ يَرْجِعُ؛ فَإِنْ كَانَ هُوَ الشَّكُّ فَقَدْ أَنَارَ اللَّهُ فُؤَادَهُ بِالْيَقِينِ، وَإِنْ كَانَ التَّبَرُّمُ فَقَدْ حَبَّبَ اللَّهُ إلَيْهِ الدِّينَ، وَإِنْ كَانَ الضِّيقُ فَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ قَلْبَهُ بِالْعُلُومِ، وَشَرَحَ صَدْرَهُ بِالْمَعَارِفِ، وَذَلِكَ مِمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ، وَخَفَّفَ عَلَيْهِ ثِقَلَ الْعِبَادَةِ حَتَّى جُعِلَتْ قُرَّةَ عَيْنِهِ فِي الصَّلَاةِ

الآية الثانية قوله تعالى اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء

فَكَانَ يَقُولُ: «أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالٌ». وَمِنْ تَمَامِ النِّيَّةِ فِي الْعِبَادَةِ النَّشَاطُ إلَيْهَا وَالْخِفَّةُ إلَى فِعْلِهَا، وَخُصُوصًا الصُّبْحَ وَالْعِشَاءَ؛ فَهُمَا أَثْقَلُ الصَّلَوَاتِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ حَسْبَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَذَكَرَ مِنْ حَدِيثِ: أَنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ أَثْقَلُ الصَّلَوَاتِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الرُّكَبِ». وَلَيْسَ يَخْلُو أَحَدٌ عَنْ وُجُودِ الثِّقَلِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ تَكْلِيفًا، بَيْدَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَحْتَمِلُهُ وَيَخْرُجُ بِالْفِعْلِ عَنْهُ، وَالْمُنَافِقُ يُسْقِطُهُ. فَإِنْ قِيلَ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَالْعَاصِي إذَا أَسْقَطَهُ أَمُنَافِقٌ هُوَ؟ قُلْنَا: لَا، وَلَكِنَّهُ فَاعِلٌ فِعْلَ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ» أَيْ فَعَلَ فِعْلَ الْكُفَّارِ فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ: [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ] َ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3].

الآية الثالثة قوله تعالى يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد

فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: مَعْنَاهُ أَحِلُّوا حَلَالَهُ وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ، وَامْتَثِلُوا أَمْرَهُ، وَاجْتَنِبُوا نَهْيَهُ، وَاسْتَبِيحُوا مُبَاحَهُ، وَارْجُوا وَعْدَهُ، وَخَافُوا وَعِيدَهُ، وَاقْتَضُوا حُكْمَهُ، وَانْشُرُوا مِنْ عِلْمِهِ عِلْمَهُ، وَاسْتَجْسُوا خَبَايَاهُ، وَلِجُوا زَوَايَاهُ، وَاسْتَثِيرُوا جَاثِمَهُ؛ وَفُضُّوا خَاتَمَهُ، وَأَلْحِقُوا بِهِ مُلَائِمَهُ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: بِاتِّبَاعِ مَا يُؤْثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ عَارَضَهُ إذَا وَضَّحَ مَسْلَكَهُ؛ فَتَارَةً يَكُونُ نَاسِخًا لَهُ، وَأُخْرَى خَاصًّا وَمُتَمِّمًا فِي حُكْمٍ عَلَى طُرُقِ مَوَارِدِهِ الْمَعْلُومَةِ، بِشُرُوطِهَا الْمَحْصُورَةِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ] ٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]. فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي نُزُولِهَا: قِيلَ: إنَّهَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً، أُمِرُوا بِاللِّبَاسِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالزَّجَّاجُ: نَزَلَتْ فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَهَذَا لَيْسَ يُدَافِعُ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانَةً فَتَقُولُ: مَنْ تُعِيرُنِي تِطْوَافًا؟ فَتَجْعَلُهُ عَلَى فَرْجِهَا وَتَقُولُ:

الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ ... وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ جَهْمٌ مِنْ الْجَهْمِ عَظِيمٌ ظِلُّهُ ... كَمْ مِنْ لَبِيبٍ عَقْلُهُ يُضِلُّهُ وَنَاظِرٍ يَنْظُرُ مَا يَمَلُّهُ فَنَزَلَتْ: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ هِيَ ضُبَاعَةُ بِنْتُ عَامِرِ بْنُ قُرْطٍ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرَاةً، إلَّا الْحُمْسَ: قُرَيْشٌ وَأَحْلَافُهُمْ، فَمَنْ جَاءَ مِنْ غَيْرِهِمْ وَضَعَ ثِيَابَهُ وَطَافَ فِي ثَوْبٍ أَحْمَسِيٍّ، فَيَحِلُّ أَنْ يَلْبَسَ ثِيَابَهُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُعِيرُهُ مَا يَلْبَسُ مِنْ الْحُمْسِ فَإِنَّهُ يُلْقِي ثَوْبَهُ وَيَطُوفُ عُرْيَانًا، وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ ثِيَابُهُ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْسَلَ أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ». فَنُودِيَ بِهَا فِي الْمَوْسِمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي سَبَبِ فِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ لِذَلِكَ: إنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ رَأَتْ رَأْيًا تَكِيدُ بِهِ الْعَرَبَ، فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ؛ لَا تُعَظِّمُوا شَيْئًا مِنْ الْبُلْدَانِ كَتَعْظِيمِ حَرَمِكُمْ، فَتَزْهَدَ الْعَرَبُ؛ فِي حَرَمِكُمْ إذَا رَأَوْكُمْ قَدْ عَظَّمْتُمْ مِنْ الْبُلْدَانِ غَيْرَهُ كَتَعْظِيمِهِ، فَعَظِّمُوا أَمْرَكُمْ فِي الْعَرَبِ؛ فَإِنَّكُمْ وُلَاةُ الْبَيْتِ وَأَهْلُهُ دُونَ النَّاسِ؛ فَوَضَعُوا لِذَلِكَ الْأَمْرِ أَنْ قَالُوا: نَحْنُ أَهْلُ الْحَرَمِ، فَلَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُعَظِّمَ غَيْرَهُ، وَلَا نَخْرُجَ مِنْهُ؛ فَكَانُوا يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ دُونَ عَرَفَةَ؛ لِأَنَّهَا خَارِجٌ مِنْ الْحَرَمِ، وَكَانَتْ سُنَّةَ إبْرَاهِيمَ وَعَهْدًا مِنْ عَهْدِهِ، ثُمَّ قَالُوا: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ الْعَرَبِ أَنْ يَطُوفَ إلَّا فِي ثِيَابِنَا، وَلَا يَأْكُلَ إذَا دَخَلَ أَرْضَنَا إلَّا مِنْ طَعَامِنَا، وَلَا يَأْكُلَ الْأَقِطَ، وَلَا يَسْتَظِلَّ بِالْأَدَمِ إلَّا الْحُمْسُ، وَهُمْ قُرَيْشٌ، وَمَا وَلَدَتْ مِنْ الْعَرَبِ وَمَنْ كَانَ يَلِيهَا مِنْ حُلَفَائِهَا مِنْ بَنِي كِنَانَةَ؛ فَكَانَ الرَّجُلُ مِنْ الْعَرَبِ أَوْ الْمَرْأَةُ يَأْتِيَانِ حَاجَّيْنِ، حَتَّى إذَا أَتَيَا الْحَرَمَ وَضَعَا ثِيَابَهُمَا وَزَادَهُمَا، وَحَرُمَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَدْخُلَا مَكَّةَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ: فَإِنْ كَانَ لِأَحَدٍ

مسألة ستر العورة في الصلاة

مِنْهُمْ صَدِيقٌ مِنْ الْحُمْسِ اسْتَعَارَ مِنْ ثِيَابِهِ وَطَافَ بِهَا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ صَدِيقٌ مِنْهُمْ، وَكَانَ لَهُ يَسَارٌ اسْتَأْجَرَ مِنْ رَجُلٍ مِنْ الْحُمْسِ ثِيَابَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ صَدِيقٌ وَلَا يَسَارٌ يَسْتَأْجِرُ بِهِ كَانَ بَيْنَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا، وَإِمَّا أَنْ يَتَكَرَّمَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا فَيَطُوفَ فِي ثِيَابِهِ؛ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ أَلْقَى ثَوْبَهُ عَنْهُ، فَلَمْ يَمَسَّهُ، وَلَمْ يَمَسَّهُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ؛ فَكَانَ ذَلِكَ الثَّوْبُ يُسَمَّى اللَّقَى قَالَ قَائِلٌ مِنْ الْعَرَبِ: كَفَى حَزَنًا كَرِّي عَلَيْهِ كَأَنَّهُ ... لَقًى بَيْنَ أَيْدِي الطَّائِفِينَ حَرِيمُ وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةٌ وَلَمْ تَجِدْ مَنْ يُعِيرُهَا وَلَا كَانَ لَهَا يَسَارٌ تَسْتَأْجِرُ بِهِ [خَلَعَتْ] ثِيَابَهَا كُلَّهَا إلَّا دِرْعًا مُفْرَدًا، ثُمَّ طَافَتْ فِيهِ؛ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْعَرَبِ كَانَتْ جَمِيلَةً تَامَّةً ذَاتَ هَيْئَةٍ وَهِيَ تَطُوفُ: الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ ... وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ فَكَانُوا عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنْزَلَ فِيمَنْ كَانَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ} [الأعراف: 31] إلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَوَضَعَ اللَّهُ مَا كَانَتْ قُرَيْشٌ ابْتَدَعَتْ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي تَرْكِهِمْ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] يَعْنِي بِذَلِكَ قُرَيْشًا وَمَنْ كَانَ عَلَى دِينِهِمْ. [مَسْأَلَة سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ، هَلْ هِيَ فَرْضٌ فِي الصَّلَاةِ أَمْ مُسْتَحَبَّةٌ؟ فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فَقَالُوا: إنَّهَا فَرْضٌ فِيهَا. وَأَمَّا مَالِكٌ فَالْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِهِ أَنَّهَا فَرْضٌ إسْلَامِيٌّ لَا تَخْتَصُّ بِالصَّلَاةِ؛ وَهُوَ أَشْهَرُ أَقْوَالِنَا. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ مِثْلَ قَوْلِ مَنْ تَقَدَّمَ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِمَا ثَبَتَ مِنْ «أَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ»، وَالْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فَرْضًا إسْلَامِيًّا فَإِنَّهُ يَتَأَكَّدُ فِي الصَّلَاةِ.

مسألة الطواف لا يكون إلا في مسجد واحد

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْعَوْرَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلِ: جَمِيعُ الْبَدَنِ؛ فَيَجِبُ سَتْرُهُ فِي الصَّلَاةِ؛ قَالَهُ أَبُو الْفَرَجِ عَنْهُ. الثَّانِي: أَنَّهَا مِنْ السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ وَلَا خِلَافَ فِيهِ؛ إنَّمَا الْخِلَافُ وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ فِي أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ هَلْ هُوَ عَوْرَةٌ مُثَقَّلَةٌ أَوْ مُخَفَّفَةٌ؟ فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ: إنَّ الْقُبُلَ وَالدُّبُرَ عَوْرَةٌ مُثَقَّلَةٌ، وَالْفَخِذَ عَوْرَةٌ مُخَفَّفَةٌ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْفَخِذَ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ؛ «لِأَنَّهَا ظَهَرَتْ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ جَرَى فِي زُقَاقِ خَيْبَرَ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَصِلُهَا بِأَفْخَاذِ أَصْحَابِهِ، وَلَوْ كَانَتْ عَوْرَةً مَا وَصَلَهَا بِهَا». قَالَ زَيْدٌ: «نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَحْيُ وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي حَتَّى كَادَتْ أَنْ تَرُضَّ فَخِذِي»، أَمَّا إنَّهُ يُكْرَهُ كَشْفُهَا فَإِنَّ مَالِكًا وَغَيْرَهُ قَدْ رَوَى حَدِيثَ جَرْهَدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: «غَطِّ فَخِذَك؛ فَإِنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ»؛ وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ. [مَسْأَلَة الطَّوَافَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ " قَوْله تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ} [الأعراف: 31] وَإِنْ كَانَ وَارِدًا عَلَى طَوَافِ الْعُرْيَانِ، فَإِنَّهُ عِنْدَنَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ لِلصَّلَاةِ؛ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الطَّوَافَ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ. وَاَلَّذِي يَعُمُّ كُلَّ مَسْجِدٍ هُوَ الصَّلَاةُ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ مَقَاصِدُ اللُّغَةِ وَالشَّرِيعَةِ. وَبَيَانُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَطُوفُونَ عُرَاةً فِي الْمَسْجِدِ فَنَزَلَتْ: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، لِيَكُونَ الْعُمُومُ شَامِلًا لِكُلِّ مَسْجِدٍ، وَالسَّبَبُ الَّذِي أَثَارَ ذَلِكَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي أَفْضَلِ الْمَسَاجِدِ، وَالصَّحَابَةُ الَّذِينَ هُمْ أَرْبَابُ اللُّغَةِ وَالشَّرِيعَةِ أَخْبَرُوا بِذَلِكَ، وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِمْ نِظَامُ الْكَلَامِ، وَلَا كَيْفَ كَانَ وُرُودُهُ، اجتزءوا بِوُرُودِ الْآيَةِ وَمَنْحَاهَا، فَلَا مَطْمَعَ لِعَالِمٍ فِي أَنْ يَسْبِقَ شَأْوَهُمْ فِي تَفْسِيرٍ أَوْ تَقْدِيرٍ.

مسألة سقط ثوب إمام فانكشف دبره وهو راكع فرفع رأسه وغطاه

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] قَالَ بَعْضُهُمْ: ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ الْوُرُودُ بِأَخْذِ الزِّينَةِ لِلْفِعْلِ الْوَاقِعِ فِي الْمَسْجِدِ، تَعْظِيمًا لِلْمَسْجِدِ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ السَّتْرِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ، فَزَادَ النَّاسُ، فَقَالُوا: " هَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْفِعْلِ لِلْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ بِالسَّتْرِ فِي الْمَسْجِدِ لِبَيْنِ الْمَسْجِدِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِلْفِعْلِ الْوَاقِعِ فِي الْمَسْجِدِ. وَالْفِعْلُ الْوَاقِعُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: طَوَافٍ، وَلَا يَعُمُّ كُلَّ مَسْجِدٍ وَاعْتِكَافٍ، وَلَمْ يَشْرُفْ لِأَجْلِهِ؛ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الصَّلَاةُ؛ وَقَدْ أُلْزِمَ السَّتْرَ لَهَا، فَكَانَ ذَلِكَ شَرْطًا فِيهَا. وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى سُقُوطِ مَا زَادَ عَلَى الْعَوْرَةِ، وَبَقِيَ مَا قَابَلَ الْعَوْرَةَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ هَذَا مِنْ قَبْلُ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالزِّينَةِ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ مَا فِيهِ مِنْ اجْتِمَاعِ النَّاسِ. فَإِنْ قِيلَ: وَيَجْتَمِعُونَ فِي الْأَسْوَاقِ. قُلْنَا: لَيْسَ ذَلِكَ اجْتِمَاعًا مَشْرُوعًا؛ بَلْ يَجُوزُ تَفَرُّقُهُمْ. وَهَا هُنَا إنْ تَفَرَّقُوا فِي الْمَسَاجِدِ كَانَ ذَلِكَ قَطْعًا لِلْجَمَاعَةِ، وَخَرْقًا لِلصُّفُوفِ؛ إذْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ، وَلَا الْمَرْأَةُ إلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ». خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الطَّوَافَ لَا يَعُمُّ كُلَّ مَسْجِدٍ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ. [مَسْأَلَة سَقَطَ ثَوْبُ إمَامٍ فَانْكَشَفَ دُبُرُهُ وَهُوَ رَاكِعٌ فَرَفَعَ رَأْسَهُ وَغَطَّاهُ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إذَا قُلْنَا: إنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فَرْضٌ فِي الصَّلَاةِ فَسَقَطَ ثَوْبُ إمَامٍ فَانْكَشَفَ دُبُرُهُ، وَهُوَ رَاكِعٌ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ وَغَطَّاهُ أَجْزَأَهُ؛ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ.

مسألة عورة المرأة

وَقَالَ سَحْنُونٌ: وَكُلُّ مَنْ نَظَرَ إلَيْهِ مِنْ الْمَأْمُومِينَ أَعَادَ. وَقَدْ رَوَى سَحْنُونٌ أَنَّهُ يُعِيدُ، وَيُعِيدُونَ؛ لِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا بَطَلَ بَطَلَتْ الصَّلَاةُ أَصْلُهُ الطَّهَارَةُ. فَهَذَا طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ النَّظَرِ. وَأَمَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ صَلَاتَهُمْ لَا تَبْطُلُ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَفْقِدُوا شَرْطًا. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنْ أَخَذَهُ مَكَانَهُ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَتَبْطُلُ صَلَاةُ مَنْ نَظَرَ إلَيْهِ، فَصَحِيفَةٌ يَجِبُ مَحْوُهَا، وَلَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إذَا صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ أَوْ كَانَ إمَامًا فَلَا يُصَلِّي إلَّا بِرِدَائِهِ أَوْ شَيْءٍ يَجْعَلُهُ عَلَى مَنْكِبِهِ، وَلَوْ طَرَفَ عِمَامَةٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الزِّينَةِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهَا عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، وَكَذَلِكَ قَالَتْ طَائِفَةٌ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إنَّهُ يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ؛ وَقَدْ رَوَى أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] قَالُوا: «صَلُّوا فِي النِّعَالِ»، وَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ. [مَسْأَلَة عَوْرَةُ الْمَرْأَةِ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: هَذَا خِطَابٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إلَّا أَنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي الْعَوْرَةِ، فَعَوْرَةُ الرَّجُلِ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَعَوْرَةُ الْمَرْأَةِ جَمِيعُ بَدَنِهَا إلَّا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا، وَفِي الْمُصَنِّفِينَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُقْبَلُ صَلَاةُ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ». وَهَذَا فِي الْحُرَّةِ؛ ثَبَتَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ «أَنَّهَا

مسألة معنى قوله تعالى وكلوا واشربوا ولا تسرفوا

سَأَلَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتُصَلِّي الْمَرْأَةُ فِي دِرْعٍ وَخِمَارٍ لَيْسَ عَلَيْهَا إزَارٌ؟ قَالَ: إذَا كَانَ الدِّرْعُ سَابِغًا يُغَطِّي ظُهُورَ قَدَمَيْهَا»، فَأَمَّا الْأَمَةُ فَإِنَّهَا تُصَلِّي كَمَا تَمْشِي حَاسِرَةَ الرَّأْسِ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: تَسْتُرُ فِي الصَّلَاةِ مَا يَسْتُرُ الرَّجُلُ، حَتَّى لَوْ انْكَشَفَ بَطْنُهَا لَمْ يَضُرَّهَا. وَقَالَ أَصْبَغُ: إنْ انْكَشَفَتْ فَخِذُهَا أَعَادَتْ فِي الْوَقْتِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] الْإِسْرَافُ: تَعَدِّي الْحَدِّ؛ فَنَهَاهُمْ عَنْ تَعَدِّي الْحَلَالِ إلَى الْحَرَامِ. وَقِيلَ: أَلَّا يَزِيدُوا عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَقِيلَ: هُوَ حَرَامٌ. وَقِيلَ: هُوَ مَكْرُوهٌ؛ وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ فَإِنَّ قَدْرَ الشِّبَعِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَسْنَانِ وَالطَّعْمَانِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ لِرَجُلٍ كَافِرٍ بِحِلَابِ سَبْعِ شِيَاهٍ، فَشَرِبَهَا ثُمَّ آمَنَ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ حَلْبِ شَاةٍ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ»؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَلْبَ لَمَّا تَنَوَّرَ بِالتَّوْحِيدِ نَظَرَ إلَى الطَّعَامِ بِعَيْنِ التَّقْوَى عَلَى الطَّاعَةِ، فَأَخَذَ مِنْهُ قَدْرَ الْحَاجَةِ، وَحِينَ كَانَ مُظْلِمًا بِالْكُفْرِ كَانَ أَكْلُهُ كَالْبَهِيمَةِ تَرْتَعُ حَتَّى تَثْلِطَ.

الآية الرابعة والخامسة قوله تعالى قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده

وَقَدْ قَالَ بَعْضُ شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ: إنَّ الْأَمْعَاءَ السَّبْعَةَ كِنَايَةٌ عَنْ أَسْبَابٍ سَبْعَةٍ يَأْكُلُ بِهَا النَّهِمُ: يَأْكُلُ لِلْحَاجَةِ، وَالْخَبَرِ، وَالنَّظَرِ، وَالشَّمِّ، وَاللَّمْسِ، وَالذَّوْقِ، وَيَزِيدُ اسْتِغْنَامًا. وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الرَّابِعَة وَالْخَامِسَة قَوْله تَعَالَى قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ] الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {زِينَةَ اللَّهِ} [الأعراف: 32] فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلِ: سَتْرُ الْعَوْرَةِ؛ إذْ كَانَتْ الْعَرَبُ تَطُوفُ عُرَاةً؛ إذْ كَانَتْ لَا تَجِدُ مَنْ يُعِيرُهَا مِنْ الْحُمْسِ. الثَّانِي: جَمَالُ الدُّنْيَا فِي ثِيَابِهَا وَحُسْنُ النَّظْرَةِ فِي مَلَابِسِهَا وَلَذَّاتِهَا. الثَّالِثِ: جَمْعُ الثِّيَابِ عِنْدَ السِّعَةِ فِي الْحَالِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: إذَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَوْسِعُوا. جَمَعَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ، وَصَلَّى رَجُلٌ فِي إزَارٍ أَوْ رِدَاءٍ، فِي إزَارٍ وَقَمِيصٍ، فِي إزَارٍ وَقَبَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَرِدَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَمِيصٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَبَاءٍ، فِي تُبَّانٍ وَقَبَاءٍ، فِي تُبَّانٍ وَقَمِيصٍ. وَأَحْسِبُهُ قَالَ فِي تُبَّانٍ وَرِدَاءٍ. وَالتُّبَّانُ: ثَوْبٌ يُشْبِهُ السَّرَاوِيلَ فَسَّرَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْقَالِي كَذَلِكَ، وَعَلَيْهِ نُقِلَ الْحَدِيثُ؛ فَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِنْهُ، فَكَثِيرًا مَا يُفَسِّرُ الْأَعْرَابِيُّونَ مِنْ لَحْنِ الْحَدِيثِ مَا لَمْ يَجِدُوهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي امْتَنَّ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا} [الأعراف: 26] وَهِيَ: الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَلَوْلَا وُجُوبُ سَتْرِهَا مَا وَقَعَ الِامْتِنَانُ بِاللِّبَاسِ الَّذِي يُوَارِيهَا.

مسألة معنى الطيبات من الرزق

فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا وَقَعَ الِامْتِنَانُ فِي سَتْرِهَا لِقُبْحِ ظُهُورِهَا. قُلْنَا: مَاذَا يُرِيدُونَ بِهَذَا الْقُبْحِ؟ أَيُرِيدُونَ بِهِ قُبْحًا عَقْلًا، فَنَحْنُ لَا نُقَبِّحُ بِالْعَقْلِ، وَلَا نُحَسِّنُ؛ وَإِنَّمَا الْقَبِيحُ عِنْدَنَا مَا قَبَّحَهُ الشَّرْعُ، وَالْحَسَنُ، مَا حَسَّنَهُ الشَّرْعُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى الطَّيِّبَات مِنْ الرِّزْقِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] قِيلَ: هِيَ الْحَلَالُ. وَقِيلَ: هِيَ اللَّذَّاتُ، وَكُلُّ لَذَّةٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً فَإِنْ اسْتِدَامَتَهَا وَالِاسْتِرْسَالَ عَلَيْهَا مَكْرُوهٌ، وَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الأعراف: 32]: يَعْنِي بِحَقِّهَا مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَالتَّصْدِيقِ لَهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُنْعِمُ وَيَرْزُقُ؛ فَإِنْ وَحَّدَهُ الْمُنْعَمُ عَلَيْهِ وَصَدَّقَهُ فَقَدْ قَامَ بِحَقِّ النِّعْمَةِ، وَإِنْ كَفَرَ فَقَدْ أَمْكَنَ الشَّيْطَانَ مِنْ نَفْسِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَا أَحَدَ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى مِنْ اللَّهِ، يُعَاقِبُهُمْ وَيَرْزُقُهُمْ وَهُمْ يَدَّعُونَ لَهُ الصَّاحِبَةَ وَالْوَلَدَ». الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى " {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32] يَعْنِي: أَنَّ الْكُفَّارَ يَشْرَكُونَ الْمُؤْمِنِينَ فِي اسْتِعْمَالِ الطَّيِّبَاتِ فِي الدُّنْيَا. فَإِذَا كَانَ فِي الْقِيَامَةِ خَلَصَتْ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي النَّعِيمِ، وَكَانَ لِلْكُفَّارِ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ. [الْآيَة السَّادِسَة قَوْله تَعَالَى قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ] الْآيَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَ الْفَوَاحِشِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَأَمَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَإِنَّ كُلَّ فَاحِشَةٍ ظَاهِرَةٍ لِلْأَعْيُنِ، أَوْ ظَاهِرَةٍ بِالْأَدِلَّةِ، كَمَا وَرَدَ النَّصُّ فِيهِ أَوْ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ، أَوْ قَامَ الدَّلِيلُ الْجَلِيُّ بِهِ، فَيَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ الظَّاهِرَةِ. وَالْبَاطِنَةُ كُلُّ مَا خَفِيَ عَنْ الْأَعْيُنِ، وَيُقْصَدُ بِهِ الِاسْتِتَارُ عَنْ الْخَلْقِ؛ أَوْ خَفِيَ بِالدَّلِيلِ؛ كَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَالنَّبِيذِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي الصِّنْفَيْنِ؛ فَإِنَّ النَّبِيذَ وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا فِيهِ فَإِنَّ تَحْرِيمَهُ جَلِيٌّ فِي الدَّلِيلِ، قَوِيٌّ فِي التَّأْوِيلِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَا أَحَدَ أَغْيَرَ مِنْ اللَّهِ». وَلِذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: الْإِثْمَ: وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الذَّمِّ الْوَارِدِ فِي الْفِعْلِ، أَوْ الْوَعِيدِ الْمُتَنَاوِلِ لَهُ؛ فَكُلُّ مَذْمُومٍ شَرْعًا أَوْ فِعْلٍ وَارِدٍ عَلَى الْوَعِيدِ فِيهِ، فَإِنَّهُ مُحَرَّمٌ وَهُوَ حَدُّ الْمُحَرَّمِ وَحَقِيقَتُهُ. وَأَمَّا الْبَغْيُ، وَهُوَ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ الْبَغْيُ: فَهُوَ تَجَاوُزُ الْحَدِّ. وَوَجْهُ ذِكْرِهِمَا بَعْدَ دُخُولِهِمَا فِي جُمْلَةِ الْفَوَاحِشِ لِلتَّأْكِيدِ لِأَمْرِهِمَا بِالِاسْمِ الْخَاصِّ بَعْدَ دُخُولِهِمَا فِي الِاسْمِ الْعَامِّ قَصْدَ الزَّجْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] فَذَكَرَ النَّخْلَ وَالرُّمَّانَ بِالِاسْمِ الْخَاصِّ بَعْدَ دُخُولِهِمَا فِي الِاسْمِ الْعَامِّ عَلَى مَعْنَى الْحَثِّ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] قَالَ قَوْمٌ: إنَّ الْإِثْمَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْخَمْرِ، وَإِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ} [الأعراف: 33] الْخَمْرَ، حَتَّى قَالَ الشَّاعِرُ:

الآية السابعة قوله تعالى ادعوا ربكم تضرعا وخفية

شَرِبْت الْإِثْمَ حَتَّى زَالَ عَقْلِي ... كَذَاك الْإِثْمُ يَذْهَبُ بِالْعُقُولِ وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: شَرِبْت الذَّنْبَ، أَوْ شَرِبْت الْوِزْرَ، لَكَانَ كَذَلِكَ، وَلَمْ يُوجِبْ قَوْلُهُ أَنْ يَكُونَ الْوِزْرُ وَالذَّنْبُ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ الْخَمْرِ، كَذَلِكَ هَذَا. وَاَلَّذِي أَوْجَبَ التَّكَلُّمَ بِمِثْلِ هَذَا الْجَهْلِ بِاللُّغَةِ وَبِطَرِيقِ الْأَدِلَّةِ فِي الْمَعَانِي. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [الْآيَة السَّابِعَة قَوْله تَعَالَى اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً] ً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْأَصْلُ فِي الْأَعْمَالِ الْفَرْضِيَّةِ الْجَهْرُ، وَالْأَصْلُ فِي الْأَعْمَالِ النَّفْلِيَّةِ السِّرُّ؛ وَذَلِكَ لِمَا يَتَطَرَّقُ إلَى النَّفْلِ مِنْ الرِّيَاءِ وَالتَّظَاهُرِ بِهَا فِي الدُّنْيَا، وَالتَّفَاخُرِ عَلَى الْأَصْحَابِ بِالْأَعْمَالِ، وَجُبِلَتْ قُلُوبُ الْخَلْقِ بِالْمَيْلِ إلَى أَهْلِ الطَّاعَةِ، وَقَدْ جَعَلَ الْبَارِي سُبْحَانَهُ فِي الْعِبَادَاتِ ذِكْرًا جَهْرًا وَذِكْرًا سِرًّا، بِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ أَنْشَأَهَا بِهَا وَرَتَّبَهَا عَلَيْهَا؛ وَذَلِكَ لِمَا عَلَيْهِ قُلُوبُ الْخَلْقِ مِنْ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَّا الذِّكْرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ فَانْقَسَمَ حَالُهُ إلَى سِرٍّ وَجَهْرٍ، وَأَمَّا الدُّعَاءُ فَلَمْ يُشْرَعْ مِنْهُ شَيْءٌ جَهْرًا؛ لَا فِي حَالَةِ الْقِيَامِ وَلَا فِي حَالَةِ الرُّكُوعِ، وَلَا فِي حَالَةِ السُّجُودِ؛ لَكِنْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِ قَارِئِ الْفَاتِحَةِ: (آمِينْ) هَلْ يُسِرُّ بِهَا أَمْ يَجْهَرُ؟ وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَفِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [الْآيَة الثَّامِنَة قَوْله تَعَالَى لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلَى قَوْمِهِ] ِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 59]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: نُوحٌ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ بَعْدَ آدَمَ بِتَحْرِيمِ الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ وَسَائِرِ الْفَرَائِضِ؛ كَذَلِكَ فِي صَحِيحِ الْأَثَرِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمَنْ قَالَ مِنْ الْمُؤَرِّخِينَ: إنَّ إدْرِيسَ كَانَ قَبْلَهُ فَقَدْ وَهِمَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ وَهْمِهِ فِي اتِّبَاعِهِ صُحُفَ الْيَهُودِ، وَكُتُبَ الإسرائليات الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ «فِي الْإِسْرَاءِ، حِينَ لَقِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آدَمَ وَإِدْرِيسَ، فَقَالَ لَهُ آدَم: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَالِابْنِ الصَّالِحِ. وَقَالَ لَهُ إدْرِيسُ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ». وَلَوْ كَانَ إدْرِيسُ أَبًا لِنُوحٍ عَلَى صُلْبِ مُحَمَّدٍ لَقَالَ لَهُ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ. فَلَمَّا قَالَ لَهُ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجْتَمِعُ مَعَهُ فِي أَبِيهِمْ نُوحٍ، وَلَا كَلَامَ لِمُنْصِفٍ بَعْدَ هَذَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ أَنَّ نُوحًا سُمِّيَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ نَاحَ عَلَى قَوْمِهِ، وَأَكْثَرُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ مَعَهُمْ، وَالنَّوْحُ هُوَ الْبُكَاءُ عَلَى الْمَيِّتِ، وَكَانُوا مَوْتَى فِي أَدْيَانِهِمْ لِعَدَمِ إجَابَتِهِمْ دُعَاءَهُ لَهُمْ إلَى الْإِيمَانِ، وَإِبَايَتِهِمْ عَنْ قَبُولِهِمْ لِلتَّوْحِيدِ؛ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ الِاشْتِقَاقُ يُعَضِّدُهُ مِنْ وَجْهٍ فَإِنَّهُ يَرُدُّهُ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَسْمَاءِ قَبْلَ إسْمَاعِيلَ لَمْ تَكُنْ عَرَبِيَّةً. أَمَّا إنَّ ذِكْرَ الْعُلَمَاءِ لِذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَسْأَلَةٍ؛ وَهِيَ جَوَازُ اشْتِقَاقِ الْأَسْمَاءِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي يَتَكَسَّبُونَهَا، إذَا لَمْ تَكُنْ عَلَى طَرِيقِ الذَّمِّ، «وَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ كَنَّى الدَّوْسِيَّ مِنْ أَصْحَابِهِ بِهِرَّةٍ كَانَ يَكْتَسِبُ لُزُومَهَا مَعَهُ، وَدَعَاهُ لِذَلِكَ بِأَبِي هُرَيْرَةَ»، فِي أَمْثَالٍ لِهَذَا كَثِيرَةٍ مِنْ آثَارِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ نَبَّهْنَا عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: وَأَيُّ مَدْحٍ فِي لُزُومِ الْهِرَّةِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ وَالطَّوَّافَاتِ يَصْغَى لَهَا الْإِنَاءُ، وَلَا تُفْسِدُ الْمَاءَ إذَا وَلَغَتْ فِيهِ، وَفِيهَا مَنْفَعَةٌ عَظِيمَةٌ تَكُفُّ إذَايَةَ الْفَأْرِ، وَمَا يُؤْذِي الْإِنْسَانَ مِنْ الْحَشَرَاتِ.

الآية التاسعة قوله تعالى ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: الطُّوفَانُ الْمَاءُ، وَالْجَرَادُ كَانَ يَأْكُلُ الْمَسَامِيرَ، وَإِنَّ سَفِينَةَ نُوحٍ أَتَتْ الْبَيْتَ فِي جَرَيَانِهَا فَطَافَتْ بِهِ سَبْعًا. وَإِنَّمَا قَالَ مَالِكٌ هَذَا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْمُفَسِّرِينَ رَوَتْ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ الطُّوفَانَ هُوَ الْمَوْتُ». وَحَقِيقَةُ الطُّوفَانِ وَهُوَ الثَّانِي أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِنْ طَافَ، أَوْ جَمْعٌ، وَاحِدَتُهُ طُوفَانَةٌ، فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: {فَطَافَ عَلَيْهَا} [القلم: 19] الْآيَةَ. . [الْآيَة التَّاسِعَة قَوْله تَعَالَى وَلُوطًا إذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ] َ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 80]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْفَاحِشَةُ: قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا؛ وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةَ، وَهِيَ إتْيَانُ الرِّجَالِ بِاسْمِ الْفَاحِشَةِ لِيُبَيِّنَ أَنَّهَا زِنًا، كَمَا قَالَ: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء: 32]. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَمَّا ارْتَكَبُوا هَذِهِ الْفَاحِشَةَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ جَزَاءً عَلَى فِعْلِهِمْ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُعَزَّرُ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ. الثَّانِي: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ: يُحَدُّ حَدُّ الزَّانِي، مُحْصَنًا بِجَزَائِهِ وَبِكْرًا بِجَزَائِهِ.

الثَّالِثُ: قَالَ مَالِكٌ: يُرْجَمُ أَحْصَنَ أَوْ لَمْ يُحْصَنْ؛ وَقَالَهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَالنَّخَعِيُّ وَعَطَاءٌ وَجَمَاعَةٌ. أَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ يُعَزَّرُ فَتَعَلَّقَ بِأَنَّ هَذَا لَمْ يَزْنِ، وَعُقُوبَةُ الزَّانِي مَعْلُومَةٌ؛ فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمَعْصِيَةُ غَيْرَهَا وَجَبَ أَلَّا يُشَارِكَهَا فِي حَدِّهَا. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ زِنًا فَنَحْنُ الْآنَ نُثْبِتُهُ مَعَ الشَّافِعِيِّ رَدًّا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي يَجْعَلُهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَطْءِ بَيْنَ الْفَخِذَيْنِ، فَيَقُولُ: قَدْ بَيَّنَّا مُسَاوَاتَهُ لِلزِّنَا فِي الِاسْمِ، وَهِيَ الْفَاحِشَةُ، وَهِيَ مُشَارَكَةٌ لَهُ فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى مُحَرَّمٌ شَرْعًا، مُشْتَهًى طَبْعًا؛ فَجَازَ لَهُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْحَدُّ إذَا كَانَ مَعَهُ إيلَاجٌ وَهَذَا الْفِقْهُ صَحِيحٌ. وَذَلِكَ أَنَّ الْحَدَّ لِلزَّجْرِ عَنْ الْمَوْضِعِ الْمُشْتَهَى، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى كَامِلًا؛ بَلْ هَذَا أُحْرَمُ وَأَفْحَشُ؛ فَكَانَ بِالْعُقُوبَةِ أَوْلَى وَأَحْرَى. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا وَطْءٌ فِي فَرْجٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إحْلَالٌ وَلَا إحْصَانٌ، وَلَا وُجُوبُ مَهْرٍ، وَلَا ثُبُوتُ نَسَبٍ؛ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَدٌّ. قُلْنَا: هَذَا بَيَانٌ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ؛ فَإِنَّ بَقَاءَ هَذِهِ الْمَعَانِي فِيهِ لَا يُلْحِقُهُ بِوَطْءِ الْبَهِيمَةِ، إنَّمَا يُعَظِّمُ أَمْرَهُ عَلَى الْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ تَعْظِيمًا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ فِيهِ، أَحْصَنَ أَوْ لَمْ يُحْصِنْ؛ أَلَا تَرَى إلَى عُقُوبَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ مَا أَعْظَمَهَا. فَإِنْ قِيلَ: عُقُوبَةُ اللَّهِ لَا حُجَّةَ فِيهَا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْمَ لُوطٍ إنَّمَا عُوقِبُوا عَلَى الْكُفْرِ. الثَّانِي: أَنَّ صَغِيرَهُمْ وَكَبِيرَهُمْ دَخَلَ فِيهَا. فَدَلَّ عَلَى خُرُوجِهَا عَنْ بَابِ الْحُدُودِ. فَالْجَوَابُ أَنَّا نَقُولُ: أَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ اللَّهَ عَاقَبَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ لِهَذَا غَلَطٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مَعَاصٍ فَأَخَذَهُمْ مِنْهَا بِهَذِهِ، أَلَا تَسْمَعُهُ يَقُولُ: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 165] {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء: 166]. قَالُوا لَهُ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَنَفْعَلَنَّ بِك يَا لُوطُ، فَفَعَلَ اللَّهُ بِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ. الثَّانِي: أَنَّهُ إنَّمَا أَخَذَ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ؛ لِسُكُوتِ الْجُمْلَةِ عَلَيْهِ وَالْجَمَاهِيرِ؛ فَكَانَ مِنْهُمْ

الآية العاشرة قوله تعالى ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها

فَاعِلٌ، وَكَانَ مِنْهُمْ رَاضٍ؛ فَعُوقِبَ الْجَمِيعُ، وَبَقِيَ الْأَمْرُ فِي الْعُقُوبَةِ عَلَى الْفَاعِلِينَ مُسْتَمِرًّا. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ». فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ قَدْ أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوا الْبَهِيمَةَ». قُلْنَا: هَذَا الْحَدِيثُ مَتْرُوكٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ إذَا سَقَطَ حَدِيثٌ بِالْإِجْمَاعِ أَنْ يَسْقُطَ مَا لَمْ يُجْمَعْ عَلَيْهِ. [الْآيَة الْعَاشِرَة قَوْله تَعَالَى وَلَا تبخسوا النَّاس أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إصْلَاحِهَا] قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 85]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْبَخْسُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ هُوَ النَّقْصُ بِالتَّعْيِيبِ وَالتَّزْهِيدِ، أَوْ الْمُخَادَعَةِ عَنْ الْقِيمَةِ، أَوْ الِاحْتِيَالِ فِي التَّزَيُّدِ فِي الْكَيْلِ أَوْ النُّقْصَانِ مِنْهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إنَّمَا أَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْأَمْوَالِ بِالْأَكْلِ بِالْحَقِّ، وَالتَّعَامُلِ بِالصِّدْقِ، وَطَلَبِ التِّجَارَةِ بِذَلِكَ، فَمَتَى خَرَجَ عَنْ يَدِ أَحَدٍ شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ بِعِلْمِهِ لِأَخِيهِ فَقَدْ أَكَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يُرْضِي اللَّهَ وَيَرْتَضِيهِ؛ وَإِنْ خَرَجَ شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ عَنْ يَدِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ مِمَّا لَا غِنًى عَنْهُ فِي ارْتِفَاعِ الْأَسْوَاقِ وَانْخِفَاضِهَا عَنْهُ فَإِنَّهُ حَلَالٌ جَائِزٌ بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ إذْ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ؛ فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: إذَا جَرَى ذَلِكَ فِي بَيْعٍ كَانَ صَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَمْضَاهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَآخَرُونَ غَيْرُهُمْ: إنَّهُ لَا رَدَّ فِيهِ. وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ؛ فَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِرَجُلٍ كَانَ يَخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ: إذَا بَايَعْتَ فَقُلْ لَا خِلَابَةَ». وَفِي غَيْرِ الصَّحِيحِ: «وَاشْتَرِطْ الْخِيَارَ ثَلَاثًا». وَفِي رِوَايَةٍ: «وَلَك الْخِيَارُ ثَلَاثًا». فَإِنْ قِيلَ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: كَانَ هَذَا الرَّجُلُ قَدْ أَصَابَتْهُ مَأْمُومَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَثَّرَتْ فِي عَقْلِهِ، فَكَانَ يَخْدَعُ لِأَجْلِ ذَلِكَ فِي بَيْعِهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا قَالَ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْحَالِ، حَتَّى كَانَ يَقُولُ لِمَا أَصَابَهُ: «لَا خِلَابَةَ لَا خِلَابَةَ».

الآية الحادية عشرة قوله تعالى لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف

فَالْجَوَابُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ كَانَ الَّذِي قَالَهُ لَهُ مِنْ حُكْمِهِ لِمَا أَصَابَهُ مِنْ عَقْلِهِ لَمَا جَوَّزَ بَيْعَهُ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْمَعْتُوهِ لَا يَجُوزُ بِخِيَارٍ، وَلَا بِغَيْرِ خِيَارٍ، وَلَكِنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يُصَرِّحَ عَنْ قَوْلِهِ، حَتَّى يَقَعَ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ. [الْآيَة الْحَادِيَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ] قَوْله تَعَالَى: {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 124]. هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلْبَ وَقَطْعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ خِلَافٍ كَانَتْ عُقُوبَةً مُتَأَصِّلَةً عِنْدَ الْخَلْقِ تَلَقَّفُوهَا مِنْ شَرْعٍ مُتَقَدِّمٍ فَحَرَّفُوهَا حَتَّى أَوْضَحَهَا اللَّهُ فِي مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، وَجَعَلَهَا أَعْظَمَ الْعُقُوبَاتِ لِأَعْظَمِ الْإِجْرَامِ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. [الْآيَة الثَّانِيَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ] الْآيَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ: «لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ خَرِبٍ لَدَخَلْتُمُوهُ». وَثَبَتَ أَنَّهُ «قَالَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ لِأَصْحَابِهِ، وَقَدْ قَالُوا لَهُ: اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ. فَقَالَ: هَذَا، كَمَا قَالَ مَنْ قَبْلَكُمْ: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]؛» فَحَذَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتِّبَاعَ الْبِدَعِ، وَأَمَرَ بِإِحْيَاءِ السُّنَنِ، وَحَثَّ عَلَى

مسألة يصوموا ثاني عيد الفطر ستة أيام متواليات إتماما لرمضان

الِاقْتِدَاءِ، وَعَنْ هَذَا قُلْنَا: إنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ زَادَا فِي صِيَامِهِمْ بِعِلَّةٍ رَأَوْهَا، وَجَعَلُوهُ أَكْثَرَ مِنْ الْعَدَدِ الْمَعْرُوفِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ رَجَعَ إلَى بَلَدِهِ بَعْدَ أَنْ حَضَرَ مَعَهُ الْمَوْسِمَ فَصَلَّى مَعَهُ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، فَقِيلَ لَهُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: رَأَيْت أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ يَفْعَلُهُ، فَكَانَ عُثْمَانُ يُتِمُّ فِي السَّفَرِ؛ لِأَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ مُفْسِدًا لِعَقَائِد الْعَامَّةِ، فَرَأَى حِفْظَ ذَلِكَ بِتَرْكِ يَسِيرٍ مِنْ السُّنَّةِ. [مَسْأَلَة يَصُومُوا ثَانِيَ عِيدِ الْفِطْرِ سِتَّةَ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَاتٍ إتْمَامًا لِرَمَضَانَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَأَى قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْجَفَاءِ أَنْ يَصُومُوا ثَانِيَ عِيدِ الْفِطْرِ سِتَّةَ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَاتٍ إتْمَامًا لِرَمَضَانَ، لِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَسِتًّا مِنْ شَوَّالٍ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ» خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَهَذِهِ الْأَيَّامُ مَتَى صِيمَتْ مُتَّصِلَةً كَانَ احْتِذَاءً لِفِعْلِ النَّصَارَى، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُرِدْ هَذَا، إنَّمَا أَرَادَ أَنَّ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ فَهُوَ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ، وَمَنْ صَامَ سِتَّةَ أَيَّامٍ فَهِيَ بِشَهْرَيْنِ " وَذَلِكَ الدَّهْرُ. وَلَوْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ شَوَّالٍ لَكَانَ الْحُكْمُ فِيهَا كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذِكْرِ شَوَّالٍ لَا عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ؛ لِوُجُوبِ مُسَاوَاةِ غَيْرِهَا لَهَا فِي ذَلِكَ؛ وَإِنَّمَا ذَكَرَ شَوَّالَ عَلَى مَعْنَى التَّمْثِيلِ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ النَّظَرِ فَاعْلَمُوهُ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ] الْآيَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142]. فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ضَرْبُ الْأَجَلِ لِلْمَوَاعِيدِ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ وَمَعْنًى قَدِيمٌ أَسَّسَهُ اللَّهُ فِي الْقَضَايَا وَحَكَمَ بِهِ

لِلْأُمَمِ، وَعَرَّفَهُمْ بِهِ مَقَادِيرَ التَّأَنِّي فِي الْأَعْمَالِ، وَإِنَّ أَوَّلَ أَجَلٍ ضَرَبَهُ الْأَيَّامَ السِّتَّةَ الَّتِي مَدَّهَا لِجَمِيعِ الْخَلِيقَةِ فِيهَا، وَقَدْ كَانَ قَادِرًا فِي أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ لَهُمْ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لِشَيْءٍ إذَا أَرَادَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونَ؛ بَيْدَ أَنَّهُ أَرَادَ تَعْلِيمَ الْخَلْقِ التَّأَنِّي وَتَقْسِيمَ الْأَوْقَاتِ عَلَى أَعْيَانِ الْمَخْلُوقَاتِ؛ لِيَكُونَ لِكُلِّ عَمَلٍ وَقْتٌ. وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْقَوْلَ فِيهِ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إذَا ضَرَبَ الْأَجَلَ لِمَعْنًى يُحَاوِلُ فِيهِ تَحْصِيلَ الْمُؤَجَّلِ لِأَجَلِهِ، فَجَاءَ الْأَجَلُ، وَلَمْ يَتَيَسَّرْ زِيدَ فِيهِ تَبْصِرَةً وَمَعْذِرَةً؛ وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَضَرَبَ لَهُ أَجَلًا ثَلَاثِينَ لَيْلَةً، فَخَرَجَ لِوَعْدِ رَبِّهِ، فَزَادَ اللَّهُ عَشْرًا تَتِمَّةَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَأَبْطَأَ مُوسَى فِي هَذِهِ الْعَشْرِ عَلَى قَوْمِهِ، فَمَا عَقَلُوا جَوَازَ التَّأَخُّرِ لِعُذْرٍ حَتَّى قَالُوا: إنَّ مُوسَى ضَلَّ أَوْ نَسِيَ، وَنَكَثُوا عَهْدَهُ، وَبَدَّلُوا بَعْدَهُ، وَعَبَدُوا إلَهًا غَيْرَ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الزِّيَادَةُ الَّتِي لَا تَكُونُ عَلَى الْأَجَلِ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ، كَمَا أَنَّ الْأَجَلَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ بَعْدَ النَّظَرِ إلَى الْمَعَانِي الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَمْرِ؟ مِنْ وَقْتٍ وَحَالٍ وَعَمَلٍ، فَيَكُونُ الْأَجَلُ بِحَسَبِ ذَلِكَ؛ فَإِذَا قَدَّرَ الزِّيَادَةَ بِاجْتِهَادِهِ، فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ تَكُونَ [الزِّيَادَةُ] مِثْلَ ثُلُثِ الْمُدَّةِ السَّالِفَةِ، كَمَا أَجَّلَ اللَّهُ لِمُوسَى فِي الزِّيَادَةِ ثُلُثَ مَا ضَرَبَهُ لَهُ مِنْ الْمُدَّةِ. وَإِنْ رَأَى الْحَاكِمُ أَنْ يَجْمَعَ لَهُ الْأَصْلَ فِي الْأَجَلِ وَالزِّيَادَةِ فِي مُدَّةٍ وَاحِدَةٍ جَازَ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ التَّرَبُّصِ بَعْدَهَا لِمَا يَطْرَأُ مِنْ الْعُذْرِ عَلَى الْبَشَرِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: التَّارِيخُ إنَّمَا يَكُونُ بِاللَّيَالِيِ دُونَ الْأَيَّامِ؛ لِأَنَّ اللَّيَالِيَ أَوَائِلُ الشُّهُورِ، وَبِهَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ تُخْبِرُ عَنْ الْأَيَّامِ، حَتَّى رُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: «صُمْنَا خَمْسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». وَالْعَجَمُ تُخَالِفُنَا ذَلِكَ فَتَحْسِبُ بِالْأَيَّامِ؛ لِأَنَّ مُعَوَّلَهَا عَلَى الشَّمْسِ، وَحِسَابُ

مسألة الأربعين ليلة التي وعدها الله موسى

الشَّمْسِ لِلْمَنَافِعِ، وَحِسَابُ الْقَمَرِ لِلْمَنَاسِكِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142]. [مَسْأَلَة الْأَرْبَعِينَ لَيْلَة الَّتِي وَعَدَهَا اللَّه مُوسَى] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اتَّفَقَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْأَرْبَعِينَ لَيْلَةً هِيَ ذُو الْقَعْدَة وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَكَانَ كَلَامُ اللَّهِ لِمُوسَى غَدَاةَ يَوْمِ النَّحْرِ حِينَ فَدَى إسْمَاعِيلَ مِنْ الذَّبْحِ، وَأَكْمَلَ لِمُحَمَّدٍ الْحَجَّ، وَجَعَلَ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ. وَهَذَا إنْ ثَبَتَ مِنْ طَرِيقِ الْخَبَرِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ثَابِتٍ فَالْأَيَّامُ الْعَشْرُ ذَاتُ فَضْلٍ يُبَيَّنُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْوَقْتُ مَعْنًى غَيْرُ مُقَدَّرٍ، وَالْمِيقَاتُ: هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يُقَدَّرُ بِعَمَلٍ. [الْآيَة الرَّابِعَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ] ٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} [الأعراف: 145]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى " الْقَوْلُ فِي الْحَسَنِ وَالْأَحْسَنِ: قَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الْحَسَنَ مَا وَافَقَ الشَّرْعَ، وَالْقَبِيحَ مَا خَالَفَهُ، وَفِي الشَّرْعِ حَسَنٌ وَأَحْسَنُ، فَقِيلَ: كُلُّ مَا كَانَ أَرْفَقَ فَهُوَ أَحْسَنُ. وَقِيلَ: كُلُّ مَا كَانَ أَحْوَطَ لِلْعِبَادَةِ فَهُوَ أَحْسَنُ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ أَحْسَنَ مَا فِيهَا امْتِثَالُ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابُ النَّوَاهِي. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ «قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأَعْرَابِيِّ حِينَ قَالَ لَهُ: وَاَللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أُنْقِصُ مِنْهُ فَقَالَ: أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ، دَخَلَ الْجَنَّةَ إنْ صَدَقَ». .

مسألة المباح من جملة الحسن في الشريعة

[مَسْأَلَة الْمُبَاحُ مِنْ جُمْلَةِ الْحَسَنِ فِي الشَّرِيعَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُبَاحُ مِنْ جُمْلَةِ الْحَسَنِ فِي الشَّرِيعَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهِ مِنْ الْمَأْمُورَاتِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا حَسَّنَهُ الشَّرْعُ وَأَذِنَ فِيهِ. وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّ الْمُبَاحَ يُمْدَحُ فَاعِلُهُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ، وَلَا يُمْدَحُ فَاعِلُ الْمَكْرُوهِ؛ بَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِي السَّرَفِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَدْخُلُ فِي الْأَحْكَامِ إذَا قُلْنَا: إنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، فَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ الَّتِي لَا تَرَى ذَلِكَ فَلَمْ تُدْخِلْهَا فِي أَحْكَامِهَا، وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا هُنَا مِنْ التَّبَسُّطِ الَّذِي لَا يَحْسُنُ. وَاَلَّذِي يُحَقِّقُ ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا ذَكَرَهَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ حُسْنِ الِاقْتِدَاءِ وَمِنْ سَيِّئِ الِاجْتِنَابِ، وَإِذَا مَدَحَ قَوْمًا عَلَى فِعْلٍ فَهُوَ حَثٌّ عَلَيْهِ، أَوْ ذَمَّهُمْ عَلَى آخَرَ فَهُوَ زَجْرٌ عَنْهُ، وَكُلُّهُ يَدْخُلُ لَنَا فِي الِاهْتِدَاءِ بِالِاقْتِدَاءِ. [الْآيَة الْخَامِسَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا] الْآيَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 150]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَانَ مُوسَى مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ غَضَبًا؛ لَكِنَّهُ كَانَ سَرِيعَ الْفَيْئَةِ، فَتِلْكَ بِتِلْكَ.

قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: كَانَ مُوسَى إذَا غَضِبَ طَلَعَ الدُّخَانُ مِنْ قَلَنْسُوَتِهِ، وَرَفَعَ شَعْرُ بَدَنِهِ جُبَّتَهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ تَتَوَقَّدُ فِي الْقَلْبِ، وَلِأَجْلِهِ «أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ غَضِبَ أَنْ يَضْطَجِعَ، فَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ غَضَبُهُ فَلْيَغْتَسِلْ؟» فَيُخْمِدُهَا اضْطِجَاعُهُ، وَيُطْفِئُهَا اغْتِسَالُهُ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إلَى مُوسَى، فَلَمَّا جَاءَ صَكَّهُ صَكَّةً فَفَقَأَ فِيهَا عَيْنَهُ، فَرَجَعَ إلَى رَبِّهِ، فَقَالَ: أَرْسَلْتنِي إلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ. فَقَالَ: ارْجِعْ إلَيْهِ، فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ. قَالَ: أَيْ رَبِّ، ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: الْمَوْتُ. قَالَ: فَالْآنَ» الْحَدِيثَ. وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ غَضَبِ مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلِذَلِكَ أَلْقَى الْأَلْوَاحَ عِنْدَ رُؤْيَةِ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَمَا أَوْقَعَ الْغَضَبَ هَاهُنَا، وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا مَعْنَى أَخْذِهِ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ؟ قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: كَانَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى ثُمَّ نُسِخَ. الثَّانِي: أَنَّهُ ضَمَّ أَخَاهُ إلَيْهِ لِيَعْلَمَ مَا لَدَيْهِ، فَبَيَّنَ لَهُ أَخُوهُ أَنَّهُمْ اسْتَضْعَفُوهُ، وَكَادُوا يَقْتُلُونَهُ؛ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِمَنْ خَشِيَ الْقَتْلَ عِنْدَ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ أَنْ يَسْكُتَ عَنْهُ وَهِيَ:

الآية السادسة عشرة قوله تعالى الذين يتبعون الرسول النبي الأمي

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْغَضَبَ لَا يُغَيِّرُ الْأَحْكَامَ، كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ النَّاسِ؛ فَإِنَّ مُوسَى لَمْ يُغَيِّرْ غَضَبُهُ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِهِ؛ بَلْ اطَّرَدَتْ عَلَى مَجْرَاهَا، مِنْ إلْقَاءِ لَوْحٍ، وَعِتَابِ أَخٍ، وَصَكِّ مَلَكٍ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ. [الْآيَة السَّادِسَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ] الْآيَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: بَلَغَنِي أَنَّ طَائِفَةً مِنْ الْيَهُودِ نَزَلُوا الْمَدِينَةَ، طَائِفَةُ خَيْبَرَ، وَطَائِفَةُ فَدَكَ لَمَّا كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْ صِفَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُرُوجِهِ فِي أَرْضٍ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ، وَرَجَوْا أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ، فَأَخْلَفَهُمْ اللَّهُ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانُوا يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ قَالَ: «لَقِيت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَسَأَلْته عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّوْرَاةِ قَالَ: أَجَلْ؛ وَاَللَّهِ إنَّهُ لَمَوْصُوفٌ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ يَا أَيُّهَا النَّبِيَّ إنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُك الْمُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ

مسألة معنى قوله قوله تعالى ويضع عنهم إصرهم

الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ، حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؛ وَيَفْتَحَ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا». الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي إدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَتْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مُحَاوَرَةٌ، فَأَغْضَبَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ، فَانْصَرَفَ عَنْهُ عُمَرُ مُغْضَبًا، فَاتَّبَعَهُ أَبُو بَكْرٍ لِيَسْأَلَهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى أَغْلَقَ بَابَهُ فِي وَجْهِهِ، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: وَنَحْنُ عِنْدَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَمَّا صَاحِبُكُمْ هَذَا فَقَدْ غَامَرَ. قَالَ: وَنَدِمَ عُمَرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، فَأَقْبَلَ حَتَّى سَلَّمَ وَجَلَسَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَصَّ عَلَيْهِ الْخَبَرَ. قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: وَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنَا كُنْت أَظْلَمُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي؟ إنِّي قُلْت: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا، فَقُلْتُمْ: كَذَبْت. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقْت». [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله قَوْله تَعَالَى وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} [الأعراف: 157] الْإِصْرُ؛ هُوَ الثِّقَلُ، وَكَانَ فِيمَا سَبَقَ مِنْ الشَّرَائِعِ تَكَالِيفُ كَثِيرَةٌ فِيهَا مَشَاقُّ عَظِيمَةٌ، فَخَفَّفَ تِلْكَ الْمَشَاقَّ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمِنْهَا مَشَقَّتَانِ عَظِيمَتَانِ: الْأُولَى فِي الْبَوْلِ. كَانَ إذَا أَصَابَ ثَوْبَ أَحَدِهِمْ قَرَضَهُ، فَخَفَّفَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالْغُسْلِ بِالْمَاءِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: كَانَ أَبُو مُوسَى يُشَدِّدُ فِي الْبَوْلِ، وَيَبُولُ فِي قَارُورَةٍ، وَيَقُولُ: إنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَ إذَا أَصَابَ جِلْدَ أَحَدِهِمْ بَوْلٌ قَرَضَهُ بِالْمَقَارِيضِ

الآية السابعة عشرة قوله تعالى واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر

«فَقَالَ حُذَيْفَةُ: لَوَدِدْت أَنَّ صَاحِبَكُمْ لَا يُشَدِّدُ هَذَا التَّشْدِيدَ، لَقَدْ رَأَيْتنِي أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ نَتَمَاشَى، فَأَتَى سُبَاطَةً خَلْفَ حَائِطٍ، فَقَامَ كَمَا يَقُومُ أَحَدُكُمْ؛ فَبَالَ، فَانْتَبَذْت مِنْهُ، فَأَشَارَ إلَيَّ فَجِئْت فَقُمْت عِنْدَ عَقِبِهِ حَتَّى فَرَغَ». وَمِنْ الْإِصْرِ الَّذِي وُضِعَ إحْلَالُ الْغَنَائِمِ؛ وَكَانَتْ حَرَامًا عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ. وَمِنْهَا أَلَّا تُجَالَسَ الْحَائِضُ وَلَا تُؤَاكَلَ، فَخَفَّفَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي دِينِهِ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِتَشُدَّ عَلَيْهَا إزَارَهَا، ثُمَّ شَأْنُهُ بِأَعْلَاهَا» فِي أَعْدَادٍ لِأَمْثَالِهَا. [الْآيَة السَّابِعَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْر] الْآيَةُ السَّابِعَةُ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163]. هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أُمَّهَاتِ الشَّرِيعَةِ، وَفِيهَا مَسَائِلُ أُصُولُهَا تِسْعٌ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إنَّ اللَّهَ أَمَرَ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَسْأَلَ الْيَهُودَ إخْوَةَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ عَنْ الْقَرْيَةِ الْبَحْرِيَّةِ الَّتِي اعْتَدَوْا فِيهَا يَوْمَ السَّبْتِ، فَمَسَخَهُمْ اللَّهُ بِاعْتِدَائِهِمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، لِيُعَرِّفَهُمْ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنْ الْعُقُوبَةِ بِتَغْيِيرِ فَرْعٍ مِنْ فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، فَكَيْفَ بِتَغْيِيرِ أَصْلِ الشَّرِيعَةِ، الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ} [الأعراف: 163] يَعْنِي أَهْلَ الْقَرْيَةِ؛ فَعَبَّرَ بِهَا عَنْهُمْ لَمَّا كَانَتْ مُسْتَقَرًّا لَهُمْ وَسَبَبَ اجْتِمَاعِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82] الْآيَةَ، وَكَمَا قَالَ

مسألة سبب مسخ اليهود

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدٍ» يَعْنِي أَهْلَ الْعَرْشِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ يُرِيدُ اسْتِبْشَارَهُمْ بِهِ. وَكَمَا قَالَ أَيْضًا فِي الْمَدِينَةِ: «هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ». [مَسْأَلَة سَبَبِ مَسْخِ الْيَهُود] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قِيلَ: كَانَتْ هَذِهِ الْمَدِينَةُ أَيْلَةَ، مِنْ أَعْمَالِ مِصْرَ. وَقِيلَ: كَانَتْ طَبَرِيَّةَ مِنْ أَعْمَالِ الشَّامِ. وَقِيلَ: مَدْيَنَ؛ وَرَبُّك أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي سَبَبِ مَسْخِهِمْ، فَقِيلَ: إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الصَّيْدَ يَوْمَ السَّبْتِ، ثُمَّ ابْتَلَاهُمْ بِأَنْ تَكُونَ الْحِيتَانُ تَأْتِي يَوْمَ السَّبْتِ شُرَّعًا أَيْ: رَافِعَةً رُءُوسَهَا فِي الْمَاءِ يَنْظُرُونَ إلَيْهَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ الْأَيَّامِ طَلَبُوا مِنْهَا حُوتًا وَاحِدًا لِلصَّيْدِ فَلَمْ يَجِدُوهُ؛ فَصَوَّرَ عِنْدَهُمْ إبْلِيسُ أَنْ يَسُدُّوا أَفْوَاهَ الْخُلْجَانِ يَوْمَ السَّبْتِ حَتَّى إذَا أَمْسَوْا، وَأَرَادَتْ الْحِيتَانُ أَنْ تَرْجِعَ إلَى النَّهْرِ الْأَعْظَمِ وَإِلَى غَمْرَةِ الْبَحْرِ لَمْ تَجِدْ مَسْلَكًا، فَيَأْخُذُونَهَا فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ؛ فَفَعَلُوا ذَلِكَ فَمُسِخُوا.

مسألة النسيان لفظ ينطلق على الساهي والعامد

وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْقِصَّةِ عَنْ بَعْضِ أَشْيَاخِهِ، قَالَ: كَانَتْ تَأْتِيهِمْ يَوْمَ السَّبْتِ، فَإِذَا كَانَ الْمَسَاءُ ذَهَبَتْ فَلَا يُرَى مِنْهَا شَيْءٌ إلَى السَّبْتِ الْآخَرِ، فَاِتَّخَذَ لِذَلِكَ رَجُلٌ مِنْهُمْ خَيْطًا وَوَتَدًا، فَرَبَطُوا حُوتًا مِنْهَا فِي الْمَاءِ يَوْمَ السَّبْتِ، حَتَّى إذَا أَمْسَوْا لَيْلَةَ الْأَحَدِ أَخَذَهُ فَاشْتَوَاهُ، فَوَجَدَ النَّاسُ رِيحَهُ، فَأَتَوْهُ فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ فَجَحَدَهُمْ، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى قَالَ لَهُمْ: إنَّهُ جِلْدُ حُوتٍ وَجَدْنَاهُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ الْآخَرِ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَا أَدْرِي لَعَلَّهُ قَالَ ثُمَّ رَبَطَ حُوتَيْنِ، فَلَمَّا أَمْسَى مِنْ لَيْلَةِ الْأَحَدِ أَخَذَهُ وَاشْتَوَاهُ، فَوَجَدُوا رِيحَهُ، فَجَاءُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ: لَوْ شِئْتُمْ صَنَعْتُمْ كَمَا أَصْنَعُ. قَالُوا: وَمَا صَنَعْت؟ فَأَخْبَرَهُمْ، فَفَعَلُوا مِثْلَ مَا فَعَلَ، حَتَّى كَثُرَ ذَلِكَ، وَكَانَتْ لَهُمْ مَدِينَةٌ لَهَا رَبَضٌ يُغْلِقُونَهَا عَلَيْهِمْ، فَأَصَابَهُمْ مِنْ الْمَسْخِ مَا أَصَابَهُمْ، فَغَدَا إلَيْهِمْ جِيرَانُهُمْ مِمَّنْ كَانَ حَوْلَهُمْ يَطْلُبُونَ مِنْهُمْ مَا يَطْلُبُ النَّاسُ، فَوَجَدُوا الْمَدِينَةَ مُغْلَقَةً عَلَيْهِمْ، فَنَادَوْا فَلَمْ يُجِبْهُمْ أَحَدٌ، فَتَسَوَّرُوا عَلَيْهِمْ الْمَدِينَةَ، فَإِذَا هُمْ قِرَدَةً، فَجَعَلَ الْقِرْدُ مِنْهُمْ يَدْنُو فَيَتَمَسَّحُ بِمَنْ كَانَ يَعْرِفُ قَبْلَ ذَلِكَ. قَالَ الْحَسَنُ: فَأَكَلُوا وَاَللَّهِ أَوْخَمَ أَكْلَةٍ أَكَلَهَا قَوْمٌ، وَعُوقِبُوا أَسْوَأَ عُقُوبَةٍ فِي الدُّنْيَا وَأَشَدَّهَا عَذَابًا فِي الْآخِرَةِ. ثُمَّ قَالَ الْحَسَنُ: وَاَللَّهِ لَقَتْلُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَكْلِ الْحِيتَانِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: لَمَّا فَعَلُوا هَذَا نَهَاهُمْ كُبَرَاؤُهُمْ، وَوَعَظَهُمْ أَحْبَارُهُمْ فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُمْ، فَاسْتَمَرُّوا عَلَى نَهْيِهِمْ لَهُمْ، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ التَّمَادِي عَلَى الْوَعْظِ وَالنَّهْيِ عَدَمُ قَبُولِهِمْ؛ لِأَنَّهُ فَرْضٌ قُبِلَ أَوْ لَمْ يُقْبَلْ، حَتَّى قَالَ لَهُمْ بَعْضُهُمْ: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} [الأعراف: 164]؟ يَعْنِي فِي الدُّنْيَا، {أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} [الأعراف: 164] فِي الْآخِرَةِ؟ قَالَ لَهُمْ النَّاهُونَ: مَعْذِرَةً إلَى رَبِّكُمْ، أَيْ نَقُومُ بِفَرْضِنَا؛ لِيَثْبُتَ عُذْرُنَا عِنْدَ رَبِّنَا. [مَسْأَلَة النِّسْيَانَ لَفْظٌ يَنْطَلِقُ عَلَى السَّاهِي وَالْعَامِدِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} [الأعراف: 165] أَيْ: تَرَكُوهُ عَنْ قَصْدٍ.

مسألة كل عمل ظاهر الجواز يتوصل به إلى محظور

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّسْيَانَ لَفْظٌ يَنْطَلِقُ عَلَى السَّاهِي وَالْعَامِدِ رَدًّا عَلَى أَهْلِ جَهَالَةٍ زَعَمُوا أَنَّ النَّاسِيَ وَالسَّاهِيَ لِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا مَعْرِفَةَ لَهُمْ بِاللُّغَةِ، وَقَصْدُهُمْ هَدْمُ الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَحَقَّقْنَا مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا». وَقُلْنَا: مَعْنَاهُ مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ تَرَكَهَا فَلْيُصَلِّهَا مَتَى ذَكَرَهَا. فَالسَّاهِي لَهُ حَالَةُ ذِكْرٍ، وَالْعَامِدُ هُوَ أَبَدًا ذَاكِرٌ؛ وَكُلُّ وَاحِدِ مِنْهُمْ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ فَرْضُ الْقَضَاءِ مَتَى حَضَرَهُ الذِّكْرُ دَائِمًا أَوْ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، وَبِهَذَا اسْتَقَامَ نِظَامُ الْكَلَامِ، وَاسْتَقَرَّ حُكْمُ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ. [مَسْأَلَة كُلُّ عَمَلٍ ظَاهِرِ الْجَوَازِ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَحْظُورٍ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ إثْبَاتِ الذَّرَائِعِ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا مَالِكٌ، وَتَابَعَهُ عَلَيْهَا أَحْمَدُ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ، وَخَفِيَتْ عَلَى الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ مَعَ تَبَحُّرِهِمَا فِي الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ كُلُّ عَمَلٍ ظَاهِرِ الْجَوَازِ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَحْظُورٍ، كَمَا فَعَلَ الْيَهُودُ حِينَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ صَيْدَ السَّبْتِ، فَسَكَرُوا الْأَنْهَارَ، وَرَبَطُوا الْحِيتَانَ فِيهِ إلَى يَوْمِ الْأَحَدِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَدِلَّةَ الْمَسْأَلَةِ فِي كُتُبِ الْخِلَافِ، وَبَسَطْنَاهَا قُرْآنًا وَسُنَّةً وَدَلَالَةً مِنْ الْأُصُولِ فِي الشَّرِيعَةِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الَّذِي فَعَلَتْ الْيَهُودُ لَمْ يَكُنْ تَوَسُّلًا إلَى الصَّيْدِ؛ بَلْ كَانَ نَفْسَ الصَّيْدِ. قُلْنَا: إنَّمَا حَقِيقَةُ الصَّيْدِ إخْرَاجُ الْحُوتِ مِنْ الْمَاءِ وَتَحْصِيلُهُ عِنْدَ الصَّائِدِ، فَأَمَّا التَّحَيُّلُ عَلَيْهِ إلَى حِينِ الصَّيْدِ فَهُوَ سَبَبُ الصَّيْدِ، لَا نَفْسُ الصَّيْدِ، وَسَبَبُ الشَّيْءِ غَيْرُ الشَّيْءِ؛ إنَّمَا هُوَ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَيْهِ، وَيُتَوَسَّلُ بِهِ فِي تَحْصِيلِهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي فَعَلَهُ أَصْحَابُ السَّبْتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّمَا هَلَكُوا بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرَةِ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: لَا نَصِيدُ، بَلْ نَأْتِي بِسَبَبِ الصَّيْدِ، وَلَيْسَ سَبَبُ الشَّيْءِ نَفْسَ الشَّيْءِ، فَنَحْنُ لَا نَرْتَكِبُ عَيْنَ مَا نُهِينَا عَنْهُ، فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْأَخْذِ بِالظَّاهِرِ الْمُطْلَقِ فِي الشَّرِيعَةِ.

مسألة الممسوخ هل ينسل أم لا

[مَسْأَلَة الْمَمْسُوخِ هَلْ يَنْسِلُ أَمْ لَا] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمَمْسُوخِ؛ هَلْ يَنْسِلُ أَمْ لَا؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ الْمَمْسُوخَ لَا يَنْسِلُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَنْسِلُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحِ حِينَ «سُئِلَ عَنْ الضَّبِّ، فَقَالَ إنَّ أُمَّةً مُسِخَتْ، فَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ الضَّبُّ مِنْهَا». وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ الْفَأْرَ مُسِخَ، أَلَا تَرَاهُ إذَا وُضِعَ لَهُ أَلْبَانُ الْإِبِلِ لَمْ يَشْرَبْهَا». وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْت فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرَدَةً قَدْ رَجَمُوا قِرَدَةً. وَنَصُّ الْحَدِيثِ: قَدْ رَأَيْت فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرَدَةً قَدْ اجْتَمَعَ عَلَيْهَا قِرَدَةٌ قَدْ زَنَتْ فَرَجَمُوهَا، فَرَجَمْتهَا مَعَهُمْ. ثَبَتَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ، وَسَقَطَ فِي بَعْضِهَا. وَثَبَتَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ: قَدْ زَنَتْ. وَسَقَطَ هَذَا اللَّفْظُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: وَكَأَنَّ الْبَهَائِمَ بَقِيَتْ فِيهِمْ مَعَارِفُ الشَّرَائِعِ حَتَّى وَرِثُوهَا خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ إلَى زَمَانِ عُمَرَ. وَقُلْنَا: نَعَمْ، كَذَلِكَ كَانَ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ غَيَّرُوا الرَّجْمَ، فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُقِيمَهُ فِي مُسُوخِهِمْ، حَتَّى يَكُونَ إبْلَاغًا فِي الْحُجَّةِ عَلَى مَا أَنْكَرُوهُ مِنْ ذَلِكَ، وَغَيَّرُوهُ، حَتَّى تَشْهَدَ عَلَيْهِمْ كُتُبُهُمْ وَأَحْبَارُهُمْ وَمُسُوخُهُمْ، حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ، وَيُحْصِي مَا يُبَدِّلُونَ وَمَا يُغَيِّرُونَ، وَيُقِيمَ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةَ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، وَيَنْصُرَ نَبِيَّهُ وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ.

الآية الثامنة عشرة قوله تعالى وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم

[الْآيَة الثَّامِنَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ] الْآيَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رَوَى مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ «سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 172] فَقَالَ عُمَرُ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ خَلْق آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ، فَقَالَ: خَلَقْت هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ. ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ، فَقَالَ: خَلَقْت هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ اللَّهَ إذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ» وَقَدْ تُكُلِّمَ فِي سَنَدِ هَذَا الْحَدِيثِ بِكَلَامٍ [قَدْ] بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ. وَقَدْ ثَبَتَ وَصَحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَمَّا خَلَقَ آدَم مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُك. فَرَأَى رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ. فَقَالَ: يَا

رَبِّ؛ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنْ آخِرِ الْأُمَمِ مِنْ ذُرِّيَّتِك يُقَالُ لَهُ دَاوُد. فَقَالَ: رَبِّ كَمْ جَعَلْت عُمُرَهُ؟ قَالَ: سِتِّينَ سَنَةً. قَالَ: أَيْ رَبِّ، زِدْهُ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً. فَلَمَّا انْقَضَى عُمُرُ آدَمَ جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَقَالَ: أَوَلَمْ يَبْقَ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أَوَلَمْ تُعْطِهَا ابْنَك دَاوُد؟ قَالَ: فَجَحَدَ آدَم، فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ؛ وَنَسِيَ آدَم فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ؛ وَخَطِئَ آدَم، فَأَخْطَأَتْ ذُرِّيَّتُهُ». خَرَّجَهُ أَبُو عِيسَى وَصَحَّحَهُ، وَمِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ، «فَمِنْ حِينَئِذٍ أُمِرَ بِالْكِتَابِ وَالشُّهُودِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «أَنَّهُ رَأَى فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ وَالْمُبْتَلَى وَالصَّحِيحَ فَقَالَ لَهُ آدَم: يَا رَبِّ، مَا هَذَا؟ أَلَا سَوَّيْت بَيْنَهُمْ؟ قَالَ: أَرَدْت أَنْ أَشْكُرَ». وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: أَنَّهُ «أَخْرَجَهُمْ مِنْ صُلْبِ آدَمَ كَهَيْئَةِ الذَّرِّ، ثُمَّ أَخَذَ عَلَيْهِمْ الْمِيثَاقَ، ثُمَّ أُعِيدُوا فِي صُلْبِهِ». وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ عُمَرَ خَطَبَ بِالْجَابِيَةِ، فَقَالَ: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ. فَقَالَ الْجَاثَلِيقُ: تَرَكَّسْت تَرَكَّسْت. فَقَالَ الرَّاوِي: يَقُولُ مَعَاذَ اللَّهِ، لَا يُضِلُّ اللَّهُ أَحَدًا. فَقَالَ عُمَرُ: بَلْ اللَّهُ خَلَقَك ثُمَّ أَضَلَّك، ثُمَّ يُمِيتُك، ثُمَّ يُدْخِلُك النَّارَ؛ وَاَللَّهِ لَوْلَا وَلْثٌ مِنْ عَهْدِك لَضَرَبْت عُنُقَك. فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ نَثَرَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ فِي كَفَّيْهِ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَمَا هُمْ عَامِلُونَ، وَهَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَمَا هُمْ عَامِلُونَ، وَهَذِهِ لِهَذِهِ، وَهَذِهِ لِهَذِهِ؛ قَالَ: فَتَفَرَّقَ النَّاسُ. وَمَا يَخْتَلِفُ اثْنَانِ فِي الْقَدَرِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: «خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ قَابِضٌ عَلَى شَيْئَيْنِ فِي يَدَيْهِ، فَفَتَحَ الْيَمِينَ، فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِأَعْدَادِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَأَحْسَابِهِمْ، فَجَمَعَ عَلَيْهِمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يُزَادُ فِيهِمْ أَحَدٌ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ، وَقَدْ يَسْلُكُ السُّعَدَاءُ طَرِيقَ أَهْلِ الشَّقَاءِ حَتَّى يُقَالَ: هُمْ مِنْهُمْ. هُمْ مِنْهُمْ، ثُمَّ

تُدْرِكُ أَحَدَهُمْ سَعَادَتُهُ وَلَوْ قَبْلَ مَوْتِهِ بِفُوَاقِ نَاقَةٍ. ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْعَمَلُ بِخَوَاتِمِهِ، الْعَمَلُ بِخَوَاتِمِهِ» وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ، فَقَالَ لَهُ: اُكْتُبْ، فَكَتَبَ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ أَمْرٌ مُسْتَأْنَفٌ أَمْ أَمْرٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ؟ فَقَالَ: فَرَغَ رَبُّكُمْ. قَالُوا: فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ؛ أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ. وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاءِ. ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل: 5] {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 6] {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 7] {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} [الليل: 8] {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 9] {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 10]» وَثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا. وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا».

مسألة الكفار المتأولين

فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُعَذَّبَ الْخَلْقُ وَهُمْ لَمْ يُذْنِبُوا، أَوْ يُعَاقِبُهُمْ عَلَى مَا أَرَادَهُ مِنْهُمْ، وَكَتَبَهُ عَلَيْهِمْ، وَسَاقَهُمْ إلَيْهِ؟ قُلْنَا: وَمِنْ أَيْنَ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ؟ أَعَقْلًا أَمْ شَرْعًا؟ فَإِنْ قِيلَ: لِأَنَّ الرَّحِيمَ الْحَكِيمَ مِنَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ. قُلْنَا: لِأَنَّ فَوْقَهُ آمِرًا يَأْمُرُهُ وَنَاهِيًا يَنْهَاهُ، وَرَبُّنَا لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ الْخَالِقُ بِالْمَخْلُوقِ، وَلَا تُحْمَلُ أَفْعَالُ الْإِلَهِ عَلَى أَفْعَالِ الْعِبَادِ. وَبِالْحَقِيقَةِ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا لِلَّهِ، وَالْخَلْقُ بِأَجْمَعِهِمْ لَهُ صَرَفَهُمْ كَيْفَ شَاءَ، وَحَكَمَ فِيهِمْ كَيْفَ أَرَادَ؛ وَهَذَا الَّذِي يَجِدُهُ الْآدَمِيُّ إنَّمَا تَبْعَثُ عَلَيْهِ رِقَّةُ الْجِبِلَّةِ، وَشَفَقَةُ الْجِنْسِيَّةِ، وَحُبُّ الثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ، لِمَا يُتَوَقَّعُ فِي ذَلِكَ مِنْ الِانْتِفَاعِ؟ وَالْبَارِي مُتَقَدِّسٌ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ بِهِ. وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ وَفِي كُتُبِ الْأُصُولِ. [مَسْأَلَة الْكُفَّارِ الْمُتَأَوِّلِينَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْكُفَّارِ الْمُتَأَوِّلِينَ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَمَذْهَبُ شَيْخِ السُّنَّةِ، وَإِلَيْهِ صَغَى الْقَاضِي فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْهِمَا أَنَّ الْكُفْرَ يَخْتَصُّ بِالْجَاحِدِ، وَالْمُتَأَوِّلُ لَيْسَ بِكَافِرٍ. وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ كُفْرُ مَنْ أَنْكَرَ أُصُولَ الْإِيمَانِ، فَمِنْ أَعْظَمِهَا مَوْقِعًا وَأَبْيَنِهَا مَنْصِفًا، وَأَوْقَعِهَا مَوْضِعًا الْقَوْلُ بِالْقَدَرِ، فَمَنْ أَنْكَرَهُ فَقَدْ كَفَرَ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْمُقْسِطِ وَالْمُشْكِلَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْمَالِكِيَّةِ فِي تَكْفِيرِهِمْ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَالصَّرِيحُ مِنْ أَقْوَالِ مَالِكٍ تَكْفِيرُهُمْ، لَقَدْ سُئِلَ عَنْ نِكَاحِ الْقَدَرِيَّةِ، فَقَالَ: قَدْ قَالَ اللَّهُ: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} [البقرة: 221]. وَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّ ذَلِكَ أَدَبٌ لَهُمْ، وَلَيْسُوا بِكُفَّارٍ، أَوْ حَكَى فِي ذَلِكَ غَيْرَ مَا أَوْرَدْنَاهُ مِنْ الْأَقْوَالِ؛ فَذَلِكَ لِضَعْفِ مَعْرِفَتِهِ

الآية التاسعة عشرة قوله تعالى ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها

بِالْأُصُولِ، فَلَا يُنَاكَحُوا، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ، فَإِنْ خِيفَ عَلَيْهِمْ الضَّيْعَةُ دُفِنُوا كَمَا يُدْفَنُ الْكَلْبُ. فَإِنْ قِيلَ: وَأَيْنَ يُدْفَنُونَ؟ قُلْنَا: لَا يُؤْذَى بِجِوَارِهِمْ مُسْلِمٌ. وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِمْ الْإِمَامُ اسْتَتَابَهُمْ، فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قَتَلَهُمْ كُفْرًا. . [الْآيَة التَّاسِعَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا] الْآيَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180] هَذِهِ آيَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ الْآيِ الَّتِي جَمَعَتْ الْعَقَائِدَ وَالْأَعْمَالَ، وَقَدْ كُنَّا تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا فِي مَجَالِسِ أَنْوَارِ الْفَجْرِ أَزْمِنَةً كَثِيرَةً، ثُمَّ أَنْعَمَ اللَّهُ بِأَنْ أَخْرَجْنَا نُكَتَهَا الْمَقْصُودَةَ مِنْ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا فِي كِتَابِ الْأَمَدِ الْأَقْصَى "، وَفِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {الأَسْمَاءُ} [الأعراف: 180]: حَقِيقَةُ الِاسْمِ كُلُّ لَفْظٍ جُعِلَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعْنَى إنْ لَمْ يَكُنْ مُشْتَقًّا، فَإِنْ كَانَ مُشْتَقًّا فَلَيْسَ بِاسْمٍ، وَإِنَّمَا هُوَ صِفَةٌ، هَذَا قَوْلُ النُّحَاةِ. أَخْبَرَنَا الْأُسْتَاذُ الرَّئِيسُ الْأَجَلُّ الْمُعَظَّمُ فَخْرُ الرُّؤَسَاءِ أَبُو الْمُظَفَّرِ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ لَفْظًا قَالَ: سَمِعْت الْأُسْتَاذَ الْمُعَظَّمَ عَبْدَ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيَّ يَقُولُ: سَمِعْت أَبَا الْحَسَنِ ابْنَ أُخْتِ أَبِي عَلِيٍّ يَقُولُ: سَمِعْت خَالِي أَبَا عَلِيٍّ يَقُولُ: كُنْت بِمَجْلِسِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بِحَلَبٍ، وَبِالْحَضْرَةِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ فِيهِمْ ابْنُ خَالَوَيْهِ إلَى أَنْ قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: أَحْفَظُ لِلسَّيْفِ خَمْسِينَ اسْمًا. فَتَبَسَّمَ أَبُو عَلِيٍّ، وَقَالَ: مَا أَحْفَظُ لَهُ إلَّا اسْمًا وَاحِدًا، وَهُوَ السَّيْفُ. فَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: فَأَيْنَ الْمُهَنَّدُ؟ وَأَيْنَ الصَّارِمُ؟ وَأَيْنَ الرَّسُوبُ؟ وَأَيْنَ الْمِخْذَمُ وَجَعَلَ يُعَدِّدُ. فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هَذِهِ صِفَاتٌ. وَكَأَنَّ الشَّيْخَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الِاسْمِ وَالصِّفَةِ. وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ أَسَّسَهَا سِيبَوَيْهِ لِيُرَتِّبَ عَلَيْهَا قَانُونًا مِنْ الصِّنَاعَةِ فِي التَّصْرِيفِ وَالْجَمْعِ وَالتَّصْغِيرِ، وَالْحَذْفِ وَالزِّيَادَةِ وَالنِّسْبَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَبْوَابِ؛ إذْ لَحَظَ ذَلِكَ فِي مَجَارِي

مسألة معنى قوله تعالى الحسنى

الْعَرَبِيَّةِ، وَهُوَ أَمْرٌ لَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ الشَّرِيعَةُ بِعَضُدٍ، وَلَا تَرُدُّهُ بِقَصْدٍ؛ فَلَا مَعْنَى لِإِنْكَارِهَا لِلْقَوْمِ أَوْ إقْرَارِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ سَخِيفٌ مِنْ جُمْلَةِ الْمَغَارِبَةِ: عَدَدْت أَسْمَاءَ اللَّهِ فَوَجَدْتهَا ثَمَانِينَ، وَجَعَلَ يُعَدِّدُ الصِّفَاتِ النَّحْوِيَّةَ، وَيَا لَيْتَنِي أَدْرَكْته؛ فَلَقَدْ كَانَتْ فِيهِ حُشَاشَةٌ لَوْ تَفَاوَضْت مَعَهُ فِي الْحَقَائِقِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ قَبُولِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَيْسَ الْعَجَبُ مِنْهُ؛ إنَّمَا الْعَجَبُ مِنْ الطُّوسِيِّ أَنْ يَقُولَ: وَقَدْ عَدَّدَ بَعْضُ حُفَّاظِ الْمُغْرِبِ الْأَسْمَاءَ فَوَجَدَهَا ثَمَانِينَ حَسْبَمَا نَقَلَهُ إلَيْهِ طَرِيدٌ طَرِيفٌ ببورقة الْحُمَيْدِيِّ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي ذَلِكَ أَبُو حَامِدٍ بِجَهْلِهِ بِالصِّنَاعَةِ، أَمَا إنَّهُ كَانَ فَصِيحًا ذَرِبَ الْقَوْلِ، ذَرِبَ اللِّسَانِ فِي الِاسْتِرْسَالِ عَلَى الْكَلِمَاتِ الصَّائِبَةِ، لَكِنَّ الْقَانُونَ كَانَ عَنْهُ نَائِيًا، وَالْعَالَمُ عِنْدَنَا اسْمٌ، كَزَيْدٍ اسْمٌ، وَأَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُودِ، وَالْآخَرُ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُودِ وَمَعْنَى مَعَهُ زَائِدٌ عَلَيْهِ، وَاَلَّذِي يُعَضِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ وَعُلَمَاءَ الْإِسْلَامِ حِينَ عَدَّدُوا الْأَسْمَاءَ ذَكَرُوا الْمُشْتَقَّ وَالْمُضَافَ وَالْمُطْلَقَ فِي مَسَاقٍ وَاحِدٍ إجْرَاءً عَلَى الْأَصْلِ، وَنَبْذًا لِلْقَاعِدَةِ النَّحْوِيَّةِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى الْحُسْنَى] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: " قَوْله تَعَالَى {الْحُسْنَى} [الأعراف: 180] وَفِي وَصْفِهَا بِذَلِكَ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: مَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى التَّعْظِيمِ؛ فَكُلُّ مَعْنًى مُعَظَّمٍ يُسَمَّى بِهِ سُبْحَانَهُ. الثَّانِي: مَا وُعِدَ عَلَيْهَا مِنْ الثَّوَابِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ. الثَّالِثُ: مَا مَالَتْ إلَيْهِ الْقُلُوبُ مِنْ الْكَرَمِ وَالرَّحْمَةِ. الرَّابِعُ: أَنَّ حَسْبَهَا شَرَفُ الْعِلْمِ بِهَا، فَإِنَّ شَرَفَ الْعِلْمِ بِشَرَفِ الْمَعْلُومِ، وَالْبَارِي أَشْرَفُ الْمَعْلُومَاتِ؛ فَالْعِلْمُ بِأَسْمَائِهِ أَشْرَفُ الْعُلُومِ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ مَعْرِفَةُ الْوَاجِبِ فِي وَصْفِهِ وَالْجَائِزِ وَالْمُسْتَحِيلِ عَلَيْهِ؛ فَيَأْتِي بِكُلِّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِهِ وَيُقَرِّرُهُ فِي نِصَابِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْمُقْسِطِ حَقِيقَةَ الْحُسْنِ وَأَقْسَامَهُ، وَمَنْ حَصَّلَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ نَالَ الْحُسْنَ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ، وَحَصَلَ لَهُ الْقَطْعُ بِالتَّوْفِيقِ.

مسألة سبب نزول قوله ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها

[مَسْأَلَة سَبَبِ نُزُولِ قَوْله وَلِلَّهِ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ سَمِعُوا الْمُسْلِمِينَ يَدْعُونَ " اللَّهَ " مَرَّةً، وَ " الرَّحْمَنَ " أُخْرَى، و " الْقَادِرَ " بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالُوا: أَيَنْهَانَا مُحَمَّدٌ عَنْ الْأَصْنَامِ وَهُوَ يَدْعُوا آلِهَةً كَثِيرَةً؟ فَنَزَلَتْ: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] أَيْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ إلَهٌ وَاحِدٌ، وَلَيْسَتْ بِآلِهَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ. [مَسْأَلَة الْأَسْمَاءُ الَّتِي أَضَافَهَا اللَّهُ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَا هَذِهِ الْأَسْمَاءُ الَّتِي أَضَافَهَا اللَّهُ؟: وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا أَسْمَاؤُهُ كُلُّهَا الَّتِي فِيهَا التَّعْظِيمُ وَالْإِكْبَارُ. الثَّانِي: أَنَّهَا الْأَسْمَاءُ التِّسْعَةُ وَالتِّسْعُونَ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: «إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ». الثَّالِثُ: أَنَّهَا الْأَسْمَاءُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا أَدِلَّةُ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَهِيَ سَبْعَةٌ تَتَرَتَّبُ عَلَى الْوُجُودِ: الْعِلْمُ، وَالْقُدْرَةُ، وَالْإِرَادَةُ، وَالسَّمْعُ، وَالْبَصَرُ، وَالْكَلَامُ، وَالْحَيَاةُ. تَقُولُ: الْقَادِرُ الْعَالِمُ الْمُرِيدُ الْحَيُّ الْمُتَكَلِّمُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، وَفِي تَرْتِيبِهَا تَقْرِيبٌ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَكُلُّ اسْمٍ لِلَّهِ فَإِلَى هَذِهِ الْأُصُولِ يَرْجِعُ، لَكِنَّ الصَّحِيحَ عِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا التِّسْعَةُ وَالتِّسْعُونَ الَّتِي عَدَّدَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. فَإِنْ قِيلَ: وَهَلْ إلَى مَعْرِفَتِهَا سَبِيلٌ؟

قُلْنَا: حَلَّقَ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهَا، وَسَارُوا إلَيْهَا فَمِنْ جَائِرٍ وَقَاصِدٍ، وَالْقَاصِدُ فِي الْأَكْثَرِ وَاقِفٌ دُونَ الْمَرَامِ، وَالْجَائِرُ لَيْسَ فِيهِ كَلَامٌ. فَأَمَّا مَنْ وَقَفَ عَلَى الْأَمْرِ فَمَا عَرَفْته إلَّا الْإسْفَرايِينِيّ وَالطُّوسِيُّ. إلَّا أَنَّ الطُّوسِيَّ تَقَلْقَلَ فِيهَا فَتَزَلْزَلَ عَنْهَا، وَأَمَّا الْإسْفَرايِينِيّ فَأَسْنَدَ طَرِيقَهُ وَوَضَّحَ تَحْقِيقَهُ. وَاَلَّذِي أَدُلُّكُمْ عَلَيْهِ أَنْ تَطْلُبُوهَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنَّهَا مَخْبُوءَةٌ فِيهِمَا كَمَا خُبِئَتْ سَاعَةُ الْجُمُعَةِ فِي الْيَوْمِ، وَلَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي الشَّهْرِ رَغْبَةً، وَالْكَبَائِرُ فِي الذُّنُوبِ رَهْبَةً؛ لِتَعُمَّ الْعِبَادَاتُ الْيَوْمَ بِجَمِيعِهِ وَالشَّهْرَ بِكُلِّيَّتِهِ، وَلِيَقَعَ الِاجْتِنَابُ لِجَمِيعِ الذُّنُوبِ. وَكَذَلِكَ أُخْفِيَتْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ الْمُتَعَدِّدَةُ فِي جُمْلَةِ الْأَسْمَاءِ الْكُلِّيَّةِ، لِنَدْعُوَهُ بِجَمِيعِهَا، فَنُصِيبُ الْعَدَدَ الْمَوْعُودَ بِهِ فِيهَا، فَأَمَّا تَعْدِيدُهَا بِالْقُرْآنِ فَقَدْ وَهَمَ فِيهِ إمَامَانِ: سُفْيَانُ، وَابْنُ شَعْبَانَ، وَقَدْ سُقْنَاهُ بِغَايَةِ الْبَيَانِ وَنَصُّهُ: سُورَةُ الْحَمْدِ فِيهَا خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ: اللَّهُ، الرَّبُّ، الرَّحْمَنُ، الرَّحِيمُ، مَالِكٌ. سُورَةُ الْبَقَرَةِ فِيهَا ثَلَاثُونَ اسْمًا: مُحِيطٌ، قَدِيرٌ، عَلِيمٌ، حَكِيمٌ، ذُو الْفَضْلِ، الْعَظِيمُ، بَصِيرٌ، وَاسِعٌ، بَدِيعُ السَّمَوَاتِ، سَمِيعٌ، التَّوَّابُ، الْعَزِيزُ، رَءُوفٌ، شَاكِرٌ، إلَهٌ وَاحِدٌ، غَفُورٌ، شَدِيدُ الْعَذَابِ، قَرِيبٌ، شَدِيدُ الْعِقَابِ، سَرِيعُ الْحِسَابِ، حَلِيمٌ، خَبِيرٌ، حَيٌّ، قَيُّومٌ، عَلِيٌّ، عَظِيمٌ، وَلِيٌّ، غَنِيٌّ، حَمِيدٌ، مَوْلَى. سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ فِيهَا عَشْرَةُ أَسْمَاءٍ: عَزِيزٌ، ذُو انْتِقَامٍ، وَهَّابٌ، قَائِمٌ بِالْقِسْطِ، جَامِعُ النَّاسِ، مَالِكُ الْمُلْكِ، خَيْرُ الْمَاكِرِينَ، شَهِيدٌ، خَيْرُ النَّاصِرِينَ، وَكِيلٌ. سُورَةُ النِّسَاءِ فِيهَا سَبْعَةُ أَسْمَاءٍ: الرَّقِيبُ، الْحَسِيبُ، كَثِيرُ الْعَفْوِ، النَّصِيرُ، مُقِيتٌ، جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا. سُورَةُ الْمَائِدَةِ فِيهَا اسْمَانِ: عَلَّامُ الْغُيُوبِ، خَيْرُ الرَّازِقِينَ. سُورَةُ الْأَنْعَامِ فِيهِ سَبْعَةَ عَشَرَ اسْمًا: فَاطِرٌ، قَاهِرٌ، شَهِيدٌ، شَفِيعٌ، خَيْرُ الْفَاصِلِينَ، الْحَقُّ، أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ، الْقَادِرُ، فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى، فَالِقُ الْإِصْبَاحِ، جَاعِلُ اللَّيْلِ

سَكَنًا، مُخْرِجُ الْحَيِّ مِنْ الْمَيِّتِ، وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيِّ، سَرِيعُ الْعِقَابِ، خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، اللَّطِيفُ، الْحَكِيمُ. سُورَةُ الْأَعْرَافِ فِيهَا أَرْبَعَةُ أَسْمَاءٍ: خَيْرُ الْحَاكِمِينَ، خَيْرُ الْفَاتِحِينَ، أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، خَيْرُ الْغَافِرِينَ. سُورَةُ بَرَاءَةٌ فِيهَا اسْمٌ: مُخْزِي الْكَافِرِينَ. سُورَةُ هُودٍ فِيهَا سَبْعَةُ أَسْمَاءٍ: أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، حَفِيظٌ، مُجِيبٌ، قَوِيٌّ، مَجِيدٌ، وَدُودٌ، فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ. سُورَةُ يُوسُفَ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ: الْمُسْتَعَانُ، الْقَاهِرُ، الْحَافِظُ. سُورَةُ الرَّعْدِ فِيهَا سِتَّةُ أَسْمَاءٍ: ذُو مَغْفِرَةٍ، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، الْكَبِيرُ، الْمُتَعَالُ، شَدِيدُ الْمِحَالِ، الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبْتِ. سُورَةُ الْحِجْرِ فِيهَا اسْمَانِ: الْوَارِثُ، الْخَلَّاقُ. سُورَةُ النَّحْلِ فِيهَا اسْمٌ وَاحِدٌ: كَفِيلٌ. سُورَةُ الْكَهْفِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ: مُقْتَدِرٌ، ذُو الرَّحْمَةِ، الْمَوْئِلُ. سُورَةُ مَرْيَمَ فِيهَا اسْمٌ وَاحِدٌ: وَهُوَ حَفِيٌّ. سُورَةُ طَه فِيهَا اسْمَانِ: الْمَلِكُ، خَيْرٌ وَأَبْقَى. سُورَةُ اقْتَرَبَ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ: الْحَاسِبُ، خَيْرُ الْوَارِثِينَ، الْفَاعِلُ. سُورَةُ الْحَجِّ فِيهَا اسْمٌ وَاحِدٌ: الْمُكْرِمُ. سُورَةُ الْمُؤْمِنِينَ فِيهَا اسْمَانِ: أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ. سُورَةُ النُّورِ فِيهَا اسْمَانِ: نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، الْمُبِينُ. سُورَةُ الْفُرْقَانِ فِيهَا اسْمٌ: الْهَادِي. سُورَةُ النَّمْلِ: الْكَرِيمُ. سُورَةُ الرُّومِ: مُحْيِي الْمَوْتَى. سُورَةُ سَبَأٍ فِيهَا: الْفَتَّاحُ. سُورَةُ فَاطِرٍ اسْمٌ وَاحِدٌ: شَكُورٌ. سُورَةُ ص اسْمٌ وَاحِدٌ: الْغَفَّارُ.

سُورَةُ الزُّمَرِ فِيهَا اسْمَانِ: سَالِمٌ، كَافٍ. سُورَةُ الْمُؤْمِنِ فِيهَا خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ: غَافِرُ الذَّنْبِ، وَقَابِلُ التَّوْبِ، ذُو الطَّوْلِ، رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ، ذُو الْعَرْشِ. سُورَةُ فُصِّلَتْ: ذُو عِقَابٍ. سُورَةُ الزُّخْرُفِ فِيهَا: الْمُبْرِمُ. سُورَةُ الدُّخَان فِيهَا ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ: الْمُنْذِرُ، الْمُرْسِلُ، الْمُنْتَقِمُ. سُورَةُ قِ: أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. سُورَةُ وَالذَّارِيَاتِ فِيهَا خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ: الْمُوسِعُ، الْمَاهِدُ، الرَّزَّاقُ، ذُو الْقُوَّةِ، الْمَتِينُ. سُورَةُ وَالطُّورِ فِيهَا اسْمٌ وَاحِدٌ: الْبَرُّ. سُورَةُ اقْتَرَبَ فِيهَا اسْمٌ وَاحِدٌ: الْمَلِيكُ الْمُقْتَدِرُ. سُورَةُ الرَّحْمَنِ فِيهَا اسْمٌ وَاحِدٌ: ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ. سُورَةُ الْوَاقِعَةِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ: الْخَالِقُ، الزَّارِعُ، الْمُنْشِئُ. سُورَةُ الْحَدِيدِ فِيهَا أَرْبَعَةُ أَسْمَاءٍ: الْأَوَّلُ، الْآخِرُ، الظَّاهِرُ، الْبَاطِنُ. سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ فِيهَا اسْمَانِ: رَابِعُ ثَلَاثَةٍ، سَادِسُ خَمْسَةٍ. سُورَةُ الْحَشْرِ فِيهَا ثَمَانِيَةُ أَسْمَاءٍ: الْقُدُّوسُ، السَّلَامُ، الْمُؤْمِنُ، الْمُهَيْمِنُ [الْعَزِيزُ]، الْجَبَّارُ، الْمُتَكَبِّرُ، الْبَارِئُ، الْمُصَوِّرُ. سُورَةُ الْمَعَارِجِ فِيهَا: ذُو الْمَعَارِجِ. سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ فِيهَا اسْمٌ وَاحِدٌ: أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ. سُورَةُ سَبِّحْ فِيهَا اسْمٌ وَاحِدٌ: الْأَعْلَى. سُورَةُ الْقَلَمِ فِيهَا اسْمٌ وَاحِدٌ: الْأَكْرَمُ. سُورَةُ التَّوْحِيدِ فِيهَا اسْمَانِ: أَحَدٌ، صَمَدٌ. وَقَدْ زَادَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا فِيهَا: شَيْءٌ، مَوْجُودٌ، كَائِنٌ، ثَابِتٌ، نَفْسٌ، عَيْنٌ، ذَاتٌ، دَاعٍ، مُسْتَجِيبٌ، مُمْلِي، قَائِمٌ، مُتَكَلِّمٌ، مُبْقٍ، مُغْنٍ، غَيُورٌ، قَاضٍ، مُقَدِّرٌ، فَرْدٌ، مُبْلٍ، جَاعِلٌ، مُوجِدٌ، مُبْدِعٌ، دَارِئٌ.

قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمِنْ هَذَا مَا جَاءَ عَلَى لَفْظِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَمِنْهَا مَا أُخِذَ مِنْ فِعْلٍ، وَمِنْهَا مَا جَاءَ مُضَافًا فَذَكَرَهُ مُجَرَّدًا عَنْ الْإِضَافَةِ، وَكَذَلِكَ وَجَدْنَاهُ فِي سَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ فَهَذِهِ هِيَ الْأَسْمَاءُ الْمَعْدُودَةُ بِصِفَاتِهَا قُرْآنًا وَسُنَّةً. وَفِي الْحَدِيثِ الْمُطْلَقِ أَسْمَاءٌ غَيْرُ ذَلِكَ، كَقَوْلِنَا: الطَّيِّبُ، وَالسَّيِّدُ، وَالطَّبِيبُ؛ وَأَعْدَادٌ سِوَاهَا. وَمَا مِنْهَا اسْمٌ إلَّا جَمِيعُهُ مُشْتَقٌّ، حَتَّى إنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ اتَّفَقُوا عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ مُشْتَقٌّ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْأَمَدِ، فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِمْ الْفَاسِدِ الْمُتَقَدِّمِ، وَقَدْ شَرَحْنَا مَعْنَى كُلِّ اسْمٍ فِي الْأَمَدِ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ؛ وَعَدَّدْنَاهَا عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَذَكَرَهُ الْأَئِمَّةُ؛ فَانْتَهَتْ إلَى سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ. الْأَوَّلُ: اللَّهُ؛ وَهُوَ اسْمُهُ الْأَعْظَمُ الَّذِي يَرْجِعُ إلَيْهِ كُلُّ اسْمٍ، وَيُضَافُ إلَى تَفْسِيرِهِ كُلُّ مَعْنًى، وَحَقِيقَتُهُ الْمُنْفَرِدُ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ عَنْ نَظِيرٍ، فَهَذِهِ حَقِيقَةُ الْإِلَهِيَّةِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ اللَّهُ. الثَّانِي: الْوَاحِدُ؛ وَهُوَ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ فِي صِفَاتٍ وَلَا ذَاتٍ وَلَا أَفْعَالٍ. الثَّالِثُ: الْكَائِنُ؛ وَهُوَ الْمَوْجُودُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَبَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ. الرَّابِعُ: الْقَائِمُ، إذَا ذَكَرْته مُطْلَقًا فَهُوَ الَّذِي يَسْتَغْنِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَإِنْ ذَكَرْته مُضَافًا فَهُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِالْوُجُودِ فَمَا وَرَاءَهُ. الْخَامِسُ وَالسَّادِسُ وَالسَّابِعُ: الْقَيُّومُ، وَالْقَيَّامُ، وَالْقَيِّمُ، وَهُوَ الدَّائِمُ الْقَائِمُ عَلَى شَيْءٍ. الثَّامِنُ: الْكَافِي؛ مَنْ كَفَى إذَا قَامَ بِالْأَمْرِ، أَوْ دَفَعَ عَنْهُ مَا يَتَوَقَّعُ. التَّاسِعُ: الْحَقُّ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَتَغَيَّرُ.

الْعَاشِرُ وَالْحَادِيَ عَشَرَ وَالثَّانِيَ عَشَرَ: الْمَلِكُ، الْمَالِكُ، الْمَلِيكُ، وَهُوَ الْحَاكِمُ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَيْهِ. الثَّالِثَ عَشَرَ: الْقُدُّوسُ، وَهُوَ الْمُطَهَّرُ عَنْ كُلِّ نُقْصَانٍ. الرَّابِعَ عَشَرَ: السَّلَامُ؛ الَّذِي لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ عَيْبٌ، وَسَلِمَ الْخَلْقُ مِنْ ظُلْمِهِ وَغَبْنِهِ، وَبِهِ زَادَ عَلَيْهِ. الْخَامِسَ عَشَرَ: الْعَزِيزُ: الَّذِي لَا يُغَالَبُ؛ وَلَا يَكُونُ مَعَهُ غَالِبٌ. السَّادِسَ عَشَرَ: الْجَبَّارُ: الَّذِي يَسْتَغْنِي عَنْ الْأَتْبَاعِ، وَلَا يَحْنُو عِنْدَ التَّعْذِيبِ، وَلَا يَحْنَقُ عِنْدَ الْغَضَبِ. السَّابِعَ عَشَرَ: الْمُتَكَبِّرُ؛ وَهُوَ الَّذِي لَا مِقْدَارَ لِشَيْءٍ عِنْدَهُ. الثَّامِنَ عَشَرَ: الْعَلِيُّ الَّذِي لَا مَكَانَ لَهُ. التَّاسِعَ عَشَرَ: الْكَبِيرُ الَّذِي لَا يُتَصَوَّرُ عَلَيْهِ مِقْدَارٌ. الْمُوفِي عِشْرِينَ: الْعَظِيمُ: الَّذِي يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ التَّحْدِيدُ. الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: الْجَلِيلُ؛ وَهُوَ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحُدُوثِ. الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: الْمَجِيدُ؛ هُوَ الَّذِي لَا يُسَاوَى فِيمَا لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْمَدْحِ. الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: الْجَمِيلُ؛ هُوَ الَّذِي لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ. الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: الْحَسِيبُ؛ وَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ عَلَى الِانْفِرَادِ، وَيُحْصِي كُلَّ شَيْءٍ وَيَقُومُ عَلَيْهِ. الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: الصَّمَدُ؛ الَّذِي لَا يَجْرِي فِي الْوَهْمِ، وَلَا يُقْصَدُ فِي الْمَطَالِبِ غَيْرُهُ. السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: الْغَنِيُّ؛ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ. السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ؛ لَا يَلْحَقُ مَرْتَبَتَهُ أَحَدٌ بِحَالٍ. الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: ذُو الطَّوْلِ يُقَالُ فِيهِ الْقَادِرُ وَالْغَنِيُّ وَالْمُنْعِمُ.

التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: ذُو الْفَضْلِ؛ وَهُوَ الْمُنْعِمُ يُؤْتِي مَنْ يَشَاءُ. الْمُوفِي ثَلَاثِينَ: السَّيِّدُ: الْمُنْفَرِدُ بِالْكَمَالِ. الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: الْكَرِيمُ؛ وَهُوَ الَّذِي تَعُمُّ إرَادَتُهُ. الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: الطَّيِّبُ: الْمُتَقَدِّسُ عَنْ الْآفَاتِ. الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: الْأَوَّلُ؛ الَّذِي لَا ابْتِدَاءَ لَهُ. الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: الْآخِرُ؛ الَّذِي لَا انْتِهَاءَ لَهُ. الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ: الْبَاقِي؛ هُوَ الَّذِي لَا يَفْنَى. وَهُوَ الْوَارِثُ، وَهُوَ الدَّائِمُ؛ وَهُمَا السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ وَالسَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ. الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ: الظَّاهِرُ؛ وَهُوَ الَّذِي يُدْرَكُ بِالدَّلِيلِ. التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ: الْبَاطِنُ؛ وَهُوَ الَّذِي لَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ. الْمُوفِي أَرْبَعِينَ: اللَّطِيفُ، الْعَالِمُ بِالْخَبَايَا، الْمُهْتَبِلُ بِالْعَطَايَا، الْقَادِرُ، وَالْمُقْتَدِرُ، وَالْقَدِيرُ، وَالْقَوِيُّ فَكَمُلَ بِهَا أَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ. الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: الْمُقِيتُ، وَهُوَ الْقَادِرُ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، الْمُؤْتِي لِكُلِّ شَيْءٍ قُوَّتَهُ. السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: الْمَتِينُ؛ وَهُوَ الَّذِي لَا يَلْحَقُهُ ضَعْفٌ. الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ: الْمُحِيطُ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ عَنْ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ. التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمُوفِي خَمْسِينَ: الْوَاسِعُ، وَالْمُوسِعُ، وَهُوَ الَّذِي عَمَّتْ قُدْرَتُهُ وَإِرَادَتُهُ وَعِلْمُهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَكَذَلِكَ بَصَرُهُ وَسَمْعُهُ وَكَلَامُهُ. الْعَلِيمُ، وَالْعَالِمُ، وَالْعَلَّامُ؛ فَهَذِهِ ثَلَاثَةٌ وَخَمْسُونَ اسْمًا. الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ، وَالْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ: السَّمِيعُ، وَهُوَ الَّذِي يَسْمَعُ كُلَّ مَوْجُودٍ. وَالْبَصِيرُ، وَهُوَ الَّذِي يَرَى كُلَّ مَوْجُودٍ، وَيَعْلَمُ الْمَعْدُومَ وَالْمَوْجُودَ. السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ: الشَّهِيدُ؛ الْحَاضِرُ مَعَ كُلِّ مَوْجُودٍ بِالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ. السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: الْخَبِيرُ: الْعَالِمُ بِالْخَبَايَا. الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ: الطَّبِيبُ؛ وَهُوَ الْعَالِمُ بِالْمَنَافِعِ.

التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ: الْمُحْصِي، وَهُوَ الَّذِي ضَبَطَ عِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ وَإِرَادَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ. الْمُوفِي سِتِّينَ: الْمُقَدِّرُ، وَهُوَ الَّذِي رَتَّبَ مَقَادِيرَ الْأَشْيَاءِ بِحِكْمَةٍ مُتَنَاسِبَةٍ. الْحَادِي وَالسِّتُّونَ: الرَّقِيبُ: الَّذِي لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ. الثَّانِي وَالسِّتُّونَ: الْقَرِيبُ بِالْعِلْمِ الَّذِي لَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ. الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ: الْحَيُّ. الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ: الْمُرِيدُ. الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ: الْحَكَمُ، وَهُوَ يَتَصَرَّفُ فِي الدُّعَاءِ فِعْلًا، تَقُولُ: يَا مَنْ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، صَرِّفْنِي بِطَاعَتِك، وَاحْكُمْ بَيْنِي وَبَيْنَ مَنْ يُخَاصِمُنِي فِيك. السَّادِسُ وَالسِّتُّونَ وَالسَّابِعُ وَالسِّتُّونَ: الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ: الَّذِي يُرِيدُ الْخَيْرَ لِعِبَادِهِ عَلَى الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ. الثَّامِنُ وَالسِّتُّونَ: الْمُحِبُّ، وَيَتَصَرَّفُ فِعْلًا قَالَ تَعَالَى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]. وَكَذَلِكَ الْمُبْغِضُ، فَاَلَّذِي يَرْجِعَانِ إلَيْهِ إرَادَةُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَهُوَ التَّاسِعُ وَالسِّتُّونَ. الْمُوفِي سَبْعِينَ: الرِّضَا؛ يَتَصَرَّفُ فِعْلًا، وَهُوَ إرَادَةُ مَا يَكُونُ فَوْقَ الِاسْتِحْقَاقِ. الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ: السَّخَطُ، يَتَصَرَّفُ فِعْلًا. وَهُوَ إرَادَةُ خِلَافِ الرِّضَا، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْكَرَاهِيَةِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ. الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ: الْوَدُودُ، وَهُوَ الَّذِي يَفْعَلُ الْخَيْرَ مَعَ مَنْ يَسْتَحِقُّهُ وَمَعَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ. الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ: الْعَفُوُّ؛ وَهُوَ الَّذِي يُرِيدُ تَسْهِيلَ الْأُمُورِ. الرَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ: الرَّءُوفُ؛ وَهُوَ الْكَثِيرُ الرَّحْمَةِ. الْخَامِسُ وَالسَّبْعُونَ: عَدُوُّ الْكَافِرِينَ، وَهُوَ الْبَعِيدُ بِالْعِقَابِ.

السَّادِسُ وَالسَّبْعُونَ: الْوَلِيُّ، وَهُوَ الْقَرِيبُ بِالثَّوَابِ وَالنِّعَمِ. السَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ: الصَّبُورُ: الَّذِي يُرِيدُ تَأْخِيرَ الْعِقَابِ. الثَّامِنُ وَالسَّبْعُونَ: الْحَلِيمُ، الَّذِي يُرِيدُ إسْقَاطَ الْعِقَابِ. التَّاسِعُ وَالسَّبْعُونَ: الْمُعِزُّ، وَهُوَ الَّذِي يُعِزُّ أَوْلِيَاءَهُ. الْمُوفِي ثَمَانِينَ: الْحَفِيُّ، وَهُوَ غَايَةُ الْبِرِّ. الْحَادِي وَالثَّمَانُونَ: الْوَلِيُّ، وَهُوَ الْمُحِبُّ لِأَوْلِيَائِهِ. الثَّانِي وَالثَّمَانُونَ: خَيْرُ الْفَاصِلِينَ: الَّذِينَ يُمَيِّزُ الْمُخْتَلِفَاتِ بِقَوْلِهِ. الثَّالِثُ وَالثَّمَانُونَ: الْمُبِينُ، وَهُوَ الَّذِي يَعْرِفُ عِبَادُهُ بِكَلَامِهِ مُرَادَهُ؛ وَذَلِكَ لِأَهْلِ السُّنَّةِ خَاصَّةً. الرَّابِعُ وَالثَّمَانُونَ: الصَّادِقُ: مَنْ لَا يُوجَدُ خَبَرُهُ بِخِلَافِ مَخْبَرِهِ. الْخَامِسُ وَالثَّمَانُونَ: الْهَادِي؛ وَهُوَ الَّذِي يُعَرِّفُ الْمَرَاشِدَ، وَيُوَفِّقُ لَهَا. السَّادِسُ وَالثَّمَانُونَ: الرَّشِيدُ بِمَعْنَى الْمُرْشِدِ، وَيَرْجِعُ إلَى الْهَادِي. السَّابِعُ وَالثَّمَانُونَ: نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَيَرْجِعُ إلَى الْهُدَى. الثَّامِنُ وَالثَّمَانُونَ: الْمُؤْمِنُ، يُصَدِّقُ نَفْسَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ وَيُخَلِّصُهُمْ مِنْ الْعِقَابِ. التَّاسِعُ وَالثَّمَانُونَ: الْمُهَيْمِنُ، فِيهِ كَلَامٌ كَثِيرٌ يَرْجِعُ إلَى الرَّقِيبِ. الْمُوفِي تِسْعِينَ: الْحَمِيدُ، يُثْنِي عَلَى أَوْلِيَائِهِ، وَيُثْنُونَ عَلَيْهِ. الْحَادِي وَالتِّسْعُونَ: الشَّكُورُ، وَهُوَ الَّذِي يُمْدَحُ عَلَى الْفِعْلِ خَاصَّةً. الثَّالِثُ وَالتِّسْعُونَ: غَيُورٌ، وَهُوَ الَّذِي لَا يُحَرِّمُ سِوَاهُ. الثَّالِثُ وَالتِّسْعُونَ: الْحَكِيمُ، مُحْكِمُ الْأَشْيَاءِ بِخَلْقِهَا عَلَى نِظَامٍ وَتَدْبِيرٍ. الرَّابِعُ وَالتِّسْعُونَ: التَّوَّابُ، الَّذِي يَرْجِعُ بِالْعَبْدِ مِنْ حَالِ الْمَعْصِيَةِ إلَى حَالِ الطَّاعَةِ. الْخَامِسُ وَالتِّسْعُونَ: الْفَتَّاحُ، يَفْتَحُ غَلْقَ الْعُدْمِ بِالْوُجُودِ، وَغَلْقَ الْجَهْلِ بِالْعِلْمِ، وَغَلْقَ الرِّزْقِ بِالْعَطَاءِ؛ وَذَلِكَ كَثِيرٌ. وَمِثْلُهُ الْحَكَمُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} [الأنعام: 114] وَهُوَ الْخَامِسُ وَالتِّسْعُونَ. السَّادِسُ وَالتِّسْعُونَ: الْقَاضِي؛ وَهُوَ الَّذِي لَا يُرَدُّ حُكْمُهُ.

السَّابِعُ وَالتِّسْعُونَ: الْكَفِيلُ، الْمُلْتَزِمُ لِثَوَابِ عِبَادِهِ وَرِزْقِهِمْ. الثَّامِنُ وَالتِّسْعُونَ: الْمُبْرِمُ، هُوَ الَّذِي إذَا عَقَدَ لَمْ يَحِلَّ عَقْدَهُ. التَّاسِعُ وَالتِّسْعُونَ: الْمُنْذِرُ، هُوَ الَّذِي يَعْرِفُ بِكَلَامِهِ عِبَادُهُ وَعِيدَهُ. الْمُوفِي مِائَةً: الْمُدَبِّرُ، وَهُوَ الَّذِي يَعْلَمُ الِانْتِهَاءَ قَبْلَ الِابْتِدَاءِ، فَيَرُدُّهُ عَلَيْهِ. الْمُمْتَحِنُ، الْبَالِي، الْمُبْلِي، الْمُبْتَلِي، هُوَ الَّذِي يُكَلِّفُ عِبَادَهُ الْوَظَائِفَ؛ لِيَعْلَمَ مِنْ حَالِهِمْ فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ مُشَاهَدَةَ مَا عَلِمَ غَيْبًا، وَبِهَا تَمَّتْ مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ. الْخَامِسُ بَعْدَ الْمِائَةِ: الْفَاتِنُ، وَهُوَ الْمُبْتَلِي؛ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الِاخْتِبَارِ. السَّادِسُ بَعْدَ الْمِائَةِ: الرَّبُّ، وَهُوَ الَّذِي يَنْقُلُ الْأَشْيَاءَ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ، وَيُبَدِّلُهُمْ بِصِفَةٍ بَعْدَ صِفَةٍ فِي طَرِيقِ النُّمُوِّ وَالْإِنْشَاءِ. السَّابِعُ بَعْدَ الْمِائَةِ: الْعَدْلُ، وَهُوَ الَّذِي تَأْتِي أَفْعَالُهُ عَلَى مُقْتَضَى إرَادَتِهِ. الثَّامِنُ بَعْدَ الْمِائَةِ: الْخَالِقُ، وَهُوَ الَّذِي يُوجِدُ بَعْدَ الْعُدْمِ، وَيُقَدِّرُ الْأَشْيَاءَ عَلَى الْأَحْوَالِ. التَّاسِعُ بَعْدَ الْمِائَةِ: الْبَارِئُ؛ مُنْشِئُ الْبَرِيَّةِ مِنْ الْبَرَى، وَهُوَ التُّرَابُ. الْعَاشِرُ بَعْدَ الْمِائَةِ: الْمُصَوِّرُ، وَهُوَ الَّذِي يُرَتِّبُ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى صِفَاتٍ مُخْتَلِفَاتٍ وَهَيْئَاتٍ مُتَغَايِرَاتٍ. الْحَادِيَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ: الْمُبْدِئُ: وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بِأَوَائِلِ الْأَشْيَاءِ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ. الثَّانِي عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ: الْمُعِيدُ، وَهُوَ الَّذِي يَرُدُّهَا، بَعْدَ الْفَنَاءِ، كَمَا كَانَتْ وُجُودًا وَصِفَةً وَوَقْتًا. الثَّالِثَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ: فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، الَّذِي أَنْشَأَهَا مِنْ غَيْرِ مِثَالٍ وَقَبْلَ كُلِّ مُنْشِئٍ. الرَّابِعَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ: الْمُحْيِي، وَيُقَابِلُهُ الْمُمِيتُ، وَهُوَ الْخَامِسَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ، يُحْيِي الْخَلْقَ بِالْوُجُودِ وَالْحَرَكَةِ وَالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَالْهُدَى، وَيُمِيتُهُمْ بِذَلِكَ إلَى سَائِرِ مُتَعَلِّقَاتِ الْإِحْيَاءِ، حَسْبَمَا رَتَّبْنَاهُ فِي كِتَابِ الْأَمَدِ الْأَقْصَى. السَّادِسَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ: الْجَامِعُ، وَهُوَ تَأْلِيفُ الْمُفْتَرِقِ. السَّابِعَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ: الْمُعِزُّ، وَفِي مُقَابَلَتِهِ الْمُذِلُّ، وَهُوَ الَّذِي يَرْفَعُ مِقْدَارَ أَوْلِيَائِهِ، وَيَحُطُّ مِقْدَارَ أَعْدَائِهِ.

الثَّامِنَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ: مُخْزِي الْكَافِرِينَ؛ وَالْخِزْيُ هُوَ فِعْلُ مَا يُسْتَحْيَا مِنْهُ. التَّاسِعَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ: الْعَفُوُّ؛ وَهُوَ الَّذِي يُسْقِطُ حَقَّهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ. الْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ: الْقَهَّارُ؛ وَهُوَ الَّذِي يَغْلِبُ الْعِبَادَ. الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ: الْوَهَّابُ؛ وَهُوَ الَّذِي يُعْطِي مِنْ غَيْرِ تَوَقُّعِ عِوَضٍ. الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ: الرَّزَّاقُ؛ وَهُوَ الَّذِي يَهَبُ الْغِذَاءَ وَالِاكْتِسَاءَ مِنْ رِيَاشٍ وَمَعَاشٍ. الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ: جَوَّادٌ، وَهُوَ الْكَثِيرُ الْعَطَاءِ. الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ وَالْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ: الْخَافِضُ، الرَّافِعُ؛ وَهُوَ الَّذِي يَحُطُّ دَرَجَةَ أَعْدَائِهِ، وَيُعْلِي مَنَازِلَ أَوْلِيَائِهِ وَمَقَادِيرَهُمْ دُنْيَا وَآخِرَةً؛ جَاهًا وَمَالًا، عَمَلًا وَاعْتِقَادًا. السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ وَالسَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ: الْقَابِضُ، الْبَاسِطُ؛ وَهُوَ الَّذِي لَا يَتَصَرَّفُ عَبْدُهُ وَلَا يَنْبَسِطُ إلَّا بِقُدْرَتِهِ، وَفِي حَيِّزِ مَشِيئَتِهِ؛ فَإِنْ خَلَقَ لَهُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْعُمُومِ تَبَسَّطَتْ عَلَى مَا خُلِقَتْ لَهُ، وَإِنْ خَلَقَهَا عَلَى الْخُصُوصِ تَعَلَّقَتْ بِمَا خُلِقَتْ لَهُ وَقُدِّرَتْ بِهِ. الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ وَالتَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ: الْمُقَدِّمُ، وَالْمُؤَخِّرُ؛ وَذَلِكَ مَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْأَوْقَاتِ، يَخْلُقُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، بِحَسَبِ مَا عَلِمَهُ وَقَضَاهُ وَقَدَّرَهُ؛ لَيْسَ لِأَحَدٍ ذَلِكَ إلَّا لَهُ. الثَّلَاثُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ: الْمُقْسِطُ: وَهُوَ الَّذِي تَجْرِي أَحْكَامُهُ عَلَى مُقْتَضَى إرَادَتِهِ. الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ: النَّصِيرُ؛ وَهُوَ الَّذِي يُتَابِعُ آلَاءَهُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ، وَيَكُفُّ عَنْهُمْ عَادِيَةَ أَعْدَائِهِ. الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ: الشَّافِي؛ وَهُوَ الَّذِي يَهَبُ الصِّحَّةَ بَعْدَ الْمَرَضِ. الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ: مُقَلِّبُ الْقُلُوبِ؛ وَهُوَ اسْمٌ عَظِيمٌ، مَعْنَاهُ مُصَرِّفُهَا أَسْرَعَ مِنْ مَرِّ الرِّيحِ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ وَالْيَقِينِ وَالشَّكِّ، وَالْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهِيَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْصَافِ. الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ: الضَّارُّ، النَّافِعُ؛ وَهُوَ خَالِقُ الْأَلَمِ

الَّذِي يَقَعُ بِهِ مُوَازَنَةٌ. وَالنَّفْعُ هُوَ كُلُّ مَا لَا أَلَمَ فِيهِ؛ وَهُوَ نَعِيمُ الْجَنَّةِ، فَأَمَّا الدُّنْيَا فَلَا تَخْلُو مِنْهُمَا عَنْ الِاشْتِرَاكِ. السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ: ذُو الْمَعَارِجِ يَعْنِي الَّذِي يُؤْتِي الْمَنَازِلَ، وَيُصَرِّفُ الْأُمُورَ عَلَى الْمَرَاتِبِ، وَيُنَزِّلُ الْمَأْمُورِينَ عَلَى الْمَقَادِيرِ. السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ: خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ؛ الْمَنَازِلُ لِلَّهِ يُؤْتِيهَا مَحْمُودَةً لِمَنْ يُحِبُّ، وَمَذْمُومَةً لِمَنْ يُبْغِضُ. الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ: خَيْرُ الْمَاكِرِينَ، هُوَ الَّذِي يُظْهِرُ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ. التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ: مُتِمُّ نُورِهِ؛ أَيْ يَدُومُ وَلَا يَنْقَطِعُ، وَيَظْهَرُ وَلَا يَخْفَى، فِي قُلُوبِ أَوْلِيَائِهِ بِالْإِيمَانِ؛ وَبَيْنَ أَيْدِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ، وَفِي الْجَنَّةِ بِالنَّعِيمِ الدَّائِمِ. الْمُوفِي أَرْبَعِينَ بَعْدَ الْمِائَةِ: الْوَكِيلُ؛ وَهُوَ الَّذِي يُلْقِي إلَيْهِ الْخَلْقُ مَقَالِيدَهُمْ، فَلَا يَقُومُ بِهَا أَحَدٌ غَيْرُهُ. الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ: الْمُسْتَعَانُ؛ وَهُوَ الَّذِي لَا يَطْلُبُ الْعَوْنَ وَهُوَ خَلْقُ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّاعَةِ إلَّا مِنْهُ. الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ: الْمَعْبُودُ، وَهُوَ الَّذِي لَا يُتَذَلَّلُ إلَّا لَهُ. الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ: الْمَذْكُورُ؛ وَهُوَ الَّذِي لَا يَجْرِي لِسَانٌ إلَّا بِهِ، وَلَا يَعْمُرُ خَاطِرٌ إلَّا بِذِكْرِهِ، وَلَا يُرَى شَيْءٌ إلَّا وَهُوَ فِيهِ بِأَدِلَّتِهِ وَآثَارِ صَنْعَتِهِ. الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ وَالسَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ وَمِائَةٌ: أَهْلُ التَّقْوَى، وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ؛ الَّذِي لَا يُتَّقَى سِوَاهُ، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرُهُ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: هَذَا مُنْتَهَى مَا حَضَرَ مِنْ ذِكْرِ الْأَسْمَاءِ لِلتَّضَرُّعِ وَالِابْتِهَالِ؛ وَقَدْ بَقِيَ نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثِينَ اسْمًا ضَمَّنَّاهَا كِتَابِ الْأَمَدِ "، هَذِهِ أُصُولُهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] فَهَذَا هُوَ قِسْمُ الْعَمَلِ. وَالدُّعَاءُ فِي اللُّغَةِ وَالْحَقِيقَةِ

مسألة يخترعون أدعية يسمون فيها الباري بغير أسمائه

هُوَ الطَّلَبُ؛ أَيْ اُطْلُبُوا مِنْهُ بِأَسْمَائِهِ، فَيُطْلَبُ بِكُلِّ اسْمٍ مَا يَلِيقُ بِهِ، تَقُولُ: يَا رَحِيمُ ارْحَمْنِي، يَا حَكِيمُ اُحْكُمْ لِي، يَا رَزَّاقُ اُرْزُقْنِي، يَا هَادِي اهْدِنِي. وَإِنْ دَعَوْت بِاسْمٍ عَامٍّ قُلْت: يَا مَالِكُ ارْحَمْنِي، يَا عَزِيزُ اُحْكُمْ لِي، يَا لَطِيفُ اُرْزُقْنِي. وَإِنْ دَعَوْت بِالِاسْمِ الْأَعْظَمِ قُلْت: يَا اللَّهُ، فَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِكُلِّ اسْمٍ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْأَمَدِ، وَلَا تَقُلْ يَا رَزَّاقُ اهْدِنِي إلَّا أَنْ تُرِيدَ يَا رَازِقُ اُرْزُقْنِي الْهُدَى، وَهَكَذَا رَتِّبْ دُعَاءَك عَلَى اعْتِقَادِك تَكُنْ مِنْ الْمُحْسِنِينَ إنْ شَاءَ اللَّهُ. [مَسْأَلَة يَخْتَرِعُونَ أَدْعِيَةً يُسَمُّونَ فِيهَا الْبَارِيَ بِغَيْرِ أَسْمَائِهِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف: 180] يُقَالُ: أَلْحَدَ وَلَحَدَ: إذَا مَالَ. وَالْإِلْحَادُ يَكُونُ بِوَجْهَيْنِ: بِالزِّيَادَةِ فِيهَا، وَالنُّقْصَانِ مِنْهَا، كَمَا يَفْعَلهُ الْجُهَّالُ الَّذِينَ يَخْتَرِعُونَ أَدْعِيَةً يُسَمُّونَ فِيهَا الْبَارِي بِغَيْرِ أَسْمَائِهِ وَيَذْكُرُونَهُ بِمَا لَمْ يَذْكُرْهُ مِنْ أَفْعَالِهِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، مِمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ؛ فَحَذَارِ مِنْهَا، وَلَا يَدْعُوَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إلَّا بِمَا فِي الْكُتُبِ الْخَمْسَةِ؛ وَهِيَ كِتَابُ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبِي دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ؛ فَهَذِهِ الْكُتُبُ هِيَ بَدْءُ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ دَخَلَ فِيهَا مَا فِي الْمُوَطَّإِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ التَّصَانِيفِ؛ وَذَرُوا سِوَاهَا، وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدٌ: أَخْتَارُ دُعَاءَ كَذَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ اخْتَارَ لَهُ، وَأَرْسَلَ بِذَلِكَ إلَى الْخَلْقِ رَسُولَهُ. . [الْآيَة الْمُوفِيَة عشرين قَوْله تَعَالَى أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ] الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ: قَوْله تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 185]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّظَرِ فِي آيَاتِهِ، وَالِاعْتِبَارِ بِمَخْلُوقَاتِهِ فِي أَعْدَادٍ كَثِيرَةٍ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ، أَرَادَ بِذَلِكَ زِيَادَةً فِي الْيَقِينِ، وَقَوْلًا فِي الْإِيمَانِ، وَتَثْبِيتًا لِلْقُلُوبِ عَلَى التَّوْحِيدِ. وَقَدْ رَوَى

مسألة حقيقة التفكر

ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ؛ قَالَ: قِيلَ لِأُمِّ الدَّرْدَاءِ: مَا كَانَ أَكْثَرُ شَأْنِ أَبِي الدَّرْدَاءِ؟ قَالَتْ: كَانَ أَكْثَرُ شَأْنِهِ التَّفَكُّرَ. قِيلَ لَهُ: أَفَتَرَى الْفِكْرَ عَمَلًا مِنْ الْأَعْمَالِ؟ قَالَ: نَعَمْ. هُوَ الْيَقِينُ. وَقِيلَ لِابْنِ الْمُسَيِّبِ فِي الصَّلَاةِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ. فَقَالَ: لَيْسَتْ هَذِهِ عِبَادَةً؛ إنَّمَا الْعِبَادَةُ الْوَرَعُ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَالْفِكْرُ فِي أَمْرِ اللَّهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ. . [مَسْأَلَة حَقِيقَةُ التَّفَكُّرِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: [حَقِيقَةُ التَّفَكُّرِ]: حَقِيقَةُ التَّفَكُّرِ هُنَا تَرْدِيدُ الْعِلْمِ فِي الْقَلْبِ بِالْخَبَرِ عَنْهُ. وَالْكَلَامُ حَقِيقَةً هُوَ مَا يَجْرِي فِي النَّفْسِ، وَالْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ عِبَارَةٌ عَنْهُ، وَأَقَلُّ مَا يَحْضُرُ فِي الْقَلْبِ مِنْ الْعِلْمِ عِلْمَانِ اثْنَانِ: أَحَدُهُمَا نَسَقُ الْآخَرِ، وَمِثَالُهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْجَنَّةَ مَطْلُوبَةٌ، وَأَنَّ الْمُوَصِّلَ إلَيْهَا آكَدُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَحِينَئِذٍ يَجْتَهِدُ فِي الْعَمَلِ؛ وَآكَدُ مِنْ هَذَا أَنْ تَعْلَمَ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ بِمَعْرِفَتِهِ وَمَعْرِفَةِ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَمَلَكُوتِهِ فِي أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ؛ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِالنَّظَرِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ، وَهِيَ لَا تُحْصَى كَثْرَةً؛ وَأُمَّهَاتُهَا السَّمَوَاتُ، فَتَرَى كَيْفَ بُنِيَتْ وَزُيِّنَتْ مِنْ غَيْرِ فُطُورٍ وَرُفِعَتْ بِغَيْرِ عَمَدٍ، وَخُولِفَ مِقْدَارُ كَوَاكِبِهَا، وَنُصِبَتْ سَائِرَةً شَارِقَةً وَغَارِبَةً نَيِّرَةً، وَمَمْحُوَّةً؛ كُلُّ ذَلِكَ بِحِكْمَةٍ وَمَنْفَعَةٍ. وَالْأَرْضَ فَانْظُرْ إلَيْهَا كَيْفَ وُضِعَتْ فِرَاشًا، وَوُطِئَتْ مِهَادًا، وَجُعِلَتْ كِفَاتًا، وَأَنْبَتَتْ مَعَاشًا، وَأُرْسِيَتْ بِالْجِبَالِ، وَزُيِّنَتْ بِالنَّبَاتِ، وَكُرِّمَتْ بِالْأَقْوَاتِ، وَأُرْصِدَتْ لِتَصَرُّفِ الْحَيَوَانَاتِ وَمَعَاشِهَا؛ وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِيهِ عِبْرَةٌ تَسْتَغْرِقُ الْفِكْرَةَ: وَالْحَيَوَانُ أَحَدُ قِسْمَيْ الْمَخْلُوقَاتِ، وَالثَّانِي الْجَمَادَاتُ؛ فَانْظُرْ فِي أَصْنَافِهَا، وَاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا وَأَجْنَاسِهَا، وَانْقِيَادِهَا وَشَرَسِهَا، وَتَسْخِيرِهَا فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا، زِينَةً وَقُوتًا، وَتَقَلُّبًا فِي الْأَرْضِ.

مسألة أي العملين أفضل التفكر أم الصلاة

وَالْبِحَارُ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ عِبْرَةً، وَأَدَلُّهَا عَلَى سَعَةِ الْقُدْرَةِ فِي سَعَتِهَا، وَاخْتِلَافِ خَلْقِهَا، وَتَسْيِيرِ الْفُلْكِ فِيهَا، وَخُرُوجِ الرِّزْقِ مِنْهَا، وَالِانْتِفَاعِ فِي الِانْتِقَالِ إلَى الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ بِالْأَثْقَالِ الْوَئِيدَةِ بِهَا. وَالْهَوَاءُ فَإِنَّهُ خَلْقٌ مَحْسُوسٌ بِهِ قِوَامُ الرُّوحِ فِي الْآدَمِيِّ وَحَيَوَانِ الْبَرِّ، كَمَا أَنَّ الْمَاءَ قِوَامٌ لِرُوحِ حَيَوَانِ الْبَحْرِ، فَإِذَا فَارَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِوَامَهُ هَلَكَ، وَانْظُرْ إلَى رُكُودِهِ ثُمَّ اضْطِرَابِهِ، وَهُوَ بِالرِّيحِ. وَالْإِنْسَانُ أَقْرَبُهَا إلَيْهَا نَظَرًا، وَأَكْثَرُهَا إنْ بَحَثَ عِبْرًا، فَلْيَنْظُرْ إلَى نَفْسِهِ مِنْ حِينِ كَوْنِهَا مَاءً دَافِقًا إلَى كَوْنِهِ خَلْقًا سَوِيًّا، يُعَانُ بِالْأَغْذِيَةِ، وَيُرَبَّى بِالرِّفْقِ، وَيُحْفَظُ بِاللَّبَنِ حَتَّى يَكْتَسِبَ الْقُوَى، وَيَبْلُغَ الْأَشُدَّ؛ فَإِذَا بِهِ قَدْ قَالَ أَنَا وَأَنَا، وَنَسِيَ حِينَ أَتَى عَلَيْهِ حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، وَسَيَعُودُ مَقْبُورًا. وَهَذَا زَمَانٌ وَسَطٌ بَيْنَهُمَا، فَيَا وَيْحَه إنْ كَانَ مَحْسُورًا فَيَنْظُرُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ عَبْدٌ مَرْبُوبٌ، مُكَلَّفٌ مَخُوفٌ بِالْعَذَابِ إنْ قَصَّرَ، مُرْجًى بِالثَّوَابِ إنْ ائْتَمَرَ، فَيُقْبِلُ عَلَى عِبَادَةِ مَوْلَاهُ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَرَاهُ يَرَاهُ، وَلَا يَخْشَى النَّاسَ فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يَخْشَاهُ، وَلَا يَتَكَبَّرُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ فَإِنَّهُ مُؤَلَّفٌ مِنْ أَقْذَارٍ، مَشْحُونٌ مِنْ أَوْضَارٍ، صَائِرٌ إلَى جَنَّةٍ إنْ أَطَاعَ، أَوْ إلَى نَارٍ. وَلِذَلِكَ كَانَ شُيُوخُنَا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَنْظُرَ الْمَرْءُ فِي الْأَبْيَاتِ الْحِكَمِيَّةِ الَّتِي جَمَعَتْ هَذِهِ الْأَوْصَافَ الْعِلْمِيَّةَ: كَيْفَ يُزْهَى مَنْ رَجِيعُهُ ... أَبَدَ الدَّهْرِ ضَجِيعُهُ فَهُوَ مِنْهُ وَإِلَيْهِ ... وَأَخُوهُ وَرَضِيعُهُ وَهُوَ يَدْعُوهُ إلَى الْحَشِّ ... بِصُغْرٍ فَيُطِيعُهُ [مَسْأَلَة أَيُّ الْعَمَلَيْنِ أَفْضَلُ التَّفَكُّرُ أَمْ الصَّلَاةُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَيُّ الْعَمَلَيْنِ أَفْضَلُ: التَّفَكُّرُ أَمْ الصَّلَاةُ؟: اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ النَّاسُ، فَصَغْوُ أَيْ مَيْلُ الصُّوفِيَّةِ إلَى أَنَّ الْفِكْرَةَ أَفْضَلُ، فَإِنَّهَا تُثْمِرُ الْمَعْرِفَةَ، وَهِيَ أَفْضَلُ الْمَقَامَاتِ الشَّرْعِيَّةِ. وَصَغْوُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الصَّلَاةَ وَالذِّكْرَ أَفْضَلُ؛ لِمَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحَثِّ وَالدُّعَاءِ إلَيْهَا، وَالتَّرْغِيبِ فِيهَا، وَالْإِيعَازِ بِمَنَازِلِهَا وَثَوَابِهَا. وَاَلَّذِي عِنْدِي فِيهِ أَنَّ النَّاسَ مُخْتَلِفُونَ

الآية الحادية والعشرون والثانية والعشرون والثالثة والعشرون قوله تعالى هو الذي خلقكم من نفس واحدة

فَمَنْ كَانَ شَدِيدَ الْفِكْرِ، قَوِيَّ النَّظَرِ، مُسْتَمِرَّ الْمِرَرِ، قَادِرًا عَلَى الْأَدِلَّةِ، مُتَبَحِّرًا فِي الْمَعَارِفِ، فَالْفِكْرُ لَهُ أَفْضَلُ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَالْأَعْمَالُ أَقْوَى لِنَفْسِهِ، وَأَثْبَتُ لِعُودِهِ. ثَبَتَ عَنْ «ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ زَوْجِهِ مَيْمُونَةَ، وَبَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعَهُ فِي لَيْلَةٍ لَمْ تَكُنْ مَيْمُونَةُ تُصَلِّي فِيهَا، فَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَزَوْجُهُ فِي طُولِ الْوِسَادَةِ، وَاضْطَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي عَرْضِهَا؛ فَلَمَّا انْتَصَفَ اللَّيْلُ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ، أَوْ بَعْدَهُ، قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَسَحَ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الْآيَاتِ الْخَوَاتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ؛ ثُمَّ قَامَ إلَى شَنٍّ مُعَلَّقٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهُ وُضُوءًا خَفِيفًا، ثُمَّ صَلَّى خَمْسَ عَشْرَةَ رَكْعَةً.» فَانْظُرُوا رَحِمَكُمْ اللَّهُ إلَى جَمْعِهِ بَيْنَ الْفِكْرَةِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ لِتَأْكِيدِ الْمَعْرِفَةِ وَتَحْدِيدِهَا حَتَّى تَجَدَّدَتْ لَهُ حَيَاةٌ بِالْهَبِّ مِنْ النَّوْمِ، ثُمَّ إقْبَالِهِ عَلَى الصَّلَاةِ بَعْدَهَا؛ فَهَذِهِ هِيَ السُّنَّةُ الَّتِي تَعْتَمِدُونَ عَلَيْهَا. فَأَمَّا طَرِيقَةُ الصُّوفِيَّةِ فَأَنْ يَكُونَ الشَّيْخُ مِنْهُمْ يَبْقَى يَوْمًا وَلَيْلَةً أَوْ شَهْرًا مُفَكِّرًا لَا يَفْتُرُ فَطَرِيقَةٌ بَعِيدَةٌ عَنْ الصَّوَابِ غَيْرُ لَائِقَةٍ بِالشَّرْعِ وَلَا مُسْتَمِرَّةٍ عَلَى السُّنَنِ. [الْآيَة الْحَادِيَة وَالْعُشْرُونَ وَالثَّانِيَة وَالْعُشْرُونَ وَالثَّالِثَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ] الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 189] {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف: 190]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْمَعْنِيِّ بِهَا: وَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ «حَوَّاءُ الْأُمُّ الْأُولَى، حَمَلَتْ بِوَلَدِهَا، فَلَمْ تَجِدْ لَهُ ثِقَلًا، وَلَا قَطَعَ بِهَا عَنْ عَمَلٍ، فَكُلَّمَا اسْتَمَرَّ بِهَا ثَقُلَ عَلَيْهَا، فَجَاءَهَا الشَّيْطَانُ وَقَالَ لَهَا: إنْ كُنْت تَعْلَمِينَ أَنَّ هَذَا الَّذِي يَضْطَرِبُ فِي بَطْنِك مِنْ أَيْنَ يَخْرُجُ مِنْ جِسْمِك؛ إنَّهُ لَيَخْرُجُ مِنْ أَنْفِك، أَوْ مِنْ عَيْنِك، أَوْ مِنْ فَمِك، وَرُبَّمَا كَانَ بَهِيمَةً؛ فَإِنْ خَرَجَ سَلِيمًا يُشْبِهُك تُطِيعِينَنِي فِيهِ؟ قَالَتْ لَهُ: نَعَمْ. فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِآدَمَ، فَقَالَ لَهَا: هُوَ صَاحِبُك الَّذِي أَخْرَجَك مِنْ الْجَنَّةِ. فَلَمَّا وَلَدَتْ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ سَمَّتْهُ عَبْدَ الْحَارِثِ بِإِشَارَةِ إبْلِيسَ بِذَلِكَ عَلَيْهَا، وَكَانَ اسْمُهُ فِي الْمَلَائِكَةِ الْحَارِثَ، فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف: 190].» وَذَلِكَ مَذْكُورٌ وَنَحْوُهُ فِي ضَعِيفِ الْحَدِيثِ فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ. وَفِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ كَثِيرٌ لَيْسَ لَهَا ثَبَاتٌ، وَلَا يُعَوِّلُ عَلَيْهَا مَنْ لَهُ قَلْبٌ؛ فَإِنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَإِنْ كَانَ غَرَّهُمَا بِاَللَّهِ الْغَرُورُ فَلَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ، وَمَا كَانَا بَعْدَ ذَلِكَ لِيَقْبَلَا لَهُ نُصْحًا وَلَا يَسْمَعَا مِنْهُ قَوْلًا. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا جِنْسُ الْآدَمِيِّينَ؛ فَإِنَّ حَالَهُمْ فِي الْحَمْلِ وَخِفَّتِهِ وَثِقَلِهِ إلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ. وَإِذَا خَفَّ عَلَيْهِمْ الْحَمْلُ اسْتَمَرُّوا بِهِ؛ فَإِذَا ثَقُلَ عَلَيْهِمْ نَذَرُوا كُلَّ نَذْرٍ فِيهِ، فَإِذَا وُلِدَ لَهُمْ ذَلِكَ الْوَلَدُ جَعَلُوا فِيهِ لِغَيْرِ اللَّهِ شُرَكَاءَ فِي تَسْمِيَتِهِ وَعَمَلِهِ، حَتَّى إنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَنْسُبُهُ إلَى الْأَصْنَامِ، وَيَجْعَلُهُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَعَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ بِالْحَقِّ، وَأَقْرَبُ إلَى الصِّدْقِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَعُمُومُهَا الَّذِي يَشْمَلُ جَمِيعَ مُتَنَاوَلَاتِهَا، وَيَسْلَمُ فِيهَا الْأَنْبِيَاءُ عَنْ النَّقْصِ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِجُهَّالِ الْبَشَرِ، فَكَيْفَ بِسَادَتِهِمْ وَأَنْبِيَائِهِمْ.

مسألة أول الحمل بشر وسرور وآخره مرض من الأمراض

[مَسْأَلَة أَوَّلُ الْحَمْلِ بِشْرٌ وَسُرُورٌ وَآخِرُهُ مَرَضٌ مِنْ الْأَمْرَاضِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: أَوَّلُ الْحَمْلِ بِشْرٌ وَسُرُورٌ، وَآخِرُهُ مَرَضٌ مِنْ الْأَمْرَاضِ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} [الأعراف: 189]. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71]. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ إنَّهُ مَرَضٌ مِنْ الْأَمْرَاضِ يُعْطِيهِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا وَلَا يَدْعُو الْمَرْءُ هَذَا الدُّعَاءَ إلَّا إذَا نَزَلَتْ بِهِ شِدَّةٌ. وَهَذِهِ الْحَالُ مُشَاهَدَةٌ فِي الْحَوَامِلِ، وَلِأَجْلِ عِظَمِ الْأَمْرِ وَشِدَّةِ الْخَطْبِ جُعِلَ مَوْتُهَا شَهَادَةً، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشُّهَدَاءُ سَبْعَةٌ سَوَاءٌ: الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَذَكَرَ: الْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجَمْعٍ شَهِيدٌ.» [مَسْأَلَة حَال الْحَامِلِ حَالُ الْمَرِيضِ فِي أَفْعَالِهَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إذَا ثَبَتَ هَذَا مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ فَحَالُ الْحَامِلِ حَالُ الْمَرِيضِ فِي أَفْعَالِهَا، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّ فِعْلَ الْمَرِيضِ فِيمَا يَهَبُ أَوْ يُحَابِي فِي ثُلُثِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: إنَّمَا ذَلِكَ فِيمَا يَكُونُ حَالُ الطَّلْقِ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا؛ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْحَمْلَ عَادَةٌ وَأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ السَّلَامَةُ. قُلْنَا: كَذَلِكَ أَكْثَرُ الْمَرَضِ الْغَالِبُ عَلَيْهِ السَّلَامَةُ، وَقَدْ يَمُوتُ مَنْ لَمْ يَمْرَضْ، وَلَكِنْ أَخْذًا بِظَاهِرِ الْحَالِ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا. وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ إنْكَارَ مَرَضِ الْحَامِلِ عِنَادٌ ظَاهِرٌ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدْ حَمَلَ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِ الْمَحْبُوسَ فِي قَوَدٍ أَوْ قِصَاصٍ، وَحَاضِرَ الزَّحْفِ.

وَأَنْكَرَهُ الْإِمَامَانِ الْمَذْكُورَانِ وَغَيْرُهُمَا، فَإِذَا اسْتَوْعَبْت النَّظَرَ لِمَ تَرَتَّبَ فِي أَنَّ الْمَحْبُوسَ عَلَى الْقَتْلِ أَشَدُّ حَالًا مِنْ الْمَرِيضِ، وَإِنْكَارُ ذَلِكَ غَفْلَةٌ فِي النَّظَرِ؛ فَإِنَّ سَبَبَ الْمَوْتِ مَوْجُودٌ عِنْدَهُمَا، كَمَا أَنَّ الْمَرَضَ سَبَبُ الْمَوْتِ، وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 143] وَهِيَ: الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ غَيْرِ السُّورَةِ، وَذُكِرَتْ هَاهُنَا لِاقْتِضَاءِ الْقَوْلِ إيَّاهَا، وَإِنَّمَا رَأَوْا أَسْبَابَهُ، وَكَذَلِكَ قَالَ رُوَيْشِدُ الطَّائِيُّ: يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُزْجِي مَطِيَّتَهُ ... سَائِلْ بَنِي أَسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْتُ وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا بِالْعُذْرِ وَالْتَمِسُوا ... قَوْلًا يُبَرِّئْكُمْ إنِّي أَنَا الْمَوْتُ وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ، وَهِيَ: الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ غَيْرِ السُّورَةِ اقْتَضَاهَا الْقَوْلُ هَاهُنَا: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: 10] {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا} [الأحزاب: 11] فَكَيْفَ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: إنَّ الْحَالَةَ الشَّدِيدَةَ إنَّمَا هِيَ الْمُبَارَزَةُ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ مُنَازَلَةِ الْعَدُوِّ، وَتَدَانِي الْفَرِيقَيْنِ بِهَذِهِ الْحَالَةِ الْعُظْمَى مِنْ بُلُوغِ الْقُلُوبِ الْحَنَاجِرَ، وَمِنْ سُوءِ الظُّنُونِ بِاَللَّهِ، وَمِنْ زَلْزَلَةِ الْقُلُوبِ وَاضْطِرَابِهَا، هَلْ هَذِهِ الْحَالُ تُرَى عَلَى الْمَرِيضِ أَمْ لَا؟ فَهَذَا كُلُّهُ لَا يَشُكُّ فِيهِ مُنْصِفٌ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا لِمَنْ ثَبَتَ فِي اعْتِقَادِهِ، وَجَاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ وَشَاهَدَ الرَّسُولَ وَآيَاتِهِ، فَكَيْفَ بِنَا؟ وَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَنَا خَبَرٌ مِنْ الْأَخْبَارِ لَمْ يَعْرِفْهُ إلَّا الْأَحْبَارُ، وَلَا

مسألة راكب البحر هل حكمه حكم الصحيح أو الحامل

قَدَّرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ إلَّا الْأَخْيَارُ، وَهَذَا كُلُّهُ يُعَرِّفُكُمْ قَدْرَ مَالِكٍ عَلَى سَائِرِ الْعُلَمَاءِ فِي النَّظَرِ، وَيُبَصِّرُكُمْ اسْتِدَادَهُ عَلَى سَوَاءِ الْفِكَرِ. [مَسْأَلَة رَاكِبِ الْبَحْرِ هَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ الصَّحِيحِ أَوْ الْحَامِلِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي رَاكِبِ الْبَحْرِ؛ هَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ الصَّحِيحِ أَوْ الْحَامِلِ؟ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: حُكْمُهُ حُكْمُ الصَّحِيحِ. وَقَالَ أَشْهَبُ: حُكْمُهُ حُكْمُ الْحَامِلِ إذَا بَلَغَتْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ. وَابْنُ الْقَاسِمِ لَمْ يَرْكَبْ الْبَحْرَ، وَلَا رَأَى أَنَّهُمْ دُودٌ عَلَى عُودٍ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُوقِنَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْفَاعِلُ وَحْدَهُ لَا فَاعِلَ مَعَهُ، وَأَنَّ الْأَسْبَابَ ضَعِيفَةٌ لَا تَعَلُّقَ لِمُوقِنٍ بِهَا، وَيَتَحَقَّقُ التَّوَكُّلُ وَالتَّفْوِيضُ فَلْيَرْكَبْ الْبَحْرَ، وَلَوْ عَايَنَ ذَلِكَ سَبْعِينَ مِنْ الدَّهْرِ، وَتَطْلُعُ لَهُ الشَّمْسُ فِي الْمَاءِ وَتَغْرُبُ فِيهِ، وَيَتْبَعُهَا الْقَمَرُ كَذَلِكَ، وَلَا يَسْمَعُ لِلْأَرْضِ خَبَرًا، وَلَا تَصْفُو سَاعَةٌ مِنْ كَدَرٍ، وَيَعْطَبُ فِي آخِرِ الْحَالِ، كَانَ رَأْيُهُ كَرَأْيِ أَشْهَبَ، وَاَللَّهُ يُوَفِّقُ الْمَقَالَ وَيُسَدِّدُ بِعِزَّتِهِ الْمَذْهَبَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مَرِيضَةٌ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي فِطْرِهَا وَفِدْيَتِهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ. [الْآيَة الرَّابِعَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ] : الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]. فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْعَفْوِ: قَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ فِي الْإِطْلَاقِ وَالِاشْتِقَاقِ، وَاخْتَلَفَ إيرَادُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:

مسألة قوله وأمر بالعرف

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْفَضْلُ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ، نَسَخَتْهُ الزَّكَاةُ؛ قَالَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ الزَّكَاةُ؛ قَالَ مُجَاهِدٌ. وَسَمَّاهَا عَفْوًا؛ لِأَنَّهُ فَضْلُ الْمَالِ وَجُزْءٌ يَسِيرٌ مِنْهُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ أَمْرٌ بِالِاحْتِمَالِ وَتَرْكِ الْغِلْظَةِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَةِ الْقِتَالِ. الرَّابِعُ: خُذْ الْعَفْوَ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ؛ قَالَهُ ابْنَا الزُّبَيْرِ مَعًا، وَرُوِيَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُمَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ جِبْرِيلُ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ الْعَالِمَ، فَذَهَبَ فَمَكَثَ سَاعَةً ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُك أَنْ تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَك، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَك، وَتَصِلَ مَنْ قَطَعَك». [مَسْأَلَة قَوْلُهُ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199]: فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: الْعُرْفُ: الْمَعْرُوفُ؛ قَالَهُ عُرْوَةُ. الثَّانِي: قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. الثَّالِثُ: مَا يُعْرَفُ أَنَّهُ مِنْ الدِّينِ. الرَّابِعُ: مَا لَا يُنْكِرُهُ النَّاسُ مِنْ الْمَحَاسِنِ الَّتِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهَا الشَّرَائِعُ. [مَسْأَلَة أَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُحْكَمٌ، أُمِرَ بِاللِّينِ. الثَّانِي: أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: رَوَى «جَابِرُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ: رَكِبْت قَعُودِي ثُمَّ أَتَيْت إلَى مَكَّةَ، فَطَلَبْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنَخْت قَعُودِي بِبَابِ الْمَسْجِدِ، فَدَلُّونِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَيْهِ بُرْدٌ مِنْ صُوفٍ فِيهِ طَرَائِقُ حُمْرٌ، فَقُلْت: السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: وَعَلَيْك السَّلَامُ. فَقُلْت: إنَّا مَعْشَرَ أَهْلِ الْبَادِيَةِ قَوْمٌ فِينَا الْجَفَاءُ فَعَلِّمْنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا.

قَالَ: اُدْنُ مِنَّا. فَدَنَوْت، فَقَالَ: أَعِدْ عَلَيَّ. فَأَعَدْت. فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ، وَلَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَأَنْ تَلْقَى أَخَاك بِوَجْهٍ مُنْبَسِطٍ، وَأَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِك فِي إنَاءِ أَخِيك، وَإِنْ أَحَدٌ سَبَّك بِمَا يَعْلَمُ مِنْك فَلَا تَسُبَّهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَك أَجْرًا وَعَلَيْهِ وِزْرًا، وَلَا تَسُبَّنَّ شَيْئًا مِمَّا خَوَّلَك اللَّهُ. فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا سَبَبْت بَعْدَهُ لَا شَاةً وَلَا بَعِيرًا». الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ، فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ مِنْ النَّفَرِ الَّذِي يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أَخِيهِ: يَا بْنَ أَخِي؛ لَك وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الْأَمِيرِ، فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ قَالَ: سَأَسْتَأْذِنُ لَك. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاسْتَأْذَنَ الْجَدُّ لِعُيَيْنَةَ، فَأَذِنَ عُمَرُ، فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ: هِيهِ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، فَوَاَللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ، وَلَا تَحْكُمُ فِينَا بِالْعَدْلِ. فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ: الْعَفْوَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] وَإِنَّ هَذَا مِنْ الْجَاهِلِينَ، وَاَللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فِي تَنْقِيحِ الْأَقْوَالِ: أَمَّا الْعَفْوُ فَإِنَّهُ عَامٌّ فِي مُتَنَاوَلَاتِهِ، وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهِ خُذْ مَا خَفَّ وَسَهُلَ مِمَّا تُعْطَى، فَقَدْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْبَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ التَّمْرَةَ وَالْقَبْضَةَ وَالْحَبَّةَ وَالدِّرْهَمَ وَالسَّمَلَ، وَلَا يَلْمِزُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَعِيبُهُ»: وَلَقَدْ كَانَ يُسْقِطُ مِنْ الْحُقُوقِ مَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ حَتَّى قَالَتْ عَائِشَةُ فِي الصَّحِيحِ: «مَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ لِنَفْسِهِ قَطُّ».

وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ: فَقَدْ «كَانَ يَصْبِرُ عَلَى الْأَذَى، وَيَحْتَمِلُ الْجَفَاءَ، حَتَّى قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى، لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ». وَأَمَّا مُخَالَفَةُ النَّاسِ: فَهُوَ كَانَ أَقْدَرَ الْخَلْقِ عَلَيْهَا وَأَوْلَاهُمْ بِهَا، فَإِنَّهُ كَانَ يَلْقَى كُلَّ أَحَدٍ بِمَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ شَيْخٍ وَعَجُوزٍ، وَصَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، وَبِدَوِيٍّ وَحَضَرِيٍّ، وَعَالِمٍ وَجَاهِلٍ، وَلَقَدْ «كَانَتْ الْمَرْأَةُ تُوقِفُهُ فِي السِّكَّةِ مِنْ سِكَكِ الْمَدِينَةِ، وَلَقَدْ كَانَ يَقُولُ لِأَخٍ لِأَنَسٍ صَغِيرٍ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ». وَلَقَدْ «كَانَ يُكَلِّمُ النَّاسَ بِلُغَاتِهِمْ، فَيَقُولُ لِمَنْ سَأَلَهُ أَمِنَ امْبِرِّ امْصِيَامُ فِي امْسَفَرِ؟ فَيَقُولُ لَهُ: لَيْسَ مِنْ امْبِرِّ امْصِيَامُ فِي امْسَفَرِ»

مسألة تنقيح الأقوال بالعرف

[مَسْأَلَة تَنْقِيحِ الْأَقْوَالِ بِالْعُرْفِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فِي تَنْقِيحِ الْأَقْوَالِ بِالْعُرْفِ: أَمَّا الْعُرْفُ: فَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا الْمَعْرُوفُ مِنْ الدِّينِ الْمَعْلُومُ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ شَرِيعَةٍ الَّتِي أُمَّهَاتُهَا وَأُصُولُهَا الثَّلَاثُ الَّتِي يُقَالُ إنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ بِهَا: أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك، فَلَا شَيْءَ أَفْضَلَ مِنْ صِلَةِ الْقَاطِعِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَرَمِ النَّفْسِ، وَشَرَفِ الْحِلْمِ، وَخُلُقِ الصَّبْرِ الَّذِي هُوَ مِفْتَاحُ خَيْرَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَفِي الْأَثَرِ: «لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنْ الْوَاصِلُ الَّذِي إذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا». وَقَالَ: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ الصَّدَقَةُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ». وَاَلَّذِي يُبَيِّنُ ذَلِكَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: «بَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَرِيَّةً اسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَغَضِبَ، فَقَالَ: أَلَيْسَ أَمَرَكُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تُطِيعُونِي؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَاجْمَعُوا حَطَبًا. فَجَمَعُوا. فَقَالَ: أَوْقِدُوا لِي نَارًا. فَأَوْقَدُوهَا. فَقَالَ: اُدْخُلُوهَا. فَهَمُّوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُمْسِكُ بَعْضًا وَيَقُولُونَ: فَرَرْنَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ النَّارِ. فَمَا زَالُوا حَتَّى خَمَدَتْ النَّارُ، وَسَكَنَ غَضَبُهُ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا، إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ»، يُرِيدُ الَّذِي يَجُوزُ فِي الدِّينِ مَوْقِعُهُ وَيَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُهُ.

مسألة الإعراض عن الجاهلين فإنه مخصوص في الكفار الذين أمر بقتالهم

[مَسْأَلَة الْإِعْرَاضُ عَنْ الْجَاهِلِينَ فَإِنَّهُ مَخْصُوصٌ فِي الْكُفَّارِ الَّذِينَ أُمِرَ بِقِتَالِهِمْ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: الْإِعْرَاضُ عَنْ الْجَاهِلِينَ: وَأَمَّا الْإِعْرَاضُ عَنْ الْجَاهِلِينَ فَإِنَّهُ مَخْصُوصٌ فِي الْكُفَّارِ الَّذِينَ أُمِرَ بِقِتَالِهِمْ، عَامٌّ فِي كُلِّ الَّذِي يَبْقَى بَعْدَهُمْ. وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة: 8]. وَقَالَتْ «أَسْمَاءُ: إنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ رَاغِبَةً وَهِيَ مُشْرِكَةٌ أَفَأَصِلُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، صِلِي أُمَّك». الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ ثَلَاثِ كَلِمَاتٍ، قَدْ تَضَمَّنَتْ قَوَاعِدَ الشَّرِيعَةِ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهِ حَسَنَةٌ إلَّا أَوْضَحَتْهَا، وَلَا فَضِيلَةٌ إلَّا شَرَحَتْهَا، وَلَا أُكْرُومَةٌ إلَّا افْتَتَحَتْهَا، وَأَخَذَتْ الْكَلِمَاتُ الثَّلَاثُ أَقْسَامَ الْإِسْلَامِ الثَّلَاثَةَ. فَقَوْلُهُ: {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف: 199] تَوَلَّى بِالْبَيَانِ جَانِبَ اللِّينِ، وَنَفْيَ الْحَرَجِ فِي الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ وَالتَّكْلِيفِ. وَقَوْلُهُ: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199] تَنَاوَلَ جَمِيعَ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ؛ وَإِنَّهُمَا مَا عُرِفَ حُكْمُهُ، وَاسْتَقَرَّ فِي الشَّرِيعَةِ مَوْضِعُهُ، وَاتَّفَقَتْ الْقُلُوبُ عَلَى عِلْمِهِ. وَقَوْلُهُ: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] تَنَاوَلَ جَانِبَ الصَّفْحِ بِالصَّبْرِ الَّذِي بِهِ يَتَأَتَّى لِلْعَبْدِ كُلُّ مُرَادٍ فِي نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ، وَلَوْ شَرَحْنَا ذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ لَكَانَ أَسْفَارًا. [الْآيَة الْخَامِسَة وَالْعُشْرُونَ وَالسَّادِسَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا] الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِأَصْحَابِهِ، فَقَرَأَ أُنَاسٌ مِنْ خَلْفِهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ} [الأعراف: 204]؛ فَسَكَتَ النَّاسُ خَلْفَهُ، وَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ». الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى الْأَئِمَّةُ: مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةٍ جُهِرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، فَقَالَ: هَلْ قَرَأَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مَعِي آنِفًا؟ فَقَالَ رَجُلٌ، نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: إنِّي أَقُولُ: مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا جَهَرَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ الصَّلَوَاتِ بِالْقِرَاءَةِ، حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَا صَلَاةَ الظُّهْرِ أَوْ الْعَصْرِ، فَقَالَ: وَأَيُّكُمْ قَرَأَ خَلْفِي بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى؟ فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: قَدْ عَلِمْت أَنَّ بَعْضَكُمْ خَالَجَنِيهَا». وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصُّبْحَ، فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: إنِّي لَا أَرَاكُمْ تَقْرَءُونَ وَرَاءَ إمَامِكُمْ. قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إي وَاَللَّهِ. قَالَ: فَلَا تَفْعَلُوا إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا».

وَقَدْ رَوَى النَّاسُ فِي قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ خَلْفَ الْإِمَامِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً، أَعْظَمُهُمْ فِي ذَلِكَ اهْتِبَالًا الدَّارَقُطْنِيُّ. وَقَدْ جَمَعَ الْبُخَارِيُّ فِي ذَلِكَ جُزْءًا، وَكَانَ رَأْيُهُ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ، وَهِيَ إحْدَى رِوَايَاتِ مَالِكٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ. وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ، فَهِيَ خِدَاجٌ، فَهِيَ خِدَاجٌ، غَيْرُ تَمَامٍ. فَقُلْت: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؛ إنِّي أَحْيَانًا أَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ، فَغَمَزَ ذِرَاعِي، وَقَالَ: اقْرَأْ بِهَا يَا فَارِسِيُّ فِي نَفْسِك، فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَنِصْفُهَا لِي، وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: اقْرَءُوا، يَقُولُ الْعَبْدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَقُولُ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي. يَقُولُ الْعَبْدُ: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. يَقُولُ اللَّهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي. يَقُولُ الْعَبْدُ: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. يَقُولُ اللَّهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي. يَقُولُ الْعَبْدُ: إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. يَقُولُ الْعَبْدُ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْت عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ. فَهَؤُلَاءِ لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ».

وَقَدْ اخْتَلَفَتْ فِي ذَلِكَ الْآثَارُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا فَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ». وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ فَقَرَأَ قَوْمٌ خَلْفَهُ، فَقَالَ: مَا لَكُمْ لَا تَعْقِلُونَ؟ {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]. وَقَدْ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي الصَّلَاةِ. وَقِيلَ: كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي الصَّلَاةِ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ. وَرُوِيَ أَنَّ فَتًى كَانَ يَقْرَأُ خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا قَرَأَ فِيهِ النَّبِيُّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ فِيهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ؛ وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ فِيهَا قَلِيلٌ، وَالْإِنْصَاتُ وَاجِبٌ فِي جَمِيعِهَا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ قَرَأَ بِهَا، وَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا صَلَاةَ إلَّا بِهَا. وَأَصَحُّ مِنْهُ قَوْلُ جَابِرٍ: لَا يُقْرَأُ بِهَا خَلْفَ الْإِمَامِ خَرَّجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا»؛ وَهَذَا نَصٌّ لَا مَطْعَنَ فِيهِ، يُعَضِّدُهُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ، وَقَدْ غَمَزَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِمَا لَا يَقْدَحُ فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ قَدْ أَشَرْنَا إلَى بَعْضِهَا، وَذَكَرْنَا نُبَذًا مِنْهَا، وَالتَّرْجِيحُ أَوْلَى مَا اُتُّبِعَ فِيهَا.

وَاَلَّذِي نُرَجِّحُهُ وُجُوبَ الْقِرَاءَةِ فِي الْإِسْرَارِ لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ. وَأَمَّا الْجَهْرُ فَلَا سَبِيلَ إلَى الْقِرَاءَةِ فِيهِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. الثَّانِي: أَنَّهُ حُكْمُ الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]. وَقَدْ عَضَّدَتْهُ السُّنَّةُ بِحَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: «قَدْ عَلِمْت أَنَّ بَعْضَكُمْ خَالَجَنِيهَا». الثَّانِي: قَوْلُهُ: " وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا ". الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي التَّرْجِيحِ: إنَّ الْقِرَاءَةَ مَعَ جَهْرِ الْإِمَامِ لَا سَبِيلَ إلَيْهَا فَمَتَى يَقْرَأُ؟ فَإِنْ قِيلَ: يَقْرَأُ فِي سَكْتَةِ الْإِمَامِ. قُلْنَا: السُّكُوتُ لَا يَلْزَمُ الْإِمَامَ فَكَيْفَ يُرَكَّبُ فَرْضٌ عَلَى مَا لَيْسَ بِفَرْضٍ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ وَجَدْنَا وَجْهًا لِلْقِرَاءَةِ مَعَ الْجَهْرِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْقَلْبِ بِالتَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ، وَهَذَا نِظَامُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَحِفْظُ الْعِبَادَةِ، وَمُرَاعَاةُ السُّنَّةِ، وَعَمَلٌ بِالتَّرْجِيحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ؛ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205]. وَهِيَ: الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ فَقَوْلُهُ: {فِي نَفْسِكَ} [الأعراف: 205] يَعْنِي صَلَاةَ الْجَهْرِ. وَقَوْلُهُ: {وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} [الأعراف: 205] يَعْنِي صَلَاةَ السِّرِّ فَإِنَّهُ يَسْمَعُ فِيهِ نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيه قَلِيلًا بِحَرَكَةِ اللِّسَانِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: إنَّمَا خَرَجَتْ الْآيَةُ عَلَى سَبَبٍ؛ وَهُوَ أَنَّ قَوْمًا كَانُوا يُكْثِرُونَ اللَّغَطَ فِي قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَيَمْنَعُونَ مِنْ اسْتِمَاعِ الْأَحْدَاثِ لَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]، فَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِنْصَاتِ حَالَةَ أَدَاءِ الْوَحْيِ، لِيَكُونَ عَلَى خِلَافِ حَالِ الْكُفَّارِ. قُلْنَا: عَنْهُ جَوَابَانِ:

الآية السابعة والعشرون قوله تعالى إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته

أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهُ؛ فَلَا يَنْفَعُ مُعْتَمَدُهُ. الثَّانِي: أَنَّ سَبَبَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ إذَا كَانَ خَاصًّا لَا يَمْنَعُ مِنْ التَّعَلُّقِ بِظَاهِرِهِ إذَا كَانَ عَامًّا مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَيْسَ لِلْبُخَارِيِّ وَلَا لِلشَّافِعِيَّةِ كَلَامٌ يَنْفَعُ بَعْدَمَا رَجَّحْنَا بِهِ وَاحْتَجَجْنَا بِمَنْصُوصِهِ، وَقَدْ مَهَّدْنَا الْقَوْلَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ تَمْهِيدًا يُسَكِّنُ كُلَّ جَأْشٍ نَافِرٍ. [الْآيَة السَّابِعَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّك لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ] الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206]. فِيهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ مُرْتَبِطَةٌ بِمَا قَبْلَهَا وَمُنْتَظِمَةٌ مَعَ مَا سَبَقَهَا؛ وَهِيَ إخْبَارٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ الْمَلَائِكَةِ بِأَنَّهُمْ فِي عِبَادَتِهِمْ الَّتِي أُمِرُوا بِهَا دَائِمُونَ، وَعَلَيْهَا قَائِمُونَ، وَبِهَا عَامِلُونَ؛ فَلَا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ فِيمَا أُمِرْت بِهِ وَكُلِّفْته. وَهَذَا خِطَابُهُ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ جَمِيعُ الْأُمَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ أَوَّلُ سُجُودِ الْقُرْآنِ، وَفِيهِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً: الْأُولَى: هَذِهِ، خَاتِمَةُ الْأَعْرَافِ. الثَّانِيَةُ: فِي الرَّعْدِ: {وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد: 15]. الثَّالِثَةُ: فِي النَّحْلِ: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50]. الرَّابِعَةُ: فِي بَنِي إسْرَائِيلَ: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109]. الْخَامِسَةُ: فِي مَرْيَمَ: {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58]. السَّادِسَةُ: فِي أَوَّلِ الْحَجِّ: {يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران: 40]. السَّابِعَةُ: فِي آخِرِ الْحَجِّ: {تُفْلِحُونَ} [الحج: 77].

الثَّامِنَةُ: فِي الْفُرْقَانِ: {نُفُورًا} [الإسراء: 41]. التَّاسِعَةُ: فِي النَّمْلِ: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 26]. الْعَاشِرَةُ: فِي تَنْزِيلُ: {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 49]. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: فِي ص: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24]. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: فِي حم: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37]. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: آخِرُ النَّجْمِ: {وَاعْبُدُوا} [النجم: 62]. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: فِي الِانْشِقَاقِ قَوْلُهُ: {لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21]. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: خَاتِمَةُ الْقَلَمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ وَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي، فَيَقُولُ: يَا وَيْلَهُ أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْت بِالسُّجُودِ فَأَبَيْت فَلِيَ النَّارُ». وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَقْرَأُ سُورَةً فِيهَا سَجْدَةٌ، فَيَسْجُدُ. وَنَسْجُدُ مَعَهُ، حَتَّى مَا يَجِدَ أَحَدُنَا مَكَانًا لِجَبْهَتِهِ لِيَسْجُدَ فِيهِ». وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ عَامَ الْحَجِّ سَجْدَةً، فَسَجَدَ

مسألة اختلف الناس في سجود التلاوة

النَّاسُ كُلُّهُمْ، مِنْهُمْ الرَّاكِبُ وَالسَّاجِدُ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى إنَّ الرَّاكِبَ يَسْجُدُ عَلَى ثَوْبِهِ». [مَسْأَلَة اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ؛ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ وَاجِبٌ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ عَوَّلَ فِيهَا أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ عَلَى الْوُجُوبِ. وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ» وَالْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُحَافِظُ عَلَيْهَا إذَا قَرَأَهَا. وَعَوَّلَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى حَدِيثِ عُمَرَ الثَّابِتِ أَنَّ عُمَرَ قَرَأَ سَجْدَةً وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَنَزَلَ فَسَجَدَ فَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ. ثُمَّ قَرَأَ بِهَا فِي الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، فَتَهَيَّأَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ، فَقَالَ: عَلَى رِسْلِكُمْ، إنَّ اللَّهَ لَمْ يَكْتُبْهَا عَلَيْنَا، إلَّا أَنْ نَشَاءَ. وَذَلِكَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَثَبَتَ الْإِجْمَاعُ بِهِ فِي ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا حَمَلْنَا جَمِيعَ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلِهِ عَلَى النَّدْبِ وَالتَّرْغِيبِ. وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ، فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ». إخْبَارٌ عَنْ السُّجُودِ الْوَاجِبِ؛ وَمُوَاظَبَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَدُلُّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ. وَقَدْ اسْتَوْعَبْنَا الْقَوْلَ فِيهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ، فَوَجَبَتْ فِيهَا الطَّهَارَةُ، كَسُجُودِ الصَّلَاةِ. وَكَذَلِكَ التَّكْبِيرُ مِثْلُهُ؛ فَقَدْ رُوِيَ فِي الْأَثَرِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا سَجَدَ كَبَّرَ، وَكَذَلِكَ إذَا رَفَعَ كَبَّرَ» وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا هَلْ فِيهَا تَحْلِيلٌ بِالسَّلَامِ أَمْ لَا؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّ فِيهَا تَحْلِيلًا

مسألة سجدة سورة الحج الثانية

بِالسَّلَامِ] لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ لَهَا تَكْبِيرٌ، فَكَانَ فِيهَا سَلَامٌ، كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هَذَا فِعْلٌ وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ قَوْلٌ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي صَلَاتِهَا فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا؛ فَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهَا تُصَلَّى فِيهَا؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. الثَّانِيَةُ: لَا تُصَلَّى؛ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. مُتَعَلَّقُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عُمُومُ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ، وَمُتَعَلَّقُ الْقَوْلِ الثَّانِي عُمُومُ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَوَاتِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَقْوَى؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالسُّجُودِ عَامٌّ فِي الْأَوْقَاتِ، وَالنَّهْيَ خَاصٌّ فِي الْأَوْقَاتِ، وَالْخَاصُّ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ يُصَلِّيهَا مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ؛ وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ عِنْدِي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة سَجْدَة سُورَة الْحَجِّ الثَّانِيَةُ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: سَجْدَةُ الْحَجِّ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ وَغَيْرُهُمَا: هِيَ عَزِيمَةٌ. وَقَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا: إنَّهَا لَيْسَتْ سُجُودَ عَزِيمَةٍ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ رُكُوعِ الصَّلَاةِ وَسُجُودِهَا؛ وَدَلِيلُنَا أَنَّ عُمَرَ سَجَدَ فِيهَا وَهُوَ يَفْهَمُ الْأَمْرَ أَقْعَدَ، وَبَيْنَ قَوْمٍ كَانُوا أَفْهَمَ وَأَسَدَّ؛ فَبِهِمْ فَاقْتَدِ. [مَسْأَلَة يُسْجَدُ فِي النَّمْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ وَمَا يُعْلِنُونَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: يُسْجَدُ فِي النَّمْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَمَا يُعْلِنُونَ} [النمل: 74] عِنْدَ تَمَامِ الْآيَةِ الَّتِي فِيهَا الْأَمْرُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يُسْجَدُ عِنْدَ قَوْلِهِ: {الْعَلِيمُ} [فصلت: 36]. الَّذِي فِيهِ تَمَامُ الْكَلَامِ، وَهُوَ أَقْوَى. [مَسْأَلَة سَجْدَةُ سُورَة ص] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: سَجْدَةُ " ص ": عِنْدَ الشَّافِعِيِّ سَجْدَةُ شُكْرٍ، وَلَيْسَتْ بِعَزِيمَةٍ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ

مسألة السجود في فصلت

وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ «ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَجْدَةُ ص لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ، وَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَهَا.» وَقَالَ مَالِكٌ: هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهِيَ عَزِيمَةٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ اللَّهُ لَهُ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90]، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: ص، فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمٌ آخَرُ قَرَأَهَا، فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ تَشَزَّنَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّمَا هِيَ تَوْبَةُ نَبِيٍّ وَلَكِنِّي رَأَيْتُكُمْ تَشَزَّنْتُمْ لِلسُّجُودِ وَنَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدُوا» الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: السُّجُودُ فِيهَا عِنْدَ تَمَامِ قَوْلِهِ: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24] لِأَنَّهُ تَمَامُ الْكَلَامِ، وَمَوْضِعُ الْخُضُوعِ وَالْإِنَابَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25] لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ التَّوْبَةِ وَحُسْنِ الْمَآبَةِ. وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ؛ رَجَاءَ الِاهْتِدَاءِ فِي الِاقْتِدَاءِ وَالْمَغْفِرَةِ عِنْدَ الِامْتِثَالِ، كَمَا غُفِرَ لِمَنْ سَبَقَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ. [مَسْأَلَة السُّجُودُ فِي فُصِّلَتْ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: السُّجُودُ فِي فُصِّلَتْ: عِنْدَ قَوْلِهِ: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] لِأَنَّهُ انْتِهَاءُ الْأَمْرِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ امْتِثَالِ مَنْ أُمِرَ عِنْدَ ذِكْرِ مَنْ اسْتَكْبَرَ، فَيَكُونُ هَذَا مِنْهُمْ. وَالْأَوَّلُ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَمْتَثِلُ الْأَمْرَ وَيَخْرُجُ عَمَّنْ اسْتَكْبَرَ.

مسألة سجدة النجم

[مَسْأَلَة سَجْدَةُ النَّجْمِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أَمَّا سَجْدَةُ " النَّجْمِ ": فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَرَأَ وَالنَّجْمِ فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا». وَالصَّحِيحُ مَا رَوَى الْعُلَمَاءُ الْأَئِمَّةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ وَالنَّجْمِ، فَسَجَدَ فِيهَا وَسَجَدَ مَنْ كَانَ مَعَهُ، فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ، فَرَفَعَهُ إلَى وَجْهِهِ، وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَلَقَدْ رَأَيْته بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا». وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَ بِالنَّجْمِ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ»، فَكَيْفَ يَتَأَخَّرُ أَحَدٌ عَنْهَا. [مَسْأَلَة السُّجُود فِي سُورَة ألانشقاق] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ «أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَرَأَ لَهُمْ: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] فَسَجَدَ فِيهَا، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَ فِيهَا وَفِي: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1]». فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْجُدْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمُفَصَّلِ مُنْذُ تَحَوَّلَ إلَى الْمَدِينَةِ». قُلْنَا: هَذَا خَبَرٌ لَمْ يَصِحَّ إسْنَادُهُ، وَلَوْ صَحَّ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ قَرَأَهُ وَلَمْ يَسْجُدْ فِيهِ، فَلَعَلَّهُ لَمْ يَقْرَأْ بِهِ فِي صَلَاةِ جَمَاعَةٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ: {الم - تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2] السَّجْدَةَ، وَهَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ».

سورة الأنفال فيها خمس وعشرون آية

[سُورَةُ الْأَنْفَالِ فِيهَا خَمْسٌ وَعِشْرُونَ آيَةً] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَنْفَالِ] ً بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْآيَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1]. فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رُوِيَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي ثَلَاثُ آيَاتٍ: النَّفَلُ، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ، وَالثُّلُثُ. وَرَوَى مُصْعَبُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «إذَا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ جِئْت بِسَيْفٍ؛ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنَّ اللَّهَ قَدْ شَفَى صَدْرِي مِنْ الْمُشْرِكِينَ، أَوْ نَحْوَ هَذَا، هَبْ لِي هَذَا السَّيْفَ. فَقَالَ: هَذَا لَيْسَ لَك وَلَا لِي فَقُلْت: عَسَى أَنْ يُعْطَى هَذَا مَنْ لَا يُبْلِي بَلَائِي، فَجَاءَنِي الرَّسُولُ فَقَالَ: إنَّك سَأَلْتنِي وَلَيْسَ لِي، وَلَقَدْ صَارَ لِي وَهُوَ لَك» فَنَزَلَتْ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال: 1]

مسألة تعريف النفل

قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ صَحِيحٌ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَّ «سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَرَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ خَرَجَا يَتَنَفَّلَانِ نَفْلًا، فَوَجَدَا سَيْفًا مُلْقًى يُقَالُ كَانَ لِأَبِي سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، فَخَرَّا عَلَيْهِ جَمِيعًا، فَقَالَ سَعْدٌ: هُوَ لِي. وَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: هُوَ لِي، فَتَنَازَعَا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَكُونُ بَيْنِي وَبَيْنَك، رَأَيْنَاهُ جَمِيعًا وَخَرَرْنَا عَلَيْهِ جَمِيعًا. فَقَالَ: لَا أُسَلِّمُهُ إلَيْك حَتَّى نَأْتِيَ رَسُولَ اللَّهِ، فَلَمَّا عَرَضَا عَلَيْهِ الْقِصَّةَ قَالَ: لَيْسَ لَك يَا سَعْدُ وَلَا لِلْأَنْصَارِيِّ، وَلَكِنَّهُ لِي، فَنَزَلَتْ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال: 1] فَاتَّقِ اللَّهَ يَا سَعْدُ وَالْأَنْصَارِيُّ، وَأَصْلِحَا ذَاتَ بَيْنِكُمَا، وَأَطِيعَا اللَّهَ وَرَسُولَهُ». يَقُولُ أَسْلَمَ السَّيْفَ إلَيْهِ، ثُمَّ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} [الأنفال: 41]. [مَسْأَلَة تَعْرِيف النَّفَلُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: النَّفَلُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الزِّيَادَةُ، وَمِنْهَا نَفْلُ الصَّلَاةِ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ عَلَى فَرْضِهَا، وَوَلَدُ الْوَلَدِ نَافِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى الْوَلَدِ، وَالْغَنِيمَةُ نَافِلَةٌ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ فِيمَا أُحِلَّ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِمَّا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَى غَيْرِهَا، ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ». وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ [أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] قَالَ: «فُضِّلْت عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيت

مسألة عدة المسلمين يوم بدر

جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْت بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأُرْسِلْت إلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِي النَّبِيُّونَ». وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «غَزَا نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: لَا يَتْبَعْنِي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا، وَلَا أَحَدٌ بَنَى بُيُوتًا وَلَمْ يَرْفَعْ سُقُوفَهَا، وَلَا أَحَدٌ اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ خَلِفَاتٍ وَهُوَ يَنْتَظِرُ وِلَادَهَا، فَغَزَا فَدَنَا مِنْ الْقَرْيَةِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لِلشَّمْسِ: إنَّك مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ، اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيْنَا، فَحُبِسَتْ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ بِجَمْعِ الْغَنَائِمِ، فَجَاءَتْ النَّارُ لِتَأْكُلَهَا، فَلَمْ تَطْعَمْهَا. فَقَالَ: إنْ فِيكُمْ غُلُولًا قَبَلِيًّا فَلْيُبَايِعْنِي مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ، فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ: فِيكُمْ الْغُلُولُ فَلْتُبَايِعْنِي قَبِيلَتُك، فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ: فِيكُمْ الْغُلُولُ، فَجَاءُوا بِرَأْسٍ مِثْلِ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنْ الذَّهَبِ، فَوَضَعُوهَا فَجَاءَتْ النَّارُ فَأَكَلَتْهَا، ثُمَّ أَحَلَّ اللَّهُ لَنَا الْغَنَائِمَ، وَرَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا فَأَحَلَّهَا لَنَا» [مَسْأَلَة عِدَّةِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: كَانَتْ بَدْرٌ فِي سَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ.

مسألة محل الأنفال

وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ أَنَّهَا كَانَتْ بَعْدَ عَامٍ وَنِصْفٍ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ بِشَهْرَيْنِ. وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عِدَّةِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ؛ فَقَالَ: كَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ. وَرَوَى أَيْضًا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: «سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عِدَّةِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ: كَمْ يَطْعَمُونَ كُلَّ يَوْمٍ؟ فَقِيلَ لَهُ: يَوْمًا عَشْرًا وَيَوْمًا تِسْعَ جَزَائِرَ. فَقَالَ: الْقَوْمُ مَا بَيْنَ الْأَلْفِ إلَى التِّسْعِمِائَةِ» وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَشِيرُوا عَلَيَّ. فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فَتَكَلَّمَ، ثُمَّ قَعَدَ. ثُمَّ قَالَ: أَشِيرُوا عَلَيَّ فَقَامَ عُمَرُ فَتَكَلَّمَ، ثُمَّ قَعَدَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَشِيرُوا عَلَيَّ فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: كَأَنَّك إيَّانَا تُرِيدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا نَقُولُ لَك كَمَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ لِمُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّك فَقَاتِلَا إنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، وَلَكِنْ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّك فَقَاتِلَا إنَّا مَعَكُمْ مُتَّبِعُونَ. لَوْ أَتَيْت الْيَمَنَ لَسَلَلْنَا سُيُوفَنَا وَاتَّبَعْنَاك. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خُذُوا مَصَافَّكُمْ». الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، هَاهُنَا ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ: الْأَنْفَالُ، الْغَنَائِمُ، الْفَيْءُ. فَالنَّفَلُ: الزِّيَادَةُ كَمَا بَيَّنَّا، وَتَدْخُلُ فِيهِ الْغَنِيمَةُ فَإِنَّهَا زِيَادَةُ الْحَلَالِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ. وَالْغَنِيمَةُ: مَا أُخِذَ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ بِقِتَالٍ. وَالْفَيْءُ: مَا أُخِذَ بِغَيْرِ قِتَالٍ؛ لِأَنَّهُ رَجَعَ إلَى مَوْضِعِهِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ، وَهُوَ انْتِفَاعُ الْمُؤْمِنِ بِهِ. [مَسْأَلَة مَحَلِّ الْأَنْفَالِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي مَحَلِّ الْأَنْفَالِ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: مَحَلُّهَا الْخُمُسُ.

الثَّانِي: مَحَلُّهَا مَا عَادَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَوْ أُخِذَ بِغَيْرِ حَرْبٍ. الثَّالِثُ: رَأْسُ الْغَنِيمَةِ حَسْبَمَا يَرَاهُ الْإِمَامُ. قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ قَالَ: لَا آمُرُك وَلَا أَنْهَاك. فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: وَاَللَّهِ مَا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا إلَّا مُحَلِّلًا وَمُحَرِّمًا. قَالَ الْقَاسِمُ: فَسُلِّطَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ عَنْ النَّفَلِ؛ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْفَرَسُ مِنْ النَّفَلِ، وَالسِّلَاحُ مِنْ النَّفَلِ. وَأَعَادَ عَلَيْهِ الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى أَغْضَبَهُ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَتَدْرُونَ مَا مِثْلُ هَذَا؟ مِثْلُ صَنِيعِ الَّذِي ضَرَبَهُ عُمَرُ بِالدِّرَّةِ حَتَّى سَالَتْ الدِّمَاءُ عَلَى عَقِبَيْهِ أَوْ عَلَى رِجْلَيْهِ، س فَقَالَ الرَّجُلُ: أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ انْتَقَمَ اللَّهُ مِنْك لِابْنِ عُمَرَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَعَطَاءٌ: هِيَ مَا شَذَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: «سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْخُمُسِ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ؛ فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: لِمَنْ يُدْفَعُ هَذَا الْخُمُسُ؟ لَمْ يَخْرُجْ مِنَّا. فَنَزَلَتْ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال: 1] وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ الْخُمُسِ» كَمَا رُوِيَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ الْإِمَامَ يُعْطِي مِنْهُ مَا شَاءَ مِنْ سَلَبٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. فَأَمَّا هَذَا السُّؤَالُ هَاهُنَا فَإِنَّمَا هُوَ عَنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ الَّتِي نَفْلٌ عَلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَنَا مِنْ الْحَلَالِ عَلَى الْأُمَمِ. الْمَعْنَى: يَسْأَلُك أَصْحَابُك يَا مُحَمَّدٌ عَنْ هَذِهِ الْغَنِيمَةِ الَّتِي نَفَّلْتُكهَا. قُلْ لَهُمْ: هِيَ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تَخْتَلِفُوا، وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ، لِئَلَّا يُرْفَعَ تَحْلِيلُهَا عَنْكُمْ بِاخْتِلَافِكُمْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ «ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: مَنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا فَلَهُ كَذَا وَكَذَا. فَتَسَارَعَ إلَى ذَلِكَ الشُّبَّانُ، وَثَبَتَ الشُّيُوخُ تَحْتَ الرَّايَاتِ، فَلَمَّا فُتِحَ عَلَيْهِمْ جَاءُوا يَطْلُبُونَ شَرْطَهُمْ، فَقَالَ الشُّيُوخُ: لَا تَسْتَأْثِرُوا بِهِ عَلَيْنَا، كُنَّا رِدْءًا لَكُمْ، لَوْ انْهَزَمْتُمْ لَانْحَزْتُمْ إلَيْنَا، فَأَبَى الشُّبَّانُ وَقَالُوا: جَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ لَنَا، فَتَنَازَعُوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ:

مسألة سلب القتيل

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1]». وَرُوِيَ «أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ؛ فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ لَنَا، حَرَسْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ لَنَا، اتَّبَعْنَا أَعْدَاءَ رَسُولِ اللَّهِ. وَقَالَتْ أُخْرَى: نَحْنُ أَوْلَى بِهَا، أَخَذْنَاهَا، فَنَزَلَتْ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال: 1]» وَرَوَى «أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ قَالَ: سَأَلْت عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ عَنْ الْأَنْفَالِ، فَقَالَ: فِينَا أَصْحَابَ بَدْرٍ نَزَلَتْ، حِينَ اخْتَلَفْنَا فِي النَّفَلِ، وَسَاءَتْ فِيهِ أَخْلَاقُنَا، فَنَزَعَهُ اللَّهُ مِنْ أَيْدِينَا، فَجَعَلَهُ إلَى رَسُولِهِ، فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بَوَاءٍ؛ أَيْ عَلَى السَّوَاءِ.» الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: «فَسَلَّمُوا لِرَسُولِ اللَّهِ الْأَمْرَ فِيهَا؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} [الأنفال: 41]. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا لِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إلَّا الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ». فَلَمْ يُمْكِنْ بَعْدَ هَذَا أَنْ يَكُونَ النَّفَلُ مِنْ حَقِّ أَحَدٍ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ مِنْ حَقِّ رَسُولِ اللَّهِ. وَهُوَ الْخُمُسُ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: خَرَجْنَا فِي سَرِيَّةٍ قِبَلَ نَجْدٍ، فَأَصَبْنَا إبِلًا، فَقَسَّمْنَاهَا، فَبَلَغَتْ سُهْمَانُنَا أَحَدَ عَشَرَ بَعِيرًا، وَنُفِّلْنَا بَعِيرًا بَعِيرًا. [مَسْأَلَة سَلَبُ الْقَتِيلِ] فَأَمَّا: الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: وَهِيَ سَلَبُ الْقَتِيلِ: فَإِنَّهُ مِنْ الْخُمُسِ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إذَا رَأَى ذَلِكَ الْإِمَامُ لِغَنَاءٍ فِي الْمُعْطَى: أَوْ مَنْفَعَةٍ تُجْلَبُ، أَوْ ائْتِلَافٍ يُرْغَبُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ؛ وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْمَالِكِينَ.

فَأَمَّا الْأَخْبَارُ فِي ذَلِكَ فَمُتَعَارِضَةٌ، رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِسَلَبِ أَبِي جَهْلٍ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ». وَقَالَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ، فَأَعْطَى السَّلَبَ لِأَبِي قَتَادَةَ بِمَا أَقَامَ مِنْ الشَّهَادَةِ، وَقَضَى بِالسَّلَبِ أَجْمَعَ لِسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ يَوْمَ ذِي قَرَدٍ». قُلْنَا: هَذِهِ الْأَخْبَارُ لَيْسَ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ إعْطَاءِ السَّلَبِ لِلْقَاتِلِ. وَهَلْ إعْطَاءُ ذَلِكَ لَهُ مِنْ رَأْسِ مَالِ الْغَنِيمَةِ أَوْ مِنْ حَقِّ النَّبِيِّ وَهُوَ الْخُمُسُ؟ ذَلِكَ إنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ. وَقَدْ قَسَّمَ اللَّهُ الْغَنِيمَةَ قِسْمَةَ حَقٍّ عَلَى الْأَخْمَاسِ، فَجَعَلَ خُمُسَهَا لِرَسُولِهِ، وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهَا لِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ الَّذِينَ قَاتَلُوا وَقُتِلُوا، فَهُمْ فِيهَا شَرْعٌ سَوَاءٌ، لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي السَّبَبِ الَّذِي اسْتَحَقُّوهَا بِهِ؛ وَالِاشْتِرَاكُ فِي السَّبَبِ يُوجِبُ الِاشْتِرَاكَ فِي الْمُسَبَّبِ، وَيَمْنَعُ مِنْ التَّفَاضُلِ فِي الْمُسَبِّبِ مَعَ الِاسْتِوَاءِ فِي السَّبَبِ؛ هَذِهِ حِكْمَةُ الشَّرْعِ وَحُكْمُهُ، وَقَضَاءُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ، وَعِلْمُهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْهِمْ. وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ مَا رَوَى مُسْلِمٌ «أَنَّ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ حِمْيَرَ رَجُلًا مِنْ الْعَدُوِّ، فَأَرَادَ سَلَبَهُ، فَمَنَعَهُ خَالِدٌ، وَكَانَ وَالِيًا عَلَيْهِمْ؛ فَأَخْبَرَ عَوْفٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لِخَالِدٍ: مَا مَنَعَك أَنْ تُعْطِيَهُ سَلَبَهُ؟ قَالَ: اسْتَكْثَرْته يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: ادْفَعْهُ إلَيْهِ. فَلَقِيَ عَوْفٌ خَالِدًا فَجَرَّهُ بِرِدَائِهِ، وَقَالَ: هَلْ أَنْجَزْت مَا ذَكَرْت لَك عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْتُغْضِبَ، فَقَالَ: لَا

مسألة النفل على قسمين

تُعْطِهِ يَا خَالِدٌ. هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي إمْرَتِي». وَلَوْ كَانَ السَّلَبُ حَقًّا لَهُ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ لَمَا رَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ فِي الْأَمْوَالِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ ابْنَ الْمُسَيِّبِ قَالَ: مَا كَانَ النَّاسُ يُنَفِّلُونِ إلَّا مِنْ الْخُمُسِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا نَفَلَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ. وَلَمْ يَصِحَّ. [مَسْأَلَة النَّفَلُ عَلَى قِسْمَيْنِ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: النَّفَلُ عَلَى قِسْمَيْنِ: جَائِزٌ وَمَكْرُوهٌ، فَالْجَائِزُ بَعْدَ الْقِتَالِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ حُنَيْنٍ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ». وَالْمَكْرُوهُ أَنْ يُقَالَ قَبْلَ الْقَتْلِ: " مَنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا فَلَهُ كَذَا ". وَإِنَّمَا كُرِهَ هَذَا؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ الْقِتَالُ فِيهِ لِلْغَنِيمَةِ. «وَقَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَيُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، مَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»، وَيَحِقُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُقَاتِلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَإِنْ نَوَى فِي ذَلِكَ الْغَنِيمَةَ؛ وَإِنَّمَا الْمَكْرُوهُ فِي الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ مَقْصِدُهُ الْمَغْنَمَ خَاصَّةً. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: قَوْله تَعَالَى: {قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] قَوْلُهُ: {لِلَّهِ} [الأنفال: 1] اسْتِفْتَاحُ كَلَامٍ، وَابْتِدَاءٌ بِالْحَقِّ الَّذِي لَيْسَ وَرَاءَهُ مَرْمَى، الْكُلُّ لِلَّهِ، وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: (وَالرَّسُولِ) قِيلَ: أَرَادَ بِهِ مِلْكًا. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ وِلَايَةَ قَسَمٍ وَبَيَانَ حُكْمٍ.

الآية الثانية قوله تعالى وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين

وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا لِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إلَّا الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ» وَلَيْسَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُمَلِّكَهُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ تَشْرِيفًا وَتَقْدِيمًا بِالْحَقِيقَةِ، وَيَرُدُّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَفَضُّلًا عَلَى الْخَلِيقَةِ. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ] الْآيَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 7]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رَوَى «ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ مُقْبِلٌ مِنْ الشَّامِ نَدَبَ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمْ، وَقَالَ: هَذِهِ عِيرُ قُرَيْشٍ فِيهَا الْأَمْوَالُ، فَاخْرُجُوا إلَيْهَا لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُنَفِّلَكُمُوهَا فَانْتُدِبَ النَّاسُ، فَخَفَّ بَعْضُهُمْ، وَثَقُلَ بَعْضُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَظُنُّوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ يَلْقَى حَرْبًا، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ دَنَا مِنْ الْحِجَازِ يَتَجَسَّسُ الْأَخْبَارَ، وَيَسْأَلُ مَنْ لَقِيَ مِنْ الرُّكْبَانِ؛ تَخَوُّفًا عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ حَتَّى أَصَابَ خَبَرًا مِنْ بَعْضِ الرُّكْبَانِ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ اسْتَنْفَرَ لَك، فَحَذِرَ عِنْدَ ذَلِكَ وَاسْتَأْجَرَ ضَمْضَمَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ، وَبَعَثَهُ إلَى مَكَّةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ قُرَيْشًا يَسْتَنْفِرُهُمْ إلَى أَمْوَالِهِمْ، وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ عَرَضَ لَهَا فِي أَصْحَابِهِ. فَمَضَى ضَمْضَمٌ، وَخَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَصْحَابِهِ وَأَتَاهُ الْخَبَرُ عَنْ قُرَيْشٍ بِخُرُوجِهِمْ لِيَمْنَعُوا عِيرَهُمْ، فَاسْتَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّاسَ، وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ قُرَيْشٍ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ فَأَحْسَنَ، وَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ فَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ امْضِ لِمَا أَمَرَك اللَّهُ فَنَحْنُ مَعَك، وَاَللَّهِ لَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّك فَقَاتِلَا إنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، وَلَكِنْ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّك فَقَاتِلَا إنَّا مَعَكُمْ مُقَاتِلُونَ، وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَوْ سِرْت إلَى بِرْكِ الْغِمَادِ يَعْنِي مَدِينَةَ الْحَبَشَةِ لَجَالَدْنَا مَعَك مِنْ دُونِهِ.

مسألة النفر للغنيمة

ثُمَّ قَالَ الْأَنْصَارُ بَعْدُ: أَنْ امْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَا أُمِرْت، فَوَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَوْ اسْتَعْرَضْت بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْته لَخُضْنَاهُ مَعَك. فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى الْتَقَى بِالْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ، فَمَنَعُوا الْمَاءَ، وَالْتَقَوْا، وَنَصَرَ اللَّهُ النَّبِيَّ وَأَصْحَابَهُ، فَقَتَلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ سَبْعِينَ وَأَسَرَ مِنْهُمْ سَبْعِينَ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مَا كَانَ مَعَهُمْ». الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قَالُوا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ فَرَغَ مِنْ بَدْرٍ: عَلَيْك بِالْعِيرِ لَيْسَ دُونَهَا شَيْءٌ. فَنَادَاهُ الْعَبَّاسُ وَهُوَ فِي الْأَسْرَى: لَا يَصْلُحُ هَذَا. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ وَعَدَك إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَقَدْ أَعْطَاك مَا وَعَدَك. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صَدَقْت. وَعَلِمَ ذَلِكَ الْعَبَّاسُ مِنْ تَحَدُّثِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا كَانَ مِنْ شَأْنِ بَدْرٍ، فَسَمِعَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الْحَدِيثِ.» [مَسْأَلَة النَّفْرِ لِلْغَنِيمَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: خُرُوجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَتَلَقَّى الْعِيرَ بِالْأَمْوَالِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ النَّفْرِ لِلْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ كَسْبٌ حَلَالٌ، وَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إنَّ مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ دُونَ مَنْ يُقَاتِلُ لِلْغَنِيمَةِ» يُرَادُ بِهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ قَصْدَهُ وَحْدَهُ، لَيْسَ لِلدِّينِ فِيهِ حَظٌّ. [مَسْأَلَة الْمَوْتَ لَيْسَ بِعَدَمٍ مَحْضٍ وَلَا فَنَاءٍ صِرْفٍ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال: 7]، فَقَالَ مَالِكٌ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِ قَلِيبِ بَدْرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ: قَدْ وَجَدْنَا مَا

وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنَّهُمْ أَمْوَاتٌ، أَفَيَسْمَعُونَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ قَالَ قَتَادَةُ: أَحْيَاهُمْ اللَّهُ لَهُ». وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ بَدِيعَةٌ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ الْمَوْتَ لَيْسَ بِعَدَمٍ مَحْضٍ، وَلَا فَنَاءَ صِرْفٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَبَدُّلُ حَالٍ، وَانْتِقَالٌ مِنْ دَارٍ إلَى دَارٍ، وَالرُّوحُ إنْ كَانَ جِسْمًا فَيَنْفَصِلُ بِذَاتِهِ عَنْ الْجَسَدِ، وَإِنْ كَانَ عَرَضًا فَلَا بُدَّ مِنْ جُزْءٍ مِنْ الْجَسَدِ يَقُومُ بِهِ يُفَارِقُ الْجَسَدَ مَعَهُ، وَلَعَلَّهُ عَجْبُ الذَّنَبِ الَّذِي وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إنَّ كُلَّ ابْنِ آدَمَ تَأْكُلُهُ الْأَرْضُ إلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ، مِنْهُ خُلِقَ، وَفِيهِ يُرَكَّبُ». وَالرُّوحُ هِيَ السَّامِعَةُ الْوَاعِيَةُ الْعَالِمَةُ الْقَابِلَةُ، إلَّا أَنَّ الْبَارِيَ لَا يَخْلُقُ الْإِدْرَاكَ إلَّا كَمَا يَشَاءُ، فَلَا يَخْلُقُ إدْرَاكَ الْآخِرَةِ لِأَهْلِ الدُّنْيَا، وَلَا يَخْلُقُ إدْرَاكَ الدُّنْيَا لِأَهْلِ الْآخِرَةِ، فَإِذَا أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَسْمَعَ أَهْلَ الْآخِرَةِ حَالَ أَهْلِ الدُّنْيَا. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ الْمَيِّتَ إذَا انْصَرَفَ عَنْهُ أَهْلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ، إذْ أَتَاهُ مَلَكَانِ» الْحَدِيثَ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ لَهُ فِي أَهْلِ بَدْرٍ: أَتُكَلِّمُ قَوْمًا قَدْ جَيَّفُوا؟ فَقَالَ: مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ فِي الْجَوَابِ»

مسألة شرف المخلوقات ليس بالذوات وإنما هو بالأفعال

[مَسْأَلَة شَرَفَ الْمَخْلُوقَاتِ لَيْسَ بِالذَّوَاتِ وَإِنَّمَا هُوَ بِالْأَفْعَالِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ مَالِكٌ: بَلَغَنِي «أَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَيْفَ أَهْلُ بَدْرٍ فِيكُمْ؟ قَالَ: خِيَارُنَا. فَقَالَ جِبْرِيلُ: إنَّهُمْ كَذَلِكَ فِينَا». وَفِي هَذَا مِنْ الْفِقْهِ أَنَّ شَرَفَ الْمَخْلُوقَاتِ لَيْسَ بِالذَّوَاتِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالْأَفْعَالِ؛ وَلِلْمَلَائِكَةِ أَفْعَالُهَا الشَّرِيفَةُ مِنْ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى التَّسْبِيحِ الدَّائِمِ، وَلَنَا نَحْنُ أَفْعَالُنَا بِلَا إخْلَاصٍ فِي الطَّاعَةِ. وَتَتَفَاضَلُ الطَّاعَاتُ بِتَفْضِيلِ الشَّرْعِ لَهَا، وَأَفْضَلُهَا الْجِهَادُ، وَأَفْضَلُهَا الْجِهَادُ يَوْمَ بَدْرٍ؛ فَأَنْجَزَ اللَّهُ لِرَسُولِ وَعْدَهُ، وَأَعَزَّ جُنْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، وَصَرَعَ صَنَادِيدَ الْمُشْرِكِينَ، وَانْتَقَمَ مِنْهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَشَفَى صَدْرَ رَسُولِهِ وَصُدُورَهُمْ مِنْ غَيْظِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ حَسَّانُ: عَرَفْت دِيَارَ زَيْنَبَ بِالْكَثِيبِ ... كَخَطِّ الْوَحْيِ فِي الْوَرَقِ الْقَشِيبِ تَدَاوَلَهَا الرِّيَاحُ وَكُلُّ جَوْنٍ ... مِنْ الْوَسْمِيِّ مُنْهَمِرٍ سَكُوبِ فَأَمْسَى رَبْعُهَا خَلِقًا وَأَمْسَتْ ... يَبَابًا بَعْدَ سَاكِنِهَا الْحَبِيبِ فَدَعْ عَنْك التَّذَكُّرَ كُلَّ يَوْمٍ ... وَرَوِّ حَرَارَةَ الصَّدْرِ الْكَئِيبِ وَخَبِّرْ بِاَلَّذِي لَا عَيْبَ فِيهِ ... بِصِدْقٍ غَيْرَ أَخْبَارِ الْكَذُوبِ بِمَا صَنَعَ الْمَلِيكُ غَدَاةَ بَدْرٍ ... لَنَا فِي الْمُشْرِكِينَ مِنْ النَّصِيبِ غَدَاةَ كَأَنَّ جَمْعَهُمْ حِرَاءٌ ... بَدَتْ أَرْكَانُهُ جُنْحَ الْغُرُوبِ فَلَاقَيْنَاهُمْ مِنَّا بِجَمْعٍ ... كَأُسْدِ الْغَابِ مُرْدَانٍ وَشِيبِ أَمَامَ مُحَمَّدٍ قَدْ وَازَرُوهُ ... عَلَى الْأَعْدَاءِ فِي لَفْحِ الْحُرُوبِ بِأَيْدِيهِمْ صَوَارِمُ مُرْهَفَاتٌ ... وَكُلُّ مُجَرَّبٍ خَاظِي الْكُعُوبِ بَنُو الْأَوْسِ الْغَطَارِفُ وَازَرَتْهَا ... بَنُو النَّجَّارِ فِي الدِّينِ الصَّلِيبِ فَغَادَرْنَا أَبَا جَهْلٍ صَرِيعًا ... وَعُتْبَةَ قَدْ تَرَكْنَا بِالْجَبُوبِ وَشَيْبَةَ قَدْ تَرَكْنَا فِي رِجَالٍ ... ذَوِي حَسَبٍ إذَا نُسِبُوا حَسِيبِ يُنَادِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ لَمَّا ... قَذَفْنَاهُمْ كَبَاكِبَ فِي الْقَلِيبِ أَلَمْ تَجِدُوا كَلَامِي كَانَ حَقًّا ... وَأَمْرُ اللَّهِ يَأْخُذُ بِالْقُلُوبِ فَمَا نَطَقُوا، وَلَوْ نَطَقُوا لَقَالُوا ... صَدَقْت، وَكُنْت ذَا رَأْيٍ مُصِيبِ

الآية الثالثة قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا

[الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا] الْآيَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال: 15] {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {زَحْفًا} [الأنفال: 15]: يَعْنِي مُتَدَانِينَ، وَالتَّزَاحُفُ هُوَ التَّدَانِي وَالتَّقَارُبُ، يَقُول: إذَا تَدَانَيْتُمْ وَتَعَايَنْتُمْ فَلَا تَفِرُّوا عَنْهُمْ، وَلَا تُعْطُوهُمْ أَدْبَارَكُمْ، حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حِينَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ الْجِهَادَ، وَقَتْلَ الْكُفَّارِ؛ لِعِنَادِهِمْ لِدِينِ اللَّهِ، وَإِبَايَتِهِمْ عَنْ قَوْلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. فَأَمَّا الْمِقْدَارُ الَّذِي يَكُونُ هَذَا مَعَهُ فَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَة هَلْ الْفِرَارُ يَوْمَ الزَّحْفِ مَخْصُوصٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ أَمْ عَامٌّ فِي الزُّحُوفِ كُلِّهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ: هَلْ الْفِرَارُ يَوْمَ الزَّحْفِ مَخْصُوصٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ أَمْ عَامٌّ فِي الزُّحُوفِ كُلِّهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ فَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ؛ وَبِهِ قَالَ نَافِعٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، وَالضَّحَّاكُ.

الآية الرابعة قوله تعالى فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم

وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَائِرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْآيَةَ بَاقِيَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا شَذَّ مَنْ شَذَّ بِخُصُوصِ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] فَظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ ذَلِكَ إشَارَةٌ إلَى يَوْمِ بَدْرٍ، وَلَيْسَ بِهِ؛ وَإِنَّمَا ذَلِكَ إشَارَةٌ إلَى يَوْمِ الزَّحْفِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ الْقِتَالِ وَانْقِضَاءِ الْحَرْبِ، وَذَهَابِ الْيَوْمِ بِمَا فِيهِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَسْبَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ الْكَبَائِرَ كَذَا. وَعِنْدَ الْفِرَارِ يَوْمَ الزَّحْفِ. وَهَذَا نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ يَرْفَعُ الْخِلَافَ، وَيُبَيِّنُ الْحُكْمَ، وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى النُّكْتَةِ الَّتِي وَقَعَ الْإِشْكَالُ فِيهَا لِمَنْ وَقَعَ بِاخْتِصَاصِهِ بِيَوْمِ بَدْرٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَمَّا يَوْمُ بَدْرٍ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَجُزْ لَهُمْ أَنْ يَفِرُّوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا يُسْلِمُوهُ لِأَعْدَائِهِ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُمْ عَلَى الْأَرْضِ عَيْنٌ تُطْرَفُ. وَأَمَّا سَائِرُ الْجُيُوشِ وَأَيَّامُ الْقِتَالِ فَلَهَا أَحْكَامٌ تُسْتَقْصَى فِي مَوَاضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [الْآيَة الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ] الْآيَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 17]. هِيَ مِنْ تَوَابِعِ مَا تَقَدَّمَ وَرَوَابِطِهِ؛ فَإِنَّ السُّورَةَ هِيَ سُورَةُ بَدْرٍ كُلِّهَا، وَكُلُّهَا مَدَنِيَّةٌ إلَّا سَبْعَ آيَاتٍ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 30] إلَى آخِرِ الْآيَاتِ السَّبْعِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَالِكٌ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، هَذَا فِي حَصْبِ رَسُولِ اللَّهِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ. قَالَ مَالِكٌ، وَلَمْ يَبْقَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَحَدٌ إلَّا وَقَدْ أَصَابَهُ ذَلِكَ، وَذَكَرَ مَا قَالَتْ لَهُ أُمُّ سُلَيْمٍ. وَكَذَلِكَ رَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ أَيْضًا، وَقَدْ رَوَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي

الآية الخامسة قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله

يَوْمِ بَدْرٍ لَمَّا اسْتَوَتْ الصُّفُوفُ وَنَزَلَ جِبْرِيلُ آخِذًا بِعِنَانِ فَرَسِهِ يَقُودُهُ، عَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ. «فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَثْيَةً مِنْ الْحَصْبَاءِ، فَاسْتَقْبَلَ بِهَا قُرَيْشًا، فَقَالَ: شَاهَتْ الْوُجُوهُ. ثُمَّ نَفَخَهُمْ بِهَا وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: شُدُّوا» فَكَانَتْ الْهَزِيمَةُ، وَقَتَلَ اللَّهُ مَنْ قَتَلَ مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، وَأَسَرَ مَنْ أَسَرَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: كَانَ هَذَا يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ رَمَى أُبَيّ بْنُ خَلَفٍ الْحَرْبَةَ، فَكَسَرَ ضِلْعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ، فَرَجَعَ أُبَيّ بْنُ خَلَفٍ إلَى أَصْحَابِهِ ثَقِيلًا، فَحَفَظُوهُ حِينَ وَلَّوْا قَافِلِينَ يَقُولُونَ: لَا بَأْسَ. فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَوْ كَانَتْ بِالنَّاسِ لَقَتَلَتْهُمْ، أَلَمْ يُقَلْ أَنَا أَقْتُلُكَ. وَقَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ أَصَحُّ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ السُّورَةَ بَدْرِيَّةٌ. [الْآيَة الْخَامِسَة قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ] ُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال: 20] {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [الأنفال: 21]. هَذِهِ الْآيَةُ بَيَانٌ شَافٍ وَإِيضَاحٌ كَافٍ فِي أَنَّ الْقَوْلَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْعَمَلِ، وَأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِقَوْلِ الْمُؤْمِنِ: سَمِعْت وَأَطَعْت، مَا لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ قَوْلِهِ بِامْتِثَالِ فِعْلِهِ؛ فَأَمَّا إذَا قَصَّرَ فِي الْأَوَامِرِ فَلَمْ يَأْتِهَا، وَاعْتَمَدَ النَّوَاهِيَ بِاقْتِحَامِهَا فَأَيُّ سَمْعٍ عِنْدَهُ؟ أَوْ أَيُّ طَاعَةٍ لَهُ؟

الآية السادسة قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول

وَإِنَّمَا يَكُونُ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ الْمُنَافِقِ الَّذِي يُظْهِرُ الْإِيمَانَ، وَيُسِرُّ الْكُفْرَ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ} [الأنفال: 21] الْآيَةَ يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُنَافِقِينَ، فَالْخِبْرَةُ تَكْشِفُ التَّلْبِيسَ، وَالْفِعْلُ يُظْهِرُ كَمَائِنَ النُّفُوسِ. [الْآيَة السَّادِسَة قَوْله تَعَالَى يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ] ِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الِاسْتِجَابَةُ: هِيَ الْإِجَابَةُ، وَقَدْ يَكُونُ اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى أَفْعَلَ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَقَدْ قَالَ شَاعِرُ الْعَرَبِ: وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إلَى النَّدَى ... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ [مَسْأَلَة حَيَاةَ الْمَعَانِي وَالْقُلُوبِ بِالْإِفْهَامِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] لَيْسَ يُرِيدُ بِهِ حَيَاةَ الْمُشَاهَدَةِ وَالْأَجْسَامِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ حَيَاةَ الْمَعَانِي وَالْقُلُوبِ بِالْإِفْهَامِ بِدُعَائِهِ إيَّاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ، وَالْحَقِّ وَالْجِهَادِ، وَالطَّاعَةِ وَالْأُلْفَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ لِمَا يُحْيِيكُمْ فِي الْآخِرَةِ الْحَيَاةَ الدَّائِمَةَ فِي النَّعِيمِ الْمُقِيمِ. [مَسْأَلَة الْفِعْلَ لِلْفَرْضِ أَوْ الْقَوْلَ الْفَرْضَ إذَا أُتِيَ بِهِ فِي الصَّلَاةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا أُبَيًّا وَهُوَ يُصَلِّي، فَلَمْ يُجِبْهُ أُبَيٌّ فَخَفَّفَ الصَّلَاةَ، ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا مَنَعَك إذْ دَعَوْتُك أَنْ

الآية السابعة قوله تعالى واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة

تُجِيبَنِي؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنْت أُصَلِّي. قَالَ لَهُ: أَفَلَمْ تَجِدْ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]؟ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا أَعُودُ». فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ لِلْفَرْضِ أَوْ الْقَوْلَ الْفَرْضَ إذَا أُتِيَ بِهِ فِي الصَّلَاةِ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ لِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُبَيٍّ بِالْإِجَابَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ إجَابَةِ النَّبِيِّ وَتَقْدِيمِهَا عَلَى الصَّلَاةِ، وَهَلْ تَبْقَى الصَّلَاةُ مَعَهَا أُمّ تَبْطُلُ؟ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى. وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [الْآيَة السَّابِعَة قَوْله تَعَالَى وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً] ً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَأْوِيلِ الْفِتْنَةِ: فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: الْفِتْنَةُ: الْمَنَاكِيرُ؛ نَهَى النَّاسَ أَنْ يُقِرُّوهَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَيَعُمَّهُمْ الْعَذَابُ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّانِي: أَنَّهَا فِتْنَةُ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، كَمَا قَالَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 28] رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ. وَقَدْ رَوَى حُذَيْفَةُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حِينَ سَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ الْفِتْنَةِ، فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: «فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي جَارِهِ وَمَالِهِ وَأَهْلِهِ يُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ».

الثَّالِثُ: أَنَّهَا الْبَلَاءُ الَّذِي يُبْتَلَى بِهِ الْمَرْءُ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا: أَنَّهَا فِتْنَةُ الْمَنَاكِيرِ بِالسُّكُوتِ عَلَيْهَا أَوْ التَّرَاضِي بِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مُهْلِكٌ، وَهُوَ كَانَ دَاءَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة: 79]. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]. أَنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ. وَثَبَتَ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنُهْلَكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إذَا كَثُرَ الْخُبْثُ». وَقَالَ عُمَرُ: إنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِذَنْبِ الْخَاصَّةِ، وَلَكِنْ إذَا عَمِلَ الْمُنْكَرَ جِهَارًا اسْتَحَلُّوا الْعُقُوبَةَ كُلُّهُمْ. وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]. وَقَالَ: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] فَقَدْ أَخْبَرَنَا رَبُّنَا أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبْتِ رَهِينَةٌ، وَأَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُ أَحَدًا بِذَنْبِ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ كُلُّ عُقُوبَةٍ بِصَاحِبِ الذَّنْبِ، بَيْدَ أَنَّ النَّاسَ إذَا تَظَاهَرُوا بِالْمُنْكَرِ فَمِنْ الْفَرْضِ عَلَى كُلِّ مَنْ رَآهُ أَنْ يُغَيِّرَهُ، فَإِذَا سَكَتَ عَنْهُ فَكُلُّهُمْ عَاصٍ، هَذَا بِفِعْلِهِ، وَهَذَا بِرِضَاهُ بِهِ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ فِي حُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ الرَّاضِيَ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِلِ؛ فَانْتَظَمَ الذَّنْبُ بِالْعُقُوبَةِ، وَلَمْ يَتَعَدَّ مَوْضِعَهُ، وَهَذَا نَفِيسٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ. فَإِنْ قِيلَ، وَهِيَ:

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَمَا مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ؟ قُلْنَا: هِيَ آيَةٌ بَدِيعَةٌ، وَمَعْنَاهَا عَلَى النَّاسِ مُرْتَبِكٌ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي قَبَسِ الْمُوَطَّأِ، وَفِي " مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ ". لُبَابُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: (اتَّقُوا) أَمْرٌ. وَقَوْلُهُ: {لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنفال: 25] نَهْيٌ، وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ جَوَابَ الْأَمْرِ، فَيَبْقَى الْأَمْرُ بِغَيْرِ جَوَابٍ، فَيُشْكِلُ الْخِطَابُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنفال: 25] نَهْيٌ دُخُولُ النُّونِ الثَّقِيلَةِ فِيهِ، وَهِيَ لَا تَدْخُلُ إلَّا عَلَى فِعْلِ النَّهْيِ، أَوْ جَوَابِ الْقَسَمِ. وَلَا تَظُنُّوا أَنَّ إشْكَالَ هَذِهِ الْآيَةِ حَدَثَ بَيْنَ الْمُتَأَخِّرِينَ؛ بَلْ هُوَ أَمْرٌ سَالِفٌ عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَلِذَلِكَ قَرَأَهَا قَوْمٌ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً أَنْ تُصِيبَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً. وَقَرَأَهَا آخَرُونَ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَتُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً. وَهَكَذَا يُرْوَى فِيهَا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَكَانَ يَقُولُ ابْنُ مَسْعُودٍ إذَا قَرَأَهَا: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَلَهُ فِتْنَةٌ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ. وَكَانَ الزُّبَيْرُ يَقُولُ: كُنَّا نَظُنُّهَا لِغَيْرِنَا فَإِذَا بِهَا قَدْ أَصَابَتْنَا. وَكَذَلِكَ كَانَ يَرَى ابْنُ عَبَّاسٍ. وَأَمَّا فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ فَلَا تَتَعَدَّاهُ، وَلَا تَأْخُذُ بِالْعُقُوبَةِ سِوَاهُ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ. فَأَمَّا اعْتِرَاضُهُمْ بِالْإِعْرَابِ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فَقَدْ أَوْضَحْنَاهَا فِي الرِّسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ وَقُلْنَا: فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ أَمْرٌ ثُمَّ نَهْيٌ، كُلُّ وَاحِدٍ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ، كَمَا تَقُولُ: قُمْ غَدًا. لَا تَتَكَلَّمْ الْيَوْمَ. الثَّانِي: الْإِعْرَابُ اتَّقُوا فِتْنَةً إنْ لَمْ تَتَّقُوهَا أَصَابَتْكُمْ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَ: (اتَّقُوا فِتْنَةً) لَيْسَ بِكَلَامٍ مُسْتَقِلٍّ، فَيَصِحُّ أَنْ يَتَرَكَّبَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ.

الآية الثامنة قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا

وَأَمَّا الثَّانِي، وَهُوَ جَوَابُ الطَّبَرِيِّ، فَلَا يُشْبِهُ مَنْزِلَتَهُ فِي الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ مَجَازَهُ: لَا تُصِيبُ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَلَمْ يُرِدْ كَذَلِكَ. الثَّالِثُ: قَالَ لَنَا شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّحْوِيُّ: هَذَا نَهْيٌ فِيهِ مَعْنَى جَوَابِ الْأَمْرِ، كَمَا يُقَالُ: لَا تَزُلْ مِنْ الدَّابَّةِ لَا تَطْرَحَنَّكَ، وَقَدْ جَاءَ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ: {ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} [النمل: 18]. وَهَذَا مُنْتَهَى الِاخْتِصَارِ وَقَدْ طَوَّلْنَاهُ فِي مَكَانِهِ. [الْآيَة الثَّامِنَة قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا] وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ} [الأنفال: 29] وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي التَّقْوَى وَحَقِيقَتِهَا وَأَنَّهَا فَعْلَى، مِنْ وَقَى يَقِي وِقَايَةً وَوَاقِيَةً، أُبْدِلَتْ الْوَاوُ تَاءً لُغَةً؛ وَذَلِكَ بِأَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُخَالَفَةِ اللَّهِ وَمَعْصِيَتِهِ وِقَايَةً وَحِجَابًا، وَلَهَا فِيهِ مَحَالُّ: الْمَحَلُّ الْأَوَّلُ: الْعَيْنُ: فَإِنَّهَا رَائِدُ الْقَلْبِ وَرَبِيئَتُهُ، فَمَا تَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَرْسَلَتْهُ إلَيْهِ، فَهُوَ يَفْصِلُ مِنْهُ الْجَائِزَ مِمَّا لَا يَجُوزُ، وَإِذَا جَلَّلْتهَا بِحِجَابِ التَّقْوَى لَمْ تُرْسِلْ إلَى الْقَلْبِ إلَّا مَا يَجُوزُ، فَيَسْتَرِيحُ مِنْ شَغَبِ ذَلِكَ الْإِلْقَاءِ؛ وَرُبَّمَا أَصَابَتْ هَذَا الْمَعْنَى الشُّعَرَاءُ كَقَوْلِهِمْ: وَأَنْتَ إذَا أَرْسَلْتَ طَرَفَكَ رَائِدًا ... لِقَلْبِك يَوْمًا أَسْلَمَتْك الْمَنَاظِرُ رَأَيْت الَّذِي لَا كُلُّهُ أَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ ... وَلَا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابِرُ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ أَخَذَ طَرَفًا مِنْ الْمَعْنَى، فَإِنَّ شَيْخَنَا عَطَاءً الْمَقْدِسِيَّ شَيْخَ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ اسْتَوْفَى الْمَعْنَى فِي بَيْتَيْنِ أَنْشَدَنَاهُمَا:

إذَا لُمْت عَيْنَيَّ اللَّتَيْنِ أَضَرَّتَا ... بِجِسْمِي وَقَلْبِي قَالَتَا لُمْ الْقَلْبَا فَإِنْ لُمْت قَلْبِي قَالَ عَيْنَاك جَرَّتَا ... عَلَيَّ الرَّزَايَا ثُمَّ لِي تَجْعَلُ الذَّنْبَا وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا. أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ؛ فَالْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْبَطْشُ». الْمَحَلُّ الثَّانِي: الْأُذُنُ: وَهِيَ رَائِدٌ عَظِيمٌ فِي قَبِيلِ الْأَصْوَاتِ يُلْقِي إلَى الْقَلْبِ مِنْهَا مَا يُغَبِّيهِ، وَقَدْ كَانَتْ الْبَوَاطِلُ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ الْحَقَائِقِ، فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْخَوْضِ فِي الْبَاطِلِ أَوَّلًا، وَيُنَزِّهَ نَفْسَهُ عَنْ مُجَالَسَةِ أَهْلِهِ؛ وَإِذَا سَمِعَ الْقَوْلَ اتَّبَعَ أَحْسَنَهُ، وَوَعَى أَسْلَمَهُ، وَصَانَ عَنْ غَيْرِهِ أُذُنَهُ، أَوْ قَذَفَهُ عَنْ قَلْبِهِ إنْ وَصَلَ إلَيْهِ. الْمَحَلُّ الثَّالِثُ: اللِّسَانُ: وَفِيهِ نَيِّفٌ عَلَى عِشْرِينَ آفَةً وَخُصْلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ الصِّدْقُ، وَبِهَا يَنْتَفِي عَنْهُ جَمِيعُ الْخِصَالِ الذَّمِيمَةِ، وَعَنْ بَدَنِهِ جَمِيعُ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ، فَإِذَا حَجَبَهُ بِالصِّدْقِ فَقَدْ كَمُلَتْ لَهُ التَّقْوَى، وَنَالَ الْمَرْتَبَةَ الْقُصْوَى. الْمَحَلُّ الرَّابِعُ: الْيَدُ: وَهِيَ لِلْبَطْشِ وَالتَّنَاوُلِ، وَفِيهَا مَعَاصٍ مِنْهَا: الْغَصْبُ، وَالسَّرِقَةُ، وَمُحَاوَلَةُ الزِّنَا، وَالْإِذَايَةُ لِلْحَيَوَانِ وَالنَّاسِ، وَحِجَابُهَا الْكَفُّ إلَّا عَمَّا أَرَادَ اللَّهُ. الْمَحَلُّ الْخَامِسُ: الرِّجْلُ: وَهِيَ لِلْمَشْيِ إلَى مَا يَحِلُّ، وَإِلَى مَا يَجِبُ، وَحِجَابُهَا الْكَفُّ عَمَّا لَا يَجُوزُ. الْمَحَلُّ السَّادِسُ: الْقَلْبُ: وَهُوَ الْبَحْرُ الْخِضَمُّ، وَفِي الْقَلْبِ الْفَوَائِدُ الدِّينِيَّةُ، وَالْآفَاتُ الْمُهْلِكَةُ، وَالتَّقْوَى، فِيهِ حِجَابٌ يَسْلُخُ الْآفَاتِ عَنْهُ، وَشَحْنُهُ بِالنِّيَّةِ الْخَالِصَةِ؛ وَشَرْحُهُ بِالتَّوْحِيدِ، وَخَلْعِ الْكِبْرِ وَالْعَجَبِ بِمَعْرِفَتِهِ بِأَوَّلِهِ وَآخِرِهِ، وَالتَّبَرِّي مِنْ الْحَسَدِ، وَالتَّحَفُّظِ مِنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ الظَّاهِرِ وَالْخَفِيِّ، بِمُرَاعَاةِ غَيْرِ اللَّهِ فِي الْأَعْمَالِ، وَالرُّكُونِ إلَى الدُّنْيَا

مسألة يمتثل ما أمر ويجتنب كيف استطاع ما عنه نهي

بِالْغَفْلَةِ عَنْ الْمَالِ. فَإِذَا انْتَهَى الْعَبْدُ إلَى هَذَا الْمَقَامِ مَهَّدَ لَهُ قَبُولَهُ مَكَانًا، وَرَزَقَهُ فِيمَا يُرِيدُهُ مِنْ الْخَيْرِ إمْكَانًا، وَجَعَلَ لَهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ فُرْقَانًا، وَهِيَ: [مَسْأَلَة يَمْتَثِل مَا أُمِرَ وَيَجْتَنِبَ كَيْفَ اسْتَطَاعَ مَا عَنْهُ نُهِيَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قِسْمِ الْعَمَلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْإِشَارَةُ إلَيْهِ: أَنْ يَمْتَثِلَ مَا أُمِرَ، وَيَجْتَنِبَ كَيْفَ اسْتَطَاعَ مَا عَنْهُ نُهِيَ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ». وَقَدْ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَأَلْت مَالِكًا عَنْ قَوْلِهِ: {يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] قَالَ: مَخْرَجًا. ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] إلَى: {فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: سَأَلْت مَالِكًا عَنْ قَوْلِهِ: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] قَالَ: يَعْنِي مَخْرَجًا. وَقَالَ أَشْهَبُ: سَأَلْت مَالِكًا عَنْهَا فَذَكَرَ مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: يَجْعَلْ لَكُمْ فَصْلًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. وَهَذِهِ كُلُّهَا أَبْوَابُ الْعَمَلِ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَبَدَانِ. [الْآيَة التَّاسِعَة قَوْله تَعَالَى وَإِذْ يَمْكُرُ بِك الَّذِينَ كَفَرُوا] لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ. وَسَبَبَ نُزُولِهَا، وَالْمُرَادَ بِهَا مَا رُوِيَ أَنَّ قُرَيْشًا اجْتَمَعَتْ فِي دَارِ النَّدْوَةِ

وَقَالَتْ: إنَّ أَمْرَ مُحَمَّدٍ قَدْ طَالَ عَلَيْنَا، فَمَاذَا تَرَوْنَ؟ فَأَخَذُوا فِي كُلِّ جَانِبٍ مِنْ الْقَوْلِ، فَقَالَ قَائِلٌ: نَرَى أَنْ يُقَيَّدَ وَيُحْبَسَ. وَقَالَ آخَرُ: نَرَى أَنْ يُنْفَى وَيُخْرَجَ. وَقَالَ آخَرُ: نَرَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ سَيْفًا فَيَضْرِبُونَهُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، فَلَا يَقْدِرُ بَنُو هَاشِمٍ عَلَى مُطَالَبَةِ الْقَبَائِلِ. وَكَانَ الْقَائِلُ هَذَا أَبَا جَهْلٍ. فَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَجَاءَ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَعْلَمَهُ بِذَلِكَ، وَأَذِنَ لَهُ فِي الْخُرُوجِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بِأَنْ يَضْطَجِعَ عَلَى فِرَاشِهِ، وَيَتَسَجَّى بِبُرْدِهِ الْحَضْرَمِيِّ. وَخَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[عَلَيْهِمْ] حَتَّى وَضَعَ التُّرَابَ عَلَى رُءُوسِهِمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا بِهِ، وَأَخَذَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ إلَى الْغَارِ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا نَظَرُوا إلَى عَلِيٍّ فِي مَوْضِعِهِ، وَقَدْ فَاتَهُمْ، وَوَجَدُوا التُّرَابَ عَلَى رُءُوسِهِمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا، تَحْتَ خِزْيٍ وَذِلَّةٍ، فَامْتَنَّ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ بِذَلِكَ مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ وَسَلَامَتِهِ مِنْ مَكْرِهِمْ بِمَا أَظْهَرَ عَلَيْهِمْ مِنْ نَوْمِ عَلِيٍّ عَلَى السَّرِيرِ كَأَنَّهُ النَّبِيُّ، وَمِنْ وَضْعِ التُّرَابِ عَلَى رُءُوسِهِمْ، وَهَذَا كُلُّهُ مَكْرٌ مِنْ فِعْلِهِ جَزَاءً عَلَى مَكْرِهِمْ، وَاَللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَامَ عَلِيٌّ عَلَى فِرَاشِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِدَاءً لَهُ، وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مَعَ النَّبِيِّ مُؤْنِسًا لَهُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّهُ لَنْ يَخْلُصَ إلَيْكَ». وَهَذَا تَأْمِينُ يَقِينٍ، وَيَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ أَنْ يَقُوا بِأَنْفُسِهِمْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنْ يَهْلِكُوا أَجْمَعِينَ فِي نَجَاتِهِ، فَلَنْ يُؤْمِنَ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَالْخَلْقِ أَجْمَعِينَ. وَمَنْ وَقَى مُسْلِمًا بِنَفْسِهِ فَلَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الْجَنَّةُ. وَذَلِكَ جَائِزٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وُجُوبُ مُدَافَعَةِ الْمُطَالِبِ وَالصَّائِلِ عَلَى أَخِيك الْمُسْلِمِ.

الآية العاشرة قوله تعالى قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف

[الْآيَة الْعَاشِرَة قَوْله تَعَالَى قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ] َ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال: 38]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ثَبَتَ عَنْ «ابْنِ شِمَاسَةَ الْمَهْرِيِّ قَالَ: حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ، فَبَكَى طَوِيلًا، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إلَى الْجِدَارِ، فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ: مَا يَبْكِيك يَا أَبَتَاهُ؟ أَمَا بَشَّرَك رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَذَا أَمَا بَشَّرَك رَسُولُ اللَّهِ بِكَذَا؟ قَالَ: فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: إنَّ أَفْضَلَ مَا بَعْدَ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَنِّي كُنْت عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلَاثٍ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَشَدُّ بُغْضًا لِرَسُولِ اللَّهِ مِنِّي، وَلَا أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَمْكَنْت مِنْهُ فَقَتَلْته، فَلَوْ مِتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَكُنْت مِنْ أَهْلِ النَّارِ. فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي أَتَيْت النَّبِيَّ فَقُلْت: اُبْسُطْ يَمِينَك لِأُبَايِعَك، فَبَسَطَ يَمِينَهُ. قَالَ: فَقَبَضْت يَدِي. قَالَ: مَا لَك يَا عَمْرُو؟ قَالَ: قُلْت: أَرَدْت أَنْ أَشْتَرِطَ. قَالَ: تَشْتَرِطُ مَاذَا؟ قُلْت: أَنْ يُغْفَرَ لِي. قَالَ: أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَا أَجَلَّ فِي عَيْنَيَّ مِنْهُ، وَمَا كُنْت أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ إجْلَالًا لَهُ، وَلَوْ سُئِلْت أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْت؛ لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ، وَلَوْ مِتُّ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ لَرَجَوْت أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ وُلِّينَا أَشْيَاءَ مَا أَدْرِي مَا حَالِي فِيهَا؛ فَإِذَا أَنَا مِتُّ فَلَا تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ، وَلَا نَارٌ؛ فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَسُنُّوا التَّفِل عَلَيَّ التُّرَابَ سَنًّا، ثُمَّ أُقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ، وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ، وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي».

مسألة لطيفة من الله سبحانه من بها على الخليقة

[مَسْأَلَة لَطِيفَةٌ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مَنَّ بِهَا عَلَى الْخَلِيقَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذِهِ لَطِيفَةٌ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مَنَّ بِهَا عَلَى الْخَلِيقَةِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَقْتَحِمُونَ الْكُفْرَ وَالْجَرَائِمَ، وَيَرْتَكِبُونَ الْمَعَاصِيَ، وَيَرْتَكِبُونَ الْمَآثِمَ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يُوجِبُ مُؤَاخَذَتَهُمْ لَمَا اسْتَدْرَكُوا أَبَدًا تَوْبَةً، وَلَا نَالَتْهُمْ مَغْفِرَةٌ؛ فَيَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَبُولَ التَّوْبَةِ عِنْدَ الْإِنَابَةِ، وَبَذَلَ الْمَغْفِرَةَ بِالْإِسْلَامِ، وَهَدَمَ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَقْرَبَ إلَى دُخُولِهِمْ فِي الدِّينِ، وَأَدْعَى إلَى قَبُولِهِمْ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ، وَتَأْلِيفًا عَلَى الْمِلَّةِ، وَتَرْغِيبًا فِي الشَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّهُمْ لَوْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ يُؤَاخَذُونَ لَمَا أَنَابُوا وَلَا أَسْلَمُوا. فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ «أَنَّ رَجُلًا كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، سَأَلَ: هَلْ لَهُ تَوْبَةٌ؟ فَجَاءَ عَالِمًا فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: لَا تَوْبَةَ لَك، فَقَتَلَهُ وَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً. ثُمَّ جَاءَ عَالِمًا آخَرَ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: وَمَنْ يَسُدُّ عَلَيْك بَابَ التَّوْبَةِ؟ ائْتِ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ. فَمَشَى إلَيْهَا، فَحَضَرَهُ الْأَجَلُ فِي الطَّرِيقِ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ؛ فَأَوْحَى اللَّهُ أَنْ قِيسُوا إلَى أَيِّ الْأَرْضَيْنِ هُوَ أَقْرَبُ، أَرْضُهُ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا أَمْ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ؟ فَأَلْفَوْهُ أَقْرَبَ إلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ بِشِبْرٍ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَاسَمُوهُ فَوَجَدُوهُ قَدْ دَنَا بِصَدْرِهِ.». فَانْظُرُوا إلَى قَوْلِ الْعَالِمِ لَهُ: لَا تَوْبَةَ لَهُ. فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ أَيْأَسَهُ قَتَلَهُ؟ فِعْلُ الْيَائِسِ مِنْ الرَّحْمَةِ؛ وَالتَّنْفِيرُ مَفْسَدَةٌ لِلْخَلِيقَةِ، وَالتَّيْسِيرُ مَصْلَحَةٌ لَهُمْ. وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ إذَا جَاءَ إلَيْهِ رَجُلٌ لَمْ يَقْتُلْ فَسَأَلَهُ: هَلْ لِلْقَاتِلِ تَوْبَةٌ؟ فَيَقُولُ لَهُ: لَا تَوْبَةَ لَهُ؛ تَخْوِيفًا وَتَحْذِيرًا. فَإِذَا جَاءَهُ مَنْ قَتَلَ فَسَأَلَهُ: هَلْ لِقَاتِلٍ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ لَهُ: لَك تَوْبَةٌ؛ تَيْسِيرًا وَتَأْلِيفًا. [مَسْأَلَة طَلَّقَ فِي الشِّرْكِ ثُمَّ أَسْلَمَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَشْهَبُ، وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَنْ طَلَّقَ فِي الشِّرْكِ ثُمَّ أَسْلَمَ فَلَا طَلَاقَ لَهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ حَلَفَ فَأَسْلَمَ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ مِثْلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ثُمَّ أَسْلَمَ فَذَلِكَ مَغْفُورٌ لَهُ.

مسألة أسلم المرتد وقد فاتته صلوات وأصاب جنايات وأتلف أموالا

فَأَمَّا مَنْ افْتَرَى عَلَى مُسْلِمٍ ثُمَّ أَسْلَمَ، أَوْ سَرَقَ ثُمَّ أَسْلَمَ، أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِلْفِرْيَةِ وَالسَّرِقَةِ، وَلَوْ زَنَى وَأَسْلَمَ أَوْ اغْتَصَبَ مُسْلِمَةً ثُمَّ أَسْلَمَ لَسَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ. وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ: إنَّمَا يَعْنِي عَزَّ وَجَلَّ مَا قَدْ مَضَى قَبْلَ الْإِسْلَامِ مِنْ مَالٍ أَوْ دَمٍ أَوْ شَيْءٍ. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ؛ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]، وَقَوْلِهِ: «الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ». وَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ الْمَعْنَى فِي التَّيْسِيرِ وَعَدَمِ التَّنْفِيرِ. [مَسْأَلَة أَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ وَقَدْ فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ وَأَصَابَ جِنَايَاتٍ وَأَتْلَفَ أَمْوَالًا] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إذَا أَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ، وَقَدْ فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ، وَأَصَابَ جِنَايَاتٍ، وَأَتْلَفَ أَمْوَالًا فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: يَلْزَمُهُ كُلُّ حَقٍّ لِلَّهِ وَلِلْآدَمِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَا كَانَ لِلَّهِ يَسْقُطُ، وَمَا كَانَ لِلْآدَمِيِّ يَلْزَمُهُ؛ وَقَالَ بِهِ عُلَمَاؤُنَا. وَدَلِيلُهُمْ عُمُومُ قَوْلِهِ: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]. وَقَوْلُ النَّبِيِّ: «الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ». وَهَذَا عَامٌّ فِي الْحُقُوقِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِاَللَّهِ كُلِّهَا. فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْكُفْرُ الْأَصْلِيُّ، بِدَلِيلِ أَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ تَلْزَمُ الْمُرْتَدَّ؛ فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ حُقُوقُ اللَّهِ. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ بِحُقُوقِ اللَّهِ، وَلَا حُقُوقِ اللَّهِ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فِي الْإِيجَابِ وَالْإِسْقَاطِ؛ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ يُسْتَغْنَى عَنْهُ، وَحَقَّ الْآدَمِيِّ يُفْتَقَرُ إلَيْهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ لَا تَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ، وَتَلْزَمُهُ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ، وَفِي ذَلِكَ تَمْهِيدٌ طَوِيلٌ بَيَّنَّاهُ فِي تَخْلِيصِ التَّلْخِيصِ فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ. [الْآيَة الْحَادِيَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدَّيْنُ كُلُّهُ لِلَّهِ] قَوْله تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 39] {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال: 40].

الآية الثانية عشرة قوله تعالى واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه

يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ، وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا يَكُونَ كُفْرٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا يُفْتَنَ أَحَدٌ عَنْ دِينِهِ. وَكِلَاهُمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا، وَهَذِهِ الْغَايَةُ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِنُزُولِ عِيسَى. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا ابْنُ عُمَرَ فَرَجَوْنَا أَنْ يُحَدِّثَنَا حَدِيثًا حَسَنًا. قَالَ: فَبَادَرَنَا إلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدِّثْنَا عَنْ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ، وَاَللَّهُ يَقُولُ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 39]. فَقَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا الْفِتْنَةُ؟ ثَكِلَتْك أُمُّك، إنَّمَا كَانَ مُحَمَّدٌ يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ الدُّخُولُ فِي دِينِهِمْ فِتْنَةً، وَلَيْسَ بِقِتَالِكُمْ عَلَى الْمُلْكِ. [الْآيَة الثَّانِيَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ] قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنفال: 41]. فِيهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} [الأنفال: 41] قَدْ بَيَّنَّا الْقَوْلَ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ. فَأَمَّا الْأَحْكَامِيُّونَ، فَقَالُوا: إنَّ الْغَنِيمَةَ مِنْ الْأَمْوَالِ الْمَنْقُولَةِ، وَالْفَيْءُ: الْأَرْضُونَ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: إنَّ الْغَنِيمَةَ مَا أُخِذَ عَنْوَةً. وَالْفَيْءُ مَا أُخِذَ عَلَى صُلْحٍ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ. وَقِيلَ: إنَّ الْفَيْءَ وَالْغَنِيمَةَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَأَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ فَصَارَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ الْفَيْءَ فِي الْقُرَى، وَذَكَرَ الْغَنِيمَةَ مُطْلَقًا، فَفَصَّلَ الْفَرْقَ هَكَذَا. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَبَنَاهُ عَلَى الْعُرْفِ، وَأَنَّ الْغَنِيمَةَ تَنْطَلِقُ فِي الْعُرْفِ عَلَى الْأَمْوَالِ الْقَهْرِيَّةِ، وَيَنْطَلِقُ الْفَيْءُ عُرْفًا عَلَى مَا أُخِذَ مِنْ غَيْرِ قَهْرٍ. وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ الْفَيْءُ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَا صَارَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ الْأَمْوَالِ بِقَهْرٍ وَبِغَيْرِ قَهْرٍ.

مسألة الغنيمة خمسها للخمسة الأسماء وسائرها لمن غنمها

وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ لِيَعْبُدُوهُ، وَجَعَلَ الْأَمْوَالَ لَهُمْ لِيَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى مَا يُرْضِيهِ، وَرُبَّمَا صَارَتْ فِي أَيْدِي أَهْلِ الْبَاطِلِ، فَإِذَا صَارَتْ فِي أَيْدِي أَهْلِ الْحَقِّ فَقَدْ صَرَفَهَا عَنْ طَرِيقِ الْإِرَادَةِ إلَى طَرِيقِ الْأَمْرِ وَالْعِبَادَةِ. [مَسْأَلَة الْغَنِيمَةَ خُمُسَهَا لِلْخَمْسَةِ الْأَسْمَاءِ وَسَائِرَهَا لِمَنْ غَنِمَهَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إذَا عَرَفْتُمْ أَنَّ الْغَنِيمَةَ هِيَ مَا أُخِذَ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ فِيهَا بِحُكْمِهِ، وَأَنْفَذَ فِيهَا سَابِقَ عِلْمِهِ، فَجَعَلَ خُمُسَهَا لِلْخَمْسَةِ الْأَسْمَاءِ، وَأَبْقَى سَائِرَهَا لِمَنْ غَنِمَهَا؛ وَنَحْنُ نُسَمِّيهَا، ثُمَّ نَعْطِفُ عَلَى الْوَاجِبِ فِيهَا فَنَقُولُ: أَمَّا سَهْمُ اللَّهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَسَهْمَ الرَّسُولِ وَاحِدٌ، وَقَوْلُهُ: {لِلَّهِ} [الأنفال: 41] اسْتِفْتَاحُ كَلَامٍ، فَلِلَّهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ وَالْخَلْقُ أَجْمَعُ. الثَّانِي: رُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيِّ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُؤْتَى بِالْغَنِيمَةِ فَيَقْسِمُهَا عَلَى خَمْسَةٍ، يَكُونُ أَرْبَعُ أَخْمَاسِهَا لِمَنْ شَهِدَهَا، ثُمَّ يَأْخُذُ الْخُمُسَ فَيَضْرِبُ بِيَدِهِ فَيَأْخُذُ مِنْهُ الَّذِي قَبَضَ كَفَّهُ فَيَجْعَلُهُ لِلْكَعْبَةِ، وَهُوَ سَهْمُ اللَّهِ ثُمَّ يُقَسِّمُ مَا بَقِيَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ». وَأَمَّا سَهْمُ الرَّسُولِ فَقِيلَ: هُوَ اسْتِفْتَاحُ كَلَامٍ، مِثْلُ قَوْلِهِ: لِلَّهِ، لَيْسَ لِلَّهِ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا لِلرَّسُولِ، وَيُقَسِّمُ الْخُمُسَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لِبَنِي هَاشِمٍ، وَلِبَنِي الْمُطَّلِبِ سَهْمٌ، وَلِلْيَتَامَى سَهْمٌ، وَالْمَسَاكِينِ سَهْمٌ [وَلِابْنِ السَّبِيلِ سَهْمٌ]؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: هُوَ لِلرَّسُولِ، فَفِي كَيْفِيَّةِ كَوْنِهِ لَهُ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: فَقِيلَ: لِقَرَابَتِهِ إرْثًا، وَقِيلَ: لِلْخَلِيفَةِ بَعْدَهُ، وَقِيلَ: هُوَ يَلْحَقُ بِالْأَسْهُمِ الْأَرْبَعِ، وَقِيلَ: هُوَ مَصْرُوفٌ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، وَقِيلَ: إنَّهُ مَصْرُوفٌ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ.

وَأَمَّا سَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى فَقِيلَ: هُمْ قُرَيْشٌ، وَقِيلَ: بَنُو هَاشِمٍ [وَقِيلَ بَنُو هَاشِمٍ] وَبَنُو الْمُطَّلِبِ؛ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقِيلَ: ذَهَبَ ذَلِكَ بِمَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَكُونُ لِقَرَابَةِ الْإِمَامِ بَعْدَهُ. وَقِيلَ: هُوَ لِلْإِمَامِ يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ. وَأَمَّا سَهْمُ الْيَتَامَى فَإِنَّ الْيَتِيمَ مَنْ فِيهِ ثَلَاثَةٌ أَوْصَافٍ: مَوْتُ الْأَبِ، وَعَدَمُ الْبُلُوغِ، وَوُجُودُ الْإِسْلَامِ أَصْلًا فِيهِ أَوْ تَبَعًا لِأَحَدِ أَبَوَيْهِ، وَحَاجَتُهُ إلَى الرَّفْدِ. وَأَمَّا الْمِسْكِينُ فَهُوَ الْمُحْتَاجُ. وَأَمَّا ابْنُ السَّبِيلِ فَهُوَ الَّذِي يَأْخُذُهُ الطَّرِيقُ مُحْتَاجًا، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي التَّنْقِيحِ: أَمَّا قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ فَلَيْسَ مِنْ النَّظَرِ فِي الْمَرْتَبَةِ الْعَالِيَةِ؛ فَإِنَّ الْأَرْضَ كُلَّهَا لِلَّهِ مِلْكًا وَخَلْقًا، وَهِيَ لِعِبَادِهِ رِزْقًا وَقِسْمًا. وَأَمَّا الرَّسُولُ فَهُوَ مِمَّنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ وَمَلَّكَهُ. وَلَكِنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا لِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إلَّا الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ». وَهَذَا يُعَضِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَرْجِعُ فِي مَصَالِحِ الْعَامَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَرْجِعُ لِقَرَابَتِهِ إرْثًا فَإِنَّهُ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَرْسَلَتْ تَطْلُبُ مِيرَاثَهَا مِنْ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ لَهَا: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «نَحْنُ لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ».

مسألة لا يعطي القرابة من الغنيمة إلا أن يكونوا فقراء

وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ، وَسَائِرُ الْأَقْوَالِ دَعَاوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا. أَمَّا سَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى فَأَصَحُّهَا أَنَّهُمْ بَنُو هَاشِمٍ، وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، وَسَائِرُ الْأَقْسَامِ صَحِيحَةٌ فِي الْأَقْوَالِ وَالتَّوْجِيهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَأَشْهَبَ، وَعَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْفَيْءَ وَالْخُمُسَ يُجْعَلَانِ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَيُعْطِي الْإِمَامُ قَرَابَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمَا. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الْفَيْءَ وَالْخُمُسَ وَاحِدٌ. [مَسْأَلَة لَا يُعْطِي الْقَرَابَةَ مِنْ الْغَنِيمَة إلَّا أَنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ] وَرَوَى دَاوُد بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَمِّهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ الْقَرَابَةَ لَا لِلسَّلْمِ مِنْهُ إلَّا بِالْفَقْرِ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ مَالِكٌ: وَبِهِ أَقُولُ. وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُعْطِي الْقَرَابَةَ إلَّا أَنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ: فَزَادَ الْفَقْرَ عَلَى النَّصِّ، وَالزِّيَادَةُ عِنْدَهُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ، وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ إلَّا بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ أَوْ بِخَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ. فَأَمَّا مَالِكٌ فَاحْتَجَّ بِأَنَّ ذَلِكَ جُعِلَ لَهُمْ عِوَضًا عَنْ الصَّدَقَةِ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَوْلُهُ: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] يَعْنِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ كُلُّهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ سَرِيَّةً قِبَلَ نَجْدٍ، فَأَصَابُوا فِي سُهْمَانِهِمْ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا، وَنُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا». وَثَبَتَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ: «لَوْ كَانَ الْمُطْعَمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا وَكَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ». وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ رَدَّ سَبْيَ هَوَازِنَ وَفِيهِ الْخُمُسُ.

وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «آثَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ حُنَيْنٍ أُنَاسًا فِي الْغَنِيمَةِ، فَأَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى أُنَاسًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ وَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْقِسْمَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ: وَاَللَّهِ إنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا عُدِلَ فِيهَا، أَوْ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ. فَقُلْت: وَاَللَّهِ لَأُخْبِرَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَأَخْبَرْته، فَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَخِي مُوسَى، لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ». وَفِي الصَّحِيحِ: «إنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ، بُعِثْت أَنْ أَقْسِمَ بَيْنَكُمْ فَاَللَّهُ حَاكِمٌ، وَالنَّبِيُّ قَاسِمٌ، وَالْحَقُّ لِلْخَلْقِ». وَصَحَّ عَنْ «عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: كَانَ لِي شَارِفٌ مِنْ نَصِيبِي يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ شَارِفًا مِنْ الْخُمُسِ». وَرَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، عَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: «اجْتَمَعَ رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَا: وَاَللَّهِ لَوْ بَعَثْنَا هَذَيْنِ فَقَالَا لِي، وَلِلْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ: اذْهَبَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ فَكَلِّمَاهُ يُؤَمِّنْكُمَا عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَةِ، فَأَدِّيَا مَا يُؤَدِّي النَّاسُ، بِشِرَاءٍ مِمَّا يُصِيبُ النَّاسُ، فَبَيْنَمَا هُمَا فِي ذَلِكَ إذْ دَخَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا، فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا تَفْعَلَا، فَوَاَللَّهِ مَا هُوَ بِفَاعِلٍ. فَابْتَدَأَهُ رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا هَذَا إلَّا نَفَاسَةٌ مِنْك عَلَيْنَا، فَوَاَللَّهِ لَقَدْ نِلْت صِهْرَ رَسُولِ اللَّهِ فَمَا نَفِسْنَاهُ عَلَيْك. فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا أَبُو حَسَنِ الْقَوْمِ أَرْسِلُوهُمَا، فَانْطَلَقَا، وَاضْطَجَعَ عَلِيٌّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظُّهْرَ سَبَقْنَاهُ إلَى الْحُجْرَةِ، فَقُمْنَا عِنْدَهَا حَتَّى جَاءَ، فَأَخَذَ بِآذَانِنَا، ثُمَّ قَالَ: أَخْرِجَا مَا تُصَرِّرَانِ ثُمَّ دَخَلَ، وَدَخَلْنَا عَلَيْهِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ قَالَ: فَتَزَايَلْنَا الْكَلَامَ، ثُمَّ تَكَلَّمَ أَحَدُنَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَنْتَ أَبَرُّ النَّاسِ

بِشِرَاءِ النَّاسِ، وَقَدْ بَلَغْنَا النِّكَاحَ، فَجِئْنَاك لِتُؤَمِّرَنَا عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ، فَنُؤَدِّيَ إلَيْك مَا يُؤَدِّي النَّاسُ، وَنُصِيبَ كَمَا يُصِيبُونَ. قَالَ: فَسَكَتَ طَوِيلًا حَتَّى أَرَدْنَا أَنْ نُكَلِّمَهُ. قَالَ: وَجَعَلَتْ زَيْنَبُ يُزَالُ إلَيْنَا مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ أَلَّا تَكَلَّمَاهُ. ثُمَّ قَالَ: إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ؛ إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ، اُدْعُوَا لِي مَحْمِيَّةَ وَكَانَ عَلَى الْخُمُسِ، وَنَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. قَالَ: فَجَاءَاهُ. فَقَالَ لِمَحْمِيَّةَ: أَنْكِحْ هَذَا الْغُلَامَ ابْنَتَك لِلْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ يَعْنِي لِي، فَأَنْكَحَهُ. وَقَالَ لِنَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ: أَنْكِحْ هَذَا الْغُلَامَ بِنْتَك يَعْنِي لِي، فَأَنْكَحَنِي. وَقَالَ لِمَحْمِيَّةَ: أَصْدِقْ عَنْهُمَا مِنْ مَالِ الْخُمُسِ كَذَا وَكَذَا.» وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُمَا: «إنَّ الصَّدَقَةَ أَوْسَاخُ النَّاسِ، وَلَكِنْ اُنْظُرُوا إذَا أَخَذْت بِحَلْقَةِ الْجَنَّةِ، هَلْ أُوثِرُ عَلَيْكُمْ أَحَدًا؟» وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: خُمُسُ الْخُمُسِ لِلرَّسُولِ، وَالْأَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ مِنْ الْخُمُسِ لِلْأَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ الْمُسَمَّيْنَ مَعَهُ، وَلَهُ سَهْمٌ كَسَائِرِ سِهَامِ الْغَانِمِينَ إذَا حَضَرَ الْغَنِيمَةَ، وَلَهُ سَهْمُ الصَّفِيِّ يَصْطَفِي سَيْفًا أَوْ خَادِمًا أَوْ دَابَّةً. فَأَمَّا سَهْمُ الْقِتَالِ فَبِكَوْنِهِ أَشْرَفَ الْمُقَاتِلِينَ، وَأَمَّا سَهْمُ الصَّفِيِّ فَمَنْصُوصٌ لَهُ فِي السِّيَرِ، مِنْهُ ذُو الْفُقَّارِ، وَصَفِيَّةُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَأَمَّا خُمُسُ الْخُمُسِ فَبِحَقِّ التَّقْسِيمِ فِي الْآيَةِ. قَالَ الْإِمَامُ الْفَاضِلُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قَدْ بَيَّنَّا الرَّدَّ عَلَيْهِ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا ذَكَرَ نَفْسَهُ تَشْرِيفًا لِهَذَا الْمُكْتَسَبِ، وَأَمَّا رَسُولُهُ فَقَدْ قَالَ: «إنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ، وَاَللَّهُ الْمُعْطِي». وَقَالَ: «مَا لِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إلَّا الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ»

وَقَدْ أَعْطَى جَمِيعَهُ وَبَعْضَهُ، وَأَعْطَى مِنْهُ لِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَلَيْسُوا مِمَّنْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي التَّقْسِيمِ، وَرَدَّهُ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ بِأَعْيَانِهِمْ تَارَةً أُخْرَى؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ بَيَانُ مَصْرِفٍ وَمَحَلٍّ، لَا بَيَانُ اسْتِحْقَاقٍ وَمِلْكٍ؛ وَهَذَا مَا لَا جَوَابَ عَنْهُ لِمُنْصِفٍ. وَأَمَّا الصَّفِيُّ فَحَقٌّ فِي حَيَاتِهِ، وَقَدْ انْقَطَعَ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَّا عِنْدَ أَبِي ثَوْرٍ، فَإِنَّهُ رَآهُ بَاقِيًا لِلْإِمَامِ، فَجَعَلَهُ مَجْعَلَ سَهْمِ النَّبِيِّ، وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كَانُوا يَرَوْنَ لِلرَّئِيسِ فِي الْغَنِيمَةِ مَا قَالَ الشَّاعِرُ: لَك الْمِرْبَاعُ مِنْهَا وَالصَّفَايَا ... وَحُكْمُك وَالنَّشِيطَةُ وَالْفُضُولُ فَكَانَ يَأْخُذُ بِغَيْرِ شَرْعٍ وَلَا دِينٍ الرُّبُعَ مِنْ الْغَنِيمَةِ؛ وَيَصْطَفِي مِنْهَا، ثُمَّ يَتَحَكَّمُ بَعْدَ الصَّفِيِّ فِي أَيِّ شَيْءٍ أَرَادَ، وَكَانَ مَا شَذَّ مِنْهَا لَهُ، وَمَا فَضَلَ مِنْ خُرْثِيٍّ وَمَتَاعٍ؛ فَأَحْكَمَ اللَّهُ الدَّيْنَ بِقَوْلِهِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] وَأَبْقَى سَهْمَ الصَّفِيِّ لِرَسُولِهِ، وَأَسْقَطَ حُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا أَوْ أَوْسَعُ مِنْهُ عِلْمًا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: ادَّعَى الْمُقَصِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ خُمُسَ الْخُمُسِ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصْرِفُهُ: فِي كِفَايَةِ أَوْلَادِهِ وَنِسَائِهِ، وَيَدَّخِرُ مِنْ ذَلِكَ قُوتَ سَنَتِهِ، وَيَصْرِفُ الْبَاقِيَ إلَى الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ؛ وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ تَقَدَّمَ عَلَى أَنَّ الْخُمُسَ كُلَّهُ لِرَسُولِهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا لِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إلَّا الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ». الثَّانِي: مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيح عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ قَالَ: قَالَ: بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ عُمَرَ أَتَاهُ حَاجِبُهُ يَرْفَأُ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي عُثْمَانَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ

وَالزُّبَيْرِ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ يَسْتَأْذِنُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَذِنَ لَهُمْ، فَدَخَلُوا فَسَلَّمُوا وَجَلَسُوا، ثُمَّ جَلَسَ يَرْفَأُ يَسِيرًا، ثُمَّ قَالَ: هَلْ لَكَ فِي عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَذِنَ لَهُمَا فَدَخَلَا فَسَلَّمَا وَجَلَسَا، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا، وَهُمَا يَخْتَصِمَانِ فِيمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ. فَقَالَ الرَّهْطُ عُثْمَانُ وَأَصْحَابُهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اقْضِ بَيْنَهُمَا، وَأَرِحْ أَحَدَهُمَا مِنْ الْآخَرِ. فَقَالَ عُمَرُ: يَا تُيَّدُ، كَمْ أَنْشُدُكُمْ بِاَللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ؟» يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ نَفْسَهُ. قَالَ الرَّهْطُ: قَدْ قَالَ ذَلِكَ. فَأَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا بِاَللَّهِ تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالَا: نَعَمْ. قَالَ عُمَرُ: فَإِنِّي أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ: إنَّ اللَّهَ قَدْ خَصَّ رَسُولَهُ فِي هَذَا الْفَيْءِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ غَيْرَهُ، قَالَ: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [الحشر: 6]. فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَاَللَّهِ مَا اخْتَارَهَا دُونَكُمْ، وَلَا اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ، قَدْ أَعْطَاكُمُوهَا، وَبَثَّهَا فِيكُمْ حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ، ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ، فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ. فَهَذَا حَدِيثُ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ فِيهِ: إنَّ بَنِي النَّضِيرِ كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ يُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحِ: «تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْبَرَ وَفَدَكَ وَصَدَقَتُهُ بِالْمَدِينَةِ»؛ فَأَمَّا صَدَقَتُهُ بِالْمَدِينَةِ فَدَفَعَهَا عُمَرُ إلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ. وَأَمَّا خَيْبَرُ وَفَدَكُ فَأَمْسَكَهُمَا عُمَرُ، وَقَالَ: هُمَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ لِحُقُوقِهِ الَّتِي تَعْرُوهُ وَنَوَائِبِهِ، وَأَمْرُهَا إلَى مَنْ وَلِيَ الْأَمْرَ بَعْدَهُ. فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ خَيْبَرَ وَفَدَكَ وَبَنِي النَّضِيرِ كَانَتْ لِقُوتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ

مسألة معنى قوله تعالى لذي القربى

سَنَةً، وَلِحُقُوقِهِ وَنَوَائِبِهِ الَّتِي تَعْرُوهُ، لَا خُمُسَ الْخُمُسِ الَّذِي ادَّعَاهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ. وَهَذَا نَصٌّ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ وَلَا كَلَامَ لِأَحَدٍ فِيهِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى لِذِي الْقُرْبَى] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41]؛ فَنَظَرَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهَا قُرْبَى مِنْ قُرَيْشٍ، لِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأُخْرَى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إلَّا أَنْ تَصِلُوا قَرَابَةَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ». وَلَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]. وَرَهْطَك مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاجْتَمَعُوا فَعَمَّ وَخَصَّ. وَقَالَ: «يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ؛ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ؛ يَا بَنِي مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ؛ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ؛ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ؛ يَا بَنِي هَاشِمٍ؛ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؛ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ، يَا فَاطِمَةُ؛ أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنْ النَّارِ؛ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا». فَهَذِهِ قَرَابَاتُهُ الَّتِي دَعَا عَلَى الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ حِينَ دُعِيَ إلَى أَنْ يَدْعُوَهُمْ، لَكِنْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَعْطَيْتَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وَتَرَكَتْنَا، وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ؛ فَقَالَ: «إنَّ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَمْ يُفَارِقُونَا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ». أَمَّا قَوْلُهُ: " وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ ". فَلِأَنَّ هَاشِمًا وَالْمُطَّلِبَ وَعَبْدَ شَمْسٍ بَنُو عَبْد مُنَافٍ.

مسألة الأربعة الأخماس من الغيمة ملك للغانمين

وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَمْ يُفَارِقُونَا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ» إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْأُلْفَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فِي الشِّعَبِ، وَخَرَجَتْ عَنْهُمْ بَنُو عَبْدِ شَمْسٍ إلَى الْمُبَايَنَةِ، فَاتَّصَلَتْ الْقَرَابَةُ الْجَاهِلِيَّةُ بِالْمَوَدَّةِ، فَانْتَظَمَا. وَهَذَا يُعَضِّدُ أَنَّ بَيَانَ اللَّهِ لِلْأَصْنَافِ بَيَانٌ لِلْمَصْرِفِ وَلَيْسَ بَيَانًا لِلْمُسْتَحِقِّ. [مَسْأَلَة الْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ مِنْ الْغَيْمَة مِلْكٌ لِلْغَانِمَيْنِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ فَهِيَ مِلْكٌ لِلْغَانِمَيْنِ: مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ الْأَمَةِ، بَيْدَ أَنَّ الْإِمَامَ إنْ رَأَى أَنْ يَمُنَّ عَلَى الْأَسْرَى بِالْإِطْلَاقِ فَعَلَ وَتَبْطُلُ حُقُوقُ الْغَانِمِينَ فِيهِمْ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ كَانَ الْمُطْعَمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا وَكَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ الثَّنِيِّ لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ»، وَلَهُ أَنْ يُنَفِّلَ جَمِيعَهُمْ، وَيُبْطِلَ حَقَّ الْغَانِمِينَ بِالْقِتَالِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ؛ وَذَلِكَ بِحُكْمِ مَا يَرَى أَنَّهُ نَظَرٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَصْلَحُ لَهُمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [مَسْأَلَة الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ فِي الْغَنِيمَة] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: أَطْلَقَ اللَّهُ الْقَوْلَ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ لِلْغَانِمَيْنِ تَضْمِينًا، وَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَفَاضَلَ بَيْنَ الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ. الثَّانِي: لِلْفَرَسِ سَهْمَانِ، وَلِلْفَارِسِ سَهْمٌ الثَّالِثُ: يَجْتَهِدُ فِي ذَلِكَ الْإِمَامُ، فَيُنَفِّذُ مَا رَأَى مِنْهُ. وَقَدْ رُوِيَتْ الرِّوَايَتَانِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثَيْنِ. وَالصَّحِيحُ أَنْ يُعْطَى الْفَارِسُ سَهْمَيْنِ، وَيُعْطَى لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَاحِدٌ، وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ الْعَنَاءِ، وَعِظَمِ الْمَنْفَعَةِ؛ فَجَعَلَ اللَّهُ التَّقْدِيرَ فِي الْغَنِيمَةِ بِقَدْرِ الْعَنَاءِ فِي أَخْذِهَا حِكْمَةً مِنْهُ سُبْحَانَهُ فِيهَا. [مَسْأَلَة وَلَا يُفَاضِلُ بَيْنَ الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ بِأَكْثَرَ مِنْ فَرَسٍ وَاحِدٍ فِي الْغَنِيمَة] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: وَلَا يُفَاضِلُ بَيْنَ الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ بِأَكْثَرَ مِنْ فَرَسٍ وَاحِدٍ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.

مسألة أحوال المقاتلين وأهل المعاش من المسلمين

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُسْهِمُ لِأَكْثَرَ مِنْ فَرَسٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ غَنَاءً، وَأَعْظَمُ مَنْفَعَةً، وَهَذَا فَاسِدٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرِّوَايَةَ لَمْ تَرِدْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ يُسْهِمَ لِأَكْثَرَ مِنْ فَرَسٍ وَاحِدٍ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُفَاضَلَةَ فِي أَصْلِ الْغَنَاءِ وَالْمَنْفَعَةِ قَدْ رُوعِيَتْ؛ فَأَمَّا زِيَادَتُهَا فَزِيَادَةُ تَفَاصِيلِهَا، فَلَيْسَ لَهَا أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ يُرْجَعُ إلَيْهِ، وَلَا يَنْضَبِطُ ذَلِكَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى فَرَسٍ وَاحِدٍ، فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ لَا تُؤَثِّرُ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ تَأْثِيرُهَا فِي الْمَآلِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ؛ فَلَا حَظَّ فِي الِاعْتِبَارِ لِذَلِكَ. [مَسْأَلَة أَحْوَالَ الْمُقَاتِلِينَ وَأَهْلِ الْمَعَاشِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: لَا حَقَّ فِي الْغَنَائِمِ لِلْحَشْوَةِ كَالْأُجَرَاءِ وَالصُّنَّاعِ الَّذِينَ يَصْحَبُونَ الْجُيُوشَ لِلْمَعَاشِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا قِتَالًا، وَلَا خَرَجُوا مُجَاهِدِينَ. وَقِيلَ: يُسْهَمُ لَهُمْ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَاقِعَةَ». وَهَذَا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا جَاءَ لِبَيَانِ خُرُوجِ مَنْ لَمْ يَحْضُرْ الْقِتَالَ عَنْ الِاسْتِهَامِ، وَأَنَّهَا لِمَنْ بَاشَرَهُ وَخَرَجَ إلَيْهِ. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَحْوَالَ الْمُقَاتِلِينَ وَأَهْلِ الْمَعَاشِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَجَعَلَهُمْ فِرْقَتَيْنِ مُتَمَيِّزَتَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ حَالُهَا وَحُكْمُهَا، فَقَالَ: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل: 20]. إلَّا أَنَّ هَؤُلَاءِ إذَا قَاتَلُوا لَمْ يَضُرَّهُمْ كَوْنُهُمْ عَلَى مَعَاشِهِمْ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ قَدْ وُجِدَ مِنْهُمْ. وَتَفْصِيلُ الْمَذْهَبِ: أَنَّ مَنْ قَاتَلَ أُسْهِمَ لَهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَجِيرًا لِلْخِدْمَةِ؛ فَقَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ: لَا سَهْمَ لَهُ حِينَئِذٍ، وَإِنْ قَاتَلَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. [مَسْأَلَة الْعَبْدُ لَا سَهْمَ لَهُ مِنْ الْغَنِيمَة] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: الْعَبْدُ لَا سَهْمَ لَهُ: لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ خُوطِبَ بِالْقِتَالِ، لِاسْتِغْرَاقِ بَدَنِهِ بِحُقُوقِ السَّيِّدِ.

مسألة المرأة لا سهم لها في الغنيمة وإن قاتلت

فَأَمَّا الصَّبِيُّ فَلَا سَهْمَ لَهُ: أَيْضًا إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَاهِقًا لِلْبُلُوغِ مُطِيقًا لِلْقِتَالِ فَيُسْهَمُ لَهُ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُسْهَمُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ التَّكْلِيفِ، فَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ، فَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «عُرِضْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِي، وَعُرِضْت عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي». فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ: إنَّمَا ذَلِكَ حَدُّ الْبُلُوغِ. وَقَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ حَبِيبٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَظَرَ فِي ذَلِكَ إلَى إطَاقَتِهِ لِلْقِتَالِ، فَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَا أَثَرَ لَهُ فِيهِ، وَقَدْ أَمَرَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ أَنْ يُقْتَلَ مِنْهُمْ مِنْ أَنْبَتَ، وَيُخَلَّى مَنْ لَمْ يُنْبِتْ؛ وَهَذِهِ مُرَاعَاةٌ لِإِطَاقَةِ الْقِتَالِ أَيْضًا لَا لِلْبُلُوغِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [مَسْأَلَة الْمَرْأَةُ لَا سَهْمَ لَهَا فِي الْغَنِيمَة وَإِنْ قَاتَلَتْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] هَذَا خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ لَا مَدْخَلَ فِيهِ لِلْكُفَّارِ وَلَا لِلنِّسَاءِ، وَإِنَّمَا خُوطِبَ بِهِ مَنْ قَاتَلَ الْكُفَّارَ وَهُمْ الْمُسْلِمُونَ، وَخُوطِبَ بِهِ مَنْ يُقَاتِلُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ دُونَ مَنْ لَا يُقَاتِلُ. فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا سَهْمَ لَهَا فِيهِ، وَإِنْ قَاتَلَتْ إلَّا عِنْدَ ابْنِ حَبِيبٍ؛ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «إنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يُحْذَيْنَ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَلَا يُسْهَمُ لَهُنَّ»؛ فَإِنَّ الْقِتَالَ لَمْ يُفْرَضْ عَلَيْهِنَّ، وَالسَّهْمُ لَمْ يُقْضَ بِهِ لَهُنَّ. وَأَمَّا الْعَبِيدُ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فَإِذَا خَرَجُوا لُصُوصًا، وَأَخَذُوا مَالَ أَهْلِ الْحَرْبِ فَهُوَ لَهُمْ، وَلَا يُخَمَّسُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْخِطَابِ أَحَدٌ مِنْهُمْ. وَقَالَ سَحْنُونٌ: لَا يُخَمَّسُ مَا يَنُوبُ الْعَبْدَ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُخَمَّسُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ

مسألة الغنيمة لمن حضر القتال

يَأْذَنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي الْقِتَالِ، وَيُقَاتِلَ عَنْ الدِّينِ بِخِلَافِ الْكَافِرِ. فَأَمَّا إذَا كَانُوا فِي جُمْلَةِ الْجَيْشِ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يُسْهَمَ لِعَبْدٍ وَلَا لِلْكَافِرِ يَكُونُ فِي الْجَيْشِ؛ قَالَهُ مَالِكٌ، وَابْنُ الْقَاسِمِ. زَادَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي: وَلَا نَصِيبَ لَهُمْ. الثَّالِثُ: قَالَ سَحْنُونٌ: إنْ قَدَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْغَنِيمَةِ دُونَهُمْ لَمْ يُسْهَمْ لَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْغَنِيمَةِ إلَّا بِأَهْلِ الذِّمَّةِ أُسْهِمَ لَهُمْ، وَكَذَلِكَ الْعَبِيدُ مَعَ الْأَحْرَارِ. الرَّابِعُ: قَالَ أَشْهَبُ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: إذَا خَرَجَ الْعَبْدُ وَالذِّمِّيُّ مِنْ الْجَيْشِ وَغَنِمَ فَالْغَنِيمَةُ لِلْجَيْشِ دُونَهُمْ. [مَسْأَلَة الْغَنِيمَة لِمِنْ حضر القتال] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْغَنِيمَةَ لِمَنْ حَضَرَ، فَأَمَّا مَنْ غَابَ فَلَا شَيْءَ لَهُ. وَالْمَغِيبُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إمَّا بِمَرَضٍ، أَوْ بِضَلَالٍ، أَوْ بِأَسْرٍ. فَأَمَّا الْمَرِيضُ فَلَا شَيْءَ لَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ رَأْيٌ، وَقَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ عُلَمَائِنَا: إنْ مَرِضَ بَعْدَ الْقِتَالِ أُسْهِمَ لَهُ، وَإِنْ مَرِضَ بَعْدَ الْإِرَادَةِ وَقَبْلَ الْقِتَالِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: وَالْأَصَحُّ وُجُوبُ ذَلِكَ لَهُ. وَاخْتُلِفَ فِي الضَّالِّ عَلَى قَوْلَيْنِ؛ وَقَالَ أَشْهَبُ: يُسْهَمُ لِلْأَسِيرِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَدِيدِ. وَالصَّحِيحُ أَنْ لَا سَهْمَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ يُسْتَحَقُّ بِالْقِتَالِ، فَمَنْ غَابَ خَابَ، وَمَنْ حَضَرَ مَرِيضًا كَمَنْ لَمْ يَحْضُرْ. وَأَمَّا الْغَائِبُ الْمُطْلَقُ فَلَمْ يُسْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطُّ لِغَائِبٍ إلَّا يَوْمَ خَيْبَرَ؛ قَسَمَ لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ مَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ وَمَنْ غَابَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} [الفتح: 20]، وَقَسَمَ يَوْمَ بَدْرٍ لِعُثْمَانَ لِبَقَائِهِ عَلَى ابْنَتِهِ، وَقَسَمَ لِسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ وَطَلْحَةَ وَكَانَا غَائِبَيْنِ. فَأَمَّا أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ فَكَانَ مِيعَادًا مِنْ اللَّهِ اخْتَصَّ بِأُولَئِكَ النَّفَرِ، فَلَا يُشَارِكُهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ. وَأَمَّا عُثْمَانُ وَسَعِيدٌ وَطَلْحَةُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَسْهَمَ لَهُمْ مِنْ الْخُمُسِ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّهُ مَنْ بَقِيَ لِعُذْرٍ فَلَا شَيْءَ لَهُ، بَيْدَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْمَوَّازِ قَالَ: إذَا أَرْسَلَ

الآية الثالثة عشرة قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا

الْإِمَامُ أَحَدًا فِي مَصْلَحَةِ الْجَيْشِ فَإِنَّهُ يُشْرِكُ مَنْ غَنِمَ بِسَهْمِهِ؛ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ. وَقِيلَ عَنْهُ أَيْضًا: لَا شَيْءَ لَهُ، وَهَذَا أَحْسَنُ؛ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَرْضَخُ لَهُ، وَلَا يُعْطَى مِنْ الْغَنِيمَةِ لِعَدَمِ السَّبَبِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ عِنْدَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. هَذَا لَبَابُ مَا فِي الْكِتَابِ الْكَبِيرِ، فَمَنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَلْيَنْظُرْهُ هُنَالِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ عَشْرَة قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا] لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45] {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: 45] ظَاهِرٌ فِي اللِّقَاءِ، ظَاهِرٌ فِي الْأَمْرِ بِالثَّبَاتِ، مُجْمَلٌ فِي الْفِئَتَيْنِ الَّتِي تُلْقَى مِنَّا وَاَلَّتِي تَكُونُ مِنْ مُخَالِفِينَا، بَيَّنَ هَذَا الْإِجْمَالَ الَّتِي بَعْدَهَا فِي تَعْدِيدِ الْمُقَاتِلِينَ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ هَاهُنَا بِالثَّبَاتِ عِنْدَ قِتَالِهِمْ، كَمَا نَهَى فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا عَنْ الْفِرَارِ عَنْهُمْ؛ فَالْتَقَى الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ عَلَى شَفَا مِنْ الْحُكْمِ بِالْوُقُوفِ لِلْعَدُوِّ وَالتَّجَلُّدِ لَهُ. وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلْبَرَاءِ: أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا أَبَا عُمَارَةَ؟ قَالَ: لَا، وَاَللَّهِ مَا وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ وَلَكِنْ وَلَّى سَرَعَانٌ مِنْ النَّاسِ، فَلَقِيَتْهُمْ هَوَازِنُ بِالنَّبْلِ، وَرَسُولُ اللَّهِ عَلَى بَغْلَتِهِ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ آخِذٌ بِلِجَامِهَا، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ. أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ».

مسألة قوله واذكروا الله فيه ثلاث احتمالات

قَالَ ابْنُ عُمَرَ: «لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَإِنَّ الْفِئَتَيْنِ لَمُوَلِّيَتَانِ، وَمَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِائَةُ رَجُلٍ». وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ صَحِيحٌ. [مَسْأَلَة قَوْلُهُ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ ثَلَاثُ احْتِمَالَاتٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ} [الأنفال: 45] فِيهِ ثَلَاثُ احْتِمَالَاتٍ: الْأَوَّلُ: اُذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ جَزَعِ قُلُوبِكُمْ؛ فَإِنَّ ذِكْرَهُ يُثَبِّتُ. الثَّانِي: اُثْبُتُوا بِقُلُوبِكُمْ وَاذْكُرُوهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ؛ فَإِنَّ الْقَلْبَ قَدْ يَسْكُنُ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَيَضْطَرِبُ اللِّسَانُ؛ فَأَمَرَ بِذِكْرِ اللَّهِ حَتَّى يَثْبُتَ الْقَلْبُ عَلَى الْيَقِينِ، وَيَثْبُتَ اللِّسَانُ عَلَى الذِّكْرِ. الثَّالِثُ: اُذْكُرُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنْ وَعْدِ اللَّهِ [لَكُمْ] فِي ابْتِيَاعِهِ أَنْفُسَكُمْ مِنْكُمْ وَمُثَامَنَتِهِ لَكُمْ. وَكُلُّهَا مُرَادٌ، وَأَقْوَاهَا وَأَوْسَطُهَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ عَنْ قُوَّةِ الْمَعْرِفَةِ، وَنَفَاذِ الْقَرِيحَةِ، وَاتِّقَادِ الْبَصِيرَةِ، وَهِيَ الشُّجَاعَةُ الْمَحْمُودَةُ فِي النَّاسِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا أَحَدٌ أَقْوَى مِنْ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ كَانَ أَشْجَعَ الْخَلِيقَةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمْضَاهُمْ عَزِيمَةً، وَأَنْفَذَهُمْ قَرِيحَةً، وَأَنْوَرَهُمْ بَصِيرَةً، وَأَصْدَقَهُمْ فِرَاسَةً، وَأَصَحَّهُمْ رَأْيًا، وَأَثْبَتَهُمْ [جَأْشًا]، وَأَصْفَاهُمْ إيمَانًا، وَأَشْرَحَهُمْ صَدْرًا، وَأَسْلَمَهُمْ قَلْبًا.

وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ ظُهُورُ ذَلِكَ الْمَقَامِ فِي مَقَامَاتٍ سِتَّةٍ: الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاتَ، وَلَمْ تَكُنْ مُصِيبَةٌ أَعْظَمُ مِنْهَا، وَلَا تَكُونُ أَبَدًا عَنْهَا تَفَرَّعَتْ مَصَائِبُنَا، وَمِنْ أَجْلِهَا فَسَدَتْ أَحْوَالُنَا، فَاخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ؛ فَأَمَّا عَلِيٌّ فَاسْتَخْفَى. وَأَمَّا عُثْمَانُ فَبُهِتَ. وَأَمَّا عُمَرُ فَاخْتَلَطَ، وَقَالَ: " مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا وَاعَدَهُ اللَّهُ كَمَا وَاعَدَ مُوسَى، وَلَيَرْجِعَنَّ رَسُولُ اللَّهِ فَلَيُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَ أُنَاسٍ وَأَرْجُلَهُمْ " وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ غَائِبًا بِمَنْزِلِهِ بِالسُّنْحِ، فَجَاءَ فَدَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، وَهُوَ مَيِّتٌ مُسَجًّى بِثَوْبِهِ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، وَقَالَ: " بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا، أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْك فَقَدْ مُتَّهَا ". وَخَرَجَ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ؛ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ " ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]. الْمَقَامُ الثَّانِي: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاخْتَلَفَ النَّاسُ أَيْنَ يُدْفَنُ؛ فَقَالَ الْقَوْمُ: يُدْفَنُ بِمَكَّةَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بِالْمَدِينَةِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَا دُفِنَ قَطُّ نَبِيٌّ إلَّا حَيْثُ يَمُوتُ». الْمَقَامُ الثَّالِثُ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْسَلَتْ فَاطِمَةُ إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ تَقُولُ لَهُ: لَوْ مِتَّ أَلَمْ تَكُنْ ابْنَتُك تَرِثُك؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ لَهُ: فَأَعْطِنِي مِيرَاثِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ». فَتَذَكَّرَ ذَلِكَ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ، وَعَلِمَهُ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَطَلْحَةَ وَسَعْدٌ وَسَعِيدٌ، وَأَقَرَّ بِهِ عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ.

الْمَقَامُ الرَّابِعُ: لَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ارْتَدَّ الْعَرَبُ، وَانْقَاضَ الْإِسْلَامُ، وَتَزَلْزَلَتْ الْأَفْئِدَةُ، وَمَاجَ النَّاسُ؛ فَارْتَاعَ الصَّحَابَةُ؛ فَقَالَ عُمَرُ وَغَيْرُهُ لِأَبِي بَكْرٍ: خُذْ مِنْهُمْ الصَّلَاةَ، وَدَعْ الزَّكَاةَ حَتَّى يَتَمَكَّنَ الدَّيْنُ، وَيَسْكُنَ جَأْشُ الْمُسْلِمِينَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: " وَاَللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ ". الْمَقَامُ الْخَامِسُ: قَالَتْ الصَّحَابَةُ لَهُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ؛ أَبْقِ جَيْشَ أُسَامَةَ؛ فَإِنَّ مَنْ حَوْلَك قَدْ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ، " وَاَللَّهِ لَوْ لَعِبْت الْكِلَابُ بِخَلَاخِيلِ نِسَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَا رَدَدْت جَيْشًا أَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ". فَقَالُوا لَهُ: فَمَعَ مَنْ تُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: وَحْدِي حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي. الْمَقَامُ السَّادِسُ: وَهُوَ ضَنْكُ الْحَالِ وَمَأْزِقُ الِاخْتِلَالِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا تُوُفِّيَ اضْطَرَبَ الْأَمْرُ، وَمَاجَ النَّاسُ، وَمَرَجَ قَوْلُهُمْ، وَتَشَوَّفُوا إلَى رَأْسٍ يَرْجِعُ إلَيْهِ تَدْبِيرُهُمْ، وَاجْتَمَعَتْ الْأَنْصَارُ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، وَلَهُمْ الْهِجْرَةُ، وَفِيهِمْ الدَّوْحَةُ، وَالْمُهَاجِرُونَ عَلَيْهِمْ نُزُلٌ، وَانْتَدَبَ الشَّيْطَانُ لِيَزِيغَ قُلُوبَ فَرِيقٍ مِنْهُمْ، فَسَوَّلَ لِلْأَنْصَارِ أَنْ يَعْقِدُوا لِرَجُلٍ مِنْهُمْ الْأَمْرَ؛ فَجَاءَ الْمُهَاجِرُونَ. فَاجْتُمِعُوا إلَى أَبِي بَكْرٍ، وَقَالُوا: نُرْسِلُ إلَيْهِمْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: " لَا، أَلَا نَأْتِيهِمْ فِي مَوْضِعِهِمْ "، فَنُوزِعَ فِي ذَلِكَ، فَصَرَمَ وَتَقَدَّمَ وَاتَّبَعَتْهُ الْمُهَاجِرُونَ حَتَّى جَاءَ الْأَنْصَارَ فِي مَكَانِهِمْ، وَتَقَاوَلُوا، فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ فِي كَلَامِهَا: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ، فَتَصَدَّرَ أَبُو بَكْرٍ بِحَقِّهِ، وَتَكَلَّمَ عَلَى مُقْتَضَى الدِّينِ وَوَفْقِهِ، وَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؛ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّا رَهْطُ رَسُولِ اللَّهِ وَعِتْرَتُهُ الْأَدْنَوْنَ، وَأَصْلُ الْعَرَبِ، وَقُطْبُ النَّاسِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ».

وَقَدْ سَمَّانَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الصَّادِقِينَ حِينَ قَالَ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8]. وَسَمَّاكُمْ الْمُفْلِحِينَ، فَقَالَ: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]. وَأَمَرَكُمْ اللَّهُ أَنْ تَكُونُوا مَعَنَا حَيْثُ كُنَّا، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]. وَقَالَ لَكُمْ النَّبِيُّ «سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ». وَقَالَ لَنَا فِي آخَرِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا: «أُوصِيكُمْ بِالْأَنْصَارِ خَيْرًا أَنْ تَقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَتَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ؛ وَلَوْ كَانَ لَكُمْ فِي الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا رَأَيْتُمْ أَثَرَةً، وَلَا وَصَّى بِكُمْ». فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ عِلْمِهِ، وَوَعَوْهُ مِنْ قَوْلِهِ تَذَّكَّرُوا الْحَقَّ؛ فَانْقَادُوا لَهُ، وَالْتَزَمُوا حُكْمَهُ؛ فَبَادَرَ عُمَرُ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ، وَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عُبَيْدَةَ؛ اُمْدُدْ يَدَك أُبَايِعْك. فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَا سَمِعْت مِنْك تَهَّةً فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَهَا، أَتُبَايِعُنِي وَأَبُو بَكْرٍ فِيكُمْ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: اُمْدُدْ يَدَك أُبَايِعْك يَا أَبَا بَكْرٍ. فَمَدَّ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ وَبَايَعَهُ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ، وَصَارَ الْحَقُّ فِي نِصَابِهِ، وَدَخَلَ الدِّينُ مِنْ بَابِهِ.

مسألة العمدة التي يكون معها النصر

وَلَوْ هُدُوا لِهَذِهِ الْفِرْقَةِ الْأَدَبِيَّةِ التَّارِيخِيَّةِ لَمَا كَانُوا عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ جَائِرِينَ وَبِحَقِيقَتِهِ جَاهِلِينَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ ابْتَلَاهُمْ بِقِرَاءَةِ كُتُبٍ مِنْ الْأَدَبِ وَالتَّارِيخِ قَدْ تَوَلَّاهَا جُهَّالٌ وَضُلَّالٌ، فَقَالُوا: فَعَلَ عَلِيٌّ. وَقَالَ عَلِيٌّ، وَلَا يَقَعُ عَلِيٌّ مِنْ أَبِي بَكْرٍ إلَّا نُقْطَةً مِنْ بَحْرٍ، أَوْ لُقَطَةً فِي قَفْرٍ، لَقَدْ اسْتَقَامَ الدِّينُ وَعَلِيٌّ عَنْهُ فِي حِجْرٍ، وَقَدْ كَانَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدَ رِجَالِهِ، وَفَارِسًا مِنْ فُرْسَانِهِ، وَوَلِيًّا مِنْ أَوْلِيَائِهِ، وَقَرِيبًا مِنْ أَقْرِبَائِهِ، فَلَمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِرَسُولِهِ، وَانْفَرَدَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَقُمْ بِالْأَمْرِ وَلَا قَعَدَ، وَذَلِكَ أَمْرٌ قَضَاهُ اللَّهُ بِالْحَقِّ، وَقَدَّرَهُ بِالصِّدْقِ، وَأَنْفَذَهُ بِالْحِكْمَةِ وَالْحُكْمِ، وَمَا وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ أَحَدًا ثَبَتَ عَلَى الدَّيْنِ، وَقَرَّرَ وُلَاتَهُ فِي الْأَقْطَارِ، وَأَنْفَذَ الْجُيُوشَ إلَى الْأَمْصَارِ، وَقَاتَلَ عَلَى الْحَقِّ، وَقُدِّمَ عَلَيْهِمْ غَيْرَ خَيْرِ الْخَلْقِ الصِّدِّيقُ؛ فَمَهَّدَ الدَّيْنَ، وَاسْتَتَبَّ بِهِ أَمْرُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. [مَسْأَلَة الْعُمْدَةُ الَّتِي يَكُونُ مَعَهَا النَّصْرُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 46] وَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ هِيَ الْعُمْدَةُ الَّتِي يَكُونُ مَعَهَا النَّصْرُ، وَيَظْهَرُ بِهَا الْحَقُّ، وَيُسْلِمُ مَعَهَا الْقَلْبُ، وَتَسْتَمِرُّ مَعَهَا عَلَى الِاسْتِقَامَةِ الْجَوَارِحُ؛ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ عَمَلُ الْمَرْءِ كُلُّهُ بِالطَّاعَةِ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ، فَإِنَّمَا يُقَاتِلُ الْمُسْلِمُونَ بِأَعْمَالِهِمْ لَا بِأَعْدَادِهِمْ، وَبِاعْتِقَادِهِمْ لَا بِأَمْدَادِهِمْ؛ فَلَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ الْفُتُوحَ عَلَى قَوْمٍ كَانَتْ حِلْيَةُ سُيُوفِهِمْ إلَّا الْغَلَّابِيّ. وَلِذَلِكَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا تُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ». إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الطَّاقَةَ فِي الطَّاعَةِ، وَالْمِنَّةَ فِي الْهِدَايَةِ. [مَسْأَلَة قَوْلُهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} [الأنفال: 46]: وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي الْمَعْقُولِ وَالْمَشْرُوعِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْقُوَّةَ لِيُظْهِرَ بِهَا الْأَفْعَالَ، وَقُدْرَتُهُ سُبْحَانَهُ وَاحِدَةٌ تَعُمُّ الْمَقْدُورَاتِ، وَقُدَرُ الْخَلْقِ حَادِثَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمَقْدُورَاتِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا [وَأَجْرَى اللَّهُ] الْعَادَةَ بِأَنَّ الْقُدْرَةَ إذَا كَثُرَتْ عَلَى رَأْيِ قَوْمٍ

الآية الرابعة عشرة قوله تعالى فإما تثقفنهم في الحرب

أَوْ بَقِيَتْ عَلَى رَأْيِ آخَرِينَ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْأُصُولِ ظَهَرَ الْمَقْدُورُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقُدْرَةِ إنْ كَانَ كَثِيرًا فَكَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا فَقَلِيلًا، وَكَذَلِكَ تَظْهَرُ الْمَفْعُولَاتُ بِحَسَبِ مَا يُلْقِي اللَّهُ فِي الْقُلُوبِ مِنْ الطُّمَأْنِينَةِ، فَإِذَا ائْتَلَفَتْ الْقُلُوبُ عَلَى الْأَمْرِ اسْتَتَبَّ وُجُودُهُ، وَاسْتَمَرَّ مَرِيرُهُ، وَإِذَا تَخَلْخَلَ الْقَلْبُ قَصُرَ عَنْ النَّظَرِ، وَضَعُفَتْ الْحَوَاسُّ عَنْ الْقَبُولِ، وَالِائْتِلَافُ طُمَأْنِينَةٌ لِلنَّفْسِ، وَقُوَّةٌ لِلْقَلْبِ، وَالِاخْتِلَافُ إضْعَافٌ لَهُ؛ فَتُضَعَّفُ الْحَوَاسُّ، فَتَقْعُدُ عَنْ الْمَطْلُوبِ، فَيَفُوتُ الْغَرَضُ؛ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]، وَكَنَّى بِالرِّيحِ عَنْ اطِّرَادِ الْأَمْرِ وَمُضَائِهِ بِحُكْمِ اسْتِمْرَارِ الْقُوَّةِ فِيهِ وَالْعَزِيمَةِ عَلَيْهِ، وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِالصَّبْرِ الَّذِي يَبْلُغُ الْعَبْدُ بِهِ إلَى كُلِّ أَمْرٍ مُتَعَذِّرٍ بِوَعْدِهِ الصَّادِقِ فِي أَنَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ. . [الْآيَة الرَّابِعَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ] الْآيَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأنفال: 57]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ} [الأنفال: 57]: يَعْنِي تُصَادِفُهُمْ وَتَلْقَاهُمْ، يُقَالُ: ثَقِفْته أَثْقَفُهُ ثَقَفًا إذَا وَجَدْته، وَفُلَانٌ ثَقِفٌ لَقِفٌ أَيْ سَرِيعُ الْوُجُودِ لِمَا يُحَاوَلُ مِنْ الْقَوْلِ. وَامْرَأَةٌ ثَقَافٌ. هَكَذَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَهُوَ عِنْدِي بِمَعْنَى الْحَبْسِ، وَمِنْهُ رَجُلٌ ثَقِفٌ أَيْ يُقَيِّدُ الْأُمُورَ بِمَعْرِفَتِهِ. [مَسْأَلَة الْمُرَاد مِنْ قَوْله تَعَالَى فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57]: أَيْ افْعَلْ بِهِمْ فِعْلًا مِنْ الْعُقُوبَةِ يَتَفَرَّقُ بِهِمْ مَنْ وَرَاءَهُمْ، وَمِنْهُ شَرَدَ الْبَعِيرُ وَالدَّابَّةُ إذَا فَارَقَ صَاحِبَهُ وَمَأْلَفَهُ وَمَرْعَاهُ، وَهَذَا أَحَدُ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ الَّتِي لِلْإِمَامِ فِي الْأَسْرَى: مِنْ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ وَالِاسْتِرْقَاقِ وَالْجِزْيَةِ وَالْقَتْلِ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَيَأْتِي هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهَذَا يُعْتَضَدُ بِالْآيَةِ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67] عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الآية الخامسة عشرة قوله تعالى وإما تخافن من قوم خيانة

[الْآيَة الْخَامِسَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً] الْآيَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: نَزَلَتْ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ حِينَ أَبْدَتْ مِنْ التَّحَزُّبِ مَعَ قُرَيْشٍ وَنَقْضِ الْعَهْدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [مَسْأَلَة كَيْفَ يَجُوزُ نَقْضُ الْعَهْدِ مَعَ خَوْفِ الْخِيَانَةِ وَالْخَوْفُ ظَنٌّ لَا يَقِينَ مَعَهُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ نَقْضُ الْعَهْدِ مَعَ خَوْفِ الْخِيَانَةِ، وَالْخَوْفُ ظَنٌّ لَا يَقِينَ مَعَهُ، فَكَيْفَ يَسْقُطُ يَقِينُ الْعَهْدِ بِظَنِّ الْخِيَانَةِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخَوْفَ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْيَقِينِ، كَمَا يَأْتِي الرَّجَاءُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ؛ كَقَوْلِهِ: {لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13]. الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا ظَهَرَتْ آثَارُ الْخِيَانَةِ، وَثَبَتَتْ دَلَائِلُهَا وَجَبَ نَبْذُ الْعَهْدِ، لِئَلَّا يُوقِعَ التَّمَادِي عَلَيْهِ فِي الْهَلَكَةِ، وَجَازَ إسْقَاطُ الْيَقِينِ هَاهُنَا بِالظَّنِّ لِلضَّرُورَةِ، وَإِذَا كَانَ الْعَهْدُ قَدْ وَقَعَ فَهَذَا الشَّرْطُ عَادَةٌ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ لَفْظًا؛ إذْ لَا يُمْكِنُ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] أَيْ عَلَى مَهْلٍ؛ قَالَهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ. وَقِيلَ: عَلَى عَدْلٍ، مَعْنَاهُ بِالتَّقَدُّمِ إلَيْهِمْ وَالْإِنْذَارِ لَهُمْ، وَهَكَذَا يَجِبُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ الْيَوْمَ فِي كِلَا وَجْهَيْ الْعَقْدِ أَوَّلًا، وَالنَّبْذُ عَلَى السَّوَاءِ ثَانِيًا. [الْآيَة السَّادِسَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ] ٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60].

فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِإِعْدَادِ الْقُوَّةِ لِلْأَعْدَاءِ بَعْدَ أَنْ أَكَّدَ فِي تَقَدُّمَةِ التَّقْوَى؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لَهَزَمَهُمْ بِالْكَلَامِ، وَالتَّفْلِ فِي الْوُجُوهِ، وَحَفْنَةٍ مِنْ تُرَابٍ، كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُبْلِيَ بَعْضَ النَّاسِ بِبَعْضٍ، بِعِلْمِهِ السَّابِقِ وَقَضَائِهِ النَّافِذِ؛ فَأَمَرَ بِإِعْدَادِ الْقُوَى وَالْآلَةِ فِي فُنُونِ الْحَرْبِ الَّتِي تَكُونُ لَنَا عُدَّةً، وَعَلَيْهِمْ قُوَّةً، وَوَعَدَ عَلَى الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى بِأَمْدَادِ الْمَلَائِكَةِ الْعُلْيَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ: عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ؛ قَالَ: «قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمِنْبَرِ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60]؛ فَقَالَ: أَلَا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ» ثَلَاثًا. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، قَالَ: «مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ بِالسِّهَامِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ارْمُوا بَنِي إسْمَاعِيلَ، فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا، وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلَانٍ. قَالَ: فَأَمْسَكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: مَا لَكُمْ لَا تَرْمُونَ؟ قَالُوا: وَكَيْفَ نَرْمِي، وَأَنْتَ مَعَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: ارْمُوا وَأَنَا مَعَكُمْ كُلُّكُمْ». زَادَ الْحَاكِمُ فِي رِوَايَةٍ: «فَلَقَدْ رَمَوْا عَامَّةَ يَوْمِهِمْ ذَلِكَ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا عَلَى السَّوَاءِ مَا نَضَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا».

مسألة حبس النفس في سبيل الله حراسة للثغور أو ملازمة للأعداء

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ «عَلِيٍّ قَالَ: مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ يَفْدِي رَجُلًا بَعْدَ سَعْدٍ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: ارْمِ فِدَاك أَبِي وَأُمِّي». وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ الْجَنَّةَ: صَانِعُهُ يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ، وَالرَّامِي بِهِ، وَمُنْبِلُهُ». وَفِي رِوَايَةٍ: «وَالْمُمِدُّ بِهِ، فَارْمُوا وَارْكَبُوا، وَلَأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا، لَيْسَ مِنْ اللَّهْوِ ثَلَاثٌ: تَأْدِيبُ الرَّجُلِ فَرَسَهُ، وَمُلَاعَبَتُهُ أَهْلَهُ، وَرَمْيُهُ بِقَوْسِهِ وَنَبْلِهِ. وَمَنْ تَرَكَ الرَّمْيَ بَعْدَمَا عَلِمَهُ رَغْبَةً عَنْهُ فَإِنَّهَا نِعْمَةٌ كَفَرَهَا». وَقَدْ شَاهَدْت الْقِتَالَ مِرَارًا فَلَمْ أَرَ فِي الْآلَةِ أَنْجَعَ مِنْ السَّهْمِ، وَلَا أَسْرَعَ مَنْفَعَةً مِنْهُ. [مَسْأَلَة حَبْسُ النَّفْسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حِرَاسَةً لِلثُّغُورِ أَوْ مُلَازَمَةً لِلْأَعْدَاءِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] الرِّبَاطُ: هُوَ حَبْسُ النَّفْسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حِرَاسَةً لِلثُّغُورِ أَوْ مُلَازَمَةً لِلْأَعْدَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ شَيْءٍ مِنْهُ فِي سُورَةِ آلَ عِمْرَانَ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

مسألة رباط الخيل في سبيل الله

خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَمَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا». وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إلَّا الَّذِي يَمُوتُ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يُنَمَّى لَهُ عَمَلُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَأْمَنُ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ». [مَسْأَلَة رِبَاطُ الْخَيْلِ فِي سَبِيل اللَّه] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَأَمَّا رِبَاطُ الْخَيْلِ: فَهُوَ فَضْلٌ عَظِيمٌ وَمَنْزِلَةٌ شَرِيفَةٌ. وَرَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ. فَأَمَّا الَّذِي هِيَ عَلَيْهِ وِزْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا رِيَاءً وَفَخْرًا وَنِوَاءً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَهِيَ عَلَيْهِ وِزْرٌ، وَأَمَّا الَّذِي هِيَ عَلَيْهِ سِتْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا، وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي ظُهُورِهَا فَهِيَ عَلَيْهِ سِتْرٌ، وَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ فَمَا أَكَلَتْ مِنْ ذَلِكَ الْمَرْجِ أَوْ الرَّوْضَةِ مِنْ شَيْءٍ إلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَدَدَ مَا أَكَلَتْ حَسَنَاتٍ، وَكَتَبَ لَهُ أَرْوَاثَهَا وَأَبْوَالَهَا حَسَنَاتٍ، وَلَا يَقْطَعُ طِوَالَهَا فَتَسْتَنُّ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ إلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ، وَلَا مَرَّ بِهَا صَاحِبُهَا عَلَى نَهْرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَسْقِيَهَا إلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَدَدَ مَا شَرِبَتْ حَسَنَاتٍ».

مسألة يستحب من الخيل

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ «جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْوِي نَاصِيَةَ فَرَسٍ بِأُصْبُعَيْهِ؛ وَهُوَ يَقُولُ: الْخَيْرُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِي الْخَيْلِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ». وَثَبَتَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: «لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ النِّسَاءِ مِنْ الْخَيْلِ». خَرَّجَهُ النَّسَائِيّ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْمُسْتَحَبُّ مِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ الْإِنَاثُ قَبْلَ الذُّكُورِ: قَالَ عِكْرِمَةُ وَجَمَاعَةٌ، وَهَذَا صَحِيحٌ، فَإِنَّ الْأُنْثَى بَطْنُهَا كَنْزٌ، وَظَهْرُهَا عِزٌّ. وَفَرَسُ جِبْرِيلَ أُنْثَى [مَسْأَلَة يُسْتَحَبُّ مِنْ الْخَيْلِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: يُسْتَحَبُّ مِنْ الْخَيْلِ مَا رَوَى أَبُو وَهْبٍ الْجُشَمِيُّ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَلَيْكُمْ بِكُلِّ كُمَيْتٍ أَغَرَّ مُحَجَّلٍ، أَوْ أَدْهَمَ أَغَرَّ مُحَجَّلٍ، أَوْ أَشْقَرَ أَغَرَّ مُحَجَّلٍ».

مسألة معنى قوله تعالى ترهبون به عدو الله وعدوكم

خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَالَ: «خَيْرُ الْخَيْلِ الْأَدْهَمُ الْأَقْرَحُ الْمُحَجَّلُ الْأَرْثَمُ، ثُمَّ الْأَقْرَحُ الْمُحَجَّلُ طَلْقُ الْيَمِينِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَدْهَمُ فَكُمَيْتٌ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ». الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: رَوَى مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ أَنَّهُ يَكْرَهُ الشِّكَالَ مِنْ الْخَيْلِ. وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّمَا الشُّؤْمُ فِي الْمَرْأَةِ، وَالْفَرَسِ، وَالدَّارِ». وَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَ ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] يَعْنِي تُخِيفُونَ بِذَلِكَ أَعْدَاءَ اللَّهِ وَأَعْدَاءَكُمْ مِنْ الْيَهُودِ وَقُرَيْشٍ، وَكُفَّارِ الْعَرَبِ.

الآية السابعة عشرة قوله تعالى وإن جنحوا للسلم فاجنح لها

{وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ} [الأنفال: 60] يَعْنِي فَارِسَ وَالرُّومَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَمَّا فَارِسُ فَنَطْحَةٌ أَوْ نَطْحَتَانِ، ثُمَّ لَا فَارِسَ بَعْدَهَا. وَأَمَّا الرُّومُ ذَوَاتُ الْقُرُونِ فَكُلَّمَا هَلَكَ قَرْنٌ خَلَفَهُ آخَرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ». الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] عَامٌّ فِي الْخَيْلِ كُلِّهَا وَأَجْوَدِهَا أَعْظَمِهَا أَجْرًا. وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ اللَّهُ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] فَأَرَى الْبَرَاذِينَ مِنْ الْخَيْلِ إذَا أَجَازَهَا الْوَالِي، وَكَذَلِكَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ. [الْآيَة السَّابِعَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا] الْآيَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: السَّلْمُ: بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا وَإِسْكَانِ اللَّامِ، وَبِفَتْحِ السِّينِ وَاللَّامِ، وَبِزِيَادَةِ الْأَلْفِ أَيْضًا: هُوَ الصُّلْحُ، وَقَدْ يَكُونُ السَّلَامُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ مِنْ التَّسْلِيمِ وَقَدْ تَقَدَّمَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] وَنَحْوِهِ. الثَّانِي: إنْ دَعَوْك إلَى الصُّلْحِ فَأَجِبْهُمْ؛ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ وَالسُّدِّيُّ. الثَّالِثُ: إنْ جَنَحُوا إلَى الْإِسْلَامِ فَاجْنَحْ لَهَا؛ قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَعَنَى بِهِ قُرَيْظَةَ؛ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ تُقْبَلُ مِنْهُمْ، فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ شَيْءٌ.

مسألة هل عقد الصلح ليس بلازم للمسلمين

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] فَدَعْوَى، فَإِنَّ شُرُوطَ النُّسَخِ مَعْدُومَةٌ فِيهَا، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنْ دَعَوْكَ إلَى الصُّلْحِ فَأَجِبْهُمْ فَإِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ فِيهِ؛ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} [محمد: 35]. فَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عِزَّةٍ، وَفِي قُوَّةٍ وَمَنَعَةٍ، وَمَقَانِبَ عَدِيدَةٍ، وَعُدَّةٍ شَدِيدَةٍ: فَلَا صُلْحَ حَتَّى تُطْعَنَ الْخَيْلُ بِالْقَنَا، وَتُضْرَبَ بِالْبِيضِ الرِّقَاقِ الْجَمَاجِمُ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ مَصْلَحَةٌ فِي الصُّلْحِ لِانْتِفَاعٍ يُجْلَبُ بِهِ، أَوْ ضُرٍّ يَنْدَفِعُ بِسَبَبِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَبْتَدِئَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ إذَا احْتَاجُوا إلَيْهِ، وَأَنْ يُجِيبُوا إذَا دُعُوا إلَيْهِ وَقَدْ صَالَحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى شُرُوطٍ نَقَضُوهَا، فَنَقَضَ صُلْحَهُمْ، وَقَدْ وَادَعَ الضَّمْرِيُّ، وَقَدْ صَالَحَ أُكَيْدِرَ دَوْمَةَ، وَأَهْلَ نَجْرَانَ، وَقَدْ هَادَنَ قُرَيْشًا لِعَشَرَةِ أَعْوَامٍ حَتَّى نَقَضُوا عَهْدَهُ، وَمَا زَالَتْ الْخُلَفَاءُ وَالصَّحَابَةُ عَلَى هَذِهِ السَّبِيلِ الَّتِي شَرَعْنَاهَا سَالِكَةً، وَبِالْوُجُوهِ الَّتِي شَرَحْنَاهَا عَامِلَةً. [مَسْأَلَة هَلْ عَقْدُ الصُّلْحِ لَيْسَ بِلَازِمٍ لِلْمُسْلِمِينَ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: عَقْدُ الصُّلْحِ لَيْسَ بِلَازِمٍ لِلْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا هُوَ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِهِمْ أَجْمَعِينَ: إذْ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ لِلْإِمَامِ أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمْ، فَيَقُولَ: نَبَذْت إلَيْكُمْ عَهْدَكُمْ، فَخُذُوا مِنِّي حِذْرَكُمْ، وَهَذَا عِنْدِي إذَا كَانُوا هُمْ الَّذِينَ طَلَبُوهُ؛ فَإِنْ طَلَبَهُ الْمُسْلِمُونَ لِمُدَّةٍ لَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ قَبْلَهَا إلَّا بِاتِّفَاقٍ. [مَسْأَلَة هَلْ لِلْمُسْلِمِينَ عَقْدُ الصُّلْحِ بِمَالٍ يَبْذُلُونَهُ لِلْعَدُوِّ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: وَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَاجَةِ لِلْمُسْلِمِينَ عَقْدُ الصُّلْحِ بِمَالٍ يَبْذُلُونَهُ لِلْعَدُوِّ: وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مُوَادَعَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَغَيْرِهِ يَوْمَ الْأَحْزَابِ، عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ نِصْفَ تَمْرِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ السَّعْدَانِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنْ كَانَ هَذَا الْأَمْرُ

الآية الثامنة عشرة قوله تعالى يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال

مِنْ قِبَلِ اللَّهِ فَامْضِ لَهُ، وَإِنْ كَانَ أَمْرًا لَمْ تُؤْمَرْ بِهِ، وَلَك فِيهِ هَوًى فَسَمْعٌ وَطَاعَةٌ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الرَّأْيَ وَالْمَكِيدَةَ، فَأَعْلِمْنَا بِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا هُوَ الرَّأْيُ وَالْمَكِيدَةُ؛ لِأَنِّي رَأَيْت الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ بِقَوْسٍ وَاحِدَةٍ فَأَرَدْت أَنْ أَدْفَعَهَا عَنْكُمْ إلَى يَوْمٍ». فَقَالَ السَّعْدَانِ: إنَّا كُنَّا كُفَّارًا، وَمَا طَمِعُوا مِنْهَا بِتَمْرَةٍ إلَّا بِشِرَاءٍ أَوْ بِقِرًى، فَإِذَا أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِك فَلَا نُعْطِيهِمْ إلَّا السَّيْفَ؛ وَشَقَّا الصَّحِيفَةَ الَّتِي كَانَتْ كُتِبَتْ. [الْآيَة الثَّامِنَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ] الْآيَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65] {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66]. فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {حَرِّضِ} [الأنفال: 65] أَيْ أَكِّدْ الدُّعَاءَ، وَوَاظِبْ عَلَيْهِ، يُقَالُ: حَارَضَ عَلَى الْأَمْرِ، وَوَاظَبَ بِالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَوَاصَبَ بِالصَّادِ غَيْرِ الْمُعْجَمَةِ، وَوَاكَبَ بِالْكَافِ: إذَا أَكَّدَ فِيهِ وَلَازَمَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقِتَالُ: هُوَ الصَّدُّ عَنْ الشَّيْءِ بِمَا يُؤَدِّي إلَى الْقَتْلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} [الأنفال: 65]. قَالَ قَوْمٌ: كَانَ هَذَا يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ نُسِخَ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ قَائِلِهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَوْمَ بَدْرٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَنَيِّفًا، وَالْكُفَّارُ كَانُوا تِسْعَمِائَةٍ وَنَيِّفًا؛ فَكَانَ لِلْوَاحِدِ ثَلَاثَةٌ. وَأَمَّا هَذِهِ الْمُقَابَلَةُ، وَهِيَ الْوَاحِدُ بِالْعَشَرَةِ فَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ صَافُّوا الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهَا قَطُّ

مسألة معنى قوله تعالى الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا

وَلَكِنَّ الْبَارِيَ فَرَضَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّكُمْ تَفْقَهُونَ مَا تُقَاتِلُونَ عَلَيْهِ، وَهُوَ الثَّوَابُ. وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا يُقَاتِلُونَ عَلَيْهِ. ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ هَذَا ثُمَّ نُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ وَإِنْ كَانَتْ إلَى جَنْبِهَا. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الأنفال: 66]: أَمَّا التَّخْفِيفُ فَهُوَ حَطُّ الثِّقَلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الأنفال: 66] فَمَعْنَى تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِالْآنِ، وَإِنْ كَانَ الْبَارِي لَمْ يَزَلْ عَالِمًا لَيْسَ لِعِلْمِهِ أَوَّلُ، وَلَكِنَّ وَجْهَهُ: أَنَّ الْبَارِيَ يَعْلَمُ الشَّيْءَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، وَهُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ، وَهُوَ بِهِ عَالِمٌ، إذَا كَانَ بِذَلِكَ الْعِلْمِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ عَالِمُ الشَّهَادَةِ، وَبَعْدَ الشَّيْءِ، فَيَكُونُ بِهِ عَالِمًا بِذَلِكَ الْعِلْمِ بَعْدَ عَدَمِهِ، وَيَتَعَلَّقُ عِلْمُهُ الْوَاحِدَ الَّذِي لَا أَوَّلَ لَهُ بِالْمَعْلُومَاتِ عَلَى اخْتِلَافِهَا وَتَغَيُّرِ أَحْوَالِهَا، وَعِلْمُهُ لَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَتَغَيَّرُ. وَقَدْ ضَرَبْنَا لِذَلِكَ مِثَالًا يَسْتَرْوِحُ إلَيْهِ النَّاظِرُ؛ وَهُوَ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا يَعْلَمُ الْيَوْمَ أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ غَدًا، ثُمَّ يَرَاهَا طَالِعَةً، ثُمَّ يَرَاهَا غَارِبَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ عِلْمٌ مُجَدَّدٌ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ، وَلَوْ قَدَّرْنَا بَقَاءَ الْعِلْمِ الْأَوَّلِ لَكَانَ وَاحِدًا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَعِلْمُ الْبَارِي وَاجِبُ الْأَوَّلِيَّةِ، وَاجِبُ الْبَقَاءِ، يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ التَّغَيُّرُ؛ فَانْتَظَمَتْ الْمَسْأَلَةُ، وَتَمَكَّنَتْ بِهَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَعْرِفَةُ. [مَسْأَلَة الرَّجُلِ يَلْقَى عَشَرَةً فِي الْحَرْب] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فَلَمَّا خَفَّفَ عَنَّا أَوْجَبَ عَلَى الرَّجُلِ الثَّبَاتَ لِرَجُلَيْنِ، وَهَكَذَا مَا تَزَايَدَتْ النِّسْبَةُ الْوَاحِدَةُ بِاثْنَيْنِ، فَإِنَّهُ يَتَقَدَّمُ إلَيْهِمَا، وَيَتَقَدَّمَانِ إلَيْهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْذَرُهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَيَهْجُمُ عَلَى الْوَاحِدِ فَيَطْعَنُهُ، فَإِذَا قَتَلَهُ بَقِيَ وَاحِدٌ بِوَاحِدٍ، وَإِنْ اقْتَتَلَا فَقَدْ حَصَلَ دَمُ وَاحِدٍ بِوَاحِدٍ، وَبَقِيَ الزَّائِدُ لَغْوًا، وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ مَعَ الصَّبْرِ، وَاَللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الرَّجُلِ يَلْقَى عَشَرَةً قَالَ: وَاسِعٌ لَهُ أَنْ يَنْصَرِفَ إلَى مُعَسْكَرِهِ إنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ قُوَّةٌ عَلَى قِتَالِهِمْ.

الآية التاسعة عشرة قوله تعالى ما كان لنبي أن يكون له أسرى

وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَثْبُتَ مَعَهُمْ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: لَا يَقْتَحِمُ الْوَاحِدُ عَلَى الْعَشَرَةِ وَلَا الْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إلْقَاءَ الْيَدِ إلَى التَّهْلُكَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. قَالَ أَشْهَبُ: قَالَ مَالِكٌ: قَالَ اللَّهُ: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 66] فَكَانَ كُلُّ رَجُلٍ بِاثْنَيْنِ. [الْآيَة التَّاسِعَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى] حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 67]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ، وَذَلِكَ يَوْمُ بَدْرٍ، وَالْمُسْلِمُونَ قَلِيلٌ، فَلَمَّا كَثُرُوا قَالَ اللَّهُ: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4]، فَخَيَّرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَكَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ بَعْدَهُ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ وَجِيءَ بِالْأَسْرَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا تَقُولُونَ فِي هَؤُلَاءِ الْأَسْرَى؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ قَوْمُك وَأَهْلُك، فَاسْتَبْقِهِمْ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ. قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ كَذَّبُوك وَأَخْرَجُوك، قَدِّمْهُمْ وَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ اُنْظُرْ وَادِيًا كَثِيرَ الْحَطَبِ فَأَدْخِلْهُمْ فِيهِ، ثُمَّ أَضْرِمْهُ عَلَيْهِمْ نَارًا. فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: قَطَعْتَ رَحِمَك. فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُجِبْهُمْ، ثُمَّ دَخَلَ، فَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ. وَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ. وَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ.

ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ لَيُلِينُ قُلُوبَ قَوْمٍ حَتَّى تَكُونَ أَلْيَنَ مِنْ اللِّينِ، وَيَشُدُّ قُلُوبَ قَوْمٍ حَتَّى تَكُونَ أَشَدَّ مِنْ الْحِجَارَةِ، وَإِنَّ مَثَلَك يَا أَبَا بَكْرٍ مَثَلُ إبْرَاهِيمَ إذْ قَالَ: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36]. وَمَثَلُ عِيسَى حِينَ قَالَ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118]. وَمَثَلُك يَا عُمَرُ مَثَلُ نُوحٍ إذْ قَالَ: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26]. وَمَثَلُ مُوسَى إذْ قَالَ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} [يونس: 88] ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنْتُمْ الْيَوْمَ عَالَةٌ فَلَا يَفْلِتَنَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ إلَّا بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبَةِ عُنُقٍ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إلَّا سُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ، فَإِنِّي سَمِعْته يَذْكُرُ الْإِسْلَامَ. فَسَكَتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا رَأَيْتُنِي فِي يَوْمٍ أَخْوَفَ أَنْ تَقَعَ عَلَيَّ الْحِجَارَةُ مِنْ السَّمَاءِ مِنِّي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إلَّا سُهَيْلُ ابْنُ بَيْضَاءَ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مُخْتَصَرًا عَنْ أَقْوَالِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ رَوَاحَةَ ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَمَّا أَسَرُوا الْأَسْرَى لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: مَا تَرَوْنَ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، هُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ، أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً، فَتَكُونَ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ قُلْت: وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ، وَلَكِنْ أَرَى أَنْ تُمَكِّنَنَا فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ، فَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنَنِي مِنْ فُلَانٍ نَسِيبٍ بِأَحَالَ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهَا. فَهَوِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْت. فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ جِئْت، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ يَبْكِيَانِ قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُك، فَإِنْ وَجَدْت بُكَاءً بَكَيْت وَإِلَّا تَبَاكَيْت. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُك مِنْ أَخْذِهِمْ الْفِدَاءَ، لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] إلَى قَوْلِهِ: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا} [الأنفال: 69] فَأَحَلَّ اللَّهُ الْغَنِيمَةَ لَهُمْ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ، تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا يَعْنِي الْفِدَاءَ، وَاَللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ يَعْنِي إعْزَازَ الدَّيْنِ وَأَهْلِهِ، وَإِذْلَالَ الْكُفْرِ وَأَهْلِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ، فَخَيَّرَهُ بَيْنَ أَنْ يَقْرَبَ الْأُسَارَى فَيَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ، أَوْ يَقْبَلُوا مِنْهُمْ الْفِدَاءَ، وَيُقْتَلَ مِنْكُمْ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ بِعِدَّتِهِمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هَذَا جِبْرِيلُ يُخْبِرُكُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا الْأُسَارَى فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، أَوْ تَقْبَلُوا مِنْهُمْ الْفِدَاءَ، وَيُسْتَشْهَدَ مِنْكُمْ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ بِعِدَّتِهِمْ». فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ بَلْ نَأْخُذُ الْفِدَاءَ فَنَقْوَى عَلَى عَدُوِّنَا، وَيُقْتَلُ مِنَّا فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ بِعِدَّتِهِمْ، فَفَعَلُوا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: كَانَ بِبَدْرٍ أُسَارَى مُشْرِكُونَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] وَكَانُوا يَوْمَئِذٍ مُشْرِكِينَ، فَفَادَوْا وَرَجَعُوا، وَلَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ لَأَنَابُوا وَلَمْ يَرْجِعُوا، وَكَانَ عِدَّةُ مَنْ قُتِلَ أَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ رَجُلًا، وَمِثْلُهُمْ أَسْرَى، وَكَانَ الشُّهَدَاءُ قَلِيلًا. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: إنَّ الْقَتْلَى كَانُوا سَبْعِينَ وَالْأَسْرَى كَذَلِكَ. وَكَذَلِكَ قَالَ

مسألة تكليف الجهاد لسائر الأنبياء

ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران: 165]. وَأَنْشُد أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: فَأَقَامَ بِالْعَطَنِ الْمُعَطَّنِ مِنْهُمْ ... سَبْعُونَ عُتْبَةُ مِنْهُمْ وَالْأَسْوَدُ وَإِنَّمَا قَالَ مَالِكٌ: وَكَانُوا مُشْرِكِينَ، وَلَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ لَأَقَامُوا وَلَمْ يَرْجِعُوا؛ لِأَنَّ الْمُفَسِّرِينَ رَوَوْا أَنَّ الْعَبَّاسَ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنِّي مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمْ: إنَّ الْأَسْرَى قَالُوا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: آمَنَّا بِك وَبِمَا جِئْت بِهِ وَلَنَنْصَحَنَّ لَك عَلَى قَوْمِنَا، فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى} [الأنفال: 70]، قَالَ الْعَبَّاسُ: اُفْتُدِيت بِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، وَقَدْ آتَانِي اللَّهُ أَرْبَعِينَ عَبْدًا، وَإِنِّي لَأَرْجُو الْمَغْفِرَةَ. وَهَذَا كُلُّهُ ضَعَّفَهُ مَالِكٌ، وَاحْتَجَّ عَلَى إبْطَالِهِ بِمَا ذَكَرَ مِنْ رُجُوعِهِمْ إلَى مَوْضِعِهِمْ، وَزِيَادَةً عَلَيْهِ أَنَّهُمْ غَزَوْهُ يَوْمَ أُحُدٍ. [مَسْأَلَة تَكْلِيفِ الْجِهَادِ لِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: يَدُلُّ قَوْلُهُ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] عَلَى تَكْلِيفِ الْجِهَادِ لِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ. قُلْنَا: كَانَ الْجِهَادُ وَاجِبًا عَلَى أَنْبِيَاءٍ قَبْلَ مُحَمَّدٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَسْرَى وَلَا غَنِيمَةٌ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67] مَا كَانَ لَك يَا مُحَمَّدُ أَنْ يَكُونَ لَك أَسْرَى حَتَّى يَغْلُظَ قَتْلُك فِي الْأَرْضِ، وَتَثْبُتَ هَيْبَتُك فِي النُّفُوسِ. [الْآيَة الْمُوفِيَة عشرين قَوْله تَعَالَى لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ] الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ: قَوْله تَعَالَى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68].

فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «غَزَا نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَا يَتْبَعْنِي رَجُلٌ بَنَى دَارًا، وَلَمْ يَسْكُنْهَا، أَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يَبْنِ بِهَا، أَوْ لَهُ حَاجَةٌ فِي الرُّجُوعِ. قَالَ: فَلَقِيَ الْعَدُوَّ عِنْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ؛ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنَّهَا مَأْمُورَةٌ، وَإِنِّي مَأْمُورٌ فَاحْبِسْهَا حَتَّى تَقْضِيَ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، فَحَبَسَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ، فَجَمَعُوا الْغَنَائِمَ فَلَمْ تَأْكُلْهَا النَّارُ». قَالَ: «وَكَانُوا إذَا غَنِمُوا غَنِيمَةً بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهَا نَارًا فَأَكَلَتْهَا، فَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ: إنَّكُمْ غَلَلْتُمْ فَلْيُبَايِعْنِي مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ، فَبَايَعُوهُ فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِيَدِهِ، فَقَالَ لَهُ: إنَّ أَصْحَابَك قَدْ غَلُّوا فَأْتِنِي بِهِمْ فَلْيُبَايِعُونِي، فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ بِيَدِهِ، فَقَالَ لَهُمَا: إنَّكُمَا قَدْ غَلَلْتُمَا، فَقَالَا: أَجَلْ، قَدْ غَلَلْنَا صُورَةَ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَاءَا بِهَا، فَطُرِحَتْ فِي الْغَنَائِمِ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهَا النَّارَ فَأَكَلَتْهَا». فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ أَطْعَمَنَا الْغَنَائِمَ رَحْمَةً رَحِمَنَا بِهَا، وَتَخْفِيفًا خَفَّفَ عَنَّا لِمَا عَلِمَ مِنْ ضَعْفِنَا». قَالَ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَجْهَ هَذِهِ النِّعْمَةِ وَفَائِدَةَ مَا فِيهَا مِنْ حِكْمَةٍ، وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ رِزْقَ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ مِنْ أَفْضَلِ وُجُوهِ الْكَسْبِ، وَهِيَ جِهَةُ الْقَهْرِ وَالِاسْتِعْلَاءِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِقَوْمٍ سُودِ الرُّءُوسِ، مِنْ قَبْلِكُمْ كَانَتْ تَنْزِلُ نَارٌ مِنْ السَّمَاءِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ أَسْرَعَ النَّاسُ فِي الْغَنَائِمِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] إلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا».

مسألة كتاب الله السابق

[مَسْأَلَة كِتَابِ اللَّهِ السَّابِقِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي كِتَابِ اللَّهِ السَّابِقِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: سَبَقَ مِنْ اللَّهِ أَلَّا يُعَذِّبَ قَوْمًا حَتَّى يَتَقَدَّمَ إلَيْهِمْ. الثَّانِي: سَبَقَ مِنْهُ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ وَمُحَمَّدٌ فِيهِمْ. الثَّالِثُ: سَبَقَ مِنْهُ إحْلَالُ الْغَنَائِمِ لَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ اسْتَعْجَلُوا قَبْلَ الْإِحْلَالِ، وَهَذَا كُلُّهُ مُمْكِنٌ صَحِيحٌ، لَكِنَّ أَقْوَاهُ مَا سَبَقَ مِنْ إحْلَالِ الْغَنِيمَةِ، وَقَدْ كَانُوا غَنِمُوا أَوَّلَ غَنِيمَةٍ فِي الْإِسْلَامِ حِينَ أَرْسَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ فِي رَجَبٍ مَقْفَلَهُ مِنْ بَدْرٍ الْأُولَى، وَبَعَثَ مَعَهُ ثَمَانِيَةَ رَهْطٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ لَيْسَ فِيهِمْ مِنْ الْأَنْصَارِ أَحَدٌ إلَى نَخْلَةٍ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ فَيَرْصُدَ بِهَا قُرَيْشًا، فَمَضَى وَمَضَى أَصْحَابُهُ مَعَهُ، حَتَّى نَزَلُوا بِنَخْلَةٍ، فَمَرَّتْ عَلَيْهِمْ عِيرٌ لِقُرَيْشٍ تَحْمِلُ زَيْتًا وَأُدْمًا وَتِجَارَةً مِنْ تِجَارَةِ قُرَيْشٍ، فِيهَا عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ؛ فَقُتِلَ عَمْرٌو، وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وَأَصْحَابُهُ بِالْعِيرِ وَالْأَسْرَى حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُمْسَ الْغَنِيمَةِ، وَقَسَمَ سَائِرَهَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ؛ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ الْخُمُسَ، فَأَكَلُوا الْغَنِيمَةَ، وَنَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ فَرْضُ الْغَنِيمَةِ، كَمَا كَانَ فَعَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ مِنْ الْخُمُسِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ لِلْغَانِمِينَ. وَاَلَّذِي ثَبَتَ مِنْ ذَلِكَ أَكْلُهُمْ الْغَنِيمَةَ الَّتِي غَنِمُوا، وَإِحْلَالُ مَا أَخَذَ لَهُمْ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاكِتٌ عَنْ ذَلِكَ مُجِيزٌ لَهُ؛ فَكَانَ وَحْيًا بِسُكُوتِهِ وَإِمْضَائِهِ. [مَسْأَلَة الْعَبْدَ إذَا اقْتَحَمَ مَا يَعْتَقِدُهُ حَرَامًا مِمَّا هُوَ فِي عِلْمِ اللَّهِ حَلَالٌ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] فِي إحْلَالِ الْغَنِيمَةِ لَعُذِّبْتُمْ بِمَا اقْتَحَمْتُمْ فِيهَا مِمَّا لَيْسَ لَكُمْ اقْتِحَامُهُ إلَّا بِشَرْعٍ، فَكَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إذَا اقْتَحَمَ مَا يَعْتَقِدُهُ حَرَامًا مِمَّا هُوَ فِي عِلْمِ اللَّهِ حَلَالٌ إنَّهُ لَا عُقُوبَةَ عَلَيْهِ كَالصَّائِمِ إذَا قَالَ: هَذَا يَوْمُ نَوْبِي فَأُفْطِرُ الْآنَ. أَوْ هَذَا يَوْمُ حَيْضِي فَأُفْطِرُ

مسألة الإثخان في القتل

فَفَعَلَا ذَلِكَ. وَكَأَنَّ النَّوْبَ وَالْحَيْضَ الْمُوجِبَانِ لِلْفِطْرِ؛ فَفِي مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ فِيهِ الْكَفَّارَةُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى. وَلَنَا فِي إسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ عُمْدَةٌ؛ فَهُوَ أَنَّ حُرْمَةَ الْيَوْمِ سَاقِطَةٌ عِنْدَ اللَّهِ، فَصَادَفَ الْهَتْكُ مَحَلًّا لَا حُرْمَةَ لَهُ فِي عِلْمِ اللَّهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَصَدَ وَطْءَ امْرَأَةٍ قَدْ زُفَّتْ إلَيْهِ، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجِهِ فَإِذَا هِيَ زَوْجُهُ. وَتَعَلَّقَ مَنْ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ بِأَنَّ طُرُوءَ الْإِبَاحَةِ لَا يَنْتَصِبُ عُذْرًا فِي عُقُوبَةِ التَّحْرِيمِ عِنْدَ الْهَتْكِ، كَمَا لَوْ وَطِئَ امْرَأَةً ثُمَّ نَكَحَهَا، وَهَذَا لَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ عِلْمِنَا قَدْ اسْتَوَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالتَّحْرِيمِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي اخْتَلَفْنَا فِيهَا اخْتَلَفَ عِلْمُنَا وَعِلْمُ اللَّهِ، فَكَانَ الْمُعَوَّلُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ فِي إسْقَاطِ الْعُقُوبَةِ، كَمَا قَالَ: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: 68]. [مَسْأَلَة الْإِثْخَانَ فِي الْقَتْلِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: «لَوْ نَزَلَتْ نَارٌ مِنْ السَّمَاءِ لَأَحْرَقَتْنَا إلَّا عُمَرَ». وَفِي رِوَايَةٍ: «لَوْ نَزَلَ عَذَابٌ مِنْ السَّمَاءِ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ إلَّا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، لِقَوْلِهِ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ؛ كَانَ الْإِثْخَانُ فِي الْقَتْلِ أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ اسْتِبْقَاءِ الرِّجَالِ». وَفِي رِوَايَةٍ: «لَوْ عُذِّبْنَا فِي هَذَا الْأَمْرِ يَا عُمَرُ مَا نَجَا غَيْرُك». وَفِي رِوَايَةٍ: «لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُكُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ». الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي هَذَا كُلِّهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِثْخَانَ فِي الْقَتْلِ وَاجِبٌ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى إذَا قَوِيَ الْمُسْلِمُونَ جَازَ الْفِدَاءُ؛ لِلْقُوَّةِ عَلَى الْعِدَّةِ لِقِتَالِهِمْ أَيْضًا، فَإِنَّمَا يُرَاعَى الْأَنْظَرُ وَالْأَوْكَدُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة هل تحققت معصية المسلمين في أسرى بدر

[مَسْأَلَة هَلْ تحققت مَعْصِيَة الْمُسْلِمِينَ فِي أَسْرَى بدر] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فَإِنْ قِيلَ: تَحَقَّقَ لَنَا مَعْصِيَتُهُمْ. قُلْنَا: فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: إسْرَاعُهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْإِحْلَالِ. الثَّانِي: اخْتِيَارُهُمْ الْفِدَاءَ قَبْلَ الْإِثْخَانِ فِي الْقَتْلِ. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ لَهُمْ: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12] فَأُمِرُوا بِالْقَتْلِ فَاخْتَارُوا الْفِدَاءَ. قُلْنَا: أَمَّا الْقَوْلُ الثَّالِثُ فَضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ قَبْلَ أَنْ يُبَرِّرَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ بَعْدَهُ، وَلَا يُحْتَجُّ بِمُحْتَمَلٍ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي فَمُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ أَحَدَهُمَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعَهُمَا؛ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ اخْتِيَارُ الْفِدَاءِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَاوَرَهُمْ فِيهِ؛ فَمَالُوا إلَى الْفِدَاءِ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ عَاتَبَهُمْ عَلَى رَأْفَتِهِمْ بِالْكُفَّارِ مَعَ إغْلَاظِهِمْ عَلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ وَالْإِذَايَةِ وَالْإِخْرَاجِ، وَإِلَى تَحْقِيقِ الْمَعْصِيَةِ إلَى تَأْخِيرِهِمْ الْقَتْلَ حَتَّى نَزَلَ الْعَفْوُ. فَإِنْ قِيلَ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فَقَدْ اخْتَارَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَعَهُمْ، فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ ذَنْبًا مِنْهُ قُلْنَا: كَذَلِكَ تَوَهَّمَ بَعْضُ النَّاسِ، فَقَالَ: إنَّهُ كَانَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فِيهِ مَعْصِيَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، وَحَاشَا لِلَّهِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، إنَّمَا كَانَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَقُّفٌ وَانْتِظَارٌ، وَلَمْ يَكُنْ الْقَتْلُ لِيَفُوتَ، مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا الصَّنَادِيدَ، وَأَثْخَنُوا فِي الْأَرْضِ، فَانْتَظَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ ذَلِكَ كَافٍ فِيهِ أَمْ لَا؟ وَهَذَا بَيِّنٌ عِنْدَ الْإِنْصَافِ. [الْآيَة الْحَادِيَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الْأَسْرَى] الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال: 70] {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 71]

مسألة تكلم الكافر بالإيمان في قلبه وبلسانه ولم يمض به عزيمة

فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَمَّا أَسَرَ مِنْ أُسَارَى الْمُشْرِكِينَ رُوِيَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ قَوْمٌ مِنْهُمْ بِالْإِسْلَامِ، وَلَمْ يُمْضُوا بِذَلِكَ عَزِيمَةً، وَلَا اعْتَرَفُوا بِهِ اعْتِرَافًا جَازِمًا. وَيُشْبِهُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَقْرَبُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَبْعُدُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ. [مَسْأَلَة تَكَلَّمَ الْكَافِرُ بِالْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ وَبِلِسَانِهِ وَلَمْ يُمْضِ بِهِ عَزِيمَةً] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنْ تَكَلَّمَ الْكَافِرُ بِالْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ وَبِلِسَانِهِ، وَلَمْ يُمْضِ بِهِ عَزِيمَةً لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا. وَإِذَا وُجِدَ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ الْمُؤْمِنِ كَانَ كَافِرًا إلَّا مَا كَانَ مِنْ الْوَسْوَسَةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ الْمَرْءُ عَلَى دَفْعِهَا، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَفَا عَنْهَا وَأَسْقَطَهَا. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ الْحَقِيقَةَ؛ فَقَالَ: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ} [الأنفال: 71] أَيْ إنْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ خِيَانَةً وَمَكْرًا {فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ} [الأنفال: 71] بِكُفْرِهِمْ وَمَكْرِهِمْ بِك وَقِتَالِهِمْ لَك، فَأَمْكَنَك مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ خَيْرًا وَيَعْلَمُهُ اللَّهُ فَيَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَيُعَوِّضُهُمْ خَيْرًا مِمَّا خَرَجَ عَنْهُمْ وَيَغْفِرُ لَهُمْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كُفْرِهِمْ وَخِيَانَتِهِمْ وَمَكْرِهِمْ. [الْآيَة الثَّانِيَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا] بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 72] فِيهَا ثَمَانِي مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 72]: هُمْ الَّذِينَ عَلِمُوا التَّوْحِيدَ، وَصَدَّقُوا بِهِ، وَأَمَّنُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ الْوَعِيدِ فِيهِ.

مسألة وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {وَهَاجَرُوا} [الأنفال: 72]: هُمْ الَّذِينَ تَرَكُوا أَوْطَانَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ إيثَارًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِي إعْلَاءِ دِينِهِ، وَإِظْهَارِ كَلِمَتِهِ، وَلُزُومِ طَاعَتِهِ، وَعُمُومِ دَعَوْتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: {وَجَاهَدُوا} [الأنفال: 72]: أَيْ الْتَزَمُوا الْجَهْدَ؛ وَهِيَ الْمَشَقَّةُ فِي أَنْفُسِهِمْ، بِتَعْرِيضِهَا لِلْإِذَايَةِ وَالنِّكَايَةِ وَالْقَتْلِ، وَبِأَمْوَالِهِمْ بِإِهْلَاكِهَا فِيمَا يُرْضِي اللَّهَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا} [الأنفال: 72]: هُمْ الْأَنْصَارُ الَّذِي تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ، وَانْضَوَى إلَيْهِمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُهَاجِرُونَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: {أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 72]: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي النُّصْرَةِ. الثَّانِي: فِي الْمِيرَاثِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: جَعَلَ اللَّهَ الْمِيرَاثَ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ دُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] قِيلَ: مِنْ النُّصْرَةِ لِبُعْدِ دَارِهِمْ. وَقِيلَ: مِنْ الْمِيرَاثِ لِانْقِطَاعِ وَلَايَتِهِمْ. [مَسْأَلَة وَإِنْ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72]: يُرِيدُ إنْ دَعَوْا مِنْ أَرْضِ الْحَرْبِ عَوْنَكُمْ بِنَفِيرٍ أَوْ مَالٍ لِاسْتِنْقَاذِهِمْ، فَأَعِينُوهُمْ؛ فَذَلِكَ عَلَيْكُمْ فَرْضٌ، إلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ، فَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عَلَيْهِمْ [يُرِيدُ] حَتَّى يَتِمَّ الْعَهْدُ أَوْ يُنْبَذَ عَلَى سَوَاءٍ.

الآية الثالثة والعشرون قوله تعالى والذين كفروا بعضهم أولياء بعض

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: أَمَّا قَوْلُهُ: {أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 72]: يَعْنِي فِي النُّصْرَةِ أَوْ فِي الْمِيرَاثِ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ، فَلَا يُبَالَى بِهِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ بَيَّنَ حُكْمَ الْمِيرَاثِ بِقَوْلِهِ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى عُصْبَةٍ ذَكَرٍ». وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]: فَإِنَّ ذَلِكَ عَامٌّ فِي النُّصْرَةِ وَالْمِيرَاثِ؛ فَإِنَّ مَنْ كَانَ مُقِيمًا بِمَكَّةَ عَلَى إيمَانِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُعْتَدًّا لَهُ بِهِ، وَلَا مُثَابًا عَلَيْهِ حَتَّى يُهَاجِرَ. ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِفَتْحِ مَكَّةَ وَالْمِيرَاثِ بِالْقَرَابَةِ، سَوَاءٌ كَانَ الْوَارِثُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ السَّلَامِ؛ لِسُقُوطِ اعْتِبَارِ الْهِجْرَةِ بِالسَّنَةِ، إلَّا أَنْ يَكُونُوا أُسَرَاءَ مُسْتَضْعَفِينَ؛ فَإِنَّ الْوِلَايَةَ مَعَهُمْ قَائِمَةٌ، وَالنُّصْرَةَ لَهُمْ وَاجِبَةٌ بِالْبَدَنِ بِأَلَّا يَبْقَى مِنَّا عَيْنٌ تَطْرِفُ حَتَّى نَخْرُجَ إلَى اسْتِنْقَاذِهِمْ إنْ كَانَ عَدَدُنَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ، أَوْ نَبْذُلَ جَمِيعَ أَمْوَالِنَا فِي اسْتِخْرَاجِهِمْ، حَتَّى لَا يَبْقَى لِأَحَدٍ دِرْهَمٌ كَذَلِكَ. قَالَ مَالِكٌ وَجَمِيعُ الْعُلَمَاءِ: فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى مَا حَلَّ بِالْخَلْقِ فِي تَرْكِهِمْ إخْوَانَهُمْ فِي أَسْرِ الْعَدُوِّ، وَبِأَيْدِيهِمْ خَزَائِنُ الْأَمْوَالِ وَفُضُولُ الْأَحْوَالِ وَالْعُدَّةُ وَالْعَدَدُ، وَالْقُوَّةُ وَالْجَلَدُ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ] ٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73] فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:

الآية الرابعة والعشرون قوله تعالى والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَطَعَ اللَّهُ الْوِلَايَةَ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ فَجَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ، وَجَعَلَ الْكَافِرِينَ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ، وَجَعَلَ الْمُنَافِقِينَ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ، يَتَنَاصَرُونَ بِدِينِهِمْ، وَيَتَعَامَلُونَ بِاعْتِقَادِهِمْ. وَفِي الصَّحِيحِ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ كَمِثْلِ الْجَسَدِ إذَا اشْتَكَى عُضْوٌ مِنْهُ تَدَاعَى سَائِرُهُ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ». وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ فِي الْمِيرَاثِ؛ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ». وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51]. وَقَالَ بَعْد هَذَا: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة: 67]. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 73]: يَعْنِي بِضَعْفِ الْإِيمَانِ وَغَلَبَةِ الْكُفْرِ؛ وَهَذِهِ هِيَ الْفِتْنَةُ وَالْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ، وَفِي هَذَا أَمْرٌ بِالْخُرُوجِ عَنْ دَارِ الْكُفْرِ إلَى دَارِ الْإِيمَانِ، وَهِيَ الْهِجْرَةُ. [الْآيَة الرَّابِعَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 74].

الآية الخامسة والعشرون قوله تعالى والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم

رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِحَارِثَةَ: يَا حَارِثَةُ، كَيْفَ أَصْبَحْت؟ قَالَ: مُؤْمِنًا حَقًّا. قَالَ: لِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةٌ، فَمَا حَقِيقَةُ إيمَانِكَ؟ قَالَ: عَزَفَتْ نَفْسِي عَنْ الدُّنْيَا؛ فَاسْتَوَى عِنْدِي حَجَرُهَا وَذَهَبُهَا، وَكَأَنِّي نَاظِرٌ إلَى عَرْشِ رَبِّي. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَرَفْت فَالْزَمْ». وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَا يُدْرِكُ أَحَدُكُمْ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي النَّارِ». وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] إلَى قَوْلِهِ: كَرِيمٌ. وَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ حَقًّا ظَهَرَ ذَلِكَ فِي اسْتِقَامَةِ الْأَعْمَالِ بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ. وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ، وَإِذَا كَانَ مَجَازًا قَصَّرَتْ الْجَوَارِحُ فِي الْأَعْمَالِ؛ إذْ لَمْ تَبْلُغْ قُوَّتُهُ إلَيْهَا. [الْآيَة الْخَامِسَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ] الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {مِنْ بَعْدُ} [الأنفال: 75]: يَعْنِي مِنْ بَعْدِ مَا أَمَرْتُكُمْ بِالْمُوَالَاةِ، هَكَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ، إلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يُرِيدُ مِنْ بَعْدِ الْإِيمَانِ الْأَوَّلِ وَالْهِجْرَةِ الْأُولَى، فَإِنَّ الْهِجْرَةَ طَبَقَاتٌ: الْمُهَاجِرُونَ

مسألة الموالاة بالهجرة دون القرابة

الْأَوَّلُونَ، وَبَعْدَهُمْ مَنْ هَاجَرَ فِي بُحْبُوحَةِ الْإِيمَانِ وَقَبْلَ الْفَتْحِ، وَهُمْ طَبَقَاتٌ عِنْدَنَا وَدَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} [الأنفال: 75]: يَعْنِي فِي الْمُوَالَاةِ وَالْمِيرَاثِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ؛ فَإِنْ تَوَلَّى قَوْمًا فَهُوَ مِنْهُمْ بِاعْتِقَادِهِ مَعَهُمْ، وَالْتِزَامِهِ لَهُمْ، وَعَمَلِهِ بِعَمَلِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]. [مَسْأَلَة الْمُوَالَاةِ بِالْهِجْرَةِ دُونَ الْقَرَابَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75]: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ الْآيَةُ نَسْخٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمُوَالَاةِ بِالْهِجْرَةِ دُونَ الْقَرَابَةِ الَّتِي لَيْسَ مَعَهَا هِجْرَةٌ. وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ عُمُومٌ فِي كُلِّ قَرِيبٍ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ بِقَوْلِهِ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى عُصْبَةٍ ذَكَرٍ»، حَسْبَمَا ثَبَتَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ. وَكِتَابُ اللَّهِ الَّذِي ثَبَتَ فِيهِ هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ فِيهِ كُلَّ شَيْءٍ، فَتَجْرِي الْأَحْكَامُ عَلَى مَا سَطَّرَ فِيهِ مِنْ نَسْخٍ وَثُبُوتٍ وَإِمْضَاءٍ وَرَدٍّ.

سورة التوبة فيها إحدى وخمسون آية

[سُورَةُ التَّوْبَةِ فِيهَا إحْدَى وَخَمْسُونَ آيَةً] [تَسْمِيَتُهَا] ً [تَسْمِيَتُهَا]: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذِهِ السُّورَةُ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ، وَلِذَلِكَ قَلَّ فِيهَا الْمَنْسُوخُ، وَلَهَا سِتَّةُ أَسْمَاءً: التَّوْبَةُ، وَالْمُبَعْثِرَةُ، وَالْمُقَشْقِشَةُ، وَالْفَاضِحَةُ وَسُورَةُ الْبُحُوثِ، وَسُورَةُ الْعَذَابِ. فَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا بِسُورَةِ التَّوْبَةِ فَلِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ فِيهَا تَوْبَةَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا بِتَبُوكَ. فَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا بِالْفَاضِحَةِ فَلِأَنَّهُ نَزَلَ فِيهَا: وَمِنْهُمْ، وَمِنْهُمْ. قَالَتْ الصَّحَابَةُ: حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهَا لَا تُبْقِي أَحَدًا. وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا الْمُبَعْثِرَةُ فَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى، يُقَالُ: بَعْثَرْت الْمَتَاعَ: إذَا جَعَلْت أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ، وَقَلَبْت جَمِيعَهُ وَقَلَّبْتَهُ، وَمِنْهُ: {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} [الانفطار: 4]. وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا الْمُقَشْقِشَةُ فَمِنْ الْجَمْعِ، فَإِنَّهَا جَمَعَتْ أَوْصَافَ الْمُنَافِقِينَ، وَكَشَفَتْ أَسْرَارَ الدِّينِ. وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا سُورَةَ الْبُحُوثِ فَمِنْ بَحَثَ: إذَا اخْتَبَرَ وَاسْتَقْصَى، وَذَلِكَ لِمَا تَضَمَّنَتْ أَيْضًا مِنْ ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ وَالْبَحْثِ عَنْ أَسْرَارِهِمْ. وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا سُورَةَ الْعَذَابِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ الْحَارِثِ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَا كَانُوا يَدْعُونَ سُورَةَ التَّوْبَةِ إلَّا الْمُبَعْثِرَةَ، فَإِنَّهَا تُبَعْثِرُ أَخْبَارَ الْمُنَافِقِينَ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: مَا كُنَّا نَدْعُوهَا إلَّا الْمُقَشْقِشَةَ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: مَثَلُ بَرَاءَةَ كَمَثَلِ الْمِرْوَدِ مَا يُدْرَى أَسْفَلُهُ مِنْ أَعْلَاهُ.

القول في سقوط بسم الله الرحمن الرحيم من سورة التوبة

[الْقَوْلُ فِي سُقُوطِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ سُورَة التَّوْبَة] الْقَوْلُ فِي سُقُوطِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْهَا: وَفِي ذَلِكَ لِلْعُلَمَاءِ أَغْرَاضٌ جِمَاعُهَا أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ مَالِكٌ فِيمَا رَوَى عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: إنَّهُ لَمَّا سَقَطَ أَوَّلُهَا سَقَطَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَعَهُ. وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ سُورَةَ " بَرَاءَةَ " كَانَتْ تَعْدِلُ الْبَقَرَةَ أَوْ قُرْبَهَا، فَذَهَبَ مِنْهَا، فَلِذَلِكَ لَمْ يُكْتَبْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. الثَّانِي: أَنَّ بَرَاءَةَ سُخْطٌ، وَبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رَحْمَةٌ، فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا. الثَّالِثُ: أَنَّ بَرَاءَةَ نَزَلَتْ بِرَفْعِ الْأَمَانِ، وَبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَمَانٌ. وَهَذِهِ كُلُّهَا احْتِمَالَاتٌ، مِنْهَا بَعِيدٌ وَمِنْهَا قَرِيبٌ؛ وَأَبْعَدُهَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهَا مُفْتَتَحَةٌ بِذِكْرِ الْكُفَّارِ؛ لِأَنَّ سُوَرًا كَثِيرَةً مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ اُفْتُتِحَتْ بِذِكْرِ الْكُفَّارِ كَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ كَفَرُوا} [محمد: 1]. وَقَوْلِهِ: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ} [الهمزة: 1]. الرَّابِعُ: وَهُوَ الْأَصَحُّ مَا ثَبَتَ عَنْ يَزِيدَ الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ لَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ: قُلْنَا لِعُثْمَانَ: مَا حَمَلَكُمْ أَنْ عَمَدْتُمْ إلَى الْأَنْفَالِ، وَهِيَ مِنْ الْمَثَانِي وَإِلَى بَرَاءَةَ، وَهِيَ مِنْ الْمِئِينِ، فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ تَكْتُبُوا بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَوَضَعْتُمُوهَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ، فَمَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟. قَالَ عُثْمَانُ: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ يَدْعُو بِبَعْضِ مَنْ يَكْتُبُ عَنْهُ، فَيَقُولُ: ضَعُوا هَذَا فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا، وَتَنْزِلُ عَلَيْهِ الْآيَةُ فَيَقُولُ: ضَعُوا هَذِهِ الْآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا، وَكَانَتْ الْأَنْفَالُ مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ، وَبَرَاءَةٌ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ، وَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا، وَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا، فَظَنَنْت أَنَّهَا مِنْهَا؛ فَمِنْ ثَمَّ قَرَنْت بَيْنَهُمَا، وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ». وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: آخِرُ مَا نَزَلَ بَرَاءَةٌ «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُنَا فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَلَمْ يَأْمُرْنَا فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ بِشَيْءٍ»؛ فَلِذَلِكَ ضُمَّتْ إلَى الْأَنْفَالِ، وَكَانَتْ شَبِيهَةً بِهَا.

نكتة أصولية

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أُعْطِيت السَّبْعَ الطِّوَالَ مَكَانَ التَّوْرَاةِ، وَأُعْطِيت الْمِئِينِ مَكَانَ الزَّبُورِ، وَأُعْطِيت الْمَثَانِيَ مَكَانَ الْإِنْجِيلِ، وَفُضِّلْتُ بِالْمُفَصَّلِ». [نُكْتَةٌ أُصُولِيَّةٌ] ٌ: فِي هَذَا كُلِّهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَأْلِيفَ الْقُرْآنِ كَانَ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّ تَأْلِيفَهُ مِنْ تَنْزِيلِهِ يُبَيِّنُهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَصْحَابِهِ، وَيُمَيِّزُهُ لِكُتَّابِهِ، وَيُرَتِّبُهُ عَلَى أَبْوَابِهِ، إلَّا هَذِهِ السُّورَةَ فَلَمْ يَذْكُرْ لَهُمْ فِيهَا شَيْئًا؛ لِيَتَبَيَّنَّ الْخَلْقُ أَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ، وَلَا يُحَاطُ بِعِلْمِهِ إلَّا بِمَا أَبْرَزَ مِنْهُ إلَى الْخَلْقِ، وَأَوْضَحَهُ بِالْبَيَانِ. وَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ أَصْلٌ فِي الدِّينِ؛ أَلَا تَرَى إلَى عُثْمَانَ وَأَعْيَانِ الصَّحَابَةِ كَيْفَ لَجَئُوا إلَى قِيَاسِ الشَّبَهِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ، وَرَأَوْا أَنَّ قِصَّةَ " بَرَاءَةَ " شَبِيهَةٌ بِقِصَّةِ " الْأَنْفَالِ " فَأَلْحَقُوهَا بِهَا؟ فَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ بَيَّنَ دُخُولَ الْقِيَاسِ فِي تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ فَمَا ظَنُّك بِسَائِرِ الْأَحْكَامِ. [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ] وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ إحْدَى وَخَمْسُونَ آيَةً: الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 1]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {بَرَاءَةٌ} [التوبة: 1]: أَيْ هَذِهِ الْآيَاتُ بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ؛ يُقَالُ: بَرِئْت مِنْ الشَّيْءِ أَبْرَأُ بَرَاءَةً فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ: إذَا أَزَلْته عَنْ نَفْسِك، وَقَطَعْت سَبَبَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنِك.

مسألة الذين عاهدتم من المشركين

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 1]: وَلَمْ يُعَاهِدْهُمْ إلَّا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْدَهُ، وَلَكِنَّهُ كَانَ الْآمِرَ وَالْحَاكِمَ، وَكُلُّ مَا أَمَرَ بِهِ أَوْ أَحْكَمَهُ فَهُوَ لَازِمٌ لِلْأُمَّةِ، مَنْسُوبٌ إلَيْهِمْ، مَحْسُوبٌ عَلَيْهِمْ، يُؤَاخَذُونَ بِهِ؛ إذْ لَا يُمْكِنُ غَيْرُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ تَحْصِيلَ الرِّضَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْجَمِيعِ مُتَعَذَّرٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اخْتِلَافُ الْآرَاءِ، وَامْتِنَاعُ الِاتِّفَاقِ عَلَى مَذْهَبٍ وَاحِدٍ. وَالثَّانِي: كَثْرَةُ عَدَدِهِمْ الْمَانِعِ مِنْ تَحْصِيلِ رِضَا جَمِيعِهِمْ، فَوَقَعَ الِاجْتِزَاءُ بِالْمُقَدَّمِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ؛ فَإِذَا عَقَدَ الْإِمَامُ بِمَا يَرَاهُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ أَمْرًا لَزِمَ الرَّعَايَا حُكْمُهُ، فَإِذَا رَضُوا بِهِ كَانَ أَثْبَتَ لِنِسْبَتِهِ إلَيْهِمْ، كَمَا نُسِبَ عَهْدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْمُسْلِمِينَ، لِكَوْنِهِمْ بِهِ رَاضِينَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْجَمَاعَةِ، وَهُوَ مُضَافٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى طَرِيقِ التَّعْظِيمِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ الْوَاحِدِ الْعَظِيمِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ. [مَسْأَلَة الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 1]: وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الْمُعَاهِدَ كَانَ مُشْرِكًا، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنْ كَانُوا أَيْضًا مُشْرِكِينَ؟ لِأَنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَخْصُوصًا بِالْعَرَبِ أَهْلِ الْأَوْثَانِ، وَكَانُوا عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ كَانَ أَجَلُ عَهْدِهِ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ، فَأَمْهَلَ الْكُلَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. وَقِيلَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ أُجِّلَ خَمْسِينَ لَيْلَةً: عِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} [التوبة: 5]. وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الْقَاضِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الَّذِي عِنْدِي أَنَّ هَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ أَحَدٍ مِمَّنْ لَهُ عَهْدٌ دُونَ مَنْ لَا عَهْدَ لَهُ؛ لِقَوْلِهِ: {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 4]. فَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ أُجِّلَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَيُحِلُّ دَمَهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ فَهُوَ عَلَى أَصْلِ الْإِحْلَالِ لِدَمِهِ بِالْكُفْرِ الْمَوْجُودِ بِهِ.

الآية الثانية قوله تعالى فسيحوا في الأرض أربعة أشهر

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ أَيْضًا أَجَلًا لِمَنْ كَانَتْ مُدَّتُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. وَيَكُونَ إسْقَاطُ الزِّيَادَةِ تَخْصِيصًا لِلْمُدَّةِ، كَمَا أَخْرَجَ اللَّهُ النِّسَاءَ مِنْ أَعْدَادِ مَنْ صُولِحَ عَلَيْهِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ، بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ لِلْإِمَامِ، وَالتَّمَادِي عَلَى الْعَهْدِ، أَوْ الرُّجُوعِ عَنْهُ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ قَبْلُ. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ] ٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} [التوبة: 2]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2]: أَيْ سِيرُوا، وَهِيَ السِّيَاحَةُ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: بَلَغَنِي أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ انْتَهَى إلَى قَرْيَةٍ خَرِبَتْ حُصُونُهَا، وَجَفَّتْ أَنْهَارُهَا، وَتَشَعَّبَ شَجَرُهَا، فَنَادَى: يَا خَرِبُ، أَيْنَ أَهْلُكِ؟ فَنُودِيَ: يَا عِيسَى، بَادُوا فَضَمَّتْهُمْ الْأَرْضُ، وَعَادَتْ أَعْمَالُهُمْ قَلَائِدَ فِي رِقَابِهِمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَجَدّ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يُرِيدُ مَالِكٌ بِسِيَاحَتِهِ أَنَّهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ. الْمَعْنَى: لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مَسِيرُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَاخْتَبِرُوا فِيهَا، وَحَرِّرُوا أَعْمَالَكُمْ، وَانْظُرُوا مَآلَكُمْ، فَإِنْ دَخَلْتُمْ فِي الْإِسْلَامِ فَلَكُمْ الْأَمَانُ وَالِاحْتِرَامُ، وَإِنْ اسْتَمْرَرْتُمْ عَلَى الْكُفْرِ عُومِلْتُمْ بِمُعَامَلَةِ الْكُفَّارِ مِنْ الْقَتْلِ وَالْإِسَارِ. [مَسْأَلَة الْعَهْدَ الْمَحْدُودَ لِمُدَّةٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ رَوَى جَمَاعَةٌ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ كَانَ يَقُولُ فِي أَذَانِهِ: وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إلَى مُدَّتِهِ؛ فَإِنْ صَحَّ هَذَا فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَهْدَ الْمَحْدُودَ لِمُدَّةٍ مَوْقُوفٌ عَلَى أَمَدِهِ، وَأَنَّ الْعَهْدَ الْمُطْلَقَ، أَوْ الَّذِي لَهُ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنَّ مُدَّتَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، إلَّا مَنْ لَمْ يَنْقُضْ، فَإِنَّ عَهْدَهُ إلَى مُدَّتِهِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ بِنَصِّ الْقُرْآنِ بَعْدَ هَذَا.

مسألة الأشهر التي قدرت للسياحة

[مَسْأَلَة الْأَشْهُرِ الَّتِي قُدِّرَتْ لِلسِّيَاحَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ الَّتِي قُدِّرَتْ لِلسِّيَاحَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مِنْ شَوَّالٍ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ إلَى صَفَرٍ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ؛ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُ. الثَّانِي: أَنَّهَا عِشْرُونَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، أَوَّلُهَا يَوْمُ النَّحْرِ إلَى تَمَامِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. وَذَلِكَ بِمُضِيِّ عَشَرَةِ أَيَّامٍ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ تِسْعٍ، وَقِيلَ: هُوَ الثَّالِثُ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ. وَقِيلَ فِي الرَّابِعِ مِنْ يَوْمِ يَبْلُغُهُمْ الْعِلْمُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ؛ فَبِذَلِكَ كَانَ الْبَدْءُ وَإِلَيْهِ كَانَ الْمُنْتَهَى. [الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ] الْآيَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 3]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْأَذَانُ: هُوَ الْإِعْلَامُ لُغَةً مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، الْمَعْنَى بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَسُولِهِ وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَيْ هَذِهِ بَرَاءَةٌ، وَهَذَا إعْلَامٌ وَإِنْذَارٌ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15]. {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ بِمِنًى فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ. أَتَدْرُونَ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: شَهْرٌ حَرَامٌ. قَالَ: أَتَدْرُونَ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟

قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: بَلَدٌ حَرَامٌ. قَالَ: إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا». وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا قَالَ: «بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ فِي الْمُؤَذِّنِينَ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ يَوْمَ النَّحْرِ يُؤَذِّنُونَ بِمِنًى أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: ثُمَّ أَرْدَفَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَلِيٍّ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ بِبَرَاءَةَ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ بِبَرَاءَةَ، وَأَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ.» وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عُمَرَ وَابْنِ الْأَحْوَصِ، حَدَّثَنَا أَبِي أَنَّهُ «شَهِدَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَذَكَّرَ، وَوَعَظَ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّ يَوْمٍ أَحْرَمُ، أَيُّ يَوْمٍ أَحْرَمُ؛ أَيُّ يَوْمٍ أَحْرَمُ؟ قَالَ: فَقَالَ النَّاسُ: يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، أَلَا لَا يَجْنِي جَانٍ عَلَى نَفْسِهِ، لَا يَجْنِي وَالِدٌ عَلَى وَلَدِهِ، وَلَا وَلَدٌ عَلَى وَالِدِهِ، إنَّ الْمُسْلِمَ أَخُو الْمُسْلِمِ، فَلَيْسَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ مِنْ أَخِيهِ إلَّا مَا حَلَّ مِنْ نَفْسِهِ، أَلَا وَإِنَّ كُلَّ رِبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، لَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ، غَيْرَ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، أَلَا وَإِنَّ كُلَّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ دَمُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي لَيْثٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، أَلَا وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ عَوَارٍ عِنْدَكُمْ، لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ؛ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ، وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا. أَلَا إنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ حَقًّا، فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ. أَلَا وَإِنَّ حَقَّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ».

هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، فَقَالَ: يَوْمُ النَّحْرِ». وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «بَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْرٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ، وَأَتْبَعَهُ عَلِيًّا، فَبَيْنَمَا أَبُو بَكْرٍ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ إذْ سَمِعَ رُغَاءَ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَصْوَاءِ، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ فَزِعًا يَظُنُّ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا هُوَ عَلِيٌّ، فَدَفَعَ إلَيْهِ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يُنَادِيَ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ، فَانْطَلَقَا وَحَجَّا، فَقَامَ عَلِيٌّ فَنَادَى أَيَّامَ التَّشْرِيقِ: ذِمَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَرِيئَةٌ مِنْ كُلِّ مُشْرِكٍ، فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَلَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا مُؤْمِنٌ». وَكَانَ عَلِيٌّ يُنَادِي فَإِذَا أَعْيَا قَامَ أَبُو بَكْرٍ يُنَادِي بِهَا. وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ يَثِيعَ قَالَ: «سَأَلْت عَلِيًّا بِأَيِّ شَيْءٍ بُعِثْت فِي الْحَجَّةِ؟ قَالَ: بُعِثْت بِأَرْبَعٍ: أَلَّا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إلَى مُدَّتِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ فَأَجَلُهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ، وَلَا يَجْتَمِعُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا». قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «بَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَرَاءَةَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُبَلِّغَ هَذَا إلَّا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي فَدَعَا عَلِيًّا، فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ». وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ؛ فَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: لَا نَشُكُّ أَنَّ الْحَجَّ الْأَكْبَرَ يَوْمُ النَّحْرِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي تُرْمَى فِيهِ الْجَمْرَةُ، وَيُنْحَرُ فِيهِ الْهَدْيُ، وَتُرَاقُ فِيهِ الدِّمَاءُ، وَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي يَنْقَضِي فِيهِ الْحَجُّ؛ مَنْ أَدْرَكَ لَيْلَةَ النَّحْرِ فَوَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ الْفَجْرِ أَدْرَكَ الْحَجَّ، وَهُوَ انْقِضَاءُ الْحَجِّ وَهُوَ الْحَجُّ الْأَكْبَرُ. وَنَحْوَهُ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَشْهَبُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَكَمِ عَنْهُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، فَقَالَ: " هُوَ يَوْمٌ يُحْلَقُ فِيهِ الشَّعْرُ، وَتُرَاقُ فِيهِ الدِّمَاءُ، وَيُحَلُّ فِيهِ الْحَرَامُ، وَتُوضَعُ فِيهِ النَّوَاصِي ". وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: " إنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ " وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: " الْحَجُّ الْأَكْبَرُ الْقِرَانُ، وَالْحَجُّ الْأَصْغَرُ الْعُمْرَةُ ". قَالَ الْقَاضِي: إذَا نَظَرْنَا فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ فَالْمُنَقَّحُ مِنْهَا أَنَّ الْحَجَّ الْأَكْبَرَ الْحَجُّ، كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ؛ لَكِنَّا إذَا بَحَثْنَا عَنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فَلَا شَكَّ أَنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ عَرَفَةَ، مَنْ أَدْرَكَ الْوُقُوفَ بِهَا فِي يَوْمِهَا أَدْرَكَ الْحَجَّ، وَمَنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِهَا فَلَا حَجَّ لَهُ؛ بَيْدَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَحْثِ عَنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَذَكَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خُطْبَتِهِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ يَوْمُ النَّحْرِ لِثُبُوتِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا أَمَرَ بِالْأَذَانِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَلِثُبُوتِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَيْضًا، فَإِنَّهُ قَالَ يَوْمُ النَّحْرِ: «أَيُّ يَوْمٍ هَذَا، أَلَيْسَ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ؟» كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ عَنْ الزُّبَيْرِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَقَالَ: أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: هُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ». وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهُ. وَقَدْ احْتَجَّ ابْنُ أَبِي أَوْفَى عَلَى أَنَّهُ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ بِانْقِضَاءِ الْحَجِّ فِيهِ مِنْ

النُّسُكِ، وَإِلْقَاءِ التَّفَثِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29]. وَغَاصَ مَالِكٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَجَمَعَ بَيْنَ الدَّلَائِلِ، وَقَالَ: إنَّ يَوْمَ النَّحْرِ فِيهِ الْحَجُّ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ إنَّمَا هُوَ فِي لَيْلَتِهِ، وَفِي صَبِيحَتِهِ الرَّمْيُ وَالْحَلْقُ وَالنَّحْرُ وَالطَّوَافُ، فَلَا يَبْقَى بَعْدَ هَذَا إشْكَالٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ " بَرَاءَةٌ " عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ لِيُقِيمَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ بَعَثْت بِهِ إلَى أَبِي بَكْرٍ. فَقَالَ: «إنَّهُ لَا يُؤَدِّي عَنِّي إلَّا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي. ثُمَّ دَعَا عَلِيًّا، فَقَالَ لَهُ: اُخْرُجْ بِهَذِهِ الْقُصَّةِ مِنْ صَدْرِ بَرَاءَةَ، وَأَذِنَّ فِي النَّاسِ يَوْمَ النَّحْرِ إذَا اجْتَمَعُوا بِمِنًى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ كَافِرٌ، وَلَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَهْدٌ فَهُوَ لَهُ إلَى مُدَّتِهِ. فَخَرَجَ عَلِيٌّ عَلَى نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَدْرَكَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: أَمِيرٌ أَمْ مَأْمُورٌ؟ قَالَ بَلْ مَأْمُورٌ. ثُمَّ مَضَيَا، فَأَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ الْحَجَّ، وَالْعَرَبُ إذْ ذَاكَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ عَلَى مَنَازِلِهِمْ مِنْ الْحَجِّ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، حَتَّى إذَا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ قَامَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَأَذَّنَ فِي النَّاسِ بِاَلَّذِي أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». وَقَدْ سَمِعْت بَعْضَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ: إنَّمَا سُمِّيَ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ مَنْ كَانَ يَقِفُ بِعَرَفَةَ، وَمَنْ كَانَ يَقِفُ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَكَانَ النِّدَاءُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يَجْتَمِعُ النَّاسُ كُلُّهُمْ فِيهِ أَوْلَى وَأَبْلَغَ فِي الْمُرَادِ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي الْمَعْنَى، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ سَمَّاهُ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْوُقُوفُ كُلُّهُ بِعَرَفَةَ. سَمِعْت أَبَا سَعِيدٍ مُحَمَّدَ بْنَ طَاهِرٍ الشَّهِيدَ يَقُولُ: سَمِعْت الْأُسْتَاذَ أَبَا الْمُظَفَّرِ طَاهِرَ بْنَ مُحَمَّدِ شَاهْ بُورٍ

مسألة قول علي في التأذين

يَقُولُ: إنَّمَا أَرْسَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيًّا بِبَرَاءَةَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّ بَرَاءَةَ تَضَمَّنَتْ نَقْضَ الْعَهْدِ الَّذِي كَانَ عَقَدَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَتْ سِيرَةُ الْعَرَبِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْعَقْدُ إلَّا الَّذِي عَقَدَهُ أَوْ رَجُلٌ مِنْ بَيْتِهِ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقْطَعَ أَلْسِنَةَ الْعَرَبِ بِالْحُجَّةِ، وَأَنْ يُرْسِلَ ابْنَ عَمِّهِ الْهَاشِمِيِّ مِنْ بَيْتِهِ بِنَقْضِ الْعَهْدِ، حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُمْ مُتَكَلِّمٌ. وَهَذَا بَدِيعٌ فِي فَنِّهِ. [مَسْأَلَة قَوْلِ عَلِيٍّ فِي التَّأْذِينِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اُخْتُلِفَ فِي قَوْلِ عَلِيٍّ فِي التَّأْذِينِ: هَلْ كَانَ بِثَلَاثِ آيَاتٍ أَوْ تِسْعٍ إلَى قَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]. أَوْ إلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. وَهَذَا إنَّمَا نَشَأَ مِنْ رِوَايَاتٍ وَرَدَتْ، مِنْهَا قَوْلُهُ: وَلَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ. وَفِيهَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُقَاتِلَ أَهْلَ الْكِتَابِ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ. وَاَلَّذِي يَصِحُّ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ تَأْذَيْنَهُ إنَّمَا كَانَ إلَى قَوْلِهِ: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ إنَّمَا وَرَدَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، أَوْ فِي أَوْقَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ بِأَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ، مِنْهَا مَا قَالَهُ فِي تَأْذِينِهِ، وَمِنْهَا مَا زَادَ عَلَيْهِ. [الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى إلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا] وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4]. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ مَنْ خَاسَ بِعَهْدِهِ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ، فَأَذِنَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ فِي نَقْضِ عَهْدِ مَنْ خَاسَ، وَأَمَرَ بِالْوَفَاءِ لِمَنْ بَقِيَ عَلَى عَهْدِهِ إلَى مُدَّتِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [التوبة: 7]. الْمَعْنَى: كَيْفَ يَبْقَى لَهُمْ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَهُمْ قَدْ نَقَضُوهُ؛ وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ قُرَيْشٌ الَّذِينَ عَاهَدَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ؛ أَمَرَ أَنْ يُتِمَّ لَهُمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ، وَكَانَ قَدْ بَقِيَ لَهُمْ

الآية الخامسة قوله تعالى فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين

مِنْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ؛ وَهَذَا وَهْمٌ؛ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ كَانَ عَهْدُهَا مَنْقُوضًا مِنْهُمْ وَمِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ كَانَ الْفَتْحُ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ كَانَ عَاهَدَ مِنْ الْعَرَبِ كَخُزَاعَةَ وَبَنِي مُدْلِجٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُوَفَّى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ. [الْآيَة الْخَامِسَة قَوْله تَعَالَى فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ] َ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5]. فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} [التوبة: 5]: فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ الْمَعْلُومَةُ: رَجَبٌ الْفَرْدُ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ. الثَّانِي: أَنَّهَا شَوَّالٌ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ إلَى آخِرِ الْمُحَرَّمِ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ. الرَّابِعُ: أَنَّهَا تَمَامُ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ كَانَتْ بَقِيَتْ مِنْ عَهْدِهِمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَاهَدُوا ثُمَّ لَمْ يَنْقُضُوا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ فَسَاقِطٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ نَشْتَغِلَ بِهِ، لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى فَسَادِهِ، وَيَأْتِي تَمَامُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَأَمَّا سَائِرُ الْأَقْوَالِ فَمُحْتَمَلَةٌ، إلَّا أَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَنَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي كَانَ فِيهِ الْأَذَانُ، وَبِهِ وَقَعَ الْإِعْلَامُ، وَعَلَيْهِ تَرَتَّبَ حَلُّ الْعَقْدِ الْمُرْتَبِطِ إلَيْهِ، وَبِنَاءُ الْأَجَلِ الْمُسَمَّى عَلَيْهِ.

مسألة قوله تعالى فاقتلوا المشركين

[مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]: هَذَا اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ مُخْتَصًّا بِكُلِّ كَافِرٍ بِاَللَّهِ، عَابِدٍ لِلْوَثَنِ فِي الْعُرْفِ، وَلَكِنَّهُ عَامٌّ فِي الْحَقِيقَةِ لِكُلِّ مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ، أَمَّا أَنَّهُ بِحُكْمِ قُوَّةِ اللَّفْظِ يَرْجِعُ تَنَاوُلُهُ إلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانَ الْعَهْدُ لَهُمْ وَفِي جِنْسِهِمْ، وَيَبْقَى الْكَلَامُ فِيمَنْ كَفَرَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرُهُمْ، فَيُقْتَلُونَ بِوُجُودِ عِلَّةِ الْقَتْلِ، وَهِيَ الْإِشْرَاكُ فِيهِمْ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الْبَيَانُ بِالنَّصِّ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]: عَامٌّ فِي كُلِّ مُشْرِكٍ لَكِنَّ السُّنَّةَ خَصَّتْ مِنْهُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَبْلَ هَذَا مِنْ امْرَأَةٍ وَصَبِيٍّ، وَرَاهِبٍ، وَحُشْوَةٍ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَبَقِيَ تَحْتَ اللَّفْظِ مَنْ كَانَ مُحَارِبًا أَوْ مُسْتَعِدًّا لِلْحِرَابَةِ وَالْإِذَايَةِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ: اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُحَارِبُونَكُمْ. [مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]: هَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ؛ وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّهُ يَخُصُّ مِنْهَا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بِقَوْلِهِ فِي الْبَقَرَةِ: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 191]. وَقُرِئَ: وَلَا تَقْتُلُوهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَدْ قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ مِنْهُمْ ابْنُ خَطَلٍ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ». وَهَذَا نَصٌّ. قُلْنَا: هَذَا خَبَرٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا كَافِرٌ أَبَدًا، لِأَنَّ الْقِتَالَ إنَّمَا يَكُونُ لِلْكُفَّارِ، فَأَمَّا كَافِرٌ يَأْوِي إلَيْهَا فَلَا تَعْصِمُهُ وَلَا قُرَّةَ عَيْنٍ، وَلَيْسَ فِي قُوَّةِ الْحَدِيثِ وَلَا لَفْظِهِ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ فِيهَا.

مسألة قوله تعالى وخذوهم واحصروهم

[مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: {وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} [التوبة: 5]: دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْإِسَارِ فِيهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ. [مَسْأَلَة جَوَازِ اغْتِيَالِ الْمُشْرِكِينَ قَبْلَ الدَّعْوَةِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5]: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ اغْتِيَالِهِمْ قَبْلَ الدَّعْوَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. [مَسْأَلَة فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [التوبة: 5] الْآيَةَ إلَى: {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} [التوبة: 5] لِمَا تَقَدَّمَ، (رَحِيمٌ) بِخَلْقِهِ فِي إمْهَالِهِمْ ثُمَّ الْمَغْفِرَةُ لَهُمْ. وَهَذَا مُبَيَّنٌ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ». فَانْتَظَمَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَاطَّرَدَا. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [التوبة: 5]: دَلِيلٌ صَحِيحٌ عَلَى مَا كَانَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَعَلَّقَ بِهِ عَلَى أَهْلِ الرِّدَّةِ فِي قَوْلِهِ: لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ الْعِصْمَةَ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، فَتَعَلَّقَ بِهِمَا. [مَسْأَلَة تَرْكِ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَحَصْرِهِمْ وَمَنْعِهِمْ عَنْ التَّصَرُّفِ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْلُهُ: {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]: وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى تَرْكِ قِتَالِهِمْ وَحَصْرِهِمْ وَمَنْعِهِمْ عَنْ التَّصَرُّفِ، وَأَلَّا يَرْصُدَ لَهُمْ غِيلَةً، وَلَا يَقْطَعَ عَلَى أَحَدٍ فَعَلَ ذَلِكَ سَبِيلُهُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَاحْصُرُوهُمْ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى {وَاحْصُرُوهُمْ} [التوبة: 5]: قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: امْنَعُوهُمْ عَنْ التَّصَرُّفِ إلَى بِلَادِكُمْ وَالدُّخُولِ إلَّا لِلْقَلِيلِ إلَيْكُمْ، إلَّا أَنْ تَأْذَنُوا لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَيَدْخُلُوا إلَيْكُمْ بِأَمَانٍ مِنْكُمْ؛ فَإِنَّ الْمَحْبُوسَ تَحْتَ سُلْطَانِ الْإِذْنِ، مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حَبْسٌ وَلَا حَصْرٌ فَإِنَّ ذَلِكَ حَقِيقَتُهُ.

الآية السادسة قوله تعالى وإن أحد من المشركين استجارك فأجره

[الْآيَة السَّادِسَة قَوْله تَعَالَى وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَك فَأَجِرْهُ] ُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} [التوبة: 6]: مَعْنَاهُ سَأَلَ جِوَارَك، أَيْ أَمَانَك وَذِمَامَك فَأَعْطِهِ إيَّاهُ لِيَسْمَعَ الْقُرْآنَ؛ فَإِنْ قَبِلَ أَمْرًا فَحَسَنٌ، وَإِنْ أَبَى فَرُدَّهُ إلَى مَأْمَنِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ: إذَا وُجِدَ الْحَرْبِيُّ فِي طَرِيقِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: جِئْت أَطْلُبُ الْأَمَانَ، فَقَالَ مَالِكٌ: هَذِهِ أُمُورٌ مُشْكِلَةٌ، وَأَرَى أَنْ يُرَدَّ إلَى مَأْمَنِهِ، وَالْآيَةُ إنَّمَا هِيَ فِيمَنْ يُرِيدُ سَمَاعَ الْقُرْآنِ وَالنَّظَرَ فِي الْإِسْلَامِ؛ فَأَمَّا الْإِجَارَةُ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّمَا هِيَ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالنَّظَرُ فِيمَا يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِهِ مَنْفَعَةٌ؛ وَذَلِكَ يَكُونُ مِنْ أَمِيرٍ أَوْ مَأْمُورٍ؛ فَأَمَّا الْأَمِيرُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ إجَارَتَهُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهُ مُقَدَّمٌ لِلنَّظَرِ وَالْمَصْلَحَةِ، نَائِبٌ عَنْ الْجَمِيعِ فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ. وَأَمَّا إنْ كَانَ رَعِيَّةً رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيُرَدُّ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ». وَاَلَّذِي مِنْهُمْ غَيْرُ الْأَمِيرِ، وَهُوَ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ أَوْ امْرَأَةٌ أَوْ صَبِيٌّ، فَأَمَّا الْحُرُّ فَيَمْضِي أَمَانُهُ عِنْدَ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ، إلَّا أَنَّ ابْنَ حَبِيبٍ مِنْ أَصْحَابِنَا قَالَ: يَنْظُرُ الْإِمَامُ فِيهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَازَ جِوَارَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَكَذَلِكَ أَمْضَاهُ عُمَرُ عَلَى النَّاسِ، وَتَوَعَّدَ بِالْقَتْلِ مَنْ رَدَّهُ، فَقَالَ: " لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ لِلْعِلْجِ إذَا اشْتَدَّ فِي الْحَبْلِ مُطَرَّسٌ فَإِذَا سَكَنَ إلَى قَوْلِهِ قَتَلَهُ؛ فَإِنِّي لَا أُوتَى بِأَحَدٍ فَعَلَ ذَلِكَ إلَّا ضَرَبْت عُنُقَهُ ".

مسألة معنى قوله تعالى حتى يسمع كلام الله

وَأَمَّا الْعَبْدُ: فَلَهُ الْأَمَانُ فِي مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا أَمَانَ لَهُ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِعُلَمَائِنَا، وَكَأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَأَى أَنَّ مَنْ لَا يُسْهَمُ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ مِنْ عَبْدٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ صَبِيٍّ لَا أَمَانَ لَهُ، لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ، فَكَيْفَ يَسْقُطُ مَا لَيْسَ لَهُ فِيهِ حَقٌّ. وَعُمْدَةُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ عُمُومَ الْحَدِيثِ يَدْخُلُ فِيهِ الْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ، وَلِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ نَاقَضَ فَقَالَ: إذَا أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي الْقِتَالِ جَازَ أَمَانُهُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُسْلَبَ جَوَازَ الْأَمْنِ مِنْ الْإِذْنِ فِي الْقِتَالِ؛ لِأَنَّهُ صَدَّهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا اسْتَفَادَهُ بِالْإِسْلَامِ وَالْآدَمِيَّةِ. وَأَمَّا الصَّبِيُّ: فَعَدَمُ تَكْلِيفِهِ يُسْقِطُ قَوْلَهُ بِلَا كَلَامٍ، إلَّا أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالَتْ: إذَا أَطَاقَ الْقِتَالَ صَارَ فِي جُمْلَةِ الْجَيْشِ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ دَلِيلُ ذَلِكَ؛ وَجَازَ أَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُقَاتِلَةِ، وَدَخَلَ فِي الْفِئَةِ الْحَامِيَةِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]: مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ يَسْمَعُ الْقُرْآنَ إلَّا وَهُوَ سَامِعٌ لِكَلَامِ اللَّهِ، لَكِنْ بِوَاسِطَةِ اللُّغَاتِ وَبِدَلَالَةِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ، وَكَذَلِكَ يَسْمَعُ كَلَامَ اللَّهِ كُلُّ غَائِبٍ، لَكِنَّ الْقُدُّوسَ لَا مِثْلَ لَهُ وَلَا لِكَلَامِهِ. وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُكَرِّمَ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ أَسْمَعَهُ كَلَامَهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، كَمَا فَعَلَ بِمُوسَى وَمُحَمَّدٍ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَيْسَ يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] مُجَرَّدَ الْإِصْغَاءِ، فَيَحْصُلَ الْعِلْمُ لَهُ بِظَاهِرِ الْقَوْلِ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ فَهْمَ الْمَقْصُودِ مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى النُّبُوَّةِ، وَفَهْمِ الْمَقْصُودِ بِهِ مِنْ التَّكْلِيفِ، وَلَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَى الْعَرَبِ وَجْهُ الْإِعْجَازِ فِيهِ، وَطَرِيقُ الدَّلَالَةُ عَلَى النُّبُوَّةِ، لِكَوْنِهِ خَارِجًا عَنْ أَسَالِيبِ فَصَاحَةِ الْعَرَبِ فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ، وَالْخُطَبِ وَالْأَرَاجِيزِ، وَالسَّجْعِ وَالْأَمْثَالِ، وَأَنْوَاعِ فَصْلِ الْخِطَابِ؛ فَإِنْ خَلَقَ اللَّهُ لَهُ الْعِلْمَ بِذَلِكَ، وَالْقَبُولَ لَهُ صَارَ مِنْ جُمْلَة الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ صُدَّ بِالطَّبْعِ، وَمُنِعَ بِالْخَتْمِ، وَحَقَّ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ الْقَوْلُ رُدَّ إلَى مَأْمَنِهِ.

مسألة معنى قوله تعالى ذلك بأنهم قوم لا يعلمون

[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6]: نَفَى اللَّهُ عَنْهُمْ الْعِلْمَ؛ لِنَفْيِ فَائِدَتِهِ مِنْ الِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِبْصَارِ، وَقَدْ يَنْتَفِي الشَّيْءُ بِانْتِفَاءِ فَائِدَتِهِ؛ إذْ الشَّيْءُ إنَّمَا يُرَادُ لِمَقْصُودِهِ، فَإِذَا عَدِمَ الْمَقْصُودَ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ؛ فَأَمَرَ اللَّهُ بِالرِّفْقِ بِهِمْ، وَالْإِمْهَالِ لَهُمْ، حَتَّى يَقَعَ الِاعْتِبَارُ أَنْ مَنَّ اللَّهُ بِالْهُدَى وَالِاسْتِبْصَارِ. [الْآيَة السَّابِعَة قَوْله تَعَالَى وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ] ْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [التوبة: 12]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى {وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ} [التوبة: 12]: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الطَّاعِنَ فِي الدِّينِ كَافِرٌ، وَهُوَ الَّذِي يَنْسِبُ إلَيْهِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، أَوْ يَعْتَرِضُ بِالِاسْتِخْفَافِ عَلَى مَا هُوَ مِنْ الدِّينِ؛ لِمَا ثَبَتَ مِنْ الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ عَلَى صِحَّةِ أُصُولِهِ وَاسْتِقَامَةِ فُرُوعِهِ. [مَسْأَلَة إذَا طَعَنَ الذِّمِّيُّ فِي الدِّينِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إذَا طَعَنَ الذِّمِّيُّ فِي الدِّينِ انْتَقَضَ عَهْدُهُ لِقَوْلِهِ: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} [التوبة: 12] إلَى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 12] فَأَمَرَ اللَّهُ بِقَتْلِهِمْ وَقِتَالِهِمْ إذَا طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا أُمِرْنَا بِقِتَالِهِمْ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَكْثُهُمْ لِلْعَهْدِ. وَالثَّانِي: طَعْنُهُمْ فِي الدِّينِ. قُلْنَا: الطَّعْنُ فِي الدِّينِ نَكْثٌ لِلْعَهْدِ، بَلْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: إنْ عَمِلُوا مَا يُخَالِفُ الْعَهْدَ انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ. فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رُفِعَ إلَيْهِ أَنَّ ذِمِّيًّا نَخَسَ دَابَّةً عَلَيْهَا امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ، فَرَمَحَتْ، فَأَسْقَطَتْهَا، فَانْكَشَفَ بَعْضُ عَوْرَتِهَا، فَأَمَرَ بِصَلْبِهِ فِي الْمَوْضِعِ

الآية الثامنة قوله تعالى إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله

وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إذَا حَارَبَ الذِّمِّيُّ نُقِضَ عَهْدُهُ، وَكَانَ [مَالُهُ وَوَلَدُهُ] فَيْئًا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: وَلَا يُؤْخَذُ وَلَدُهُ؛ لِأَنَّهُ نَقَضَ وَحْدَهُ. وَقَالَ: أَمَّا مَالُهُ فَيُؤْخَذُ. وَهَذَا تَعَارُضٌ لَا يُشْبِهُ مَنْصِبَ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ عَهْدَهُ هُوَ الَّذِي حَمَى وَلَده وَمَالَهُ، فَإِذَا ذَهَبَ عَنْهُ ذَهَبَ عَنْ وَلَدِهِ وَمَالِهِ. وَقَالَ أَشْهَبُ: إذَا نَقَضَ الذِّمِّيُّ الْعَهْدَ فَهُوَ عَلَى عَهْدِهِ، وَلَا يَعُودُ الْحُرُّ فِي الرِّقِّ أَبَدًا. وَهَذَا مِنْ الْعَجَبِ، وَكَأَنَّهُ رَأَى الْعَهْدَ مَعْنًى مَحْسُوسًا، وَإِنَّمَا الْعَهْدُ حُكْمٌ اقْتَضَاهُ النَّظَرُ، وَالْتَزَمَهُ الْمُسْلِمُونَ، فَإِذَا نَقَضَهُ انْتَقَضَ كَسَائِرِ الْعُقُودِ مِنْ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ، فَإِنَّهَا تُعْقَدُ؛ فَتُرَتَّبُ عَلَيْهَا الْأَحْكَامُ؛ فَإِذَا نُقِضَتْ وَنُسِخَتْ ذَهَبَتْ تِلْكَ الْأَحْكَامُ. [الْآيَة الثَّامِنَة قَوْله تَعَالَى إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ] ِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18] فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ لَعُمَّار الْمَسَاجِدِ بِالْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ رَبَطَهَا بِهَا، وَأَخْبَرَ عَنْهَا بِمُلَازَمَتِهَا، وَالنَّفْسُ تُطَمْئِنُ بِهَا وَتَسْكُنُ إلَيْهَا، وَهَذَا فِي ظَاهِرِ الصَّلَاحِ لَيْسَ فِي مَقَاطِعِ الشَّهَادَاتِ، فَلَهَا وُجُوهٌ، وَلِلْعَارِفِينَ بِهَا أَحْوَالٌ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ كُلُّ أَحَدٍ بِمِقْدَارِ حَالِهِ وَعَلَى مُقْتَضَى صِفَتِهِ؛ فَمِنْهُمْ الذَّكِيُّ الْفَطِنُ الْمُحَصِّلُ لِمَا يَعْلَمُ اعْتِقَادًا وَإِخْبَارًا، وَمِنْهُمْ الْمُغَفَّلُ؛ فَكُلُّ أَحَدٍ يَنْزِلُ عَلَى مَنْزِلَتِهِ وَيَقْدِرُ عَلَى صِفَتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى بَعْضُهُمْ أَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا قُصِدَ بِهَا قُرَيْشٌ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْخَرُونَ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ

الآية التاسعة قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء

بِأَنَّهُمْ سُكَّانُ مَكَّةَ وَعُمَّارُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَيَرَوْنَ بِذَلِكَ فَضْلًا لَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَنَفَى اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ شَرْعًا وَفَضِيلَةً، لَا حِسًّا وَوُجُودًا، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْعِمَارَةَ لِبَيْتِ اللَّهِ لَا تَكُونُ بِالْكُفْرِ بِهِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ بِالْإِيمَانِ وَالْعِبَادَةِ وَأَدَاءِ الطَّاعَةِ؛ سَمِعْت الشَّيْخَ الْإِمَامَ فَخْرَ الْإِسْلَامِ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ الشَّاشِيَّ يَقُولُ: كَانَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ يُسَمِّي الشَّيْخَ الْإِمَامَ أَبَا إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيَّ إمَامَ الشَّافِعِيَّةِ وَشَيْخَ الصُّوفِيَّةِ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ حَمَامَةَ الْمَسْجِدِ؛ لِمُلَازِمَتِهِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجْعَلُ لِنَفْسِهِ بَيْتًا سِوَاهُ يُلَازِمُ الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبَ، وَيُوَاظِبُ الْقِرَاءَةَ وَالتَّدْرِيسَ حَتَّى صَارَ إمَامَ الطَّرِيقَتَيْنِ: الْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ. [الْآيَة التَّاسِعَة قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ] َ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة: 23] فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: نَفَى اللَّهُ الْمُوَالَاةَ بِالْكُفْرِ بَيْنَ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ خَاصَّةً، وَلَا قُرْبَى أَقْرَبُ مِنْهَا، كَمَا نَفَاهَا بَيْنَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51]؛ لَيُبَيِّنَ أَنَّ الْقُرْبَ قُرْبُ الْأَدْيَانِ لَا قُرْبُ الدِّيَارِ وَالْأَبَدَانِ، وَمِثْلُهُ تُنْشِدُ الصُّوفِيَّةُ: يَقُولُونَ لِي دَارُ الْأَحِبَّةِ قَدْ دَنَتْ ... وَأَنْتَ كَئِيبٌ إنَّ ذَا لَعَجِيبُ فَقُلْت وَمَا تُغْنِي دِيَارٌ قَرِيبَةٌ ... إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْقُلُوبِ قَرِيبُ [مَسْأَلَة الْإِحْسَانُ بِالْهِبَةِ وَالصِّلَةِ مُسْتَثْنَى مِنْ الْوِلَايَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِحْسَانُ بِالْهِبَةِ وَالصِّلَةِ مُسْتَثْنَى مِنْ الْوِلَايَةِ: لِحَدِيثِ أَسْمَاءَ؛ قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ رَاغِبَةً، وَهِيَ مُشْرِكَةٌ

مسألة معنى قوله تعالى ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون

أَفَأَصِلُهَا؟ قَالَ: صِلِي أُمَّكِ». وَتَمَامُهُ يَأْتِي فِي قَوْلِهِ: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 8] الْآيَةَ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة: 23]: تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] إمَّا بِالْمَآلِ وَسُوءِ الْعَاقِبَةِ، وَإِمَّا بِالْأَحْكَامِ فِي الْعَاجِلَةِ، وَذَلِكَ ظُلْمٌ أَيْ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِيهِ بِاخْتِلَافِ الْمَوْضِعِ الْمَوْضُوعِ فِيهِ كُفْرًا وَإِيمَانًا. [الْآيَة الْعَاشِرَة قَوْله تَعَالَى قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ] ْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24] فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا} [التوبة: 24]: هَذَا بَيَانُ فَضْلِ الْجِهَادِ، وَإِشَارَةٌ إلَى رَاحَةِ النَّفْسِ وَعَلَاقَتِهَا بِالْأَهْلِ وَالْمَالِ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي بَيَانِ حَالِ مَنْ تَرَكَ الْهِجْرَةَ، وَآثَرَ الْبَقَاءَ مَعَ الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ ثَلَاثَةَ مَقَاعِدَ: قَعَدَ لَهُ فِي طَرِيقِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: أَتَذَرُ دِينَك وَدِينَ آبَائِك وَتُسْلِمَ. فَخَالَفَهُ وَأَسْلَمَ. وَقَعَدَ لَهُ فِي طَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ لَهُ: أَتَذَرُ أَهْلَك وَمَالَك فَتُهَاجِرَ، فَخَالَفَهُ ثُمَّ هَاجَرَ. وَقَعَدَ لَهُ فِي طَرِيقِ

الآية الحادية عشرة قوله تعالى لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين

الْجِهَادِ، فَقَالَ لَهُ: تُجَاهِدُ فَتُقْتَلُ، وَتُنْكَحُ أَهْلُك، وَيُقْسَمُ مَالُك، فَخَالَفَهُ فَجَاهَدَ فَقَتَلَ. فَحَقَّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ». الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْعَشِيرَةُ: الْجَمَاعَةُ الَّتِي تَبْلُغُ عِقْدَ الْعَشَرَةِ، فَمَا زَادَ. وَمِنْهُ الْمُعَاشَرَةُ، وَهِيَ الِاجْتِمَاعُ عَلَى الْأَمْرِ بِالْعَزْمِ الْكَثِيرِ. وَقَوْلُهُ: {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا} [التوبة: 24] أَيْ اقْتَطَعْتُمُوهَا مِنْ غَيْرِهَا وَالْكَسَادُ: نُقْصَانُ الْقِيمَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «غَزَا نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ: لَا يَتْبَعُنِي رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا، أَوْ بَنَى دَارًا وَلَمْ يَسْكُنْهَا.» الْحَدِيثَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24]: قَوْلُهُ: فَتَرَبَّصُوا صِيغَتُهُ الْأَمْرُ، وَمَعْنَاهُ التَّهْدِيدُ، وَأَمْرُ اللَّهِ الَّذِي يَأْتِي فَتْحُ مَكَّةَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَعْنَى الْآيَةِ الْهِجْرَةُ، وَيَكُونُ أَمْرُ اللَّهِ عُقُوبَتَهُ الَّتِي تُنْزِلُ بِهِمْ الذُّلَّ وَالْخِزْيَ، حَتَّى يَغْزُوَهُمْ الْعَدُوُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ، وَيَسْلُبَهُمْ أَمْوَالَهُمْ. [الْآيَة الْحَادِيَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ] ٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25] فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ قَالَ مَالِكٌ: «لَمَّا انْهَزَمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ حُنَيْنٍ قَبَضَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ امْرَأَةُ أَبِي طَلْحَةَ عَلَى عِنَانِ بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ مُرْ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ انْهَزَمُوا فَنَضْرِبَ رِقَابَهُمْ. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَوَخَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ؟ فَقِيلَ لَهُ: أَوَقَسَمَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِمَنْ خَرَجَ يُدَاوِي الْجَرْحَى؟ فَقَالَ: مَا عَلِمْت أَنَّهُ أَسْهَمَ لِامْرَأَةٍ فِي مَغَازِيهِ». قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: وَكَانَتْ حُنَيْنٌ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: قَالَ لَنَا مَالِكٌ: حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِصَفْوَانَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: وَاَللَّهِ لَا نَرْتَدُّ أَبَدًا. فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ: وَاَللَّهِ لَرَبٌّ مِنْ قُرَيْشٍ خَيْرٌ مِنْ رَبٍّ مِنْ هَوَازِنَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَعْطَى صَفْوَانَ مَثْنَى مِئِينَ أَوْ ثَلَاثَ. وَقَالَ صَفْوَانُ: لَقَدْ حَضَرْت حُنَيْنًا وَمَا أَحَدٌ مِنْ الْخَلْقِ أَبْغَضُ إلَيَّ مِنْهُ، فَمَا زَالَ يُعْطِينِي حَتَّى مَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ الْخَلْقِ مِنْهُ. وَكَانَ صَفْوَانُ مِنْ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبِهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَابْنُ وَهْبٍ: سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ صَفْوَانَ حِينَ أَعْطَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَعْطَاهُ أَكَانَ مُسْلِمًا أَوْ مُشْرِكًا؟ قَالَ: مَا سَمِعْت شَيْئًا، وَمَا أَرَاهُ كَانَ إلَّا مُشْرِكًا. وَلَقَدْ قَالَ: رَبٌّ مِنْ قُرَيْشٍ خَيْرٌ مِنْ رَبٍّ مِنْ هَوَازِنَ وَمَا هَذَا بِكَلَامِ مُسْلِمٍ. وَكَانَ مِنْ أَشَدِّهِمْ قَوْلًا حِينَ قَالَ صَفْوَانُ: لَقَدْ أَكْرَمَ اللَّهُ أُمَيَّةَ إذْ لَمْ يَرَ هَذَا الْأَسْوَدَ فَوْقَ الْكَعْبَةِ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: كَانَ شِعَارُهُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ، يَا أَصْحَابَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. قَالَ مَالِكٌ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَمَ وَجْهَهُ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ بِالسُّقْيَا جَاءَهُ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَكَانَ شَاعِرًا، فَأَنْشُدهُ شِعْرَهُ لِيَعْلَم مَا عِنْدَهُ وَيَنْظُرَ مَا فِي نَفْسِهِ، فَأَنْشَدَهُ:

قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلَّ إرْبٍ ... وَخَيْبَرَ ثُمَّ أَجَمَمْنَا السُّيُوفَا نُسَائِلُهَا وَلَوْ نَطَقَتْ لَقَالَتْ ... قَوَاطِعُهُنَّ دَوْسًا أَوْ ثَقِيفَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَالْقَصِيدَةُ مَشْهُورَةٌ، وَتَمَامُهَا: فَلَسْت لِحَاضِنٍ إنْ لَمْ تَرَوْهَا ... بِسَاحَةِ دَارِكُمْ مِنَّا أَلُوفَا وَتُنْتَزَعُ الْعُرُوشُ بِبَطْنِ وَجٍّ ... وَتُصْبِحُ دَارُكُمْ مِنَّا خُلُوفَا وَتَأْتِيكُمْ لَنَا سَرْعَانُ خَيْلٍ ... يُغَادِرُ خَلْفَهُ جَمْعًا كَثِيفَا إذَا نَزَلُوا بِسَاحَتِكُمْ سَمِعْتُمْ ... لَهَا مِمَّا أَنَاخَ بِهَا رَجِيفَا بِأَيْدِيهِمْ قَوَاضِبُ مُرْهَفَاتٌ ... يَزُرْنَ الْمُصْطَلَيْنَ بِهَا الْحُتُوفَا كَأَمْثَالِ الْعَقَائِقِ أَخْلَصَتْهَا ... قُيُونُ الْهِنْدِ لَمْ تُضْرَبْ كَتِيفَا تَخَالُ جَدِيَّةُ الْأَبْطَالِ فِيهَا ... غَدَاةَ الزَّحْفِ جَادِيًا مَدُوفَا أَجَدُّهُمْ أَلَيْسَ لَهُمْ نَصِيحٌ ... مِنْ الْأَقْوَامِ كَانَ بِنَا عَرِيفَا فَخَبِّرْهُمْ بِأَنَّا قَدْ جَمَعْنَا ... عِتَاقَ الْخَيْلِ وَالنُّجْبَ الطُّرُوفَا وَأَنَّا قَدْ أَتَيْنَاهُمْ بِزَحْفٍ ... يُحِيطُ بِسُورِ حِصْنِهِمْ صُفُوفَا رَئِيسُهُمْ النَّبِيُّ وَكَانَ صَلْبًا ... نَقِيَّ الثَّوْبِ مُصْطَبِرًا عَزُوفَا رَشِيدَ الْأَمْرِ ذَا حُكْمٍ وَعِلْمٍ ... وَحِلْمٍ لَمْ يَكُنْ نَزِقًا خَفِيفَا نُطِيعُ نَبِيَّنَا وَنُطِيعُ رَبًّا ... هُوَ الرَّحْمَنُ كَانَ بِنَا لَطِيفَا فَإِنْ يُلْقُوا إلَيْنَا السَّلْمَ نَقْبَلْ ... وَنَجْعَلْكُمْ لَنَا عَضُدًا وَرِيفَا وَإِنْ تَأْبَوْا نُجَاهِدْكُمْ وَنَصْبِرْ ... وَلَا يَكُ أَمْرُنَا رَعْشًا ضَعِيفَا نُجَالِدُ مَا بَقِينَا أَوْ تُنِيبُوا ... إلَى الْإِسْلَامِ إذْعَانًا مَضِيفَا نُجَاهِدُ لَا نُبَالِي مَا لَقِينَا ... أَأَهْلَكْنَا التِّلَادَ أَمْ الطَّرِيفَا وَكَمْ مِنْ مَعْشَرٍ أَلَبُوا عَلَيْنَا ... صَمِيمَ الْجِذْمِ مِنْهُمْ وَالْحَلِيفَا أَتَوْنَا لَا يَرَوْنَ لَهُمْ كِفَاءً ... فَجَدَّعْنَا الْمَسَامِعَ وَالْأُنُوفَا بِكُلِّ مُهَنَّدٍ لَيِّنٍ صَقِيلٍ ... نَسُوقُهُمْ بِهِ سَوْقًا عَنِيفَا لِأَمْرِ اللَّهِ وَالْإِسْلَامِ حَتَّى ... يَقُومَ الدِّينُ مُعْتَدِلًا حَنِيفَا وَنُنْسِي اللَّاتِي وَالْعُزَّى وَوُدَّ ... وَنَسْلُبُهَا الْقَلَائِدَ وَالشُّنُوفَا فَأَمْسَوْا قَدْ أَقَرُّوا وَاطْمَأَنُّوا ... وَمَنْ لَا يَمْتَنِعْ يُقْتَلْ خُسُوفَا

مسألة من قتل قتيلا لم يكن له سلبه إلا بإذن الإمام

فَأَجَابَهُ كِنَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَالِيلِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ، فَقَالَ: مَنْ كَانَ يَبْغِينَا يُرِيدُ قِتَالَنَا ... فَإِنَّا بِدَارِ مَعْلَمٍ لَا نَرِيمُهَا وَجَدْنَا بِهَا الْآبَاءَ مِنْ قَبْلِ مَا ... نَرَى وَكَانَتْ لَنَا أَطْوَاؤُهَا وَكُرُومُهَا وَقَدْ جَرَّبَتْنَا قَبْلَ عَمْرِو بْنِ ... عَامِرٍ فَأَخْبَرَهَا ذُو رَأْيِهَا وَحَلِيمُهَا وَقَدْ عَلِمَتْ أَنْ قَالَتْ الْحَقَّ أَنَّنَا ... إذَا مَا أَبَتْ صُعْرُ الْخُدُودِ نُقِيمُهَا نُقَوِّمُهَا حَتَّى يَلِينَ شَرِيسُهَا ... وَيُعْرَفَ لِلْحَقِّ الْمُبِينِ ظَلُومُهَا عَلَيْنَا دِلَاصٌ مِنْ تُرَاثٍ مُحَرَّقٍ ... كَلَوْنِ السَّمَاءِ زِينَتُهَا نُجُومُهَا نُرَفِّعُهَا عَنَّا بِبِيضٍ صَوَارِمَ ... إذَا جُرِّرَتْ فِي غَمْرَةٍ لَا نَشِيمُهَا قَالُوا: فَلَمَّا سَمِعَتْ دَوْسٌ بِأَبْيَاتِ كَعْبٍ هَذِهِ بَادَرَتْ بِإِسْلَامِهَا. [مَسْأَلَة مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ سَلْبُهُ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَصْحَابُ مَالِكٍ: قَالَ مَالِكٌ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ سَلْبُهُ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الْإِمَامِ إلَّا عَلَى وَجْهِ الِاجْتِهَادِ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَلَ فِي مَغَازِيهِ كُلِّهَا. وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّهُ نَفَلَ فِي بَعْضِهَا يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلْبُهُ، إلَّا يَوْمَ حُنَيْنٍ». وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ نَفْلَ الْأَسْلَابِ وَغَيْرَ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْخُمُسِ، لَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْخُمُسَ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى لِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ بِرَأْيِ الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

الآية الثانية عشرة قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس

[الْآيَة الثَّانِيَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ] ٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 28]. فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقْدَمُونَ لِلتِّجَارَةِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] الْآيَةَ. رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَرَوَى غَيْرُهُ أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِإِخْرَاجِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ مَكَّةَ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالُوا: كَيْفَ بِمَا نُصِيبُ مِنْهُمْ فِي التِّجَارَةِ فِي الْمِيرَةِ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29]. فَأَغْنَاهُمْ اللَّهُ بِالْجِزْيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: «لَمَّا نَزَلَتْ الْآيَةُ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيٍّ: نَادِ فِي أَذَانِك أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ». وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ التِّلَاوَةُ بَعْدَ الْأَذَانِ؛ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَحُجَّ فِي الْعَامِ الثَّانِي كَرَّمَهُ اللَّهُ وَكَرَّمَ دِينَهُ عَنْ أَنْ يُخَالِطَهُمْ مُشْرِكٌ. وَقِيلَ: إذَا امْتَنَعَ دُخُولُ الْمُشْرِكِينَ مَكَّةَ لِعِزَّةِ الْإِسْلَامِ، فَلِمَ يَبْقَى النَّاسُ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ؟ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]: اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ النَّجَاسَةَ لَيْسَتْ بِعَيْنٍ حِسِّيَّةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، أَمَرَ اللَّهَ بِإِبْعَادِهَا، كَمَا أَمَرَ بِإِبْعَادِ الْبَدَنِ عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْحَدَثِ، وَكِلَاهُمَا أَمْرٌ شَرْعِيٌّ لَيْسَ بِعَيْنٍ حِسِّيَّةٍ.

مسألة هل يجوز للكافر دخول المسجد بإذن المسلم

وَقَدْ ذَهِلَتْ الْحَنَفِيَّةُ عَنْ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ؛ فَظَنُّوا أَنَّ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ أَمْرٌ حِسِّيٌّ، تَعُمُّ زَوَالَ الْعَيْنِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَهُوَ إذَا ظَهَرَتْ، حِسِّيٌّ. وَكَوْنُهَا بِعَيْنِهَا نَجِسَةً حُكْمِيٌّ، وَبَقَاءُ الْمَحِلِّ نَجَسًا بَعْدَ زَوَالِ عَيْنِهَا حُكْمِيٌّ. وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [مَسْأَلَة هَلْ يَجُوز لَلْكَافِرَ دُخُولُ الْمَسْجِدِ بِإِذْنِ الْمُسْلِمِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَقْرَبُونَ مَسْجِدًا سِوَاهُ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ وَهِيَ النَّجَاسَةُ مَوْجُودَةٌ فِيهِمْ، وَالْحُرْمَةُ مَوْجُودَةٌ فِي الْمَسْجِدِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا كَثِيرًا؛ فَرَأَى الشَّافِعِيُّ أَنَّ هَذَا مَخْصُوصٌ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَا يَتَعَدَّاهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمَسَاجِدِ. وَهَذَا جُمُودٌ مِنْهُ عَلَى الظَّاهِرِ الَّذِي يُسْقِطُ هَذَا الظَّاهِرَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَقُلْ: لَا يَقْرَبُ هَؤُلَاءِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ مَقْصُورًا عَلَيْهِمْ وَلَوْ قَالَ: لَا يَقْرَبْ الْمُشْرِكُونَ وَالْأَنْجَاسُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ لَكَانَ تَنْبِيهًا عَلَى التَّعْلِيلِ بِالشِّرْكِ أَوْ النَّجَاسَةِ، أَوْ الْعِلَّتَيْنِ جَمِيعًا، بَلْ أَكَّدَ الْحَالُ بَيَانَ الْعِلَّةِ وَكَشَفَهَا، فَقَالَ: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: 28]: يُرِيدُ وَلَا بُدَّ لِنَجَاسَتِهِمْ، فَتَعَدَّتْ الْعِلَّةُ إلَى كُلِّ مَوْضِعٍ مُحْتَرَمٍ بِالْمَسْجِدِيَّةِ. وَمِمَّا قَالَهُ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ أَنَّ الْكَافِرَ يَجُوزُ لَهُ دُخُولُ الْمَسْجِدِ بِإِذْنِ الْمُسْلِمِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَبَطَ ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ مُشْرِكٌ». قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ ، لَكِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ كَانَ عَلِمَ إسْلَامَهُ، وَهَذَا وَإِنْ سَلَّمْنَاهُ فَلَا يَضُرُّنَا؛ لِأَنَّ عِلْمَ النَّبِيِّ بِإِسْلَامِهِ فِي الْمَآلِ لَا يُحْكَمُ لَهُ بِهِ فِي الْحَالِ. ، وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: الْعُمُومُ بِمَنْعِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ قُرْبَانِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَخْصُوصٌ فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ. وَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ، وَسَنَدٌ ضَعِيفٌ لَا يُخَصُّ بِمِثْلِهِ الْعُمُومَاتُ الْمُطْلَقَةُ، فَكَيْفَ الْمُعَلَّلَةُ بِالْعِلَّةِ الْعَامَّةِ الْمُتَنَاوِلَةِ لِجَمِيعِهَا، وَهِيَ الشِّرْكُ؟

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: هَذَا الْقَوْلُ وَالْحُكْمُ إنَّمَا هُوَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. فَأَمَّا مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ فَلَا يَزِيدُ فَضْلًا عَلَى غَيْرِهِ؛ إذْ قَدْ دَخَلَ أَبُو سُفْيَانَ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُشْرِكٌ عِنْدَ إقْبَالِهِ لِتَجْدِيدِ الْعَهْدِ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ حِينَ خَشِيَ نَقْضَ الصُّلْحِ بِمَا أَحْدَثَهُ بَنُو بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَلَوْ صَحَّ فَإِنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ ظَاهِرٌ، وَذَلِكَ أَنَّ دُخُولَ ثُمَامَةَ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَدُخُولَ أَبِي سُفْيَانَ فِيهِ عَلَى الْحَدِيثِ الْآخَرِ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]؛ فَمَنَعَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ نَصًّا، وَمَنَعَ مِنْ دُخُولِ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ تَعْلِيلًا بِالنَّجَاسَةِ، وَلِوُجُوبِ صِيَانَةِ الْمَسْجِدِ عَنْ كُلِّ نَجَسٍ. وَهَذَا كُلُّهُ ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَدْخُلُ الْكَافِرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بِحَالٍ، وَيَدْخُلُ غَيْرَهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ لِلْحَاجَةِ، كَمَا دَخَلَ ثُمَامَةُ وَأَبُو سُفْيَانَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ لِحَاجَةٍ أَوْ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَهَذَا كُلُّهُ ضَعِيفٌ خَطَأٌ، أَمَّا دُخُولُهُ لِلْحَاجَةِ فَقَدْ أَفْسَدْنَاهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا دُخُولُهُمْ كَذَلِكَ مُطْلَقًا فَهُوَ أَبْعَدُ مِنْ تَعْلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَتَدْقِيقِهِ. وَلَقَدْ كُنْت أَرَى بِدِمَشْقَ عَجَبًا، كَانَ لِجَامِعِهَا بَابَانِ: بَابٌ شَرْقِيٌّ وَهُوَ بَابُ جَيْرُونَ، وَبَابٌ غَرْبِيٌّ، وَكَانَ النَّاسُ يَجْعَلُونَهُ طَرِيقًا يَمْشُونَ عَلَيْهَا نَهَارَهُمْ كُلَّهُ فِي حَوَائِجِهِمْ، وَكَانَ الذِّمِّيُّ إذَا أَرَادَ الْمُرُورَ وَقَفَ عَلَى الْبَابِ حَتَّى يَمُرَّ بِهِ مُسْلِمٌ، مُجْتَازٌ،

مسألة قوله تعالى بعد عامهم هذا

فَيَقُولَ لَهُ الذِّمِّيُّ: يَا مُسْلِمُ، أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَمُرَّ مَعَكَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَدْخُلُ مَعَهُ، وَعَلَيْهِ الْغِيَارُ عَلَامَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَإِذَا رَآهُ الْقَيِّمُ صَاحَ بِهِ: ارْجِعْ، ارْجِعْ، فَيَقُولُ لَهُ الْمُسْلِمُ: أَنَا أَذِنْت لَهُ فَيَتْرُكُهُ الْقَيِّمُ. [مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سَنَةُ تِسْعٍ الَّتِي حَجَّ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ سَنَةُ عَشْرٍ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي يُعْطِيهِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ. وَإِنَّ مِنْ الْعَجَبِ أَنْ يُقَالَ [إنَّهُ] سَنَةُ تِسْعٍ، وَهُوَ الْعَامُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْأَذَانُ وَلَوْ دَخَلَ غُلَامُ رَجُلٍ دَارِهِ يَوْمًا، فَقَالَ لَهُ مَوْلَاهُ: لَا تَدْخُلْ هَذِهِ الدَّارَ بَعْدَ يَوْمِك هَذَا لَكَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْيَوْمَ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ. فَالصَّحِيحُ أَنَّ النَّهْيَ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ، وَأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ النِّدَاءُ، وَلَوْ تَنَاصَفَ النَّاسُ فِي الْحَقِّ، وَأَمْسَكَ كُلُّ أَحَدٍ عَمَّا لَا يَعْلَمُ مَا وَقَعَ مِثْلُ هَذَا النِّزَاعُ. [مَسْأَلَة تَعَلُّقَ الْقَلْبِ بِالْأَسْبَابِ فِي الرِّزْقِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 28]: الْمَعْنَى: إنْ خِفْتُمْ الْفَقْرَ بِانْقِطَاعِ مَادَّةِ الْمُشْرِكِينَ عَنْكُمْ بِالتِّجَارَةِ الَّتِي كَانُوا يَجْلِبُونَهَا فَإِنَّ اللَّهَ يُعَوِّضُ عَنْهَا؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَعَلُّقَ الْقَلْبِ بِالْأَسْبَابِ فِي الرِّزْقِ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ الرِّزْقُ مَقْدُورًا، وَأَمْرُ اللَّهِ وَقَسْمُهُ لَهُ مَفْعُولًا، وَلَكِنَّهُ عَلَّقَهُ بِالْأَسْبَابِ حِكْمَةً؛ لِتَعْلَمَ الْقُلُوبُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْأَسْبَابِ مِنْ الْقُلُوبِ الَّتِي تَتَوَكَّلُ عَلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ، وَلَيْسَ يُنَافِي النَّظَرَ إلَى السَّبَبِ التَّوَكُّلُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُسَخَّرٌ مَقْدُورٌ؛ وَإِنَّمَا يُضَادُّ التَّوَكُّلَ النَّظَرُ إلَيْهِ بِذَاتِهِ، وَالْغَفْلَةُ عَنْ الَّذِي سَخَّرَهُ فِي أَرْضِهِ وَسَمَاوَاتِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا».

مسألة معنى قوله تعالى من فضله

فَأَخْبَرَ أَنَّ التَّوَكُّلَ الْحَقِيقِيَّ لَا يُضَادُّهُ الْغُدُوُّ وَالرَّوَاحُ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، لَكِنَّ شُيُوخَ الصُّوفِيَّةِ قَالُوا: إنَّمَا تَغْدُو وَتَرُوحُ فِي الطَّاعَةِ، فَهُوَ السَّبَبُ الَّذِي يَجْلِبُ الرِّزْقَ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: قَوْلُهُ: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ} [طه: 132]. وَالثَّانِي قَوْلُهُ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] فَلَيْسَ يَنْزِلُ الرِّزْقُ مِنْ مَحِلِّهِ وَهُوَ السَّمَاءُ إلَّا مَا يَصْعَدُ إلَيْهَا وَهُوَ الذِّكْرُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَلَيْسَ بِالسَّعْيِ فِي جِهَاتِ الْأَرْضِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا رِزْقٌ. وَالصَّحِيحُ مَا أَحْكَمَتْهُ السُّنَّةُ عِنْدَ فُقَهَاءِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ الْحَرْثِ وَالتِّجَارَةِ وَالْغِرَاسَةِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ تَعْمَلُهُ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ مِنْ التِّجَارَةِ فِي الْأَسْوَاقِ، وَالْعِمَارَةِ لِلْأَمْوَالِ، وَغَرْسِ الثِّمَارِ. وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَضْرِبُ عَلَى الْكُفَّارِ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَيَسْتَرْزِقُ مِنْ أَفْضَلِ وُجُوهِ رِزْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ الْأَغْنَامُ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ كُلِّهِ رَاضٍ عَنْهُمْ، وَهَذِهِ كَانَتْ صِفَةَ الْخُلَفَاءِ الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْهُمْ؛ يَسْلُكُونَ هَذِهِ السَّبِيلَ فِي الِاكْتِسَابِ وَالتَّعَلُّقِ بِالْأَسْبَابِ. أَمَا إنَّهُ لَقَدْ كَانَ قَوْمٌ يَقْعُدُونَ بِصُفَّةِ الْمَسْجِدِ مَا يَحْرُثُونَ وَلَا يَتَّجِرُونَ، لَيْسَ لَهُمْ كَسْبٌ وَلَا مَالٌ، إنَّمَا هُمْ أَضْيَافُ الْإِسْلَامِ إذَا جَاءَتْ هَدِيَّةٌ أَكَلَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ صَدَقَةً خَصَّهُمْ بِهَا، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِمُعَابٍ عَلَيْهِمْ، لِإِقْبَالِهِمْ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَمُلَازَمَتِهِمْ لِلذِّكْرِ وَالِاعْتِكَافِ، فَصَارَتْ جَادَّتَيْنِ فِي الدَّيْن وَمَسْلَكَيْنِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَمَنْ آثَرَ مِنْهُمَا وَاحِدًا لَمْ يَخْرُج عَنْ سُنَنِهِ، وَلَا اقْتَحَمَ مَكْرُوهًا. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى مِنْ فَضْلِهِ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ: {مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 28]: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: مِنْ حَيْثُ شَاءَ، وَعَلِمَ؛ لِعُمُومِ فَضْلِهِ، وَسَعَةِ رِزْقِهِ وَرَحْمَتِهِ. الثَّانِي: بِالْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ وَخِصْبِ الْأَرْضِ، فَأَخْصَبَ تَبَالَةُ وَجُرَشُ، فَحَمَلُوا إلَى مَكَّةَ الطَّعَامَ وَالْوَدَكَ، وَأَسْلَمَ أَهْلُ نَجْدٍ وَصَنْعَاءَ. الثَّالِثُ: بِالْجِزْيَةِ.

مسألة الرزق ليس بالاجتهاد

وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي يَحْتَمِلُهَا اللَّفْظُ وَيُرَادُ بِهِ جَمِيعُهَا، وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يُرِيدَ بِهِ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ عَنْ الْكُفَّارِ فِيمَا يَجْلِبُونَ مِنْ التِّجَارَةِ وَالرِّزْقِ إلَيْكُمْ بِجَلْبِكُمْ أَنْتُمْ لَهَا وَاسْتِغْنَائِكُمْ عَنْهَا بِأَنْفُسِكُمْ فِي كُلِّ وَجْهٍ. [مَسْأَلَة الرِّزْقَ لَيْسَ بِالِاجْتِهَادِ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْلُهُ: {إِنْ شَاءَ} [التوبة: 28]: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لِيَعْلَمَ الْخَلْقُ أَنَّ الرِّزْقَ لَيْسَ بِالِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا هُوَ فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى تَوَلَّى قِسْمَتَهُ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْلِهِ: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} [الزخرف: 32]. [الْآيَة الثَّالِثَةُ عَشْرَة قَوْله تَعَالَى قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ] ِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] فِيهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29]: أَمْرٌ بِمُقَاتَلَةِ جَمِيعِ الْكُفَّارِ؛ فَإِنَّ كُلَّهُمْ قَدْ أَطْبَقَ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ، مِنْ الْكُفْرِ بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَقَدْ قَالَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِيهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة: 73]. وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123]. وَالْكُفْرُ وَإِنْ كَانَ أَنْوَاعًا مُتَعَدِّدَةً مَذْكُورَةً فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِأَلْفَاظٍ مُتَفَرِّقَةٍ، فَإِنَّ اسْمَ الْكُفْرِ يَجْمَعُهَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [الحج: 17]. وَخَصَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَعْنَى

مسألة تحقيق الكفر

الْمَقْصُودَ بِالْبَيَانِ فَقَالَ: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ». وَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ وَالْغَايَةُ الْقُصْوَى. [مَسْأَلَة تَحْقِيقِ الْكُفْرِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29] الْآيَةَ: نَصٌّ فِي تَحْقِيقِ الْكُفْرِ، وَذَلِكَ أَنْ نَقُولَ: الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ أَصْلَانِ فِي تَرْتِيبِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِمَا فِي الدِّينِ، وَهُمَا فِي وَضْعِ اللُّغَةِ مَعْلُومَانِ. وَالْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ لُغَةً أَوْ التَّأْمِينُ. وَالْكُفْرُ هُوَ السِّتْرُ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْفِعْلِ حِسًّا، وَقَدْ يَكُونُ بِالْإِنْكَارِ وَالْجَحْدِ مَعْنًى، وَكِلَاهُمَا حَقِيقَةٌ، أَوْ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْأَمَدِ الْأَقْصَى " وَغَيْرِهِ. وَقَدْ قَالَ شَيْخُ السُّنَّةِ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: إنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ لُغَةً، وَقَدْ أَفَدْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ كُفْرَ الْمَعَانِي جُحُودُهَا وَإِنْكَارُهَا فَالشَّرْعُ لَمْ يُعَلِّقْ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ عَلَى كُلِّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ كُفْرٍ، وَإِنَّمَا عَلَّقَهُ عَلَى بَعْضِهَا، وَهِيَ الْكُفْرُ بِاَللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] الْآيَةَ. فَقَوْلُهُ: {لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29] نَصٌّ فِي الْكُفْرِ بِذَاتِهِ يَقِينًا، وَفِي الْكُفْرِ بِالصِّفَاتِ ظَاهِرًا: لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَوْجُودُ الَّذِي لَهُ الصِّفَاتُ الْعُلَا وَالْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى؛ فَكُلُّ مَنْ أَنْكَرَ وُجُودَ اللَّهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَقَوْلُهُ: {وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] نَصٌّ فِي صِفَاتِهِ، فَإِنَّ الْيَوْمَ الْآخِرَ عَرَفْنَاهُ بِقُدْرَتِهِ وَبِكَلَامِهِ؛ فَأَمَّا عِلْمُنَا لَهُ بِقُدْرَتِهِ فَإِنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْيَوْمِ الْأَوَّلِ دَلِيلٌ عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى الْيَوْمِ الْآخِرِ. وَأَمَّا عِلْمُنَا لَهُ بِالْكَلَامِ فَبِإِخْبَارِهِ أَنَّهُ فَاعِلُهُ، فَإِذَا أَنْكَرَ أَحَدٌ الْبَعْثَ فَقَدْ أَنْكَرَ الْقُدْرَةَ وَالْكَلَامَ، وَكَفَرَ قَطْعًا بِغَيْرِ كَلَامٍ، وَقَوْلُهُ: {وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 29] نَصٌّ فِي أَفْعَالِهِ الَّتِي مِنْ أُمَّهَاتِهَا إرْسَالُ الرُّسُلِ، وَتَأْيِيدُهُمْ بِالْمُعْجِزَاتِ النَّازِلَةِ مَنْزِلَةَ قَوْلِهِ: صَدَقْتُمْ أَيُّهَا الرُّسُلُ، فَإِذَا أَنْكَرَ أَحَدٌ الرُّسُلَ أَوْ كَذَّبَهُمْ فِيمَا يُخْبِرُونَ عَنْهُ مِنْ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَالْأَوَامِرِ وَالنَّدْبِ، فَهُوَ

مسألة معنى قوله تعالى من الذين أوتوا الكتاب

كَافِرٌ، وَكُلُّ جُمْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ لَهُ تَفْصِيلٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي أَشَرْنَا، بِهَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي التَّكْفِيرِ بِذَلِكَ التَّفْصِيلِ، وَالتَّفْسِيقِ وَالتَّخْطِئَةِ وَالتَّصْوِيبِ؛ وَذَلِكَ كَالْقَوْلِ فِي التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ وَالْجِهَةِ، أَوْ الْخَوْضِ فِي إنْكَارِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَالْإِرَادَةِ وَالْكَلَامِ وَالْحَيَاةِ، فَهَذِهِ الْأُصُولُ يَكْفُرُ جَاحِدُهَا بِلَا إشْكَالٍ. وَكَقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ: إنَّ الْعِبَادَ يَخْلُقُونَ أَفْعَالَهُمْ، وَإِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ مَا لَا يُرِيدُهُ اللَّهُ، وَإِنَّ نُفُوذَ الْقَضَاءِ وَالْقَدْرِ عَلَى الْخَلْقِ بِالنَّارِ جَوْرٌ. وَكَقَوْلِ الْمُشَبِّهَةِ: إنَّ الْبَارِيَ جِسْمٌ، وَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِجِهَةٍ، وَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْمُحَالِ، وَإِنَّهُ تَعَالَى قَدْ نَصَّ عَلَى كُلِّ حَادِثَةٍ مِنْ الْأَحْكَامِ. وَهَذَا كُلُّهُ كَذِبٌ صُرَاحٌ، وَبَعْدَ هَذَا تَفَاصِيلُ يَنْبَنِي عَلَيْهَا وَيُجَرُّ إلَيْهَا، وَفِي التَّكْفِيرِ بِهَا تَدْقِيقٌ. وَمِنْ أَعْظَمِ الْإِشَارَةِ بِقَوْلِهِ: وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الْإِخْبَارُ عَنْ النَّصَارَى الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ وَعَذَابَ النَّارِ مَعَانٍ؛ كَالسُّرُورِ وَالْهَمِّ، وَلَيْسَتْ صُوَرًا، وَلَا فِيهَا أَكْلٌ وَلَا شُرْبٌ، وَلَا وَطْءٌ وَلَا حَيَاةٌ، وَلَا مُهْلٌ يُشْرَبُ، وَلَا نَارٌ تَلَظَّى. وَقَوْلُهُ: {وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 29] إخْبَارٌ عَمَّا كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ مِنْ التَّحْرِيمِ بِعُقُولِهَا فِي السَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ، وَمَا يَخْتَصُّ بِتَحْرِيمِهِ الْإِنَاثُ دُونَ الذُّكُورِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِ الزُّورِ، وَعَمَّا كَانَتْ الرُّهْبَانُ تَفْعَلُهُ، وَالْأَحْبَارُ مِنْ الْيَهُودِ تَبْتَدِعُهُ مِنْ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي الْإِنْجِيلِ وَالتَّوْرَاةِ، أَوْ تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: {وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} [التوبة: 29] إشَارَةً إلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ الِاعْتِقَادِ لِلْحَقِّ وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الشَّرْعِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة: 29]: وَفِي ذِكْرِهِمْ هَاهُنَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ كَانُوا أُمِرُوا بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، فَأُمِرُوا أَيْضًا بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ

مسألة أليس النصارى واليهود يؤمنون بالله واليوم الآخر

الْمُشْرِكِينَ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ مِنْ ذِكْرِ الرَّسُولِ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ تَخْصِيصًا لِمَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ الْعَامُّ عَلَى مَعْنَى التَّأْكِيدِ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة: 29] تَأْكِيدٌ لِلْحُجَّةِ؛ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُمْ مُقَدَّمَةٌ مِنْ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، فَجَاءَهُمْ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَجْأَةً عَلَى جَهَالَةٍ. فَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَقَدْ كَانُوا عَالِمِينَ بِالتَّوْحِيدِ وَالرُّسُلِ وَالشَّرَائِعِ وَالْمِلَلِ، وَخُصُوصًا ذِكْرَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِلَّتِهِ وَأُمَّتِهِ؛ فَلَمَّا أَنْكَرُوهُ تَأَكَّدَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ، وَعَظُمَتْ مِنْهُمْ الْجَرِيمَةُ، فَنَبَّهَ عَلَى مَحِلِّهِمْ بِذَلِكَ. الثَّالِثُ: أَنَّ تَخْصِيصَهُمْ بِالذِّكْرِ إنَّمَا كَانَ لِأَجَلٍ قَوْله تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. وَاَلَّذِينَ يُخْتَصُّونَ بِفَرْضِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ صِنْفِ الْكُفَّارِ، وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَة أَلَيْسَ النَّصَارَى وَالْيَهُودُ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ النَّصَارَى وَالْيَهُودُ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؟ قُلْنَا: عَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَا يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ، وَإِنْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ فَإِنَّهُمْ قَدْ كَذَّبُوا الرَّسُولَ، وَلَمْ يُحَرِّمُوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلَا دَانُوا بِدِينِ الْحَقِّ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29]: فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا عَطِيَّةٌ مَخْصُوصَةٌ. الثَّانِي: أَنَّهَا جَزَاءٌ عَلَى الْكُفْرِ. الثَّالِثُ: أَنَّ اشْتِقَاقَهَا مِنْ الْإِجْزَاءِ بِمَعْنَى الْكِفَايَةِ، كَمَا تَقُولُ: جَزَى كَذَا عَنِّي يَجْزِي إذَا قَضَى.

مسألة محل الجزية

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي تَقْدِيرِهَا: رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَشْهَبُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنُ زَنْجُوَيْهِ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ، وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا عَلَى الْوَرِقِ، وَإِنْ كَانُوا مَجُوسًا. وَكَذَلِكَ رَوَى مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، مَعَ ذَلِكَ أَرْزَاقُ الْمُسْلِمِينَ وَضِيَافَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ وَيَجْتَهِدُ فِيهِ؛ مِنْ الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَالِاقْتِدَاءُ بِعُمَرَ أُسْوَةٌ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي لُجَيْمٍ قُلْت لِمُجَاهِدٍ: مَا بَالُ أَهْلِ الشَّامِ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ، وَعَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ دِينَارٌ؟ قَالَ: إنَّمَا جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ الْيَسَارِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاذٍ: «خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عِدْلَهُ مَعَافِرِيَّ»، ثُمَّ ضَرَبَ الْجِزْيَةَ عُمَرُ فِي زَمَانِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يُرَاعَى فِي ذَلِكَ الثَّرْوَةُ وَالْقِلَّةُ. [مَسْأَلَة مَحِلِّ الْجِزْيَةِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فِي مَحِلِّ الْجِزْيَةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا تُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَرَبًا كَانُوا أَوْ غَيْرَهُمْ. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إذَا رَضِيَتْ الْأُمَمُ كُلُّهَا بِالْجِزْيَةِ قُبِلَتْ مِنْهُمْ. الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: لَا تُقْبَلُ. الرَّابِعُ: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: لَا تُقْبَلُ مِنْ مَجُوسِ الْعَرَبِ، وَتُقْبَلُ مِنْ غَيْرِهِمْ.

وَجْهُ مَنْ قَالَ: إنَّهَا تُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَرَبًا كَانُوا أَوْ غَيْرَهُمْ تَخْصِيصُ اللَّهِ بِالذِّكْرِ أَهْلَ الْكِتَابِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا تُقْبَلُ مِنْ الْأُمَمِ كُلِّهَا فَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ خَيْرًا. ثُمَّ قَالَ: اُغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ، اُغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلَيَدًا. وَإِذَا لَقِيت عَدُوَّك مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إلَى ثَلَاثِ خِلَالٍ، فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوك إلَيْهَا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ: اُدْعُهُمْ إلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنْ فَعَلُوا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ اُدْعُهُمْ إلَى التَّحَوُّلِ عَنْ دَارِهِمْ إلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ بِأَنَّهُمْ إنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ؛ فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ، إلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ، وَإِنْ هُمْ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ». وَذَكَرْنَا فِي الْحَدِيثِ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحِيحِ «أَنَّ عُمَرَ تَوَقَّفَ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمَجُوسِ، حَتَّى أَخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ». وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَرَبِ مَجُوسٌ؛ لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ أَسْلَمَ، فَمَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ بِخِلَافِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ؛ يُقْتَلُ بِكُلِّ حَالٍ إنْ لَمْ يُسْلِمْ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ جِزْيَةٌ.

مسألة معنى قوله تعالى حتى يعطوا الجزية عن يد

وَالصَّحِيحُ قَبُولُهَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ، وَفِي كُلِّ حَالٍ عِنْدَ الدُّعَاءِ إلَيْهَا وَالْإِجَابَةِ بِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: [مَحِلُّ الْجِزْيَةِ]: وَمَحِلُّهَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ الْأَحْرَارُ الْبَالِغُونَ الْعُقَلَاءُ دُونَ الْمَجَانِينِ، وَهُمْ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ، دُونَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ لِذَلِكَ. وَاخْتُلِفَ فِي الرُّهْبَانِ؛ فَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ. قَالَ مُطَرِّفٌ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: هَذَا إذَا لَمْ يَتَرَهَّبْ بَعْدَ فَرْضِهَا، فَإِنْ فُرِضَتْ، لَمْ يُسْقِطْهَا تَرَهُّبُهُ. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ: وَسَتَجِدُ قَوْمًا حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ، فَذَرْهُمْ وَمَا حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ، فَإِذَا لَمْ يَهِيجُوا، وَلَمْ يَقْتُلُوا لَمْ تُطْلَبْ مِنْهُمْ جِزْيَةٌ؛ لِأَنَّهَا بَدَلٌ عَنْ الْقَتْلِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29]: فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ قَوْلًا: الْأَوَّلُ: أَنْ يُعْطِيَهَا وَهُوَ قَائِمٌ وَالْآخِذُ جَالِسٌ؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ الثَّانِي: يُعْطُونَهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ يَمْشُونَ بِهَا؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّالِثُ: يَعْنِي مِنْ يَدِهِ إلَى يَدِ آخِذِهِ، كَمَا تَقُولُ: كَلَّمَتْهُ فَمًا لِفَمٍ، وَلَقِيَتْهُ كِفَّةً كِفَّةً، وَأَعْطَيْته يَدًا عَنْ يَدٍ. الرَّابِعُ: عَنْ قُوَّةٍ مِنْهُمْ. الْخَامِسُ: عَنْ ظُهُورٍ. السَّادِسُ: غَيْرَ مَحْمُودِينَ وَلَا مَدْعُوٍّ لَهُمْ. السَّابِعُ: تُوجَأُ عُنُقُهُ. الثَّامِنُ: عَنْ ذُلٍّ. التَّاسِعُ: عَنْ غِنًى. الْعَاشِرُ: عَنْ عَهْدٍ.

مسألة ما وجبت الجزية عنه

الْحَادِيَ عَشَرَ: نَقْدًا غَيْرَ نَسِيئَةٍ. الثَّانِيَ عَشَرَ: اعْتِرَافًا مِنْهُمْ أَنَّ يَدَ الْمُسْلِمِينَ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ. الثَّالِثَ عَشَرَ: عَنْ قَهْرٍ. الرَّابِعَ عَشَرَ: عَنْ إنْعَامٍ بِقَبُولِهَا عَلَيْهِمْ. الْخَامِسَ عَشَرَ: مُبْتَدِئًا غَيْرَ مُكَافِئٍ. قَالَ الْإِمَامُ: هَذِهِ الْأَقْوَالُ مِنْهَا مُتَدَاخِلَةٌ، وَمِنْهَا مُتَنَافِرَةٌ، وَتَرْجِعُ إلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُون الْمُرَادُ بِالْيَدِ الْحَقِيقَةَ، وَالْآخَرُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْيَدِ الْمَجَازَ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْحَقِيقَةَ فَيَرْجِعُ إلَى مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَدْفَعُهَا بِنَفْسِهِ غَيْرَ مُسْتَنِيبٍ فِي دَفْعِهَا أَحَدًا. وَأَمَّا جِهَةُ الْمَجَازِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ التَّعْجِيلَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْقُوَّةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمِنَّةَ وَالْإِنْعَامَ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: وَهُوَ قَائِمٌ وَالْآخِذُ جَالِسٌ فَلَيْسَ مِنْ قَوْلِهِ عَنْ يَدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِهِ: عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: يَمْشُونَ بِهَا وَهُمْ كَارِهُونَ، مِنْ الصَّغَارِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ: وَلَا مَقْهُورِينَ يَعُودُ إلَى الصَّغَارِ وَالْيَدِ، وَحَقِيقَةُ الصَّغَارِ تَقْلِيلُ الْكَثِيرِ مِنْ الْأَجْسَامِ، أَوْ مِنْ الْمَعَانِي فِي الْمَرَاتِبِ وَالدَّرَجَاتِ. [مَسْأَلَة مَا وَجَبَتْ الْجِزْيَةُ عَنْهُ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا وَجَبَتْ الْجِزْيَةُ عَنْهُ؛ فَقَالَ عُلَمَاءُ الْمَالِكِيَّةِ: وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْلِ بِسَبَبِ الْكُفْرِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِقَوْلِنَا.

مسألة معنى قوله تعالى عن يد وهم صاغرون

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: بَدَلًا عَنْ حَقْنِ الدَّمِ وَسُكْنَى الدَّارِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَهْلِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ: إنَّمَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ النُّصْرَةِ بِالْجِهَادِ. وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ، وَزَعَمَ أَنَّهُ سِرُّ اللَّهِ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَاسْتَدَلَّ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّهَا عُقُوبَةٌ [بِأَنَّهَا] وَجَبَتْ بِسَبَبِ الْكُفْرِ، وَهُوَ جِنَايَةٌ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُسَبِّبُهَا عُقُوبَةً؛ وَلِذَلِكَ وَجَبَتْ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ، وَهُمْ الْبَالِغُونَ الْعُقَلَاءُ الْمُقَاتِلُونَ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ حَقْنِ الدَّمِ، وَسُكْنَى الدَّارِ أَنَّهَا تَجِبُ بِالْمُعَاقَدَةِ وَالتَّرَاضِي، وَلَا تَقِفُ الْعُقُوبَاتُ عَلَى الِاتِّفَاقِ وَالرِّضَا. وَأَيْضًا فَإِنَّهَا تَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، وَلَا تَخْتَلِفُ الْعُقُوبَاتُ بِذَلِكَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ مُؤَجَّلَةً، وَالْعُقُوبَاتُ تَجِبُ مُعَجَّلَةً؛ وَهَذَا لَا يَصِحُّ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهَا وَجَبَتْ بِالرِّضَا فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِقِتَالِهِمْ حَتَّى يُعْطُوهَا قَسْرًا. وَأَمَّا إنْكَارُهُمْ اخْتِلَافَ الْعُقُوبَاتِ بِالْقِلَّةِ وَالْيَسَارِ فَذَلِكَ بَاطِلٌ مِنْ الْإِنْكَارِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَبْعُدُ فِي الْعُقُوبَاتِ الْبَدَنِيَّةِ دُونَ الْمَالِيَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعُقُوبَاتِ الْبَدَنِيَّةَ تَخْتَلِفُ بِالثُّيُوبَةِ، وَالْبَكَارَةِ، وَالْإِنْكَارِ، فَكَمَا اخْتَلَفَتْ عُقُوبَةُ الْبَدَنِ بِاخْتِلَافِ صِفَةِ الْمُوجَبِ عَلَيْهِ لَا يُسْتَنْكَرُ أَنْ يَخْتَلِفَ عُقُوبَةُ الْمَالِ بِاخْتِلَافِ صِفَةِ الْمَالِ فِي الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ. وَأَمَّا تَأْجِيلُهَا فَإِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ مَصْلَحَةً، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِضَرْبَةِ لَازِبٍ فِيهَا. وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. وَفَائِدَتُهَا أَنَّا إذَا قُلْنَا: إنَّهَا بَدَلٌ عَنْ الْقَتْلِ فَإِذَا أَسْلَمَ سَقَطَتْ عَنْهُ لِسُقُوطِ الْقَتْلِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا دَيْنٌ اسْتَقَرَّ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يُسْقِطُهُ الْإِسْلَامُ كَأُجْرَةِ الدَّارِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: شَرَطَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، وَهُمَا قَوْلُهُ: {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]؛ لِلْفَرْقِ بَيْنَ مَا يُؤَدَّى عُقُوبَةً وَهِيَ الْجِزْيَةُ، وَبَيْنَ مَا يُؤَدَّى طُهْرَةً وَقُرْبَةً وَهِيَ الصَّدَقَةُ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى». وَالْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُعْطِيَةُ، وَالْيَدُ السُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ "؛ فَجَعَلَ يَدَ الْمُعْطِي فِي الصَّدَقَةِ عُلْيَا، وَجَعَلَ يَدَ الْمُعْطِي فِي الْجِزْيَةِ صَاغِرَةً سُفْلَى، وَيَدَ الْآخِذِ عُلْيَا، ذَلِكَ بِأَنَّهُ الرَّافِعُ الْخَافِضُ، يَرْفَعُ مَنْ يَشَاءُ وَيَخْفِضُ مَنْ يَشَاءُ، وَكُلُّ فِعْلٍ أَوْ حُكْمٍ يَرْجِعُ إلَى الْأَسْمَاءِ حَسْبَمَا مَهَّدْنَاهُ فِي الْأَمَدِ الْأَقْصَى ". فَإِنْ قِيلَ؛ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: إذَا بَذَلَ الْجِزْيَةَ فَحَقَنَ دَمَهُ بِمَالٍ يَسِيرٍ مَعَ إقْرَارِهِ عَلَى الْكُفْرِ بِاَللَّهِ؛ هَلْ هَذَا إلَّا كَالرِّضَا بِهِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَا نَقُولُ: فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ مِنْ الْحِكْمَةِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي أَخْذِهَا مَعُونَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَتَقْوِيَةً لَهُمْ، وَرِزْقٌ حَلَالٌ سَاقَهُ اللَّهُ إلَيْهِمْ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ قَتَلَ الْكَافِرُ لَيَئِسَ مِنْ الْفَلَاحِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْهَلَكَةُ؛ فَإِذَا أَعْطَى الْجِزْيَةَ وَأُمْهِلَ لَعَلَّهُ أَنْ يَتَدَبَّرَ الْحَقَّ، وَيَرْجِعَ إلَى الصَّوَابِ، لَا سِيَّمَا بِمُرَاقَبَةِ أَهْلِ الدِّينِ، وَالتَّدَرُّبِ بِسَمَاعِ مَا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ عَظِيمَ كُفْرِهِمْ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ إدْرَارِ رِزْقِهِ

الآية الرابعة عشرة قوله تعالى وقالت اليهود عزيز ابن الله

سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى مِنْ اللَّهِ، يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ، وَهُمْ يَدْعُونَ لَهُ الصَّاحِبَةَ وَالْوَلَدَ». وَقَدْ بَيَّنَ عُلَمَاءُ خُرَاسَانَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، فَقَالُوا: إنَّ الْعُقُوبَاتِ تَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ. أَحَدُهُمَا: مَا فِيهِ هَلَكَةُ الْمُعَاقَبِ. وَالثَّانِي: مَا يَعُودُ بِمَصْلَحَةٍ عَلَيْهِ، مِنْ زَجْرِهِ عَمَّا ارْتَكَبَ، وَرَدِّهِ عَمَّا اعْتَقَدَ وَفَعَلَ. [الْآيَة الرَّابِعَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْزٌ ابْنُ اللَّهِ] الْآيَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذَا مِنْ قَوْلِ رَبِّنَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ كُفْرِ غَيْرِهِ الَّذِي لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَبْتَدِئَ بِهِ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْطِقُ بِهِ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِعْظَامِ لَهُ وَالرَّدِّ عَلَيْهِ، فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَلَوْ شَاءَ رَبُّنَا مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَحَدٌ، فَإِذَا أَمْكَنَ مِنْ انْطِلَاقِ الْأَلْسِنَةِ بِهِ فَقَدْ أَذِنَ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ، عَلَى مَعْنَى إنْكَارِهِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالرَّدِّ عَلَيْهِ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ. [مَسْأَلَة كُلُّ قَوْلِ أَحَدٍ إنَّمَا هُوَ بِفِيهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة: 30]: كُلُّ قَوْلِ أَحَدٍ إنَّمَا هُوَ بِفِيهِ، وَلَكِنَّ الْحِكْمَةَ فِيهِ أَنَّهُ قَوْلٌ بَاطِلٌ لَا يَتَجَاوَزُ الْفَمَ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تَحَرَّكَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ بِاضْطِرَارٍ، وَلَا يَقُومُ عَلَيْهِ بُرْهَانٌ، فَيَقِفُ حَيْثُ

مسألة قول الذين كفروا من قبل

وُجِدَ، وَلَا يَتَعَدَّاهُ بِحَدٍّ، بِخِلَافِ الْأَقْوَالِ الصَّحِيحَةِ، فَإِنَّهَا تَنْتَظِمُ وَتَطَّرِدُ، وَتُعَضِّدُهَا الْأَدِلَّةُ، وَتَقُومُ عَلَيْهَا الْبَرَاهِينُ، وَتَنْتَشِرُ بِالْحَقِّ، وَتَظْهَرُ بِالْبَيَانِ وَالصِّدْقِ. [مَسْأَلَة قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {يُضَاهِئُونَ} [التوبة: 30]: يَعْنِي يُشَابِهُونَ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: امْرَأَةٌ ضَهْيَاءُ لِلَّتِي لَا تَحِيضُ، وَاَلَّتِي لَا ثَدْيَ لَهَا، كَأَنَّهَا أَشْبَهَتْ الرِّجَالَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} [التوبة: 30]: فِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ: اللَّاتَ، وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى. الثَّانِي: قَوْلُ الْكَفَرَةِ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ. الثَّالِثُ: قَوْلُ أَسْلَافِهِمْ، فَقَلَّدُوهُمْ فِي الْبَاطِلِ، وَاتَّبَعُوهُمْ فِي الْكُفْرِ، كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22] وَفِي هَذَا ذَمُّ الِاتِّبَاعِ فِي الْبَاطِلِ. [الْآيَة الْخَامِسَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ] قَوْله تَعَالَى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْحَبْرُ: هُوَ الَّذِي يُحْسِنُ الْقَوْلَ وَيُنَظِّمُهُ وَيُتْقِنُهُ، وَمِنْهُ ثَوْبٌ مُحَبَّرٌ، أَيْ جَمَعَ الزِّينَةَ. وَيُقَالُ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِهَا، وَقَدْ غَلِطَ فِيهِ بَعْضُ النَّاسِ، فَقَالَ: إنَّمَا سُمِّيَ بِهِ لِحَمْلِ الْحِبْرِ وَهُوَ الْمِدَادُ وَالْكِتَابَةُ.

الآية السادسة عشرة قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان

وَالرَّاهِبُ هُوَ مِنْ الرَّهْبَةِ: الَّذِي حَمَلَهُ خَوْفُ اللَّهِ عَلَى أَنْ يُخْلِصَ إلَيْهِ النِّيَّةَ دُونَ النَّاسِ، وَيَجْعَلَ زِمَامَهُ لَهُ، وَعَمَلَهُ مَعَهُ، وَأُنْسَهُ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64]: رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: «أَتَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا عَدِيُّ؟ اطْرَحْ عَنْك هَذَا الْوَثَنَ. وَسَمِعْته يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]. قَالَ: أَمَا إنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ». وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 29]؛ بَلْ يَجْعَلُونَ التَّحْرِيمَ لِغَيْرِهِ. . [الْآيَة السَّادِسَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ] ِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34]. فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [التوبة: 34]: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَكْلُهَا بِالرُّشَا، وَهِيَ كُلُّ هَدِيَّةٍ قُصِدَ بِهَا التَّوَصُّلُ إلَى بَاطِلٍ، كَأَنَّهَا تُسَبِّبُ إلَيْهِ؛ مِنْ الرِّشَاءِ، وَهُوَ الْحَبْلُ؛ فَإِنْ كَانَتْ ثَمَنًا لِلْحُكْمِ فَهُوَ سُحْتٌ، وَإِنْ كَانَتْ

مسألة الصد عن سبيل الله

ثَمَنًا لِلْجَاهِ فَهِيَ مَكْرُوهَةٌ؛ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ»، وَالرَّائِشَ، وَهُوَ الَّذِي يَصِلُ بَيْنَهُمَا، وَيَتَوَسَّطُ لِذَلِكَ مَعَهُمَا. الثَّانِي: أَخْذُهَا بِغَيْرِ الْحَقِّ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. [مَسْأَلَة الصَّدّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34]: إنْ قِيلَ فِيهِ: يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فِي الْحُكْمِ بِالْحَقِّ وَالْقَضَاءِ بِالْعَدْلِ، أَوْ قِيلَ فِيهِ: إنَّ مَعْنَاهُ صَدُّهُمْ لِأَهْلِ دِينِهِمْ عَنْ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ بِتَبْدِيلِهِمْ وَتَغْيِيرِهِمْ، وَإِغْوَائِهِمْ وَتَضْلِيلِهِمْ، فَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ، لَا يَدْفَعُهُ اللَّفْظُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34]: الْكَنْزُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمَالُ الْمَجْمُوعُ، كَانَ فَوْقَ الْأَرْضِ أَوْ تَحْتَهَا، يُقَالُ: كَنَزَهُ يَكْنِزُهُ إذَا جَمَعَهُ، فَأَمَّا فِي الشَّرْعِ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فَنَحْنُ لَا نَقُولُ: إنَّ الشَّرْعَ غَيْرُ اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا نَقُولُ: إنَّهُ تَصَرَّفَ فِيهَا تَصَرُّفَهَا فِي نَفْسِهَا بِتَخْصِيصِ بَعْضِ مُسَمَّيَاتِهَا، وَقَصْرِ بَعْضِ مُتَنَاوَلَاتِهَا لِلْأَسْمَاءِ، كَالْقَارُورَةِ وَالدَّابَّةِ فِي بَعْضِ الْعَقَارِ وَالدَّوَابِّ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى سَبْعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ مِنْ الْمَالِ عَلَى كُلِّ حَالٍّ. الثَّانِي: أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ مِنْ النَّقْدَيْنِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ حُلِيًّا. الرَّابِعُ: أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا دَفِينًا.

الْخَامِسُ: أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ. السَّادِسُ: أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا لَمْ تُؤَدَّ مِنْهُ الْحُقُوقُ. السَّابِعُ: أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا مَا لَمْ يُنْفَقْ وَيُهْلَكْ فِي ذَاتِ اللَّهِ. وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَا رَوَى ابْنُ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَأْتِي الْإِبِلُ عَلَى صَاحِبِهَا عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ إذَا لَمْ يُعْطِ مِنْهَا حَقَّهَا، تَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا. وَتَأْتِي الْغَنَمُ عَلَى صَاحِبِهَا عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ إذَا لَمْ يُعْطِ مِنْهَا حَقَّهَا تَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا. قَالَ: وَمِنْ حَقِّهَا أَنْ تُحْلَبَ عَلَى الْمَاءِ، وَلَيَأْتِيَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِشَاةٍ يَحْمِلُهَا عَلَى رَقَبَتِهِ لَهَا يُعَارُ، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُ. وَيَأْتِي بِبَعِيرٍ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ لَهُ رُغَاءٌ فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُ». وَفِي رِوَايَةٍ: حَتَّى ذَكَرَ الْإِبِلَ فَقَالَ: «وَحَقُّهَا إطْرَاقُ فَحْلِهَا، وَإِفْقَارُ ظَهْرِهَا، وَحَلْبِهَا يَوْمَ وِرْدِهَا». وَهَذَا مُحْتَمَلٌ لِكُلِّ جَامِعٍ فِي كُلِّ مُوطِنٍ بِكُلِّ حَالٍ. وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي: أَنَّ الْكَنْزَ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ لُغَةً فِي النَّقْدَيْنِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ [تَحْرِيمٌ] ضُبِطَ غَيْرُهُ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ. وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ: أَنَّ الْحُلِيَّ مَأْذُونٌ فِي اتِّخَاذِهِ وَلَا حَقَّ فِيهِ، وَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَوَجْهُ الْقَوْلِ الرَّابِعِ وَهُوَ الدَّفِينُ مَا رَوَى مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «فِي الْإِبِلِ صَدَقَتُهَا، وَفِي الْبَقَرِ صَدَقَتُهَا، وَفِي الْغَنَمِ صَدَقَتُهَا، وَفِي التَّمْرِ صَدَقَتُهُ، ومَنْ دَفَنَ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا أَوْ تِبْرًا أَوْ فِضَّةً لَا يَدْفَعُهَا بَعْدَهَا لِغَرِيمٍ، وَلَا يُنْفِقُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ كَنْزٌ يُكْوَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْخَامِسِ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ لَهُ:

أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34]. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَنْ كَنَزَهَا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا فَوَيْلٌ لَهُ، إنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ، فَلِمَا أُنْزِلَتْ جَعَلَهَا اللَّهُ طُهْرَةً لِلْأَمْوَالِ. وَوَجْهُ الْقَوْلِ السَّادِسِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِهَا: «وَمِنْ حَقِّهَا حَلْبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا، وَإِطْرَاقُ فَحْلِهَا». وَوَجْهُ الْقَوْلِ السَّابِعِ أَنَّ الْحُقُوقَ أَكْثَرُ مِنْ الْأَمْوَالِ، وَالْمَسَاكِينُ لَا تَسْتَقِلُّ بِهِمْ الزَّكَاةُ، وَرُبَّمَا حُبِسَتْ عَنْهُمْ، فَكَنْزُ الْمَالِ دُونَ ذَلِكَ ذَنْبٌ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْآيَةِ؛ فَذَهَبَ مُعَاوِيَةُ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَهْلُ الْكِتَابِ. وَخَالَفَهُ أَبُو ذَرٍّ وَغَيْرُهُ، فَقَالَ: الْمُرَادُ بِهَا أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُسْلِمُونَ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: مَرَرْت بِالرَّبَذَةِ، فَإِذَا أَنَا بِأَبِي ذَرٍّ، فَقُلْت لَهُ: مَا أَنْزَلَك مَنْزِلَك هَذَا؟ قَالَ: كُنْت بِالشَّامِ، فَاخْتَلَفْت أَنَا وَمُعَاوِيَةُ فِي: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ. فَقُلْت: نَزَلَتْ فِينَا وَفِيهِمْ، وَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ [رِيبَةٌ] فِي ذَلِكَ. فَكَتَبَ إلَى عُثْمَانَ يَشْكُونِي، فَكَتَبَ إلَيَّ عُثْمَانُ أَنْ أَقْدُمَ الْمَدِينَةَ. فَقَدِمْتُهَا، فَكَثُرَ عَلَيَّ النَّاسُ حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْلَ ذَلِكَ، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعُثْمَانَ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: حَتَّى آذَوْنِي. فَقَالَ لِي عُثْمَانُ: إنْ شِئْت تَنَحَّيْت فَكُنْت قَرِيبًا، فَذَاكَ الَّذِي أَنْزَلَنِي هَذَا الْمَنْزِلَ، وَلَوْ أَمَّرُوا عَلَيَّ حَبَشِيًّا لَسَمِعْت وَأَطَعْت. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ عِنْدَ الصَّحَابَةِ يُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ. وَذَهَبَ عُمَرُ إلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ؛ نَسَخَتْهَا: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103]؛ قَالَ عِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ: وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي تَنْقِيحِ الْأَقْوَالِ، وَجَلَاءِ الْحَقِّ: وَذَلِكَ يَنْحَصِرُ فِي ثَلَاثَةِ مَدَارَكَ: الْمُدْرَكُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكُلَّ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَاهَا وَقُضِيَتْ بَقِيَ الْمَالُ مُطَهَّرًا، كَمَا قَالَ عُمَرُ. الْمُدْرَكُ الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ أَكَّدَ اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [فصلت: 6] {الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 7]. الْمُدْرَكُ الثَّالِثُ: تَخْلِيصُ الْحَقِّ مِنْ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ، فَنَقُولُ: أَمَّا الْكَنْزُ فَهُوَ مَالٌ مَجْمُوعٌ، لَكِنْ لَيْسَ كُلُّ مَالٍ دِينَ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهِ حَقٌّ، وَلَا حَقَّ لِلَّهِ سِوَى الزَّكَاةُ؛ فَإِخْرَاجُهَا يُخْرِجُ الْمَالَ عَنْ وَصْفِ الْكَنْزِيَّةِ، ثُمَّ إنَّ الْكَنْزَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ أَوْ تِبْرِهَا، وَهَذَا مَعْلُومٌ لُغَةً. ثُمَّ إنَّ الْحُلِيَّ لَا زَكَاةَ فِيهِ؛ فَيُتَنَخَّلُ مِنْ هَذَا أَنَّ كُلَّ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أُدِّيَتْ زَكَاتُهُمَا، أَوْ اُتُّخِذَتْ حُلِيًّا فَلَيْسَا بِكَنْزٍ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ} [التوبة: 34] الْآيَةَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَنْزَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ خَاصَّةً، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفَقَةِ الْوَاجِبُ لِقَوْلِهِ: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] وَلَا يَتَوَجَّهُ الْعَذَابُ إلَّا عَلَى تَارِكِ الْوَاجِبِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحُلِيَّ لَا زَكَاةَ فِيهِ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قُلْنَا: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، أَصْلُهُ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ: لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ. وَلَمْ يَصِحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ شَيْءٌ. فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ: فَأَخَذَ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ فِي النَّقْدَيْنِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حُلِيٍّ وَغَيْرِهِ.

وَأَمَّا عُلَمَاؤُنَا فَقَالُوا: إنْ قَصَدَ التَّمَلُّكَ لِمَا أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي الْعُرُوضِ، وَهِيَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ، كَذَلِكَ قَصْدُ قَطْعِ النَّمَاءِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِاِتِّخَاذِهِمَا حُلِيًّا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ، فَإِنَّ مَا أَوْجَبَ مَا لَمْ يَجِبْ يَصْلُحُ لِإِسْقَاطِ مَا وَجَبَ، وَتَخْصِيصِ مَا عَمَّ وَشَمَلَ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّ مَا زَادَ عَلَى أَرْبَعَةِ آلَافٍ كَنْزٌ، وَعَزَوْهُ إلَى عَلِيٍّ. وَلَيْسَ بِشَيْءٍ يُذْكَرُ، لِبُطْلَانِهِ. أَمَا إنَّهُ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ الْأَكْثَرِينَ هُمْ الْأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا، وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُفَرِّقُهَا». قَالَ أَبُو ذَرٍّ: الْأَكْثَرُونَ أَصْحَابُ عَشَرَةِ آلَافٍ، يُرِيدُ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ مَالًا هُمْ الْأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَوَابًا، إلَّا مَنْ فَرَّقَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَهَذَا بَيَانٌ لِنُقْصَانِ الْمَرْتَبَةِ بِقِلَّةِ الصَّدَقَةِ، لَا لِوُجُوبِ التَّفْرِقَةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ، مَا عَدَا الصَّدَقَةَ الْوَاجِبَةَ، يُبَيِّنُهُ مَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: أُنْزِلَتْ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. لَوْ عَلِمْنَا أَيُّ الْمَالِ خَيْرٌ فَنَتَّخِذَهُ؟ فَقَالَ: أَفْضَلُهُ لِسَانٌ ذَاكِرٌ، وَقَلْبٌ شَاكِرٌ، وَزَوْجَةٌ مُؤْمِنَةٌ تُعِينُهُ عَلَى إيمَانِهِ». فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا جَوَابًا لِمَنْ عَلِمَ رَغْبَتَهُ فِي الْمَالِ فَرَدَّهُ إلَى مَنْفَعَةِ الْمَالِ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْفَرَاغِ، وَعَدَمِ الِاشْتِغَالِ.

مسألة ذكر أحد الضميرين يكفي عن الثاني

وَقَدْ بَيَّنَ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَيُّ الْمَالِ خَيْرٌ فِي حَالَةٍ أَمْ أُخْرَى لِقَوْمٍ آخَرِينَ؟ فَقَالَ: «خَيْرُ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتَّبِعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ، وَمَوَاقِعَ الْقُطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ». [مَسْأَلَة ذِكْرَ أَحَدِ الضَّمِيرَيْنِ يَكْفِي عَنْ الثَّانِي] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا} [التوبة: 34]: فَذَكَرَ ضَمِيرًا وَاحِدًا عَنْ مَذْكُورَيْنِ. وَعَنْهُ جَوَابَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ} [التوبة: 34] جَمَاعَةٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ كَنْزٌ، فَمُرَجِّعُ قَوْلِهِ: " هَا " إلَى جَمَاعَةِ الْكُنُوزِ. الثَّانِي: أَنَّ ذِكْرَ أَحَدِ الضَّمِيرَيْنِ يَكْفِي عَنْ الثَّانِي، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11]. وَهُمَا شَيْئَانِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: إنَّ شَرْخَ الشَّبَابِ وَالشَّعْرِ الْأَسْ ... وَدِ مَا لَمْ يُعَاصَ كَانَ جُنُونَا وَطَرِيقُ الْكَلَامِ الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ مَا لَمْ يُعَاصَيَا، وَلَكِنَّهُ اكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ، لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَة مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إنَّمَا وَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ أَهْلُ الْكِتَابِ، لِأَجْلِ قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [التوبة: 34] يَعْنِي مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَرَجَعَ قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] إلَيْهِمْ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ وَخُصُوصَهُ لَا يُؤْثِرُ فِي آخَرَ الْكَلَامِ وَعُمُومِهِ، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مُسْتَقِلًّا [بِنَفْسِهِ].

الثَّانِي: أَنَّ هَذَا إنَّمَا كَانَ يَظْهَرُ لَوْ قَالَ: وَيَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ. أَمَا وَقَدْ قَالَ: وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، فَقَدْ اسْتَأْنَفَ مَعْنًى آخَرَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، لَا وَصْفًا لِجُمْلَةٍ عَلَى وَصْفٍ لَهَا. وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ قَالَ: جَلَسْت إلَى مَلَأٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ أَخْشَنُ الشَّعْرِ وَالثِّيَابِ وَالْهَيْئَةِ، حَتَّى قَامَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ: " بَشِّرْ الْكَانِزِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، يُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضِ كَتِفِهِ، وَيُوضَعُ عَلَى نُغْضِ كَتِفِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيِهِ يَتَزَلْزَلُ ". ثُمَّ وَلَّى فَجَلَسَ إلَى سَارِيَةٍ، وَجَلَسْت إلَيْهِ، وَلَا أَدْرِي مَنْ هُوَ، فَقُلْت لَهُ: لَا أَرَى الْقَوْمَ إلَّا قَدْ كَرِهُوا مَا قُلْت لَهُمْ. قَالَ: إنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا قَالَ لِي خَلِيلِي. قُلْت: مَنْ خَلِيلُك؟ قَالَ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا أَبَا ذَرٍّ؛ أَتُبْصِرُ أَحَدًا؟ فَنَظَرْت إلَى الشَّمْسِ مَا بَقِيَ مِنْ النَّهَارِ، وَأَنَا أَرَى رَسُولَ اللَّهِ يُرْسِلُنِي فِي حَاجَةٍ لَهُ. قُلْت: نَعَمْ. قَالَ لِي: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ، إلَّا ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَعْقِلُونَ، إنَّمَا يَجْمَعُونَ لِلدُّنْيَا، وَاَللَّهِ لَا أَسْأَلُهُمْ دُنْيَا، وَلَا أَسْتَفْتِيهِمْ عَنْ دِينٍ، حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ». قَالَ الْقَاضِي: الْحَلَمَةُ: طَرَفُ الثَّدْيِ، وَالنُّغْضُ، بَارِزُ عَظْمِ الْكَتِفِ الْمُحَدَّدِ. وَرِوَايَةُ أَبِي ذَرٍّ لِهَذَا الْحَدِيثِ صَحِيحَةٌ، وَتَأْوِيلُهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ أَبَا ذَرٍّ حَمَلَهُ عَلَى كُلِّ جَامِعٍ لِلْمَالِ مُحْتَجِزٍ لَهُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ مَنْ احْتَجَنَهُ وَاكْتَنَزَهُ عَنْ الزَّكَاةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ، يُطَوِّفُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ يَعْنِي بِشَدْقَيْهِ يَقُولُ: أَنَا مَالُك، أَنَا كَنْزُك. ثُمَّ قَرَأَ: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 180]. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.

قَالَ الْقَاضِي: قَوْلُهُ: مَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ، يُرِيدُ أَوْ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِهِ، كَفَّكِ الْأَسِيرِ، وَحَقِّ الْجَائِعِ، وَالْعَطْشَانِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحُقُوقَ الْعَارِضَةَ كَالْحُقُوقِ الْأَصْلِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ شُجَاعًا يَعْنِي حَيَّةً. وَهَذَا تَمْثِيلُ حَقِيقَةٍ؛ لِأَنَّ الشُّجَاعَ جِسْمٌ وَالْمَالَ جِسْمٌ، فَتَغَيُّرُ الصِّفَاتِ وَالْجِسْمِيَّةِ وَاحِدَةٌ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: يُؤْتَى بِالْمَوْتِ فَإِنَّ تِلْكَ طَرِيقَةٌ أُخْرَى. وَإِنَّمَا خَصَّ الشُّجَاعَ؛ لِأَنَّهُ الْعَدُوُّ الثَّانِي لِلْخَلْقِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِنَّ: «مَا سَالَمْنَاهُنَّ مُنْذُ حَارَبْنَاهُنَّ». وَقَوْلُهُ: أَقْرَعُ، يَعْنِي الَّذِي ابْيَضَّ رَأْسُهُ مِنْ السُّمِّ. وَالزَّبِيبَتَانِ: زُبْدَتَانِ فِي شِدْقَيْ الْإِنْسَانِ إذَا غَضِبَ وَأَكْثَرَ مِنْ الْكَلَامِ، قَالَتْ أُمُّ غَيْلَانَ بِنْتُ جَرِيرٍ: رُبَّمَا أَنْشَدْت أَبِي حَتَّى تَزَبَّبَ شَدْقَايَ. ضَرَبَ مَثَلًا لِلشُّجَاعِ الَّذِي يَتَمَثَّلُ كَهَيْئَةِ الْمَالِ، فَيَلْقَى صَاحِبَهُ غَضْبَانَ. وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: هُمَا نُقْطَتَانِ سَوْدَاوَانِ فَوْقَ عَيْنَيْهِ. وَقِيلَ: هُوَ الشُّجَاعُ الَّذِي كَثُرَ سُمُّهُ حَتَّى ظَهَرَ عَلَى شَدْقَيْهِ مِنْهُ كَهَيْئَةِ الزَّبِيبَتَيْنِ. وَكَتَبَ أَهْلِ الْحَدِيثِ شُجَاعٌ بِغَيْرِ أَلِفٍ بَعْدَ الْعَيْنِ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ كَتَبُوهُ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَقَرَءُوهُ مَنْصُوبًا لِئَلَّا يُشْكِلَ بِالْمَمْدُودِ، وَكَذَلِكَ نُظَرَاؤُهُ. وَاللِّهْزِمَةُ: الشَّدْقَانِ. وَفِي رِوَايَةٍ: يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ. وَقِيلَ: هُمَا فِي أَصْلِ الْحَنَكِ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «إنَّهُ يَمْثُلُ لَهُ مَالُهُ شُجَاعًا يَتَّبِعُهُ فَيَضْطَرُّهُ فَيُعْطِيهِ يَدَهُ فَيَقْضِمَهَا كَمَا يَقْضِمُ الْفَحْلُ». فَأَمَّا حَبْسُهُ لِيَدِهِ فَلِأَنَّهُ شَحَّ بِالْمَالِ وَقَبَضَ بِهَا عَلَيْهِ، وَأَمَّا أَخْذُهُ بِفَمِهِ فَلِأَنَّهُ أَكَلَهُ، وَأَمَّا خُرُوجُهُ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيِهِ إلَى نُغْضِ كَتِفِهِ فَلِتَعْذِيبِ قَلْبِهِ وَبَاطِنِهِ حِينَ امْتَلَأَ بِالْفَرَحِ بِالْكَثْرَةِ فِي الْمَالِ وَالسُّرُورِ فِي الدُّنْيَا؛ فَعُوقِبَ فِي الْآخِرَةِ بِالْهَمِّ وَالْعَذَابِ.

مسألة لم ينفق في سبيل الله ولم يكنز ولكنه بذر ماله في السرف والمعاصي

[مَسْأَلَة لَمْ يُنْفِقْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَمْ يَكْنِزْ وَلَكِنَّهُ بَذَّرَ مَالَهُ فِي السَّرَفِ وَالْمَعَاصِي] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: فَإِنْ قِيلَ: فَمَنْ لَمْ يَكْنِزْ وَلَمْ يُنْفِقْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَلَيْسَ يَكُونُ هَذَا حُكْمَهُ؟ فَمَا فَائِدَةُ ذِكْرِ الْكَنْزِ؟ قُلْنَا: إذَا لَمْ يُنْفِقْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَمْ يَكْنِزْ، وَلَكِنَّهُ بَذَّرَ مَالِهِ فِي السَّرَفِ وَالْمَعَاصِي فَهَذَا يَعْلَمُ أَنَّ يَكُونُ مِثْلَ هَذَا أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى. [مَسْأَلَة وَقْت نُزُول آيَة وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَب وَالْفِضَّة] فَإِنْ قِيلَ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَفَقْرِ الصَّحَابَةِ، وَفَرَاغِ خِزَانَةِ بَيْتِ الْمَالِ. قُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ قَدْ كَانَتْ شُرِعَتْ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَغْنِيَاءً، وَبَعْضُهُمْ فُقَرَاءً، وَقَدْ كَانَ الْفَقِيرُ مِنْهُمْ يَرْبِطُ بَطْنَهُ بِالْحِجَارَةِ مِنْ الْجُوعِ، وَبُيُوتُ الصَّحَابَةِ الْأَغْنِيَاءِ مَمْلُوءَةٌ مِنْ الرِّزْقِ، يَشْبَعُ أُولَئِكَ، وَيَجُوعُ هَؤُلَاءِ، فَيَنْدُبَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الصَّدَقَةِ، وَيُرَغِّبَهُمْ فِي الْمُوَاسَاةِ، وَلَا يُوجِبُ عَلَيْهِمْ الْخُرُوجَ عَنْ جَمِيعِ أَمْوَالِهِمْ. [الْآيَة السَّابِعَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ] ْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 35]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " مَنْ تَرَكَ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ جُعِلَتْ صَفَائِحَ يُعَذَّبُ بِهَا صَاحِبُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ ". وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: " وَاَللَّهِ لَا يُعَذِّبُ اللَّهُ رَجُلًا بِكَنْزٍ فَيَمَسُّ دِرْهَمٌ دِرْهَمًا، وَلَا دِينَارٌ دِينَارًا، وَلَكِنْ يُوَسِّعُ جِلْدَهُ حَتَّى يُوضَعُ كُلُّ دِينَارٍ وَدِرْهَمٍ عَلَى حِدَتِهِ ". وَعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُوتُ وَعِنْدَهُ أَحْمَرُ أَوْ أَبْيَضُ

إلَّا جُعِلَ لَهُ بِكُلِّ قِيرَاطٍ صَفِيحَةٌ مِنْ نَارٍ فَيُكْوَى بِهَا مِنْ فَرْقِهِ إلَى قِدَمِهِ، مَغْفُورٌ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ مُعَذَّبٌ». قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهَا، وَهِيَ بَعْدُ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَسْأَلُ النَّاسَ، فَمَاتَ فَوَجَدُوا لَهُ عِشْرِينَ أَلْفًا، فَقَالَ النَّاسُ: كَنْزٌ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَعَلَّهُ كَانَ يُؤَدِّي زَكَاتَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَمَا أَدَّى زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ. وَمِثْلُهُ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ يُوَسَّعُ جِلْدُهُ فَهَذَا إنَّمَا صَحَّ فِي الْكَافِرِ أَنَّهُ تَعْظُمُ جُثَّتُهُ زِيَادَةً فِي عَذَابِهِ، وَيَغْلُظُ جِلْدُهُ، وَيَكْبُرُ ضِرْسُهُ، حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ أُحُدٍ. فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ لَهُ بِحَالٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّمَا كُوِيَتْ جَبْهَتُهُ أَوَّلًا لَعَلَّهُ أَنَّهُ كَانَ يَزْوِيهَا لِلسَّائِلِ كَرَاهِيَةً لِسُؤَالِهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: يَزِيدُ يَغُضُّ الطَّرْفَ عَنِّي كَأَنَّمَا ... زَوَى بَيْنَ عَيْنَيْهِ عَلَيَّ الْمَحَاجِمَ فَلَا يَنْبَسِطْ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْك مَا انْزَوَى ... وَلَا تَلْقَنِي إلَّا وَأَنْفُك رَاغِمُ ثُمَّ يَلْوِي عَنْ وَجْهِهِ، وَيُعْطِيهِ جَنْبَهُ إذَا زَادَهُ فِي السُّؤَالِ؛ فَإِنْ أَكْثَرَ عَلَيْهِ وَلَّاهُ ظَهْرَهُ؛ فَرَتَّبَ اللَّهُ الْعُقُوبَةَ عَلَى حَالِ الْمَعْصِيَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: " مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ طَوَّقَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَنْقُرُ رَأْسَهُ ". فَلَعَلَّهُ إنْ صَحَّ أَنْ يَكُونَ الْكَيُّ مِنْ خَارِجٍ، وَالنَّقْرُ مِنْ دَاخِلٍ. وَقَالَتْ الصُّوفِيَّةُ: لَمَّا طَلَبُوا بِكَثْرَةِ الْمَالِ الْجَاهَ شَانَ اللَّهُ وُجُوهَهُمْ، وَلَمَّا طَوَوْا كَشْحًا

مسألة عقوبة المكتنز إذا كان كافرا

عَنْ الْفَقِيرِ إذَا جَالَسَهُمْ كُوِيَتْ جَنُوبُهُمْ، وَلَمَّا أَسْنَدُوا بِظُهُورِهِمْ إلَى أَمْوَالِهِمْ ثِقَةً بِهَا وَاعْتِمَادًا عَلَيْهَا دُونَ اللَّهِ كُوِيَتْ ظُهُورُهُمْ، هَذَا وَالْكُلُّ مَعْنًى صَحِيحٌ. [مَسْأَلَة عقوبة الْمُكْتَنِزُ إذَا كَانَ كَافِرًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إنْ كَانَ الْمُكْتَنِزُ كَافِرًا فَهَذِهِ بَعْضُ عُقُوبَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا فَهَذِهِ عُقُوبَتُهُ إنْ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْفَى عَنْهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّمَا عَظُمَ الْوَعِيدُ فِي هَذَا الْبَابِ لِمَا فِي اخْتِلَافِ الْعِبَادِ مِنْ الشُّحِّ عَلَى الْمَالِ وَالْبُخْلِ بِهِ؛ فَإِذَا خَافُوا مِنْ عَظِيمِ الْوَعِيدِ لَانُوا فِي أَدَاءِ الطَّاعَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الثَّامِنَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا] فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36]. فِيهَا ثَمَانِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمُوا أَنَارَ اللَّهُ أَفْئِدَتَكُمْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَزَيَّنَهَا بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَرَتَّبَ فِيهَا النُّورَ وَالظُّلْمَةَ، وَرَكَّبَ عَلَيْهَا الْمَصَالِحَ الدُّنْيَوِيَّةَ وَالْعِبَادَاتِ الدِّينِيَّةَ، وَأَحْكَمَ الشُّهُورَ وَالْأَعْوَامَ، وَنَظَّمَ بِالْكُلِّ مِنْ ذَلِكَ مَا خَلَقَ مِنْ مَصْلَحَةٍ وَمَنْفَعَةٍ، وَعِبَادَةٍ وَطَاعَةٍ، وَعَلِمَ ذَلِكَ النَّاسُ أَوَّلًا وَآخِرًا، ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً؛ فَقَالَ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران: 190] إلَى: الْأَلْبَابِ. وَقَالَ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً} [يونس: 5] إلَى: بِالْحَقِّ. فَأَخَذَ كُلُّ فَرِيقٍ ذَلِكَ فَاضْطَرَبُوا فِي تَفْصِيلِهِ، فَقَالَ الرُّومُ: السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، وَالشُّهُورُ مُخْتَلِفَةٌ؛ شَهْرٌ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَشَهْرٌ ثَلَاثُونَ يَوْمًا، وَشَهْرٌ وَاحِدٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا.

وَقَالَ الْفُرْسُ: الشُّهُورُ كُلُّهَا ثَلَاثُونَ يَوْمًا، إلَّا شَهْرًا وَاحِدًا، فَإِنَّهُ مِنْ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا. وَقَالَتْ الْقِبْطُ بِقَوْلِهَا: إنَّ الشَّهْرَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا، إلَّا أَنَّهُ إذَا كَمُلَ الْعَامُ أَلْغَتْ خَمْسَةَ أَيَّامٍ تُنْسِئَهَا بِزَعْمِهَا. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ عَامٍ مِنْ رُبْعِ يَوْمٍ مَزِيدًا عَلَى الْعَامِ، ثُمَّ يَجْتَمِعُ مِنْهُ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ أَعْوَامٍ يَوْمٌ فَيُكْبَسُ أَيْ يُلْغَى، وَيُزَادُ فِي الْعَدَدِ، وَيُسْتَأْنَفُ الْعَامُ بَعْدَهُ، وَهَذَا كُلُّهُ قَصْدًا لِتَرْتِيبِ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَحْقِيقُ الْقَوْلِ: إنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّنَةَ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْبُرُوجَ فِي السَّمَاءِ اثْنَيْ عَشَرَ بُرْجًا، وَرَتَّبَ فِيهَا سَيْرَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَجَعَلَ مَسِيرَ الْقَمَرِ، وَقَطْعَهُ لَلْفَلَكِ فِي كُلِّ شَهْرٍ، وَجَعَلَ سَيْرَ الشَّمْسِ فِيهَا، وَقَطْعَهُ فِي كُلِّ عَامٍ، وَيَتَقَابَلَانِ فِي الِاسْتِعْلَاءِ فَيَعْلُو الْقَمَرُ إلَى الِاسْتِوَاءِ، وَتَسْفُلُ الشَّمْسُ، وَتَعْلُو الشَّمْسُ، وَيَسْفُلُ الْقَمَرُ، وَهَكَذَا عَلَى الْأَزْمِنَةِ الْأَرْبَعَةِ، وَفِي الشُّهُورِ الِاثْنَيْ عَشَرَ، وَجَعَلَ عَدَدَ أَيَّامِ السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ رُبْعَ يَوْمٍ وَأَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا وَثَلَاثَمِائَةِ يَوْمٍ، وَجَعَلَ أَيَّامَ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ رُبْعَ يَوْمٍ وَخَمْسَةً وَسِتِّينَ يَوْمًا وَثَلَاثَمِائَةِ يَوْمٍ؛ فَرَكَّبَ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذَا مَسْأَلَةً، وَهِيَ إذَا قَالَ: لَا أُكَلِّمُهُ الشُّهُورَ، فَلَا يُكَلِّمُهُ حَوْلًا مُجْرِمًا: كَامِلًا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ} [التوبة: 36]. وَقِيلَ: لَا يُكَلِّمُهُ أَبَدًا. وَأَرَى إنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَنْ يَقْضِيَ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ شُهُورٍ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ الْجَمْعِ بِيَقِينِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ صِيغَةُ فُعُولٍ فِي جَمْعِ فَعْلٍ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ جَعَلَ سَنَةً مِنْ السَّنِينِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِقْدَارَ مَا يَجْتَمِعُ مِنْ الْكَسْرِ فِي الزِّيَادَةِ فَيَلْغُونَ مِنْهُ شَهْرًا فِي سَنَةٍ، وَقَصْدُهُمْ بِذَلِكَ كُلِّهِ أَلَّا تَغَيَّرَ الشُّهُورُ عَنْ أَوْقَاتِهَا الَّتِي تَجْرِي عَلَيْهَا فِي الْأَزْمِنَةِ الْأَرْبَعَةِ: الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، وَالْقَيْظِ وَالْخَرِيفِ.

مسألة معنى قوله تعالى في كتاب الله

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مِمَّا ضَلَّ فِيهِ جُهَّالُ الْأُمَمِ أَنَّهُمْ وَضَعُوا صَوْمَهُمْ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ وَضْعُ الشَّرِيعَةِ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ أَنْ يَكُونَ بِالْأَهِلَّةِ حَتَّى يَخِفَّ تَارَةً وَيَثْقُلَ أُخْرَى، حَتَّى يَعُمَّ الِابْتِلَاءُ الْجِهَتَيْنِ جَمِيعًا؛ فَيَخْتَلِفَ الْحَالُ فِيهِ عَلَى الْوَاحِدِ. وَالنَّفْسُ كَثِيرًا مَا تَسْكُنُ إلَى ذَلِكَ أَوْ يَخْتَلِفُ فِيهِ الْحَالُ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَالْأَمَةِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى أَيْضًا. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فِي كِتَابِ اللَّهِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى {فِي كِتَابِ اللَّهِ} [التوبة: 36]: يُرِيدُ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ. فَقَالَ لَهُ: اُكْتُبْ فَكَتَبَ مَا يَكُونُ إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ؛ فَعَلِمَ اللَّهُ مَا يَكُونُ فِي الْأَزَلِ، ثُمَّ كَتَبَهُ، ثُمَّ خَلَقَهُ كَمَا عَلِمَ وَكَتَبَ».؛ فَانْتَظَمَ الْعِلْمُ وَالْكِتَابُ وَالْخَلْقُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى {يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [التوبة: 36]: مُتَعَلِّقٌ بِالْمَصْدَرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {كِتَابِ اللَّهِ} [التوبة: 36]، كَمَا أَنَّ حَرْفَ الْجَرِّ مِنْ قَوْلِهِ: فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَهُوَ: فِي، لَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ عِدَّةَ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ قَدْ حَالَ بَيْنَهُمَا، وَلَكِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ صِفَةٍ لِلْخَبَرِ، كَأَنَّهُ قَالَ مَعْدُودَةً أَوْ مُؤَدَّاةً أَوْ مَكْتُوبَةً فِي كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِك: زَيْدٌ فِي الدَّارِ، وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي مَلْجَئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ ". [مَسْأَلَة مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36]: وَهِيَ: رَجَبٌ الْفَرْدُ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ. ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ: ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ؛ وَرَجَبٌ». وَفِي رِوَايَةٍ: «وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ». وَقَوْلُهُ: {حُرُمٌ} [التوبة: 36] جَمْعُ حَرَامٍ، كَأَنَّهُ يُوجِدُ احْتِرَامَهَا بِمَا مَنَعَ فِيهَا مِنْ الْقِتَالِ، وَأَوْقَعَ فِي قُلُوبِ النَّاسِ لَهَا مِنْ التَّعْظِيمِ.

مسألة معنى قوله تعالى فلا تظلموا فيهن أنفسكم

وَمَعْنَى قَوْلِهِ: " رَجَبُ مُضَرَ " فَبِمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ أَنَّ بَعْضَ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، وَأَحْسِبُهُ مِنْ رَبِيعَةَ، كَانُوا يُحَرِّمُونَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَيُسَمُّونَهُ رَجَبَ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَخْصِيصَهُ بِالْبَيَانِ بِاقْتِصَارِ مُضَرَ عَلَى تَحْرِيمِهِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ». وَذَلِكَ كُلُّهُ بَيَانٌ لِتَحْقِيقِ الْحَالِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى رَفْعِ مَا كَانَ وَقَعَ فِيهَا مِنْ الِاخْتِلَالِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَظْلِمُوا أَنْفُسَكُمْ فِي الشُّهُورِ كُلِّهَا. وَقِيلَ فِي الثَّانِي: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالظُّلْمِ عَلَى قَوْلَيْنِ أَيْضًا: أَحَدُهُمَا: لَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ بِتَحْلِيلِهِنَّ. وَقِيلَ: بِارْتِكَابِ الذُّنُوبِ فِيهِنَّ؛ فَإِنَّ اللَّهَ إذَا عَظَّمَ شَيْئًا مِنْ جِهَةٍ صَارَتْ لَهُ حُرْمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِذَا عَظَّمَهُ مِنْ جِهَتَيْنِ أَوْ مِنْ جِهَاتٍ صَارَتْ حُرْمَتُهُ مُتَعَدِّدَةً بِعَدَدِ جِهَاتِ التَّحْرِيمِ، وَيَتَضَاعَفُ الْعِقَابُ بِالْعَمَلِ السُّوءِ فِيهَا، كَمَا ضَاعَفَ الثَّوَابَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِيهَا؛ فَإِنَّ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَيْسَ كَمَنْ أَطَاعَهُ فِي شَهْرٍ حَلَالٍ فِي بَلَدٍ حَلَالٍ فِي بُقْعَةٍ حَلَالٍ. وَكَذَلِكَ الْعِصْيَانُ وَالْعَذَابُ مِثْلُهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَالْحَالَيْنِ وَالصِّفَتَيْنِ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ بِحُكْمِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ. وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] لِعِظَمِهِنَّ وَشَرَفِهِنَّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. [مَسْأَلَة كَيْفَ جَعَلَ بَعْضَ الْأَزْمِنَةِ أَعْظَمَ حُرْمَةً مِنْ بَعْضٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فَإِنْ قِيلَ: وكَيْفَ جَعَلَ بَعْضَ الْأَزْمِنَةِ أَعْظَمَ حُرْمَةً مِنْ بَعْضٍ؟ قُلْنَا: عَنْهُ جَوَابَانِ:

مسألة أول الأشهر الحرم

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَارِيَ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، لَيْسَ عَلَيْهِ حَجْرٌ، وَلَا لِعَمَلِهِ عِلَّةٌ؛ بَلْ كُلُّ ذَلِكَ بِحِكْمَةٍ، وَقَدْ يَظْهَرُ لِلْخَلْقِ وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِيهِ، وَقَدْ يَخْفَى. الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ النَّفْسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى اقْتِضَاءِ الشَّهَوَاتِ، فَلَمَّا وَجَبَتْ عَلَيْهِ تَكَالِيفُ الْمُحَرَّمَاتِ جَعَلَ بَعْضَهَا أَغْلَظَ مِنْ بَعْضٍ، لِيُعْتَادَ بِكَفِّهَا عَنْ الْأَخَفِّ، الْكَفُّ عَنْ الْأَغْلَظِ، وَيَجْعَلُ بَعْضَ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ أَعْظَمَ حُرْمَةً مِنْ بَعْضٍ؛ لِيُعْتَادَ فِي الْخَفِيفِ الِامْتِثَالُ، فَيَسْهُلَ عَلَيْهِ فِي الْغَلِيظِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة أَوَّل الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْأَشْهُرِ [الْحُرُمِ]؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَوَّلُهَا الْمُحَرَّمُ وَآخِرُهَا ذُو الْحِجَّةِ، لِأَنَّهُ عَلَى تَقْرِيرِ شُهُورِ الْعَامِ، الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ. الثَّانِي: أَنَّ أَوَّلَهَا رَجَبٌ، وَآخِرُهَا الْمُحَرَّمُ مَعْدُودَةً مِنْ عَامَيْنِ؛ لِأَنَّ رَجَبًا لَهُ فَضْلُ الْإِفْرَادِ. الثَّالِثُ: أَنَّ أَوَّلَهَا ذُو الْقَعْدَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ التَّوَالِيَ دُونَ التَّقْطِيعِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَعْدَادِهَا: «ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ؛ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ». وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ مِنْ رِوَايَةِ الصَّحِيحِ. [الْآيَة التَّاسِعَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً] ً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:

الآية الموفية عشرين قوله تعالى إنما النسيء زيادة في الكفر

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29] إلَى قَوْلِهِ: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة: 29]. وَقَالَ هَاهُنَا: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36]: يَعْنِي مُحِيطِينَ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ وَحَالَةٍ، فَمَنَعَهُمْ ذَلِكَ مِنْ الِاسْتِرْسَالِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى {كَافَّةً} [التوبة: 36]: مَصْدَرُ حَالٍ، وَوَزْنُهُ فَاعِلَةً، وَهُوَ غَرِيبٌ فِي الْمَصَادِرِ، كَالْعَافِيَةِ وَالْعَاقِبَةِ، اُشْتُقَّ مِنْ كِفَّةِ الشَّيْءِ، وَهُوَ حَرْفُهُ الَّذِي لَا يَبْقَى بَعْدَهُ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ عَامَّةً وَخَاصَّةً، وَلَا يُثَنَّى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يُجْمَعُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الطَّبَرِيُّ: مَعْنَاهُ مُؤْتَلِفِينَ غَيْرَ مُخْتَلِفِينَ، فَرُدَّ ذَلِكَ إلَى الِاعْتِقَادِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْفِعْلِ وَالِاعْتِقَادِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36]: يَعْنِي بِالنَّصْرِ وَعْدًا مَرْبُوطًا بِالتَّقْوَى، فَإِنَّمَا تَنْصُرُونَ بِأَعْمَالِكُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. [الْآيَة الْمُوفِيَة عشرين قَوْله تَعَالَى إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ] ِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 37]. فِيهَا ثَمَانِي مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى {النَّسِيءُ} [التوبة: 37]: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ الزِّيَادَةُ، يُقَالُ: نَسَأَ يَنْسَأُ، إذَا زَادَ؛ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. الثَّانِي: أَنَّهُ التَّأْخِيرُ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: يُقَالُ أَنْسَأْت الشَّيْءَ إنْسَاءً، وَنَسَاءَ اسْمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ، وَلَهُ مَعَانٍ كَثِيرَةٍ.

مسألة كيفية النسيء

أَمَّا الطَّبَرِيُّ فَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ الْجَرِّ، فَيُقَالُ: أَنْسَأَ اللَّهُ فِي أَجَلِك، كَمَا تَقُولُ: زَادَ اللَّهُ فِي أَجَلِك، وَتَقُولُ: أَنْسَأَ اللَّهُ فِي أَجَلِك أَيْ زَادَهُ مُدَّةً، وَاكْتَفَى بِأَحَدِ الْمَفْعُولَيْنِ عَنْ الثَّانِي، وَمَنَعَ مِنْ قِرَاءَتِهِ بِغَيْرِ الْهَمْزِ، وَرَدَّ عَلَى نَافِعٍ، وَقَالَ: لَا يَكُونُ بِتَرْكِ الْهَمْزِ إلَّا مِنْ النِّسْيَانِ، كَمَا قَالَ: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]. وَاحْتَجَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ التَّأْخِيرُ بِنَقْلِ الْعَرَبِ لِهَذَا التَّفْسِيرِ عَنْ أَوَائِلِهَا، وَقَيَّدَ ذَلِكَ عَنْهُمْ مَشْيَخَةُ الْعَرَبِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نَنْسَأْهَا، أَيْ نُؤَخِّرْهَا، مَهْمُوزَةٌ، وَقَدْ تُخَفَّفُ الْهَمْزُ، كَمَا يُقَالُ خَطِيَّةٌ وَخَطِيئَةٌ، وَالصَّابِيُونَ وَالصَّابِئُونَ، وَتَخْفِيفُ الْهَمْزِ أَصْلٌ، وَنَقْلُ الْحَرَكَةِ أَصْلٌ، وَالْبَدَلُ وَالْقَلْبُ أَصْلٌ كُلُّهُ لُغَوِيٌّ، وَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَخْفَى هَذَا عَلَى الطَّبَرِيِّ. وَأَمَّا فَصْلُ التَّعَدِّي فَضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ الْأَفْعَالَ الْمُتَعَدِّيَةَ بِالْوَجْهَيْنِ مِنْ وُجُوهِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَفِي تَعَدِّيهَا بِهِ، وَعَدَمِهِ كَثِيرَةٌ. [مَسْأَلَة كَيْفِيَّةُ النَّسِيءِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَيْفِيَّةُ النَّسِيءِ: ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جُنَادَةَ بْنَ عَوْفِ بْنِ أُمَيَّةَ الْكِنَانِيَّ كَانَ يُوَافِي الْمَوْسِمَ كُلَّ عَامٍ، فَيُنَادِي: أَلَا إنَّ أَبَا ثُمَامَةَ لَا يُعَابُ وَلَا يُجَابُ، أَلَا وَإِنَّ صَفَرًا الْعَامَ الْأَوَّلَ حَلَالٌ، فَنُحَرِّمُهُ عَامًا، وَنُحِلُّهُ عَامًا، وَكَانُوا مَعَ هَوَازِنَ وَغَطَفَانَ وَبَنِي سُلَيْمٍ. وَفِي لَفْظَةٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إنَّا قَدَّمْنَا الْمُحَرَّمَ وَأَخَّرْنَا صَفَرًا، ثُمَّ يَأْتِي الْعَامُ الثَّانِي فَيَقُولُ: إنَّا حَرَّمْنَا صَفَرًا وَأَخَّرْنَا الْمُحَرَّمَ؛ فَهُوَ هَذَا التَّأْخِيرُ. الثَّانِي: الزِّيَادَةُ؛ قَالَ قَتَادَةُ: عَمَدَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالَةِ فَزَادُوا صَفَرًا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، فَكَانَ يَقُومُ قَائِمُهُمْ فِي الْمَوْسِمِ فَيَقُولُ: أَلَا إنَّ آلِهَتَكُمْ قَدْ حَرَّمَتْ الْعَامَ الْمُحَرَّمَ، فَيُحَرِّمُونَهُ ذَلِكَ الْعَامَ، ثُمَّ يَقُومُ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَيَقُولُ: أَلَا إنَّ آلِهَتَكُمْ قَدْ حَرَّمَتْ صَفَرًا فَيُحَرِّمُونَهُ ذَلِكَ الْعَامَ، وَيَقُولُونَ: الصَّفَرَانِ.

وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ نَحْوَهُ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَجْعَلُونَهُ صَفَرَيْنِ، فَلِذُلِّك قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صَفَرَ». وَكَذَلِكَ رَوَى أَشْهَبُ عَنْهُ. الثَّالِثُ: تَبْدِيلُ الْحَجِّ؛ قَالَ مُجَاهِدٌ بِإِسْنَادٍ آخَرَ: إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ. قَالَ: حَجُّوا فِي ذِي الْحِجَّةِ عَامَيْنِ، ثُمَّ حَجُّوا فِي الْمُحَرَّمِ عَامَيْنِ، ثُمَّ حَجُّوا فِي صَفَرَ عَامَيْنِ، فَكَانُوا يَحُجُّونَ فِي كُلِّ سَنَةٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ عَامَيْنِ حَتَّى وَافَتْ حَجَّةُ أَبِي بَكْرٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، ثُمَّ حَجَّ النَّبِيُّ فِي ذِي الْحِجَّةِ، فَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي خُطْبَتِهِ: «إنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ». رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، وَاللَّفْظُ لَهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيُّهَا النَّاسُ، اسْمَعُوا قَوْلِي، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ يَوْمِي هَذَا فِي هَذَا الْمَوْقِفِ أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ إلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، وَإِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ. وَقَدْ بَلَّغْت، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلْيُؤَدِّهَا إلَى مَنْ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا، وَإِنَّ كُلَّ رِبًا مَوْضُوعٌ، وَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ، لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ، قَضَى اللَّهُ أَنْ لَا رِبَا، وَإِنَّ رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، وَإِنَّ كُلَّ دَمٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دِمَائِكُمْ أَضَعُ دَمَ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي لَيْثٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، فَهُوَ أَوَّلُ مَا أَبْدَأُ بِهِ مِنْ دِمَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ. أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ، وَلَكِنَّهُ إنْ يُطَعْ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا تَحْقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَقَدْ رَضِيَ بِهِ، فَاحْذَرُوهُ أَيُّهَا النَّاسُ عَلَى دِينِكُمْ، وَإِنَّ النَّسِيءَ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا إلَى قَوْلِهِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ. وَإِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَإِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةُ حُرُمٌ؛ ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ.» وَذَكَرَ سَائِرَ الْحَدِيثِ.

مسألة أول من أنسأ

[مَسْأَلَة أَوَّلِ مَنْ أَنْسَأَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي أَوَّلِ مَنْ أَنْسَأَ: فِي ذَلِكَ كَلَامٌ طَوِيلٌ لُبَابُهُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ حَيًّا مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، ثُمَّ مِنْ بَنِي فُقَيْمٍ مِنْهُمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْقَلَمَّسُ، وَاسْمُهُ حُذَيْفَةُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ فُقَيْمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَامِرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَكَانَ مَلِكًا، فَكَانَ يُحِلُّ الْمُحَرَّمَ عَامًا وَيُحَرِّمُهُ عَامًا، فَكَانَ إذَا حَرَّمَهُ كَانَتْ ثَلَاثَةُ حُرُمٍ مُتَوَالِيَاتٌ، وَهَذِهِ الْعِدَّةُ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ فِي عَهْدِ إبْرَاهِيمَ، فَإِذَا أَحَلَّهُ أَدْخَلَ مَكَانَهُ صَفَرًا، لِيُوَاطِئَ الْعِدَّةَ، يَقُولُ: قَدْ أَكْمَلْت الْأَرْبَعَةَ كَمَا كَانَتْ؛ لِأَنِّي لَمْ أُحِلَّ شَهْرًا إلَّا حَرَّمْت مَكَانَهُ آخَرَ، وَكَانَتْ الْعَرَبُ كَذَلِكَ مِمَّنْ كَانَتْ تَدِينُ بِدِينِ الْقَلَمَّسِ، فَكَانَ يَخْطُبُ بِعَرَفَةَ فَيَقُولُ: " اللَّهُمَّ إنِّي لَا أُعَابُ وَلَا أُجَابُ، وَلَا مَرَدَّ لِمَا قَضَيْت، اللَّهُمَّ إنِّي قَدْ أَحْلَلْت دِمَاءَ الْمُحِلِّينَ مِنْ طَيِّئٍ وَخَثْعَمَ، فَمَنْ لَقِيَهُمَا فَلْيَقْتُلْهُمَا " فَرَجَعَ النَّاسُ وَقَدْ أَخَذُوا بِقَوْلِهِ. وَإِنَّمَا أَحَلَّ دِمَاءَ طَيِّئٍ وَخَثْعَمَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَحُجُّونَ مَعَ الْعَرَبِ، وَلَا يُحَرِّمُونَ الْحُرُمَ، وَكَانُوا يَسْتَحِلُّونَهَا، وَكَانَ سَائِرُ الْعَرَبِ يُحَرِّمُونَ الْحُرُمَ. ثُمَّ كَانَ ابْنُهُ عَلَى النَّاسِ كَمَا كَانَ الْقَلَمَّسُ وَاسْمُهُ عَبَّادٌ، ثُمَّ ابْنُهُ أَقْلَعُ، ثُمَّ ابْنُهُ أُمَيَّةُ بْنُ أَقْلَعَ بْنُ عَبَّادٍ، ثُمَّ ابْنُهُ عَوْفُ بْنُ أُمَيَّةَ، ثُمَّ ابْنُهُ جُنَادَةُ بْنُ عَوْفٍ كَمَا تَقَدَّمَ، فَحَجَّ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَّةَ الْوَدَاعِ، وَجُنَادَةُ صَاحِبُ ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ، وَأَكْمَلَ الْحُرُمَ ثَلَاثَةً مُتَوَالِيَاتٍ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ. وَفِي رِوَايَةٍ: الْعَرَبُ كَانَتْ إذَا فَرَغَتْ مِنْ حَجِّهَا اجْتَمَعَتْ إلَيْهِ فَحَرَّمَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُحِلَّ شَيْئًا مِنْهَا لِغَنِيمَةٍ أَوْ لِغَارَةٍ أَحَلَّ الْمُحَرَّمَ وَحَرَّمَ مَكَانَهُ صَفَرًا، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ قَيْسِ بْنِ جَذْلٍ الطَّعَّانُ: لَقَدْ عَلِمَتْ مَعْدٌ أَنَّ قَوْمِي ... كِرَامُ النَّاسِ أَنَّ لَهُمْ كِرَامَا فَأَيُّ النَّاسِ فَاتُونَا بِوِتْرٍ ... وَأَيُّ النَّاسِ لَمْ تَعْلِك لِجَامَا أَلَسْنَا النَّاسِئِينَ عَلَى مَعْدٍ ... شُهُورَ الْحِلِّ نَجْعَلُهَا حَرَامًا وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرُ هَذَا بِزِيَادَةٍ عَلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلِهَا.

مسألة معنى قوله تعالى ليواطئوا عدة ما حرم الله

[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْإِنْسَاءَ كَانَ عِنْدَ الْعَرَبِ زِيَادَةً وَتَأْخِيرًا وَتَبْدِيلًا، وَأَقَلُّهُ صِحَّةً الزِّيَادَةُ، لِقَوْلِهِ: {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 37] فَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْإِنْسَاءِ مَا كَانَ تَبْدِيلًا [أَوْ تَأْخِيرًا]، وَأَقَلُّهُ الزِّيَادَةُ. وَالْمُوَاطَأَةُ هِيَ الْمُوَافَقَةُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: وَاطَأْتُك عَلَى الْأَمْرِ، أَيْ وَافَقْتُك عَلَيْهِ، فَكَانُوا يَحْفَظُونَ عِدَّةَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الَّتِي هِيَ أَرْبَعَةٌ، لَكِنَّهُمْ يُبَدِّلُونَ وَيُؤَخِّرُونَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الْمُوَاطَأَةَ عَلَى الْعِدَّةِ تَكْفِي، وَإِنْ خَالَفَتْ فِي أَعْيَانِ الْأَشْهُرِ الْمُحَرَّمَاتِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَاءُ عِنْدَهُمْ بِالثَّلَاثَةِ الْأَوْجُهِ، فَذَكَرَ اللَّهُ مِنْهَا الْوَجْهَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الزِّيَادَةَ، وَعِظَمَ التَّبْدِيلِ وَالتَّأْخِيرِ، وَإِنْ وَقَعَتْ الْمُوَافَقَةُ فِي الْعَدَدِ، فَكَانَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمُخَالَفَةَ فِي وَجْهٍ أَزْيَدُ فِي الْكُفْرِ، وَأَعْظَمُ فِي الْإِثْمِ. [مَسْأَلَة أَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ الشَّرِيعَةِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى {زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37]: قَدْ بَيَّنَّا الْكُفْرَ وَحَقِيقَتَهُ، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الْإِنْكَارِ، فَمَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ الشَّرِيعَةِ فَهُوَ كَافِرٌ؛ وَلِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَالزِّيَادَةُ [فِيهِ] وَالنُّقْصَانُ مِنْهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ [وَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ فِي الْإِيمَانِ وَالنُّقْصَانُ مِنْهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ]، وَبَيَّنَّا حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَاخْتِلَافَ النَّاسِ فِيهِمَا وَالْحَقَّ مِنْ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ عَلَى وَجْهٍ مُسْتَوْفًى؛ لُبَابُهُ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ اخْتَلَفُوا فِي الْإِيمَانِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ الْمَعْرِفَةُ قَالَهُ شَيْخُ السَّنَةِ، وَاخْتَارَهُ لِسَانُ الْأُمَّةِ فِي مَوَاضِعَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ التَّصْدِيقُ؛ قَالَهُ لِسَانُ الْأُمَّةِ أَيْضًا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ الِاعْتِقَادُ وَالْقَوْلُ وَالْعَمَلُ. فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ الْمَعْرِفَةُ مِنْهُمْ فَقَدْ خَالَفَ اللُّغَةَ، وَتَجَوَّزَ ظَاهِرَهَا إلَى وَجْهٍ مِنْ التَّأْوِيلِ فِيهَا.

وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ التَّصْدِيقُ فَقَدْ وَافَقَ مُطْلَقَ اللُّغَةِ، لَكِنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى التَّصْدِيقِ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْأَمَانِ قَالَ النَّابِغَةُ: وَالْمُؤْمِنُ الْعَائِذَاتِ الطَّيْرَ يَمْسَحُهَا ... رُكْبَانُ مَكَّةَ بَيْنَ الْغَيْلِ وَالسِّنْدِ وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ الِاعْتِقَادُ وَالْقَوْلُ وَالْعَمَلُ فَقَدْ جَمَعَ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا، وَرَكَّبَ تَحْتَ اللَّفْظِ مُخْتَلِفَاتٍ كَثِيرَةً، وَلَمْ يَبْعُدْ مِنْ طَرِيقِ التَّحْقِيقِ فِي جِهَةِ الْأُصُولِ وَلَا فِي جِهَةِ اللُّغَةِ؛ أَمَّا فِي جِهَةِ اللُّغَةِ فَلِأَنَّ الْفِعْلَ يُصَدِّقُ الْقَوْلَ أَوْ يُكَذِّبُهُ؛ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ، وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ، وَالنَّفْسُ تُمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ». فَإِذَا عَلِمَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَلْيَتَكَلَّمْ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ بِمَا عَلِمَ فَلْيَعْمَلْ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ، فَيَطَّرِدُ الْفِعْلُ وَالْقَوْلُ وَالْعِلْمُ، فَيَقَعُ إيمَانًا لُغَوِيًّا شَرْعِيًّا؛ أَمَّا لُغَةً فَلِأَنَّ الْعَرَبَ تَجْعَلُ الْفِعْلَ تَصْدِيقًا قَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا} [مريم: 54] وَصِدْقُ الْوَعْدِ اتِّصَالُ الْفِعْلِ بِالْقَوْلِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مَجَازٌ. قُلْنَا: هَذِهِ حَقِيقَةٌ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى جَاءَ قَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]. وَعَلَى ضِدِّهِ جَاءَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ». إذَا ثَبَتَ هَذَا فَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي الزِّيَادَةِ فِيهِمَا وَالنُّقْصَانِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ الْمَعْرِفَةُ أَوْ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ فَأَبْعَدَ الزِّيَادَةَ فِيهِ وَالنُّقْصَانَ؛ لِأَنَّهَا

أَعْرَاضٌ؛ وَزَعَمُوا أَنَّ الزِّيَادَةَ أَوْ النَّقْصَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْأَعْرَاضِ، وَإِنَّمَا يَتَأَتَّى فِي الْأَجْسَامِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ الْأَعْمَالُ فَتَصَوَّرَ فِيهَا الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ. وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ: هَلْ يَزِيدُ الْإِيمَانُ وَيَنْقُصُ؟ فَقَالَ: يَزِيدُ، وَلَمْ يَقُلْ يَنْقُصُ. وَأَطْلَقَ غَيْرُهُ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ عَلَيْهِ. وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعِلْمَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ، وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ، وَالْكُلُّ بَأْجٌ وَاحِدٌ وَحَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، لَا يَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ وَلَا يَخْرُجُ وَاحِدٌ مِنْهَا عَنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا أَعْرَاضًا كَمَا بَيَّنَّا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَزِيدُ بِذَاتِهِ وَلَا يَنْقُصُ بِهَا، وَإِنَّمَا لَهُ وُجُودٌ أَوَّلُ، فَلِذَلِكَ الْوُجُودُ أَصْلٌ، ثُمَّ إذَا انْضَافَ إلَيْهِ وُجُودٌ مِثْلُهُ وَأَمْثَالُهُ كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِيهِ، وَإِنْ عُدِمْت تِلْكَ الزِّيَادَةُ فَهُوَ النَّقْصُ، وَإِنْ عُدِمَ الْوُجُودُ الْأَوَّلُ الَّذِي يَتَرَكَّبُ عَلَيْهِ الْمِثْلُ لَمْ يَكُنْ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ؛ وَقَدْرُ ذَلِكَ فِي الْعِلْمُ أَوْ فِي الْحَرَكَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إذَا خَلَقَ عِلْمًا فَرْدًا، وَخَلَقَ مَعَهُ مِثْلَهُ أَوْ أَمْثَالَهُ بِمَعْلُومَاتٍ مُقَدَّرَةٍ فَقَدْ زَادَ عِلْمُهُ، فَإِنْ أَعْدَمَ اللَّهُ الْأَمْثَالَ فَقَدْ نَقَصَ أَيْ زَالَتْ الزِّيَادَةُ. وَكَذَلِكَ لَوْ خَلَقَ حَرَكَةً وَخَلَقَ مَعَهَا مِثْلَهَا أَوْ أَمْثَالَهَا، فَإِذَا خَلَقَ اللَّهُ لِلْعَبْدِ الْعِلْمَ بِهِ مِنْ وَجْهٍ وَخَلَقَ لَهُ التَّصْدِيقَ بِهِ بِالْقَوْلِ النَّفْسِيِّ، أَوْ الظَّاهِرِ، وَخَلَقَ لَهُ الْهُدَى لِلْعَمَلِ بِهِ [وَلَيْسَ الْعَمَلُ]، ثُمَّ خَلَقَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ وَأَمْثَالَهُ فَقَدْ زَادَ إيمَانُهُ. وَبِهَذَا الْمَعْنَى عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ فُضِّلَ الْأَنْبِيَاءِ [عَلَى] الْخَلْقِ، فَإِنَّهُمْ عَلِمُوهُ تَعَالَى مِنْ وُجُوهٍ أَكْثَرَ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي عَلِمَهُ الْخَلْقُ بِهَا، فَمَنْ عَذِيرِي مِمَّنْ يَقُولُ: إنَّ الْأَعْمَالَ تَزِيدُ وَتَنْقُصُ وَلَا تَزِيدُ الْمَعْرِفَةُ وَلَا تَنْقُصُ؛ لِأَنَّهَا عَرَضٌ، وَلَا يُعْلَمُ أَنَّ الْأَعْمَالَ أَعْرَاضٌ

مسألة أنواع الكفر

وَالْحَالَةُ فِيهِمَا وَاحِدَةٌ؛ وَقَدْ صَرَّحَ اللَّهُ بِالزِّيَادَةِ فِي الْإِيمَانِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، فَقَالَ: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31]. {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76]. وَقَالَ: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [التوبة: 124]. وَقَالَ فِي جِهَةِ الْكُفَّارِ: {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125]. فَأَطْلَق الزِّيَادَةَ فِي الْوَجْهَيْنِ: وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّ مَالِكًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِعِلْمِهِ وَوَرَعِهِ امْتَنَعَ مِنْ إطْلَاقِ النَّقْصِ فِي الْإِيمَانِ لِوُجُوهٍ بَيَّنَّاهَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، مِنْهَا: أَنَّ الْإِيمَانَ يَتَنَاوَلُ إيمَانَ اللَّهِ وَإِيمَانَ الْعَبْدِ؛ فَإِذَا أُطْلِقَ إضَافَةُ النَّقْصِ إلَى مُطْلَقِ الْإِيمَانِ دَخَلَ فِي ذَلِكَ إيمَانُ اللَّهِ، وَلَا يَجُوزُ إضَافَةُ ذَلِكَ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ لِاسْتِحَالَتِهِ فِيهِ عَقْلًا، وَامْتِنَاعِهِ شَرَعَا. وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ إضَافَةُ ذَلِكَ إلَى إيمَانِ الْعَبْدِ عَلَى التَّخْصِيصِ، بِأَنْ يَقُولَ: إيمَانُ الْخَلْقِ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. وَمِنْهَا أَنَّ الْإِيمَانَ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي يَجِبُ مَدْحُهَا، وَيَحْرُمُ ذَمُّهَا شَرْعًا، وَالنَّقْصُ صِفَةُ ذَمٍّ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ فِيهِ، وَيَحْرُمُ الذَّمُّ، فَإِذَا تَحَرَّرَ لَكُمْ هَذَا وَيَسَّرَ اللَّهُ قَبُولَ أَفْئِدَتِكُمْ لَهُ فَإِنَّهُ مُقَلِّبُ الْأَفْئِدَةِ وَالْأَبْصَارِ. . [مَسْأَلَة أَنْوَاعِ الْكُفْرِ] فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى: وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37]: بَيَانٌ لِمَا فَعَلَتْهُ الْعَرَبُ مِنْ جَمْعِهَا بَيْنَ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ، فَإِنَّهَا أَنْكَرَتْ وُجُودَ الْبَارِي، فَقَالَتْ: وَمَا الرَّحْمَنُ؟ فِي أَصَحِّ الْوُجُوهِ. وَأَنْكَرَتْ الْبَعْثَ، فَقَالَتْ: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78]. وَأَنْكَرَتْ بَعْثَةَ الرُّسُلِ، فَقَالَتْ: {أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ} [القمر: 24]. وَزَعَمَتْ أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ إلَيْهَا، فَابْتَدَعَتْ مِنْ ذَاتِهَا مُقْتَفِيَةً لِشَهَوَاتِهَا التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ، ثُمَّ زَادَتْ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ بِأَنْ غَيَّرَتْ دَيْنَ اللَّهِ، وَأَحَلَّتْ مَا حَرَّمَ، وَحَرَّمَتْ مَا

الآية الحادية والعشرون قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا

أَحَلَّ تَبْدِيلًا وَتَحْرِيفًا، وَاَللَّهُ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، وَهَكَذَا فِي جَمِيعِ مَا فَعَلَتْ مِنْ تَغْيِيرِ الدَّيْنِ وَتَبْدِيلِ الشَّرْعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} [التوبة: 37]: أَيْ خَلَقَ لَهُمْ اعْتِقَادَ الْحُسْنِ فِيهَا، وَهِيَ قَبِيحَةٌ، فَنَظَرُوا فِيهَا بِالْعَيْنِ الْعَوْرَاءِ؛ لِطَمْسِ أَعْيُنِهِمْ وَفَسَادِ بَصَائِرَهُمْ؛ وَذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ فِي عَدَمِ الْهُدَى لِلْكَافِرِينَ. . [الْآيَة الْحَادِيَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمْ انْفِرُوا] فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ} [التوبة: 38]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {مَا لَكُمْ} [التوبة: 38]: مَا: حَرْفُ اسْتِفْهَامٍ، التَّقْدِيرُ: أَيُّ شَيْءٍ يَمْنَعُكُمْ عَنْ كَذَا؟ كَمَا تَقُولُ مَا لَك عَنْ فُلَانٍ مُعْرِضًا. وَنِظَامُهُ الصِّنَاعِيُّ مَا حَصَّلَ لَك مَانِعًا لِكَذَا أَوْ كَذَا. وَكَذَا تَقُولُ: مَا لَك تَقُومُ وَتَقْعُدُ؟ التَّقْدِيرُ: أَيُّ شَيْءٍ حَصَّلَ لَك مَانِعًا مِنْ الِاسْتِقْرَارِ؟ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 38]: يُقَالُ: نَفَرَ إذَا زَالَ عَنْ الشَّيْءِ. وَتَصْرِيفُهُ نَفَرَ يَنْفِرُ نَفِيرًا، وَنَفَرَتْ الدَّابَّةُ تَنْفِرُ نُفُورًا، وَكَأَنَّ النُّفُورَ فِي الْإِبَايَةِ، وَالنَّفِيرَ فِي الْإِقْبَالِ وَالسِّعَايَةِ. وَقَدْ يُؤَلَّفَانِ عَلَى رَأْيِ مِنْ يَرَى تَأْلِيفَ الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ تَحْتَ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ بِوَجْهٍ يَبْعُدُ تَارَةً وَيَقْرُبُ أُخْرَى، وَيَكُونُ تَأْوِيلُهُ هَاهُنَا: زُولُوا عَنْ أَرْضِيكُمْ وَأَهْلِيكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. [مَسْأَلَة مَحَلِّ النَّفِيرِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي مَحَلِّ النَّفِيرِ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَزْوَةُ تَبُوكَ، دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَيْهَا فِي حَمَّارَةِ

مسألة توبيخ على ترك الجهاد

الْقَيْظِ، وَطَيِّبِ الثِّمَارِ، وَبَرْدِ الظِّلَالِ؛ فَاسْتَوْلَى عَلَى النَّاسِ الْكَسَلُ، وَغَلَبَهُمْ عَلَى الْمَيْلِ إلَيْهَا الْأَمَلُ، فَتَقَاعَدُوا عَنْهُ، وَتَثَاقَلُوا عَلَيْهِ، فَوَبَّخَهُمْ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ هَذَا، وَعَابَ عَلَيْهِمْ الْإِيثَارَ لِلدُّنْيَا عَلَى ثَوَابِ الْآخِرَةِ. [مَسْأَلَة تَوْبِيخٌ عَلَى تَرْكِ الْجِهَادِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ {اثَّاقَلْتُمْ} [التوبة: 38]: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَعْنَاهُ تَثَاقَلْتُمْ، وَهَذَا تَوْبِيخٌ عَلَى تَرْكِ الْجِهَادِ، وَعِتَابٌ فِي التَّقَاعُدِ عَنْ الْمُبَادَرَةِ إلَى الْخُرُوجِ. وَنَحْوُ قَوْلِهِ: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 38] هُوَ قَوْلُهُ: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] الْمَعْنَى لَا تُقْبِلُوا عَلَى الْأَمْوَالِ إيثَارًا لَهَا عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَلَا تَرْكَنُوا إلَى التِّجَارَةِ الْحَاضِرَةِ، تَقْدِيمًا لَهَا عَلَى التِّجَارَةِ الرَّابِحَةِ الَّتِي تُنْجِيكُمْ مِنْ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. [مَسْأَلَة إيثَارِ الرَّاحَةِ فِي الدُّنْيَا عَلَى الرَّاحَةِ فِي الْآخِرَةِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} [التوبة: 38]: يَعْنِي بَدَلًا مِنْ الْآخِرَةِ، وَيَرِدُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ نَثْرًا، وَنَظْمًا؛ قَالَ الشَّاعِرُ: فَلَيْتَ لَنَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ شَرْبَةً ... مُبَرَّدَةً بَاتَتْ عَلَى الطَّهَيَانِ أَرَادَ لَيْتَ لَنَا بَدَلًا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ. وَالطَّهَيَانُ: عُودٌ يُنْصَبُ فِي سَاحَةِ الدَّارِ لِلْهَوَاءِ، وَيُعَلَّقُ عَلَيْهِ إنَاءٌ لَيْلًا حَتَّى يَبْرُدَ. عَاتَبَهُمْ عَلَى إيثَارِ الرَّاحَةِ فِي الدُّنْيَا عَلَى الرَّاحَةِ فِي الْآخِرَةِ؛ إذْ لَا تُنَالُ رَاحَةُ الْآخِرَةِ إلَّا بِنَصَبِ الدُّنْيَا. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَقَدْ طَافَتْ رَاكِبَةً: «أَجْرُكِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ». وَهَذَا لَا يَصْدُرُ إلَّا عَنْ قَلْبٍ مُوقِنٍ بِالْبَعْثِ.

الآية الثانية والعشرون قوله تعالى إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما

[الْآيَة الثَّانِيَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى إلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا] وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة: 39]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، وَوَعِيدٌ مُؤَكَّدٌ، فِي تَرْكِ النَّفِيرِ: وَمِنْ مُحَقَّقَاتِ مَسَائِلِ الْأُصُولِ أَنَّ الْأَمْرَ إذَا وَرَدَ فَلَيْسَ فِي وُرُودِهِ أَكْثَرُ مِنْ اقْتِضَاءِ الْفِعْلِ؛ فَأَمَّا الْعِقَابُ عِنْدَ التَّرْكِ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَا يَقْتَضِيهِ الِاقْتِضَاءُ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْعِقَابُ بِالْخَبَرِ عَنْهُ، كَقَوْلِهِ: إنْ لَمْ تَفْعَلُ كَذَا عَذَّبْتُكَ بِكَذَا، كَمَا وَرَدَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ؛ فَوَجَبَ بِمُقْتَضَاهَا النَّفِيرُ لِلْجِهَادِ، وَالْخُرُوجُ إلَى الْكُفَّارِ لِمُقَابَلَتِهِمْ عَلَى أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا. [مَسْأَلَة نَوْعِ الْعَذَابِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي نَوْعِ الْعَذَابِ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ حَبْسُ الْمَطَرِ عَنْهُمْ. فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَهُوَ أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ قَالَهُ، وَإِلَّا فَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ هُوَ الَّذِي فِي الدُّنْيَا بِاسْتِيلَاءِ الْعَدُوِّ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْتَوْلِ عَلَيْهِ، وَبِالنَّارِ فِي الْآخِرَةِ، وَزِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ اسْتِبْدَالُ غَيْرِكُمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [محمد: 38]. [الْآيَة الثَّالِثَةُ وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى إلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ] الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ {إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40]. فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: النَّصْرُ: هُوَ الْمَعُونَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.

مسألة قوله تعالى ثاني اثنين

[مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى ثَانِيَ اثْنَيْنِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} [التوبة: 40]: وَلِلْعَرَبِ فِي ذَلِكَ لُغَتَانِ: تَقُولُ ثَانِيَ اثْنَيْنِ، وَثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَرَابِعُ أَرْبَعَةٍ، بِمَعْنَى أَحَدُهُمَا، مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْمُضَافِ إلَيْهِ. وَتَقُولُ أَيْضًا: خَامِسُ أَرْبَعَةٍ، أَيْ الَّذِي صَيَّرَهُمْ خَمْسَةً. [مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى إلَّا تَنْصُرُوهُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {إِلا تَنْصُرُوهُ} [التوبة: 40]: يَعْنِي يُعِينُوهُ بِالنَّفِيرِ مَعَهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ بِصَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَيَّدَهُ بِجُنُودِ الْمَلَائِكَةِ. رَوَى أَصْبَغُ، وَأَبُو زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] هُوَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ. قَالَ: فَرَأَيْت مَالِكًا يَرْفَعُ بِأَبِي بَكْرٍ جِدًّا لِهَذِهِ الْآيَةِ. قَالَ: وَكَانُوا فِي الْهِجْرَةِ أَرْبَعَةً، مِنْهُمْ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَرُقَيْطُ الدَّلِيلُ. قَالَ غَيْرُ مَالِكٍ: يُقَالُ أُرَيْقِطُ قَالَ الْقَاضِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فَحَقٌّ أَنْ يَرْفَعَ مَالِكٌ أَبَا بَكْرٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَفِيهَا عِدَّةُ فَضَائِلَ مُخْتَصَّةٍ لَمْ تَكُنْ لِغَيْرِهِ، مِنْهَا قَوْلُهُ: إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ، فَحَقَّقَ لَهُ تَعَالَى [قَوْلَهُ لَهُ] بِكَلَامِهِ، وَوَصَفَ الصُّحْبَةَ فِي كِتَابِهِ مَتْلُوًّا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ فِي الْغَارِ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّك بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهَا؟» وَهَذِهِ مَرْتَبَةٌ عُظْمَى، وَفَضِيلَةٌ شَمَّاءُ، لَمْ يَكُنْ لِبَشَرٍ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ ثَالِثُ اثْنَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَبُو بَكْرٍ، كَمَا أَنَّهُ قَالَ مُخْبِرًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ ثَانِيَ اثْنَيْنِ.

وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]. وَقَالَ مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى وَبَنِي إسْرَائِيلَ: {كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62]. قَالَ لَنَا أَبُو الْفَضَائِلِ الْمُعَدِّلُ: قَالَ لَنَا جَمَالُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْقَاسِمِ قَالَ مُوسَى: {كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] وَقَالَ فِي مُحَمَّدٍ وَصَاحِبِهِ: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]. لَا جَرَمَ لَمَّا كَانَ اللَّهُ مَعَ مُوسَى وَحْدَهُ ارْتَدَّ أَصْحَابُهُ بَعْدَهُ، فَرَجَعَ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ، وَوَجَدَهُمْ يَعْبُدُونَ الْعِجْلَ. وَلَمَّا قَالَ فِي مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ اللَّهَ مَعَنَا، بَقِيَ أَبُو بَكْرٍ مُهْتَدِيًا مُوَحِّدًا، عَالِمًا عَازِمًا، قَائِمًا بِالْأَمْرِ لَمْ يَتَطَرَّقْ إلَيْهِ اخْتِلَالٌ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة: 40]: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى النَّبِيِّ. الثَّانِي: عَلَى أَبِي بَكْرٍ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَهُوَ الْأَقْوَى؛ لِأَنَّ الصِّدِّيقَ خَافَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْقَوْمِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ؛ لِيَأْمَنَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَكَنَ جَأْشُهُ، وَذَهَبَ رَوْعُهُ، وَحَصَلَ لَهُ الْأَمْنُ، وَأَنْبَتَ اللَّهُ شَجَرَ ثُمَامِهِ، وَأَلْهَمَ الْوَكْرَ هُنَالِكَ حَمَامَهُ، وَأَرْسَلَ الْعَنْكَبُوتَ فَنَسَجَتْ عَلَيْهِ بَيْتًا، فَمَا أَضْعَفَ هَذِهِ الْجُنُودِ فِي ظَاهِرِ الْحِسِّ؛ وَمَا أَقْوَاهَا فِي بَاطِنِ الْمَعْنَى. وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِعُمَرَ حِينَ تَغَامَرَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ: «هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي، إنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ قَالُوا كَذَبْت، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقْت». وَمِنْهَا: أَنَّهُ جَعَلَ أَبَا بَكْرٍ فِي مُقَابَلَةِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعَ، فَقَالَ: «إلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ بِصَاحِبِهِ فِي الْغَارِ، بِتَأْنِيسِهِ لَهُ، وَحَمْلِهِ عَلَى عُنُقِهِ» [وَوَفَائِهِ لَهُ] بِوِقَايَتِهِ لَهُ [بِنَفْسِهِ]، وَبِمُوَاسَاتِهِ بِمَالِهِ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ «أَنَّ مِيزَانًا نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ، فَوُزِنَ النَّبِيُّ

مسألة خرج بنفسه فارا عن الكافرين بإلجائهم له إلى ذلك حتى فعله

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْخَلْقِ فَرَجَحَهُمْ»؛ وَبِهَذِهِ الْفَضَائِلِ اسْتَحَقَّ أَنْ يُقَالَ فِيهِ: لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاِتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا. وَسَبَقَتْ لَهُ بِذَلِكَ كُلِّهِ الْفَضِيلَةُ عَلَى النَّاسِ. رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نُخَيِّرُ بَيْنَ النَّاسِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَنُخَيِّرُ أَبَا بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرَ ثُمَّ عُثْمَانَ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ أَبُو بَكْرٍ. وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ النُّورِ بَيَانُ ذَلِكَ مُسْتَوْفًى إنْ شَاءَ اللَّهُ. [مَسْأَلَة خَرَجَ بِنَفْسِهِ فَارًّا عَنْ الْكَافِرِينَ بِإِلْجَائِهِمْ لَهُ إلَى ذَلِكَ حَتَّى فَعَلَهُ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ عُظْمَى فِي الْفِقْهِ مِنْ قَوْله تَعَالَى {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: 40]: وَهُوَ خَرَجَ بِنَفْسِهِ، فَارًّا عَنْ الْكَافِرِينَ بِإِلْجَائِهِمْ لَهُ إلَى ذَلِكَ حَتَّى فَعَلَهُ؛ فَنُسِبَ الْفِعْلُ إلَيْهِمْ، وَرُتِّبَ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَيْهِمْ، وَذَمَّهُمْ عَلَيْهِ، وَتَوَعَّدَهُمْ؛ فَلِهَذَا يُقْتَلُ الْمُكْرَهُ عَلَى الْقَتْلِ، وَيَضْمَنُ الْمَالَ الْمُكْرِهُ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ؛ لِإِلْجَائِهِ الْقَاتِلَ وَالْمُتْلِفَ إلَى الْقَتْلِ وَالْإِتْلَافِ، وَكَذَلِكَ شُهُودُ الزِّنَا الْمُزَوِّرُونَ بِاتِّفَاقٍ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَشُهُودُ الْقِصَاصِ إذَا شَهِدُوا بِالْقَتْلِ بَاطِلًا بِاخْتِلَافٍ بَيْنَ عُلَمَائِنَا؛ وَالْمَسْأَلَةُ عَسِيرَةُ الْمَأْخَذِ، وَقَدْ حَقَّقْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ نِسْبَةَ الْفِعْلِ إلَى الْمُكْرَهِ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ تَعَلُّقُ الْإِثْمِ بِهِ مَعَ الْقَصْدِ إلَيْهِ لَا خِلَافَ فِيهِ. فَأَمَّا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ حُكْمٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَحَالِّ وَالْأَسْبَابِ، حَسْبَمَا تَقْتَضِيهِ الْأَدِلَّةُ؛ فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ. [مَسْأَلَة الْفِرَارِ مِنْ خَوْفِ الْعَدُوِّ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْفِرَارِ مِنْ خَوْفِ الْعَدُوِّ، وَتَرْكِ الصَّبْرِ عَلَى مَا يَنْزِلُ مِنْ بَلَاءِ اللَّهِ، وَعَدَمِ الِاسْتِسْلَامِ الْمُؤَدِّي إلَى الْآلَامِ وَالْهُمُومِ، وَأَلَّا يُلْقِيَ بِيَدِهِ إلَى الْعَدُوِّ، تَوَكُّلًا عَلَى اللَّهِ، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكُمْ لَعَصَمَهُ مَعَ كَوْنِهِ مَعَهُمْ، وَلَكِنَّهَا سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ وَسِيرَةُ الْأُمَمِ، حَكَمَ اللَّهُ بِهَا لِتَكُونَ قُدْرَةً لِلْخَلْقِ، وَأُنْمُوذَجًا فِي الرِّفْقِ، وَعَمَلًا بِالْأَسْبَابِ.

مسألة حزن أبي بكر في الغار مع كونه مع النبي

[مَسْأَلَة حُزْنُ أَبِي بَكْرٍ فِي الْغَارِ مَعَ كَوْنِهِ مَعَ النَّبِيِّ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَتْ الْإِمَامِيَّةُ قَبَّحَهَا اللَّهُ: حُزْنُ أَبِي بَكْرٍ فِي الْغَارِ مَعَ كَوْنِهِ مَعَ النَّبِيِّ دَلِيلٌ عَلَى جَهْلِهِ وَنَقْصِهِ وَضَعْفِ قَلْبِهِ وَحَيْرَتِهِ. أَجَابَ عَلَى ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا بِثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: لَا تَحْزَنْ، لَيْسَ بِمُوجِبٍ بِظَاهِرِهِ وُجُودَ الْحُزْنِ، إنَّمَا يَقْتَضِي مَنْعَهُ مِنْهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَلَعَلَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي طُمَأْنِينَةِ قَلْبِهِ؛ فَإِنَّ الصِّدِّيقَ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا. فَقَالَ لَهُ: «لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا»؛ لِتَطْمَئِنَّ نَفْسُهُ. الثَّانِي: أَنَّ الصِّدِّيقَ لَا يَنْقُصُهُ إضَافَةُ الْحُزْنِ إلَيْهِ، كَمَا لَمْ تَنْقُصْ إبْرَاهِيمَ حِينَ قِيلَ عَنْهُ: {نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود: 70]. وَلَمْ يَنْقُصْ مُوسَى قَوْلُهُ عَنْهُ: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه: 67]. وَهَذَانِ الْعَظِيمَانِ قَدْ وُجِدَتْ عِنْدَهُمْ التَّقِيَّةُ نَصًّا، وَإِنَّمَا هِيَ عِنْدَ الصِّدِّيقِ هَاهُنَا بِاحْتِمَالٍ. الثَّالِثُ: أَنَّ حُزْنَ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَكُنْ لِشَكٍّ وَحَيْرَةٍ، وَإِنَّمَا كَانَ خَوْفًا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ ضَرَرٌ، وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَعْصُومًا مِنْ الضَّرَرِ، فَكَيْفَ يَكُونُ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضَعِيفَ الْقَلْبِ، وَهُوَ لَمْ يَسْتَخْفِ حِينَ مَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ بَلْ ظَهَرَ وَقَامَ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ بِقُوَّةِ يَقِينٍ، وَوُفُورِ عِلْمٍ، وَثُبُوتِ جَأْشٍ، وَفَصْلٍ لِلْخُطْبَةِ الَّتِي تُعْيِي الْمُحْتَالِينَ. [الْآيَة الرَّابِعَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا] وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ:

مسألة معنى قوله تعالى خفافا وثقالا

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ نُزُولِ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ إلَى الرُّومِ، وَكَانَتْ غَزْوَةً بَعِيدَةً فِي وَقْتٍ شَدِيدٍ مِنْ حَمَّارَةِ الْقَيْظِ، وَعَدُوًّا كَثِيرًا، اُسْتُنْفِرَ لَهَا النَّاسُ كُلُّهُمْ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى خِفَافًا وَثِقَالًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {خِفَافًا وَثِقَالا} [التوبة: 41]: فِيهِ عَشَرَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ قَالَ: شُبَّانٌ وَكُهُولٌ، مَا سَمِعَ اللَّهِ عُذْرَ أَحَدٍ؛ فَخَرَجَ إلَى الشَّامِ فَجَاهَدَ حَتَّى مَاتَ. الثَّانِي: شُبَّانًا وَشِيبًا. الثَّالِثُ: فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ. الرَّابِعُ: فِي الْفَرَاغِ وَالشُّغْلِ. الْخَامِسُ: مَعَ الْكَسَلِ وَالنَّشَاطِ. السَّادِسُ: رِجَالًا وَرُكْبَانًا. السَّابِعُ: صَاحِبُ صَنْعَةٍ وَمَنْ لَا صَنْعَةَ لَهُ. الثَّامِنُ: جَبَانًا وَشُجَاعًا. التَّاسِعُ: ذَا عِيَالٍ وَمَنْ لَا عِيَالَ لَهُ. الْعَاشِرُ: الثَّقِيلُ: الْجَيْشُ كُلُّهُ، وَالْخَفِيفُ: الْمُقَدَّمَةُ. وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا غَيْرُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، إلَّا أَنَّ هَذِهِ جُمْلَةٌ تَدُلُّ عَلَى مَا بَقِيَ، وَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِالْآيَةِ، لَكِنْ مِنْهُ مَا يَقْرُبُ، وَمِنْهُ مَا يَبْعُدُ. [مَسْأَلَة انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وجاهدوا بِأَمْوَالِكُمْ هَلْ هِيَ محكمة أُمّ مَنْسُوخَة] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: اُخْتُلِفَ فِي إحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ أَوْ نَسْخِهَا قَوْله عَلَى قَوْلَيْنِ بَيَّنَّاهُمَا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي.

وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا غَيْرَ مَنْسُوخَةٍ، وَقَدْ تَكُونُ حَالَةٌ يَجِبُ فِيهَا نَفِيرُ الْكُلِّ إذَا تَعَيَّنَ الْجِهَادُ عَلَى الْأَعْيَانِ بِغَلَبَةِ الْعَدُوِّ عَلَى قُطْرٍ مِنْ الْأَقْطَارِ، أَوْ بِحُلُولِهِ بِالْعُقْرِ؛ فَيَجِبُ عَلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ الْجِهَادُ وَالْخُرُوجُ إلَيْهِ؛ فَإِنْ قَصَّرُوا عَصَوْا. وَلَقَدْ نَزَلَ بِنَا الْعَدُوُّ قَصَمَهُ اللَّهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسمِائَةٍ؛ فَجَاسَ دِيَارَنَا، وَأَسَرَ جِيرَتَنَا، وَتَوَسَّطَ بِلَادَنَا فِي عَدَدٍ هَالَ النَّاسُ عَدَدَهُ، وَكَانَ كَثِيرًا، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ مَا حَدَّدُوهُ، فَقُلْت لِلْوَالِي وَالْمُوَلَّى عَلَيْهِ: هَذَا عَدُوُّ اللَّهِ، وَقَدْ حَصَلَ فِي الشَّرَكِ وَالشَّبَكَةِ، فَلْتَكُنْ عِنْدَكُمْ بَرَكَةٌ، وَلْتَظْهَرْ مِنْكُمْ إلَى نُصْرَةِ دَيْنِ اللَّهِ الْمُتَعَيِّنَةِ عَلَيْكُمْ حَرَكَةٌ، فَلْيَخْرُجْ إلَيْهِ جَمِيعُ النَّاسِ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَقْطَارِ فَيُحَاطُ بِهِ فَإِنَّهُ هَالِكٌ لَا مَحَالَةَ إنْ يَسَّرَكُمُ اللَّهُ لَهُ؛ فَغَلَبَتْ الذُّنُوبُ، وَوَجَفَتْ الْقُلُوبُ بِالْمَعَاصِي، وَصَارَ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ ثَعْلَبًا يَأْوِي إلَى وِجَارِهِ، وَإِنْ رَأَى الْمَكْرُوهَ بِجَارِهِ؛ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122]. وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي مَوْضِعِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إذَا كَانَ النَّفِيرُ عَامًّا لِغَلَبَةِ الْعَدُوِّ عَلَى الْحَوْزَةِ، أَوْ اسْتِيلَائِهِ عَلَى الْأُسَارَى كَانَ النَّفِيرُ عَامًّا، وَوَجَبَ الْخُرُوجُ خِفَافًا وَثِقَالًا، وَرُكْبَانًا وَرِجَالًا، عَبِيدًا وَأَحْرَارًا، مَنْ كَانَ لَهُ أَبٌ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ، وَمَنْ لَا أَبَ لَهُ، حَتَّى يَظْهَرَ دَيْنُ اللَّهِ، وَتُحْمَى الْبَيْضَةُ، وَتُحْفَظَ الْحَوْزَةُ، وَيُخْزَى الْعَدُوُّ، وَيُسْتَنْقَذَ الْأَسْرَى. وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا. وَلَقَدْ رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ عَاهَدَ كُفَّارًا أَلَّا يَحْبِسُوا أَسِيرًا، فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ جِهَتِهِ بِلَادُهُمْ، فَمَرَّ عَلَى بَيْتٍ مُغْلَقٍ، فَنَادَتْهُ امْرَأَةٌ: إنِّي أَسِيرَةٌ، فَأَبْلِغْ صَاحِبَك خَبَرِي. فَلَمَّا اجْتَمَعَ بِهِ، اسْتَطْعَمَهُ عِنْدَهُ، وَتَجَاذَبَا ذَيْلَ الْحَدِيثِ انْتَهَى الْخَبَرُ إلَى هَذِهِ الْمُعَذَّبَةِ، فَأَلْقَاهُ إلَيْهِ، فَمَا أَكْمَلَ حَدِيثَهُ حَتَّى قَامَ الْأَمِيرُ عَلَى قَدَمِهِ، وَخَرَجَ غَازِيًا مِنْ فَوْرِهِ، وَمَشَى

الآية الخامسة والعشرون قوله تعالى ومنهم من يلمزك في الصدقات

إلَى الْبَلَدِ حَتَّى أَخْرَجَ الْأَسِيرَةَ، وَاسْتَوْلَى عَلَى الْمَوْضِعِ، فَكَيْفَ بِنَا وَعِنْدَنَا عَهْدُ اللَّهِ أَلَّا نُسَلِّمَ إخْوَانَنَا إلَى الْأَعْدَاءِ، وَنَنْعَمُ وَهُمْ فِي الشَّقَاءِ، أَوْ نَمْلِكُ بِالْحُرِّيَّةِ وَهُمْ أَرِقَّاءُ. يَالَلَّهِ، وَلِهَذَا الْخَطْبِ الْجَسِيمِ، نَسْأَلُ اللَّهَ التَّوْفِيقَ لِلْجُمْهُورِ، وَالْمِنَّةَ بِصَلَاحِ الْآمِرِ وَالْمَأْمُورِ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَصْنَعُ الْوَاحِدُ إذَا قَصَّرَ الْجَمِيعُ؟ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قُلْنَا: يُقَالُ لَهُ: وَأَيْنَ يَقَعَانِ مِمَّا أُرِيدُ؟ مَكَانَك أَيُّهَا الْوَاحِدُ لَا يُفْتَى وَمَالُك لَا يَكْفِي، وَالْأَمْرُ لِلَّهِ فِيمَا يُرِيدُ مِنْ تَوْفِيقٍ، أَوْ قَطْعٍ لِلطَّرِيقِ، وَقَدْ هَمَّهُمْ الْخَاطِرُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَزَمْزَمَ اللِّسَانُ بِهَا مُدَّةً. وَاَلَّذِي يُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا، وَيُطْفِئُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أُوَارَهَا أَنْ يَعْمِدَ مَنْ رَأَى تَقْصِيرَ الْخَلْقِ إلَى أَسِيرٍ وَاحِدٍ فَيَفْدِيَهُ؛ فَإِنَّ الْأَغْنِيَاءَ لَوْ اقْتَسَمُوا فِدَاءَ الْأَسْرَى مَا لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَّا أَقَلُّ مِنْ دِرْهَمٍ لِلرَّجُلِ الْوَاحِدِ، فَإِذَا فَدَى الْوَاحِدُ فَقَدْ أَدَّى فِي الْوَاحِدِ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَلْزَمُهُ فِي الْجَمَاعَةِ، وَيَغْزُو بِنَفْسِهِ إنْ قَدَرَ، وَإِلَّا جَهَّزَ غَازِيًا. فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ فَقَدْ غَزَا». [الْآيَة الْخَامِسَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُك فِي الصَّدَقَاتِ] ِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 58]: أَيْ يَعِيبُك. وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْعَيْبُ مُطْلَقًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ الْعَيْبُ بِالْغَيْبِ، يُقَالُ: لَمَزَهُ يَلْمِزُهُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَضَمِّهَا قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات: 11].

الآية السادسة والعشرون قوله تعالى إنما الصدقات للفقراء والمساكين

وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1]. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: «بُعِثَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَيْءٍ فَقَسَّمَهُ بَيْنَ أَرْبَعَةٍ، وَقَالَ: تَأْلَفُهُمْ. فَقَالَ رَجُلٌ: مَا عَدَلْت. فَقَالَ: يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَمْرُقُونَ مِنْ الدَّيْنِ». هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَزَادَ غَيْرُهُ: «فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 58]». إذَا ثَبَتَ هَذَا فَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ كَانُوا عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعَ، وَكَانُوا مِنْ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، فَدَلَّ ذَلِكَ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: عَلَى دَفْعِ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ، وَيَأْتِي تَمَامُ الْمَسْأَلَةِ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [الْآيَة السَّادِسَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ] ِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]. فِيهَا ثَمَانٍ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أُمَّهَاتِ الْآيَاتِ، إنَّ اللَّهَ بِحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ، وَأَحْكَامِهِ الْمَاضِيَةِ الْعَالِيَةِ، خَصَّ بَعْضَ النَّاسِ بِالْأَمْوَالِ دُونَ الْبَعْضِ، نِعْمَةً مِنْهُ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ شُكْرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ إخْرَاجَ سَهْمٍ يُؤَدُّونَهُ إلَى مَنْ لَا مَالَ لَهُ، نِيَابَةً عَنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيمَا ضَمِنَهُ بِفَضْلِهِ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]؛ وَقَدَّرَ

الصَّدَقَاتِ عَلَى حَسَبِ أَجْنَاسِ الْأَمْوَالِ، فَجَعَلَ فِي النَّقْدَيْنِ رُبْعَ الْعُشْرِ، وَجَعَلَ فِي النَّبَاتِ الْعُشْرَ، وَمَعَ تَكَاثُرِ الْمُؤْنَةِ نِصْفَ الْعُشْرِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي حَقِيقَةِ الصَّدَقَةِ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْمَالِ مُقَدَّرٌ مُعَيَّنٌ؛ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّهَا جُزْءٌ مِنْ الْمَالِ مُقَدَّرٌ فَجَوَّزَ إخْرَاجَ الْقِيمَةِ فِي الزَّكَاةِ؛ إذْ زَعَمَ أَنَّ التَّكْلِيفَ وَالِابْتِلَاءَ إنَّمَا هُوَ فِي نَقْصِ الْأَمْوَالِ، وَذَهَلَ عَنْ التَّوْفِيَةِ لِحَقِّ التَّكْلِيفِ فِي تَعْيِينِ النَّاقِصِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يُوَازِي التَّكْلِيفَ فِي قَدْرِ النَّاقِصِ؛ فَإِنَّ الْمَالِكَ يُرِيدُ أَنْ يَبْقَى مِلْكُهُ بِحَالِهِ، وَيَخْرُجَ مِنْ غَيْرِهِ عَنْهُ، فَإِذَا مَالَتْ نَفْسُهُ إلَى ذَلِكَ، وَعَلِقَتْ بِهِ، كَانَ التَّكْلِيفُ قَطْعَ تِلْكَ الْعَلَاقَةِ الَّتِي هِيَ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ ذَلِكَ الْجُزْءِ مِنْ الْمَالِ، فَوَجَبَ إخْرَاجُ ذَلِكَ الْجُزْءِ بِعَيْنِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ فِي كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ بِالصَّدَقَةِ: وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ، وَيُعْطِيهِ الْمُصَّدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ. قُلْنَا: قَدْ أَجَابَ عَنْهُ عُلَمَاؤُنَا بِأَرْبَعَةِ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا خَبَرُ وَاحِدٍ يُخَالِفُ الْأُصُولَ، وَعِنْدَهُمْ إذَا خَالَفَ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْأُصُولَ بَطَلَ فِي نَفْسِهِ. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ التَّقْوِيمِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ، فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ وَيُعْطَى عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَقُولَ: فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ إذَا عُرِفَتْ قِيمَتُهَا، فَلَمَّا عَدَلَ عَنْ الْقِيمَةِ إلَى التَّقْدِيرِ وَالتَّحْدِيدِ بِتَعَيُّنِ الشَّاتَيْنِ أَوْ الْعِشْرِينَ دِرْهَمًا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْعِبَادَةِ.

مسألة معنى تسميتها صدقة

الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا إنَّمَا جَوَّزَ فِي الْجِيرَانِ ضَرُورَةَ اخْتِلَافِ السِّنِينَ، وَلَا ضَرُورَةَ إلَى إجْزَائِهِ فِي الْأَصْلِ، فَبَقِيَ عَلَى حَالِهِ. الرَّابِعُ: أَنَّ كِتَابَ عُمَرَ فِي الصَّدَقَةِ الَّذِي رَوَاهُ مَالِكٌ وَعَمِلَ بِهِ فِي الْأَقْطَارِ وَالْأَمْصَارِ أَوْلَى مِنْ كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ الَّذِي لَمْ يَجِئْ إلَّا مِنْ طَرِيقٍ وَاحِدَةٍ. وَلَعَلَّهُ كَانَ لِقَضِيَّةٍ فِي عَيْنٍ مَخْصُوصَةٍ. [مَسْأَلَة مَعْنَى تَسْمِيَتِهَا صَدَقَةً] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي مَعْنَى تَسْمِيَتِهَا صَدَقَةً: وَذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ الصِّدْقِ فِي مُسَاوَاةِ الْفِعْلِ لِلْقَوْلِ، وَالِاعْتِقَادِ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا. وَبِنَاءُ " صَدَقَ " يَرْجِعُ إلَى تَحْقِيقِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ وَعَضُدُهُ بِهِ، وَمِنْهُ صَدَاقُ الْمَرْأَةِ؛ أَيْ تَحْقِيقُ الْحِلِّ وَتَصْدِيقُهُ بِإِيجَابِ الْمَالِ وَالنِّكَاحِ عَلَى وَجْهٍ مَشْرُوعٍ. وَيُخْتَلَفُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِتَصْرِيفِ الْفِعْلِ، يُقَالُ: صَدَّقَ فِي الْقَوْلِ صَدَاقًا وَتَصْدِيقًا، وَتَصَدَّقَتْ بِالْمَالِ تَصَدُّقًا، وَأَصْدَقَتْ الْمَرْأَةُ إصْدَاقًا. وَأَرَادُوا بِاخْتِلَافِ الْفِعْلِ الدَّلَالَةَ عَلَى الْمَعْنَى الْمُخْتَصِّ بِهِ فِي الْكُلِّ. وَمُشَابَهَةُ الصِّدْقِ هَاهُنَا لِلصَّدَقَةِ أَنَّ مَنْ أَيْقَنَ مِنْ دِينِهِ أَنَّ الْبَعْثَ حَقٌّ، وَأَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ هِيَ الْمَصِيرُ، وَأَنَّ هَذِهِ الدَّارَ الدَّانِيَةَ قَنْطَرَةٌ إلَى الْأُخْرَى، وَبَابٌ إلَى السُّوأَى أَوْ الْحُسْنَى عَمِلَ لَهَا، وَقَدَّمَ مَا يَجِدُهُ فِيهَا؛ فَإِنْ شَكَّ فِيهَا أَوْ تَكَاسَلَ عَنْهَا وَآثَرَ عَلَيْهَا بَخِلَ بِمَالِهِ، وَاسْتَعَدَّ لِآمَالِهِ، وَغَفَلَ عَنْ مَآلِهِ. وَفِي كُتُبِ الذِّكْرِ تَحْقِيقُ ذَلِكَ. [مَسْأَلَة الْمَعْنَى الَّذِي أَفَادَتْ هَذِهِ اللَّامُ قَوْله لِلْفُقَرَاءِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى {لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60]: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي أَفَادَتْ هَذِهِ اللَّامُ [فَقِيلَ] لَامُ الْأَجَلِ؛ كَقَوْلِك: هَذَا السَّرْجُ لِلدَّابَّةِ، وَالْبَابُ لِلدَّارِ؛ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ هَذِهِ لَامُ التَّمْلِيكِ؛ كَقَوْلِك: هَذَا الْمَالُ لِزَيْدٍ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْطَى جَمِيعُهَا لِلْعَامِلَيْنِ عَلَيْهَا. وَاعْتَمَدَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ

اللَّهَ أَضَافَ الصَّدَقَةَ فَاللَّامُ التَّمْلِيكِ إلَى مُسْتَحِقٍّ حَتَّى يَصِحَّ مِنْهُ الْمِلْكُ عَلَى وَجْهِ التَّشْرِيكِ؛ فَكَانَ ذَلِكَ بَيَانًا لِلْمُسْتَحِقِّينَ. وَهَذَا كَمَا لَوْ أَوْصَى لِأَصْنَافٍ مُعَيَّنِينَ، أَوْ لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ. وَتَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 271]. وَالصَّدَقَةُ مَتَى أُطْلِقَتْ فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ صَدَقَةُ الْفَرْضِ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْت أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا عَلَى فُقَرَائِكُمْ». وَهَذَا نَصٌّ فِي ذِكْرِ أَحَدِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ قُرْآنًا وَسُنَّةً. وَحَقَّقَ عُلَمَاؤُنَا الْمَعْنَى، فَقَالُوا: إنَّ الْمُسْتَحِقَّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَكِنَّهُ أُحَالَ بِحَقِّهِ لِمَنْ ضَمِنَ لَهُمْ رِزْقَهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]؛ فَكَانَ كَمَا لَوْ قَالَ زَيْدٌ لِعَمْرٍو: إنَّ لِي حَقًّا عَلَى خَالِدٍ يُمَاثِلُ حَقَّك يَا عَمْرُو أَوْ يُخَالِفُهُ، فَخُذْهُ مِنْهُ مَكَانَ حَقِّك فَإِنَّهُ يَكُونُ بَيَانًا لِمَصْرِفِ حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ لَا لِلْمُسْتَحِقِّ، وَالصِّنْفُ الْوَاحِدُ فِي جِهَةِ الْمَصْرِفِ وَالْمَحَلِّيَّةِ كَالْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يُبْطِلُ بِالْكَافِرِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ لَهُ الرِّزْقُ بِذَلِكَ الْوَعْدِ الْحَقِّ، ثُمَّ لَيْسَ بِمَصْرِفٍ لِلزَّكَاةِ. قُلْنَا: كَذَلِكَ كُنَّا نَقُولُ: إنَّهُ تُصْرَفُ الزَّكَاةُ إلَى الذِّمِّيِّ، إلَّا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَصَّصَ هَذَا الْعُمُومَ بِقَوْلِهِ: «أُمِرْت أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا عَلَى فُقَرَائِكُمْ»؛ فَخَصَّصْنَاهُ بِمَا خَصَّصَهُ بِهِ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ، الْمُبَيِّنُ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ؛ وَمَا فَهِمَ الْمَقْصُودَ أَحَدٌ فَهْمَ الطَّبَرِيِّ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: الصَّدَقَةُ لِسَدِّ خُلَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِسَدِّ خُلَّةِ الْإِسْلَامِ؛ وَذَلِكَ مِنْ مَفْهُومِ مَأْخَذِ الْقُرْآنِ فِي بَيَانِ الْأَصْنَافِ وَتَعْدِيدِهِمْ. وَاَلَّذِي جَعَلْنَاهُ فَصْلًا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَنَّ الْأَمَةَ اتَّفَقَتْ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أُعْطِيَ كُلُّ صِنْفٍ حَظَّهُ لَمْ يَجِبْ تَعْمِيمُهُ، فَكَذَلِكَ تَعْمِيمُ الْأَصْنَافِ مِثْلُهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى زِيَادُ بْنُ الْحَارِثِ الصَّدَائِيُّ: أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَايَعْته، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَعْطِنِي مِنْ الصَّدَقَةِ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ

مسألة الفقير ففيه ثمانية أقوال

نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ فِي الصَّدَقَاتِ حَتَّى حَكَمَ هُوَ فِيهَا، فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ، فَإِنْ كُنْت مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُك حَقَّك». وَقَدْ قَالَ النَّخَعِيُّ: إنْ كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا قَسَّمَهُ عَلَى الْأَصْنَافِ، وَإِلَّا وَضَعَهُ فِي صِنْفٍ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إنْ أَخْرَجَهُ صَاحِبُهُ جَازَ لَهُ أَنْ يَضَعَهُ فِي قِسْمٍ، وَإِنْ قَسَّمَهُ الْإِمَامُ اسْتَوْعَبَ الْأَصْنَافَ؛ وَذَلِكَ فِيمَا قَالُوا: إنَّهُ إنْ كَانَ كَثِيرًا فَلْيَعُمَّهُمْ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا كَانَ قَسْمُهُ ضَرَرًا عَلَيْهِمْ. وَكَذَلِكَ إنْ قَسَّمَهُ صَاحِبُهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى النَّظَرِ فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ، فَأَمَّا الْإِمَامُ فَحَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَلْقِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَغَيْرِهِ، فَيَبْحَثُ عَنْ النَّاسِ وَيُمْكِنُهُ تَحْصِيلُهُمْ، وَالنَّظَرُ فِي أَمْرِهِمْ. وَاَلَّذِي صَارَ إلَيْهِ مَالِكٌ مِنْ أَنَّهُ يَجْتَهِدُ الْإِمَامُ وَيَتَحَرَّى مَوْضِعَ الْحُجَّةِ هُوَ الْأَقْوَى. وَتَحْصِيلُ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الْمُتَحَصِّلَ مِنْ أَصْنَافِ الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: وَهُمْ الْفُقَرَاءُ، وَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَا، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَسَائِرُ الْأَصْنَافِ دَاخِلَةٌ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْهَا. فَأَمَّا الْعَامِلُونَ، وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ فَيَأْتِي بَيَانُ حَالِهِمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ. [مَسْأَلَة الْفَقِيرُ فَفِيهِ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ] إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ بَيَانَ الْأَصْنَافِ مِنْ مُهِمَّاتِ الْأَحْكَامِ، فَنَقُولُ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَمَّا الْفَقِيرُ: فَفِيهِ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْفَقِيرَ الْمُحْتَاجُ الْمُتَعَفِّفُ، وَالْمِسْكِينَ: الْفَقِيرُ السَّائِلُ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالزُّهْرِيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ شَعْبَانَ. الثَّانِي: الْفَقِيرُ هُوَ الْمُحْتَاج الزَّمِنُ. وَالْمِسْكِينُ هُوَ الْمُحْتَاجُ الصَّحِيحُ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ.

مسألة ما كان من فروض الكفايات فالقائم به يجوز له أخذ الأجرة عليه

الثَّالِثُ: أَنَّ الْفَقِيرَ الْمُحْتَاجُ، وَالْمِسْكِينَ سَائِرُ النَّاسِ قَالَهُ إبْرَاهِيمُ وَغَيْرُهُ. الرَّابِعُ، الْفَقِيرُ الْمُسْلِمُ، وَالْمِسْكِينُ أَهْلُ الْكِتَابِ. الْخَامِسُ: الْفَقِيرُ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ، وَالْمِسْكِينُ الَّذِي لَهُ شَيْءٌ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ. السَّادِسُ: عَكْسُهُ؛ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ. السَّابِعُ: أَنَّهُ وَاحِدٌ، ذَكَرَهُ لِلتَّأْكِيدِ. الثَّامِنُ: الْفُقَرَاءُ الْمُهَاجِرُونَ، وَالْمَسَاكِينُ الْأَعْرَابُ. [مَسْأَلَة مَا كَانَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ فَالْقَائِمُ بِهِ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60]: وَهُمْ الَّذِينَ يَقْدَمُونَ لِتَحْصِيلِهَا، وَيُوَكَّلُونَ عَلَى جَمْعِهَا؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَسْأَلَةٍ بَدِيعَةٍ، وَهِيَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ فَالْقَائِمُ بِهِ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ. وَمِنْ ذَلِكَ الْإِمَامَةُ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَوَجِّهَةً عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ فَإِنَّ تَقَدُّمَ بَعْضِهِمْ بِهِمْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، فَلَا جَرَمَ يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا. وَهَذَا أَصْلُ الْبَابِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَا تَرَكْت بَعْدَ نَفَقَةِ عِيَالِي وَمَئُونَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ». قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْعَامِلُ فِي الصَّدَقَةُ يَسْتَحِقُّ مِنْهَا كِفَايَتَهُ بِالْمَعْرُوفِ بِسَبَبِ الْعَمَلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَدَلًا عَنْ الْعَمَلِ، حَتَّى لَمْ يَحِلَّ لِلْهَاشِمِيِّ، وَالْأُجْرَةُ تَحِلُّ لَهُ. قُلْنَا: بَلْ هِيَ أُجْرَةٌ صَحِيحَةٌ؛ وَإِنَّمَا لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا الْهَاشِمِيُّ تَحَرِّيًا لِلْكَرَامَةِ وَتَبَاعُدًا عَنْ الذَّرِيعَة، وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا أُجْرَةٌ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَلَكَهَا لَهُ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا، وَلَيْسَ لَهُ وَصْفٌ يَأْخُذُ بِهِ مِنْهَا سِوَى الْخِدْمَةِ فِي جَمْعِهَا.

مسألة المقدار الذي يأخذه العاملون من الصدقة

[مَسْأَلَة الْمِقْدَارِ الَّذِي يَأْخُذُهُ الْعَامِلُونَ مِنْ الصَّدَقَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمِقْدَارِ الَّذِي يَأْخُذُهُ الْعَامِلُونَ مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قِيلَ: هُوَ الثُّمُنُ بِقِسْمَةِ اللَّهِ لَهَا عَلَى ثَمَانِيَةِ أَجْزَاءٍ؛ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَهَذَا تَعْلِيقٌ بِالِاسْتِحْقَاقِ الَّذِي سَبَقَ الْخِلَافُ فِيهِ، أَوْ بِالْمَحَلِّيَّةِ، وَمَبْنِيٌّ عَلَيْهِ. الثَّانِي: يُعْطَوْنَ قَدْرَ عَمَلِهِمْ مِنْ الْأُجْرَةِ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ وَمَالِكٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْأَصْلِ الَّذِي انْبَنَى عَلَيْهِ هَذَا، وَالْكَلَامُ عَلَى تَحْقِيقِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مِنْ غَيْرِ الزَّكَاةِ، وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. وَهَذَا قَوْلٌ صَحِيحٌ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، وَدَاوُد بْنِ سَعِيدٍ؛ وَهُوَ ضَعِيفٌ دَلِيلًا؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِسَهْمِهِمْ فِيهَا نَصًّا، فَكَيْفَ يُخَلِّفُونَ عَنْهُ اسْتِقْرَاءً وَسَبْرًا. وَالصَّحِيحُ الِاجْتِهَادُ فِي قَدْرِهِ؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ فِي تَعْدِيدِ الْأَصْنَافِ إنَّمَا كَانَ لِلْمَحَلِّ لَا لِلْمُسْتَحِقِّ. [مَسْأَلَة أَصْنَافَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ: فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: مَنْ قَالَ: إنَّهُمْ مُسْلِمُونَ يُعْطَوْنَ لِضَعْفِ يَقِينِهِمْ [حَتَّى يُقَوَّوْا]، مَثَّلَهُمْ بِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ، وَالْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُمْ كُفَّارُ مَثَّلَهُمْ بِعَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ. وَمِنْ قَالَ: إنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ وَلَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ مَيْلٌ مَثَّلَهُمْ بِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ. الثَّانِي: قَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ: أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَرْبُوعٍ. وَمِنْ بَنِي جُمَحٍ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ. وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى. وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ. وَمِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.

وَمِنْ بَنِي فَزَارَةَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ بَدْرٍ. وَمِنْ بَنِي تَمِيمٍ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ. وَمِنْ بَنِي نَصْرٍ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ. وَمِنْ بَنِي سُلَيْمٍ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ. وَمِنْ ثَقِيفٍ الْعَلَاءُ بْنُ حَارِثَةَ. الثَّالِثُ: رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَعُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَأَبُو سُفْيَانَ مِنْ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ. وَكَانَ صَفْوَانُ يَوْمَ الْعَطِيَّةِ مُشْرِكًا. وَقَالَ أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَرِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ. الرَّابِعُ: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ: أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَمُعَاوِيَةُ ابْنُهُ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ الْحَارِثِ بْنُ كِلْدَةَ؛ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، وَالْمُعَلَّى بْنُ حَارِثَةَ الثَّقَفِيُّ، وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَمَالِكُ بْنُ عَوْفٍ، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَمَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ، وَعُمَيْرُ بْنُ وَهْبِ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ، وَهِشَامُ بْنُ عَمْرٍو، وَسَعْدُ بْنُ يَرْبُوعٍ، وَعَدِيُّ بْنُ قَيْسٍ السَّهْمِيُّ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ، وَطُلَيْقُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَخَالِدُ بْنُ أُسَيْدَ بْنِ أَبِي الْعَيْصِ، وَشَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ، وَأَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عَامِرٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، وَخَالِدُ بْنُ هِشَامٍ، وَهِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَسُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ، وَالسَّائِبُ بْنُ أَبِي السَّائِبِ، وَمُطِيعُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَأَبُو جَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ بْنِ غَانِمٍ، وَأُحَيْحَةُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ، وَعَدِيُّ بْنُ قَيْسٍ، وَنَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عُرْوَةَ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ، وَلَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنُ مَالِكٍ، وَخَالِدُ بْنُ هَوْذَةَ بْنُ رَبِيعَةَ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ هَوْذَةَ بْنُ رَبِيعَةَ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسِ بْنُ عِقَالٍ، وَقَيْسُ بْنُ مَخْرَمَةَ، وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ، وَهِشَامُ بْنُ عَمْرِو بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ حَبِيبٍ. قَالَ الْقَاضِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَمَّا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فَلَا شَكَّ فِيهِ وَلَا فِي ابْنِهِ. وَأَمَّا حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ فَعَظِيمُ الْقَدْرِ فِي الْإِسْلَامِ. قَالَ مَالِكٌ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ فَحَسُنَ إسْلَامُهُمْ.

قَالَ مَالِكٌ: وَبَلَغَنِي أَنْ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَخْرَجَ مَا كَانَ أَعْطَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُؤَلَّفَةِ، فَتَصَدَّقَ بَعْدَ ذَلِكَ بِهِ. وَأَمَّا الْحَارِثُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كِلْدَةَ فَهُوَ ابْن طَبِيبِ الْعَرَبِ وَكَانَ مِنْهُمْ. وَلَا خَفَاءَ بِعُيَيْنَةَ وَلَا بِمَالِكِ بْنِ عَوْفٍ سَيِّدِ هَوَازِنَ. وَأَمَّا سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَرَجُلٌ عَظِيمٌ، إنْ كَانَ مُؤَلَّفًا بِالْعَطِيَّةِ فَلَمْ يَمُتْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا، وَهُوَ مُؤَلَّفٌ عَلَى الْإِسْلَامِ بِالْيَقِينِ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِرَسُولِهِ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ إلَى مَكَّةَ مَاجَ أَهْلُ مَكَّةَ، فَقَامَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو خَطِيبًا، فَقَالَ: وَاَللَّهِ إنِّي لَأَعْلَمُ أَنْ هَذَا الْأَمْرَ سَيَمْتَدُّ امْتِدَادَ الشَّمْسِ فِي طُلُوعِهَا إلَى غُرُوبِهَا، فَلَا يَغُرَّنَّكُمْ هَذَا مِنْ أَنْفُسِكُمْ يَعْنِي أَبَا سُفْيَانَ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ حُبِسَ عَلَى بَابِ عُمَرَ، فَأَذِنَ لِأَهْلِ بَدْرٍ وَصُهَيْبٌ وَنَوْعُهُ. فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ، وَمَشْيَخَةُ قُرَيْشٍ: يَأْذَنُ لِلْعَبِيدِ وَيَذْرُنَا، فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: دُعِيتُمْ فَأَجَابُوا، وَأَسْرَعُوا وَأَبْطَأْتُمْ، أَمَا وَاَللَّهِ لَمَا سَبَقُوكُمْ بِهِ مِنْ الْفَضْلِ أَشَدُّ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذَا الَّذِي تُنَافِسُونَ فِيهِ؛ إلَى أَمْثَالِ هَذَا الْخَبَرِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ الْبَصِيرَةِ فِي الدِّينِ وَالْبَصَرِ. وَأَمَّا حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى فَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدِي أَمَرَهُ، إنَّمَا هُوَ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ، وَاسْتَقْرَضَ مِنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَصَحَّ دَيْنُهُ وَيَقِينُهُ. وَأَمَّا مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زَهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ فَأُمُّهُ رَقِيقَةُ بِنْتُ أَبِي صَيْفِيِّ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَالِدِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، حَسُنَ إسْلَامُهُ، وَهُوَ الَّذِي نَصَبَ أَعْلَامَ الْحَرَمِ لِعُمَرَ مَعَ حُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، «وَهُوَ الَّذِي خَبَّأَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقِثَّاءَ، فَقَالَ: خَبَّأْت هَذَا لَك، خَبَّأْت هَذَا لَك». وَأَمَّا عُمَيْرُ بْنُ وَهْبِ بْنِ خَلَفٍ أَبُو أُمَيَّةَ الْجُمَحِيُّ فَلَيْسَ مِنْهُمْ، مُسْلِمٌ حَنِيفِيٌّ، أَمَا إنَّهُ كَانَ مِنْ أَشَدِّهِمْ عَدَاوَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَاءَ لِقَتْلِهِ بِمَا شَرَطَ لَهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، فَلَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ دَعَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَفْوَانَ، فَأَسْلَمَ، وَحَدِيثُهُ طَوِيلٌ. وَأَمَّا هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو فَلَا أَعْرِفُ.

وَأَمَّا الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ فَكَانَ فِي أَوَّلٍ أَمْرِهِ كَأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ؛ وَهِيَ شَنْشَنَةٌ أَعْرِفُهَا مِنْ أَخْزَمَ، وَمَنْ يُشْبِهُ أَخَاهُ فَلَمْ يَظْلِمْ. حَسُنَ إسْلَامُهُ، وَكَانَ بِالْمِسْكِ خِتَامُهُ. وَأَمَّا سَعِيدُ بْنُ يَرْبُوعٍ فَهُوَ الْمُلَقَّبُ بِالصِّرْمِ، مَخْزُومِيٌّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيُّنَا أَكْبَرُ؟ قَالَ: أَنَا أَقْدَمُ مِنْك، وَأَنْتَ أَكْبَرُ وَخَيْرٌ مِنِّي»، وَلَمْ أَعْلَمْ تَأْلِيفَهُ. وَأَمَّا عَدِيُّ بْنُ قَيْسٍ فَلَمْ أَعْرِفْهُ. وَأَمَّا الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ فَكَبِيرُ قَوْمِهِ، حَسُنَ إسْلَامُهُ، وَخَبَرُهُ مَشْهُورٌ. وَأَمَّا طُلَيْقُ بْنُ سُفْيَانَ، وَابْنُهُ حَكِيمٌ؛ فَهُوَ وَابْنُهُ مَذْكُورَانِ فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ. وَأَمَّا خَالِدُ بْنُ أُسَيْدَ بْنِ أَبِي الْعَيْصِ بْنِ أُمَيَّةَ فَلَا أَعْرِفُ قِصَّتَهُ. «وَأَمَّا شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ فَكَانَ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا دَنَا مِنْهُمْ عَرَفَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَعَاهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ أَخَذَهُ أَفْكَلُ، فَمَسَحَ صَدْرَهُ فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إسْلَامُهُ». وَأَمَّا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ الْعَبْدَرِيُّ فَهُوَ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ، وَاسْمُهُ حَبَّةُ؛ لَا أَعْرِفُهُ. وَأَمَّا عِكْرِمَةُ بْنُ عَامِرٍ فَلَا أَعْرِفُهُ، أَمَا إنَّهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَلَسْت أُحَصِّلُ. وَأَمَّا زُهَيْرُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَخَالِدُ بْنُ هِشَامٍ فَلَا أَعْرِفُهُمَا. وَأَمَّا هِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ فَهُوَ أَخُو خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ. وَأَمَّا سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ فَلَا أَعْرِفُهُ. وَأَمَّا أَبُو السَّائِبِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ. وَأَمَّا مُطِيعُ بْنُ الْأَسْوَدِ فَلَسْت أَعْلَمُ. وَأَمَّا أَبُو جَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ بْنِ غَانِمٍ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ، وَاسْمُهُ عَامِرٌ، فَلَا أَعْرِفُهُ مِنْهُمْ، عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِيهِ فِي الصَّحِيحِ: «وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ»

رَوَاهُ النَّسَائِيّ. وَقَالَ فِيهِ: «وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ بِشَرٍّ لَا خَيْرَ فِيهِ» وَرَبُّك أَعْلَمُ. وَأَمَّا أُحَيْحَةُ فَهُوَ أَخُو صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ لَا أَعْرِفُ. وَأَمَّا نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدِّيلِيُّ فَلَا أَعْرِفُهُ مِنْهُمْ. وَأَمَّا عَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ الْعَامِرِيُّ الْكِلَابِيُّ فَهُوَ مِنْهُمْ وَأُسَيْدُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَحَسُنَ الْإِسْلَامُ عِنْدَهُمَا. وَأَمَّا خَالِدُ بْنُ هَوْذَةَ فَهُوَ وَالِدُ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدٍ مُبَايِعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعَبْدِ أَوْ الْأَمَةِ، مِنْ بَنِي أَنْفِ النَّاقَةِ، غَيْرُ مَمْدُوحٍ. وَالْحُطَيْئَةُ لَا أَعْرِفُ، وَكَذَلِكَ أَخُوهُ حَرْمَلَةُ. وَأَمَّا الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ فَمَشْهُورٌ فِيهِمْ. وَأَمَّا قَيْسُ بْنُ مَخْرَمَةَ بْنُ الْمُطَّلِبِ الْقُرَشِيُّ الْمُطَّلِبِيُّ فَلَا أَعْلَمُهُ مِنْهُمْ. وَأَمَّا جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ فَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ. وَأَمَّا هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو فَلَا أَعْرِفُهُ. وَقَدْ عُدَّ فِيهِمْ زَيْدُ الْخَيْرِ الطَّائِيُّ، وَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ. اسْتِدْرَاكٌ: وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ؛ كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ، وَقَدْ ائْتَمَنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى وَحْيِ اللَّهِ وَقِرَاءَتِهِ وَخَلْطِهِ بِنَفْسِهِ، وَأَمَّا حَالُهُ فِي أَيَّامِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَأَشْهُرُ مِنْ هَذَا وَأَظْهَرُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ أَصْنَافَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ؛ فَمِنْهُمْ ضَعِيفُ الْإِيمَانِ قَوِيُّ بِالْأَدِلَّةِ وَالْعَطَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ جَمِيعُهُمْ كَافِرًا؛ فَحَصِّلُوا هَذَا فَإِنَّهُ مُهِمٌّ فِي الْقِصَّةِ.

مسألة بقاء المؤلفة قلوبهم

[مَسْأَلَة بَقَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: اُخْتُلِفَ فِي بَقَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُمْ زَائِلُونَ؛ قَالَهُ جَمَاعَةٌ، وَأَخَذَ بِهِ مَالِكٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُمْ بَاقُونَ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ رُبَّمَا احْتَاجَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَقَدْ قَطَعَهُمْ عُمَرُ لِمَا رَأَى مِنْ إعْزَازِ الدِّينِ. وَاَلَّذِي عِنْدِي: أَنَّهُ إنْ قَوِيَ الْإِسْلَامُ زَالُوا، وَإِنْ اُحْتِيجَ إلَيْهِمْ أُعْطُوا سَهْمَهُمْ، كَمَا كَانَ يُعْطِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَإِنَّ الصَّحِيحَ قَدْ رُوِيَ فِيهِ: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ». الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: إذَا قُلْنَا بِزَوَالِهِمْ فَإِنَّ سَهْمَهُمْ سَيَعُودُ إلَى سَائِرِ الْأَصْنَافِ كُلِّهَا، أَوْ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي أَصْلِ الْخِلَافِ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: يُعْطَى نِصْفُ سَهْمِهِمْ لِعُمَّارِ الْمَسَاجِدِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ الْأَصْنَافَ الثَّمَانِيَةَ مَحَلٌّ لَا مُسْتَحَقُّونَ؛ إذْ لَوْ كَانُوا مُسْتَحَقِّينَ لَسَقَطَ سَهْمُهُمْ بِسُقُوطِهِ عَنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، وَلَمْ يَرْجِعْ إلَى غَيْرِهِمْ، كَمَا لَوْ أَوْصَى لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ فَمَاتَ أَحَدُهُمْ لَمْ يَرْجِعْ نَصِيبُهُ إلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ. [مَسْأَلَة شِرَاءُ الرِّقَابِ وَعِتْقُهَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60]: وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ الْمُكَاتَبُونَ؛ قَالَهُ عَلِيٌّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَجَمَاعَةٌ. الثَّانِي: أَنَّهُ الْعِتْقُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَبْتَاعَ الْإِمَامُ رَقِيقًا فَيُعْتِقَهُمْ، وَيَكُونُ وَلَاؤُهُمْ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ. وَعَنْ مَالِكٍ أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ:

مسألة اشترى الإمام من رجل أباه وأخذ المال ليعتقه عن نفسه

إحْدَاهَا: أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ مُكَاتِبًا، وَلَا فِي آخِرِ نَجْمٍ مِنْ نُجُومِهِ، وَلَوْ خَرَجَ بِهِ حُرًّا. وَقَدْ قَالَ مَرَّةً: فَلِمَنْ يَكُونُ الْوَلَاءُ؟ وَقَالَ آخِرًا: مَا يُعْجِبُنِي ذَلِكَ، وَمَا بَلَغَنِي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَلَا عُمَرَ وَلَا عُثْمَانَ فَعَلُوا ذَلِكَ. الثَّانِيَةُ: رَوَى عَنْهُ مُطَرِّفٌ أَنَّهُ يُعْطَى الْمُكَاتَبُونَ. الثَّالِثَةُ: قَالَ: يَشْتَرِي مِنْ زَكَاتِهِ رَقَبَةً فَيُعْتِقُهَا، يَكُونُ وَلَاؤُهَا لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ. الرَّابِعَةُ: قَالَ مَالِكٌ: لَا آمُرُ أَحَدًا أَنْ يَشْتَرِيَ رَقَبَةً مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ فَيُعْتِقُهَا. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ شِرَاءُ الرِّقَابِ وَعِتْقُهَا، كَذَلِكَ هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ حَيْثُ ذَكَرَ الرَّقَبَةَ فِي كِتَابِهِ إنَّمَا هُوَ الْعِتْقُ، وَلَوْ أَرَادَ الْمُكَاتَبِينَ لَذَكَرَهُمْ بِاسْمِهِمْ الْأَخَصِّ، فَلَمَّا عَدْلَ إلَى الرَّقَبَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْعِتْقَ. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمُكَاتَبَ قَدْ دَخَلَ فِي جُمْلَةٍ الْغَارِمِينَ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنِ الْكِتَابَةِ، فَلَا يَدْخُلُ فِي الرِّقَابِ، وَرُبَّمَا دَخَلَ فِي الْمُكَاتَبِ بِالْعُمُومِ، وَلَكِنْ فِي آخِرِ نَجْمٍ يُعْتَقُ بِهِ، وَيَكُونُ وَلَاؤُهُ لِسَيِّدِهِ، وَلَا حَرَجَ عَلَى مُعْطِي الصَّدَقَةِ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ تَخْلِيصَهُ مِنْ الرِّقِّ، وَفَكِّهِ مِنْ حَبْسِ الْمِلْكِ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَلَا يَتَأَتَّى عَنْ الْوَلَاءِ؛ فَإِنَّ الْغَرَضَ تَخْلِيصُ الْمُكَاتَبِ مِنْ الرِّقِّ، وَفَكُّهُ مِنْ حَبْسِ الْمِلْكِ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ. [مَسْأَلَة اشْتَرَى الْإِمَامُ مِنْ رَجُلٍ أَبَاهُ وَأَخَذَ الْمَالَ لِيُعْتِقَهُ عَنْ نَفْسِهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: لَوْ اشْتَرَى الْإِمَامُ مِنْ رَجُلٍ أَبَاهُ وَأَخَذَ الْمَالَ لِيُعْتِقَهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ [فِيهِ] قَوْلُ مَالِكٍ؛ فَمَنَعَهُ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ، وَأَجَازَهُ فِي الْمُخْتَصَرِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْطَى الثَّمَنَ»، وَلِأَنَّهُ إذَا أَعْتَقَهُ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لِلثَّمَنِ مُقَابِلٌ يُوَازِيهِ.

مسألة فك الأسارى من الزكاة

[مَسْأَلَة فَكِّ الْأُسَارَى مِنْ الزَّكَاة] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي فَكِّ الْأُسَارَى مِنْهَا؛ فَقَدْ قَالَ أَصْبَغُ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يَجُوزُ ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ فَكُّ الْمُسْلِمِ عَنْ رَقِّ الْمُسْلِمِ عِبَادَةً وَجَائِزًا مِنْ الصَّدَقَةِ فَأَوْلَى وَأَحْرَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي فَكِّ الْمُسْلِمِ عَنْ رَقِّ الْكَافِرِ وَذُلِّهِ. [مَسْأَلَة هَلْ نُعْتِقُ مِنْ الزَّكَاة رَقَبَة] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: إذَا قُلْنَا: إنَّهُ يُعَانُ مِنْهَا الْمُكَاتَبُ، فَهَلْ نُعْتِقُ مِنْهَا بَعْضَ رَقَبَةٍ يَنْبَنِي عَلَيْهَا؟ فَإِذَا كَانَ نِصْفَ عَبْدٍ أَوْ عَشَرَةً يَكُونُ فِيهِ فَكُّهُ عَنْ الرِّقِّ بِمَا قَدْ سَبَقَ مِنْ عِتْقِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ؛ ذَكَرَهُ مُطَرِّفٌ، وَكَذَلِكَ أَقُولُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة الْوَلَاءُ بَيْنَ الْمُعْتَقَيْنِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: وَيَكُونُ الْوَلَاءُ بَيْنَ الْمُعْتَقَيْنِ كَالشَّرِيكَيْنِ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ، فَإِنَّ فِيهِ تَفْرِيعًا كَثِيرًا. [مَسْأَلَة الْغَارِمِينَ هُمْ الَّذِينَ رَكِبَهُمْ الدَّيْنُ وَلَا وَفَاءَ عِنْدَهُمْ بِهِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى {وَالْغَارِمِينَ} [التوبة: 60]: وَهُمْ الَّذِينَ رَكِبَهُمْ الدَّيْنُ، وَلَا وَفَاءَ عِنْدَهُمْ [بِهِ]، وَلَا خِلَافَ فِيهِ. اللَّهُمَّ إلَّا مَنْ ادَّانَ فِي سَفَاهَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يُعْطَى مِنْهَا، نَعَمْ وَلَا مِنْ غَيْرِهَا إلَّا أَنْ يَتُوبَ، فَإِنَّهُ إنْ أَخَذَهَا قَبْلَ التَّوْبَةِ عَادَ إلَى سَفَاهَةٍ مِثْلِهَا أَوْ أَكْبَرَ مِنْهَا، وَالدُّيُونُ وَأَصْنَافُهَا كَثِيرَةٌ. وَتَفْصِيلُهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: فَإِنْ كَانَ مَيِّتًا قُضِيَ مِنْهَا دَيْنُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْغَارِمِينَ. وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: لَا يُقْضَى. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلَّا أَنَا أَوْلَى بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6]

مسألة المراد بسبيل الله

؛ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا فَلْيَرِثْهُ عُصْبَتُهُ مَنْ كَانُوا، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلَاهُ». [مَسْأَلَة الْمُرَادَ بِسَبِيلِ اللَّهِ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60]: قَالَ مَالِكٌ: سُبُلُ اللَّهِ كَثِيرَةٌ، وَلَكِنِّي لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِسَبِيلِ اللَّهِ هَاهُنَا الْغَزْوُ مِنْ جُمْلَةِ سَبِيلِ اللَّهِ، إلَّا مَا يُؤْثَرُ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ فَإِنَّهُمَا قَالَا: إنَّهُ الْحَجُّ. وَاَلَّذِي يَصِحُّ عِنْدِي مِنْ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْحَجَّ مِنْ جُمْلَةِ السُّبُلِ مَعَ الْغَزْوِ؛ لِأَنَّهُ طَرِيقُ بِرٍّ، فَأُعْطِيَ مِنْهُ بِاسْمِ السَّبِيلِ، وَهَذَا يُحِلُّ عَقْدَ الْبَابِ، وَيَخْرُمُ قَانُونَ الشَّرِيعَةِ، وَيَنْثُرُ سِلْكَ النَّظَرِ، وَمَا جَاءَ قَطُّ بِإِعْطَاءِ الزَّكَاةِ فِي الْحَجِّ أَثَرٌ. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَيُعْطَى مِنْهَا الْفَقِيرُ بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سُمِّيَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، وَيُعْطَى الْغَنِيُّ عِنْدَ مَالِكٍ بِوَصْفِ سَبِيلٍ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ أَوْ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي يَأْخُذُ بِهِ، لَا يُلْتَفَتُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ الَّذِي يُؤْثَرُ عَنْهُ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا لِخَمْسَةٍ: غَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ». وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُعْطَى الْغَازِي [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] إلَّا إذَا كَانَ فَقِيرًا، وَهَذِهِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ، وَعِنْدَهُ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ، وَلَا نَسْخَ فِي الْقُرْآنِ إلَّا بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ أَوْ بِخَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ فَعَلَ مِثْلَ هَذَا فِي الْخَمْسِ فِي قَوْلِهِ: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41]؛ فَشَرَطَ فِي قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْفَقْرَ؛ وَحِينَئِذٍ يُعْطَوْنَ مِنْ الْخُمُسِ. وَهَذَا كُلُّهُ ضَعِيفٌ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ.

مسألة ابن السبيل هو الذي انقطعت به الأسباب في سفره

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: يُعْطَى مِنْ الصَّدَقَةِ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، وَمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ، وَكَفِّ الْعَدُوِّ عَنْ الْحَوْزَةِ؛ لِأَنَّهُ كُلَّهُ مِنْ سَبِيلِ الْغَزْوِ وَمَنْفَعَتِهِ. «وَقَدْ أَعْطَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الصَّدَقَةِ مِائَةَ نَاقَةٍ فِي نَازِلَةِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ إطْفَاءً لِلثَّائِرَةِ». [مَسْأَلَة ابْنِ السَّبِيلِ هُوَ الَّذِي انْقَطَعَتْ بِهِ الْأَسْبَابُ فِي سَفَرِهِ] الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ: قَوْله تَعَالَى {وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60]: يُرِيدُ الَّذِي انْقَطَعَتْ بِهِ الْأَسْبَابُ فِي سَفَرِهِ، وَغَابَ عَنْ بَلَدِهِ وَمُسْتَقَرِّ مَالِهِ وَحَالِهِ فَإِنَّهُ يُعْطَى مِنْهَا. قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ: إذَا وَجَدَ مَنْ يُسَلِّفُهُ فَلَا يُعْطَى. وَلَيْسَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُدْخِلَ تَحْتَ مِنَّةُ أَحَدٍ، وَقَدْ وَجَدَ مِنَّةَ اللَّهِ وَنِعْمَتَهُ. [مَسْأَلَة ادَّعَى الرَّجُلُ اسْتِحْقَاق الزَّكَاة لكونه مِنْ أَهْلهَا هَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ أَمْ لَا] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: إذَا جَاءَ الرَّجُلُ وَقَالَ: أَنَا فَقِيرٌ، أَوْ مِسْكِينٌ، أَوْ غَارِمٌ، أَوْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ ابْنُ السَّبِيلِ، هَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ، أَمْ يُقَالُ لَهُ: أَثْبِتْ مَا تَقُولُ؟ فَأَمَّا الدَّيْنُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَثْبُتَ. وَأَمَّا سَائِرُ الصِّفَاتُ فَظَاهِرُ الْحَالِ يَشْهَدُ لَهَا وَيُكْتَفَى بِهِ فِيهَا. ثَبَتَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَ إلَيْهِ قَوْمٌ ذَوُو حَاجَةٍ مُجْتَابِي النِّمَارِ، فَحَثَّ عَلَى الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ». وَفِي حَدِيثٍ: أَبْرَصُ وَأَقْرَعُ وَأَعْمَى قَالَ مُخْبِرًا عَنْهُمْ: «إنَّا عَلَى مَا تَرَى». فَاكْتَفَى بِظَاهِرِ الْحَالِ. وَكَذَلِكَ ابْنُ السَّبِيلِ يُكْتَفَى بِغُرْبَتِهِ، وَظَاهِرِ حَالَتِهِ، وَكَوْنُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَعْلُومٌ بِفِعْلِهِ لِذَلِكَ وَرُكُونِهِ فِيهِ. وَإِنْ قَالَ: أَنَا مُكَاتَبٌ أَثْبَتَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الرِّقُّ حَتَّى يُثْبِتَ الْحُرِّيَّةَ أَوْ سَبَبَهَا. وَإِنْ ادَّعَى زِيَادَةً عَلَى الْفَقْرِ عِيَالًا، فَقَالَ الْقَرَوِيُّونَ: يَكْشِفُ عَنْ ذَلِكَ إنْ قَدَرَ، وَهَذَا لَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ أَبْرَصَ وَأَعْمَى وَأَقْرَعَ ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَأَنَا ابْنُ سَبِيلٍ

مسألة بأي صنف يبدأ بالزكاة

أَسْأَلُك بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي، وَلَمْ يُكَلِّفْهُ إثْبَاتَ السَّفَرِ، وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهُ؛ فَصَارَ هَذَا أَصْلًا فِي دَعْوَى كُلِّ شَيْءٍ غَائِبٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ. [مَسْأَلَة بِأَيِّ صِنْفٍ يَبْدَأُ بِالزَّكَاةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: إذَا قُلْنَا: إنَّ الْأَصْنَافَ الثَّمَانِيَةَ مُسْتَحِقُّونَ، فَيَأْخُذُ كُلُّ أَحَدٍ حَقَّهُ وَهُوَ الثُّمُنُ، وَلَا مَسْأَلَةَ مَعَنَا. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْإِمَامَ يَجْتَهِدُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ بِأَيِّ صِنْفٍ يَبْدَأُ. فَأَمَّا الْعَامِلُونَ فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ أُجْرَتَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَلَا كَلَامَ. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ أُجْرَتَهُمْ مِنْ الزَّكَاةِ فَبِهِمْ نَبْدَأُ، فَنُعْطِيهِمْ الثُّمُنَ عَلَى قَوْلٍ، وَقَدْرَ أُجْرَتِهِمْ عَلَى الصَّحِيحِ فِي الشَّرْعِ؛ فَإِنَّ الْخَبَرَ بِأَنْ يُعْطَى كُلُّ أَجِيرٍ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ مَأْثُورُ اللَّفْظِ صَحِيحُ الْمَعْنَى. فَإِنْ أَخَذَ الْعَامِلُ حَقَّهُ فَلَا يَبْقَى صِنْفٌ يُتَرَجَّحُ فِيهِ إلَّا صِنْفَيْنِ؛ هُمَا سَبِيلُ اللَّهِ وَالْفُقَرَاءُ، أَوْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ إنْ قُلْنَا: إنَّ الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ صِنْفَانِ، فَأَمَّا سَبِيلُ اللَّهِ إذَا اجْتَمَعَ مَعَ الْفَقْرِ فَإِنَّ الْفَقْرَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَنْزِلَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ إلَى مَالِ الصَّدَقَةِ فِيمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى كُلِّ نَازِلَةٍ. وَأَمَّا الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ صِنْفَانِ، وَلَا نُبَالِي بِمَا قَالَ النَّاسُ فِيهِمَا، وَهَا أَنَا ذَا أُرِيحُكُمْ مِنْهُ بِعَوْنِ اللَّهِ؛ فَإِنْ قَالَ الْقَائِلُ بِأَنَّ الْفَقِيرَ مَنْ لَهُ شَيْءٌ وَالْمِسْكِينُ مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ، أَوْ بِعَكْسِهِ، فَإِنَّ مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ هُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَى مَنْ لَهُ شَيْءٌ، فَهَذَا الْمَعْنَى سَاقِطٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَأَمَّا إنْ قُلْنَا: إنَّ الْفَقِيرَ هُوَ الَّذِي لَا يَسْأَلُ، وَالْمِسْكِينُ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ فَاَلَّذِي لَا يَسْأَلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ السَّائِلَ أَقْرَبُ إلَى التَّفَطُّنِ وَالْغِنَى، وَالْعِلْمُ بِهِ مِمَّنْ لَا يَسْأَلُ، وَلَا يَفْطِنُ لَهُ فَيَتَصَدَّقُ عَلَيْهِ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ الزَّمِنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَأَنَّ الْمُحْتَاجَ مُقَدَّمٌ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْكِتَابِيِّ. وَقَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْهِجْرَةِ وَالتَّقَرُّبِ بِذَهَابِ

مسألة أعطى الإمام صدقة الرجل لولده ووالده وزوجه الذين تلزمه نفقة

زَمَانِهِمَا، فَلَا مَعْنَى لِلِاحْتِجَاجِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَنَّ بِالْمَعْرِفَةِ وَكَفَانَا الْمَئُونَةُ. [مَسْأَلَة أَعْطَى الْإِمَامُ صَدَقَةَ الرَّجُلِ لِوَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَزَوْجِهِ الَّذِينَ تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: هَذِهِ الْأَوْصَافُ الَّتِي ذَكَرْنَا شَأْنَهَا فِي الْأَصْنَافِ الَّتِي قَدَّمْنَا بَيَانَهَا إنَّمَا تُعْتَبَرُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا فِيمَنْ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُتَصَدِّقِ، فَإِنْ وَقَعَتْ الْقَرَابَةُ فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ عَرِيضٌ طَوِيلٌ. فَأَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِزَيْنَبِ امْرَأَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْت عَلَيْهِمْ بِهِ». يَعْنِي بِحُلِيِّهَا الَّذِي أَرَادَتْ أَنْ تَتَصَدَّقَ بِهِ. وَفِي حَدِيثِ بِئْرِ حَاءٍ: «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي طَلْحَةَ: أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ»، فَجَعَلَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ، وَبَنِي عَمِّهِ. وَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ ثَابِتٌ فِي كُلِّ أُمٍّ وَبِنْتٍ مِنْ الْحَدِيثِ. وَأَمَّا صَدَقَةُ الْفَرْضِ فَإِنْ أَعْطَى الْإِمَامُ صَدَقَةَ الرَّجُلِ لِوَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَزَوْجِهِ الَّذِينَ تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ جَمِيعِهِمْ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ. وَأَمَّا إنْ تَنَاوَلَ هُوَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا بِحَالٍ لِمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يُسْقِطُ [فِي ذَلِكَ] بِهَا عَنْ نَفْسِهِ فَرْضًا. وَأَمَّا إنْ أَعْطَاهَا لِمَنْ لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ. قَالَ مَالِكٌ: خَوْفَ الْمَحْمَدَةِ. وَقَالَ مُطَرِّفٌ: رَأَيْت مَالِكًا يَدْفَعُ زَكَاتَهُ لِأَقَارِبِهِ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ وَهُوَ إمَامٌ عَظِيمٌ: قَالَ مَالِكٌ: أَفْضَلُ مَنْ وَضَعْت فِيهِ زَكَاتَك قَرَابَتُك الَّذِينَ لَا تَعُولُ.

مسألة إعطاء الزكاة للزوجين

وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِزَوْجَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: لَك أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ، وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ». [مَسْأَلَة إعْطَاءِ الزَّكَاةِ لِلزَّوْجَيْنِ] وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي إعْطَاءِ الزَّكَاةِ لِلزَّوْجَيْنِ، فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ: إنَّ ذَلِكَ مِنْ مَنْعِ مَالِكٍ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ. وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ حَبِيبٍ إنْ كَانَ يَسْتَعِينُ فِي النَّفَقَةِ عَلَيْهَا بِمَا يُعْطِيهِ فَلَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَا يُنْفِقُ عَلَيْهَا وَيَصْرِفُ مَا يَأْخُذُ مِنْهَا مِنْ نَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ بِحَالٍ. وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ لِحَدِيثِ زَيْنَبَ امْرَأَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ. فَإِنْ قِيلَ: ذَلِكَ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ. قُلْنَا: صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ وَالْفَرْضِ هَاهُنَا وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْهُ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ عَوْدِهِ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ لَوْ كَانَتْ مُرَاعَاةً لَاسْتَوَى فِيهِ التَّطَوُّعُ وَالْفَرْضُ. [مَسْأَلَة إذَا كَانَ الْفَقِيرُ قَوِيًّا هَلْ يُعْطِي مِنْ الزَّكَاة] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: إذَا كَانَ الْفَقِيرُ قَوِيًّا، فَقَالَ مَالِكٌ فِي مُخْتَصَرِ مَا لَيْسَ فِي الْمُخْتَصَرِ: يُعْطَى، يَعْنِي لِتَحْقِيقِ صِفَةِ الِاسْتِحْقَاقِ فِيهِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ: لَا يُجْزِيهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ». خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مَعَ غَيْرِهِ، وَزَادَ فِيهِ: «إلَّا لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ غُرْمٍ مُفْظِعٍ». وَقَالَ: هَذَا غَرِيبٌ، وَالْحَدِيثُ الْمُطْلَقُ دُونَ زِيَادَةٍ لَا يُرْكَنُ إلَيْهِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَى هَذَا؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ

مسألة من كان له نصاب من الزكاة هل يجوز له أخذها أم لا

يُعْطِيهَا لِلْفُقَرَاءِ الْأَصِحَّاءِ، وَوُقُوفُهَا عَلَى الزَّمْنَى بَاطِلٌ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ ذَلِكَ بِالِاتِّبَاعِ، وَأَقْوَى مِنْهُ فِي الِارْتِبَاطِ وَالِانْتِزَاعِ. [مَسْأَلَة مَنْ كَانَ لَهُ نِصَابٌ مِنْ الزَّكَاةِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهَا أَمْ لَا] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: مَنْ كَانَ لَهُ نِصَابٌ مِنْ الزَّكَاةِ، هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهَا أَمْ لَا؟ فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا تَارَةً: مَنْ مَلَكَ نِصَابًا فَلَا يَأْخُذُ مِنْهَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ غَنِيٌّ تُؤْخَذُ مِنْهُ فَلَا تُدْفَعُ إلَيْهِ. وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي: يَأْخُذُ مِنْهَا، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ سَأَلَ وَعِنْدَهُ أُوقِيَّةٌ أَوْ عَدْلُهَا فَقَدْ سَأَلَ إلْحَافًا». وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: إنَّ مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ كِفَايَةٌ تُغْنِيهِ فَهُوَ الْغَنِيُّ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ، وَمَنْ زَادَ عَلَى النِّصَابِ، وَلَمْ تَكُنْ فِيهِ كِفَايَةٌ لِمُؤْنَتِهِ وَلَا سَدَادٌ لِخُلَّتِهِ فَلَيْسَ بِغَنِيِّ فَيَأْخُذُ مِنْهَا. [مَسْأَلَة هَلْ يُعْطَى الْفَقِير مِنْ الزَّكَاةِ نِصَابًا أَمْ لَا] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ، هَلْ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ نِصَابًا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ زَكَاتَانِ: نَقْدٌ، وَحَرْثٌ، أَخَذَ مَا يُبَلِّغُهُ إلَى الْأُخْرَى. وَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنْ يُعْطَى نِصَابًا، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ زَكَاتَانِ وَأَكْثَرُ، فَإِنَّ الْغَرَضَ إغْنَاءُ الْفَقِيرِ، حَتَّى يَصِيرَ غَنِيًّا، فَإِذَا أَخَذَ تِلْكَ فَإِنْ حَضَرَتْ زَكَاةٌ أُخْرَى وَعِنْدَهُ مَا يَكْفِيهِ أَخَذَهَا غَيْرُهُ، وَإِلَّا عَادَ عَلَيْهِ الْعَطَاءُ.

مسألة الصدقة إلى آل محمد

[مَسْأَلَة الصَّدَقَةُ إلَى آلِ مُحَمَّدٍ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: لَا تُصْرَفُ الصَّدَقَةُ إلَى آلِ مُحَمَّدٍ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ، إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ». وَالْمَسْأَلَةُ مُشْكِلَةٌ جِدًّا، وَقَدْ أَفَضْنَا فِيهَا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ نُفِيضَ فِيهِ. وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ الصَّدَقَةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِجْمَاعِ أُمَّتِهِ، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: بَنُو الْمُطَّلِبِ وَبَنُو هَاشِمٍ وَاحِدٌ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ لَمْ يَفْتَرِقُوا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا فِي إسْلَامٍ». قَالُوا: لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهُمْ الْخُمُسَ عِوَضًا عَنْ الصَّدَقَةِ وَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ: آلُ مُحَمَّدٍ عَشِيرَتُهُ الْأَقْرَبُونَ: بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَآلُ هَاشِمٍ، وَآلُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَآلُ قُصَيٍّ، وَآلُ غَالِبٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: «يَا آلَ قُصَيٍّ، يَا آلَ غَالِبٍ، يَا آلَ عَبْدِ مَنَافٍ، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةُ رَسُولِ اللَّهِ، اعْمَلُوا لِمَا عِنْدَ اللَّهِ؛ فَإِنِّي لَسْت أَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا». فَبَيَّنَ بِمُنَادَاتِهِ عَشِيرَتَهُ الْأَقْرَبِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَدْ سُئِلَ عَنْهَا: نَحْنُ هُمْ. يَعْنِي آلَ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً، وَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا قَوْمُنَا. فَأَمَّا مَوَالِيهِمْ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ: لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِآلِ مُحَمَّدٍ إنَّمَا ذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ لَا فِي التَّطَوُّعِ، وَإِنَّمَا هُمْ بَنُو هَاشِمٍ أَنْفُسُهُمْ. قِيلَ لَهُ يَعْنِي مَالِكًا: فَمَوَالِيهِ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي مَا الْمَوَالِي؟ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَهُمْ مِنْ ذَلِكَ فَاحْتَجَجْت عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ»، فَقَالَ: وَقَدْ قَالَ: «ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ».

قَالَ أَصْبَغُ: وَذَلِكَ فِي الْبِرِّ وَالْحُرْمَةِ، كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك». قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: مَوَالِيهِمْ مِنْهُمْ لَا تَحِلُّ لَهُمْ [الصَّدَقَةُ]. وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْوَاضِحَةِ: لَا يُعْطَى آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ التَّطَوُّعِ. وَأَجَازَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْوَسَخَ إنَّمَا قُرِنَ بِالْفَرْضِ خَاصَّةً. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي رَافِعٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ رَجُلًا عَلَى الصَّدَقَةِ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، فَقَالَ لِأَبِي رَافِعٍ: اصْحَبْنِي، فَإِنَّك تُصِيبُ مِنْهَا؛ فَقَالَ: حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ فَأَسْأَلَهُ. فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ».

مسألة إذا اختص أهل كل بلد بزكاة بلده فهل يجوز نقلها

وَهَذَا نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَلَوْ صَحَّ لَوَجَبَ قَبُولُهُ، وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ جَوَابَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ عَلَى التَّنْزِيهِ مِنْهُ. الثَّانِي: أَنَّ أَبَا رَافِعٍ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْدُمُ وَيُطْعِمُ، فَكَرِهَ لَهُ تَرْكَ الْمَالِ الَّذِي لَمْ يُذَمَّ، وَأَخْذَهُ لِمَالٍ هُوَ أَوْسَاخُ النَّاسِ، فَكَسْبُ غَيْرِهِ أَوْلَى مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَنِي أَبِي إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي إبِلٍ أَعْطَاهَا إيَّاهُ مِنْ الصَّدَقَةِ. قُلْنَا: لَمْ يَصِحَّ. وَجَوَابُهُ لَوْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَسْلَفَ مِنْ الْعَبَّاسِ، فَرَدَّ إلَيْهِ مَا اسْتَسْلَفَ مِنْ الصَّدَقَةِ، فَأَكَلَهَا بِالْعِوَضِ. وَقَدْ رَوَيْنَا ذَلِكَ مُفَسَّرًا مُسْتَوْفًى فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ. وَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ صَرْفُ صَدَقَةِ بَنِي هَاشِمٍ إلَى فُقَرَائِهِمْ، فَيُقَالُ لَهُ: أَيَأْكُلُونَ مِنْ أَوْسَاخِهِمْ؟ هَذَا جَهْلٌ بِحَقِيقَةِ الْعِلَّةِ وَجِهَةِ الْكَرَامَةِ. [مَسْأَلَة إذَا اُخْتُصَّ أَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ بِزَكَاةِ بَلَدِهِ فَهَلْ يَجُوزُ نَقْلُهَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْلُهُ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60]: مُقَابَلَةُ جُمْلَةٍ بِجُمْلَةٍ، وَهِيَ جُمْلَةُ الصَّدَقَةِ بِجُمْلَةِ الْمَصْرِفِ لَهَا، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ حِينَ أَرْسَلَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ: «قُلْ لَهُمْ: إنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ» فَاخْتُصَّ أَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ بِزَكَاةِ بَلَدِهِ؛ فَهَلْ يَجُوزُ نَقْلُهَا أَمْ لَا؟ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: لَا تُنْقَلُ، وَبِهِ قَالَ سَحْنُونٌ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، إلَّا أَنَّهُ زَادَ إنْ نَقَلَ بَعْضَهَا لِضَرُورَةٍ رَأَيْتُهُ صَوَابًا. الثَّانِي: يَجُوزُ نَقْلُهَا، وَقَالَهُ مَالِكٌ أَيْضًا. الثَّالِثُ: يُقَسَّمُ فِي الْمَوْضِعِ سَهْمُ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينَ، وَيُنْقَلُ سَائِرُ السِّهَامِ، بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ.

الآية السابعة والعشرون قوله تعالى ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب

وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إذَا نَزَلَتْ وَجَبَ تَقْدِيمُهَا عَلَى مَنْ لَيْسَ بِمُحْتَاجٍ فَالْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمُ لَا يُسْلِمُهُ وَلَا يَظْلِمُهُ. [الْآيَة السَّابِعَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ] الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: «بَيْنَمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَرَكْبٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ يَسِيرُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالُوا: يَظُنُّ هَذَا أَنَّهُ يَفْتَحُ قُصُورَ الشَّامِ وَحُصُونَهَا، فَأَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ وَقَوْلِهِمْ، فَدَعَاهُمْ، فَقَالَ: قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ فَحَلَفُوا: مَا كُنَّا إلَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، فَكَانَ مِمَّنْ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَفَا عَنْهُ يَقُولُ: أَسْمَعُ آيَةً تَقْشَعِرُّ مِنْهَا الْجُلُودُ، وَتَجِثُّ الْقُلُوبُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ وَفَاتِي قَتْلًا فِي سَبِيلِك، لَا يَقُلْ أَحَدٌ أَنَا غَسَّلْت، أَنَا كَفَّنْت، أَنَا دَفَنْت. قَالَ: فَأُصِيبُ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، فَمَا أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَّا وَقَدْ وُجِدَ غَيْرُهُ». وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «رَأَيْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ يَشْتَدُّ قُدَّامَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْحِجَارَةُ تَنْكُبُهُ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: أَبِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ؟ لَا تَعْتَذِرُوا». وَرُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ نَزَلَ فِيمَا كَانَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ.

مسألة الهزل في سائر الأحكام كالبيع والنكاح والطلاق

[مَسْأَلَة الْهَزْلُ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَا قَالُوهُ مِنْ ذَلِكَ جِدًّا أَوْ هَزْلًا، وَهُوَ كَيْفَمَا كَانَ كُفْرٌ؛ فَإِنَّ الْهَزْلَ بِالْكُفْرِ كُفْرٌ، لَا خُلْفَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، فَإِنَّ التَّحْقِيقَ أَخُو الْحَقِّ وَالْعِلْمِ، وَالْهَزْلَ أَخُو الْبَاطِلِ وَالْجَهْلِ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: نَظَرُوا إلَى قَوْلِهِ: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67]. فَإِنْ كَانَ الْهَزْلُ فِي سَائِرٍ الْأَحْكَامِ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَقَاوِيلَ، جِمَاعُهَا ثَلَاثَةٌ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ. الثَّانِي: لَا يَلْزَمُ الْهَزْلُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَلْزَمُ. فَقَالَ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: يَلْزَمُ نِكَاحُ الْهَازِلِ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ: لَا يَلْزَمُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ: يُفْسَخُ قَبْلُ وَبَعْدُ. وَلِلشَّافِعِيِّ فِي بَيْعِ الْهَازِلِ قَوْلَانِ؛ وَكَذَلِكَ يَتَخَرَّجُ مِنْ قَوْلِ عُلَمَائِنَا فِيهِ الْقَوْلَانِ. قَالَ مُتَأَخِّرُو أَصْحَابِنَا: إنْ اتَّفَقَا عَلَى الْهَزْلِ فِي النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ لَمْ يَلْزَمْ، وَإِنْ اخْتَلَفَا غَلَبَ الْجَدُّ الْهَزْلَ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَأَمَّا الطَّلَاقُ فَيَلْزَمُ هَزْلُهُ، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ يَتَعَلَّقُ بِالتَّحْرِيمِ وَالْقُرْبَةِ، فَيَغْلِبُ اللُّزُومُ فِيهِ عَلَى الْإِسْقَاطِ. [الْآيَة الثَّامِنَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى يَا أَيّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ] َ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: 73]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: [الْمُجَاهَدَةُ]: فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: جَاهِدْهُمْ بِيَدِك، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِك، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَطِّبْ فِي وُجُوهِهِمْ.

مسألة معنى قوله تعالى واغلظ عليهم

الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَاهِدْ الْكُفَّارَ بِالسَّيْفِ، وَالْمُنَافِقِينَ بِاللِّسَانِ. الثَّالِثُ: قَالَ الْحَسَنُ: جَاهِدْ الْكُفَّارَ بِالسَّيْفِ، وَالْمُنَافِقِينَ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ. وَاخْتَارَهُ قَتَادَةُ، وَكَانُوا أَكْثَرَ مَنْ يُصِيبُ الْحُدُودَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ مَا تَقَدَّمَ، فَأَشْكَلَ ذَلِكَ وَاسْتَبْهَمَ، وَلَا أَدْرِي صِحَّةَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي السَّنَدِ. أَمَّا الْمَعْنَى فَإِنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُجَاهِدُ الْكُفَّارَ بِالسَّيْفِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِمْ، حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَكَانَ مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ يُعْرِضُ عَنْهُمْ، وَيَكْتَفِي بِظَاهِرِ إسْلَامِهِمْ، وَيَسْمَعُ أَخْبَارَهُمْ فَيُلْغِيهَا بِالْبَقَاءِ عَلَيْهِمْ، وَانْتِظَارِ الْفَيْئَةِ إلَى الْحَقِّ بِهِمْ، وَإِبْقَاءً عَلَى قَوْمِهِمْ، لِئَلَّا تَثُورَ نُفُوسُهُمْ عِنْدَ قَتْلِهِمْ، وَحَذَرًا مِنْ سُوءِ الشُّنْعَةِ فِي أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ؛ فَكَانَ لِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْأُمُورِ يَقْبَلُ ظَاهِرَ إيمَانِهِمْ، وَبَادِئَ صَلَاتِهِمْ، وَغَزْوَهُمْ، وَيَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إلَى رَبِّهِمْ، وَتَارَةً كَانَ يَبْسُطُ لَهُمْ وَجْهَهُ الْكَرِيمَ، وَأُخْرَى كَانَ يُظْهِرُ التَّغْيِيرَ عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا إقَامَةُ الْحُجَّةِ بِاللِّسَانِ فَكَانَتْ دَائِمَةً، وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ جِهَادَ الْمُنَافِقِينَ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ فِيهِمْ لِأَنَّ أَكْثَرَ إصَابَةِ الْحُدُودِ كَانَتْ عِنْدَهُمْ، فَإِنَّهُ دَعْوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ الْعَاصِي بِمُنَافِقٍ، إنَّمَا الْمُنَافِقُ بِمَا يَكُونُ فِي قَلْبِهِ مِنْ النِّفَاقِ كَامِنًا، لَا بِمَا تَتَلَبَّسُ بِهِ الْجَوَارِحُ ظَاهِرًا، وَأَخْبَارُ الْمَحْدُودِينَ يَشْهَدُ مَسَاقُهَا أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73]: الْغِلْظَةُ نَقِيضُ الرَّأْفَةِ، وَهِيَ شِدَّةُ الْقَلْبِ وَقُوَّتُهُ عَلَى إحْلَالِ الْأَمْرِ بِصَاحِبِهِ. وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي اللِّسَانِ. ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ».

الآية التاسعة والعشرون قوله تعالى يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر

[الْآيَة التَّاسِعَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ] ِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [التوبة: 74]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 74]: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَوْلُ الْجُلَاسِ بْنِ سُوَيْد: إنْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ حَقًّا فَلَنَحْنُ شَرٌّ مِنْ الْحُمْرِ. ثُمَّ إنَّهُ حَلَفَ مَا قَالَ؛ قَالَهُ عُرْوَةُ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ إِسْحَاقَ. الثَّانِي: أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ حِينَ قَالَ: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون: 8]؛ قَالَهُ قَتَادَةُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ جَمَاعَةُ الْمُنَافِقِينَ قَالُوا ذَلِكَ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ. وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِعُمُومِ الْقَوْلِ، وَوُجُودِ الْمَعْنَى فِيهِ وَفِيهِمْ، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ اعْتِقَادُهُمْ وَقَوْلُهُمْ إنَّهُ لَيْسَ بِنَبِيٍّ. [مَسْأَلَة الْكُفْرَ يَكُونُ بِكُلِّ مَا يُنَاقِضُ التَّصْدِيقَ وَالْمَعْرِفَةَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ يَكُونُ بِكُلِّ مَا يُنَاقِضُ التَّصْدِيقَ وَالْمَعْرِفَةَ، وَإِنْ كَانَ الْإِيمَانُ لَا يَكُونُ إلَّا بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَذَلِكَ لِسَعَةِ الْحِلِّ وَضِيقِ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ كَالطَّلَاقِ يَقَعُ بِالنِّيَّةِ وَالْقَوْلِ، وَلَيْسَ يَقَعُ النِّكَاحُ إلَّا بِاللَّفْظِ الْمَخْصُوصِ مَعَ الْقَوْلِ بِهِ. [مَسْأَلَة الْكَافِرِ الَّذِي يُسِرُّ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُ الْإِيمَانَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ} [التوبة: 74]: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَوْبَةِ الْكَافِرِ الَّذِي يُسِرُّ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُ الْإِيمَانَ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ الزِّنْدِيقَ.

الآية الموفية ثلاثين قوله تعالى ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن

وَقَدْ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا تُقْبَلُ لَهُ تَوْبَةٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُقْبَلُ. وَلَيْسَتْ الْمَسْأَلَةُ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَقُولُ مَالِكٌ: إنَّ تَوْبَةَ الزِّنْدِيقِ لَا تُعْرَفُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ وَيُسِرُّ الْكُفْرَ، وَلَا يُعْلَمُ إيمَانُهُ إلَّا بِقَوْلِهِ. وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ الْآنَ، وَفِي كُلِّ حِينٍ، يَقُولُ: أَنَا مُؤْمِنٌ، وَهُوَ يُضْمِرُ خِلَافَ مَا يُظْهِرُ، فَإِذَا عَثَرْنَا عَلَيْهِ وَقَالَ: تُبْت لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ. وَقَبُولُ التَّوْبَةِ لَا يَكُونُ إلَّا لِتَوْبَةٍ تَتَغَيَّرُ فِيهَا الْحَالَةُ الْمَاضِيَةُ بِنَقِيضِهَا فِي الْآتِيَةِ. وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّهُ إذَا جَاءَ تَائِبًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يُعْثَرَ عَلَيْهِ قَبِلْنَا تَوْبَتَهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِعُمُومٍ، فَتَتَنَاوَلُ كُلَّ حَالَةٍ؛ وَإِنَّمَا تَقْتَضِي الْقَبُولَ الْمُطْلَقَةَ فَيَكْفِي فِي تَحْقِيقِ الْمَعْنَى لِلَّفْظِ وُجُودُهُ مِنْ جِهَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. [الْآيَة الْمُوفِيَة ثَلَاثِينَ قَوْله تَعَالَى وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ] َّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة: 75] {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة: 76] {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77]. فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ اُخْتُلِفَ فِي شَأْنِ نُزُولِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ مَوْلًى لِعُمَرَ قَتَلَ حَمِيمًا لِثَعْلَبَةَ، فَوَعَدَ إنْ وَصَلَ إلَى الدِّيَةِ أَنْ يُخْرِجَ حَقَّ اللَّهِ فِيهَا، فَلَمَّا وَصَلَتْ إلَيْهِ الدِّيَةُ لَمْ يَفْعَلْ. الثَّانِي: أَنَّ ثَعْلَبَةَ كَانَ لَهُ مَالٌ بِالشَّامِ فَنَذَرَ إنْ قَدِمَ مِنْ الشَّامِ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْهُ، فَلَمَّا قَدِمَ لَمْ يَفْعَلْ. الثَّالِثُ: وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ أَنَّ «ثَعْلَبَةَ بْنَ حَاطِبٍ الْأَنْصَارِيَّ الْمَذْكُورَ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِي مَالًا أَتَصَدَّقُ مِنْهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَيْحَك يَا ثَعْلَبَةُ، قَلِيلٌ

تُؤَدِّي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لَا تُطِيقُهُ. ثُمَّ عَاوَدَ ثَانِيَةً، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَمَّا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِثْلَ نَبِيِّ اللَّهِ، فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ شِئْت أَنْ تَصِيرَ مَعِي الْجِبَالُ ذَهَبًا وَفِضَّةً لَصَارَتْ. فَقَالَ: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَئِنْ دَعَوْت اللَّهَ فَرَزَقَنِي لَأُعْطِيَنَّ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. فَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاتَّخَذَ غَنَمًا فَنَمَتْ كَمَا يَنْمُو الدُّودُ، فَضَاقَتْ عَلَيْهِ الْمَدِينَةُ، فَتَنَحَّى عَنْهَا، وَنَزَلَ وَادِيًا مِنْ أَوْدِيَتِهَا، حَتَّى جَعَلَ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فِي جَمَاعَةٍ، وَيَتْرُكُ مَا سِوَاهُمَا، ثُمَّ نَمَتْ وَكَثُرَتْ حَتَّى تَرَكَ الصَّلَوَاتِ إلَّا الْجُمُعَةَ، وَهِيَ تَنْمُو حَتَّى تَرَكَ الْجُمُعَةَ، وَطَفِقَ يَلْقَى الرُّكْبَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَسْأَلُهُمْ عَنْ الْأَخْبَارِ، فَسَأَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ، فَأُخْبِرَ بِكَثْرَةِ غَنَمِهِ وَبِمَا صَارَ إلَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَنَزَلَتْ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]. وَنَزَلَتْ فَرَائِضُ الصَّدَقَةِ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلَيْنِ عَلَى الصَّدَقَةِ: رَجُلٌ مِنْ جُهَيْنَةَ، وَآخَرُ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَمُرَّا بِثَعْلَبَةَ وَبِرَجُلٍ آخَرَ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، يَأْخُذَانِ مِنْهُمَا صَدَقَاتِهِمَا، فَخَرَجَا حَتَّى أَتَيَا ثَعْلَبَةَ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ إلَّا جِزْيَةٌ، مَا هَذِهِ إلَّا أُخْتُ الْجِزْيَةِ، مَا أَدْرِي مَا هَذَا؟ انْطَلِقَا حَتَّى تَفْرُغَا وَعُودَا. وَسَمِعَ بِهِمَا السُّلَمِيُّ، فَعَمَدَ إلَى خِيَارِ إبِلِهِ، فَعَزَلَهَا لِلصَّدَقَةِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَهُمَا بِهَا، فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا: مَا يَجِبُ عَلَيْك هَذَا، وَمَا نُرِيدُ أَنْ نَأْخُذَ مِنْك هَذَا. قَالَ: بَلْ فَخُذُوهُ. فَإِنَّ نَفْسِي بِذَلِكَ طَيِّبَةٌ، فَأَخَذُوهَا مِنْهُ، فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ صَدَقَاتِهِمَا رَجَعَا حَتَّى مَرَّا بِثَعْلَبَةَ، فَقَالَ: أَرُونِي كِتَابَكُمَا وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ لَهُمَا كِتَابًا فِي حُدُودِ الصَّدَقَةِ، وَمَا يَأْخُذَانِ مِنْ النَّاسِ فَأَعْطَيَاهُ الْكِتَابَ، فَنَظَرَ إلَيْهِ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ إلَّا أُخْتُ الْجِزْيَةِ، فَانْطَلِقَا عَنِّي حَتَّى أَرَى رَأْيِي. فَأَتَيَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا رَآهُمَا قَالَ: يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمَا، وَدَعَا لِلسُّلَمِيِّ بِالْبَرَكَةِ، فَأَخْبَرَاهُ بِاَلَّذِي صَنَعَ ثَعْلَبَةُ، وَاَلَّذِي صَنَعَ السُّلَمِيُّ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 75] الْآيَةَ؛ وَعِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ مِنْ أَقَارِبِ ثَعْلَبَةَ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَاهُ، فَقَالَ: وَيْحَك يَا ثَعْلَبَةُ، قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيك كَذَا وَكَذَا فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَ أَنْ يَقْبَلَ صَدَقَتَهُ مِنْهُ، فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ مَنَعَنِي أَنْ

مسألة العهد والطلاق وكل حكم ينفرد به المرء ولا يفتقر في عقده إلى غيره

أَقْبَلَ مِنْك صَدَقَتَك فَقَامَ يَحْثُو التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَدْ أَمَرْتُك فَلَمْ تُطِعْنِي فَرَجَعَ ثَعْلَبَةُ إلَى مَنْزِلِهِ، وَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَقْبِضْ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ أَتَى إلَى أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يَقْبِضْ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ أَتَى إلَى عُثْمَانَ بَعْدَ عُمَرَ فَلَمْ يَقْبِضْ مِنْهُ شَيْئًا، وَتُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -». وَهَذَا الْحَدِيثُ مَشْهُورٌ. [مَسْأَلَة الْعَهْدَ وَالطَّلَاقَ وَكُلَّ حُكْمٍ يَنْفَرِدُ بِهِ الْمَرْءُ وَلَا يَفْتَقِرُ فِي عَقْدِهِ إلَى غَيْرِهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} [التوبة: 75]: قِيلَ: إنَّهُ عَاهَدَ بِقَلْبِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} [التوبة: 75] إلَى قَوْلِهِ: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة: 77] وَهَذَا اسْتِنْبَاطٌ ضَعِيفٌ، وَاسْتِدْلَالٌ عَلَيْهِ فَاسِدٌ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَاهَدَ اللَّهَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَعْتَقِدْ بِقَلْبِهِ الْعَهْدَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَاهَدَ اللَّهَ بِهِمَا جَمِيعًا، ثُمَّ أَدْرَكَتْهُ سُوءُ الْخَاتِمَةِ فَإِنَّ الْأَعْمَالَ بِخَوَاتِيمِهَا، وَالْأَيَّامَ بِعَوَاقِبِهَا. وَلَفْظُ الْيَمِينِ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، وَلَيْسَ فِي ظَاهِرِ الْقُرْآنِ يَمِينٌ إلَّا مُجَرَّدُ الِارْتِبَاطِ وَالِالْتِزَامِ، أَمَّا أَنَّهُ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ فِي الْمَعْنَى فَإِنَّ اللَّامَ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَتَى بِلَامَيْنِ: اللَّامُ الْوَاحِدَةُ الْأُولَى لَامُ الْقَسَمِ بِلَا كَلَامٍ، وَالثَّانِيَةُ لَامُ الْجَوَابِ، وَكِلَاهُمَا لِلتَّأْكِيدِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُمَا لَامَا الْقَسَمِ، وَلَيْسَ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ، وَكَيْفَمَا كَانَ الْأَمْرُ بِيَمِينٍ أَوْ بِالْتِزَامٍ مُجَرَّدٍ عَنْ الْيَمِينِ، أَوْ بِنِيَّةٍ، فَإِنَّهُ عَهْدٌ. وَكَذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّ الْعَهْدَ وَالطَّلَاقَ وَكُلَّ حُكْمٍ يَنْفَرِدُ بِهِ الْمَرْءُ وَلَا يَفْتَقِرُ فِي عَقْدِهِ إلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ مِنْهُ مَا يَلْتَزِمُهُ بِقَصْدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَلْزَمُ أَحَدًا حُكْمٌ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَلْفِظَ بِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ، وَقَدْ سُئِلَ: إذَا نَوَى رَجُلٌ الطَّلَاقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَلْفِظْ بِهِ بِلِسَانِهِ، يَلْزَمُهُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ فَقَالَ يَلْزَمُهُ، كَمَا يَكُونُ مُؤْمِنًا بِقَلْبِهِ، وَكَافِرًا بِقَلْبِهِ. وَهَذَا أَصْلٌ بَدِيعٌ، وَتَحْرِيرُهُ أَنْ يُقَالَ عَقْدٌ لَا يَفْتَقِرُ الْمَرْءُ فِيهِ إلَى غَيْرِهِ فِي الْتِزَامِهِ، فَانْعَقَدَ عَلَيْهِ بِنِيَّةٍ. أَصْلُهُ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ.

مسألة الوفاء بالنذر

وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْإِنْصَافِ أَحْسَنَ بَيَانٍ، فَلْيُنْظَرْ هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ أَشَرْنَا إلَى هَذَا الْغَرَضِ قَبْلَ هَذَا بِمِرْمَاةٍ مِنْ النَّظَرِ تُصِيبُهُ، وَهَذَا يُعَضِّدُهُ وَيُقَوِّيهِ. [مَسْأَلَة الْوَفَاءُ بِالنَّذْرِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إنْ كَانَ نَذْرًا فَالْوَفَاءُ بِالنَّذْرِ وَاجِبٌ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَتَرْكُهُ مَعْصِيَةٌ. وَإِنْ كَانَتْ يَمِينًا فَلَيْسَ الْوَفَاءُ بِالْيَمِينِ بِاتِّفَاقٍ، بَيْدِ أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ [إنْ كَانَ نَذَرَ الرَّجُلُ أَوْ] إنْ كَانَ فَقِيرًا لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فَرْضُ الزَّكَاةِ، فَسَأَلَ اللَّهَ مَالًا يَلْتَزِمُ فِيهِ مَا أَلْزَمَهُ مِنْ الصَّدَقَةِ، وَيُؤَدِّي مَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فِيهِ مِنْ الزَّكَاةِ، فَلَمَّا آتَاهُ اللَّهُ مَا سَأَلَ تَرَكَ مَا الْتَزَمَ مِمَّا كَانَ يَلْزَمُهُ فِي أَصْلِ الدِّينِ لَوْ لَمْ يَلْتَزِمْهُ، لَكِنَّ التَّعَاطِيَ بِطَلَبِ الْمَالِ لِأَدَاءِ الْحُقُوقِ هُوَ الَّذِي أَوْرَطَهُ، إذْ كَانَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ خَالِصَةٍ، أَوْ كَانَ بِنِيَّةٍ لَكِنْ سَبَقَتْ فِيهِ الْبِدَايَةُ الْمَكْتُوبُ عَلَيْهِ فِيهَا الشَّقَاوَةُ. [مَسْأَلَة عَاهَدَ اللَّهَ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إنْ كَانَ هَذَا الْمُعَاهِدُ عَارِفًا بِاَللَّهِ فَيَفْهَمُ وَجْهَ الْمُعَاهَدَةِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَارِفٍ بِاَللَّهِ فَكَيْفَ يَصِحُّ مُعَاهَدَةُ اللَّهِ مَعَ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ. قُلْنَا: إنْ كَانَ وَقْتَ الْمُعَاهَدَةِ عَارِفًا بِاَللَّهِ، ثُمَّ أَذْهَبَ الْمَعْرِفَةَ سُوءُ الْخَاتِمَةِ فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ كَانَ فِي وَقْتِ الْمُعَاهَدَةِ مُنَافِقًا يُظْهِرُ الْإِيمَانَ وَيُسِرُّ الْكُفْرَ فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْكُفَّارَ يَعْرِفُونَ اللَّهَ فَالْمُعَاهَدَةُ مَفْهُومَةٌ، وَإِنَّ قُلْنَا: لَا يَعْرِفُونَهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْمُعَاهَدَةِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا مُعَاقَدَةٌ بِعَزِيمَةٍ مُحَقَّقَةٍ بِذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنْ عَاهَدَ اللَّهَ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ فَإِنَّمَا ذَلِكَ إذَا ذَكَرَهُ فِي الْمُعَاقَدَةِ فَخَاصٌّ مِنْ خَوَاصِّ أَوْصَافِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ رَبُّهُ فَيَنْعَقِدُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَيَلْزَمُهُ حُكْمُهُ، وَيَنْفُذُ عَلَيْهِ عِقَابُهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الذِّكْرِ اللَّازِمِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى بَخِلُوا بِهِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى {بَخِلُوا بِهِ} [التوبة: 76]: اُخْتُلِفَ فِيهِ؛ فَقِيلَ: الْبُخْلُ مَنْعُ الْوَاجِبِ، وَالشُّحُّ مَنْعُ الْمُسْتَحَبِّ قَالَ تَعَالَى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 180] إلَى: الْقِيَامَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ} [الحشر: 9].

مسألة أربع من كن فيه كان منافقا خالصا

وَقِيلَ: هُمَا وَاحِدٌ. وَقَدْ سَبَقَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ فِي الْمُتَقَدِّمِ مِنْ الْقَوْلِ، وَمَا حَكَيْنَاهُ هَاهُنَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ الْأَحَادِيثُ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِيهَا، وَظَوَاهِرُ الْقُرْآنِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِيهَا. [مَسْأَلَة أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 77]: النِّفَاقُ فِي الْقَلْبِ هُوَ الْكُفْرُ، وَإِذَا كَانَ فِي الْأَعْمَالِ فَهُوَ مَعْصِيَةٌ، وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ وَالْأُصُولِ، وَفِيهِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إذَا ائْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ». رَوَتْهُ الصِّحَاحُ وَالْأَئِمَّةُ ، وَتَبَايَنَ النَّاسُ فِيهِ حَزْقًا، وَتَفَرَّقُوا فِرَقًا، بِسَبَبِ أَنَّ الْمَعَاصِيَ بِالْجَوَارِحِ لَا تَكُونُ كُفْرًا عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ، وَلَا فِي دَلِيلِ التَّحْقِيقِ. وَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَتْ فِيهِ هَذِهِ الْخِصَالُ صَحَّ نِفَاقُهُ وَخَلَصَ، وَإِذَا كَانَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةٌ كَانَتْ فِيهِ مِنْ النِّفَاقِ خَصْلَةٌ، وَخَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ نِفَاقٌ، وَعُقْدَةٌ مِنْ الْكُفْرِ كُفْرٌ، وَعَلَيْهِ يَشْهَدُ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَالَ فِيهِ مِنْ نَكْثِهِ لِعَهْدِهِ، وَغَدْرِهِ الْمُوجِبِ لَهُ حُكْمَ النِّفَاقِ؛ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ لِمَنْ يُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ يَعْلَمُ كَذِبَهُ، وَيَعْهَدُ بِعَهْدٍ لَا يَعْتَقِدُ الْوَفَاءَ بِهِ، وَيَنْتَظِرُ الْأَمَانَةَ لِلْخِيَانَةِ فِيهَا. وَتَعَلَّقُوا فِيمَا ذَهَبُوا إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ بِحَدِيثٍ خَرَّجَهُ الْبَزَّارُ عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: «دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مِنْ خِلَالِ الْمُنَافِقِينَ ثَلَاثٌ: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ. فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَقِيلَيْنِ، فَلَقِيَهُمَا عَلِيٌّ فَقَالَ لَهُمَا: مَالِي أَرَاكُمَا ثَقِيلَيْنِ؟ قَالَا: حَدِيثًا سَمِعْنَاهُ مِنْ رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مِنْ

خِلَالِ الْمُنَافِقِينَ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ. فَقَالَ عَلِيٌّ: أَفَلَا سَأَلْتُمَاهُ؟ فَقَالَا: هِبْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ: لَكِنِّي سَأَسْأَلُهُ. فَدَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَهُمَا ثَقِيلَانِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا قَالَا: فَقَالَ: قَدْ حَدَّثْتَهُمَا، وَلَمْ أَضَعْهُ عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَضَعُونَهُ، وَلَكِنَّ الْمُنَافِقَ إذَا حَدَّثَ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ أَنَّهُ يَكْذِبُ، وَإِذَا وَعَدَ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ أَنَّهُ يَخْلُفُ، وَإِذَا ائْتُمِنَ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ أَنَّهُ يَخُونُ». قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: هَذَا لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا ضَعْفُ سَنَدِهِ. وَالثَّانِي أَنَّ الدَّلِيلَ الْوَاضِحَ قَدْ قَامَ عَلَى أَنَّ مُتَعَمِّدَ هَذِهِ الْخِصَالِ لَا يَكُونُ كَافِرًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ كَافِرًا بِاعْتِقَادٍ يَعُودُ إلَى الْجَهْلِ بِاَللَّهِ وَصِفَاتِهِ أَوْ التَّكْذِيبِ لَهُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إنَّمَا ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالْمُنَافِقِينَ زَمَانَ رَسُولِ اللَّهِ. أَفَادَنِي أَبُو بَكْرٍ الْفِهْرِيُّ بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى: «أَنَّ مُقَاتِلَ بْنَ حَيَّانَ قَالَ خَرَجْت زَمَانَ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، فَلَمَّا كُنْت بِالرَّيِّ أُخْبِرْت أَنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ بِهَا مُخْتَفٍ مِنْ الْحَجَّاجِ، فَدَخَلْت عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ فِي نَاسٍ مِنْ أَهْلِ وُدِّهِ. قَالَ: فَجَلَسْت حَتَّى تَفَرَّقُوا. ثُمَّ قُلْت: إنَّ لِي وَاَللَّهِ مَسْأَلَةً قَدْ أَفْسَدَتْ عَلَيَّ عَيْشِي. فَفَزِعَ سَعِيدٌ، ثُمَّ قَالَ: هَاتِ. فَقُلْت: بَلَغَنَا أَنَّ الْحَسَنَ وَمَكْحُولًا وَهُمَا مَنْ قَدْ عَلِمْت فِي فَضْلِهِمَا وَفِقْهِهِمَا فِيمَا يَرْوِيَانِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ، وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ، وَزَعَمَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ. وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَ فِيهِ ثُلُثُ النِّفَاقِ. وَظَنَنْت أَنِّي لَا أَسْلَمُ مِنْهُنَّ أَوْ مِنْ بَعْضِهِنَّ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ. قَالَ: فَضَحِكَ سَعِيدٌ، وَقَالَ: هَمَّنِي وَاَللَّهِ مِنْ الْحَدِيثِ مِثْلُ الَّذِي أَهَمَّكَ. فَأَتَيْت ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ فَقَصَصْت عَلَيْهِمَا مَا قَصَصْتَ عَلَيَّ، فَضَحِكَا

وَقَالَا: هَمَّنَا وَاَللَّهِ مِنْ الْحَدِيثِ مِثْلُ الَّذِي أَهَمَّكَ. فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّك قَدْ قُلْت: ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ، وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ: مَنْ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ فَفِيهِ ثُلُثُ النِّفَاقِ، فَظَنَنَّا أَنَّا لَمْ نَسْلَمْ مِنْهُنَّ أَوْ مِنْ بَعْضِهِنَّ وَلَنْ يَسْلَمَ مِنْهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ. قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: مَا لَكُمْ وَلَهُنَّ؟ إنَّمَا خَصَصْت بِهِ الْمُنَافِقِينَ، كَمَا خَصَّهُمْ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ. أَمَّا قَوْلِي: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون: 1] لَا يَرَوْنَ نُبُوَّتَكَ فِي قُلُوبِهِمْ، أَفَأَنْتُمْ كَذَلِكَ؟ قَالَ: فَقُلْنَا: لَا. قَالَ: فَلَا عَلَيْكُمْ، أَنْتُمْ مِنْ ذَلِكَ بُرَآءُ. وَأَمَّا قَوْلِي: إذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، فَذَلِكَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 75] إلَى: يَكْذِبُونَ. أَفَأَنْتُمْ كَذَلِكَ؟ قَالَ: فَقُلْنَا: لَا، وَاَللَّهِ لَوْ عَاهَدْنَا اللَّهَ عَلَى شَيْءٍ لَوَفَّيْنَا بِعَهْدِهِ. قَالَ: فَلَا عَلَيْكُمْ، أَنْتُمْ مِنْ ذَلِكَ بُرَآءُ. وَأَمَّا قَوْلِي: إذَا ائْتُمِنَ خَانَ، فَذَلِكَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ} [الأحزاب: 72] إلَى: {جَهُولا} [الأحزاب: 72]. فَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُؤْتَمَنٌ عَلَى دِينِهِ، وَالْمُؤْمِنُ يَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَيَصُومُ وَيُصَلِّي فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَالْمُنَافِقُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا فِي الْعَلَانِيَةِ، أَفَأَنْتُمْ كَذَلِكَ؟ قُلْنَا: لَا. قَالَ: فَلَا عَلَيْكُمْ، أَنْتُمْ مِنْ ذَلِكَ بُرَآءُ. قَالَ: ثُمَّ خَرَجْت مِنْ عِنْدِهِ فَقَضَيْت مَنَاسِكِي، ثُمَّ مَرَرْت بِالْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، فَقُلْت لَهُ: حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْك. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قُلْت: مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ. قَالَ: فَحَدَّثَنِي بِالْحَدِيثِ. قَالَ: فَقُلْت: أَعْنَدَك فِيهِ شَيْءٌ غَيْرُ هَذَا؟ قَالَ: لَا. قُلْت: أَلَا أُحَدِّثُك حَدِيثًا حَدَّثَنِي بِهِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، فَحَدَّثْته بِهِ، فَتَعَجَّبَ مِنْهُ، وَقَالَ: إنْ لَقِينَا سَعِيدًا سَأَلْنَاهُ عَنْهُ، وَإِلَّا قَبِلْنَاك.»

قَالَ الْقَاضِي: هَذَا حَدِيثٌ مَجْهُولُ الْإِسْنَادِ، وَأَمَّا مَعْنَاهُ فَفِيهِ نَحْوٌ مِنْ الْأَوَّلِ، وَهُوَ تَخْصِيصُهُ مِنْ عُمُومِهِ، وَتَحْقِيقُهُ بِصِفَتِهِ، أَمَّا قَوْلُهُ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] الْآيَةَ، فَإِنَّهُ كَذِبٌ فِي الِاعْتِقَادِ، وَهُوَ كُفْرٌ مَحْضٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 75] فَهِيَ الْآيَةُ الَّتِي نَتَكَلَّمُ فِيهَا الْآنَ، وَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ يُمْكِنُ أَنْ يَصْحَبَهَا الِاعْتِقَادُ، بِخِلَافِ مَا عَاهَدَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْعَهْدِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِنِيَّةِ الْوَفَاءِ حِينَ الْعَهْدِ، وَطَرَأَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بَعْدَ تَحْصِيلِ الْمَالِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ} [الأحزاب: 72]. وَقَوْلُهُ فِيهِ: إنَّ الْمُؤْمِنَ يُصَلِّي فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَيَغْتَسِلُ وَيَصُومُ كَذَلِكَ، فَقَدْ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ وَالْغُسْلَ تَكَاسُلًا إذَا أَسَرَّ، وَيَفْعَلُهَا رِيَاءً إذَا جَهَرَ وَلَا يُكَذِّبُ بِهِمَا، وَكَذَلِكَ فِي الصَّوْمِ مِثْلُهُ، وَلَا يَكُونُ مُنَافِقًا بِذَلِكَ، لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّ الْمُنَافِقَ مَنْ أَسَرَّ الْكُفْرَ، وَالْعَاصِي مَنْ آثَرَ الرَّاحَةَ، وَتَثَاقَلَ فِي الْعِبَادَةِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هَذَا فِيمَنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْخِصَالَ. وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ لَوْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الْمَعَاصِي مَا كَانَ بِهَا كَافِرًا مَا لَمْ تُؤَثِّرْ فِي الِاعْتِقَادِ. وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ رَوَى عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ النِّفَاقَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَّا الْيَوْمَ فَإِنَّمَا هُوَ الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ أَحَدًا لَا يُعْلَمُ مِنْهُ هَذَا، كَمَا كَانَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْلَمُهُ مِنْهُ النَّبِيُّ، وَإِنَّمَا هُوَ الْقَتْلُ دُونَ تَأْخِيرٍ، فَإِنْ ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْ أَحَدٍ فِي زَمَانِنَا فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: «مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ، وَأَيُّمَا عَبْدٍ أَبَقَ مِنْ مَوَالِيهِ فَقَدْ كَفَرَ». وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: إنَّ أُخُوَّةَ يُوسُفَ عَاهَدُوا أَبَاهُمْ فَأَخْلَفُوهُ، وَحَدَّثُوهُ فَكَذَّبُوهُ، وَائْتَمَنَهُمْ عَلَيْهِ فَخَانُوهُ، وَمَا كَانُوا مُنَافِقِينَ.

مسألة رؤية الله في الآخرة

وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ. تَحْقِيقُهُ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيَّ عَالِمٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ قَالَ: النِّفَاقُ نِفَاقَانِ: نِفَاقُ الْكَذِبِ، وَنِفَاقُ الْعَمَلِ، فَأَمَّا نِفَاقُ الْكَذِبِ فَكَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَّا نِفَاقُ الْعَمَلِ فَلَا يَنْقَطِعُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. [مَسْأَلَة رُؤْيَةِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى {إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة: 77]: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى النِّفَاقِ. عَبَّرَ عَنْهُ بِجَزَائِهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَ جَزَاءَهُ. وَعَلَى ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ أُنَبِّئُكُمْ أَنِّي كُنْت بِمَجْلِسِ الْوَزِيرِ الْعَادِلِ أَبِي مَنْصُورِ بْنِ حُمَيْرٍ عَلَى رُتْبَةِ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ " تَرْتِيبِ الرِّحْلَةِ لِلتَّرْغِيبِ فِي الْمِلَّةِ "، فَقَرَأَ الْقَارِئُ: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب: 44] وَكُنْت فِي الصَّفِّ الثَّانِي مِنْ الْحَلْقَةِ، فَظَهَرَ أَبُو الْوَفَاءِ عَلِيُّ بْنُ عَقِيلٍ إمَامُ الْحَنْبَلِيَّةِ بِهَا، وَكَانَ مُعْتَزِلِيَّ الْأُصُولِ، فَلَمَّا سَمِعْت الْآيَةَ قُلْت لِصَاحِبٍ لِي كَانَ يَجْلِسُ عَلَى يَسَارِي: هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى رُؤْيَةِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ لَا تَقُولُ: " لَقِيت فُلَانًا " إلَّا إذَا رَأَتْهُ. فَصَرَفَ وَجْهَهُ أَبُو الْوَفَاءِ الْمَذْكُورُ إلَيْنَا مُسْرِعًا، وَقَالَ: تَنْتَصِرُ لِمَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ فِي أَنَّ [اللَّهَ] لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ، فَقَدْ قَالَ: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة: 77]. وَعِنْدَك أَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَرَوْنَ اللَّهَ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ شَرَحْنَا وَجْهَ الْآيَتَيْنِ فِي الْمُشْكِلَيْنِ، وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَأَعْقَبَهُمْ هُوَ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ، فَيَحْتَمِلُ عَوْدُ ضَمِيرِ " يَلْقَوْنَهُ " إلَى ضَمِيرِ الْفَاعِلِ فِي أَعْقَبَهُمْ الْمُقَدَّرُ بِقَوْلِنَا هُوَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ إلَى النِّفَاقِ مَجَازًا عَلَى تَقْدِيرِ الْجَزَاءِ كَمَا بَيَّنَّاهُ. . [مَسْأَلَة مُخَالَفَةِ الْعَهْدِ وَنَكْثِ الْعَهْدِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْله تَعَالَى {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77]: يُرِيدُ بِهِ تَحْرِيمَ مُخَالَفَةِ الْعَهْدِ وَنَكْثِ الْعَهْدِ كَيْفَمَا تَصَرَّفَتْ حَالُهُ.

مسألة قال إن ملكت كذا فهو صدقة أو علي صدقة

رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: لَمَّا خَلَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ حَشَمَهُ وَوَلَدَهُ، فَقَالَ: إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعَةِ اللَّهِ وَبَيْعَةِ رَسُولِهِ؛ وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ غَدْرًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُبَايِعَ رَجُلٌ عَلَى بَيْعَةِ اللَّهِ وَبَيْعَةِ رَسُولِهِ، ثُمَّ يُنْصَبُ لَهُ الْقِتَالُ، وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلَعَهُ، وَلَا بَايَعَ فِي هَذَا الْأَمْرِ إلَّا كَانَتْ الْفَيْصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ. وَقَالَ ابْنُ خَيَّاطٍ: إنَّ بَيْعَةَ عَبْدِ اللَّهِ لِيَزِيدَ كَانَتْ كُرْهًا، وَأَيْنَ يَزِيدُ مِنْ ابْنِ عُمَرَ، وَلَكِنْ رَأَى بِدِينِهِ وَعِلْمِهِ التَّسْلِيمَ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالْفِرَارَ عَنْ التَّعَرُّضِ لِفِتْنَةٍ فِيهَا مِنْ ذَهَابِ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ مَا لَا يَفِي بِخَلْعِ يَزِيدَ. وَلَوْ تَحَقَّقَ أَنَّ الْأَمْرَ يَعُودُ بَعْدَهُ فِي نِصَابِهِ، فَكَيْفَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ؟ وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فَتَفَهَّمُوهُ وَالْتَزِمُوهُ تَرْشُدُوا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَة قَالَ إنْ مَلَكْت كَذَا فَهُوَ صَدَقَةٌ أَوْ عَلَيَّ صَدَقَةٌ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى {لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [التوبة: 75]: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَنْ قَالَ: إنْ مَلَكْت كَذَا فَهُوَ صَدَقَةٌ، أَوْ عَلَيَّ صَدَقَةٌ، إنَّهُ يَلْزَمُهُ؛ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، وَالْخِلَافُ فِي الطَّلَاقِ مِثْلُهُ، وَكَذَلِكَ فِي الْعِتْقِ، إلَّا أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: إنَّهُ يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي الْعِتْقِ، وَلَا يَلْزَمُ فِي الطَّلَاقِ. وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَتَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ، وَلَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ». وَسَرَدَ أَصْحَابُهُ فِي هَذَا الْبَابِ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً لَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ مِنْهَا، فَلَا مُعَوِّلَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَبْقَ إلَّا ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْمَعَانِي مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَنَا. وَقَدْ حَقَّقْنَا الْمَسْأَلَةَ بِطُرُقِهَا فِي كِتَابِ التَّخْلِيصِ. وَأَمَّا أَحْمَدُ فَزَعَمَ أَنَّ الْعِتْقَ قُرْبَةٌ، وَهِيَ تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ بِالنَّذْرِ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مَحَلِّهِ، وَهُوَ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ.

مسألة صحة الإيمان شرط لقبول الصدقة والصلاة وسائر الأعمال

وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنْ كَانَ الطَّلَاقُ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ فَإِنَّ الْقَوْلَ يَنْعَقِدُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ إذَا صَادَفَ مَحَلًّا، وَرَبَطَهُ بِمِلْكٍ، كَمَا لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَتِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّ الْقَوْلَ يَنْعَقِدُ وَيَصِحُّ وَيَلْزَمُ، وَإِذَا دَخَلَتْ الدَّارَ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِالْقَوْلِ السَّابِقِ لَهُ، اللَّازِمُ الْمُنْعَقِدُ، الْمُضَافُ إلَى مَحَلٍّ صَحِيحٍ تَصِحُّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَيْهِ، وَهِيَ الزَّوْجَةُ؛ فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لَهَا: إذَا تَزَوَّجْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِذَا مَلَكْت هَذَا الْعَبْدَ فَهُوَ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ التَّصَرُّفَ إلَى مَحَلِّهِ فِي وَقْتٍ يَصِحُّ وُقُوعُهُ فِيهِ؛ فَيَلْزَمُهُ كَمَا لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إذَا دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إذَا دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ. [مَسْأَلَة صِحَّةَ الْإِيمَانِ شَرْطٌ لِقَبُولِ الصَّدَقَةِ وَالصَّلَاةِ وَسَائِرِ الْأَعْمَالِ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة: 77]: حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ، وَصَرَّحَ بِنِفَاقِهِمْ وَكُفْرِهِمْ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ صَدَقَاتُهُمْ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِيمَانِ شَرْطٌ لِقَبُولِ الصَّدَقَةِ وَالصَّلَاةِ وَسَائِرِ الْأَعْمَالِ؛ وَلِذَلِكَ لَمْ يَقْبَلْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ وَلَا عُثْمَانُ؛ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعِلْمِهِ بِسَرِيرَتِهِ، وَاطِّلَاعِهِ عَلَى بُنَيَّاتِ صَدْرِهِ. [الْآيَة الْحَادِيَة وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا] الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: سَبَبُ نُزُولِهَا: ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ وَالْمُصَنَّفَاتِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ قَالَ: «سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ دُعِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِ يُرِيدُ الصَّلَاةَ تَحَوَّلْتُ حَتَّى قُمْتُ فِي صَدْرِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَعَلَى عَدُوِّ اللَّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ الْقَائِلِ كَذَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا يُعَدِّدُ عَلَيْهِ آثَامَهُ قَالَ: وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَبَسَّمُ، حَتَّى إذَا أَكْثَرْت عَلَيْهِ قَالَ: أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ، إنِّي خُيِّرْت فَاخْتَرْت، قَدْ قِيلَ لِي: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80]. لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي لَوْ زِدْت عَلَى السَّبْعِينَ غُفِرَ لَهُ لَزِدْت.

مسألة معنى قوله تعالى استغفر لهم أو لا تستغفر لهم

قَالَ: ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ، وَمَشَى مَعَهُ، فَقَامَ عَلَى قَبْرِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْهُ قَالَ: فَعَجِبْت لِي وَلِجَرَاءَتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: فَوَاَللَّهِ مَا كَانَ إلَّا يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ} [التوبة: 84] إلَى آخَرِ الْآيَتَيْنِ. قَالَ: فَمَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدُ عَلَى مُنَافِقٍ، وَلَا قَامَ عَلَى قَبْرِهِ، حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ». وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ مَاتَ أَبُوهُ، فَقَالَ: أَعْطِنِي قَمِيصَك أُكَفِّنْهُ فِيهِ، وَصَلِّ عَلَيْهِ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُ. فَأَعْطَاهُ قَمِيصَهُ، وَقَالَ: إذَا فَرَغْتُمْ فَآذِنُونِي فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ جَذَبَهُ عُمَرُ، وَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ نَهَى اللَّهُ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ؟ فَقَالَ: أَنَا بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ. فَصَلَّى عَلَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] فَتَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ». [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قَوْلِهِ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] هَلْ هُوَ إيَاسٌ أَوْ تَخْيِيرٌ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ إيَاسٌ بِدَلِيلِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَالَ: {فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80]. الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ مُبَالَغَةً، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: لَوْ سَأَلْتنِي مِائَةَ مَرَّةٍ مَا أَجَبْتُك.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 80] وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ بَعْدَ الزِّيَادَةِ عَلَى السَّبْعِينَ، وَحَيْثُ تُوجَدُ الْعِلَّةُ يُوجَدُ الْحُكْمُ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ تَخْيِيرٌ مِنْ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ: «إنِّي خُيِّرْت فَاخْتَرْت؛ قَدْ قِيلَ لِي: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إنَّ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ، لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي لَوْ زِدْت عَلَى السَّبْعِينَ غُفِرَ لَهُ لَزِدْت». وَهَذَا أَقْوَى؛ لِأَنَّ هَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ صَحِيحٌ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّخْيِيرِ، وَتِلْكَ اسْتِنْبَاطَاتٌ، وَالنَّصُّ الصَّرِيحُ أَقْوَى مِنْ الِاسْتِنْبَاطِ. فَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ قَالَ: {فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] فَهَذَا فِي السَّبْعِينَ، وَلَيْسَ مَا وَرَاءَ السَّبْعِينَ كَالسَّبْعِينَ، لَا مِنْ دَلِيلِ الْخِطَابِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ؛ أَمَّا مِنْ دَلِيلِ الْخِطَابِ فَإِنَّ دَلِيلَ الْخِطَابِ لَا يَكُونُ فِي الْأَسْمَاءِ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي الصِّفَاتِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَرَدَدْنَاهُ عَلَى الدَّقَّاقِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الَّذِي يَجْعَلُهُ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَهُوَ خَطَأٌ صِرَاحٌ وَأَمَّا مِنْ غَيْرِ دَلِيلِ الْخِطَابِ فَظَاهِرٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا عُلِّقَ عَلَى اسْمٍ عَلَمٍ بَقِيَ غَيْرُهُ خَالِيًا عَنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ، فَيُطْلَبُ الْحُكْمُ فِيهِ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهَا مُبَالَغَةٌ فَدَعْوَى. وَلَعَلَّهُ تَقْدِيرٌ لِمَعْنَى، حَتَّى لَقَدْ قَالَ [فِي] ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّ التَّعْدِيلَ فِي الْخَمْسَةِ؛ لِأَنَّهَا نِصْفُ الْعَقْدِ، وَزِيَادَةُ الْوَاحِدَةِ أَدْنَى الْمُبَالَغَةِ، وَزِيَادَةُ الِاثْنَيْنِ لِأَقْصَى الْمُبَالَغَةِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْأَسَدُ سَبْعًا، عِبَارَةٌ عَنْ غَايَةِ الْقُوَّةِ، وَفِي الْأَمْثَالِ: أَخَذَهُ أَخْذَةَ سَبْعَةٍ أَيْ: غَايَةَ الْأَخْذِ، عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ، وَهَذَا تَحَكُّمٌ؛ إذْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَقُولَ: إنَّ الِاثْنَيْنِ أَوْسَطُ الْمُبَالَغَةِ، وَالثَّلَاثَةُ نِهَايَتُهَا، وَذَلِكَ فِي الثَّمَانِيَةِ، وَمِنْهُ يُقَالُ فِي الْمَثَلِ لِمَنْ بَالَغَ فِي عِوَضِ السِّلْعَةِ: أَثَمَنْتَ. أَيْ: بَلَغْتَ الْغَايَةَ فِي الثَّمَنِ، وَهَذِهِ التَّحَكُّمَاتُ لَا قُوَّةَ فِيهَا، وَالِاشْتِقَاقَاتُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا؛ وَإِنَّمَا هِيَ مُلِحَّةٌ، فَإِذَا عَضَّدَهَا الدَّلِيلُ كَانَتْ صَحِيحَةً. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ عَلَّلَهُ بِالْكُفْرِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ بَعْدَ السَّبْعِينَ، وَالْكَافِرُ لَا يُغْفَرُ لَهُ. قُلْنَا: أَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ بَعْدَ السَّبْعِينَ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا الْحُكْمُ مِنْ عَدَمِ

مسألة إعطاء قميص النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي المنافق ليكفن فيه

الْمَغْفِرَةِ إنَّمَا كَانَ مُعَلَّقًا بِالسَّبْعِينَ، وَالزِّيَادَةُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ بِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَإِنَّمَا عُلِمَ عَدَمُ الْمَغْفِرَةِ فِي الْكَافِرِ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَرَدَ مِنْ طُرُقٍ، مِنْهَا قَوْلُهُ: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} [المنافقون: 6] الْآيَةَ. [مَسْأَلَة إعْطَاءِ قَمِيص النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّه بْن أَبِي الْمُنَافِق لِيَكْفِنِ فِيهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي إعْطَاءِ الْقَمِيصِ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: رُوِيَ «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ إذْ طَلَبَ الْقَمِيصَ كَانَ عَلَى النَّبِيِّ قَمِيصَانِ قَالَ: أَعْطِهِ الَّذِي يَلِي جِلْدَك». وَقَالُوا: «إنَّهُ إنَّمَا أَعْطَاهُ قَمِيصَهُ مُكَافَأَةً عَلَى إعْطَائِهِ قَمِيصَهُ يَوْمَ بَدْرٍ لِلْعَبَّاسِ، فَإِنَّهُ لَمَا أُسِرَ وَاسْتُلِبَ ثَوْبُهُ رَآهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَلِكَ، فَأَشْفَقَ، وَطَلَبَ لَهُ قَمِيصًا، فَمَا وَجَدَ لَهُ فِي الْجُمْلَةِ قَمِيصًا يُقَادِرُهُ إلَّا قَمِيصَ عَبْدِ اللَّهِ، لِتَقَارُبِهِمَا فِي طُولِ الْقَامَةِ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِعْطَائِهِ الْقَمِيصَ أَنْ تَرْتَفِعَ الْيَدُ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى لَا يَلْقَاهُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَهُ عِنْدَهُ يَدٌ يُكَافِئُهُ بِهَا». [مَسْأَلَة الصَّلَاة عَلَى الْكُفَّارِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ} [التوبة: 84] الْآيَةَ: نَصٌّ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْكُفَّارِ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ وَهَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَقَالَ: إنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْجِنَازَةِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] فَنَهَى اللَّهُ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْكُفَّارِ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذِهِ غَفْلَةٌ عَظِيمَةٌ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ أَضْدَادِهِ كُلِّهَا عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ لَفْظًا، وَبِاتِّفَاقِهِمْ مَعْنًى. فَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ فَقَدْ اتَّفَقُوا فِي الْوَجْهَيْنِ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى، وَلَيْسَتْ الصَّلَاةُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ضِدًّا مَخْصُوصًا لِلصَّلَاةِ عَلَى الْكَافِرِينَ؛ بَلْ كُلُّ طَاعَةٍ ضِدٌّ لَهَا، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَخْصِيصُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ دُونَ سَائِرِ الْأَضْدَادِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: صَلَاةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ابْنِ أَبِي اُخْتُلِفَ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ خُيِّرَ فَاخْتَارَ. الثَّانِي: مَا رُوِيَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ مُرَاعَاةً لِوَلَدِهِ، وَعَوْنًا لَهُ عَلَى صِحَّةِ إيمَانِهِ، إينَاسًا لَهُ

الآية الثانية والثلاثون قوله تعالى ليس على الضعفاء ولا على المرضى

وَتَأْلِيفًا لِقَوْمِهِ؛ فَقَدْ رُوِيَ «أَنَّهُ لَمَا صَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْلَمَ مِنْ الْخَزْرَجِ أَلْفُ رَجُلٍ». الثَّالِثُ: مَا رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ، فَقَالَ: قَدْ كُنْت أَسْمَعُ قَوْلَك، فَامْنُنْ عَلَيَّ الْيَوْمَ، وَكَفِّنِّي بِقَمِيصِك، وَصَلِّ عَلَيَّ. فَكَفَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ بِقَمِيصِهِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ صَلَاةٍ هِيَ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُخَادِعْ إنْسَانًا قَطُّ. قَالَ عِكْرِمَةُ: غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ كَلِمَةً حَسَنَةً قَالَ الْمُشْرِكُونَ: إنَّا مَنَعْنَا مُحَمَّدًا أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ، وَإِنَّا نَأْذَنُ لَك. فَقَالَ: لَا، لِي فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.» قَالَ الْقَاضِي: وَاتِّبَاعُ الْقُرْآنِ أَوْلَى فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ} [التوبة: 84] الْآيَةَ. فَأَخْبَرَ عَنْهُ بِالْكُفْرِ وَالْمَوْتِ عَلَى الْفِسْقِ. وَهَذَا عُمُومٌ فِي الَّذِي نَزَلَتْ الْآيَةُ بِسَبَبِهِ، وَفِي كُلِّ مُنَافِقٍ مِثْلِهِ. [الْآيَة الثَّانِيَة وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى] وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 91] {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92]. فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: نَزَلَتْ فِي الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ. الثَّانِي: نَزَلَتْ فِي بَنِي مُقَرِّنٍ مِنْ مُزَيْنَةَ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. الثَّالِثُ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَزْرَقِ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى. الرَّابِعُ: نَزَلَتْ فِي سَبْعَةٍ مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى؛ قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ.

مسألة الخروج لغزوة تبوك

الْخَامِسُ: فِي أَبِي مُوسَى، وَأَصْحَابِهِ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ. وَهُوَ الصَّحِيحُ. ثَبَتَ أَنَّ «أَبَا مُوسَى قَالَ: أَتَيْنَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَفَرٍ مِنْ الْأَشْعَرِيِّينَ، فَاسْتَحْمَلْنَاهُ، فَأَبَى أَنْ يَحْمِلَنَا، فَاسْتَحْمَلْنَاهُ فَحَلَفَ أَلَّا يَحْمِلَنَا، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ النَّبِيُّ أَنْ أَتَى بِنَهْبِ إبِلٍ، فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسِ ذَوْدٍ، فَلَمَّا قَبَضْنَاهَا قُلْنَا: تَغَفَّلْنَا النَّبِيَّ يَمِينَهُ، لَا نُفْلِحُ بَعْدَهَا أَبَدًا، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنَّكَ حَلَفْت أَلَّا تَحْمِلَنَا، وَقَدْ حَمَّلْتَنَا. قَالَ: أَجَلْ، وَلَكِنِّي لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا». [مَسْأَلَة الْخُرُوجِ لِغَزْوَةِ تَبُوكَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْمَعْنَى: إنَّ اللَّهَ لَمَا اسْتَنْفَرَهُمْ لِغَزْوِ الرُّومِ، وَدَعَاهُمْ إلَى الْخُرُوجِ لِغَزْوَةِ تَبُوكَ بَادَرَ الْمُخْلِصُونَ، وَتَوَقَّفَ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُتَثَاقِلُونَ، وَجَعَلُوا يَسْتَأْذِنُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّخَلُّفِ، وَيَعْتَذِرُونَ إلَيْهِ بِأَعْذَارٍ مِنْهَا كُفْرٌ، كَقَوْلِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ: ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي بِبَنَاتِ بَنِي الْأَصْفَرِ؛ فَإِنِّي لَا أَقْدِرُ عَلَى الصَّبْرِ عَنْهُنَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49]. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: {لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ} [التوبة: 81]. وَقَالَ فِي أَهْلِ الْعُذْرِ الصَّحِيحِ: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى} [التوبة: 91] إلَى: {مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91]. وَهُمْ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي حَالِهِمْ، وَكَشَفُوا عَنْ عُذْرِهِمْ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الَّتِي بَيَّنَ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} [التوبة: 90]. فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ النَّاسَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: صِنْفٌ مُعَذَّرٌ، وَهُوَ الْمُقَصِّرُ. وَصِنْفٌ ذُو عُذْرٍ. وَصِنْفٌ لَمْ يَعْتَذِرْ بِعُذْرِهِ، وَلَا أَظْهَرَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ، بَلْ أَعْرَضَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، يُقَالُ: عُذِّرَ الرَّجُلُ بِتَشْدِيدِ الذَّالِ: إذَا قَصَّرَ، وَأَعْذَرَ إذَا أَبَانَ عَنْ عُذْرِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَدْخُلُ عَلَى صَاحِبِهِ. وَقَدْ قُرِئَ الْمُعْذِرُونَ بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ، وَتَخْفِيفِ

مسألة معنى قوله تعالى ما على المحسنين من سبيل

الذَّالِ، وَبِذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ النَّاسِ؛ لَكِنْ يَكْشِفُ الْمَعْنَى فِيهِ حَقِيقَةُ الْحَالِ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] وَهُمْ الَّذِينَ أَبْدَوْا عَنْ عُذْرٍ صَحِيحٍ، أَوْ عَلِمَ اللَّهُ صِدْقَ عُذْرِهِمْ فِيمَا لَمْ يَبْدُ عَلَيْهِمْ دَلِيلٌ مِنْ حَالِهِمْ. وَالْعَجَبُ مِنْ الْقَاضِي أَبِي إِسْحَاقَ يَقُولُ: إنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ الَّذِينَ لَا عُذْرَ لَهُمْ: وَأَنَّهُمْ مَذْمُومُونَ؛ لِأَنَّهُمْ جَاءُوا لِيُؤْذَنَ لَهُمْ، وَلَوْ كَانُوا مِنْ الضُّعَفَاءِ أَوْ الْمَرْضَى لَمْ يَحْتَاجُوا أَنْ يَسْتَأْذِنُوا؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ بَلْ كُلُّ أَحَدٍ يَسْتَأْذِنُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُعْلِمُهُ بِحَالِهِ، فَإِنْ كَانَ مَرْئِيًّا فَالْعِيَانُ شَاهِدٌ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَرْئِيٍّ مِثْلَ عَجْزِ الْبَدَنِ وَقِلَّةِ الْمَالِ، فَاَللَّهُ شَهِيدٌ بِهِ، وَهُوَ أَعْدَلُ الشَّاهِدِينَ، يُلْقِي الْيَقِينَ عَلَى رَسُولِهِ بِصِدْقِ عُذْرِ الْمُعْتَذِرِينَ إلَيْهِ، وَيَخْلُقُ لَهُ الْقَبُولَ فِي قَلْبِهِ لَهُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91]: يُرِيدُ مِنْ طَرِيقٍ إلَى الْعُقُوبَةِ عَلَى فِعْلِهِ؛ لِأَنَّهُ إحْسَانٌ فِي نَفْسِهِ، وَالْحَسَنُ مَا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ الشَّرْعُ، وَالْقَبِيحُ مَا نَهَى عَنْهُ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ هَاهُنَا وَفِي كُتُبِ الْأُصُولِ. [مَسْأَلَة يَقْتَصُّ مِنْ قَاطِعِ يَدِهِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: هَذَا عُمُومٌ مُمَهَّدٌ فِي الشَّرِيعَةِ، أَصْلٌ فِي رَفْعِ الْعِقَابِ وَالْعِتَابِ عَنْ كُلِّ مُحْسِنٍ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي الَّذِي يَقْتَصُّ مِنْ قَاطِعِ يَدِهِ فَيُفْضِي ذَلِكَ بِالسِّرَايَةِ إلَى إتْلَافِ نَفْسِهِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ الدِّيَةُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا دِيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُحْسِنٌ فِي اقْتِصَاصِهِ مِنْ الْمُعْتَدِي عَلَيْهِ، فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ. وَكَذَلِكَ إذَا صَالَ فَحَلَّ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ فِي دَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ لِمَالِكِهِ قِيمَتُهُ، وَكَذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الشَّرِيعَةِ كُلِّهَا. وَقَدْ أَوْمَأْنَا إلَى ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَقَرَّرْنَا هَذَا الْأَصْلَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ. [مَسْأَلَة عذر الْمُعْتَذِر بِالْحَاجَةِ وَالْفَقْرِ عَنْ التَّخَلُّفِ فِي الْجِهَادِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة: 92]: أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى قَبُولِ عُذْرِ الْمُعْتَذِرِ بِالْحَاجَةِ وَالْفَقْرِ عَنْ التَّخَلُّفِ فِي الْجِهَادِ إذَا ظَهَرَ مِنْ حَالِهِ صِدْقُ الرَّغْبَةِ، مَعَ دَعْوَى الْمُعْجِزَةِ، كَإِفَاضَةِ الْعَيْنِ، وَتَغْيِيرِ الْهَيْئَةِ؛ لِقَوْلِهِ:

الآية الثالثة والثلاثون قوله تعالى يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم

{تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ} [التوبة: 92] الْآيَةَ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْفَقِيرَ الْخُرُوجُ فِي الْغَزْوِ وَالْجِهَادِ تَعْوِيلًا عَلَى النَّفَقَةِ مِنْ الْمَسْأَلَةِ، حَاشَا مَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا دُونَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ: إنَّ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ عَادَةً لَزِمَهُ ذَلِكَ، وَخَرَجَ عَلَى الْعَادَةِ؛ وَهُوَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ يَتَوَجَّهُ الْفَرْضُ عَلَيْهِ تَوَجُّهَهُ عَلَيْهِ، وَلَزِمَهُ أَدَاؤُهُ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: مِنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ مَا يُفِيدُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ، وَمِنْهَا مَا يَحْتَمِلُ التَّرْدِيدَ؛ فَالْأَوَّلُ كَمَنْ يَمُرُّ عَلَى دَارٍ قَدْ عَلَا فِيهَا النَّعْيُ، وَخُمِشَتْ فِيهَا الْخُدُود، وَحُلِقَتْ الشُّعُورُ، وَسَلَقَتْ الْأَصْوَاتُ، وَخُرِقَتْ الْجُيُوبُ، وَنَادَوْا عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ بِالثُّبُورِ، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ. وَأَمَّا الثَّانِي فَكَدُمُوعِ الْأَيْتَامِ عَلَى أَبْوَابِ الْحُكَّامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إخْوَةِ يُوسُفَ: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} [يوسف: 16] وَهُمْ الْكَاذِبُونَ، وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهَا قَرَائِنُ يُسْتَدَلُّ بِهَا فِي الْغَالِبِ، وَتَنْبَنِي عَلَيْهَا الشَّهَادَةُ فِي الْوَقْتِ وَغَيْرِهِ بِنَاءً عَلَى ظَوَاهِرِ الْأَحْوَالِ وَغَالِبِهَا. [الْآيَة الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى يَعْتَذِرُونَ إلَيْكُمْ إذَا رَجَعْتُمْ إلَيْهِمْ] ْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 94]. فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ هَاهُنَا، وَنَزَلَتْ بَعْدَ ذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ هَذَا بِآيَاتٍ، فَأَمَّا هَذِهِ الَّتِي أَعْقَبَتْ ذِكْرَ الْمُنَافِقِينَ فَمَعْنَاهَا التَّهْدِيدُ، وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي نَزَلَتْ بَعْدَ هَذَا فَمَعْنَاهَا الْأَمْرُ، وَتَقْدِيرُهَا: اعْمَلُوا بِمَا يُرْضِي اللَّهَ، وَذَلِكَ أَنَّ النِّفَاقَ مَوْضِعُ

مسألة معنى قوله تعالى وسيرى الله عملكم ورسوله

تَرْهِيبٍ، وَالْإِيمَانُ مَحَلُّ تَرْغِيبٍ، فَقُوبِلَ أَهْلُ كُلِّ مَحَلٍّ مِنْ الْخِطَابِ بِمَا يَلِيقُ بِهِ، كَمَا قِيلَ لِلْكُفَّارِ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، عَلَى مَعْنَى التَّهْدِيدِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 94]: الْبَارِي رَاءٍ مَرْئِيٌّ، يَرَى الْخَلْقَ، وَيَرَوْنَهُ، فَأَمَّا رُؤْيَتَهُمْ لَهُ فَفِي مَحَلٍّ مَخْصُوصٍ، وَمِنْ قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ، وَأَمَّا رُؤْيَتُهُ لِلْخَلْقِ فَدَائِمَةٌ، فَهُوَ تَعَالَى يَعْلَمُ وَيَرَى. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ: إنَّهُ يَعْلَمُ وَلَا يَرَى، وَمَتَى أُخْبِرَ عَنْهُ بِالرُّؤْيَةِ فَإِنَّهَا رَاجِعَةٌ إلَى الْعِلْمِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ عَلَى أَنَّهُ رَاءٍ بِرُؤْيَةٍ، كَمَا أَنَّهُ عَالِمٌ بِعِلْمٍ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِذَلِكَ، وَخَبَرُهُ صَادِقٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ رَائِيًا لَكَانَ مَئُوفًا؛ لِأَنَّ الْحَيَّ إذَا لَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا كَانَ مَئُوفًا، وَهُوَ الْمُتَقَدِّسُ عَنْ الْآفَاتِ وَالنَّقَائِصِ، وَهَذِهِ الْعُمْدَةُ الْعَقْلِيَّةُ لِعُلَمَائِنَا؛ فَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا يَجِبُ لَهُ مِنْ صِفَتِهِ، وَقَامَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ نَعْتِهِ، فَلَزِمَنَا اعْتِقَادُهُ وَالْإِخْبَارُ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} [التوبة: 94]: ذَكَرَهُ بِصِيغَةِ الِاسْتِقْبَالِ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ مُسْتَقْبَلَةٌ، وَالْبَارِي يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ، وَيَرَاهُ إذَا عَمِلَ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ، وَالرُّؤْيَةُ لَا تَتَعَلَّقُ إلَّا بِالْمَوْجُودِ، وَقَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، «عَنْ جِبْرِيلَ: مَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ؛ فَإِنَّك إنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك». الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُ: {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} [التوبة: 94]: مَعْنَاهُ يَجْعَلُهُ فِي الظُّهُورِ مَحَلَّ مَا يَرَى. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ فِي الْآيَةِ: أَنَّهُ كَانَ يُقَالُ: ابْنَ آدَمَ، اعْمَلْ وَأَغْلِقْ عَلَيْك سَبْعِينَ بَابًا، يُخْرِجْ اللَّهُ عَمَلَكَ إلَى النَّاسِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرٍ، وَالْإِمَامُ مَالِكٌ، إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِرُؤْيَةِ النَّاسِ، فَأَمَّا رُؤْيَةُ اللَّهِ فَإِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِمَا يَسَّرَهُ، كَمَا تَتَعَلَّقُ بِمَا يُظْهِرهُ؛ لِأَنَّهُ لَا تُؤْثِرُ الْحُجُبَ فِي رُؤْيَتِهِ، وَلَا تَمْنَعُ الْأَجْسَامَ عَنْ إدْرَاكِهِ.

وَفِي الْأَثَرِ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ أَنَّ رَجُلًا عَبَدَ اللَّهَ فِي صَخْرَةٍ لَا بَابَ لَهَا، وَلَا كُوَّةَ لَأَخْرَجَ اللَّهُ عَمَلَهُ إلَى النَّاسِ كَائِنًا مَا كَانَ، وَاَللَّهُ يُطْلِعُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا فِي قُلُوبِ إخْوَانِهِمْ مِنْ خَيْرٍ فَيُحِبُّونَهُ، أَوْ شَرٍّ فَيَبْغَضُونَهُ». وَقَالَ اللَّهُ: «إذَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْت مِنْهُ بَاعًا، وَإِذَا أَتَانِي يَمْشِي آتَيْته أُهَرْوِلُ، وَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ». وَفِي الصَّحِيحِ: «إذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى فِي السَّمَاءِ يَا جِبْرِيلُ؛ إنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ: يَا مَلَائِكَةَ السَّمَاءِ؛ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ؛ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، وَلَا أَرَاهُ فِي الْبُغْضِ إلَّا مِثْلَ ذَلِكَ». إيضَاحٌ مُشْكِلٍ: قَوْلُهُ: " إذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْت مِنْهُ ذِرَاعًا مَثَلٌ؛ لِأَنَّ الْبَارِئَ سُبْحَانَهُ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْقُرْبُ بِالْمِسَاحَةِ؛ وَإِنَّمَا قُرْبُهُ بِالْعِلْمِ وَالْإِحَاطَةِ لِلْجَمِيعِ، وَبِالرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ لِمَنْ أَرَادَ ثَوَابَهُ. وَقَوْلُهُ أَيْضًا: أَتَيْته أُهَرْوِلُ مِثْلُهُ فِي التَّمْثِيلِ، وَالْإِشَارَةُ بِهِ إلَى أَنَّ الثَّوَابَ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ الْعَمَلِ، فَضَرَبَ زِيَادَةَ الْأَفْعَالِ بَيْنَ الْخَلْقِ فِي الْمُجَازَاةِ عَلَى الْبَعْضِ مَثَلًا فِي زِيَادَةِ ثَوَابِهِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ. وَقَوْلُهُ: لَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ، إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى الْعَمَلِ تُوجِبُ مُوَاظَبَةَ الثَّوَابِ، وَتُطَهِّرُ الْمُوَاظَبَةُ الْأَعْضَاءَ عَنْ الْمَعَاصِي؛ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْجَوَارِحُ لِلَّهِ خَالِصَةً؛ فَعَبَّرَ بِنَفْسِهِ تَعَالَى عَنْهَا تَشْرِيفًا لَهَا حِينَ خَلَصَتْ مِنْ الْمَعَاصِي. وَمِثْلُهُ النُّزُولُ، فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ إفَاضَةِ الْخَيْرِ وَنَشْرِ الرَّحْمَةِ. .

مسألة المنافقين يعتقدون الكفر ويظهرون أعمال الإيمان كأنها أعمال بر

[مَسْأَلَة الْمُنَافِقِينَ يَعْتَقِدُونَ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُونَ أَعْمَالَ الْإِيمَانِ كَأَنَّهَا أَعْمَالُ بِرٍّ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى فِي الْمُنَافِقِينَ فَهِيَ عَلَى رَسْمِ التَّهْدِيدِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ، وَمَعْنَاهَا أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يَعْتَقِدُونَ الْكُفْرَ، وَيُظْهِرُونَ أَعْمَالَ الْإِيمَانِ كَأَنَّهَا أَعْمَالُ بِرٍّ، وَهِيَ رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ بِغَيْرِ اعْتِقَادٍ وَلَا نِيَّةٍ، فَاَللَّهُ يَرَاهَا كَذَلِكَ، وَيُطْلِعُ عَلَيْهَا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَمَّا اطِّلَاعُ رَسُولِهِ فَبِعَيْنَيْهِ، وَأَمَّا اطِّلَاعُ الْمُؤْمِنِينَ فَبِالْعَلَامَاتِ مِنْ الْأَعْمَالِ وَالْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاعْتِقَادِ، وَذَلِكَ كَمَا قَالَ: مَنْ أَسَرَّ سَرِيرَةً أَلْبَسَهُ اللَّهُ رِدَاءَهَا، إنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا فَإِنَّ اللَّهَ يَرَاهُ وَيَعْلَمُهُ، فَيَعْلَمُهُ رَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي تَقَدَّمَ، وَنَرُدُّ الْعِلْمَيْنِ إلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَنَجْزِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ وَمَوَاقِعِهَا. أَمَّا الْمُنَافِقُ فَنَقْدَمُ إلَى عَمَلِهِ فَنَجْعَلُهُ هَبَاءً مَنْثُورًا. وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ الَّذِي خَلَطَ فِي أَعْمَالِهِ طَاعَةً بِمَعْصِيَةٍ فَإِنَّهُ يُوَازِنُ بِهَا فِي الْكِفَّتَيْنِ، فَمَا رَجَحَ مِنْهَا عَلَى مِقْدَارِ عَمَلِهِ فِيهَا أَظْهَرَهُ عَلَيْهَا، وَحَكَمَ بِهِ لَهَا. وَالْمَرْءُ يَكُونُ فِي مَوْطِنَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَوْطِنُ الْخَاتِمَةِ عِنْدَ قَبْضِ الرُّوحِ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فَإِنَّهُ وَقْتُ كَشْفِ الْغِطَاءِ، وَسَلَامَةِ الْبَصَرِ عَنْ الْعَمَى، فَيُقَالُ لَهُ: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22]. فَانْظُرْ إلَى مَا كُنْت غَافِلًا عَنْهُ، أَوْ بِهِ مُتَهَاوِنًا. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْوَزْنِ، وَتَطَايُرِ الصُّحُفِ وَالْأَنْبَاءِ، حِينَئِذٍ يَكُونُ بِإِظْهَارِ الْجَزَاءِ، وَشَرْحِ صِفَةِ الْأَنْبَاءِ وَمَوَاطِنِهِ فِي كِتَابِ الذِّكْرِ. [الْآيَة الرَّابِعَة وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا] وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 97]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْله تَعَالَى {الأَعْرَابُ} [التوبة: 97]: اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ لِسَبِيلِ الْعِلْمِ تَسْلُكُونَهَا، وَصَرَفَكُمْ عَنْ الْجَهَالَاتِ تَرْتَكِبُونَهَا أَنَّ بِنَاءَ " عَرَبٍ " يَنْطَلِقُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى مَعَانٍ لَا تَنْتَظِمُ فِي مَسَاقٍ وَاحِدٍ، وَعَلَى رَأْيِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَ الْأَبْنِيَةَ تَنْظُرُ إلَى الْمَعَانِي مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يَجِدُهُ الطَّالِبُ لَهُ، وَقَدْ يَعْسُرُ عَلَيْهِ، وَقَدْ يَعْدَمُهُ وَيَنْقَطِعُ لَهُ. وَهَذَا الْبِنَاءُ مِمَّا لَمْ يَتَّفِقْ لِي رَبْطُ مَعَانِيهِ بِهِ. وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ الْأَعْرَابِ فِي الْقُرْآنِ هَاهُنَا، وَجَاءَ فِي السُّنَّةِ ذِكْرُ الْعَرَبِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ؛ وَلُغَةُ الْعَرَبِ مَنْسُوبَةٌ إلَى الْعَرَبِ، وَالْعَرَبُ اسْمٌ مُؤَنَّثٌ، فَإِذَا صَغَّرُوهُ أَسْقَطُوا الْهَاءَ فَقَالُوا: عُرَيْبٌ. وَيُقَالُ: عَرَبٌ وَعُرْبٌ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالْعَيْنِ، وَبِضَمِّ الْفَاءِ وَبِإِسْكَانِ الْعَيْنِ. وَالْعَارِبَةُ وَالْعَرْبَاءُ؛ وَهُمْ أَوَائِلُهُمْ، أَوْ قَبَائِلُ مِنْهُمْ، يُقَالُ إنَّهُمْ سَبْعٌ، سَمَّاهُمْ ابْنُ دُرَيْدٍ وَغَيْرُهُ. وَيُقَالُ الْأَعْرَابُ وَالْأَعَارِيبُ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْأَعْرَابِيُّ لَزِيَمُ الْبَادِيَةِ، وَالْعَرَبِيُّ مَنْسُوبٌ إلَى الْعَرَبِ وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ هَذِهِ النِّسْبَةَ قَدْ تَكُونُ نِسْبَةَ جِنْسٍ كَالْأَعْرَابِيِّ، وَقَدْ تَكُونُ نِسْبَةَ لِسَانٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَعَاجِمِ إذَا تَعَلَّمَهَا. وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ أَنَّ الْأَعْرَابَ جَمْعٌ، وَهُوَ بِنَاءٌ لَهُ فِي الْوَاحِدِ أَمْثَالٌ مِنْهَا: فُعْلٌ وَفَعْلٌ وَفِعْلٌ وَفَعَلٌ، كَقُفْلٍ وَأَقْفَالٍ، وَفَلْسٍ وَأَفْلَاسٍ، وَحِمْلٍ وَأَحْمَالٍ، وَجَمَلٍ وَأَجْمَالٍ، وَلَمْ أَجِدْ عَرَبًا بِكَسْرِ الْفَاءِ إلَّا فِي نَوْعٍ مِنْ النَّبَاتِ لَا يَسْتَجِيبُ مَعَ سَائِرِ الْأَبْنِيَةِ، وَيَا لَيْتَ شَعْرِي، مَا الَّذِي يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْأَعْرَابِيُّ مَنْسُوبًا إلَى الْأَعْرَابِ، وَالْعَرَبِيُّ مَنْسُوبًا إلَى الْعَرَبِ، وَيَكُونُ الْأَعْرَابُ هُمْ الْعَرَبَ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا سَلْمَانُ؛ لَا تَبْغَضْنِي فَتُفَارِقَ دِينَك. قَالَ: وَكَيْفَ أَبْغُضُك يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: تَبْغُضُ الْعَرَبَ».

وَقَالَ: «مَنْ غَشَّ الْعَرَبَ لَمْ يَدْخُلْ فِي شَفَاعَتِي». وَقَالَ: «مِنْ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ هَلَاكُ الْعَرَبِ». وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَتَفُرُّنَّ مِنْ الدَّجَّالِ حَتَّى تَلْحَقُوا بِالْجِبَالِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ فَأَيْنَ الْعَرَبُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: هُمْ قَلِيلٌ». وَقَالَ أَيْضًا: «سَامٌ أَبُو الْعَرَبِ، وَيَافِثُ أَبُو الرُّومِ، وَحَامٌ أَبُو الْحَبَشِ». وَمِنْ غَرِيبِ هَذَا الِاسْمِ أَنَّ بِنَاءَهُ فِي التَّرْكِيبِ لِلتَّعْمِيمِ بِنَاءَ الْحُرُوفِ فِي الْمَخَارِجِ عَلَى التَّرْتِيبِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ فَائِدَةُ الْقَوْلِ: اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، فَكَانَ مِمَّا عَلَّمَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْعَرَبُ وَالْأَعْرَابُ وَالْعَرَبِيَّةِ، وَلَا نُبَالِي كَيْفَ كَانَتْ كَيْفِيَّةُ التَّعَلُّمِ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إلَى الْأَزْمِنَةِ الْمُتَقَادِمَةِ قَبْلَنَا، وَقَبْلَ فَسَادِ اللُّغَةِ، فَكَانَ هَذَا اسْمَ اللِّسَانِ، وَاسْمَ الْقَبِيلَةِ، حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا سَيِّدَهَا، بَلْ سَيِّدَ الْأُمَمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَعْطَى اللَّهُ لَهَا اسْمًا شَرِيفًا، وَهُوَ نَبِيٌّ، رَسُولٌ إلَى سَائِرِ أَسْمَائِهِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهَا فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ وَالْقَبَسِ وَغَيْرِهِ، وَأَعْطَى مَنْ آثَرَ دِينَهُ عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ اسْمًا أَشْرَفَ مِنْ " عَرَبٍ " وَمِنْ " قُرَشٍ " وَهُوَ " هَجَرَ " فَقَالَ: الْمُهَاجِرُونَ، وَأَعْطَى مَنْ آوَى وَنَاضَلَ اسْمًا أَشْرَفَ مِنْ الَّذِي كَانَ وَهُوَ " نَصْرٌ " فَقَالَ: الْأَنْصَارُ، وَعَمَّهُمْ بِاسْمٍ كَرِيمٍ شَرِيفِ الْمَوْضِعِ وَالْمَقْطَعِ، وَهُوَ " صَحْبٌ " فَقَالَ: أَصْحَابِي، وَأَعْطَى مَنْ لَمْ يَرَهُ حَظًّا فِي التَّشْرِيفِ بِاسْمٍ عَامٍّ يَدْخُلُونَ بِهِ فِي الْحُرْمَةِ، وَهِيَ

الْأُخُوَّةُ، فَقَالَ: «وَدَدْتُ أَنِّي رَأَيْت إخْوَانَنَا. قُلْنَا: أَلَسْنَا بِإِخْوَانِك يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدُ» فَمَنْ دَخَلَ فِي الْهِجْرَةِ أَوْ تَرَسَّمَ بِالنُّصْرَةِ فَقَدْ كَمُلَ لَهُ شَرَفُ الصُّحْبَةِ، وَمَنْ بَقِيَ عَلَى رَسْمِهِ الْأَوَّلِ بَقِيَ عَلَيْهِ اسْمُهُ الْأَوَّلُ، وَهُمْ الْأَعْرَابُ. وَلِذَلِكَ قِيلَ «لَمَّا صَارَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ فِي الرَّعِيَّةِ قَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: يَا سَلَمَةُ، تَعَرَّبْت، ارْتَدَدْت عَلَى عَقِبَيْك. فَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَذِنَ لِي فِي التَّعْرِيبِ» وَبَعْدَ هَذَا فَاعْلَمُوا وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ كَانَ عَلَيْهِ فَرْضًا أَنْ يَأْتِيَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَكُونَ مَعَهُ، حَتَّى تَتَضَاعَفَ النُّصْرَةُ، وَتَنْفَسِحَ الدَّوْحَةُ، وَتَحْتَمِيَ الْبَيْضَةُ، وَيَسْمَعُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دِينَهُمْ، وَيَتَعَلَّمُوا شَرِيعَتَهُمْ حَتَّى يُبَلِّغُوهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَسْمَعُونَ وَيُسْمَعُ مِنْكُمْ»، وَيُسْمَعُ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْكُمْ، فَمَنْ تَرَكَ ذَلِكَ، وَبَقِيَ فِي إبِلِهِ وَمَاشِيَتِهِ، وَآثَرَ مَسْقَطَ رَأْسِهِ، فَقَدْ غَابَ عَنْ هَذِهِ الْحُظُوظِ، وَخَابَ عَنْ سَهْمِ الشَّرَفِ، وَكَانَ مَنْ صَارَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ صَارَ إلَيْهِ مُؤَهَّلًا لِحَمْلِ الشَّرِيعَةِ وَتَبْلِيغِهَا، مُتَشَرِّفًا بِمَا تَقَلَّدَ مِنْ عُهْدَتِهَا، وَكَانَ مَنْ بَقِيَ فِي مَوْضِعِهِ خَائِبًا مِنْ هَذَا الْحَظِّ مُنْحَطًّا عَنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ. وَاَلَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ يُشَاهِدُونَ آيَاتِهِ، وَيُطَالِعُونَ غُرَّتَهُ الْبَهِيَّةِ، كَانَ الشَّكُّ يَخْتَلِجُ فِي صُدُورِهِمْ، وَالنِّفَاقُ يَتَسَرَّبُ إلَى قُلُوبِهِمْ، فَكَيْفَ بِمَنْ غَابَ عَنْهُ، فَعَنْ هَذَا وَقَعَ الْبَيَانُ بِقَوْلِهِ: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 97]؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعَلَى إعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ مَغْرَمًا لَا مَغْنَمًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْلَمُ لَهُ اعْتِقَادُهُ؛ فَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ وَسِيلَةً إلَى اللَّهِ، وَقُرْبَةً وَرَغْبَةً فِي صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرِضَاهُ عَنْهُ.

الآية الخامسة والثلاثون قوله تعالى والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار

[الْآيَة الْخَامِسَة وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ] الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ] تَكْمِلَةٌ: مِنْ خَوَاصِّ هَؤُلَاءِ الْخَوَاصِّ وِسَادَةِ هَؤُلَاءِ السَّادَةِ {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]. وَهِيَ الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ، وَفِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَحْقِيقِ السَّبْقِ: وَهُوَ التَّقَدُّمُ فِي الصِّفَةِ، أَوْ فِي الزَّمَانِ، أَوْ فِي الْمَكَانِ، فَالصِّفَةُ الْإِيمَانُ، وَالزَّمَنُ لِمَنْ حَصَلَ فِي أَوَانٍ قَبْلَ أَوَانٍ، وَالْمَكَانُ مَنْ تَبَوَّأَ دَارَ النُّصْرَةِ، وَاِتَّخَذَهُ بَدَلًا عَنْ مَوْضِعِ الْهِجْرَةِ، وَهُمْ عَلَى ثَمَانِي مَرَاتِبَ: الْأُولَى: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَسَعْدٌ، وَبِلَالٌ، وَغَيْرُهُمْ. الثَّانِيَةُ: دَارُ النَّدْوَةِ. الثَّالِثَةُ: مُهَاجِرَةُ أَصْحَابِ الْحَبَشَةِ، كَعُثْمَانَ، وَالزُّبَيْرِ. الرَّابِعَةُ: أَصْحَابُ الْعَقَبَتَيْنِ، وَهُمْ الْأَنْصَارُ. الْخَامِسَةُ: قَوْمٌ أَدْرَكُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِقُبَاءَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الْمَدِينَةَ. السَّادِسَةُ: مَنْ صَلَّى إلَى الْقِبْلَتَيْنِ. السَّابِعَةُ: أَهْلُ بَدْرٍ. الثَّامِنَةُ: أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَبِهِمْ انْقَطَعَتْ الْأَوَّلِيَّةُ. وَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ الثَّامِنَةَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَاخْتَارَ فِي تَفْسِيرِهَا ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ مَنْ صَلَّى إلَى الْقِبْلَتَيْنِ. [مَسْأَلَة الْقِرَاءَة فِي قَوْلِهِ وَالْأَنْصَارِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقِرَاءَةُ فِي قَوْلِهِ: {وَالأَنْصَارِ} [التوبة: 100]: بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَيَكُونُونَ أَيْضًا فِيهَا عَلَى مَرَاتِبَ مِنْهُمْ الْعُقْبِيُّونَ، وَمِنْهُمْ أَهْلُ الْقِبْلَتَيْنِ، وَمِنْهُمْ الْبَدْرِيُّونَ، وَمِنْهُمْ الرِّضْوَانِيَّةُ، وَيَكُونُ الْوَقْفُ فِيهِمَا وَاحِدًا.

مسألة أول السابقين من المهاجرين

وَقُرِئَ: وَالْأَنْصَارُ بِرَفْعِ الرَّاءِ، عَطْفًا عَلَى " وَالسَّابِقُونَ " وَيُعْزَى ذَلِكَ إلَى عُمَرَ وَقِرَاءَةِ الْحَسَنِ، وَاخْتَارَهُ يَعْقُوبُ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ بِرَفْعِ الرَّاءِ أَوْ خَفْضِهَا فَفِي الْأَنْصَارِ سَابِقٌ وَمُصَلٍّ فِي كُلِّ طَائِفَةٍ وَاحِدٌ. [مَسْأَلَة أَوَّلُ السَّابِقِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَوَّلُ السَّابِقِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ «قَوْلُ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ اتَّبَعَك عَلَى هَذَا الْأَمْرِ؟ قَالَ: حُرٌّ وَعَبْدٌ». وَبِهَذَا احْتَجَّ شَيْخُ السُّنَّةِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْجُبَّائِيُّ فِي مَجْلِسِ ابْنِ وَرْقَاءَ أَمِيرِ الْبَصْرَةِ حِينَ ادَّعَى أَنَّ عَلِيًّا أَوَّلُهُمْ إسْلَامًا وَكَانَا شِيعِيِّينَ. وَذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ حَسَّانَ أَنْشَدَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَضْرَتِهِمْ: إذَا تَذَكَّرْت شَجْوًا مِنْ أَخِي ثِقَةٍ ... فَاذْكُرْ أَخَاك أَبَا بَكْرٍ بِمَا فَعَلَا الثَّانِيَ التَّالِيَ الْمَحْمُودَ مَشْهَدُهُ ... وَأَوَّلَ النَّاسِ مِنْهُمْ صَدَّقَ الرُّسُلَا فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا قَالَ لَهُ: إنَّمَا كَانَ أَوَّلَ مَنْ صَدَّقَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. وَقَدْ رَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْجَارُودِ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَسَّانٍ النَّيْسَابُورِيُّ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَعْدِيٍّ عَنْ مُجَالِدٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ، مَنْ أَوَّلُ النَّاسِ إسْلَامًا؟ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ، أَوَ مَا سَمِعْت قَوْلَ حَسَّانَ: إذَا تَذَكَّرْت شَجْوًا مِنْ أَخِي ثِقَةٍ ... فَاذْكُرْ أَخَاك أَبَا بَكْرٍ بِمَا فَعَلَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ أَتْقَاهَا وَأَعْدَلَهَا ... بَعْدَ النَّبِيِّ وَأَوْفَاهَا بِمَا حَمَلَا الثَّانِيَ التَّالِيَ الْمَحْمُودَ مَشْهَدُهُ ... وَأَوَّلَ النَّاسِ مِنْهُمْ صَدَّقَ الرُّسُلَا وَهَذَا خَبَرٌ اُشْتُهِرَ وَانْتَشَرَ، فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلُ مَنْ صَلَّى أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ تَمَثَّلَ بِأَبْيَاتِ حَسَّانَ، وَذَكَرَهَا ثَلَاثَةً، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُبَيِّنًا فَضْلَ

مسألة قراءة قوله تعالى والذين اتبعوهم بإحسان

أَبِي بَكْرٍ وَسَبْقَهُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ غَامَرَهُ: «دَعُوا لِي صَاحِبِي، فَإِنِّي بُعِثْت إلَى النَّاسِ كَافَّةً، فَقَالُوا: كَذَبْت، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقْت»، وَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ خَلْقٌ كَثِيرٌ، مِنْهُمْ الزُّبَيْرُ، وَطَلْحَةُ، وَسَعْدٌ، وَعُثْمَانُ، وَأَهْلُ الْعَقَبَتَيْنِ، وَلَيْسَ فِي تَقْدِمَةِ إسْلَامِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَدِيثٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، لَا عَنْ سَلْمَانَ، وَلَا عَنْ الْحَسَنِ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ. [مَسْأَلَة قِرَاءَة قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100]: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَرَأَ الَّذِينَ بِإِسْقَاطِ الْوَاوِ نَعْتًا لِلْأَنْصَارِ، فَرَاجَعَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، فَسَأَلَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، فَصَدَّقَ زَيْدًا فَرَجَعَ إلَيْهِ عُمَرُ، وَثَبَتَتْ الْوَاوُ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي التَّابِعِينَ؛ فَقِيلَ: هُمْ مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ؛ كَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَمَنْ دَانَاهُمْ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ؛ وَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ شَكَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِخَالِدٍ: دَعُوا لِي أَصْحَابِي، فَوَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ كُلَّ يَوْمٍ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ». خَرَّجَهُ الْبَرْقَانِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: هُمْ الَّذِينَ لَمْ يَرَوْا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَلَا عَايَنُوا مُعْجِزَاتِهِ؛ وَلَكِنَّهُمْ سَمِعُوا خَبَرَهُ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي مِنْ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ اسْمٌ مَخْصُوصٌ بِالْقَرْنِ الثَّانِي، فَيُقَالُ صَحَابِيٌّ وَتَابِعِيٌّ بِهَذِهِ الْخُطَّةِ، لِمَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَكَفَانَا أَنْ اتَّقَيْنَا اللَّهَ، وَاهْتَدَيْنَا بِهَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ، وَاقْتَفَيْنَا آثَارَهُ، وَاسْمُ الْأُخُوَّةِ الَّتِي قَدَّمْنَا تِبْيَانًا لَنَا. [مَسْأَلَة الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْمَرَاتِبُ، وَبُيِّنَتْ الْخُطَطُ فَإِنَّ السَّابِقَ إلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَالْمُتَقَدِّمَ إلَى الطَّاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُصَلِّي فِيهَا وَالتَّالِي بِهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10].

مسألة السبق يكون بالصفات والزمان والمكان

وَلَكِنْ مَنْ سَبَقَ أَكْرَمُ عِنْدَ اللَّهِ مَرْتَبَةً، وَأَوْفَى أَجْرًا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلسَّابِقِ مِنْ الْفَضْلِ إلَّا اقْتِدَاءُ التَّالِي بِهِ، وَاهْتِدَاؤُهُ بِهَدْيِهِ، فَيَكُونُ لَهُ ثَوَابُ عَمَلِهِ فِي نَفْسِهِ، وَمِثْلُ ثَوَابِ مَنْ اتَّبَعَهُ مُقْتَدِيًا بِهِ؛ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا». وَلِذَلِكَ قُلْنَا: إنَّ الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهَا عَنْهُ، وَلَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ فِيهِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا»؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. [مَسْأَلَة السَّبْقَ يَكُونُ بِالصِّفَاتِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ السَّبْقَ يَكُونُ بِالصِّفَاتِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَأَفْضَلُ هَذِهِ الْوُجُوهِ سَبْقُ الصِّفَاتِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ. فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ، فَالْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ». فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ أَنَّ مَنْ سَبَقَنَا مِنْ الْأُمَمِ بِالزَّمَانِ فَجِئْنَا بَعْدَهُمْ سَبَقْنَاهُمْ بِالْإِيمَانِ، وَالِامْتِثَالِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالِانْقِيَادِ إلَيْهِ، وَالِاسْتِسْلَامِ لِأَمْرِهِ، وَالرِّضَا بِتَكْلِيفِهِ، وَالِاحْتِمَالِ لِوَظَائِفِهِ، لَا نَعْتَرِضُ عَلَيْهِ، وَلَا نَخْتَارُ مَعَهُ، وَلَا نُبَدِّلُ بِالرَّأْيِ شَرِيعَتَهُ، كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ. وَذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ لِمَا قَضَاهُ، وَبِتَيْسِيرِهِ لِمَا يَرْضَاهُ، وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ.

مسألة هل للأعراب حق في الفيء والغنيمة

[مَسْأَلَة هَلْ لِلْأَعْرَابِ حَقّ فِي الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: لَمَّا ذَمَّ اللَّهُ الْأَعْرَابَ بِنَقْصِهِمْ وَحَطَّهُمْ عَنْ الْمَرْتَبَةِ الْكَامِلَةِ لِسِوَاهُمْ تَرَتَّبَتْ عَلَى ذَلِكَ أَحْكَامٌ ثَلَاثَةٌ: أَوَّلُهَا: أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ، حَسْبَمَا يَأْتِي فِي سُورَةِ الْحَشْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. ثَانِيهَا: أَنَّ إمَامَتَهُمْ بِأَهْلِ الْحَضَرِ مَمْنُوعَةٌ لِجَهْلِهِمْ بِالسُّنَّةِ وَتَرْكِهِمْ لِلْجُمُعَةِ. ثَالِثُهَا: إسْقَاطُ شَهَادَةِ الْبَادِيَةِ عَنْ الْحَضَارَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ؛ فَقِيلَ: لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مَرْتَبَةٌ عَالِيَةٌ، وَمَنْزِلَةٌ شَرِيفَةٌ، وَوِلَايَةٌ كَرِيمَةٌ، فَإِنَّهَا قَبُولُ قَوْلِ الْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ، وَتَنْفِيذُ كَلَامِهِ عَلَيْهِ؛ وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي كَمَالَ الصِّفَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا نُقْصَانَ صِفَتِهِ فِي عِلْمِهِ وَدِينِهِ. وَقِيلَ: إنَّمَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْقِيقِ التُّهْمَةِ إذَا شَهِدَ أَهْلُ الْبَادِيَةِ بِحُقُوقِ أَهْلِ الْحَاضِرَةِ، وَتِلْكَ رِيبَةٌ؛ إذْ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِذَلِكَ الْحَضَرِيُّونَ، فَعَدَمُ الشَّهَادَةِ عِنْدَهُمْ وَوُجُودُهَا عِنْدَ الْبَدْوِيِّينَ رِيبَةٌ تَقْتَضِي التُّهْمَةَ، وَتُوجِبُ الرَّدَّ، وَعَنْ هَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّ شَهَادَتَهُمْ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ كَالْجِرَاحِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا يَكُونُ فِي الْحَضَرِ مَاضِيَةٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَجُوزُ شَهَادَةُ الْبَدْوِيِّ عَلَى الْحَضَرِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرَاعِي كُلَّ تُهْمَةٍ؛ أَلَا تَرَاهُ يَقْبَلُ شَهَادَةَ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، فَلْيَنْظُرْهُ هُنَالِكَ مَنْ أَرَادَ اسْتِيفَاءَهُ. [الْآيَة السَّادِسَة وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا] وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103]. فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى {خُذْ} [التوبة: 103]: هُوَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَيَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ اقْتِصَارَهُ عَلَيْهِ، فَلَا يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ سِوَاهُ، وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا سُقُوطُهَا بِسُقُوطِهِ، وَزَوَالُ تَكْلِيفِهَا بِمَوْتِهِ، وَبِهَذَا تَعَلَّقَ مَانِعُو الزَّكَاةِ عَلَى

أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَقَالُوا عَلَيْهِ: إنَّهُ كَانَ يُعْطِينَا عِوَضًا عَنْهَا التَّطْهِيرَ، وَالتَّزْكِيَةَ لَنَا، وَالصَّلَاةَ عَلَيْنَا، وَقَدْ عَدِمْنَاهَا مِنْ غَيْرِهِ، وَنَظَمَ فِي ذَلِكَ شَاعِرُهُمْ فَقَالَ: أَطَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَ بَيْنَنَا ... فَيَا عَجَبًا مَا بَالُ مُلْكِ أَبِي بَكْرٍ وَإِنَّ الَّذِي سَأَلُوكُمْ فَمَنَعْتُمْ ... لَكَالتَّمْرِ أَوْ أَحْلَى لَدَيْهِمْ مِنْ التَّمْرِ سَنَمْنَعُهُمْ مَا دَامَ فِينَا بَقِيَّةٌ ... كِرَامٌ عَلَى الضَّرَّاءِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَهَذَا صِنْفٌ مِنْ الْقَائِمِينَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً، وَغَيْرُهُمْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ، وَأَنْكَرَ النُّبُوَّةَ، وَسَاعَدَ مُسَيْلِمَةَ، وَأَنْكَرَ وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ. وَفِي هَذَا الصِّنْفِ الَّذِي أَقَرَّ بِالصَّلَاةِ، وَأَنْكَرَ الزَّكَاةَ وَقَعَتْ الشُّبْهَةُ لِعُمَرَ حِينَ خَالَفَ أَبَا بَكْرٍ فِي قِتَالِهِمْ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِقَبُولِ الصَّلَاةِ مِنْهُمْ وَتَرْكِ الزَّكَاةِ، حَتَّى يَتَعَهَّدَ الْأَمْرَ، وَيَظْهَرَ حِزْبُ اللَّهِ، وَتَسْكُنَ سَوْرَةُ الْخِلَافِ؛ فَشَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْحَقِّ، وَقَالَ: وَاَللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقٌّ فِي الْمَالِ، وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ. قَالَ عُمَرُ: فَوَاَللَّهِ مَا هُوَ إلَّا أَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَرَفْت أَنَّهُ الْحَقُّ. وَبِهَذَا اعْتَرَضَتْ الرَّافِضَةُ عَلَى الصِّدِّيقِ، فَقَالُوا: عَجِلَ فِي أَمْرِهِ، وَنَبَذَ السِّيَاسَةَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَأَرَاقَ الدِّمَاءَ. قُلْنَا: بَلْ جَعَلَ كِتَابَ اللَّهِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَهَدْيَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْظُرُ إلَيْهِ، وَالْقُرْآنَ يَسْتَنِيرُ بِهِ، وَالسِّيَاسَةَ تُمَهِّدُ سُبُلَهَا فَإِنَّهُ قَالَ: وَاَللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ. وَصَدَقَ الصِّدِّيقُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11]؛ فَشَرْطُهُمَا، وَحَقَّقَ الْعِصْمَةَ بِهِمَا، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ». فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ حِينَ تَعَلَّقَ بِهَذَا الْحَدِيثِ: فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إلَّا بِحَقِّهَا». وَالزَّكَاةُ حَقُّ الْمَالِ، فَالصَّلَاةُ تَحْقِنُ الدَّمَ، وَالزَّكَاةُ تَعْصِمُ الْمَالَ.

وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ». وَأَمَّا السِّيَاسَةُ فَمَا عَدَاهَا فَإِنَّهُ لَوْ سَاهَلَهُمْ فِي مَنْعِ الزَّكَاةِ لَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ، وَتَمَكَّنَتْ فِي الْقُلُوبِ بِدْعَتُهُمْ، وَعَسُرَ إلَى الطَّاعَةِ صَرْفُهُمْ، فَعَاجَلَ بِالدَّوَاءِ قَبْلَ اسْتِفْحَالِ الدَّاءِ. فَأَمَّا إرَاقَتُهُ لِلدِّمَاءِ فَبِالْحَقِّ الَّذِي كَانَ عَصَمَهَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَإِرَاقَةُ الدِّمَاءِ يَا مَعْشَرَ الرَّافِضَةِ فِي تَوْطِيدِ الْإِسْلَامِ وَتَمْهِيدِ الدِّينِ آكَدُ مِنْ إرَاقَتِهَا فِي طَلَبِ الْخِلَافَةِ، وَكُلٌّ عِنْدَنَا حَقٌّ، وَعَلَيْكُمْ فِي إبْطَالِ كَلَامِكُمْ، وَضِيقِ مَرَامِكُمْ خَنْقٌ. فَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ هَذَا خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يَلْتَحِقُ غَيْرُهُ فِيهِ بِهِ، فَهَذَا كَلَامُ جَاهِلٍ بِالْقُرْآنِ غَافِلٍ عَنْ مَأْخَذِ الشَّرِيعَةِ، مُتَلَاعِبٍ بِالدِّينِ، مُتَهَافَتٍ فِي النَّظَرِ؛ فَإِنَّ الْخِطَابَ فِي الْقُرْآنِ لَمْ يُرِدْ بَابًا وَاحِدًا، وَلَكِنْ اخْتَلَفَتْ مَوَارِدُهُ عَلَى وُجُوهٍ مِنْهَا فِي غَرَضِنَا هَذِهِ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: خِطَابٌ تَوَجَّهَ إلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ، كَقَوْلِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] وَكَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] وَنَحْوِهِ. الثَّانِي: خِطَابٌ خُصَّ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَقَوْلِهِ: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79]. وَكَقَوْلِهِ فِي آيَةِ الْأَحْزَابِ: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]؛ فَهَذَانِ مِمَّا أُفْرِدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِمَا، وَلَا يُشْرِكُهُ فِيهِمَا أَحَدٌ لَفْظًا وَمَعْنًى، لِمَا وَقَعَ الْقَوْلُ بِهِ كَذَلِكَ. الثَّالِثُ: خِطَابٌ خُصَّ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلًا وَيُشْرِكُهُ فِيهِ جَمِيعُ الْأُمَّةِ مَعْنَى وَفَعَلَا، كَقَوْلِهِ: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]. وَكَقَوْلِهِ: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] وَكَقَوْلِهِ: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102].

مسألة الأصل في فعل كل إمام يأخذ الصدقة

فَكُلُّ مَنْ دَلَكَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ مُخَاطَبٌ بِالصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ مُخَاطَبٌ بِالِاسْتِعَاذَةِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ خَافَ يُقِيمُ الصَّلَاةَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْآمِرُ بِهَا، وَالدَّاعِي إلَيْهَا، وَهُمْ الْمُعْطُونَ لَهَا، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى جَاءَ قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 1] وَ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]. وَقَدْ قِيلَ لَهُ: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94]. وَمَا كَانَ لِيَشُكَّ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ مَنْ شَكَّ مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ فِي وَقْتِهِ. [مَسْأَلَة الْأَصْلُ فِي فِعْلِ كُلِّ إمَامٍ يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103]: الْأَصْلُ فِي فِعْلِ كُلِّ إمَامٍ يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ أَنْ يَدْعُوَ لِلْمُتَصَدِّقِ بِالْبَرَكَةِ؛ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ " عَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا أَتَاهُ رَجُلًا بِصَدَقَتِهِ قَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلَانٍ فَجَاءَهُ ابْنُ أَبِي أَوْفَى بِصَدَقَتِهِ، فَأَخَذَهَا مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى». وَأَمَّا قَوْلُهُ: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] فَإِنَّهُ مِنْ صِفَةِ الصَّدَقَةِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: تُزَكِّيهِمْ. يَعْنِي أَنَّ الصَّدَقَةَ تَكُونُ سَبَبًا فِي طَهَارَتِهِمْ وَتَنْمِيَتِهِمْ. وَأَهْلُ الصِّنَاعَةِ يَرَوْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى بَالَغُوا فَقَالُوا: إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ تُطَهِّرْهُمْ بِجَزْمِ الرَّاءِ، لِيَكُونَ جَوَابَ الْأَمْرِ، وَاَلَّذِي نَرَاهُ أَنَّ كَوْنَهُ صِفَةً أَبْلُغُ فِي نَعْتِ الصَّدَقَةِ، وَأَقْطَعُ لِشَغَبِ الْمُخَالِفِ، وَأَبْعَدُ مِنْ الْمَجَازِ بِمَنْزِلَةٍ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى إنَّ صَلَاتَك سَكَنٌ لَهُمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103]: يَعْنِي: دُعَاءَك. وَقَدْ تَكُونُ الصَّلَاةُ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ فِي الْأَظْهَرِ مِنْ مَعَانِيهَا؛ قَالَ الْأَعْشَى:

مسألة الصدقة المأمور بها

تَقُولُ بِنْتِي وَقَدْ يَمَّمْت مُرْتَحِلًا ... يَا رَبِّ جَنِّبْ أَبِي الْأَوْصَابَ وَالْوَجَعَا عَلَيْك مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْت فَاغْتَمِضِي ... نَوْمًا فَإِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجِعَا وَالسَّكَنُ: مَا تَسْكُنُ إلَيْهِ النُّفُوسُ، وَتَطْمَئِنُّ بِهِ الْقُلُوبُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَقَارٌ لَهُمْ. [مَسْأَلَة الصَّدَقَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الصَّدَقَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا؛ فَقِيلَ: هِيَ الْفَرْضُ، أَمَرَ اللَّهُ بِهَا هَاهُنَا أَمْرًا مُجْمَلًا لَمْ يُبَيِّنْ فِيهَا الْمِقْدَارَ، وَلَا الْمَحَلَّ، وَلَا النِّصَابَ، وَلَا الْحَوْلَ؛ وَبَيَّنَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ الْمَحَلَّ وَحْدَهُ، وَوَكَّلَ بَيَانَ سَائِرِ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَتَّبَ الشَّرِيعَةَ بِالْحِكْمَةِ فِي الْعِبَادَاتِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ؛ مِنْهَا مَا يَجِبُ مَرَّةً فِي الْعُمْرِ كَالْحَجِّ، وَمِنْهَا مَا يَجِبُ مَرَّةً فِي الْحَوْلِ كَالزَّكَاةِ، وَمِنْهَا مَا يَجِبُ كُلَّ يَوْمٍ كَالصَّلَاةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا التَّطَوُّعُ. قِيلَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ تِيبَ عَلَيْهِمْ فَرَأَوْا أَنَّ مِنْ تَوْبَتِهِمْ أَنْ يَتَصَدَّقُوا؛ فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذِهِ الْأَوَامِرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «أَتَى أَبُو لُبَابَةَ وَأَصْحَابُهُ حِينَ أُطْلِقُوا، وَتِيبَ عَلَيْهِمْ بِأَمْوَالِهِمْ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ أَمْوَالُنَا فَتَصَدَّقْ بِهَا عَنَّا، وَاسْتَغْفِرْ لَنَا. فَقَالَ: مَا أُمِرْت أَنْ آخُذَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ شَيْئًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103]» وَكَانَ ذَلِكَ مَرْجِعَهُ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَأَبُو لُبَابَةَ مِمَّنْ فَرَّطَ فِي قُرَيْظَةَ، وَفِي تَخَلُّفِهِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَحِينَ تِيبَ عَلَيْهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمَالِي، وَأَهْجُرَ دَارَ قَوْمِي الَّتِي أَصَبْت فِيهَا الذَّنْبَ. «فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَجْزِيك الثُّلُثُ». وَكَذَلِكَ «قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً

مسألة سبب نزول قوله تعالى وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا

إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ. قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَمْسِكْ بَعْضَ مَالِك، فَهُوَ خَيْرٌ لَك». قَالَ: فَإِنِّي أَمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ، وَلَا نَعْلَمُ هَلْ هُوَ بِقَدْرِ ثُلُثِ مَالِهِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَقَلَّ. قَالَ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي مَعْنَى الصَّدَقَةِ مُحْتَمَلَةٌ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا صَدَقَةُ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّ التَّعَلُّقَ لَا يَكُونُ إلَّا بِدَلِيلٍ يُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا مُرْتَبِطٌ بِمَا قَبْلَهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ مَا بَعْدَهُ. [مَسْأَلَة سَبَب نُزُول قَوْله تَعَالَى وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ أَشْهَبُ: قَالَ مَالِكٌ فِي قَوْلِهِ: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 102]. نَزَلَتْ فِي شَأْنِ «أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ؛ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أَصَابَهُ الذَّنْبُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أُجَاوِرُك، وَأَنْخَلِعُ مِنْ مَالِي. فَقَالَ: يُجْزِئُك مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ». وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ، نَحْوَهُ. وَرَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: «ارْتَبَطَ أَبُو لُبَابَةَ إلَى جِذْعٍ مِنْ جُذُوعِ الْمَسْجِدِ بِسِلْسِلَةٍ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، فَكَانَتْ ابْنَتُهُ تَأْتِيهِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ فَتَحِلُّهُ فَيَتَوَضَّأُ، وَهِيَ الْأُسْطُوَانُ الْمُخْلَقُ نَحْوٌ مِنْ ثُلُثِهَا يُدْعَى أُسْطُوَانُ التَّوْبَةِ، وَمِنْهَا حَلَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا لُبَابَةَ حِينَ نَزَلَتْ تَوْبَتُهُ»، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقَبْرِ أُسْطُوَانٌ، وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ: الْجِدَارُ مِنْ الْمَشْرِقِ فِي حَدِّ الْقَنَادِيلِ الَّتِي بَيْنَ الْأَسَاطِينِ الَّتِي فِي وَصْفِهَا أُسْطُوَانُ التَّوْبَةِ وَبَيْنَ الْأَسَاطِينِ الَّتِي تَلِي الْقَبْرَ. وَهَذَا غَرِيبٌ مِنْ رِوَايَةِ الزُّبَيْرِ عَنْ مَالِكٍ، وَجَمَعَ الرِّوَايَاتِ نَصٌّ عَنْ مَالِكٍ فِي أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ.

مسألة تصدق الرجل بجميع ماله

[مَسْأَلَة تَصَدَّقَ الرَّجُلُ بِجَمِيعِ مَالِهِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذَا تَصَدَّقَ الرَّجُلُ بِجَمِيعِ مَالِهِ أَجْزَأَهُ إخْرَاجُ الثُّلُثِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ إخْرَاجُ الْكُلِّ، وَتَعَلَّقَ مَالِكٌ بِقِصَّةِ أَبِي لُبَابَةَ فِي أَنَّ رَدَّهُ إلَيْهِ مِنْ الْجَمِيعِ إلَى الثُّلُثِ، وَهَذَا كَانَ قَوِيًّا لَوْلَا أَنَّهُ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: أَمْسِكْ عَلَيْك بَعْضَ مَالِك مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ، وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي لُبَابَةَ. وَقَدْ نَاقَضَ عُلَمَاؤُنَا؛ فَقَالُوا: إنَّهُ إذَا كَانَ مَالُهُ مُعَيَّنًا دَابَّةً أَوْ دَارًا أَوْ ضَيْعَةً فَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِهَا مَضَى، وَهَذِهِ صَدَقَةٌ بِالْكُلِّ، فَتَخَمَّشَ وَجْهُ الْمَسْأَلَةِ، وَلَمْ يَتَبَلَّجْ مِنْهُ وَضَحٌ، وَقَدْ أَشَرْنَا إلَيْهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَالْحَقُّ يُعَوِّدُ صَدَقَةَ الْكُلِّ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة السَّابِعَة وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ] ِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 104]. هَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْآخِذُ لِلصَّدَقَاتِ، وَأَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ، وَالنَّبِيُّ وَاسِطَةٌ، فَإِنْ تُوُفِّيَ فَعَامِلُهُ هُوَ الْوَاسِطَةُ، وَاَللَّهُ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، فَلَا يَبْطُلُ حَقُّهُ كَمَا قَالَتْ الْمُرْتَدَّةُ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إنَّ الصَّدَقَةَ لَتَقَعُ فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي كَفِّ السَّائِلِ فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ، وَاَللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ». وَكَنَّى بِكَفِّ الرَّحْمَنِ عَنْ الْقَبُولِ؛ إذْ كُلُّ قَابِلٍ لِشَيْءٍ يَأْخُذُهُ بِكَفِّهِ، أَوْ يُوضَعُ لَهُ فِيهِ، كَمَا كَنَّى بِنَفْسِهِ عَنْ الْمَرِيضِ تَعَطُّفَا عَلَيْهِ بِقَوْلِ: " يَقُولُ اللَّهُ عَبْدِي مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي " حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. [الْآيَة الثَّامِنَة وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا] وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 107].

مسألة سبب نزول آية والذين اتخذوا مسجدا ضرارا

فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الْمُنَافِقِينَ وَالْمُقَصِّرِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي آيَاتٍ جُمْلَةٍ، ثُمَّ طَبَّقَهُمْ طَبَقَاتٍ عُمُومًا وَخُصُوصًا، فَقَالَ: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا} [التوبة: 97]. وَقَالَ: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا} [التوبة: 98]. {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ} [التوبة: 99]؛ وَهَذَا مَدْحٌ يَتَمَيَّزُ بِهِ الْفَاضِلُ مِنْ النَّاقِصِ وَالْمُحِقُّ مِنْ الْمُبْطِلِ، ثُمَّ ذَكَرَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، ثُمَّ قَالَ: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ} [التوبة: 101]. وَقَالَ: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} [التوبة: 101] أَيْ اسْتَمَرُّوا عَلَيْهِ وَتَحَقَّقُوا بِهِ. وَقَالَ: وَآخَرُونَ يَعْنِي عَلَى التَّوَسُّطِ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، ثُمَّ قَالَ: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ} [التوبة: 106] وَهُمْ نَحْوٌ مِنْ سَبْعَةٍ، مِنْهُمْ أَبُو لُبَابَةَ، وَكَعْبٌ، وَمُرَارَةُ، وَهِلَالٌ، جَعَلَهُمْ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ وَرَجَّأَهُمْ بِالتَّوْبَةِ، مُشِيرًا إلَى الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، ثُمَّ قَالَ: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا} [التوبة: 107]. أَسْقَطَ ابْنُ عَامِرٍ وَنَافِعٌ مِنْهُمَا الْوَاوَ، كَأَنَّهُ رَدَّهُ إلَى مَنْ هُوَ أَهْلٌ مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَزَادَ غَيْرُهُمَا الْوَاوَ، كَأَنَّهُ جَعَلَهُمْ صِنْفًا آخَرَ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ إسْقَاطَ الْوَاوِ تَجْعَلُهُ مُبْتَدَأً، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ هُوَ لِمَا تَقَدَّمَ وَصْفٌ، وَلَنْ يَحْتَاجَ إلَى إضْمَارٍ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ. [مَسْأَلَة سَبَبِ نُزُولِ آيَة وَاَلَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ: رُوِيَ «أَنَّ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ كُلُّهُمْ يَنْتَمُونَ إلَى الْأَنْصَارِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بَنَوْا مَسْجِدًا ضِرَارًا بِمَسْجِدِ قُبَاءَ، وَجَاءُوا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ خَارِجٌ إلَى تَبُوكَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ بَنَيْنَا مَسْجِدًا لِذِي الْعِلَّةِ وَالْحَاجَةِ وَاللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ، وَإِنَّا نُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَنَا وَتُصَلِّيَ فِيهِ لَنَا. فَقَالَ النَّبِيُّ: إنِّي عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ وَشُغْلٍ، وَلَوْ قَدِمْنَا إنْ شَاءَ اللَّهُ أَتَيْنَاكُمْ فَصَلَّيْنَا لَكُمْ فِيهِ.

مسألة معنى قوله تعالى ضرارا

فَلَمَّا نَزَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقُرْبِ الْمَدِينَةِ رَاجِعًا مِنْ سَفَرِهِ أَرْسَلَ قَوْمًا لِهَدْمِهِ، فَهُدِمَ وَأُحْرِقَ». [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى ضِرَارًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى {ضِرَارًا} [التوبة: 107]: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: ضِرَارًا بِالْمَسْجِدِ، وَلَيْسَ لِلْمَسْجِدِ ضِرَارٌ، إنَّمَا هُوَ ضِرَارٌ لِأَهْلِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَكُفْرًا} [التوبة: 107]: لَمَّا اتَّخَذُوا الْمَسْجِدَ ضِرَارًا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لِمَسْجِدِ قُبَاءَ وَلَا لِمَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَفَرُوا بِهَذَا الِاعْتِقَادِ. [مَسْأَلَة هَلْ تُصَلِّي جَمَاعَتَانِ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 107]: يَعْنِي أَنَّهُمْ كَانُوا جَمَاعَةً وَاحِدَةً فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ، فَأَرَادُوا أَنْ يُفَرِّقُوا شَمْلَهُمْ فِي الطَّاعَةِ، وَيَنْفَرِدُوا عَنْهُمْ لِلْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَهَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ الْمَقْصِدَ الْأَكْثَرَ وَالْغَرَضَ الْأَظْهَرَ مِنْ وَضْعِ الْجَمَاعَةِ تَأْلِيفُ الْقُلُوبِ، وَالْكَلِمَةُ عَلَى الطَّاعَةِ، وَعَقْدُ الذِّمَامِ وَالْحُرْمَةُ بِفِعْلِ الدِّيَانَةِ، حَتَّى يَقَعَ الْأُنْسُ بِالْمُخَالَطَةِ؛ وَتَصْفُوَ الْقُلُوبُ مِنْ وَضَرِ الْأَحْقَادِ وَالْحَسَادَةِ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى تَفَطَّنَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ قَالَ: " إنَّهُ لَا تُصَلِّي جَمَاعَتَانِ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ، وَلَا بِإِمَامَيْنِ، وَلَا بِإِمَامٍ وَاحِدٍ " خِلَافًا لِسَائِرِ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ الْمَنْعُ حَيْثُ كَانَ ذَلِكَ تَشْتِيتًا لِلْكَلِمَةِ، وَإِبْطَالًا لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ، وَذَرِيعَةً إلَى أَنْ نَقُولَ: مَنْ أَرَادَ الِانْفِرَادَ عَنْ الْجَمَاعَةِ كَانَ لَهُ عُذْرٌ، فَيُقِيمُ جَمَاعَتَهُ، وَيُقِيمُ إمَامَتَهُ؛ فَيَقَعُ الْخِلَافُ، وَيَبْطُلُ النِّظَامُ، وَخَفِيَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَهَكَذَا كَانَ شَأْنُهُ مَعَهُمْ، وَهُوَ أَثْبَتُ قَدَمًا مِنْهُمْ فِي الْحِكْمَةِ، وَأَعْلَمُ بِمَقَاطِعِ الشَّرِيعَةِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} [التوبة: 107]: يُقَالُ: أَرْصَدْتُ كَذَا لِكَذَا إذَا أَعْدَدْتَهُ مُرْتَقِبًا لَهُ، وَالْخَبَرُ بِهَذَا الْقَوْلِ عَنْ أَبِي عَامِرٍ الرَّاهِبِ، سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو عَامِرٍ الْفَاسِقُ، كَانَ قَدْ حَزَّبَ الْأَحْزَابَ لِرَسُولِ اللَّهِ

الآية التاسعة والثلاثون قوله تعالى لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَاءَ مَعَهُمْ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَلَمَّا خَذَلَهُ اللَّهُ لَحِقَ بِالرُّومِ يَطْلُبُ النَّصْرَ مِنْ مَلِكِهِمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَتَبَ إلَى أَهْلِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ، يَأْمُرُهُمْ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ الْمَذْكُورِ، لِيُصَلِّيَ فِيهِ إذَا رَجَعَ، وَأَنْ يَسْتَعِدُّوا قُوَّةً وَسِلَاحًا؛ وَلِيَكُونَ فِيهِ اجْتِمَاعُهُمْ لِلطَّعْنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ، فَأَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى أَمْرِهِمْ، وَأَرْسَلَ لِهَدْمِهِ وَحَرْقَهُ، وَنَهَاهُ عَنْ دُخُولِهِ، فَقَالَ وَهِيَ: [الْآيَة التَّاسِعَة وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ] الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108]. فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى {أَبَدًا} [التوبة: 108]: ظَرْفُ زَمَانٍ، وَظُرُوفُ الزَّمَانِ عَلَى قِسْمَيْنِ: ظَرْفٌ مُقَدَّرٌ كَالْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَظَرْفٌ مُبْهَمٌ عَلَى لُغَتِهِمْ، وَمُطْلَقٌ عَلَى لُغَتِنَا؛ كَالْحِينِ وَالْوَقْتِ. وَالْأَبَدُ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ، وَكَذَلِكَ الدَّهْرُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُشْكِلَيْنِ وَشَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ، وَمُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ، بَيْدَ أَنَّا نُشِيرُ فِيهِ هَاهُنَا إلَى نُكْتَةٍ مِنْ تِلْكَ الْجُمَلِ، وَهِيَ أَنَّ " أَبَدًا " وَإِنْ كَانَ ظَرْفًا مُبْهَمًا لَا عُمُومَ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ إذَا اتَّصَلَ بِالنَّهْيِ أَفَادَ الْعُمُومَ، لَا مِنْ جِهَةِ مُقْتَضَاهُ، وَلَكِنْ مِنْ جِهَةِ النَّهْيِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: لَا تَقُمْ فِيهِ لَكَفَى فِي الِانْكِفَافِ الْمُطْلَقِ، فَإِذَا قَالَ " أَبَدًا " فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَقُمْ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ، وَلَا فِي حِينٍ مِنْ الْأَحْيَانِ، وَقَدْ فَهِمَ ذَلِكَ أَهْلُ اللِّسَانِ، وَقَضَى بِهِ فُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ، فَقَالُوا: لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَبَدًا طَلُقَتْ طَلْقَةً وَاحِدَةً. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} [التوبة: 108]: اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَقِيلَ: هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءَ؛ يُرْوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ. وَتَعَلَّقُوا بِقَوْلِهِ: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة: 108] وَمَسْجِدُ قُبَاءَ كَانَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ أُسِّسَ بِالْمَدِينَةِ.

وَقِيلَ: هُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ وَأَشْهَبُ عَنْهُ قَالَ مَالِكٌ: الْمَسْجِدُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ هُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ إذْ كَانَ يَقُومُ رَسُولُ اللَّهِ وَيَأْتِيهِ أُولَئِكَ مِنْ هُنَالِكَ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] هُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَنَزَعَ مَالِكٌ بِاسْتِوَاءِ اللَّفْظَيْنِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي ذَلِكَ تَقُومُ فِيهِ. وَقَالَ فِي هَذَا قَائِمًا؛ فَكَانَا وَاحِدًا، وَهَذِهِ نَزْعَةٌ غَرِيبَةٌ، وَكَذَلِكَ رَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّهُ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «تَمَارَى رَجُلَانِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ؛ فَقَالَ رَجُلٌ: هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءَ؛ وَقَالَ آخَرُ: هُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هُوَ مَسْجِدِي هَذَا». قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَجَزَمَ مُسْلِمٌ أَيْضًا بِمِثْلِهِ. فَإِنْ قِيلَ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَقَوْلُهُ: {فِيهِ فِيهِ} [التوبة: 108]: ضَمِيرَانِ يَرْجِعَانِ إلَى مُضْمَرٍ وَاحِدٍ بِغَيْرِ نِزَاعٍ، وَضَمِيرُ الظَّرْفِ الَّذِي يَقْتَضِي الرِّجَالَ الْمُتَطَهِّرِينَ هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءَ؛ فَذَلِكَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَهُوَ مَسْجِدُ قُبَاءَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ضَمِيرَ الرِّجَالِ الْمُتَطَهِّرِينَ هُوَ ضَمِيرُ مَسْجِدِ قُبَاءَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ قُبَاءَ: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108]. قَالَ: كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِ قُبَاءَ: إنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْسَنَ عَلَيْكُمْ الثَّنَاءَ فِي الطَّهُورِ؛ فَمَا تَصْنَعُونَ؟ فَقَالُوا: إنَّا نَغْسِلُ أَثَرَ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ بِالْمَاءِ».

من أحب الطهارة وآثر النظافة

قُلْنَا: هَذَا حَدِيثٌ لَمْ يَصِحَّ. وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الطَّهَارَةِ الْمُثْنَى بِهَا عَلَى أَقْوَالٍ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا نَحْنُ فِيهِ، كَالتَّطَهُّرِ بِالتَّوْبَةِ مِنْ وَطْءِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ وَشَبَهِهِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة: 108] فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ مُبْتَدَأِ تَأْسِيسِهِ أَيْ لَمْ يُشْرَعْ فِيهِ، وَلَا وُضِعَ حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ مِنْهُ إلَّا عَلَى اعْتِقَادِ التَّقْوَى. وَاَلَّذِينَ كَانُوا يَتَطَهَّرُونَ، وَأَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ جُمْلَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَحْتَاطُونَ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالنَّظَافَةِ، فَيَمْسَحُونَ مِنْ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ بِالْحِجَارَةِ تَنْظِيفًا لِأَعْضَائِهِمْ، وَيَغْتَسِلُونَ بِالْمَاءِ تَمَامًا لِعِبَادَتِهِمْ، وَكَمَالًا لِطَاعَتِهِمْ. [مَنْ أَحَبَّ الطَّهَارَةَ وَآثَرَ النَّظَافَةَ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَذَا ثَنَاءٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَنْ أَحَبَّ الطَّهَارَةَ، وَآثَرَ النَّظَافَةَ، وَهِيَ مُرُوءَةٌ آدَمِيَّةٌ، وَوَظِيفَةٌ شَرْعِيَّةٌ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: " مُرْنَ أَزْوَاجَكُنَّ أَنْ يَسْتَطِيبُوا بِالْمَاءِ فَإِنِّي أَسْتَحْيِيهِمْ ". وَفِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَحْمِلُ مَعَهُ الْمَاءَ فِي الِاسْتِنْجَاءِ، فَكَانَ يَسْتَعْمِلُ الْحِجَارَةَ تَخْفِيفًا، وَالْمَاءَ تَطْهِيرًا»، وَاللَّازِمُ فِي نَجَاسَةِ الْمَخْرَجِ التَّخْفِيفُ، وَفِي نَجَاسَةِ سَائِرِ الْبَدَنِ أَوْ الثَّوْبِ التَّطْهِيرُ؛ وَتِلْكَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ فِي حَالَتَيْ وُجُودِ الْمَاءِ وَعَدَمِهِ. وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: لَا يُسْتَجْمَرُ بِالْأَحْجَارِ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ. وَفِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ. وَأَمَّا إنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ عَلَى الْبَدَنِ أَوْ الثَّوْبِ فَلِعُلَمَائِنَا فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

فَقَالَ عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ: يَجِبُ غَسْلُهَا بِالْمَاءِ فِي حَالَتَيْ الذِّكْرِ وَالنِّسْيَانِ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَشْهَبُ عَنْهُ: ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ؛ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي تَفْصِيلِ الْحَالَيْنِ جَمِيعًا. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ: يَجِبُ فِي حَالَةِ الذِّكْرِ دُونَ النِّسْيَانِ؛ وَهِيَ مِنْ مُفْرَدَاتِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى الْوُجُوبِ الْمُطْلَقِ قَوْله تَعَالَى {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]؛ فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِطَهَارَةِ ثِيَابِهِ حَتَّى إنْ أَتَتْهُ الْعِبَادَةُ وَجَدْته عَلَى حَالَةٍ مُهَيَّأَةٍ لِأَدَائِهَا. وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: إنَّ الثِّيَابَ كِنَايَةٌ، وَذَلِكَ دَعْوَى لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا. وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى سُقُوطِ طَهَارَتِهَا بِأَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَغُسِلَ بِالْمَاءِ؛ فَإِنَّ الْحَجَرَ لَا يُزِيلُهُ. قُلْنَا: هَذِهِ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ أَمَرَ بِهَا، وَعَفَا عَمَّا وَرَاءَهَا. وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ حَالِ الذِّكْرِ وَالنِّسْيَانِ فَفِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ بُرْهَانُهُ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَنَّ رَفْعَ الْمُؤَاخَذَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْخِلَافِيَّاتِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: بَنَى أَبُو حَنِيفَةَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى حَرْفٍ، فَقَالَ: إنَّ النَّجَاسَةَ إذَا كَانَتْ كَثِيرَةً وَجَبَتْ إزَالَتُهَا، وَإِذَا كَانَتْ قَلِيلَةً لَمْ تَجِبْ إزَالَتُهَا، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ بِقَدْرِ الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ يَعْنِي كِبَارَ الدَّرَاهِمِ الَّتِي هِيَ عَلَى قَدْرِ اسْتِدَارَةِ الدِّينَارِ، قِيَاسًا عَلَى الْمَسْرَبَةِ. وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُقَدَّرَاتِ عِنْدَهُ لَا تَثْبُتُ قِيَاسًا؛؛ فَلَا يُقْبَلُ هَذَا التَّقْدِيرُ مِنْهُ. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الَّذِي خُفِّفَ عَنْهُ فِي الْمَسْرَبَةِ رُخْصَةٌ لِلضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ، وَالرُّخَصُ لَا يُقَاسَ عَلَيْهَا، فَإِنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْ الْقِيَاسِ: فَلَا تُرَدُّ إلَيْهِ.

مسألة معنى قوله تعالى أحق

[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى أَحَقُّ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أَحَقُّ} [التوبة: 108]: هُوَ أَفْعَلُ مِنْ الْحَقِّ، وَأَفْعَلُ لَا يَدْخُلُ إلَّا بَيْنَ شَيْئَيْنِ مُشْتَرَكَيْنِ، لِأَحَدِهِمَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي اشْتَرَكَا فِيهِ مَزِيَّةٌ عَلَى الْآخَرِ، فَيُحَلَّى بِأَفْعَلَ، وَأَحَدُ الْمَسْجِدَيْنِ وَهُوَ مَسْجِدُ الضِّرَارِ بَاطِلٌ لَا حَظَّ لِلْحَقِّ فِيهِ، وَلَكِنْ خَرَجَ هَذَا عَلَى اعْتِقَادِ بَانِيهِ أَنَّهُ حَقٌّ، وَاعْتِقَادُ أَهْلِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ قُبَاءَ أَنَّهُ حَقٌّ، فَقَدْ اشْتَرَكَا فِي الْحَقِّ مِنْ جِهَةِ الِاعْتِقَادِ، لَكِنَّ أَحَدَ الِاعْتِقَادَيْنِ بَاطِلٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَالْآخَرُ حَقٌّ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَهُوَ كَثِيرٌ كَقَوْلِهِ: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا} [الفرقان: 24]: يَعْنِي مِنْ أَهْلِ النَّارِ. وَلَا خَيْرَ فِي مَقَرِّ النَّارِ وَلَا مَقِيلِهَا، وَلَكِنَّهُ جَرَى عَلَى اعْتِقَادِ كُلِّ فِرْقَةٍ أَنَّهَا عَلَى خَيْرٍ، وَأَنَّ مَصِيرَهَا إلَيْهِ؛ إذْ كُلُّ حِزْبٍ فِي قَضَاءِ اللَّهِ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، حَتَّى يَتَمَيَّزَ بِالدَّلِيلِ لِمَنْ عُضِّدَ بِالتَّوْفِيقِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ بِالْعِيَانِ لِمَنْ ضَلَّ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ جَاءَ بَعْدَ هَذَا: [الْآيَة الْمُوفِيَة أَرْبَعِينَ قَوْله تَعَالَى أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانه عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ] ٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 109]. وَهِيَ الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ أَرْبَعِينَ. وَمَعْنَاهُ: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى اعْتِقَادِ تَقْوَى حَقِيقَةٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ؟ وَإِنْ كَانَ قَصَدَ بِهِ التَّقْوَى، وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ: الْعَسَلُ أَحْلَى مِنْ الْخَلِّ، فَإِنَّ الْخَلَّ حُلْوٌ، كَمَا أَنَّ الْعَسَلَ حُلْوٌ؛ وَكُلُّ شَيْءٍ مُلَائِمٌ فَهُوَ حُلْوٌ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: احْلَوْلَى الْعِشْقُ، أَيْ كَانَ حُلْوًا، لِكَوْنِهِ إمَّا عَلَى مُقْتَضَى اللَّذَّةِ أَوْ مُوَافَقَةِ الْأُمْنِيَةِ؟ أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُقَدِّمُ الْخَلَّ عَلَى الْعَسَلِ، مُفْرَدًا بِمُفْرَدٍ وَمُضَافًا إلَى غَيْرِهِ بِمُضَافٍ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى {فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة: 109]: قِيلَ: إنَّهُ حَقِيقَةٌ، «وَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ أَرْسَلَ إلَيْهِ فَهُدِمَ رُئِيَ الدُّخَانُ يَخْرُجُ مِنْهُ»، مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِ: حَتَّى رُئِيَ الدُّخَانُ فِي زَمَانِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ.

الآية الحادية والأربعون قوله تعالى إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم

وَقِيلَ: هَذَا مَجَازٌ، الْمَعْنَى أَنَّ مَآلَهُ إلَى نَارِ جَهَنَّمَ، فَكَأَنَّهُ انْهَارَ إلَيْهِ، وَهَوَى فِيهِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة: 9] إشَارَةٌ إلَى أَنَّ النَّارَ تَحْتُ، كَمَا أَنَّ الْجَنَّةَ فَوْقُ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَا رَأَيْت الدُّخَانَ يَخْرُجُ مِنْهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَوْ صَحَّ هَذَا لَكَانَ جَابِرٌ رَافِعًا لِلْإِشْكَالِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ اُبْتُدِئَ بِنِيَّةِ تَقْوَى اللَّهِ، وَالْقَصْدِ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، فَهُوَ الَّذِي يَبْقَى، وَيَسْعَدُ بِهِ صَاحِبُهُ، وَيَصْعَدُ إلَى اللَّهِ وَيُرْفَعُ إلَيْهِ، وَيُخْبِرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَيُخْبِرُ عَنْهُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ} [الكهف: 46]. [الْآيَة الْحَادِيَة وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ] ْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111] {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 112]. فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُوِيَ «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اشْتَرِطْ لِرَبِّك وَلِنَفْسِك مَا شِئْت. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ. قَالَ: فَإِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ فَمَا لَنَا؟ قَالَ: الْجَنَّةُ. قَالَ: رَبِحَ الْبَيْعُ. قَالَ: لَا نُقِيلُ وَلَا نَسْتَقِيلُ فَنَزَلَتْ: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111]». وَهَذَا مِمَّا لَا يُوجَدُ صَحِيحًا.

مسألة معاملة السيد مع عبده

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «ذَهَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، وَذَهَبَ مَعَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: تَكَلَّمُوا يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، وَأَوْجِزُوا؛ فَإِنَّ عَلَيْنَا عُيُونًا قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَخَطَبَ أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ خُطْبَةً مَا خَطَبَ الْمُرْدُ وَلَا الشِّيبُ مِثْلَهَا قَطُّ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ اشْتَرِطْ لِرَبِّك، وَاشْتَرِطْ لِنَفْسِك، وَاشْتَرِطْ لِأَصْحَابِك. قَالَ: أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مَا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ، وَأَشْتَرِطُ لِأَصْحَابِي الْمُوَاسَاةَ فِي ذَاتِ أَيْدِيكُمْ. قَالُوا: هَذَا لَك، فَمَا لَنَا؟ قَالَ: الْجَنَّةُ. قَالَ: اُبْسُطْ يَدَك». وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَقْطُوعًا فَإِنَّ مَعْنَاهُ ثَابِتٌ مِنْ طُرُقٍ. [مَسْأَلَة مُعَامَلَةِ السَّيِّدِ مَعَ عَبْدِهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَوَازُ مُعَامَلَةِ السَّيِّدِ مَعَ عَبْدِهِ، وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ لِلسَّيِّدِ، لَكِنْ إذَا مَلَكَهُ وَعَامَلَهُ فِيمَا جُعِلَ إلَيْهِ وَتَاجَرَهُ بِمَا مَلَّكَهُ مِنْ مِلْكِهِ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ لِلَّهِ، وَالْعِبَادُ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لِلَّهِ، وَأَمَرَهُمْ بِإِتْلَافِهَا فِي طَاعَتِهِ، وَإِهْلَاكِهَا فِي مَرْضَاتِهِ، وَأَعْطَاهُمْ الْجَنَّةَ عِوَضًا عَنْهَا إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فِيهَا. وَهُوَ عِوَضٌ عَظِيمٌ، لَا يُدَانِيهِ مُعَوَّضٌ وَلَا يُقَاسُ بِهِ؛ وَلِهَذَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: " ثَامِنَهُمْ وَاَللَّهِ وَأَغْلَى الثَّمَنَ "، يُرِيدُ أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ أَكْثَرَ مِمَّا يَجِبُ لَهُمْ فِي حُكْمِ الْمُتَاجَرَةِ، وَلَمْ يَأْتِ الرِّبْحُ عَلَى مِقْدَارِ الشِّرَاءِ؛ بَلْ زَادَ عَلَيْهِ وَأَرْبَى. [مَسْأَلَة كَمَا أَنْ اللَّه اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْبَالِغِينَ الْمُكَلَّفِينَ كَذَلِكَ اشْتَرَى مِنْ الْأَطْفَالِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: كَمَا اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْبَالِغِينَ الْمُكَلَّفِينَ كَذَلِكَ اشْتَرَى مِنْ الْأَطْفَالِ، فَآلَمَهُمْ وَأَسْقَمَهُمْ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ، وَمَا فِيهِ مِنْ الِاعْتِبَارِ لِلْبَالِغِينَ، وَالثَّوَابِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْكَافِلَيْنِ فِيمَا يَنَالُهُمْ مِنْ الْهَمِّ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِمْ مِنْ التَّرْبِيَةِ وَالْكَفَالَةِ؛ وَهَذَا بَدِيعٌ فِي بَابِهِ مُوَافِقٌ لِمَا تَقَدَّمَ قَبْلَهُ؛ فَإِنَّ الْبَالِغَ يَمْشِي إلَى الْقَتْلِ مُخْتَارًا، وَالطِّفْلَ يَنَالُهُ الْأَلَمُ اقْتِسَارًا. [مَسْأَلَة الْجِهَادَ وَمُحَارَبَةَ الْأَعْدَاءِ إنَّمَا أَصْلُهُ مِنْ عَهْدِ مُوسَى] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة: 111]: إخْبَارٌ مِنْ اللَّهِ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ، وَقُلْنَا: إنَّ الْجِهَادَ وَمُحَارَبَةَ الْأَعْدَاءِ إنَّمَا أَصْلُهُ مِنْ عَهْدِ مُوسَى، فَسُبْحَانَ الْفَعَّالِ لِمَا يُرِيدُ.

مسألة العهد يتضمن الوفاء والوعد والوعيد

[مَسْأَلَة العهد يَتَضَمَّنُ الْوَفَاءَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة: 111]: الْعَهْدُ يَتَضَمَّنُ الْوَفَاءَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ، وَلَا بُدَّ مِنْ وَفَاءِ الْبَارِي تَعَالَى بِالْكُلِّ، فَأَمَّا وَعْدُهُ فَلِلْجَمِيعِ، وَأَمَّا وَعِيدُهُ فَمَخْصُوصٌ بِبَعْضِ الْمُذْنِبِينَ وَبِبَعْضِ الذُّنُوبِ، وَفِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، فَيَنْفُذُ كَذَلِكَ. وَقَدْ فَاتَ عُلَمَاءَنَا هَذَا الْمِقْدَارُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ. . [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى التَّائِبُونَ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: {التَّائِبُونَ} [التوبة: 112]: الرَّاجِعُونَ عَنْ الْحَالَةِ الْمَذْمُومَةِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ إلَى الْحَالَةِ الْمَحْمُودَةِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ. وَالْعَابِدُونَ: هُمْ الَّذِينَ قَصَدُوا بِطَاعَتِهِمْ وَجْهَهُ. وَالْحَامِدُونَ: هُمْ الرَّاضُونَ بِقَضَائِهِ، وَالْمُصَرِّفُونَ نِعْمَتَهُ فِي طَاعَتِهِ. وَالسَّائِحُونَ: هُمْ الصَّائِمُونَ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ، حَتَّى فَسَدَ الزَّمَانُ فَصَارَتْ السِّيَاحَةُ الْخُرُوجَ مِنْ الْأَرْضِ عَنْ الْخَلْقِ، لِعُمُومِ الْفَسَادِ وَغَلَبَةِ الْحَرَامِ، وَظُهُورِ الْمُنْكَرِ، وَلَوْ وَسِعَتْنِي الْأَرْضُ لَخَرَجْت فِيهَا، لَكِنَّ الْفَسَادَ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهَا، فَفِي كُلِّ وَادٍ بَنُو نَحْسٍ، فَعَلَيْك بِخُوَيْصَةِ نَفْسِك وَدَعْ أَمْرَ الْعَامَّةِ. الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ هُمْ الْقَائِمُونَ بِالْفَرْضِ مِنْ الصَّلَاةِ، الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنْكَرِ، الْمُغَيِّرُونَ لِلشِّرْكِ فَمَا دُونَهُ مِنْ الْمَعَاصِي، وَالْآمِرُونَ بِالْإِيمَانِ فَمَا دُونَهُ مِنْ الطَّاعَاتِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ شُرُوطِهِ. الْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ: خَاتِمَةُ الْبَيَانِ وَعُمُومُ الِاشْتِمَالِ لِكُلِّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ. وَقَوْلُهُ: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 112] بِثَوَابِي إذَا كَانُوا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، ثُمَّ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ فِي طَاعَتِي لِلْقَتْلِ؛ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ سِلْعَةً مَرْغُوبًا فِيهَا تَمْتَدُّ إلَيْهَا الْأَطْمَاعُ، وَتَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ التِّجَارَاتِ وَالْمَتَاعِ، فَأَمَّا نَفْسٌ لَا تَكُونُ هَكَذَا، وَلَا تَتَحَلَّى بِهَذِهِ الْحِلَى فَلَا يُبْذَلُ فِيهَا فَلْسٌ، فَكَيْفَ الْجَنَّةُ؟ لَكِنَّ مَنْ مَعَهُ أَصْلُ الْإِيمَانِ فَهُوَ مُبَشَّرٌ عَلَى قَدْرِهِ بِعَدَمِ الْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَمَنْ اسْتَوْفَى هَذِهِ الصِّفَاتِ فَلَهُ الْفَوْزُ قَطْعًا، وَمَنْ خَلَطَ فَلَا يَقْنَطْ وَلَا يَأْمَنْ، وَلْيُمْسِ تَائِبًا، وَيُصْبِحْ تَائِبًا، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَسَائِلًا لِلتَّوْبَةِ، فَإِنَّ سُؤَالَهَا دَرَجَةٌ عَظِيمَةٌ، حَتَّى يَمُنَّ اللَّهُ بِحُصُولِهَا. فَهَذِهِ سَبْعُ مَسَائِلَ تَمَامُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِي الْآيَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

الآية الثانية والأربعون قوله تعالى ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين

[الْآيَة الثَّانِيَة وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ] َ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113] {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114]. فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: الْأُولَى: ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «لَمَّا حَضَرَ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ فَقَالَ: يَا عَمِّ؛ قُلْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَك بِهَا عِنْدَ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَالَا يُكَلِّمَانِهِ حَتَّى قَالَ آخِرَ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ: أَنَا عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَك مَا لَمْ أُنْهَ عَنْك. فَنَزَلَتْ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [التوبة: 113] وَنَزَلَتْ: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]». الثَّانِي: رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اسْتَغْفَرَ إبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ، وَهُوَ مُشْرِكٌ، فَلَا أَزَالُ أَسْتَغْفِرُ لِأَبِي طَالِبٍ حَتَّى يَنْهَانِي عَنْهُ رَبِّي. فَقَالَ أَصْحَابُهُ: لَنَسْتَغْفِرَنَّ لِآبَائِنَا كَمَا اسْتَغْفَرَ النَّبِيُّ لِعَمِّهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [التوبة: 113] إلَى: {تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114]».

مسألة طلب المغفرة للمشركين

الثَّالِثَةُ: رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَتَى مَكَّةَ أَتَى رَضْمًا مِنْ حِجَارَةٍ أَوْ رَسْمًا أَوْ قَبْرًا، فَجَلَسَ إلَيْهِ، ثُمَّ قَامَ مُسْتَغْفِرًا. فَقَالَ: إنِّي اسْتَأْذَنْت رَبِّي فِي زِيَارَةِ قَبْرِ أُمِّي، فَأَذِنَ لِي، وَاسْتَأْذَنْته فِي الِاسْتِغْفَارِ لَهَا، فَلَمْ يَأْذَنْ لِي فَمَا رُئِيَ بَاكِيًا أَكْثَرَ مِنْ يَوْمَئِذٍ». وَرُوِيَ «أَنَّهُ وَقَفَ عِنْدَ قَبْرِهَا حَتَّى سَخِنَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ رَجَاءَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فَيَسْتَغْفِرَ لَهَا، حَتَّى نَزَلَتْ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} [التوبة: 113] إلَى قَوْلِهِ: {تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114]». الرَّابِعَةُ: رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ «أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنَّ مِنْ آبَائِنَا مَنْ كَانَ يُحْسِنُ الْجِوَارَ، وَيَصِلُ الْأَرْحَامَ، أَفَلَا نَسْتَغْفِرُ لَهُمْ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} [التوبة: 113]». الْخَامِسَةُ: رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «سَمِعْت رَجُلًا يَسْتَغْفِرُ لِأَبَوَيْهِ، فَقُلْت: تَسْتَغْفِرُ لَهُمَا، وَهُمَا مُشْرِكَانِ؟ فَقَالَ: أَوَلَمْ يَسْتَغْفِرْ إبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ، فَذَكَرْته لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلَتْ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} [التوبة: 113]». وَهَذِهِ أَضْعَفُ الرِّوَايَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [التوبة: 113]: دَلِيلٌ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ صَحِيحَةً، فَنَهَى اللَّهُ النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ الْأُولَى هِيَ الصَّحِيحَةَ وَيُخْبَرُ بِهِ عَمَّا فَعَلَ النَّبِيُّ، وَيُنْهَى الْمُؤْمِنُونَ أَنْ يَفْعَلُوا مِثْلَهُ، تَأْكِيدًا لِلْخَبَرِ؛ وَسَائِرُ الرِّوَايَاتِ مُحْتَمَلَاتٌ. [مَسْأَلَة طَلَب الْمَغْفِرَةِ لِلْمُشْرِكِينَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَنَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ لِلْمُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَدَّرَ أَلَّا تَكُونَ؛ وَأَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ، وَسُؤَالِ مَا قَدَّرَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ، وَأَخْبَرَ عَنْهُ هُنَا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ كَسَرُوا رُبَاعِيَّتَهُ، وَشَجُّوا وَجْهَهُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ». فَسَأَلَ الْمَغْفِرَةَ لَهُمْ.

مسألة القرابة الموجبة للشفقة

قُلْنَا: عَنْهُ أَرْبَعَةُ أَجْوِبَةٍ: الْأَوَّلُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ النَّهْيِ، وَجَاءَ النَّهْيُ بَعْدَهُ. الثَّانِي: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سُؤَالًا فِي إسْقَاطِ حَقِّهِ عِنْدَهُمْ، لَا لِسُؤَالِ إسْقَاطِ حُقُوقِ اللَّهِ، وَلِلْمَرْءِ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّهُ عِنْدَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَطْلُبَ الْمَغْفِرَةَ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ، مَرْجُوٌّ إيمَانُهُمْ، يُمْكِنُ تَأَلُّفُهُمْ بِالْقَوْلِ الْجَمِيلِ، وَتَرْغِيبُهُمْ فِي الدِّينِ بِالْعَفْوِ عَنْهُمْ. فَأَمَّا مَنْ مَاتَ فَقَدْ انْقَطَعَ مِنْهُ الرَّجَاءُ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَطْلُبَ لَهُمْ الْمَغْفِرَةَ فِي الدُّنْيَا بِرَفْعِ الْعُقُوبَةِ عَنْهُمْ حَتَّى إلَى الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]. [مَسْأَلَة الْقَرَابَةَ الْمُوجِبَةَ لِلشَّفَقَةِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113]: بَيَانٌ أَنَّ الْقَرَابَةَ الْمُوجِبَةَ لِلشَّفَقَةِ جِبِلَّةً، وَلِلصِّلَةِ مُرُوءَةً تَمْنَعُ مِنْ سُؤَالِ الْمَغْفِرَةِ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: هَذَا إنْ صَحَّ الْخَبَرُ، وَإِلَّا فَالصَّحِيحُ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ نَبِيًّا قَبْلَهُ شَجَّهُ قَوْمُهُ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُخْبِرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ». خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. [مَسْأَلَة اسْتِغْفَارَ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إبْرَاهِيمَ: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47] فَتَعَلَّقَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ فِي الِاسْتِغْفَارِ لِأَبِي طَالِبٍ، إمَّا اعْتِقَادًا، وَإِمَّا نُطْقًا بِذَلِكَ، كَمَا وَرَدَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ؟ فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ أَنَّ اسْتِغْفَارَ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ كَانَ عَنْ وَعْدٍ قَبْلَ تَبَيُّنِ الْكُفْرِ مِنْهُ؛ فَلَمَّا تَبَيَّنَ الْكُفْرَ مِنْهُ تَبَرَّأَ مِنْهُ، فَكَيْفَ تَسْتَغْفِرُ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ لِعَمِّك، وَقَدْ شَاهَدْت مَوْتَهُ كَافِرًا؟:

مسألة هل حال المرء عند الموت يحكم عليه به في الباطن

[مَسْأَلَة هَلْ حَالِ الْمَرْءِ عِنْدَ الْمَوْتِ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِهِ فِي الْبَاطِنِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: وَظَاهِرُ حَالِ الْمَرْءِ عِنْدَ الْمَوْتِ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِهِ فِي الْبَاطِنِ، فَإِنْ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ حُكِمَ لَهُ بِالْإِيمَانِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ حُكِمَ لَهُ بِالْكُفْرِ، وَرَبُّك أَعْلَمُ بِبَاطِنِ حَالِهِ، بَيْدَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ هَلْ نَفَعْت عَمَّك بِشَيْءٍ، فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُك وَيَحْمِيك؟ قَالَ: سَأَلْت رَبِّي لَهُ، فَجَعَلَهُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ النَّارِ تَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ، وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ». وَهَذِهِ شَفَاعَةٌ فِي تَخْفِيفِ الْعَذَابِ، وَهِيَ الشَّفَاعَةُ الثَّانِيَةُ، وَهَذَا هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ يَعْنِي بِمَوْتِهِ كَافِرًا تَبَرَّأَ مِنْهُ. وَقِيلَ: تَبَيَّنَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَقَدْ قَالَ عَطَاءٌ: مَا كُنْت لِأَمْتَنِعَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى أَمَةٍ حَبَشِيَّةٍ حُبْلَى مِنْ الزِّنَا، فَإِنِّي رَأَيْت اللَّهَ لَمْ يَحْجُبْ الصَّلَاةَ إلَّا عَنْ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113]. وَصَدَقَ عَطَاءٌ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمَغْفِرَةَ جَائِزَةٌ لِكُلِّ مُذْنِبٍ؛ فَالصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ حَسَنَةٌ؛ وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ الصَّلَاةَ عَلَى الْعُصَاةِ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ؛ فَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا مَا لَا جَوَابَ لَهُمْ عَنْهُ. . [الْآيَة الثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ] ِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ:

مسألة معنى قوله تعالى في ساعة العسرة

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَى النَّبِيِّ رَدُّهُ مِنْ حَالَةِ الْغَفْلَةِ إلَى حَالَةِ الذِّكْرِ، وَتَوْبَةُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ رُجُوعُهُمْ مِنْ حَالَةِ الْمَعْصِيَةِ إلَى حَالَةِ الطَّاعَةِ، وَانْتِقَالُهُمْ مِنْ حَالَةِ الْكَسَلِ إلَى حَالَةِ النَّشَاطِ، وَخُرُوجُهُمْ عَنْ صِفَةِ الْإِقَامَةِ وَالْقُعُودِ إلَى حَالَةِ السَّفَرِ وَالْجِهَادِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَتَوْبَةُ اللَّهِ تَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: دُعَاؤُهُ إلَى التَّوْبَةِ، يُقَالُ: تَابَ اللَّهُ عَلَى فُلَانٍ، أَيْ دَعَاهُ، وَيُقَالُ: تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ: يَسَّرَهُ لِلتَّوْبَةِ، وَقَدْ يَكُونُ خَبَرًا، وَقَدْ يَكُونُ دُعَاءً. وَيُقَالُ: تَابَ عَلَيْهِ: ثَبَّتَهُ عَلَيْهَا، وَيُقَالُ: تَابَ عَلَيْهِ: قَبِلَ تَوْبَتَهُ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ صَحِيحٌ، وَقَدْ جَمَعَ لِهَؤُلَاءِ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَيَفْتَرِقُ فِي سَائِرِ النَّاسِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يَدْعُوهُ إلَى التَّوْبَةِ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ وَلَا يُيَسِّرُهَا لَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَدْعُوهُ إلَيْهَا وَيُيَسِّرُهَا وَلَا يُدِيمُهَا، فَإِنْ دَامَتْ إلَى الْمَوْتِ فَهِيَ مَقْبُولَةٌ قَطْعًا. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى {فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة: 117]: يَعْنِي جَيْشَ تَبُوكَ؛ خَرَجَ النَّاسُ إلَيْهَا فِي جَهْدٍ وَحَرٍّ وَرِجْلَةٍ وَعُرْيٍ وَحَفَاءٍ، حَتَّى لَقَدْ رُوِيَ فِي قَوْلِهِ: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91]. {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة: 92] أَنَّهُمْ طَلَبُوا نِعَالًا. وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا يَزَالُ الرَّجُلُ رَاكِبًا مَا انْتَعَلَ». [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} [التوبة: 117]: أَمَّا هَذَا فَلَيْسَ لِلنَّبِيِّ فِيهِ مَدْخَلٌ بِاتِّفَاقٍ مِنْ الْمُوَحِّدِينَ، أَمَّا أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إنَّهُ يَدْخُلُ فِي التَّوْبَةِ مِنْ إذْنِهِ لِلْمُنَافِقِينَ فِي التَّخَلُّفِ فَعَذَرَهُ اللَّهُ فِي إذْنِهِ لَهُمْ، وَتَابَ عَلَيْهِ وَعَذَرَهُ، وَبَيَّنَ لِلْمُؤْمِنِينَ صَوَابَ فِعْلِهِ بِقَوْلِهِ: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا} [التوبة: 47] إلَى: {الْفِتْنَةَ} [التوبة: 47].

الآية الرابعة والأربعون قوله تعالى وعلى الثلاثة الذين خلفوا

وَأَمَّا غَيْرُ النَّبِيِّ فَكَادَ تَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ بِبَقَائِهِمْ بَعْدَهُ، كَأَبِي حَثْمَةَ وَغَيْرِهِ، بِإِرَادَتِهِمْ الرُّجُوعَ مِنْ الطَّرِيقِ حِينَ أَصَابَهُمْ الْجَهْدُ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمْ الْعَطَشُ، حَتَّى نَحَرُوا إبِلَهُمْ، وَعَصَرُوا كُرُوشَهَا، فَاسْتَسْقَى رَسُولُ اللَّهِ، فَنَزَلَ الْمَطَرُ؛ وَلِهَذَا جَازَ لِلْإِمَامِ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يَأْذَنَ لِمَنْ اعْتَذَرَ إلَيْهِ أَخْذًا بِظَاهِرِ الْحَالِ، وَرِفْقًا بِالْخَلْقِ، اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [الْآيَة الرَّابِعَة وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا] حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 118]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ حِينَ طَابَتْ الثِّمَارُ، وَبَرَدَ الظِّلَالُ، وَخَرَجَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، وَهِيَ الْعُسْرَةُ الَّتِي افْتَضَحَ فِيهَا النَّاسُ، وَكَانَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ قَدْ تَخَلَّفَ، وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَآخَرُ مِنْ بَنِي وَاقِدٍ. وَخَرَجَ رَجُلٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَسْقِي وَدِيًّا لَهُ، فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ لَك بِسَقْيِ وَدِيِّك هَذَا، فَقَالَ: الْغَزْوُ خَيْرٌ مِنْ الْوَدِيِّ، فَرَجَعَ، وَقَدْ أَصْلَحَ اللَّهُ وَدِيَّهُ، فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ هَجَرُوا كَعْبًا وَصَاحِبَيْهِ، وَلَمْ يَعْتَذِرُوا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاعْتَذَرَ غَيْرُهُمْ. قَالَ: فَأَقَامَ كَعْبٌ وَصَاحِبَاهُ لَمْ يُكَلِّمْهُمْ أَحَدٌ، وَكَانَ كَعْبٌ يَدْخُلُ عَلَى الرَّجُلِ فِي الْحَائِطِ، فَيَقُولُ لَهُ: أَنْشُدُك اللَّهَ، أَتَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ فَيَقُولُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ هُمْ: كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَمُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ. كَمَا تَقَدَّمَ.

«لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ مَقْفِلَهُ مِنْ تَبُوكَ، وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ جَاءَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ يَعْتَذِرُونَ إلَيْهِ، وَهُمْ ثَمَانُونَ رَجُلًا، فَقَبِلَ النَّبِيُّ ظَاهِرَ حَالِهِمْ، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إلَى اللَّهِ، إلَّا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ، فَإِنَّهُمْ صَدَقُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». «قَالَ كَعْبٌ فِي حَدِيثِهِ: حَتَّى جِئْت فَسَلَّمْت عَلَيْهِ، فَتَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ، ثُمَّ قَالَ لِي: تَعَالَ فَجِئْت أَمْشِي حَتَّى جَلَسْت بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقُلْت لَهُ: وَاَللَّهِ مَا كَانَ لِي عُذْرٌ. فَقَالَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ، حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيك. قَالَ كَعْبٌ: وَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كَلَامِنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةَ، مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ، قَالَ: فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ، أَوْ قَالَ: تَغَيَّرُوا لَنَا حَتَّى تَنَكَّرَتْ لِي نَفْسِي، وَالْأَرْضُ حَتَّى مَا هِيَ بِالْأَرْضِ الَّتِي كُنْت أَعْرِفُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَمَا النَّاسُ بِالنَّاسِ الَّذِينَ عَهِدْتُهُمْ ... وَلَا الْأَرْضُ بِالْأَرْضِ الَّتِي كُنْت أَعْرِفُ وَسَاقَ الْحَدِيثَ إلَى قَوْلِهِ: وَصَلَّيْت الصُّبْحَ صَبِيحَةَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، وَأَنَا كَمَا قَالَ اللَّهُ: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} [التوبة: 118]. إذَا صَارِخٌ يَصْرُخُ أَوْفَى عَلَى ظَهْرِ جَبَلِ سَلْعٍ يَقُولُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: أَبْشِرْ يَا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، أَبْشِرْ، فَخَرَرْت سَاجِدًا» وَسَاقَ الْحَدِيثَ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعَاقِبَ الْمُذْنِبَ بِتَحْرِيمِ كَلَامِهِ عَلَى النَّاسِ أَدَبًا لَهُ، وَهَكَذَا فِي الْإِنْجِيلِ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَعَلَى تَحْرِيمِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَالْحَدِيثُ مُطَوَّلٌ، وَفِيهِ فِقْهٌ كَثِيرٌ قَدْ أَوْرَدْنَاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ عَلَيْكُمْ، وَاَللَّهُ يَنْفَعُنَا وَإِيَّاكُمْ.

الآية الخامسة والأربعون قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين

[الْآيَة الْخَامِسَة وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ] َ} [التوبة: 119]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ الصَّادِقِينَ: وَفِيهِ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ الَّذِينَ اسْتَوَتْ ظَوَاهِرُهُمْ وَبَوَاطِنُهُمْ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [البقرة: 177] إلَى قَوْله تَعَالَى {الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ الْمُهَاجِرُونَ؛ وَقَدْ رُوِيَ كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لِلْأَنْصَارِ يَوْمَ سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ: إنَّ اللَّهَ سَمَّانَا الصَّادِقِينَ؛ فَقَالَ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8] إلَى قَوْله تَعَالَى {هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8] ثُمَّ سَمَّاكُمْ الْمُفْلِحِينَ، فَقَالَ: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ} [الحشر: 9]. وَقَدْ أَمَرَكُمْ اللَّهُ أَنْ تَكُونُوا مَعَنَا حَيْثُ كُنَّا، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]. الرَّابِعُ: أَنَّ الصَّادِقِينَ هُمْ الْمُسْلِمُونَ، وَالْمُخَاطَبُونَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. الْخَامِسُ: الصَّادِقُونَ هُمْ الْمُوفُونَ بِمَا عَاهَدُوا، وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]. السَّادِسُ: هُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ؛ أَوْ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ، وَهُوَ السَّابِعُ. الثَّامِنُ: هُمْ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ خُلِّفُوا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَحْقِيقِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ: أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ الْحَقِيقَةُ وَالْغَايَةُ الَّتِي إلَيْهَا الْمُنْتَهَى فِي هَذِهِ الصِّفَةِ، وَبِهَا يَرْتَفِعُ النِّفَاقُ

مسألة حقيقة التقوى

فِي الْعَقِيدَةِ، وَالْمُخَالَفَةُ فِي الْفِعْلِ، وَصَاحِبُهَا يُقَالُ لَهُ صِدِّيقٌ، وَهِيَ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَمَنْ دُونَهُمَا عَلَى مَنَازِلِهِمْ وَأَزْمَانِهِمْ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِالثَّانِي: فَهُوَ مُعْظَمُ الصِّدْقِ، وَمَنْ أَتَى الْمُعَظَّمَ فَيُوشِكُ أَنْ يَتْبَعَهُ الْأَقَلُّ، وَهُوَ مَعْنَى الْخَامِسِ؛ لِأَنَّهُ بَعْضُهُ، وَقَدْ دَخَلَ فِيهِ ذِكْرُهُ. وَأَمَّا تَفْسِيرُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ: فَهُوَ الَّذِي يَعُمُّ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الصِّفَاتِ مَوْجُودَةٌ فِيهِمْ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الرَّابِعُ: فَصَحِيحٌ وَهُوَ بَعْضُهُ أَيْضًا، وَيَكُونُ الْمُخَاطَبُ أَهْلَ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ. وَالسَّادِسُ: تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ. وَالسَّابِعُ: يَكُونُ الْمُخَاطَبُ الثَّمَانِينَ رَجُلًا الَّذِينَ تَخَلَّفُوا وَاعْتَذَرُوا وَكَذَبُوا، أُمِرُوا أَنْ يَكُونُوا مَعَ الثَّلَاثَةِ الصَّادِقِينَ؛ وَيَدْخُلُ هَذَا فِي جُمْلَةِ الصِّدْقِ. [مَسْأَلَة حَقِيقَةُ التَّقْوَى] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [التوبة: 119]: قَدْ تَقَدَّمَتْ حَقِيقَةُ التَّقْوَى، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ هَاهُنَا فِيهَا قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اخْتَلَقُوا الْكَذِبَ. وَالثَّانِي: فِي تَرْكِ الْجِهَادِ، وَهُمَا بَعْضُ التَّقْوَى، وَالصَّحِيحُ عُمُومُهَا. [مَسْأَلَة خَبَرُ الْكَاذِبِ وشَهَادَته] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْكَاذِبِ وَلَا شَهَادَتُهُ. قَالَ مَالِكٌ: لَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْكَاذِبِ فِي حَدِيثِ النَّاسِ وَإِنْ صَدَقَ فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ غَيْرُهُ: يُقْبَلُ حَدِيثُهُ، وَالْقَبُولُ فِيهِ مَرْتَبَةٌ عَظِيمَةٌ، وَوِلَايَةٌ لَا تَكُونُ إلَّا لِمَنْ كَرُمَتْ خِصَالُهُ، وَلَا خَصْلَةَ هِيَ أَشَرُّ مِنْ الْكَذِبِ، فَهِيَ تَعْزِلُ الْوِلَايَاتِ، وَتُبْطِلُ الشَّهَادَاتِ.

الآية السادسة والأربعون قوله تعالى ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب

[الْآيَة السَّادِسَة وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ الْأَعْرَابِ] الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120] {وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: 121]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ} [التوبة: 120]: أَيْ مَا كَانَ لِهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ أَنْ يَتَخَلَّفُوا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُمْ لَمْ يُسْتَنْفَرُوا، وَإِنَّمَا كَانَ النَّفِيرُ مِنْهُمْ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِنْفَارُ فِي كُلِّ مُسْلِمٍ، وَخَصَّ هَؤُلَاءِ بِالْعِتَابِ لِقُرْبِهِمْ وَجِوَارِهِمْ، وَأَنَّهُمْ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ. [مَسْأَلَة الْغَنِيمَةَ تُسْتَحَقُّ بِالْإِدْرَابِ وَالْكَوْنِ فِي بِلَادِ الْعَدُوِّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ} [التوبة: 120]: دَلِيلٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا عَلَى أَنَّ الْغَنِيمَةَ تُسْتَحَقُّ بِالْإِدْرَابِ وَالْكَوْنِ فِي بِلَادِ الْعَدُوِّ؛ فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ سَهْمُهُ؛ وَهُوَ قَوْلُ أَشْهَبَ، وَعَبْدِ الْمَلِكِ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَابْنُ الْقَاسِمِ: لَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ إنَّمَا كَتَبَ لَهُ بِالْآخِرَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ السَّهْمَ. وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [مَسْأَلَة لِلْمَعْذُورِ مِنْ الْأَجْرِ مَا أَعْطَى لِلْقَوِيِّ الْعَامِلِ بِفَضْلِهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلا كُتِبَ لَهُمْ} [التوبة: 121]: يَعْنِي كُتِبَ لَهُمْ ثَوَابُهُ. وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْمُجَاهِدِ: إنَّ أَرْوَاثَ دَوَابِّهِ وَأَبْوَالَهَا حَسَنَاتٌ، وَرَعْيَهَا حَسَنَاتٌ، وَقَدْ زَادَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ فَضْلِهِ. فَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ بِعَيْنِهَا: «إنَّ بِالْمَدِينَةِ قَوْمًا مَا سَلَكْتُمْ

الآية السابعة والأربعون قوله تعالى وما كان المؤمنون لينفروا كافة

وَادِيًا، وَلَا قَطَعْتُمْ شِعْبًا إلَّا وَهُمْ مَعَكُمْ، حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ»؛ فَأَعْطَى لِلْمَعْذُورِ مِنْ الْأَجْرِ مَا أَعْطَى لِلْقَوِيِّ الْعَامِلِ بِفَضْلِهِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّمَا يَكُونُ لَهُ الْأَجْرُ غَيْرَ مُضَاعَفٍ، وَيُضَاعَفُ لِلْعَامِلِ الْمُبَاشِرِ. وَهَذَا تَحَكُّمٌ عَلَى اللَّهِ، وَتَضْيِيقٌ لِسَعَةِ رَحْمَتِهِ؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ. وَلِذَلِكَ قَدْ رَابَ بَعْضُ النَّاسِ فِيهِ، فَقَالَ أَنْتُمْ تُعْطَوْنَ الثَّوَابَ مُضَاعَفًا قَطْعًا، وَنَحْنُ لَا نَقْطَعُ بِالتَّضْعِيفِ فِي مَوْضِعٍ فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مِقْدَارِ النِّيَّاتِ، وَهُوَ أَمْرٌ مُغَيَّبٌ، وَاَلَّذِي يَقْطَعُ بِهِ أَنَّ هُنَالِكَ تَضْعِيفًا، وَرَبُّك أَعْلَمُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّهُ، وَهَذَا كُلُّهُ وَصْفُ الْعَامِلِينَ الْمُجَاهِدِينَ، وَحَالُ الْقَاعِدِينَ التَّائِبِينَ، وَلَمَّا ذَكَرَ الْمُتَخَلِّفِينَ الْمُعْتَذِرِينَ بِالْبَاطِلِ قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: ذَكَرُوا فِي بِشْرٍ مَا ذُكِرَ بِهِ أَحَدٌ، فَقَالَ: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ} [التوبة: 94]. [الْآيَة السَّابِعَة وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً] ً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: وَفِيهَا أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ جِمَاعُهَا أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ أَرْسَلَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُعَلِّمُوا النَّاسَ الْقُرْآنَ وَالْإِسْلَامَ، فَلَمَّا نَزَلَ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ رَجَعَ أُولَئِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عُذْرَهُمْ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ: هَلَّا جَاءَ بَعْضُهُمْ وَبَقِيَ عَلَى التَّعْلِيمِ الْبَعْضُ.

الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ مَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا جَمِيعًا، وَيَتْرُكُوا نَبِيَّهُمْ، وَلَكِنْ يَخْرُجُ بَعْضُهُمْ، وَيَبْقَى الْبَعْضُ فِيمَا يَنْزِلُ مِنْ الْقُرْآنِ، وَيَجْرِي مِنْ الْعِلْمِ وَالْأَحْكَامِ، يُعَلِّمُهُ الْمُتَخَلِّفَ لِلسَّارِي عِنْدَ رُجُوعِهِ، وَقَالَهُ قَتَادَةُ. الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: إنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْجِهَادِ، وَلَكِنْ لَمَّا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مُضَرَ بِالسِّنِينَ أَجْدَبَتْ بِلَادُهُمْ، فَكَانَتْ الْقَبِيلَةُ مِنْهُمْ تُقْبِلُ بِأَسْرِهَا حَتَّى يَحُلُّوا بِالْمَدِينَةِ مِنْ الْجَهْدِ، وَيَعْتَلُّوا بِالْإِسْلَامِ وَهُمْ كَاذِبُونَ، فَضَيَّقُوا عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَجْهَدُوهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ يُخْبِرُ رَسُولَهُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ، فَرَدَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى عَشَائِرِهِمْ، وَحَذَّرَ قَوْمَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا فِعْلَهُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} [التوبة: 122]. الرَّابِعُ: رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: نَسَخَتْهَا: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} [التوبة: 41]. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَحْرِيرِ الْأَقْوَالِ: أَمَّا نَسْخُ بَعْضِ هَذِهِ لِبَعْضٍ فَيَفْتَقِرُ إلَى مَعْرِفَةِ التَّارِيخِ فِيهَا. وَأَمَّا الظَّاهِرُ فَنَسْخُ الِاسْتِنْفَارِ الْعَامِّ؛ لِأَنَّهُ الطَّارِئُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَغْزُو فِي فِئَامٍ مِنْ النَّاسِ، وَلَمْ يَسْتَوْفِ قَطُّ جَمِيعَ النَّاسِ، إلَّا فِي غَزْوَةِ الْعُسْرَةِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْخُرُوجَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ لَا يَلْزَمُ الْأَعْيَانَ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الْكِفَايَةِ. قَالَ الْقَاضِي: إنَّمَا يَقْتَضِي ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْحَثَّ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ وَالنَّدْبَ إلَيْهِ دُونَ الْإِلْزَامِ وَالْوُجُوبِ، وَاسْتِحْبَابَ الرِّحْلَةِ فِيهِ وَفَضْلَهَا. فَأَمَّا الْوُجُوبُ فَلَيْسَ فِي قُوَّةِ الْكَلَامِ؛ وَإِنَّمَا لَزِمَ طَلَبُ الْعِلْمِ بِأَدِلَّتِهِ؛ فَأَمَّا مَعْرِفَةُ اللَّهِ فَبِأَوَامِرِ الْقُرْآنِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ. وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الرَّسُولِ فَلِوُجُوبِ الْأَمْرِ بِالتَّصْدِيقِ بِهِ، وَلَا يَصِحُّ التَّصْدِيقُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ.

مسألة العمل بخبر الواحد

وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الْوَظَائِفِ فَلِأَنَّ مَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ ثَبَتَ وُجُوبُ الْعِلْمِ بِهِ لِاسْتِحَالَةِ أَدَائِهَا إلَّا بِعِلْمٍ، ثُمَّ يَنْشَأُ عَلَى هَذَا أَنَّ الْمَزِيدَ عَلَى الْوَظَائِفِ مِمَّا فِيهِ الْقِيَامُ بِوَظَائِفِ الشَّرِيعَةِ كَتَحْصِينِ الْحُقُوقِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ، وَالْفَصْلِ بَيْنَ الْخُصُومِ وَنَحْوِهِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ؛ إذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَعْلَمَهُ جَمِيعُ النَّاسِ، فَتَضِيعَ أَحْوَالُهُمْ وَأَحْوَالُ سِوَاهُمْ، وَيَنْقُصَ أَوْ يَبْطُلَ مَعَاشُهُمْ، فَتَعَيَّنَ بَيْنَ الْحَالَيْنِ أَنْ يَقُومَ بِهِ الْبَعْضُ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يُيَسِّرُ اللَّهُ الْعِبَادَ لَهُ، وَيُقَسِّمُهُ بَيْنَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ بِسَابِقِ قُدْرَتِهِ وَكَلِمَتِهِ، وَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. [مَسْأَلَة الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الطَّائِفَةُ: فِي اللُّغَةِ: الْجَمَاعَةُ. قِيلَ: وَيَنْطَلِقُ عَلَى الْوَاحِدِ عَلَى مَعْنَى نَفْسِ طَائِفَةٍ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَشْهَرُ، فَإِنَّ الْهَاءَ فِي مِثْلِ هَذَا إنَّمَا هِيَ لِلْكَثْرَةِ، كَمَا يُقَالُ رَاوِيَةٌ، وَإِنْ كَانَ يَأْتِي بِغَيْرِهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ هَاهُنَا جَمَاعَةٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَقْلًا وَالْآخَرُ لُغَةً: أَمَّا الْعَقْلُ: فَلِأَنَّ تَحْصِيلَ الْعِلْمِ لَا يَتَحَصَّلُ بِوَاحِدٍ فِي الْغَالِبِ. وَأَمَّا اللُّغَةُ: فَلِقَوْلِهِ: {لِيَتَفَقَّهُوا} [التوبة: 122] {وَلِيُنْذِرُوا} [التوبة: 122]؛ فَجَاءَ بِضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ. وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ قَبْلَهُ، يَرَوْنَ أَنَّ الطَّائِفَةَ هَاهُنَا وَاحِدٌ. وَيَعْتَضِدُونَ فِيهِ بِالدَّلِيلِ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. وَهُوَ صَحِيحٌ لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الطَّائِفَةَ تَنْطَلِقُ عَلَى الْوَاحِدِ، وَلَكِنْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ خَبَرَ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ أَوْ الْأَشْخَاصِ خَبَرٌ وَاحِدٌ، وَأَنَّ مُقَابِلَهُ وَهُوَ التَّوَاتُرُ لَا يَنْحَصِرُ بِعَدَدٍ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَهَذِهِ إشَارَتُهُ. [الْآيَة الثَّامِنَة وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ] ِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 123].

الآية التاسعة والأربعون وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا

قَدْ قَدَّمْنَا الْإِشَارَةَ إلَى أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِأَوَامِرَ مُتَعَدِّدَةٍ مُخْتَلِفَةِ الْمُتَعَلِّقَاتِ، فَقَالَ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة: 29]. وَقَالَ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]. وَقَالَ: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36]. وَقَالَ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ} [التوبة: 123]. وَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ مُنَاسِبٌ، وَالْمَقْصُودُ قِتَالُ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ، وَقِتَالُ الْكُفَّارِ أَيْنَمَا وُجِدُوا، وَقِتَالُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ جُمْلَتِهِمْ، وَهُمْ الرُّومُ، وَبَعْضُ الْحُبْشَانِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَكَيَّفُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِالِابْتِدَاءِ مِمَّنْ يَلِي، فَيُقَاتِلُ كُلُّ وَاحِدٍ مَنْ يَلِيهِ، وَيَتَّفِقُ أَنْ يَبْدَأَ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ بِالْأَهَمِّ مِمَّنْ يَلِيهِمْ، أَوْ الَّذِينَ يُتَيَقَّنُ الظَّفَرُ بِهِمْ. وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ بِمَنْ نَبْدَأُ بِالرُّومِ أَوْ بِالدَّيْلَمِ؟ فَقَالَ: بِالرُّومِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي الْأَثَرِ: " اُتْرُكُوا الرَّابِضِينَ مَا تَرَكُوكُمْ " يَعْنِي الرُّومَ وَالْحَبَشَ. وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ أَصَحُّ، وَبُدَاءَتُهُ بِالرُّومِ قَبْلَ الدَّيْلَمِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ؛ فَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ أَكْثَرُ وَآكَدُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ إلَيْنَا أَقْرَبُ، أَعْنِي أَهْلَ الْمَدِينَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ بِلَادَ الْأَنْبِيَاءِ فِي بِلَادِهِمْ أَكْثَرُ، فَاسْتِنْقَاذُهَا مِنْهُمْ أَوْجَبُ. [الْآيَة التَّاسِعَة وَالْأَرْبَعُونَ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانًا] الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124]. قَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ، وَاسْتِيفَاؤُهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ.

الآية الموفية خمسين قوله تعالى وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض

[الْآيَة الْمُوفِيَة خَمْسِينَ قَوْله تَعَالَى وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ] ٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 127]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} [التوبة: 127]: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فِيهَا فَضِيحَتُهُمْ، أَوْ فَضِيحَةُ أَحَدٍ مِنْهُمْ جَعَلَ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ، يَقُولُ: هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ إذَا تَكَلَّمْتُمْ بِهَذَا فَيَنْقُلُهُ إلَى مُحَمَّدٍ؟ وَذَلِكَ جَهْلٌ مِنْهُمْ بِنُبُوَّتِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ يُطْلِعُهُ عَلَى مَا شَاءَ مِنْ غَيْبِهِ. الثَّانِي: إذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فِيهَا الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ نَظَرَ الرُّعْبِ، وَأَرَادُوا الْقِيَامَ عَنْهُ، لِئَلَّا يَسْمَعُوا ذَلِكَ، يَقُولُونَ: هَلْ يَرَاكُمْ إذَا انْصَرَفْتُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ ثُمَّ يَقُومُونَ وَيَنْصَرِفُونَ، صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ. [مَسْأَلَة هَلْ يَصِحّ أَنْ يُقَال انْصَرَفْنَا مِنْ الصَّلَاةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُكْرَهُ أَنْ يُقَالَ انْصَرَفْنَا مِنْ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ قَوْمًا انْصَرَفُوا فَصَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَلَكِنْ قُولُوا قَضَيْنَا الصَّلَاةَ. وَهَذَا كَلَامٌ فِيهِ نَظَرٌ، وَمَا أَظُنُّهُ يَصِحُّ عَنْهُ، فَإِنَّ نِظَامَ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: لَا يَقُلْ أَحَدٌ انْصَرَفْنَا مِنْ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ قَوْمًا قِيلَ فِيهِمْ: ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ مَقُولًا فِيهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ. وَقَدْ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ الْبُسْتِيُّ الْوَاعِظُ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ الْجَوْهَرِيُّ سَمَاعًا عَلَيْهِ، يَقُولُ: كُنَّا فِي جِنَازَةٍ، فَقَالَ الْمُنْذِرُ بِهَا: انْصَرِفُوا رَحِمَكُمْ اللَّهُ فَقَالَ: لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ انْصَرِفُوا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي قَوْمٍ ذَمَّهُمْ: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [التوبة: 127] وَلَكِنْ قُولُوا: انْقَلِبُوا رَحِمَكُمْ اللَّهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي قَوْمٍ مَدَحَهُمْ: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران: 174].

مسألة معنى قوله تعالى صرف الله قلوبهم

[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [التوبة: 127]: إخْبَارٌ عَنْ أَنَّهُ صَارِفُ الْقُلُوبِ وَمُصَرِّفُهَا وَقَالِبُهَا وَمُقَلِّبُهَا رَدًّا عَلَى الْقَدَرِيَّةِ فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ قُلُوبَ الْخَلْقِ بِأَيْدِيهِمْ وَجَوَارِحَهُمْ بِحُكْمِهِمْ، يَتَصَرَّفُونَ بِمَشِيئَتِهِمْ، وَيَحْكُمُونَ بِإِرَادَتِهِمْ، وَاخْتِيَارِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ أَشْهَبُ: مَا أَبْيَنَ هَذَا فِي الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْقَدَرِ: {لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 110]. وقَوْله تَعَالَى لِنُوحٍ: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36]. فَهَذَا لَا يَكُونُ أَبَدًا وَلَا يَرْجِعُ وَلَا يُزَالُ. [الْآيَة الْحَادِيَة وَالْخَمْسُونَ قَوْله تَعَالَى لقد جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ] ِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]. فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي ثُبُوتِهَا: اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ عَظِيمَةُ الْقَدْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّافِضَةَ كَادَتْ الْإِسْلَامَ بِآيَاتٍ وَحُرُوفٍ نَسَبَتْهَا إلَى الْقُرْآنِ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي بَصِيرَةٍ أَنَّهَا مِنْ الْبُهْتَانِ الَّذِي نَزَغَ بِهِ الشَّيْطَانُ، وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ نَقَلُوهَا وَأَظْهَرُوهَا حِينَ كَتَمْنَاهَا نَحْنُ، وَقَالُوا: إنَّ الْوَاحِدَ يَكْفِي فِي نَقْلِ الْآيَةِ وَالْحُرُوفِ كَمَا فَعَلْتُمْ، فَإِنَّكُمْ أَثْبَتُّمْ آيَةً بِقَوْلِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128]؛ وَقَوْلُهُ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]. قُلْنَا: إنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِنَقْلِ التَّوَاتُرِ، بِخِلَافِ السُّنَّةِ فَإِنَّهَا تَثْبُتُ بِنَقْلِ الْآحَادِ. وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشَّاهِدَةُ بِصِدْقِهِ، الدَّالَّةُ عَلَى نُبُوَّتِهِ، فَأَبْقَاهَا اللَّهُ عَلَى أُمَّتِهِ، وَتَوَلَّى حِفْظَهَا بِفَضْلِهِ، حَتَّى لَا يُزَادَ فِيهَا وَلَا يُنْقَصَ مِنْهَا. وَالْمُعْجِزَاتُ إمَّا أَنْ تَكُونَ مُعَايَنَةً إنْ كَانَتْ فِعْلًا، وَإِمَّا أَنْ تَثْبُتَ تَوَاتُرًا إنْ كَانَتْ قَوْلًا، لِيَقَعَ الْعِلْمُ بِهَا، أَوْ تُنْقَلَ صُورَةُ الْفِعْلِ فِيهَا أَيْضًا نَقْلًا مُتَوَاتِرًا حَتَّى يَقَعَ الْعِلْمُ بِهَا، كَأَنَّ السَّامِعَ لَهَا

مسألة جمع القرآن

قَدْ شَاهَدَهَا، حَتَّى تَنْبَنِيَ الرِّسَالَةُ عَلَى أَمْرٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، بِخِلَافِ السُّنَّةِ؛ فَإِنَّ الْأَحْكَامَ يُعْمَلُ فِيهَا عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ؛ إذْ لَيْسَ فِيهَا مَعْنًى أَكْثَرُ مِنْ التَّعَبُّدِ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرْسِلُ كُتُبَهُ مَعَ الْوَاحِدِ، وَيَأْمُرُ الْوَاحِدَ أَيْضًا بِتَبْلِيغِ كَلَامِهِ، وَيَبْعَثُ الْأُمَرَاءَ إلَى الْبِلَادِ وَعَلَى السَّرَايَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَوْ وَقَفَ فِيهَا عَلَى التَّوَاتُرِ لَمَا حَصَلَ عِلْمٌ، وَلَا تَمَّ حُكْمٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَالدِّينِ. [مَسْأَلَة جَمْعِ الْقُرْآن] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِيمَا رُوِيَ فِيهَا: ثَبَتَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ: أَرْسَلَ إلَيَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عِنْدَهُ، فَقَالَ: إنَّ الْقِتَالَ قَدْ اسْتَحَرَّ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا، فَيَذْهَبَ قُرْآنٌ كَثِيرٌ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْمَعَ الْقُرْآنَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ: كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ عُمَرُ: هُوَ وَاَللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ يُرَاجِعُنِي فِي ذَلِكَ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ عُمَرَ، وَرَأَيْت فِيهِ الَّذِي رَأَى. قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنَّك شَابٌّ عَاقِلٌ لَا نَتَّهِمُك، قَدْ كُنْت تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ، فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ. قَالَ: فَوَاَللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِنْ ذَلِكَ. قُلْت: كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ وَاَللَّهِ خَيْرٌ. فَلَمْ يَزَلْ يُرَاجِعُنِي فِي ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. فَتَتَبَّعْت الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنْ الرِّقَاعِ وَالْعُسُبِ، وَذَكَرَ كَلِمَةً مُشْكِلَةً تَرَكْنَاهَا. قَالَ زَيْدٌ: فَوَجَدْت آخِرَ بَرَاءَةٍ مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] إلَى: الْعَظِيمِ انْتَهَى الْحَدِيثُ.

فَبَقِيَتْ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ تَنَاوَلَهَا بَعْدَهُ عُمَرُ، ثُمَّ صَارَتْ عِنْدَ حَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ عُثْمَانَ حَسْبَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ قَدِمَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ عَلَى عُثْمَانَ، وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّامِ فِي فَتْحِ أَرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَرَأَى حُذَيْفَةُ اخْتِلَافَهُمْ فِي الْقُرْآنِ، فَقَالَ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَدْرِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ، كَمَا اخْتَلَفَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. فَأَرْسَلَ إلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِي إلَيْنَا بِالصُّحُفِ فَنَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ، ثُمَّ نَرُدُّهَا إلَيْكِ. فَأَرْسَلَتْ حَفْصَةُ إلَى عُثْمَانَ بِالصُّحُفِ، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنْ انْسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ. وَقَالَ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلَاثَةِ: إذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ، حَتَّى إذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ بَعَثَ عُثْمَانُ إلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِنْ تِلْكَ الْمَصَاحِفِ الَّتِي نَسَخُوا. قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَحَدَّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ: فَقَدْت آيَةً مِنْ سُورَةٍ كُنْت أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَؤُهَا: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} [الأحزاب: 23] فَالْتَمَسْتهَا فَوَجَدْتهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ أَوْ أَبِي خُزَيْمَةَ، فَأَلْحَقْتهَا فِي سُورَتِهَا. قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَاخْتَلَفُوا يَوْمَئِذٍ فِي التَّابُوتِ وَالتَّابُوهِ، فَقَالَ الْقُرَشِيُّونَ: التَّابُوتُ. وَقَالَ زَيْدٌ التَّابُوهُ. فَرُفِعَ اخْتِلَافُهُمْ إلَى عُثْمَانَ فَقَالَ: اُكْتُبُوهُ التَّابُوتُ. فَإِنَّهُ نَزَلَ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَرِهَ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ نَسْخَ الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أُعْزَلُ عَنْ نَسْخِ كِتَابَةِ الْمَصَاحِفِ، وَيَتَوَلَّاهَا رَجُلٌ، وَاَللَّهِ لَقَدْ أَسْلَمْت وَإِنَّهُ لَفِي صُلْبِ رَجُلٍ كَافِرٍ يُرِيدُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ. وَلِذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ، اُكْتُمُوا الْمَصَاحِفَ الَّتِي عِنْدَكُمْ وَغُلُّوهَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161] فَالْقُوا اللَّهَ بِالْمَصَاحِفِ.

قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَبَلَغَنِي أَنَّ ذَلِكَ كَرِهَهُ مِنْ مَقَالَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدْ تَبَيَّنَ فِي أَثْنَاءِ الْحَدِيثِ أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي بَرَاءَةٍ، وَآيَةُ الْأَحْزَابِ لَمْ تَثْبُتْ بِوَاحِدٍ، وَإِنَّمَا كَانَتْ مَنْسِيَّةً، فَلَمَّا ذَكَرَهَا مَنْ ذَكَرَهَا أَوْ تَذَكَّرَهَا مَنْ تَذَكَّرَهَا عَرَفَهَا الْخَلْقُ، كَالرَّجُلِ تَنْسَاهُ، فَإِذَا رَأَيْت وَجْهَهُ عَرَفْته، أَوْ تَنْسَى اسْمَهُ وَتَرَاهُ، وَلَا يَجْتَمِعُ لَك الْعَيْنُ وَالِاسْمُ، فَإِذَا انْتَسَبَ عَرَفْته. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مِنْ غَرِيبِ الْمَعَانِي أَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرِ بْنَ الطَّيِّبِ سَيْفَ السُّنَّةِ وَلِسَانَ الْأُمَّةِ تَكَلَّمَ بِجَهَالَاتٍ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، لَا تُشْبِهُ مَنْصِبَهُ، فَانْتَصَبْنَا لَهَا لِنُوقِفَكُمْ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِيهَا: أَوَّلُهَا: قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: هَذَا حَدِيثٌ مُضْطَرِبٌ، وَذَكَرَ اخْتِلَافَ رِوَايَاتٍ فِيهِ، مِنْهَا صَحِيحَةٌ وَمِنْهَا بَاطِلَةٌ، فَأَمَّا الرِّوَايَاتُ الْبَاطِلَةُ فَلَا نَشْتَغِلُ بِهَا، وَأَمَّا الصَّحِيحَةُ فَمِنْهَا أَنَّهُ قَالَ: رُوِيَ أَنَّ هَذَا جَرَى فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ جَرَى فِي عَهْدِ عُثْمَانَ، وَبَيْنَ التَّارِيخَيْنِ كَثِيرٌ مِنْ الْمُدَّةِ، وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ نَقُولَ هَذَا كَانَ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ نَقُولَ: كَانَ هَذَا فِي عَهْدِ عُثْمَانَ؛ وَلَوْ اخْتَلَفَ تَارِيخُ الْحَدِيثِ فِي يَوْمٍ مِنْ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ لَوَجَبَ رَدُّهُ، فَكَيْفَ أَنْ يَخْتَلِفَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْمُدَّتَيْنِ الطَّوِيلَتَيْنِ؟ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: يُقَالُ لِلسَّيْفِ هَذِهِ كَهْمَةٌ مِنْ طُولِ الضِّرَابِ، هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَخَفْ وَجْهُ الْحَقِّ فِيهِ، إنَّمَا جَمَعَ زَيْدٌ الْقُرْآنَ مَرَّتَيْنِ: إحْدَاهُمَا لِأَبِي بَكْرٍ فِي زَمَانِهِ، وَالثَّانِيَةُ لِعُثْمَانَ فِي زَمَانِهِ، وَكَانَ هَذَا فِي مَرَّتَيْنِ لِسَبَبَيْنِ وَلِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَكَانَ لِئَلَّا يَذْهَبَ الْقُرْآنُ بِذَهَابِ الْقُرَّاءِ، كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ: «يَذْهَبُ الْعِلْمُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ بِذَهَابِ الْعُلَمَاءِ»، فَلَمَّا تَحَصَّلَ مَكْتُوبًا صَارَ عُدَّةً لِمَا يُتَوَقَّعُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا جَمْعُهُ فِي زَمَانِ عُثْمَانَ فَكَانَ لِأَجْلِ الِاخْتِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْقِرَاءَةِ، فَجُمِعَ فِي الْمَصَاحِفِ لِيُرْسَلَ إلَى الْآفَاقِ، حَتَّى يُرْفَعَ الِاخْتِلَافُ الْوَاقِعُ بَيْنَ النَّاسِ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ.

ثَانِيهَا: قَالَ ابْنُ الطَّيِّبِ: مِنْ اضْطِرَابِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ زَيْدًا تَارَةً قَالَ: وَجَدْت هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ السَّاقِطَةَ، وَتَارَةً لَمْ يَذْكُرْهُ، وَتَارَةً ذَكَرَ قِصَّةَ بَرَاءَةٍ، وَتَارَةً قِصَّةَ الْأَحْزَابِ أَيْضًا بِعَيْنِهَا. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ: يُقَالُ لِلِّسَانِ: هَذِهِ عَثْرَةٌ، وَمَا الَّذِي يَمْنَعُ عَقْلًا أَوْ عَادَةً أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الرَّاوِي حَدِيثٌ مُفَصَّلٌ يَذْكُرُ جَمِيعَهُ مَرَّةً، وَيَذْكُرُ أَكْثَرَهُ أُخْرَى، وَيَذْكُرُ أَقَلَّهُ ثَالِثَةً؟ ثَالِثُهَا: قَالَ ابْنُ الطَّيِّبِ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخَبَرُ مَوْضُوعًا؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ: إنَّ زَيْدًا وَجَدَ الضَّائِعَ مِنْ الْقُرْآنِ عِنْدَ رَجُلَيْنِ. وَهَذَا بَعِيدٌ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ وَكَلَ حِفْظَ مَا سَقَطَ وَذَهَبَ عَنْ الْأَجِلَّةِ الْأَمَاثِلِ مِنْ الْقُرْآنِ بِرَجُلَيْنِ: خُزَيْمَةَ، وَأَبِي خُزَيْمَةَ. قَالَ الْقَاضِي: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْسَى الرَّجُلُ الشَّيْءَ ثُمَّ يَذْكُرَهُ لَهُ آخَرُ، فَيَعُودَ عِلْمُهُ إلَيْهِ. وَلَيْسَ فِي نِسْيَانِ الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ لَهُ إلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ اسْتِحَالَةٌ عَقْلًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَلَا شَرْعًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ حِفْظَهُ، وَمِنْ حِفْظِهِ الْبَدِيعِ أَنْ تَذْهَبَ مِنْهُ آيَةٌ أَوْ سُورَةٌ إلَّا عَنْ وَاحِدٍ، فَيَذْكُرَهَا ذَلِكَ الْوَاحِدُ، فَيَتَذَكَّرَهَا الْجَمِيعُ؛ فَيَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَدِيعِ حِفْظِ اللَّهِ لَهَا. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ، فَكَيْفَ تَدَّعِي عَلَيْهِ الْوَضْعَ، وَقَدْ رَوَاهُ الْعَدْلُ عَنْ الْعَدْلِ، وَتَدَّعِي فِيهِ الِاضْطِرَابَ، وَهُوَ فِي سِلْكِ الصَّوَابِ مُنْتَظِمٌ، وَتَقُولُ أُخْرَى: إنَّهُ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، وَمَا الَّذِي تَضَمَّنَ مِنْ الِاسْتِحَالَةِ أَوْ الْجَهَالَةِ حَتَّى يُعَابَ بِأَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ. وَأَمَّا مَا ذَكَرْته فِي مُعَارَضَتِهِ عَنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ أَوْ عَنْ رَأْيٍ فَهُوَ الْمُضْطَرِبُ الْمَوْضُوعُ الَّذِي لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ، فَكَيْفَ يُعَارَضُ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ بِالضِّعَافِ وَالثِّقَاتُ بِالْمَوْضُوعَاتِ؟ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فَإِنْ قِيلَ: فَمَا كَانَتْ هَذِهِ الْمُرَاجَعَةُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ؟

قُلْنَا: هَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ إلَّا بِالرِّوَايَةِ، وَقَدْ عَدِمَتْ، لَا هَمَّ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ قَدْ ذَكَرَ فِي ذَلِكَ وُجُوهًا، أَجْوَدُهَا خَمْسَةٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرَكَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً، وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ لِلْحَاجَةِ. الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ فِي الصُّحُفِ الْأُولَى، وَأَنَّهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فِي مِثْلِهَا بِقَوْلِهِ: {يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً - فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة: 2 - 3]؛ فَهَذَا اقْتِدَاءٌ بِاَللَّهِ وَبِرَسُولِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ قَصَدُوا بِذَلِكَ تَحْقِيقَ قَوْلِ اللَّهِ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]؛ فَقَدْ كَانَ عِنْدَهُ مَحْفُوظًا، وَأَخْبَرَنَا أَنْ يَحْفَظَهُ بَعْدَ نُزُولِهِ، وَمِنْ حِفْظِهِ تَيْسِيرُ الصَّحَابَةِ لِجَمْعِهِ، وَاتِّفَاقُهُمْ عَلَى تَقْيِيدِهِ وَضَبْطِهِ. الرَّابِعُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَكْتُبُهُ كَتَبَتُهُ بِإِمْلَائِهِ إيَّاهُ عَلَيْهِمْ، وَهَلْ يَخْفَى عَلَى مُتَصَوِّرٍ مَعْنًى صَحِيحًا فِي قَلْبِهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ تَنْبِيهًا عَلَى كَتْبِهِ وَضَبْطِهِ بِالتَّقْيِيدِ فِي الصُّحُفِ، وَلَوْ كَانَ مَا ضَمِنَهُ اللَّهُ مِنْ حِفْظِهِ لَا عَمَلَ لِلْأُمَّةِ فِيهِ لَمْ يَكْتُبْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ إخْبَارِ اللَّهِ لَهُ بِضَمَانِ حِفْظِهِ، وَلَكِنْ عَلِمَ أَنَّ حِفْظَهُ مِنْ اللَّهِ بِحِفْظِنَا وَتَيْسِيرَهُ ذَلِكَ لَنَا وَتَعْلِيمَهُ لِكِتَابَتِهِ وَضَبْطِهِ فِي الصُّحُفِ بَيْنَنَا. الْخَامِسُ: أَنَّهُ ثَبَتَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ السَّفَرِ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ»؛ وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ بَيْنَ الْأُمَّةِ مَكْتُوبٌ مُسْتَصْحَبٌ فِي الْأَسْفَارِ، هَذَا مِنْ أَبْيَنِ الْوُجُوهِ عِنْدَ النُّظَّارِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فَأَمَّا كِتَابَةُ عُثْمَانَ لِلْمَصَاحِفِ الَّتِي أُرْسِلَتْ إلَى الْكُوفَةِ وَالشَّامِ وَالْحِجَازِ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الْقِرَاءَاتِ، فَأَرَادَ ضَبْطَ الْأَمْرِ لِئَلَّا يَنْتَشِرَ إلَى حَدِّ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ فِي الْقُرْآنِ، كَمَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي كُتُبِهِمْ، وَكَانَ جَمْعُ أَبِي بَكْرٍ لَهُ لِئَلَّا يَذْهَبَ أَصْلُهُ؛ فَكَانَا أَمْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِسَبَبَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ. وَقَدْ كَانَ «وَقْعُ مِثْلِ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ هِشَامِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ وَبَيْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ

مسألة سبب اختلاف القراء بعد ربط الأمر بالثبات وضبط القرآن بالتقييد

فَاخْتَلَفُوا فِي الْقِرَاءَةِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ، فَاحْتَمَلَ عُمَرُ هِشَامًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَمْلًا، حَتَّى قَرَأَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا قَرَأَ بِخِلَافِ قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ، فَصَوَّبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكُلَّ، وَأَنْبَأَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ بِاخْتِلَافٍ، إذْ الْكُلُّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، بِأَمْرِهِ نَزَلَ، وَبِفَضْلِهِ تَوَسَّعَ فِي حُرُوفِهِ حَتَّى جَعَلَهَا سَبْعَةً»، فَاخْتَارَ عُثْمَانُ وَالصَّحَابَةُ مِنْ تِلْكَ الْحُرُوفِ مَا رَأَوْهُ ظَاهِرًا مَشْهُورًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ مَذْكُورًا، وَجَمَعُوهُ فِي مَصَاحِفَ، وَجُعِلَتْ أُمَّهَاتٍ فِي الْبُلْدَانِ تَرْجِعُ إلَيْهَا بَنَاتُ الْخِلَافِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فَأَمَّا حَالُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَإِنْكَارُهُ عَلَى زَيْدٍ أَنْ يَتَوَلَّى كَتْبَ الْمَصَاحِفِ، وَهُوَ أَقْدَمُ قِرَاءَةً. قُلْنَا: يَا مَعْشَرَ الطَّالِبِينَ لِلْعِلْمِ، مَا نَقَمَ قَطُّ عَلَى عُثْمَانَ شَيْءٌ إلَّا خَرَجَ مِنْهُ كَالشِّهَابِ، وَأَنْبَأَ أَنَّهُ أَتَاهُ بِعِلْمٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمُقْسِطِ، وَعِنْدَ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَا قَالَ وَبَلَغَ عُثْمَانُ: قَالَ عُثْمَانُ: مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، يَدْعُو النَّاسَ إلَى الْخِلَافِ وَالشُّبْهَةِ، وَيَغْضَبُ عَلَيَّ أَنْ لَمْ أُوَلِّهِ نَسْخَ الْقُرْآنِ، وَقَدَّمْت زَيْدًا عَلَيْهِ، فَهَلَّا غَضِبَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ حِينَ قَدَّمَا زَيْدًا لِكِتَابَتِهِ وَتَرَكَاهُ، إنَّمَا اتَّبَعْت أَنَا أَمْرَهُمَا، فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ إلَّا حَسَّنَ قَوْلَ عُثْمَانَ وَعَابَ ابْنَ مَسْعُودٍ. وَهَذَا بَيِّنٌ جِدًّا، وَقَدْ أَبَى اللَّهُ أَنْ يُبْقِيَ لِابْنِ مَسْعُودٍ فِي ذَلِكَ أَثَرًا، عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَرَاجَعَ أَصْحَابَهُ فِي الِاتِّبَاعِ لِمُصْحَفِ عُثْمَانَ وَالْقِرَاءَةِ بِهِ. [مَسْأَلَة سَبَبُ اخْتِلَافِ الْقُرَّاءِ بَعْدَ رَبْطِ الْأَمْرِ بِالثَّبَاتِ وَضَبْطِ الْقُرْآنِ بِالتَّقْيِيدِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فَأَمَّا سَبَبُ اخْتِلَافِ الْقُرَّاءِ بَعْدَ رَبْطِ الْأَمْرِ بِالثَّبَاتِ وَضَبْطِ الْقُرْآنِ بِالتَّقْيِيدِ. قُلْنَا: إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِلتَّوْسِعَةِ الَّتِي أَذِنَ اللَّهُ فِيهَا، وَرَحِمَ بِهَا مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَأَقْرَأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَا، وَأَخَذَ كُلُّ صَاحِبٍ مِنْ أَصْحَابِهِ حَرْفًا أَوْ جُمْلَةً مِنْهَا. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ تَارَةً فِي جُزْءٍ مُفْرَدٍ، وَتَارَةً فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْقِرَاءَةِ كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا فِي أَلْسِنَةِ النَّاسِ الْيَوْمَ، وَلَكِنَّ الصَّحَابَةَ ضَبَطَتْ الْأَمْرَ إلَى حَدٍّ يُقَيَّدُ مَكْتُوبًا، وَخَرَجَ مَا بَعْدَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا

مسألة هل يلزم أحدا أن يقرأ بقراءة شخص واحد

حَتَّى أَنَّ مَا تَحْتَمِلُهُ الْحُرُوفُ الْمُقَيَّدَةُ فِي الْقُرْآنِ قَدْ خَرَجَ أَكْثَرُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، وَقَدْ انْحَصَرَ الْأَمْرُ إلَى مَا نَقَلَهُ الْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ بِالْأَمْصَارِ الْخَمْسَةِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ أَرْسَلَ ثَلَاثَةَ مَصَاحِفَ، وَرُوِيَ أَنَّهُ احْتَبَسَ مُصْحَفًا، وَأَرْسَلَ إلَى الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَالْيَمَنِ ثَلَاثَةَ مَصَاحِفَ، وَرُوِيَ أَنَّهُ أَرْسَلَ أَرْبَعَةً إلَى الشَّامِ وَالْحِجَازِ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَتْ سَبْعَةَ مَصَاحِفَ، فَبَعَثَ مُصْحَفًا إلَى مَكَّةَ، وَإِلَى الْكُوفَةِ آخَرَ، وَمُصْحَفًا إلَى الْبَصْرَةِ، وَمُصْحَفًا إلَى الشَّامِ، وَمُصْحَفًا إلَى الْيَمَنِ، وَمُصْحَفًا إلَى الْبَحْرَيْنِ، وَمُصْحَفًا عِنْدَهُ. فَأَمَّا مُصْحَفُ الْيَمَنِ وَالْبَحْرَيْنِ فَلَمْ يُسْمَعْ لَهُمَا خَبَرٌ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذِهِ الْمَصَاحِفُ إنَّمَا كَانَتْ تَذْكِرَةً لِئَلَّا يَضِيعَ الْقُرْآنُ، فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فَإِنَّمَا أُخِذَتْ بِالرِّوَايَةِ لَا مِنْ الْمَصَاحِفِ، أَمَّا إنَّهُمْ كَانُوا إذَا اخْتَلَفُوا رَجَعُوا إلَيْهَا فَمَا كَانَ فِيهَا عَوَّلُوا عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَتْ الْمَصَاحِفُ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ أَثْبَتَتْ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ، وَأَسْقَطَتْهُ فِي الْبَعْضِ، لِيُحْفَظَ الْقُرْآنُ عَلَى الْأُمَّةِ، وَتَجْتَمِعَ أَشْتَاتُ الرِّوَايَةِ، وَيَتَبَيَّنَ وَجْهُ الرُّخْصَةِ وَالتَّوْسِعَةِ، فَانْتَهَتْ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ إلَى أَرْبَعِينَ حَرْفًا فِي هَذِهِ الْمَصَاحِفِ، وَقَدْ زِيدَتْ عَلَيْهَا أَحْرُفٌ يَسِيرَةٌ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا أَحَدٌ مِنْ الْقُرَّاءِ الْمَشْهُورِينَ تُرِكَتْ؛ فَهَذَا مُنْتَهَى الْحَاضِرِ مِنْ الْقَوْلِ الَّذِي يَحْتَمِلُهُ الْفَنُّ الَّذِي تَصَدَّيْنَا لَهُ مِنْ الْأَحْكَامِ. [مَسْأَلَة هَلْ يَلْزَمُ أَحَدًا أَنْ يَقْرَأَ بِقِرَاءَةِ شَخْصٍ وَاحِدٍ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إذَا ثَبَتَتْ الْقِرَاءَاتُ، وَتَقَيَّدَتْ الْحُرُوفُ فَلَيْسَ يَلْزَمُ أَحَدًا أَنْ يَقْرَأَ بِقِرَاءَةِ شَخْصٍ وَاحِدٍ، كَنَافِعٍ مِثْلًا، أَوْ عَاصِمٍ؛ بَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ فَيَتْلُو حُرُوفَهَا عَلَى ثَلَاثِ قِرَاءَاتٍ مُخْتَلِفَاتٍ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ قُرْآنٌ، وَلَا يَلْزَمُ جَمْعُهُ؛ إذْ لَمْ يُنَظِّمْهُ الْبَارِي لِرَسُولِهِ، وَلَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى التَّعَبُّدِ، وَإِنَّمَا لَزِمَ الْخَلْقَ بِالدَّلِيلِ أَلَّا يَتَعَدَّوْا الثَّابِتَ إلَى مَا لَمْ يَثْبُتْ، فَأَمَّا تَعْيِينُ الثَّابِتِ فِي التِّلَاوَةِ فَمُسْتَرْسِلٌ عَلَى الثَّابِتِ كُلِّهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

سورة يونس فيها من الآيات ست

[سُورَةُ يُونُسَ فِيهَا مِنْ الْآيَاتِ سِتٌّ] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ] ٌّ الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس: 22]. فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22] فِي تَفْسِيرِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَرَّ هُوَ الْأَرْضُ الْيَابِسَةُ، وَالْبَحْرَ هُوَ الْمَاءُ. الثَّانِي: أَنَّ الْبَرَّ الْفَيَافِي، وَالْبَحْرَ الْأَمْصَارُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ تَفْسِيرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِحَسَبِ مَا يَرْتَبِطُ بِهِ مِنْ قَوْلٍ مُقَدَّمٍ لَهُ أَوْ بَعْدَهُ، كَقَوْلِهِ هَاهُنَا: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس: 22]. فَهَذَا نَصٌّ بَيِّنٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَحْرِ غَمْرَةُ الْمَاءِ، وَقَرِينَتُهَا الْمُبَيِّنَةُ لَهَا قَوْلُهُ: حَتَّى إذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ، وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف: 12]، فَقَوْلُهُ: {مِنَ الْفُلْكِ} [الزخرف: 12] هُوَ لِلْبَحْرِ، وَقَوْلُهُ: (" الْأَنْعَامِ ") هُوَ لِلْبَرِّ.

مسألة ركوب البحر

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ {يُسَيِّرُكُمْ} [يونس: 22] بِالْيَاءِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَنَنْشُرُكُمْ بِالنُّونِ وَالشَّيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَأَرَادَ الْيَحْصُبِيُّ يَبْسُطُكُمْ بَرًّا وَبَحْرًا، وَأَرَادَ غَيْرَهُ مِنْ السَّيْرِ، وَهُوَ الَّذِي أَخْتَارُهُ. [مَسْأَلَة رُكُوبِ الْبَحْرِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَوَازُ رُكُوبِ الْبَحْرِ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ طَرِيقَيْنِ: رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ فَقِيلَ لَهُ: إنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ، وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنْ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا، أَفَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟ قَالَ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ». وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ، فَنَامَ عِنْدَهَا، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَتْ لَهُ: مَا يُضْحِكُك يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ، أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ. قَالَتْ: فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَدَعَا لَهَا، ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَضْحَكُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا يُضْحِكُك؟ قَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ، أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ كَمَا قَالَ فِي الْأُولَى. قَالَتْ، فَقُلْت: اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. قَالَ: أَنْتِ مِنْ الْأَوَّلِينَ» الْحَدِيثَ. فَفِي هَذَا كُلِّهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ رُكُوبِ الْبَحْرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ

الضَّرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ ضَرَبَ بِهِ وَسَطَ الْأَرْضِ، فَانْفَلَقَتْ، وَجَعَلَ الْخَلْقَ فِي الْعُدْوَتَيْنِ، وَقَسَّمَ الْمَنَافِعَ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ، وَلَا يُوصَلُ إلَى جَلْبِهَا إلَّا بِشَقِّ الْبَحْرِ [لَهَا]، فَسَهَّلَ اللَّهُ سَبِيلَهُ بِالْفُلْكِ، وَعَلَّمَهَا نُوحًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وِرَاثَةً فِي الْعَالَمِينَ بِمَا أَرَاهُ جِبْرِيلُ، وَقَالَ لَهُ: صَوِّرْهَا عَلَى جُؤْجُؤِ الطَّائِرِ، فَالسَّفِينَةُ طَائِرٌ مَقْلُوبٌ، وَالْمَاءُ فِي اسْتِفَالِهِ لِلسَّفِينَةِ نَظِيرُ الْهَوَاءِ فِي اعْتِلَائِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَمَّا الْقُرْآنُ فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ رُكُوبِ الْبَحْرِ مُطْلَقًا، وَأَمَّا الْحَدِيثَانِ [اللَّذَانِ جَلَبْنَاهُمَا فَيَدُلُّ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى جَوَازِ رُكُوبِ الْبَحْرِ مُطْلَقًا. وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ كَوْنِهِ فِي الْغَزْوِ، وَهِيَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ أَجَازَهَا مَعَ] مَا فِيهِ مِنْ الْغَرَرِ، وَلَكِنَّ الْغَالِبَ مِنْهُ السَّلَامَةُ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ يَرْكَبُونَهُ لَا حَاصِرَ لَهُمْ، وَاَلَّذِينَ يَهْلِكُونَ فِيهِ مَحْصُورُونَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ»: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهَا: يَرْكَبُونَ ظَهْرَهُ عَلَى الْفُلْكِ رُكُوبَ الْمُلُوكِ الْأَسِرَّةَ عَلَى الْأَرْضِ. الثَّانِي: يَرْكَبُونَ الْفُلْكَ لِسَعَةِ الْحَالِ وَالْمِلْكِ كَأَنَّهُمْ أَهْلُ الْمُلْكِ. وَيُعَارِضُ هَذَا قَوْله تَعَالَى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79] فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَفَ هَؤُلَاءِ بِالْمُلْكِ وَوَصَفَ اللَّهَ هَؤُلَاءِ بِالْمَسْكَنَةِ. وَمِنْ هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ فَرَّ قَوْمٌ فَقَالُوا: إنَّ الْقِرَاءَةَ فِيهَا: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَّاكِينَ بِتَشْدِيدِ السِّينِ.

الآية الثانية قوله تعالى دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام

وَقَالَ قَوْمٌ إنَّمَا وَصَفَهُمْ بِالْمَسْكَنَةِ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عَدَمِ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ فِي الْبَحْرِ وَضَعْفِ الْحِيلَةِ فِيهِ أَيْضًا؛ فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْحَوْلَ وَالْقُوَّةَ لِلَّهِ عِيَانًا فَلْيَرْكَبْ الْبَحْرَ. وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مَسْكَنَتَهُمْ كَانَتْ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِدُخُولِهِمْ الْبَحْرَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ وَلَا مِلْكٌ إلَّا السَّفِينَةُ، وَهُمْ لَا يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ بِالْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ، وَالْعَزْمِ وَالشِّدَّةِ، يَقْصِدُونَ الْغَلَبَةَ، وَهَذِهِ حَالَةٌ لِلْمُلْكِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَتَوَقَّفُ فِي رُكُوبِ الْبَحْرِ لِلْمُسْلِمِينَ، لِمَا كَانَ يُتَوَهَّمُ فِيهِ مِنْ الْغَرَرِ، إذْ لَمْ يَرَهُ إلَّا لِضَرُورَةٍ كَمَا رَكِبَهُ الْمُهَاجِرُونَ إلَى الْحَبَشَةِ لِلضَّرُورَةِ أَوَّلًا وَآخِرًا، أَمَّا الْأَوَّلُ فَفِي الْفِرَارِ مِنْ نِكَايَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَمَّا الْآخِرُ فَلِنَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْكَوْنِ مَعَهُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إذَا حَصَلَ الْمَرْءُ فِي ارْتِجَاجِ الْبَحْرِ وَغَلَبَتِهِ وَعَصْفِهِ وَتَعَابُسِ أَمْوَاجِهِ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ] قَوْله تَعَالَى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَفْسِيرُ التَّحِيَّةِ: وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا الْمُلْكُ.

الآية الثالثة قوله تعالى فذلكم الله ربكم الحق

الثَّانِي: أَنَّهَا الْبَقَاءُ قَالَ الْمُعَمَّرُ: أَبَنِيَّ إنْ أَهْلَكَ فَإِنِّي ... قَدْ تَرَكْتُ لَكُمْ بَنِيَّهْ وَتَرَكْتُكُمْ أَوْلَادَ سَادَاتٍ ... زِنَادُكُمْ وَرِيَّهُ وَلَكُلُّ مَا نَالَ الْفَتَى ... قَدْ نِلْتُهُ إلَّا التَّحِيَّهْ يَعْنِي الْبَقَاءَ. الثَّالِثُ: [أَنَّهَا] السَّلَامُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِهَا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَلَكَ يَأْتِيهِمْ بِمَا يَشْتَهُونَ فَيَقُولُ لَهُمْ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ أَيْ سَلِمْتُمْ، فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَكَلُوهُ قَالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى تَحِيَّتِهِمْ تَحِيَّةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَقَدْ ثَبَتَ فِي الْخَبَرِ كَمَا بَيَّنَّا: «أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ إلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَهُمْ فَقَالَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا لَهُ: وَعَلَيْك السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَقَالَ لَهُ: هَذِهِ تَحِيَّتُك وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِك إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَبَيَّنَ فِي الْقُرْآنِ هَاهُنَا أَنَّهَا تَحِيَّتُهُمْ فِي الْجَنَّةِ، فَهِيَ تَحِيَّةٌ مَوْضُوعَةٌ مِنْ ابْتِدَاءِ الْخِلْقَةِ إلَى غَيْرِ غَايَةٍ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [يونس: 10]؛ أَيْ هَذَا السَّلَامُ الَّذِي بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ تَتَقَابَلُونَ بِهِ. وَالْقَوْلَانِ مُحْتَمَلَانِ، وَهَذَا أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ] الْآيَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32].

فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ {الْحَقُّ} [يونس: 32] وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي كِتَابِ " الْأَمَدِ الْأَقْصَى " فِي تَسْمِيَةِ الْبَارِي تَعَالَى بِهِ. وَلُبَابُهُ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْوُجُودُ، وَالْوُجُودُ عَلَى قِسْمَيْنِ: وُجُودٌ حَقِيقِيٌّ، وَوُجُودٌ شَرْعِيٌّ. فَأَمَّا الْوُجُودُ الْحَقِيقِيُّ فَلَيْسَ إلَّا لِلَّهِ وَصِفَاتِهِ، وَعَلَيْهِ جَاءَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْتَ الْحَقُّ، وَقَوْلُك الْحَقُّ، وَوَعْدُك الْحَقُّ، وَلِقَاؤُك حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ». فَأَمَّا اللَّهُ وَصِفَاتُهُ فَوُجُودُهَا [هُوَ] حَقٌّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْهَا عَدَمٌ، وَلَا يَعْقُبُهَا فَنَاءٌ. وَأَمَّا لِقَاءُ اللَّهِ فَهُوَ حَقٌّ سَبَقَهُ عَدَمٌ، وَيَعْقُبُهُ مِثْلُهُ. وَأَمَّا الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَهُمَا حَقَّانِ، سَبَقَهُمَا عَدَمٌ، وَلَا يَعْقُبُهَا فَنَاءٌ، لَكِنَّ مَا فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ أَعْرَاضٌ. وَأَمَّا الْوُجُودُ الشَّرْعِيُّ فَهُوَ الَّذِي يُحَسِّنُهُ الشَّرْعُ، وَهُوَ وَاجِبٌ وَغَيْرُ وَاجِبٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْبَاطِلِ: وَهُوَ ضِدُّ الْحَقِّ، وَالضِّدُّ رُبَّمَا أَظْهَرَ حَقِيقَةَ الضِّدِّ، فَإِذَا قُلْنَا: إنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ حَقِيقَةً، فَمَا سِوَاهُ بَاطِلٌ، وَعَنْهُ عَبَّرَ الَّذِي يَقُولُ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ ... وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ وَإِنْ قُلْنَا: [إنَّ] الْحَقَّ هُوَ الْحَسَنُ شَرْعًا فَالْبَاطِلُ هُوَ الْقَبِيحُ شَرْعًا، وَمُقَابَلَةُ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ عُرِفَ لُغَةً وَشَرْعًا، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج: 62]. كَمَا أَنَّ مُقَابَلَةَ الْحَقِّ بِالضَّلَالِ عُرِفَ أَيْضًا لُغَةً وَشَرْعًا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} [يونس: 32]، وَقَدْ بَيَّنَ حَقِيقَةَ الْحَقِّ. فَأَمَّا حَقِيقَةُ الضَّلَالِ، وَهِيَ:

مسألة اللعب بالشطرنج

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَهُوَ الذَّهَابُ عَنْ الْحَقِّ، أُخِذَ مِنْ ضَلَالِ الطَّرِيقِ، وَهُوَ الْعُدُولُ عَنْ سَمْتِ الْقَصْدِ، وَخُصَّ فِي الشَّرْعِ بِالْعِبَارَةِ عَنْ الْعُدُولِ عَنْ السَّدَادِ فِي الِاعْتِقَادِ دُونَ الْأَعْمَالِ. وَمِنْ غَرِيبِ أَمْرِهِ أَنَّهُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَقِّ إذَا قَابَلَهُ غَفْلَةً، وَلَمْ يَقْتَرِنْ بِعَدَمِهِ جَهْلٌ أَوْ شَكٌّ، وَعَلَيْهِ حَمَلَ الْعُلَمَاءُ قَوْلَهُ: {وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى} [الضحى: 7]. الَّذِي حَقَّقَهُ قَوْلُهُ: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى: 52]. [مَسْأَلَة اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} [يونس: 32]؟ فَاللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ مِنْ الضَّلَالِ. وَرَوَى يُونُسُ عَنْ أَشْهَبَ قَالَ: سُئِلَ يَعْنِي مَالِكًا عَنْ اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ قَالَ: لَا خَيْرَ فِيهِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَهُوَ مِنْ الْبَاطِلِ، وَاللَّعِبُ كُلُّهُ مِنْ الْبَاطِلِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِذِي الْعَقْلِ أَنْ تَنْهَاهُ اللِّحْيَةُ وَالشَّيْبُ عَنْ الْبَاطِلِ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِأَسْلَمَ فِي شَيْءٍ: أَمَا تَنْهَاك لِحْيَتُك هَذِهِ؟ قَالَ أَسْلَمُ: فَمَكَثْت زَمَانًا وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّهَا سَتَنْهَانِي. فَقِيلَ لِمَالِكٍ لِمَا كَانَ عُمَرُ لَا يَزَالُ يَقُولُ فَيَكُونُ. فَقَالَ: نَعَمْ [فِي رَأْيِي]. وَرَوَى يُونُسُ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَلْعَبُ مَعَ امْرَأَتِهِ فِي بَيْتِهِ. فَقَالَ مَالِكٌ: مَا يُعْجِبُنِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ اللَّعِبُ؛ يَقُولُ اللَّهُ: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} [يونس: 32]، وَهَذَا مِنْ الْبَاطِلِ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ خِدَاشٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ قَالَ: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} [يونس: 32]. رَوَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْجُهَنِيُّ؛ قَالَ: قُلْت لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ: أَدْعُو الرَّجُلَ لِعَبَثِي. فَقَالَ مَالِكٌ: أَذَلِكَ مِنْ الْحَقِّ؟ قُلْت: لَا. قَالَ: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} [يونس: 32].

قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: هَذَا مُنْتَهَى مَا تَحَصَّلَ لِي مِنْ أَلْفَاظِ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ اعْتَرَضَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِ مِنْ الْمُخَالِفِينَ، فَقَالَ: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَ اللَّهِ هُوَ الضَّلَالُ؛ لِأَنَّ أَوَّلَهَا: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} [يونس: 32] فَهَذَا فِي الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ يَعْنِي لَيْسَ فِي الْأَعْمَالِ. وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَقَالَ: إنَّ الْكُفْرَ تَغْطِيَةُ الْحَقِّ، وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ الْحَقِّ يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى. هَذَا مُنْتَهَى السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ. وَتَحْقِيقُهُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ اللَّهَ أَبَاحَ وَحَرَّمَ، فَالْحَرَامُ ضَلَالٌ، وَالْمُبَاحُ هُدًى؛ فَإِنْ كَانَ الْمُبَاحُ حَقًّا كَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ فَالشِّطْرَنْجُ مِنْ الْمُبَاحِ، فَلَا يَكُونُ مِنْ الضَّلَالِ؛ لِأَنَّ مَنْ اسْتَبَاحَ مَا أَبَاحَ اللَّهُ لَا يُقَالُ لَهُ ضَالٌّ، وَإِنْ كَانَ الشِّطْرَنْجُ خَارِجًا مِنْ الْمُبَاحِ فَيَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ، فَإِذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حَرَامٌ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مِنْ الضَّلَالِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِيهِ، وَأَنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُخَالِفُ النَّرْدَ؛ لِأَنَّ فِيهِ إكْدَادَ الْفَهْمِ، وَاسْتِعْمَالَ الْقَرِيحَةِ، وَالنَّرْدُ قِمَارٌ غَرَرٌ لَا يَعْلَمُ مَا يَخْرُجُ لَهُ فِيهِ، كَالِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ الثَّابِتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَقَدْ غَمَسَ يَدَهُ فِي لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَدَمِهِ» يُوجِبُ النَّهْيَ عَنْ الشِّطْرَنْجِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ يَشْغَلُ عَنْ ذَكَرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ، وَالْفَهْمُ يُكَدُّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِنْ تَفَاضَلَا فِيهِ. وَأَمَّا لَعِبُ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِهِ بِالْأَرْبَعِ عَشَرَةَ فَالْمُمْتَنِعُ لَا تَفْتَرِقُ فِيهِ الْمَرْأَةُ تَكُونُ لِلرَّجُلِ وَلَا الْأَجْنَبِيِّ مِنْهُ، كَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَلْعَبَ مَعَهَا بِالنَّرْدَشِيرِ لِعُمُومِ النَّهْيِ فِيهِ، وَالْأَرْبَعَ عَشَرَةَ قِمَارٌ مِثْلُهُ. وَأَمَّا الْغِنَاءُ فَإِنَّهُ مِنْ اللَّهْوِ الْمُهَيِّجِ لِلْقُلُوبِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ.

الآية الرابعة قوله تعالى قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق

أَمَّا إنَّ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ [دَلِيلًا عَلَى] إبَاحَتِهِ، وَهُوَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ حَادِيَتَانِ مِنْ حَادِيَاتِ الْأَنْصَارِ، تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتْ الْأَنْصَارُ بِهِ يَوْمَ بُعَاثٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمِزْمَارُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ» فَلَوْ كَانَ الْغِنَاءُ حَرَامًا مَا كَانَ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ. وَقَدْ أَنْكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ بِظَاهِرِ الْحَالِ، فَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفَضْلِ الرُّخْصَةِ وَالرِّفْقِ بِالْخَلِيقَةِ فِي إجْمَامِ الْقُلُوبِ؛ إذْ لَيْسَ جَمِيعُهَا يَحْمِلُ الْجِدَّ دَائِمًا. وَتَعْلِيلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهِيَةِ دَوَامِهِ، وَرُخْصَتِهِ فِي الْأَسْبَابِ كَالْعِيدِ، وَالْعُرْسِ، وَقُدُومِ الْغَائِبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمُجْتَمَعَاتِ الَّتِي تُؤَلِّفُ بَيْنَ الْمُفْتَرِقِينَ وَالْمُفْتَرِقَاتِ عَادَةً. وَكُلُّ حَدِيثٍ يُرْوَى فِي التَّحْرِيمِ أَوْ آيَةٍ تُتْلَى فِيهِ فَإِنَّهُ بَاطِلٌ سَنَدًا، بَاطِلٌ مُعْتَقَدًا، خَبَرًا وَتَأْوِيلًا، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَخَّصَ فِي الْغِنَاءِ فِي الْعِيدَيْنِ، وَفِي الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ غَيْرِ نَوْحٍ مِنْ حَدِيثِ ثَابِتِ ابْنِ وَدِيعَةَ. [الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ] الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]. وَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ لَا يَكُونَانِ عَقْلًا وَلَا تَشَهِّيًا؛ وَإِنَّمَا الْمُحَرِّمُ وَالْمُحَلِّلُ هُوَ اللَّهُ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ

الآية الخامسة قوله تعالى لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة

[الْآيَة الْخَامِسَة قَوْله تَعَالَى لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ] ِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس: 64] فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بُشْرَى اللَّهِ لِعِبَادِهِ بِمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ مِنْ وَعْدِهِ الْكَرِيمِ، فِي قَوْلِهِ: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 223]، {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} [يونس: 2] وَقَوْلِهِ: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ} [التوبة: 21] وَنَظَائِرِهِ. الثَّانِي: مَا رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. قَالَ: " هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوْ تُرَى لَهُ ". قَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ: سَأَلْت أَبَا الدَّرْدَاءِ عَنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس: 64] فَقَالَ: مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَدٌ مُنْذُ سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ عَنْهَا؛ «سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ عَنْهَا؛ فَقَالَ: مَا سَأَلَنِي أَحَدٌ عَنْهَا غَيْرُك مُنْذُ أُنْزِلَتْ؛ فَهِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ». وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَطَلْحَةَ، وَلَمْ يَصِحَّ مِنْهَا طَرِيقٌ وَلَكِنَّهَا حِسَانٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَاَلَّذِي ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْبَابِ: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوْ تُرَى لَهُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ». وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، وَمَعْنَاهُ بَدِيعٌ، قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَسَيَأْتِي جُمْلَةٌ مِنْ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ يُوسُفَ إنْ شَاءَ اللَّهُ.

الآية السادسة قوله تعالى وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا

[الْآيَة السَّادِسَة قَوْله تَعَالَى وَأَوْحَيْنَا إلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا] الْآيَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 87]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقَوْلُ فِي الْقِبْلَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِهَا: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِبْلَةَ فِي الصَّلَاةِ كَانَتْ شَرْعًا لِمُوسَى فِي صَلَاتِهِ وَلِقَوْمِهِ، وَلَمْ تَخْلُ الصَّلَاةُ قَطُّ عَنْ شَرْطِ الطَّهَارَتَيْنِ، وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي التَّكْلِيفِ، وَأَوْقَرُ لِلْعِبَادَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قِيلَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس: 87]: يَعْنِي: بَيْتَ الْمَقْدِسِ أُمِرُوا أَنْ يَسْتَقْبِلُوهَا حَيْثُمَا كَانُوا، وَقَدْ كَانَتْ مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ قِبْلَةً، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ دُونَ بِيَعِكُمْ إذَا كُنْتُمْ خَائِفِينَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ دِينِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ إلَّا فِي الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ مَا دَامُوا عَلَى أَمْنٍ، فَإِذَا خَافُوا فَقَدْ أَذِنَ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا فِي بُيُوتِهِمْ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ دَعْوَى. [وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ].

سورة هود فيها ثماني آيات

[سُورَةُ هُودٍ فِيهَا ثَمَانِي آيَاتٍ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا] ٍ الْآيَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود: 15]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [هود: 15] بَيَانٌ لِمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»؛ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُعْطَى إلَّا عَلَى وَجْهِ قَصْدِهِ، وَبِحُكْمِ مَا يَنْعَقِدُ ضَمِيرُهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الْأُمَمِ مِنْ أَهْلِ كُلِّ مِلَّةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا يُعْطَى ثَوَابَ عَمَلِهِ فِيهَا، وَلَا يُبْخَسُ مِنْهُ شَيْئًا. وَاخْتُلِفَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي وَجْهِ التَّوْفِيَةِ؛ فَقِيلَ فِي ذَلِكَ صِحَّةُ بَدَنِهِ أَوْ إدْرَارُ رِزْقِهِ. وَقِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ مُطْلَقَةٌ، وَكَذَلِكَ الْآيَةُ الَّتِي فِي حم عسق: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ} [الشورى: 20] الْآيَةُ قَيَّدَهَا وَفَسَّرَهَا بِالْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ سُبْحَانَ، وَهِيَ قَوْلُهُ {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ} [الإسراء: 18] إلَى: {مَحْظُورًا} [الإسراء: 20]

فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْعَبْدَ يَنْوِي وَيُرِيدُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُرِيدُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اُخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْآيَةِ؛ فَقِيلَ: إنَّهُ الْكَافِرُ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَلَهُ حُكْمُهُ الْأَفْضَلُ الَّذِي بَيَّنَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ فِي الْكَفَرَةِ، وَفِي أَهْلِ الرِّيَاءِ. قَالَ الْقَاضِي: هِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ يَنْوِي غَيْرَ اللَّهِ بِعَمَلِهِ، كَانَ مَعَهُ أَصْلُ إيمَانٍ، أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قَالَ اللَّهُ: إنِّي لَا أَقْبَلُ عَمَلًا أُشْرِكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، أَنَا أَغْنَى الْأَغْنِيَاءِ عَنْ الشِّرْكِ». وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَزَلَ إلَى الْعِبَادِ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ، وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ، فَأَوَّلُ مَنْ يُدْعَى بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ الْقُرْآنَ، وَرَجُلٌ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ كَثِيرُ الْمَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَارِئِ: أَلَمْ أُعَلِّمْك مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْت فِيمَا عَلِمْت؟ قَالَ: كُنْت أَقُومُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ. فَيَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ قَارِئٌ؛ فَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ. وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ الْمَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْك حَتَّى لَمْ أَدَعَكَ تَحْتَاجُ إلَى أَحَدٍ؟ فَيَقُولُ: بَلَى يَا رَبِّ. فَيَقُولُ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُك؟ قَالَ: كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ، فَيَقُولُ اللَّهُ: كَذَبْت، وَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: كَذَبْت: بَلْ أَرَدْت أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ لَك ذَلِكَ. وَيُؤْتَى بِاَلَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيُقَالُ لَهُ: فِيمَا ذَا قُتِلْت؟ فَيَقُولُ: أُمِرْت بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِك فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ. فَيَقُولُ اللَّهُ: كَذَبْت، وَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: كَذَبْت، وَيَقُولُ اللَّهُ: بَلْ أَرَدْت أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ.

الآية الثانية قوله تعالى وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها

ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى رُكْبَتَيَّ وَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 16] أَيْ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا نَصٌّ فِي مُرَادِ الْآيَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا] وَفِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ ابْنِ أَشْرَسَ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ قَوْمَ نُوحٍ مَلَئُوا الْأَرْضَ حَتَّى مَلَئُوا السَّهْلَ وَالْجَبَلَ، فَمَا يَسْتَطِيعُ هَؤُلَاءِ أَنْ يَنْزِلُوا إلَى هَؤُلَاءِ وَلَا هَؤُلَاءِ أَنْ يَنْزِلُوا مَعَ هَؤُلَاءِ، فَلَبِثَ نُوحُ يَغْرِسُ الشَّجَرَ مِائَةَ عَامٍ لِعَمَلِ السَّفِينَةِ، ثُمَّ جَمَعَهَا يَيْبَسُهَا مِائَةَ عَامٍ، وَقَوْمُهُ يَسْخَرُونَ مِنْهُ، وَذَلِكَ لَمَّا رَأَوْهُ يَصْنَعُ ذَلِكَ، حَتَّى كَانَ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ فِيهِمْ مَا كَانَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [هود: 41] وَذَلِكَ نَصٌّ فِي ذِكْرِ اللَّهِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَعَلَى كُلِّ أَمْرٍ وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأُ فِيهِ بِذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ».

مسألة معنى قوله تعالى من كل زوجين اثنين وأهلك

وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَذْكُرُ اللَّهَ فِي كُلِّ أَحْيَانِهِ، حَتَّى قَالَ جَمَاعَةٌ: إنَّهُ يَقُولُ بِسْمِ اللَّهِ مَعَ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ، حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَ الذِّكْرِ وَالنِّيَّةِ، وَمِنْ أَشَدِّهِ فِي النَّدْبِ ذِكْرُ اللَّهِ فِي ابْتِدَاءِ الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ، وَمِنْ الْوُجُوبِ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ الذَّبْحِ، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تَعْدِيدِ مَوَاضِعِهِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ: {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [هود: 40] قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَمَّا اسْتَنْقَذَ اللَّهُ مَنْ فِي الْأَصْلَابِ وَالْأَرْحَامِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَوْحَى اللَّهُ إلَى نُوحٍ {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ - وَاصْنَعِ الْفُلْكَ} [هود: 36 - 37]. قَالَ: يَا رَبُّ، مَا أَنَا بِنَجَّارٍ قَالَ: بَلَى، فَإِنَّ ذَلِكَ بِعَيْنِي؛ فَأَخَذَ الْقَدُومَ، فَجَعَلَتْ يَدُهُ لَا تُخْطِئُ، فَجَعَلُوا يَمُرُّونَ بِهِ فَيَقُولُونَ: هَذَا النَّبِيُّ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ قَدْ صَارَ نَجَّارًا، فَعَمِلَهَا فِي أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ أَنْ {احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود: 40]، فَحَمَلَ فِيهَا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ الْمَاءَ مِنْ السَّمَاءِ، وَفَتَحَ الْأَرْضَ، وَلَجَأَ ابْنُ نُوحٍ إلَى جَبَلٍ، فَعَلَا الْمَاءُ عَلَى الْجَبَلِ سَبْعَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ} [هود: 42] يَعْنِي عَنْهُ إلَى قَوْلِهِ: {مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46]. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّمَا سَأَلَ نُوحٌ رَبَّهُ لِأَجْلِ قَوْلِ اللَّهِ: {احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ} [هود: 40] إلَى: {وَأَهْلَكَ} [هود: 40] وَتَرَكَ نُوحٌ قَوْلَهُ: إلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ رَآهُ اسْتِثْنَاءً عَائِدًا إلَى قَوْلِهِ: مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، وَحَمَلَهُ الرَّجَاءُ عَلَى ذَلِكَ، فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عَائِدٌ إلَى الْكُلِّ، وَأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ، كَمَا سَبَقَ عَلَى بَعْضٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ، وَأَنَّ الَّذِي سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْ أَهْلِهِ هُوَ ابْنُهُ تَسْلِيَةً لِلْخَلْقِ فِي فَسَادِ أَبْنَائِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا صَالِحِينَ، وَنَشَأَتْ عَلَيْهِ مَسْأَلَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الِابْنَ مِنْ الْأَهْلِ اسْمًا وَلُغَةً، وَمِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ.

الآية الثالثة قوله تعالى وإلى ثمود أخاهم صالحا

[الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا] الْآيَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61]. قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ: الِاسْتِعْمَارُ طَلَبُ الْعِمَارَةِ، وَالطَّلَبُ الْمُطْلَقُ مِنْ اللَّهِ عَلَى الْوُجُوبِ. قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: تَأْتِي كَلِمَةُ اسْتَفْعَلَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى مَعَانٍ، مِنْهَا اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى طَلَبَ الْفِعْلَ، كَقَوْلِهِ: اسْتَحْمَلْت فُلَانًا أَيْ طَلَبْت مِنْهُ حُمْلَانًا. وَمِنْهَا اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى اعْتَقَدَ، كَقَوْلِهِمْ: اسْتَسْهَلْت هَذَا الْأَمْرَ، أَيْ اعْتَقَدْته سَهْلًا، أَوْ وَجَدْته سَهْلًا، وَاسْتَعْظَمْته أَيْ اعْتَقَدْته عَظِيمًا. وَمِنْهَا اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى أَصَبْت الْفِعْلَ، كَقَوْلِك: اسْتَجْدَتْهُ، أَيْ أَصَبْته جَيِّدًا، وَقَدْ يَكُونُ طَلَبْته جَيِّدًا. وَمِنْهَا بِمَعْنَى فَعَلَ، كَقَوْلِهِ، قَرَّ فِي الْمَكَانِ وَاسْتَقَرَّ. وَقَالُوا: إنَّ قَوْلَهُ يَسْتَهْزِئُونَ، وَيَسْتَحْسِرُونَ مِنْهُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: " اسْتَعْمَرَكُمْ ": خَلَقَكُمْ لِعِمَارَتِهَا عَلَى مَعْنَى اسْتَجْدَتْهُ وَاسْتَسْهَلْته، أَيْ أَصَبْته جَيِّدًا وَسَهْلًا، وَهَذَا يَسْتَحِيلُ فِي الْخَالِقِ، فَتَرْجِعُ إلَى أَنَّهُ خُلِقَ؛ لِأَنَّهُ الْفَائِدَةُ، وَيُعَبَّرُ عَنْ الشَّيْءِ بِفَائِدَتِهِ مَجَازًا، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْأُصُولِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ طَلَبَ مِنْ اللَّهِ ضِمَارَتَهَا؛ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ، أَمَّا إنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ اسْتَدْعَى عِمَارَتَهَا فَإِنَّهُ جَاءَ بِلَفْظِ اسْتَفْعَلَ، وَهُوَ اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ بِالْقَوْلِ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ إذَا كَانَ أَمْرٌ، أَوْ طَلَبَ الْفِعْلَ إذَا كَانَ مِنْ الْأَدْنَى إلَى الْأَعْلَى رَغْبَةً، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْأُصُولِ. [الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى وَلَقَدْ جَاءَتْ رسلنا إبْرَاهِيم بِالْبُشْرَى] قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69]. فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ:

مسألة السلام يرد بمثله

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ بَيَّنَّا فِي الرِّسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ إعْرَابَ الْآيَةِ، وَقَدْ قَالَ الطَّبَرِيُّ: إنَّهُ عَمِلَ فِي " سَلَامٍ " الْأَوَّلِ الْقَوْلُ، كَأَنَّهُ قَالَ: قَالُوا قَوْلًا وَسَلَّمُوا سَلَامًا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ سَلَامًا. قَالَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَغْرِبِيُّ: إنَّ نَصْبَهُ عَلَى الْمَصْدَرِ أَظْهَرُ وُجُوهِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ عَمِلَ فِيهِ الْقَوْلُ كَانَ عَلَى مَعْنَى السَّلَامِ، وَلَمْ يَكُنْ عَمَلُ لَفْظِهِ، كَأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ عَلَى الْمَعْنَى، كَمَا تَقُولُ: قُلْت حَقًّا، وَلَمْ يَنْطِقْ بِالْحَاءِ وَالْقَافِ، وَإِنَّمَا قُلْت قَوْلًا مَعْنَاهُ حَقٌّ، وَهُمْ إنَّمَا تَكَلَّمُوا بِسَلَامٍ، وَلِذَا أَجَابَهُمْ بِالسَّلَامِ، وَعَلَى هَذَا جَرَى قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ. قَالَ: فَإِنَّهُ يَقُولُ أَمْرِي سَلَامٌ، أَجَابَهُمْ عَلَى الْمَعْنَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا قَوْلُهُ: {قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ} [هود: 69]. يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَحِيَّةَ الْمَلَائِكَةِ هِيَ تَحِيَّةُ بَنِي آدَمَ. قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: الصَّحِيحُ أَنَّ " سَلَامًا " هَاهُنَا مَعْنَى كَلَامِهِمْ لَا لَفْظُهُ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان: 63]، وَلَوْ كَانَ لَفْظُ كَلَامِهِمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ فَإِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ ذِكْرَ اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ ذِكْرَ الْمَعْنَى الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ سَلَامٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَرَادَ ذِكْرَ اللَّفْظِ قَالَ بِعَيْنِهِ، فَقَالَ مُخْبِرًا عَنْ الْمَلَائِكَةِ: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: 24]. {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]، وَأَبْدَعُ مِنْهُ فِي الدَّلَالَةِ أَنَّهُ قَالَ: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ} [الصافات: 119] {سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} [الصافات: 120]. وَقَالَ أَيْضًا: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} [الصافات: 129] {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الصافات: 130]. [مَسْأَلَة السَّلَامَ يُرَدُّ بِمِثْلِهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: قَوْلُهُ: {قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ} [هود: 69] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّلَامَ يُرَدُّ بِمِثْلِهِ، كَمَا رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْقَارِي قَالَ: كُنْت مَعَ ابْنِ عُمَرَ فَيُسَلَّمُ عَلَيْهِ فَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، وَيُرَدُّ كَمَا يُقَالُ. قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: هَذَا عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ هَاهُنَا سَلَامٌ بِلَفْظِهِ أَوْ بِمَعْنَاهُ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.

مسألة أول من ضيف الضيف

[مَسْأَلَة أَوَّلُ مَنْ ضَيَّفَ الضَّيْفَ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69]. قَدَّمَهُ إلَيْهِمْ نُزُلًا وَضِيَافَةً، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ ضَيَّفَ الضَّيْفَ حَسْبَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ. وَفِي الإسرائليات أَنَّهُ كَانَ لَا يَأْكُلُ وَحْدَهُ، فَإِذَا حَضَرَ طَعَامُهُ أَرْسَلَ يَطْلُبُ مَنْ يَأْكُلُ مَعَهُ؛ فَلَقِيَ يَوْمًا رَجُلًا فَلَمَّا جَلَسَ مَعَهُ عَلَى الطَّعَامِ قَالَ لَهُ إبْرَاهِيمُ: سَمِّ اللَّهَ. قَالَ لَهُ الرَّجُلُ: لَا أَدْرِي مَا اللَّهُ؛ قَالَ لَهُ: فَاخْرُجْ عَنْ طَعَامِي. فَلَمَّا خَرَجَ الرَّجُلُ نَزَلَ إلَيْهِ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ: يَقُولُ [اللَّهُ]: إنَّهُ يَرْزُقُهُ عَلَى كُفْرِهِ مَدَى عُمُرِهِ، وَأَنْتَ بَخِلْت عَلَيْهِ بِلُقْمَةٍ، فَخَرَجَ إبْرَاهِيمُ مُسْرِعًا فَرَدَّهُ، فَقَالَ: [ارْجِعْ قَالَ]: لَا أَرْجِعُ؛ تُخْرِجُنِي ثُمَّ تَرُدُّنِي لِغَيْرِ مَعْنًى، فَأَخْبَرَهُ بِالْأَمْرِ، فَقَالَ: هَذَا رَبٌّ كَرِيمٌ. آمَنْت. وَدَخَلَ وَسَمَّى اللَّهَ، وَأَكَلَ مُؤْمِنًا. [مَسْأَلَة الضِّيَافَةَ وَاجِبَةٌ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: ذَهَبَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّ الضِّيَافَةَ وَاجِبَةٌ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ صَدَقَةٌ». وَفِي رِوَايَةٍ [أَنَّهُ قَالَ]: «ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِيَ عِنْدَهُ حَتَّى يُحْرِجَهُ». وَهَذَا حَدِيثٌ [صَحِيحٌ] خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ وَلَفْظُهُ لِلتِّرْمِذِيِّ. وَذَهَبَ عُلَمَاءُ الْفِقْهِ إلَى أَنَّ الضِّيَافَةَ لَا تَجِبُ؛ إنَّمَا هِيَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ بَيْنَ الْخَلْقِ، وَتَأَوَّلُوا هَذَا الْحَدِيثَ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: «فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ»؛ وَالْكَرَامَةُ مِنْ خَصَائِصِ النَّدْبِ دُونَ الْوُجُوبِ.

مسألة معنى قوله تعالى فما لبث أن جاء بعجل حنيذ

وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: إنَّ هَذَا كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ نُسِخَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ الْوُجُوبَ لَمْ يَثْبُتْ وَالنَّاسِخَ لَمْ يَرِدْ. أَمَّا إنَّهُ قَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «نَزَلْنَا بِحَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَاسْتَضَفْنَاهُمْ، فَأَبَوْا، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْحَيِّ فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ فَلَمْ يَنْفَعْهُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ، فَقَالُوا: يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ؛ إنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ، وَقَدْ سَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ فَلَمْ يَنْفَعْهُ، فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ شَيْءٌ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنِّي وَاَللَّهِ أَرْقِي، وَلَكِنْ وَاَللَّهِ لَقَدْ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا، فَمَا أَنَا بِرَاقٍ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعَلًا. فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنْ الْغَنَمِ، فَانْطَلَقَ يَتْفُلُ عَلَيْهِ، وَيَقْرَأُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَكَأَنَّمَا أُنْشِطُ مِنْ عِقَالٍ، فَانْطَلَقَ يَمْشِي وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ. قَالَ: فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمْ الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اقْسِمُوا، وَقَالَ الَّذِي رَقَى: لَا تَفْعَلُوا، حَتَّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِي كَانَ، فَنَنْظُرَ الَّذِي يَأْمُرُ بِهِ. فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: وَمَا يُدْرِيك أَنَّهَا رُقْيَةٌ ثُمَّ قَالَ: اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا. فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». فَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَاسْتَضَفْنَاهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُونَا، ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الضِّيَافَةَ لَوْ كَانَتْ حَقًّا لَلَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَوْمَ الَّذِينَ أَبَوْا وَبَيَّنَ ذَلِكَ لَهُمْ، وَلَكِنَّ الضِّيَافَةَ حَقِيقَةً فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إنَّهَا وَاجِبَةٌ فِي الْقُرَى حَيْثُ لَا طَعَامَ وَلَا مَأْوَى، بِخِلَافِ الْحَوَاضِرِ، فَإِنَّهَا مَشْحُونَةٌ بِالْمَأْوِيَّاتِ وَالْأَقْوَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الضَّيْفَ كَرِيمٌ، وَالضِّيَافَةَ كَرَامَةٌ، فَإِنْ كَانَ عَدِيمًا فَهِيَ فَرِيضَةٌ. [مَسْأَلَةُ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69] قَالَ كُبَرَاءُ النَّحْوِيِّينَ: فَمَا لَبِثَ حَتَّى جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ، وَأَعْجَبُ لَهُمْ كَيْفَ اسْتَجَازُوا

مسألة مبادرة إبراهيم بالنزول حين ظن أنهم أضياف مشكورة من الله

ذَلِكَ مَعَ سِعَةِ مَعْرِفَتِهِمْ. وَقَالَ غَيْرُهُمْ مَا قَدْ اسْتَوْفَيْنَا ذِكْرَهُ فِي الْمُلْجِئَةِ، وَحَقَّقْنَا [أَنَّ مَوْضِعَ] " أَنْ جَاءَ " مَنْصُوبٌ عَلَى حُكْمِ الْمَفْعُولِ. [مَسْأَلَة مُبَادَرَةُ إبْرَاهِيمَ بِالنُّزُولِ حِينَ ظَنَّ أَنَّهُمْ أَضْيَافٌ مَشْكُورَةٌ مِنْ اللَّهِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: مُبَادَرَةُ إبْرَاهِيمَ بِالنُّزُولِ حِينَ ظَنَّ أَنَّهُمْ أَضْيَافٌ مَشْكُورَةٌ مِنْ اللَّهِ مَتْلُوَّةٌ مِنْ كَلَامِهِ فِي الثَّنَاءِ بِهَا عَلَيْهِ، تَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي إنْزَالِهِ فِيهِ حِينَ قَالَ فِي مَوْضِعِ: فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ. وَفِي آخَرَ: فَجَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ أَيْ مَشْوِيٍّ، وَوَصَفَهُ بِالطِّيبَيْنِ: طِيبِ السِّمَنِ، وَطِيبِ الْعَمَلِ بِالْإِشْوَاءِ، وَهُوَ أَطْيَبُ لِلْمُحَاوَلَةِ فِي تَنَاوُلِهِ؛ فَكَانَ لِإِبْرَاهِيمَ فِيهِ ثَلَاثُ خِصَالٍ: الضِّيَافَةُ، وَالْمُبَادَرَةُ بِهَا جَيِّدًا لِسِمَنٍ فِيهَا وَصْفًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: كَانَتْ ضِيَافَةٌ قَلِيلَةٌ فَشَكَرَهَا الْحَبِيبُ مِنْ الْحَبِيبِ، وَهَذَا تَحَكُّمٌ بِالظَّنِّ فِي مَوْضِعِ الْقَطْعِ وَبِالْقِيَاسِ فِي مَوْضِعِ النَّقْلِ، مِنْ أَيْنَ عُلِمَ أَنَّهُ قَلِيلٌ؟ بَلْ قَدْ نَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانُوا ثَلَاثَةً: جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ، وَعِجْلٌ لِثَلَاثَةٍ عَظِيمٌ، فَمَا هَذَا التَّفْسِيرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِالرَّأْيِ؟ هَذَا بِأَمَانَةِ اللَّهِ هُوَ التَّفْسِيرُ الْمَذْمُومُ، فَاجْتَنِبُوهُ فَقَدْ عَلِمْتُمُوهُ. [مَسْأَلَة السُّنَّةُ إذَا قُدِّمَ لِلضَّيْفِ الطَّعَامُ أَنْ يُبَادِرَ الْمُقَدَّمُ إلَيْهِ بِالْأَكْلِ مِنْهُ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: السُّنَّةُ إذَا قُدِّمَ لِلضَّيْفِ الطَّعَامُ أَنْ يُبَادِرَ الْمُقَدَّمُ إلَيْهِ بِالْأَكْلِ مِنْهُ، فَإِنَّ كَرَامَةَ صَاحِبِ الْمَنْزِلِ الْمُبَادَرَةُ بِالْقَبُولِ، فَلَمَّا قَبَضَ الْمَلَائِكَةُ أَيْدِيَهُمْ نَكِرَهُمْ إبْرَاهِيمُ؛؛ لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا عَنْ الْعَادَةِ، وَخَالَفُوا السُّنَّةَ، وَخَافَ أَنْ يَكُونَ وَرَاءَهُمْ مَكْرُوهٌ يَقْصِدُونَهُ. وَقَدْ كَانَ مِنْ الْجَائِزِ كَمَا يَسَّرَ اللَّهُ لِلْمَلَائِكَةِ أَنْ يَتَشَكَّلُوا فِي صِفَةِ الْآدَمِيِّ جَسَدًا وَهَيْئَةً أَنْ يُيَسِّرَ لَهُمْ أَكْلَ الطَّعَامِ، إلَّا أَنَّهُ فِي قَوْلِ الْعُلَمَاءِ، أَرْسَلَهُمْ فِي صِفَةِ

الآية الخامسة قوله تعالى أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا

الْآدَمِيِّينَ، وَتَكَلَّفَ إبْرَاهِيمُ الضِّيَافَةَ حَتَّى إذَا رَأَى التَّوَقُّفَ، وَخَافَ جَاءَتْهُ الْبُشْرَى فَجْأَةً، وَأَكْمَلُ الْمُبَشِّرَاتِ مَا جَاءَ فَجْأَةً وَلَمْ يَظُنَّهُ الْمَسْرُورُ حِسَابًا. [الْآيَة الْخَامِسَة قَوْله تَعَالَى أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا] الْآيَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَانَ شُعَيْبٌ كَثِيرُ الصَّلَوَاتِ مُوَاظِبًا لِلْعِبَادَةِ، فَلَمَّا أَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ عَيَّرُوهُ بِمَا رَأَوْهُ يَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ مِنْ كَثْرَةِ الطَّاعَةِ. [مَسْأَلَة كَسْرُ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود: 87]: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: كَانُوا يَكْسِرُونَ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ. وَكَذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ؛ وَكَسْرُ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ ذَنْبٌ عَظِيمٌ؛ لِأَنَّهَا الْوَاسِطَةُ فِي تَقْدِيرِ قِيَمِ الْأَشْيَاءِ وَالسَّبِيلُ إلَى مَعْرِفَةِ كَمِّيَّةِ الْأَمْوَالِ وَتَنْزِيلِهَا فِي الْمُعَارَضَاتِ، حَتَّى عَبَّرَ عَنْهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنْ يَقُولُوا إنَّهَا الْقَاضِي بَيْنَ الْأَمْوَالِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَقَادِيرِ أَوْ جَهْلِهَا، وَإِنَّ مَنْ حَبَسَهَا وَلَمْ يَصْرِفْهَا فَكَأَنَّهُ حَبَسَ الْقَاضِيَ وَحَجَبَهُ عَنْ النَّاسِ، وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ إذَا كَانَتْ صِحَاحًا قَامَ مَعْنَاهَا، وَظَهَرَتْ فَائِدَتُهَا، فَإِذَا كُسِرَتْ صَارَتْ سِلْعَةً، وَبَطَلَتْ الْفَائِدَةُ فِيهَا، فَأَضَرَّ ذَلِكَ بِالنَّاسِ؛ فَلِأَجْلِهِ حُرِّمَ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: قَطْعُ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ مِنْ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفَسَّرَهُ بِهِ. وَمِثْلُهَا عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْهُمْ كُلِّهِمْ.

وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: إنَّ ذَلِكَ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف: 56]. وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [النمل: 48] قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: كَانُوا يَكْسِرُونَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، وَالْمَعَاصِي تَتَدَاعَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَصْبَغُ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ خَالِدٍ بْنِ جُنَادَةَ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ الْعُتَقِيِّ: مَنْ كَسَرَهَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ اعْتَذَرَ بِالْجَهَالَةِ لَمْ يُعْذَرْ، وَلَيْسَ هَذَا بِمَوْضِعِ عُذْرٍ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، فَلِأَنَّهُ أَتَى كَبِيرَةً؛ وَالْكَبَائِرُ تُسْقِطُ الْعَدَالَةَ دُونَ الصَّغَائِرِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَا يُقْبَلُ عُذْرُهُ بِالْجَهَالَةِ فِي هَذَا فَلِأَنَّهُ أَمْرٌ بَيِّنٌ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ. وَإِنَّمَا يُقْبَلُ الْعُذْرُ إذَا ظَهَرَ الصِّدْقُ فِيهِ أَوْ خَفِيَ وَجْهُ الصِّدْقِ فِيهِ، وَكَانَ اللَّهُ أَعْلَمَ بِهِ مِنْ الْعَبْدِ كَمَا قَالَ مَالِكٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إذَا كَانَ هَذَا مَعْصِيَةً وَفَسَادًا يَرُدُّ الشَّهَادَةَ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ. اُخْتُلِفَ فِي عُقُوبَتِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: [الْأَوَّلُ]: قَالَ مَالِكٌ: يُعَاقِبُهُ السُّلْطَانُ عَلَى ذَلِكَ هَكَذَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ لِلْعُقُوبَةِ. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَنَحْوُهُ عَنْ سُفْيَانَ: إنَّهُ مَرَّ بِرَجُلٍ قَدْ جُلِدَ، فَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: رَجُلٌ كَانَ يَقْطَعُ الدَّرَاهِمَ. قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: هَذَا مِنْ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَلَمْ يُنْكِرْ جَلْدَهُ.

الثَّالِثُ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ التُّجِيبِيُّ: كُنْت عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَاعِدًا، وَهُوَ إذْ ذَاكَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ، فَأُتِيَ بِرَجُلٍ يَقْطَعُ الدَّرَاهِمَ، وَقَدْ شَهِدَ عَلَيْهِ، فَضَرَبَهُ وَحَلَقَهُ، فَأَمَرَ فَطِيفَ بِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ يَقْطَعُ الدَّرَاهِمَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ أَنْ يُرَدَّ إلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: إنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَقْطَعَ يَدَك إلَّا أَنِّي لَمْ أَكُنْ تَقَدَّمْت فِي ذَلِكَ قَبْلَ الْيَوْمِ، فَقَدْ تَقَدَّمْت فِي ذَلِكَ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَقْطَعْ. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَمَّا أَدَبُهُ بِالسَّوْطِ فَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَأَمَّا حَلْقُهُ فَقَدْ فَعَلَهُ عُمَرُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ كُنْت أَيَّامَ الْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَضْرِبُ وَأَحْلِقُ؛ وَإِنَّمَا كُنْت أَفْعَلُ ذَلِكَ بِمَنْ يُرَبِّي شَعْرَهُ عَوْنًا عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَطَرِيقًا إلَى التَّجَمُّلِ بِهِ فِي الْفُسُوقِ، وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي كُلِّ طَرِيقَةٍ لِلْمَعْصِيَةِ أَنْ يَقْطَعَ إذَا كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ فِي الْبَدَنِ. وَأَمَّا قَطْعُ يَدِهِ فَإِنَّمَا أَخَذَ ذَلِكَ عُمَرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ فَصْلِ السَّرِقَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَرْضَ الدَّرَاهِمِ غَيْرُ كَسْرِهَا، فَإِنَّ الْكَسْرَ إفْسَادُ الْوَصْفِ وَالْقَرْضَ تَنْقِيصُ الْقَدْرِ، فَهُوَ أَخْذُ مَالٍ عَلَى جِهَةِ الِاخْتِفَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ مِنْ حِرْزٍ، وَالْحِرْزُ أَصْلٌ فِي الْقَطْعِ. قُلْنَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عُمَرُ رَأَى أَنَّ تَهْيِئَتَهَا لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْخَلْقِ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا حِرْزٌ لَهَا، وَحِرْزُ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ. وَقَدْ أَنْفَذَ بَعْدَ ذَلِكَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَقَطَعَ يَدَ رَجُلٍ فِي قَطْعِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا الْمَالِكِيَّةُ: إنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ خَوَاتِيمُ اللَّهِ عَلَيْهَا اسْمُ اللَّهِ وَلَوْ قُطِعَ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ مَنْ كَسَرَ خَاتَمًا لِلَّهِ لَكَانَ أَهْلًا لِذَلِكَ، إذْ مَنْ كَسَرَ خَاتَمَ سُلْطَانٍ عَلَيْهِ اسْمُهُ أُدِّبَ، وَخَاتَمُ اللَّهِ تُقْضَى بِهِ الْحَوَائِجُ، فَلَا يَسْتَوِيَانِ فِي الْعُقُوبَةِ.

الآية السادسة قوله تعالى ولا تركنوا إلى الذين ظلموا

وَأَرَى الْقَطْعَ فِي قَرْضِهَا دُونَ كَسْرِهَا، وَقَدْ كُنْت أَفْعَلُ ذَلِكَ أَيَّامَ تَوْلِيَتِي الْحُكْمَ، إلَّا أَنِّي كُنْت مَحْفُوفًا بِالْجُهَّالِ، لَمْ أُجِبْ بِسَبَبِ الْمَقَالِ لِلْحِسْدَةِ الضُّلَّالِ، فَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ يَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ فَلْيَفْعَلْهُ احْتِسَابًا لِلَّهِ تَعَالَى. [الْآيَة السَّادِسَة قَوْله تَعَالَى وَلَا تَرْكَنُوا إلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا] قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [هود: 113]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الرُّكُونُ فِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ النَّقَلَةِ لِلتَّفْسِيرِ، وَحَقِيقَتُهُ الِاسْتِنَادُ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا. [مَسْأَلَة الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قِيلَ فِي الظَّالِمِينَ إنَّهُمْ الْمُشْرِكُونَ. وَقِيلَ: إنَّهُمْ الْمُؤْمِنُونَ، وَأَنْكَرَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ، وَقَالُوا: أَمَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِذُنُوبِهِمْ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَالَحَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ، وَلَا يُرْكَنُ إلَيْهِ فِيهَا. وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَصْحَبَ عَلَى الْكُفْرِ، وَفِعْلُ ذَلِكَ كُفْرٌ؛ وَلَا عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَفِعْلُ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ قَالَ اللَّهُ فِي الْأَوَّلِ: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9]، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْآيَةُ إنْ كَانَتْ فِي الْكُفَّارِ فَهِيَ عَامَّةٌ فِيهِمْ وَفِي الْعُصَاةِ، وَذَلِكَ عَلَى نَحْوٍ مِنْ قَوْلِهِ: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} [الأنعام: 68]. وَقَدْ قَالَ حَكِيمٌ: عَنْ الْمَرْءِ لَا تَسَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ ... فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارِنِ مُقْتَدٍ

الآية السابعة قوله تعالى وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل

وَالصُّحْبَةُ لَا تَكُونُ إلَّا عَنْ مَوَدَّةٍ، فَإِنْ كَانَتْ عَنْ ضَرُورَةٍ وَتَقِيَّةٍ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ عَلَى الْمَعْنَى، وَصُحْبَةُ الظَّالِمِ عَلَى التَّقِيَّةِ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ النَّهْيِ لِحَالِ الِاضْطِرَارِ. [الْآيَة السَّابِعَة قَوْله تَعَالَى وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ] الْآيَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114]. فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنِّي عَالَجْتُ امْرَأَةً فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ، وَإِنِّي أَصَبْت مِنْهَا مَا دُونَ أَنْ أَمَسَّهَا، وَهَا أَنَا فَاقْضِ فِي بِمَا قَضَيْت. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَقَدْ سَتَرَك اللَّهُ لَوْ سَتَرْت عَلَى نَفْسِك. فَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ شَيْئًا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ فَأُنْزِلَتْ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ} [هود: 114]. فَأَتْبَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا فَدَعَاهُ فَتَلَا عَلَيْهِ: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ} [هود: 114]. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: هَذَا لَهُ خَاصَّةً. فَقَالَ: بَلْ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ عَامَّةً». وَهَذَا صَحِيحٌ رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَأَقِمْ الصَّلَاةَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: وأَقِمْ الصَّلَاةَ هَذِهِ الْآيَةُ تَضَمَّنَتْ ذِكْرَ الصَّلَاةِ وَهِيَ فِي كِتَابِ اللَّهِ سَبْعُ آيَاتٍ مُتَضَمِّنَةٍ ذِكْرَ الصَّلَاةِ هَذِهِ هِيَ الْآيَةُ الْأُولَى. الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78].

مسألة صلاة الغداة وصلاة العشي

الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} [طه: 130] إلَى: {تَرْضَى} [طه: 130]. الرَّابِعَةُ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [ق: 39] إلَى: {السُّجُودِ} [ق: 40]. الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} [الروم: 17] إلَى: {تُظْهِرُونَ} [الروم: 18]. السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلا - وَمِنَ اللَّيْلِ} [الإنسان: 25 - 26]. وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ بَعْضِ الصَّلَاةِ فِيهَا، وَهَذِهِ الْآيَاتُ السِّتُّ هِيَ الْمُسْتَوْفِيَةُ لِجَمِيعِهَا، وَكُلُّ آيَةٍ مِنْهَا تَأْتِي مَشْرُوحَةً فِي مَكَانِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَة صَلَاةَ الْغَدَاةِ وَصَلَاةَ الْعَشِيِّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ صَلَاةَ الْغَدَاةِ وَصَلَاةَ الْعَشِيِّ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. الثَّانِي: أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ. الثَّالِثُ: تَضَمَّنَتْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي صَلَاةِ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَصَلَاةِ اللَّيْلِ اخْتِلَافًا لَا يُؤَثِّرُ، فَتَرَكْنَا اسْتِيفَاءَهُ، وَالْإِشَارَةُ إلَيْهِ أَنَّ طَرَفَيْ النَّهَارِ الظُّهْرُ وَالْمَغْرِبُ. الثَّانِي: أَنَّهُمَا الصُّبْحُ وَالْمَغْرِبُ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ، وَكَذَلِكَ أَفْرَدُوا بِالِاخْتِلَافِ زُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ، فَمِنْ قَائِلٍ: إنَّهَا الْعَتَمَةُ، وَمِنْ قَائِلٍ: إنَّهَا الْمَغْرِبُ وَالْعَتَمَةُ وَالصُّبْحُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَا خِلَافَ أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، فَلَا يَضُرُّ الْخِلَافُ فِي تَفْصِيلِ تَأْوِيلِهَا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ وَالزُّلَفِ، فَإِذَا أَرَدْنَا سُلُوكَ سَبِيلِ التَّحْقِيقِ قُلْنَا: أَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ طَرَفَيْ النَّهَارِ الصُّبْحُ وَالْمَغْرِبُ فَقَدْ أَخْرَجَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ عَنْهَا. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا الصُّبْحُ وَالظُّهْرُ فَقَدْ أَسْقَطَ الْعَصْرَ.

مسألة استغراق الأوقات بالعبادات نفلا وفرضا

وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ الْعَصْرُ وَالصُّبْحُ فَقَدْ أَسْقَطَ الظُّهْرَ. وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي النَّهَارِ مِنْ الصَّلَوَاتِ إلَّا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ، وَبَاقِيهَا فِي اللَّيْلِ، فَزُلَفُ اللَّيْلِ ثَلَاثٌ: فِي ابْتِدَائِهِ، وَهِيَ الْمَغْرِبُ، وَفِي اعْتِدَالِ فَحْمَتِهِ، وَهِيَ الْعِشَاءُ، وَعِنْدَ انْتِهَائِهِ وَهِيَ الصُّبْحُ. وَأَمَّا طَرَفَا النَّهَارِ فَهُمَا الدُّلُوكُ وَالزَّوَالُ وَهُوَ طَرَفُهُ الْأَوَّلُ، وَالدُّلُوكُ الْغُرُوبُ، وَهُوَ طَرَفُهُ الثَّانِي. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ». وَالْعَجَبُ مِنْ الطَّبَرِيِّ الَّذِي يَقُولُ: إنَّ طَرَفَيْ النَّهَارِ الصُّبْحُ وَالْمَغْرِبُ وَهُمَا طَرَفَا اللَّيْلِ، فَقَلَبَ الْقَوْسَ رَكْوَةً، وَحَادَ مِنْ الْبُرْجَاسِ غَلْوَةً. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ إجْمَاعُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الطَّرَفَيْنِ الصُّبْحُ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الطَّرَفَ الْآخَرَ الْمَغْرِبُ، وَلَمْ يُجْمِعْ مَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ، وَإِنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: إنَّهَا الصُّبْحُ وَالْعَصْرُ أَنْجَبُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ». وَقَدْ قَرَنَهَا [بِهَا] فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ. [مَسْأَلَة اسْتِغْرَاقُ الْأَوْقَاتِ بِالْعِبَادَاتِ نَفْلًا وَفَرْضًا] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ شُيُوخُ الصُّوفِيَّةِ: إنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ اسْتِغْرَاقُ الْأَوْقَاتِ بِالْعِبَادَاتِ نَفْلًا وَفَرْضًا. وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَتَنَاوَلْ ذَلِكَ لَا وَاجِبًا فَإِنَّمَا خَمْسُ صَلَوَاتٍ، وَلَا نَفْلًا فَإِنَّ الْأَوْرَادَ مَعْلُومَةٌ، وَأَوْقَاتُ النَّوَافِلِ الْمُرَغَّبِ فِيهَا مَحْصُورَةٌ، وَمَا سِوَاهَا مِنْ

مسألة الحسنات يذهبن السيئات

الْأَوْقَاتِ يَسْتَرْسِلُ عَلَيْهِ النَّدْبُ عَلَى الْبَدَلِ لَا عَلَى الْعُمُومِ؛ فَلَيْسَ ذَلِكَ فِي قُوَّةِ بَشَرٍ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ. وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ جَلَسَ عَلَى الْمَقَاعِدِ فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ، فَأَذَّنَ بِصَلَاةِ الْعَصْرِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَالَ: وَاَللَّهِ لَأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يُصَلِّي الصَّلَاةَ إلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى حَتَّى يُصَلِّيَهَا». قَالَ عُرْوَةُ: أَرَاهُ يُرِيدُ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا} [البقرة: 159]. وَقَالَ مَالِكٌ: أَرَاهُ يُرِيدُ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ} [هود: 114]. فَعَلَى قَوْلِ عُرْوَةَ يَعْنِي عُثْمَانَ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيَّ كِتْمَانَ الْعِلْمِ لَمَا ذَكَرْته. وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ [يَعْنِي عُثْمَانَ]: لَوْلَا أَنَّ مَعْنَى مَا أَذْكُرُهُ لَكُمْ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا ذَكَرْته لِئَلَّا تَتَّهِمُونِي. [مَسْأَلَة الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، هِيَ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ أَوَّلُ الْآيَةِ فِي ذِكْرِ الصَّلَاةِ، فَعَلَيْهِ يَرْجِعُ آخِرُهَا، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اُجْتُنِبَتْ الْمَقْتَلَةُ». وَرُوِيَ: «مَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ». وَكُلُّ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ.

الآية الثامنة قوله تعالى ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْرَضَ عَنْهُ وَأُقِيمَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِالْآيَةِ فَدَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: أَشَهِدْت مَعَنَا الصَّلَاةَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: اذْهَبْ فَإِنَّهَا كَفَّارَةٌ لِمَا فَعَلْت» وَرُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ لَهُ: قُمْ فَصَلِّ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ»، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الثَّامِنَة قَوْله تَعَالَى وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً] الْآيَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118] {إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119]. فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي مَعْنَى الْأُمَّةِ: وَقَدْ قَدَّمْنَا الْإِشَارَةَ إلَيْهَا، وَجَمَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِيهَا نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ مَعْنًى، وَهِيَ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ يَعْنِي جَمَاعَةً وَاحِدَةً عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ. كَمَا يُقَالُ: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً أَيْ: جَمَاعَةٌ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ. [مَسْأَلَة اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ لَوْ شَاءَ رَبُّك لَجَعَلَ النَّاسَ كُلَّهُمْ مُسْلِمِينَ.

مسألة معنى قوله تعالى ولا يزالون مختلفين

وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لَجَعَلَهُمْ كُفَّارًا أَجْمَعِينَ. وَهَذِهِ آيَةٌ لَا يُؤْمِنُ بِهَا إلَّا أَهْلُ السُّنَّةِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَأَنَّ مَشِيئَتَهُ وَإِرَادَتَهُ تَتَعَلَّقُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ. وَالْأُولَى عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْمَعْنِيُّ هَاهُنَا بِالْآيَةِ الْمُسْلِمِينَ، تَقْدِيرُهَا: لَوْ شَاءَ رَبُّك لَجَعَلَ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ مُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّهُ قَسَّمَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ بِحِكْمَتِهِ وَسَابِقِ عِلْمِهِ وَمَشِيئَتِهِ. . [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118] قِيلَ: يَهُودِيٌّ وَنَصْرَانِيٌّ وَمَجُوسِيٌّ، وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى الْأَدْيَانِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي الِاخْتِلَافَ فِي الرِّزْقِ: غَنِيٌّ وَفَقِيرٌ. وَهَذَا بَعِيدٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ الْآيَةُ لِبَيَانِ الْأَدْيَانِ وَالِاخْتِلَافِ فِيهَا، وَإِخْبَارِ اللَّهِ عَنْ حُكْمِهِ عَلَيْهَا، وَرَحْمَةِ مَنْ يَرْحَمُ مِنْهَا، فَرَجَعَ وَصْفُ الِاخْتِلَافِ فِي هَذَا التَّقْدِيرِ إلَى أَهْلِ الْبَاطِلِ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ، وَلَا إشْكَالَ فِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدْخُلُ فِي هَذَا الْحُكْمِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ خَرِبٍ لَدَخَلْتُمُوهُ». وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ، إلَّا وَاحِدَةً. قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي». [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود: 119] فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: بِالْهِدَايَةِ إلَى الْحَنِيفِيَّةِ.

مسألة معنى قوله تعالى ولذلك خلقهم

الثَّانِي: بِالْهِدَايَةِ إلَى الْحَقِّ. الثَّالِثُ: بِالطَّاعَةِ. الرَّابِعُ: إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّك؛ فَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَكُلُّهَا اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ لَا انْقِطَاعَ فِيهِ لِانْتِظَامِ الْمَعْنَى مَعَهُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 119]: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لِلِاخْتِلَافِ خَلَقَهُمْ. الثَّانِي: لِلرَّحْمَةِ خَلَقَهُمْ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ لِيَخْتَلِفُوا، فَيَرْحَمُ مَنْ يَرْحَمُ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يُعَذِّبُ، كَمَا قَالَ: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105]. وَقَالَ: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7]. وَاعْجَبُوا مِمَّنْ يَسْمَعُ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30]، وَيَتَوَقَّفُ فِي مَعْرِفَةِ مَا يَكُونُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ لِلْفَسَادِ، وَهَلْ يَكُونُ الْفَسَادُ وَسَفْكُ الدِّمَاءِ إلَّا بِالِاخْتِلَافِ. وَقَدْ قَالَ أَشْهَبُ: سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118] {إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 119] لِلِاخْتِلَافِ، فَقَالَ لِي: لِيَكُونَ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ فَهِمَ الْآيَةَ، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِينَ قَرَأَ: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 119] قَالَ: خَلَقَ أَهْلَ رَحْمَتِهِ، لِئَلَّا يَخْتَلِفُوا. وَنَحْوُهُ عَنْ طَاوُسٍ، وَمَا اخْتَرْنَاهُ، وَأَخْبَرَنَا بِهِ هُوَ الصَّحِيحُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. أَلَا تَرَوْنَ إلَى خَاتِمَةِ الْآيَةِ حِينَ قَالَ: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} [هود: 119]، وَهِيَ: [الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ].

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119]. ثُمَّ أَخْبَرَ النَّبِيُّ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ أَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِآدَمَ: ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ. قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ لِلنَّارِ وَوَاحِدٌ إلَى الْجَنَّةِ»؛ فَلِهَذَا خَلَقَهُمْ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.

سورة يوسف فيها اثنتان وعشرون آية

[سُورَةُ يُوسُفَ فِيهَا اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ آيَةً] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاك عَلَى إخْوَتِكَ] ً الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف: 5]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي حَقِيقَةِ الرُّؤْيَا: وَهِيَ حَالَةٌ شَرِيفَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ لِلْخَلْقِ بُشْرَى كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَمْ يَبْقَ بَعْدِي مِنْ الْمُبَشِّرَاتِ إلَّا الرُّؤْيَا»، وَحَكَمَ بِأَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا؛ فَأَنْكَرَتْهَا الْمُعْتَزِلَةُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الشَّرِيعَةِ فِي شَيْءٍ. وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَمُ عَلَيْهَا مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْآرَاءِ وَالنِّحَلِ.

وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي حَقِيقَتِهَا؛ فَقَالَ الْقَاضِي، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرٍ: إنَّهَا أَوْهَامٌ وَخَوَاطِرُ وَاعْتِقَادَاتٌ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: هِيَ إدْرَاكٌ حَقِيقَةً، وَحَمَلَ الْقَاضِي وَالْأُسْتَاذُ ذَلِكَ عَلَى رُؤْيَةِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ يَطِيرُ وَهُوَ قَائِمٌ، وَفِي الْمَشْرِقِ وَهُوَ فِي الْمَغْرِبِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إدْرَاكًا حَقِيقَةً. وَعَوَّلَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَا إدْرَاكٌ فِي أَجْزَاءٍ لَمْ تَحِلَّهَا الْآفَةُ، وَمِنْ بَعْدِ عَهْدِهِ بِالنَّوْمِ اسْتَغْرَقَتْ الْآفَةُ أَجْزَاءَهُ، وَتَقِلُّ الْآفَةُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ. وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ لَهُ عِلْمًا نَاشِئًا، وَيَخْلُقُ لَهُ الَّذِي يَرَاهُ لِيَصِحَّ الْإِدْرَاكُ، فَإِذَا رَأَى شَخْصًا وَهُوَ فِي طَرَفِ الْعَالَمِ فَالْمَوْجُودُ كَأَنَّهُ عِنْدَهُ، وَلَا يَرَى فِي الْمَنَامِ إلَّا مَا يَصِحُّ إدْرَاكُهُ فِي الْيَقَظَةِ، وَلِذَلِكَ لَا نَرَى شَخْصًا قَائِمًا قَاعِدًا فِي الْمَنَامِ بِحَالٍ، وَإِنَّمَا يَرَى الْجَائِزَاتِ الْخَارِقَةَ لِلْعَادَاتِ، أَوْ الْأَشْيَاءَ الْمُعْتَادَاتِ، وَإِذَا رَأَى نَفْسَهُ يَطِيرُ أَوْ يَقْطَعُ يَدَهُ أَوْ رَأْسَهُ فَإِنَّمَا رَأَى غَيْرَهُ عَلَى مِثَالِهِ، وَظَنِّهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْقَاضِي الْأُسْتَاذِ أَبِي بَكْرٍ: إنَّهَا أَوْهَامٌ، وَيَتَّفِقُونَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى وَقَعَ الْبَيَانُ بِقَوْلِهِ [- عَلَيْهِ السَّلَامُ -]: «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي»؛ فَإِنَّ الْمَرْءَ يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَمْ يَرَ الذَّاتَ النَّبَوِيَّةَ وَلَا الْعَيْنَ الْمُرْسَلَةَ إلَى الْخَلْقِ، وَإِنَّمَا رَأَى مِثَالًا صَادِقًا فِي التَّعْبِيرِ عَنْهُ، وَالْخَبَرِ بِهِ؛ إذْ قَدْ يَرَاهُ شَيْخًا أَشْمَطَ، وَيَرَاهُ شَابًّا أَمْرَدَ، وَبَيَّنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا

الْمَعْنَى بَيَانًا زَائِدًا، فَقَالَ: «مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ» أَيْ لَمْ يَكُنْ تَخْيِيلًا وَلَا تَلْبِيسًا وَلَا شَيْطَانًا؛ وَلَكِنَّ الْمَلِكَ يَضْرِبُ الْأَمْثِلَةَ عَلَى أَنْوَاعٍ، بِحَسَبِ مَا يَرَى مِنْ التَّشْبِيهِ بَيْنَ الْمِثَالِ وَالْمُمَثَّلِ بِهِ؛ إذْ لَا يَتَكَلَّمُ مَعَ النَّائِمِ إلَّا بِالرَّمْزِ وَالْإِيمَاءِ فِي الْغَالِبِ، وَرُبَّمَا خَاطَبَهُ بِالصَّرِيحِ الْبَيِّنِ، وَذَلِكَ نَادِرٌ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رَأَيْت سَوْدَاءَ ثَائِرَةَ الرَّأْسِ تَخْرُجُ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَهْيَعَةَ، فَأَوَّلْتُهَا الْحُمَّى، وَرَأَيْت سَيْفِي قَدْ انْقَطَعَ صَدْرُهُ وَبَقَرًا تُنْحَرُ، فَأَوَّلْتُهَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي يُقْتَلُ، وَالْبَقَرُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِي يُقْتَلُونَ وَرَأَيْت أَنِّي أَدْخَلْت يَدِي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ فَأَوَّلْتُهَا الْمَدِينَةَ، وَرَأَيْت فِي يَدِي سِوَارَيْنِ فَأَوَّلْتُهُمَا كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ بَعْدِي»، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ضُرِبَتْ لَهُ بِهِ الْأَمْثَالُ. وَمِنْهَا مَا يَظْهَرُ مَعْنَاهُ أَوَّلًا، وَمِنْهَا مَا لَا يَظْهَرُ [مَعْنَاهُ] إلَّا بَعْدَ الْفِكْرِ. وَقَدْ رَأَى النَّائِمُ فِي زَمَانِ يُوسُفَ بَقَرًا فَأَوَّلَهَا يُوسُفُ السِّنِينَ، وَرَأَى أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ فَأَوَّلَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أَبَوَيْهِ، وَأَوَّلَ الْكَوَاكِبَ الْأَحَدَ عَشَرَ إخْوَتَهُ الْأَحَدَ عَشَرَ، وَفَهِمَ يَعْقُوبُ مَزِيَّةَ حَالِهِ، وَظُهُورَ خِلَالِهِ؛ فَخَافَ عَلَيْهِ حَسَدَ الْإِخْوَةِ الَّذِي ابْتَدَأَهُ ابْنَا آدَمَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالْكِتْمَانِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ كَانَ يُوسُفُ فِي وَقْتِ رُؤْيَاهُ صَغِيرًا، وَالصَّغِيرُ لَا حُكْمَ لِفِعْلِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ لِرُؤْيَاهُ حُكْمٌ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الصَّغِيرَ يَكُونُ الْفِعْلُ مِنْهُ بِالْقَصْدِ، فَيُنْسَبُ إلَى التَّقْصِيرِ، الرُّؤْيَا لَا قَصْدَ فِيهَا، فَلَا يُنْسَبُ تَقْصِيرٌ إلَيْهَا. الثَّانِي: أَنَّ الرُّؤْيَا إدْرَاكٌ حَقِيقَةً كَمَا بَيَّنَّاهُ، فَيَكُونُ مِنْ الصَّغِيرِ كَمَا يَكُونُ مِنْهُ

الآية الثانية قوله تعالى وجاءوا أباهم عشاء يبكون

الْإِدْرَاكُ الْحَقِيقِيُّ فِي الْيَقِظَةِ، وَإِذَا أَخْبَرَ عَمَّا رَأَى صُدِّقَ، فَكَذَلِكَ إذَا أَخْبَرَ عَمَّا رَأَى فِي الْمَنَامِ تَأَوَّلَ. الثَّالِثُ: أَنَّ خَبَرَهُ يُقْبَلُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، مِنْهَا الِاسْتِئْذَانُ فَكَذَلِكَ فِي الرُّؤْيَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف: 5] حُكْمٌ بِالْعَادَةِ مِنْ الْحَسَادَةِ بَيْنَ الْإِخْوَةِ وَالْقَرَابَةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَالْحُكْمُ بِالْعَادَةِ أَصْلٌ يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ بَعْدُ. وَقِيلَ: إنَّ يَعْقُوبَ قَدْ كَانَ فَهِمَ مِنْ إخْوَةِ يُوسُفَ حَسَدًا لَهُ بِمَا رَأَوْا مِنْ شَغَفِ أَبِيهِ بِهِ؛ فَلِذَلِكَ حَذَّرَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا يَدُلُّ عَلَى مَعْرِفَةِ يَعْقُوبَ بِتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا؟؛ لِأَنَّ نَهْيَهُ لِابْنِهِ عَنْ ذِكْرِهَا، وَخَوْفَهُ عَلَى إخْوَتِهِ مِنْ الْكَيْدِ لَهُ مِنْ أَجْلِهَا عُلِمَ بِأَنَّهَا تَقْتَضِي ظُهُورَهُ عَلَيْهِمْ وَتَقَدُّمَهُ فِيهِمْ، وَلَمْ يُبَالِ بِذَلِكَ يَعْقُوبُ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَوَدُّ أَنْ يَكُونَ وَلَدُهُ خَيْرًا مِنْهُ، وَالْأَخَ لَا يَوَدُّ ذَلِكَ لِأَخِيهِ. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ] الْآيَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ - قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 16 - 17]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بُكَاءَ الْمَرْءِ لَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَقَالِهِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ

مسألة هل المسابقة شرعة في الشريعة

يَكُونَ تَصَنُّعًا، وَمِنْ الْخَلْقِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْدِرُ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الدَّمْعَ الْمَصْنُوعَ لَا يَخْفَى، كَمَا قَالَ حَكِيمٌ: إذَا اشْتَبَكَتْ دُمُوعٌ فِي خُدُودٍ ... تَبَيَّنَ مَنْ بَكَى مِمَّنْ تَبَاكَى وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ الْأَمْرَ مُشْتَبِهٌ، وَأَنَّ مِنْ الْخَلْقِ فِي الْأَكْثَرِ مَنْ يَقْدِرُ مِنْ التَّطَبُّعِ عَلَى مَا يُشْبِهُ الطَّبْعَ. [مَسْأَلَة هَلْ الْمُسَابَقَةَ شِرْعَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} [يوسف: 17] اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ الْمُسَابَقَةَ شِرْعَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ، وَخَصْلَةٌ بَدِيعَةٌ، وَعَوْنٌ عَلَى الْحَرْبِ، وَقَدْ فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَفْسِهِ وَبِخَيْلِهِ؛ فَرُوِيَ «أَنَّهُ سَابَقَ عَائِشَةَ فَسَبَقَهَا، فَلَمَّا كَبِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَابَقَهَا فَسَبَقَتْهُ، فَقَالَ لَهَا: هَذِهِ بِتِلْكَ». وَرُوِيَ «أَنَّهُ سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي أُضْمِرَتْ مِنْ الْحَفْيَاءِ، وَكَانَ أَمَدُهَا ثَنْيَةَ الْوَدَاعِ، وَسَابَقَ الْخَيْلَ الَّتِي لَا تُضْمَرُ مِنْ الثَّنْيَةِ إلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ مِمَّنْ سَابَقَ بِهَا». وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَابَقَ بَيْنَ الْعَضْبَاءِ وَغَيْرِهَا، فَسَبَقَتْ الْعَضْبَاءُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَلَّا يَرْفَعَ شَيْئًا مِنْ الدُّنْيَا إلَّا وَضَعَهُ». وَفِي ذَلِكَ فِي الْفَوَائِدِ رِيَاضَةُ النَّفْسِ وَالدَّوَابِّ، وَتَدْرِيبُ الْأَعْضَاءِ عَلَى التَّصَرُّفِ، وَلَا مُسَابَقَةَ إلَّا بَيْنَ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ خَاصَّةً

الآية الثالثة قوله تعالى وجاءوا على قميصه بدم كذب

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يَجُوزُ الِاسْتِبَاقُ مِنْ غَيْرِ سَبَقٍ يُجْعَلُ، وَيَجُوزُ بِسَبَقٍ، فَإِنْ أَخْرَجَ أَحَدُ الْمُتَسَابِقِينَ سَبَقًا عَلَى أَنْ يَأْخُذَهُ الْآخَرُ إنْ سَبَقَ، وَإِنْ سَبَقَ هُوَ أَخَذَهُ الَّذِي يَلِيهِ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ. وَرَوَى ابْنُ مَزِيدٍ عَنْ مَالِكٍ أَنْ يَأْخُذَهُ مَنْ حَضَرَ، فَذَلِكَ أَيْضًا جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَى أَنْ يَأْخُذَهُ الْخَارِجُ إنْ سَبَقَ فَفِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: كَرِهَهُ مَالِكٌ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا خَيْرَ فِيهِ، وَجَوَّزَهُ ابْنُ وَهْبٍ، وَبِهِ أَقُولُ؛ لِأَنَّهُ لَا غَرَرَ فِيهِ، وَلَا دَلِيلَ يُحَرِّمُهُ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَهَذَا إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُحَلَّلٌ، عَلَى أَنَّهُ إنْ سَبَقَ أَخَذَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ سَبَقَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ جَازَ، جَوَّزَهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَمَالِكٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَمَنَعَهُ فِي الْآخَرِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مَعْرِفَةُ أَحَدٍ بِحَالِ فَرَسِ صَاحِبِهِ، بَلْ يَجُوزُ عَلَى الْجَهَالَةِ وَلَهُمَا حُكْمُ الْقَدَرِ، وَمَسَائِلُ السِّبَاقِ فِي الْفُرُوعِ مُسْتَوْفَاةٌ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ] ٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوا الدَّمَ عَلَامَةً عَلَى صِدْقِهِمْ، فَرُوِيَ فِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَرَنَ بِهَذِهِ الْعَلَامَةِ عَلَامَةً تُعَارِضُهُمَا؛ وَهِيَ سَلَامَةُ الْقَمِيصِ فِي التَّلْبِيبِ؛ وَالْعَلَامَاتُ إذَا تَعَارَضَتْ تَعَيَّنَ التَّرْجِيحُ، فَيُقْضَى بِجَانِبِ الرُّجْحَانِ، وَهِيَ قُوَّةُ التُّهْمَةِ لِوُجُوهٍ تَضَمَّنَهَا الْقُرْآنُ، مِنْهَا طَلَبُهُمْ إيَّاهُ شَفَقَةً، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِهِمْ مَا يُنَاسِبُهَا، فَيَشْهَدُ بِصِدْقِهَا، بَلْ كَانَ سَبَقَ ضِدُّهَا، وَهِيَ تَبَرُّمُهُمْ بِهِ. وَمِنْهَا أَنَّ الدَّمَ مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ فِي الْقَمِيصِ مَوْضُوعًا، وَلَا يُمْكِنُ افْتِرَاسُ الذِّئْبِ

مسألة القضاء بالتهمة إذا ظهرت

لِيُوسُفَ، وَهُوَ لَابِسٌ لِلْقَمِيصِ وَيَسْلَمُ الْقَمِيصُ مِنْ تَخْرِيقٍ، وَهَكَذَا يَجِبُ عَلَى النَّاظِرِ أَنْ يَلْحَظَ الْأَمَارَاتِ [وَالْعَلَامَاتِ] وَتَعَارُضَهَا. [مَسْأَلَة الْقَضَاءُ بِالتُّهْمَةِ إذَا ظَهَرَتْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَضَاءُ بِالتُّهْمَةِ إذَا ظَهَرَتْ كَمَا قَالَ يَعْقُوبُ: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18]. وَلَا خِلَافَ فِي الْحُكْمِ بِالتُّهْمَةِ؛ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ النَّاسُ [فِي التَّأْثِيرِ فِي] أَعْيَانِ التُّهَمِ حَسْبَمَا يَأْتِي مَنْثُورًا فِي الْمَسَائِلِ الْأَحْكَامِيَّةِ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا لَهُ: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17] أَيْ تُهْمَتُكَ لَنَا بِعِظَمِ مَحَبَّتِكَ تُبْطِلُ عِنْدَك صِدْقَنَا؛ وَهَذَا كُلُّهُ تَخْيِيلٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: كَانَ فِي قَمِيصِ يُوسُفَ ثَلَاثُ آيَاتٍ: جَاءُوا عَلَيْهِ بِدَمٍ كَذِبٍ، وَقُدَّ مِنْ دُبُرٍ، وَأُلْقِيَ عَلَى وَجْهِ يَعْقُوبَ فَارْتَدَّ بَصِيرًا. [الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ] الْآيَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [يوسف: 19]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ قَالَ: طُرِحَ يُوسُفُ فِي الْجُبِّ وَهُوَ غُلَامٌ، وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ صَغِيرًا. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى:

مسألة هل اللقيط حر

{لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} [يوسف: 10] وَلَا يُلْتَقَطُ الْكَبِيرُ. وَقَوْلُهُ: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف: 13] وَذَلِكَ أَمْرٌ يَخْتَصُّ بِالصِّغَارِ؛ فَمِنْ هَاهُنَا أَخَذَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ غُلَامٌ. [مَسْأَلَة هَلْ اللَّقِيطَ حُرٌّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} [يوسف: 19] قِيلَ: الضَّمِيرُ فِي (" أَسَرُّوهُ ") يَرْجِعُ إلَى الْمُلْتَقِطِينَ. وَقِيلَ: يَرْجِعُ إلَى الْإِخْوَةِ، فَإِنْ رَجَعَ إلَى الْإِخْوَةِ كَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّهُمْ كَتَمُوا أُخُوَّتَهُ، وَأَظْهَرُوا مَمْلُوكِيَّتَهُ، وَقَطَعُوهُ عَنْ الْقَرَابَةِ إلَى الرِّقِّ. وَإِنْ عَادَ الضَّمِيرُ إلَى الْمُلْتَقِطِينَ كَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّهُمْ أَخْفَوْهُ عَنْ أَصْحَابِهِمْ، وَبَاعُوهُ دُونَ عِلْمِهِمْ بِضَاعَةً اقْتَطَعُوهَا عَنْهُمْ، وَجَحَدُوهَا مِنْهُمْ؛ وَسَاعَدَ يُوسُفُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ تَحْتَ التَّخْوِيفِ وَالتَّهْدِيدِ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَضَى بِأَنَّ اللَّقِيطَ حُرٌّ، وَقَرَأَ: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20]. وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ وَجَمَاعَةٍ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: إنْ نَوَى رِقَّهُ فَهُوَ مَمْلُوكٌ، وَإِنْ نَوَى الْحِسْبَةَ فِيهِ فَهُوَ حُرٌّ. وَقَدْ رَوَى الزُّهْرِيُّ قَالَ: كُنْت عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَحَدَّثَهُ سُنَيْنٌ أَبُو جَمِيلَةَ قَالَ: وَجَدْت مَنْبُوذًا عَلَى عَهْدِ عُمَرَ، فَأَخَذْته فَانْطَلَقَ عَرِيفِي، فَذَكَرَهُ لِعُمَرَ، فَدَعَانِي عُمَرُ وَالْعَرِيفُ عِنْدَهُ، فَلَمَّا رَآنِي مُقْبِلًا قَالَ: عَسَى الْغُوَيْرُ أَبُؤْسًا. قَالَ الزُّهْرِيُّ: مَثَلٌ كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَضْرِبُونَهُ. قَالَ عَرِيفِي: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنَّهُ لَا يُتَّهَمُ بِهِ. فَقَالَ لِي: عَلَامَ أَخَذْت هَذَا؟ قُلْت: وَجَدْته نَفْسًا بِمَضْيَعَةٍ، فَأَحْبَبْت أَنْ يَأْجُرَنِي اللَّهُ. قَالَ: هُوَ حُرٌّ وَوَلَاؤُهُ لَك وَرَضَاعَتُهُ عَلَيْنَا. [الْآيَة الْخَامِسَة قَوْله تَعَالَى وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ] ٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20].

مسألة أصل النقدين

فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُقَالُ: شَرَيْت بِمَعْنَى بِعْت، وَشَرَيْت بِمَعْنَى اشْتَرَيْت لُغَةً. وَالْبَخْسُ: النَّاقِصُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف: 85] وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَقِيلَ فِي بَخْسٍ: إنَّهُ بِمَعْنَى حَرَامٍ، وَلَا وَجْهَ لَهُ، وَإِنَّمَا الْإِشَارَةُ فِيهِ إلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ ثَمَنَهُ بِالْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ إخْوَتَهُ إنْ كَانُوا بَاعُوهُ فَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُمْ مَا يَسْتَفِيدُونَ مِنْ ثَمَنِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ قَصْدُهُمْ مَا يَسْتَفِيدُونَ مِنْ خُلُوِّ وَجْهِ أَبِيهِمْ عَنْهُ. وَإِنْ كَانَ الَّذِينَ بَاعُوهُ هُمْ الْوَارِدَةُ فَإِنَّهُمْ أَخْفَوْهُ مُقْتَطَعًا، أَوْ قَالُوا لِأَصْحَابِهِمْ: أَرْسِلْ مَعَنَا بِضَاعَةً، فَرَأَوْا أَنَّهُمْ لَمْ يُعْطَوْا عَنْهُ ثَمَنًا، وَأَنَّ مَا أَخَذُوهُ فِيهِ رِبْحٌ كُلُّهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20] إخْوَتُهُ أَوْ الْوَارِدَةُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ أَمْرُهُ عَبِيطًا لَا عِنْدَ الْإِخْوَةِ؛ لِأَنَّ مَقْصِدَهُمْ زَوَالُ عَيْنِهِ لَا مَالِهِ، وَلَا عِنْدَ الْوَارِدَةِ؛ لِأَنَّهُمْ خَالَفُوا اشْتِرَاكَ أَصْحَابِهِمْ مَعَهُمْ، وَرَأَوْا أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ ثَمَنِهِ فِي الِانْفِرَادِ أَوْلَى. [مَسْأَلَة أَصْلُ النَّقْدَيْنِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20]: وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَثْمَانَ كَانَتْ تَجْرِي عِنْدَهُمْ عَدَدًا لَا وَزْنًا، وَأَصْلُ النَّقْدَيْنِ الْوَزْنُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ وَلَا الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ إلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ؛ فَمَنْ زَادَ أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى». وَلِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهَا إلَّا الْمِقْدَارُ؛ فَأَمَّا عَيْنُهَا فَلَا مَنْفَعَةَ فِيهِ، وَلَكِنْ جَرَى فِيهَا الْعَدَدُ تَخْفِيفًا عَنْ الْخَلْقِ؛ لِكَثْرَةِ الْمُعَامَلَةِ، فَيَشُقُّ الْوَزْنُ، حَتَّى لَوْ

مسألة هل أصل اللقيط الحرية

ضُرِبَتْ مَثَاقِيلُ وَدَرَاهِمُ لَجَازَ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ عَدَدًا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا نُقْصَانٌ [وَلَا رُجْحَانَ]؛ لِأَنَّ خَاتَمَ اللَّهِ عَلَيْهَا فِي التَّقْدِيرِ حَتَّى يَنْقُصَ وَزْنُهَا مَنْ نَقَصَ، وَيَفُضَّ خَاتَمَ اللَّهِ مَنْ فَضَّ؛ فَيَعُودُ الْأَمْرُ إلَى الْوَزْنِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ كَانَ كَسْرُهَا أَوْ قَرْضُهَا مِنْ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، حِينَ كَانَ حُكْمُ جَرَيَانِهَا الْعَدَدُ. [مَسْأَلَة هَلْ أَصْلُ اللَّقِيطِ الْحُرِّيَّةَ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إنَّمَا كَانَ أَصْلُ اللَّقِيطِ الْحُرِّيَّةَ، لِغَلَبَةِ الْأَحْرَارِ عَلَى الْعَبِيدِ، فَيُقْضَى بِالْغَالِبِ، كَمَا حُكِمَ بِأَنَّهُ مُسْلِمٌ أَخْذًا بِالْغَالِبِ. فَإِنْ كَانَ فِي قَرْيَةٍ فِيهَا نَصَارَى وَمُسْلِمُونَ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُحْكَمُ بِالْأَغْلَبِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إلَّا مُسْلِمٌ وَاحِدٌ قُضِيَ لِلَّقِيطِ بِالْإِسْلَامِ، تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ الَّذِي يَعْلُو وَلَا يُعْلَى [عَلَيْهِ]. وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ أَوْلَى وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْمَسَائِلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة السَّادِسَة قَوْله تَعَالَى وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ] ِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف: 21] هَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ التَّبَنِّي كَانَ أَمْرًا مُعْتَادًا عِنْدَ الْأُمَمِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: أَفَرَسُ النَّاسِ ثَلَاثَةٌ: عَزِيزُ مِصْرَ، حِينَ قَالَ لِامْرَأَتِهِ:

الآية السابعة قوله تعالى ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما

{أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} [يوسف: 21] إلَخْ. الثَّانِي: بِنْتُ شُعَيْبٍ فِي فِرَاسَةِ مُوسَى حِينَ قَالَتْ: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26]. الثَّالِثُ: أَبُو بَكْرٍ حِينَ وَلَّى عُمَرَ قَالَ: أَقُولُ لِرَبِّي وَلَّيْتُ عَلَيْهِمْ خَيْرَهُمْ. قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عَجَبًا لِلْمُفَسِّرِينَ فِي اتِّفَاقِهِمْ عَلَى جَلْبِ هَذَا الْخَبَرِ، وَالْفِرَاسَةُ هِيَ عِلْمٌ غَرِيبٌ، حَدُّهُ وَحَقِيقَتُهُ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ الِاسْتِدْلَال بِالْخَلْقِ عَلَى الْخَلْقِ فِيمَا لَا يَتَعَدَّى الْمُتَفَطِّنُونَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّيَغِ وَالْأَغْرَاضِ، فَأَمَّا أَمْرُ الْعَزِيزِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ فِرَاسَةً؛ لَأَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ عَلَامَةٌ ظَاهِرَةٌ. وَأَمَّا بِنْتُ شُعَيْبٍ فَكَانَتْ مَعَهَا الْعَلَامَةُ الْبَيِّنَةُ. أَمَّا الْقُوَّةُ فَعَلَامَتُهَا رَفْعُ الْحَجَرِ الثَّقِيلِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَرْفَعَهُ، وَأَمَّا الْأَمَانَةُ فَبِقَوْلِهِ لَهَا وَكَانَ يَوْمًا رِيَاحًا: امْشِي خَلْفِي لِئَلَّا تَصِفَكِ الرِّيحُ بِضَمِّ ثَوْبَكِ لَكِ، وَأَنَا عِبْرَانِيٌّ لَا أَنْظُرُ فِي أَدْبَارِ النِّسَاءِ. وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فِي وِلَايَةِ عُمَرَ فَبِالتَّجْرِبَةِ فِي الْأَعْمَالِ، وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى الصُّحْبَةِ [وَطُولِهَا]، وَالِاطِّلَاعِ عَلَى مَا شَاهَدَ مِنْهُ، مِنْ الْعِلْمِ وَالْمُنَّةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْفِرَاسَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة السَّابِعَة قَوْله تَعَالَى وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا] الْآيَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 22]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {أَشُدَّهُ} [يوسف: 22] فِي لُغَتِهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ، كَالْإِصْرِ وَالْأَشَرِّ. الثَّانِي: أَنَّ وَاحِدَهُ شِدَّةٌ كَنِعْمَةٍ وَأَنْعُمٍ؛ قَالَهُ سِيبَوَيْهِ.

مسألة معنى قوله تعالى آتيناه حكما وعلما

الثَّالِثُ: وَاحِدُهُ شَدَّ، كَقَوْلِك قَدَّ وَأَقَدَّ. الرَّابِعُ: قَالَ يُونُسُ: وَاحِدُهُ شَدَّ، وَهُوَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ. الْخَامِسُ: أَشُدُّ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالشِّينِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَقْدِيرِهِ: وَفِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ مِنْ الْحُلُمِ إلَى أَرْبَعِينَ سَنَةً، أُمَّهَاتُهَا خَمْسٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مِنْ الْحُلُمُ؛ قَالَهُ الشَّعْبِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَمَالِكٌ. الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ عَامًا إلَى أَرْبَعِينَ؛ وَهُوَ الْأَوَّلُ بِعَيْنِهِ، إلَّا أَنَّهُ رَأَى أَنَّ الْحُلُمَ مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ عَامًا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ عِشْرُونَ سَنَةً؛ قَالَهُ الضَّحَّاكُ. الرَّابِعُ: إنَّهُ بِضْعٌ وَثَلَاثُونَ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ أَرْبَعُونَ؛ يُرْوَى عَنْ جَمَاعَةٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحُلُمَ إلَى خَمْسِينَ سَنَةً؛ فَإِنَّ مِنْ الْحُلُمِ يَشْتَدُّ الْآدَمِيُّ إلَى خَمْسِينَ ثُمَّ يَأْخُذُ فِي الْقَهْقَرَى قَالَ الشَّاعِرُ: أَخُو خَمْسِينَ مُجْتَمِعٌ أَشُدِّي ... وَتَجْرِيبِي مُدَارَاةُ الشُّؤُونِ [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [يوسف: 22]: الْحُكْمُ هُوَ الْعَمَلُ بِالْعِلْمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَعْنَى تَرْتِيبِ " حُكْمٍ ". وَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْعِلْمِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَمَا قَبْلَهُ فِي زَمَانِ عَدَمِ التَّكْلِيفِ فَإِنَّهُ فِيهِ مَعْدُومٌ إلَّا فِي النَّادِرِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12]. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: قِيلَ لَهُ، وَهُوَ صَغِيرٌ: أَلَا تَذْهَبُ تَلْعَبُ؟ قَالَ: مَا خُلِقْت لِلَّعِبِ. وَهَذَا إنَّمَا بَيَّنَ اللَّهُ بِهِ حَالَ يُوسُفَ مِنْ حِينِ بُلُوغِهِ بِأَنَّهُ آتَاهُ الْعِلْمَ، وَآتَاهُ الْعَمَلَ بِمَا عَلِمَ؛ وَخَبَرُ اللَّهِ صَادِقٌ، وَوَصْفُهُ صَحِيحٌ، وَكَلَامُهُ حَقٌّ، فَقَدْ عَمِلَ يُوسُفُ بِمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْ

تَحْرِيمِ الزِّنَا وَتَحْرِيمِ خِيَانَةِ السَّيِّدِ أَوْ الْجَارِ أَوْ الْأَجْنَبِيِّ فِي أَهْلِهِ، فَمَا تَعَرَّضَ لِامْرَأَةِ الْعَزِيزِ، وَلَا أَنَابَ إلَى الْمُرَاوَدَةِ [بِحُكْمِ الْمُرَاوَدَةِ]؛ بَلْ أَدْبَرَ عَنْهَا، وَفَرَّ مِنْهَا؛ حِكْمَةٌ خُصَّ بِهَا، وَعَمَلًا بِمُقْتَضَى مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ؛ وَهَذَا يَطْمِسُ وُجُوهَ الْجَهَلَةِ مِنْ النَّاسِ وَالْغَفَلَةِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي نِسْبَتِهِمْ إلَيْهِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَأَقَلُّ مَا اقْتَحَمُوا مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ هَتَكَ السَّرَاوِيلَ، وَهَمَّ بِالْفَتْكِ فِيمَا رَأَوْهُ مِنْ تَأْوِيلٍ، وَحَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْت عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ، بَلْ أُبَرِّئُهُ مِمَّا بَرَّأَهُ مِنْهُ، فَقَالَ: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [يوسف: 22]، كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الَّذِينَ اسْتَخْلَصْنَاهُمْ. وَالْفَحْشَاءُ هِيَ الزِّنَا وَالسُّوءُ هُوَ الْمُرَاوَدَةُ وَالْمُغَازَلَةُ، فَمَا أَلَمَّ بِشَيْءٍ وَلَا أَتَى بِفَاحِشَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 24]. قُلْنَا: قَدْ تَقَصَّيْنَا عَنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ شَرْحِ الْمُشْكِلَيْنِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ اللَّهَ [سُبْحَانَهُ] مَا أَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ أَتَى فِي جَانِبِ الْقِصَّةِ فِعْلًا بِجَارِحَةٍ، وَإِنَّمَا الَّذِي كَانَ مِنْهُ الْهَمُّ، وَهُوَ فِعْلُ الْقَلْبِ، فَمَا لِهَؤُلَاءِ الْمُفَسِّرِينَ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا، وَيَقُولُونَ: فَعَلَ، وَفَعَلَ؟ وَاَللَّهُ إنَّمَا قَالَ: هَمَّ بِهَا، لَا أَقَالَهُمْ وَلَا أَقَاتَهُمْ اللَّهُ وَلَا عَالَهُمْ. كَانَ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ إمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ، وَأَيُّ إمَامٍ، يُعْرَفُ بِابْنِ عَطَاءٍ، تَكَلَّمَ يَوْمًا عَلَى يُوسُفَ وَأَخْبَارِهِ حَتَّى ذَكَرَ تَبْرِئَتَهُ مِنْ مَكْرُوهِ مَا نُسِبَ إلَيْهِ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ آخِرِ مَجْلِسِهِ وَهُوَ مَشْحُونٌ بِالْخَلِيقَةِ مَنْ كَانَ طَائِفَةً، فَقَالَ لَهُ: يَا سَيِّدِي، فَإِذَنْ يُوسُفُ هَمَّ وَمَا تَمَّ. فَقَالَ: نَعَمْ؛ لِأَنَّ الْعِنَايَةَ مِنْ ثَمَّ. فَانْظُرْ إلَى حَلَاوَةِ الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ، وَانْظُرْ إلَى فِطْنَةِ الْعَامِّيِّ فِي سُؤَالِهِ، وَجَوَابِ الْعَالِمِ فِي اخْتِصَارِهِ، وَاسْتِيفَائِهِ. وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاءُ الصُّوفِيَّةِ: إنَّ فَائِدَةَ قَوْلِهِ: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [يوسف: 22] أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُ الْعِلْمَ وَالْحِكْمَةَ إبَّانَ غَلَبَةِ الشَّهْوَةِ لِتَكُونَ لَهُ سَبَبًا لِلْعِصْمَةِ

الآية الثامنة قوله تعالى قال هي راودتني عن نفسي

[الْآيَة الثَّامِنَة قَوْله تَعَالَى قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي] وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [يوسف: 26] {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 27]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَيْسَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ مِنْ شَهَادَاتِ الْأَحْكَامِ الَّتِي تُفِيدُ الْإِعْلَامَ عِنْدَ الْحُكَّامِ، وَيَتَفَرَّدُ بِعِلْمِهَا الشَّاهِدُ فَيَطَّلِعُ عَلَيْهَا الْحَاكِمُ، وَإِنَّمَا هِيَ بِمَعْنَى أَخْبَرَ عَنْ عِلْمِ مَا كَانَ عَنْهُ الْقَوْمُ غَافِلِينَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَمِيصَ جَرَتْ الْعَادَةُ فِيهِ أَنَّهُ إذَا جُذِبَ مِنْ خَلْفِهِ تَمَزَّقَ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَإِذَا جُذِبَ مِنْ قُدَّامَ تَمَزَّقَ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَلَا يُجْذَبُ الْقَمِيصُ مِنْ خَلْفِ اللَّابِسِ إلَّا إذَا كَانَ مُدْبِرًا، وَهَذَا فِي الْأَغْلَبِ، وَإِلَّا فَقَدْ يَتَمَزَّقُ [الْقَمِيصُ بِالْقَلْبِ مِنْ ذَلِكَ] إذَا كَانَ الْمَوْضِعُ ضَعِيفًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يَتَكَلَّمُ النَّاسُ فِي هَذَا الشَّاهِدِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: الشَّاهِدُ هُوَ الْقَمِيصُ. الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ ابْنُ عَمِّهَا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْعَزِيزِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ كَانَ صَبِيًّا فِي الْمَهْدِ. فَأَمَّا إذَا قُلْنَا إنَّهُ الْقَمِيصُ فَكَانَ يَصِحُّ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ حَالِهِ بِتَقْدِيرِ مَقَالِهِ؛ فَإِنَّ لِسَانَ الْحَالِ أَبْلَغُ مِنْ لِسَانِ الْمَقَالِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَقَدْ تُضِيفُ الْعَرَبُ الْكَلَامَ إلَى الْجَمَادَاتِ بِمَا تُخْبِرُ عَنْهُ بِمَا عَلَيْهَا مِنْ الصِّفَاتِ، وَمِنْ أَجْلَاهُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: قَالَ

الْحَائِطُ لِلْوَتَدِ: لِمَ تَشُقُّنِي. قَالَ: سَلْ مَنْ يَدُقُّنِي، مَا تَرَكَنِي وَرَأْيِي هَذَا الَّذِي وَرَائِي، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: {مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف: 26] فِي صِفَةِ الشَّاهِدِ يُبْطِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَمِيصَ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ ابْنُ عَمِّهَا أَوْ رَجُلٌ آخَرُ مِنْ أَصْحَابِ الْعَزِيزِ، فَإِنَّهُ مُحْتَمَلٌ؛ لَكِنَّ قَوْلَهُ: {مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف: 26] يُعْطِي اخْتِصَاصًا مِنْ جِهَةِ الْقَرَابَةِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ كَانَ صَغِيرًا فَهُوَ الَّذِي يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ أَرْبَعَةٌ: " عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَابْنُ مَاشِطَةِ فِرْعَوْنَ، وَشَاهِدُ يُوسُفَ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، " وَنَقَصَهُمْ اثْنَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الَّذِي «ذَكَرَ النَّبِيُّ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ أَنَّهُمْ لَمَّا حُفِرَتْ لَهُمْ الْأَرْضُ، وَرُمِيَ فِيهَا بِالْحَطَبِ وَأُوقِدَتْ النَّارُ عَلَيْهَا، وَعُرِضَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقَعُوا فِيهَا أَوْ يَكْفُرُوا الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. فَوَقَفَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ، وَكَانَ فِي ذِرَاعِهَا صَبِيٌّ فَقَالَ لَهَا: يَا أُمَّهْ، إنَّك عَلَى الْحَقِّ.» وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَالثَّانِي: مَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تُرْضِعُ صَبِيًّا فِي حِجْرِهَا، فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ لَهُ شَارَةٌ وَحَوْلَهُ حَفَدَةٌ، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ ابْنِي مِثْلَ هَذَا، فَتَرَكَ الصَّبِيُّ الثَّدْيَ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلنِي مِثْلَهُ، وَمَرَّ بِامْرَأَةٍ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا وَيَقُولُونَ: سَرَقْت وَلَمْ تَسْرِقْ وَزَنَيْت وَلَمْ تَزْنِ. فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ ابْنِي مِثْلَهَا، فَتَرَكَ الصَّبِيُّ الثَّدْيَ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا. وَأَوْحَى إلَى نَبِيِّ ذَلِكَ الزَّمَانِ أَنَّ الْأَوَّلَ لَا خَيْرَ فِيهِ، وَأَنَّ هَذِهِ يَقُولُونَ فَعَلَتْ وَهِيَ لَمْ تَفْعَلْ. هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ. فَاَلَّذِي صَحَّ فِيمَنْ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ أَرْبَعَةٌ: صَاحِبُ الْأُخْدُودِ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ

مسألة العمل بالعرف والعادة

وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَهَذَا الصَّبِيُّ الَّذِي تَكَلَّمَ فِي حِجْرِ الْمَرْأَةِ بِالرَّدِّ عَلَى أُمِّهِ فِيمَا اخْتَارَتْهُ وَكَرِهَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ بَعْضُ [الْعُلَمَاءِ] الْمُفَسِّرِينَ: لَوْ كَانَ هَذَا الْمُشَاهِدُ طِفْلًا لَكَانَ فِي كَلَامِهِ فِي الْمَهْدِ وَشَهَادَتِهِ آيَةٌ لِيُوسُفَ، وَلَمْ يُحْتَجْ إلَى ثَوْبٍ وَلَا إلَى غَيْرِهِ. وَهَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ يَتَكَلَّمُ فِي الْمَهْدِ مُنَبِّهًا لَهُمْ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ الَّذِي كَانُوا عَنْهُ غَافِلِينَ، وَكَانَتْ آيَةً، كَمَا قَالَ: تَبَيَّنَتْ بِهَا بَرَاءَةُ يُوسُفَ مِنْ الْوَجْهَيْنِ: مِنْ جِهَةِ نُطْقِ الصَّبِيِّ، وَمِنْ جِهَةِ ذِكْرِ الدَّلِيلِ. [مَسْأَلَة الْعَمَلِ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى الْعَمَلِ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ لِمَا ذُكِرَ مِنْ أَخْذِ الْقَمِيصِ مُقْبِلًا وَمُدْبِرًا، وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْإِقْبَالُ مِنْ دَعْوَاهَا، وَالْإِدْبَارُ مِنْ صِدْقِ يُوسُفَ؛ وَهَذَا أَمْرٌ تَفَرَّدَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِنَا. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا. قُلْنَا: عَنْهُ جَوَابَانِ.: أَحَدُهُمَا: أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَصَالِحَ وَالْعَادَاتِ لَا تَخْتَلِفُ فِيهَا الشَّرَائِعُ. أَمَّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ وُجُودُ الْمَصَالِحِ فَيَكُونَ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، فَإِذَا وُجِدَتْ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهَا. وَقَدْ اسْتَدَلَّ يَعْقُوبُ بِالْعَلَامَةِ، فَرَوَى الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْإِخْوَةَ لَمَّا ادَّعَوْا أَكْلَ الذِّئْبِ [لَهُ] قَالَ: أَرُونِي الْقَمِيصَ. فَلَمَّا رَآهُ سَلِيمًا قَالَ: لَقَدْ كَانَ هَذَا الذِّئْبُ حَلِيمًا. وَهَكَذَا فَاطَّرَدَتْ الْعَادَةُ وَالْعَلَامَةُ، وَلَيْسَ هَذَا بِمُنَاقِضٍ لِقَوْلِهِ [عَلَيْهِ السَّلَامُ] «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي

الآية التاسعة قوله تعالى قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه

وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ». وَالْبَيِّنَةُ إنَّمَا هِيَ الْبَيَانُ، وَدَرَجَاتُ الْبَيَانِ تَخْتَلِفُ بِعَلَامَةٍ تَارَةً، وَبِأَمَارَةٍ أُخْرَى؛ وَبِشَاهِدٍ أَيْضًا، وَبِشَاهِدَيْنِ ثُمَّ بِأَرْبَعٍ. [الْآيَة التَّاسِعَة قَوْله تَعَالَى قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ] الْآيَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أُكْرِهَ يُوسُفُ عَلَى الْفَاحِشَةِ بِالسِّجْنِ، وَأَقَامَ فِيهِ سَبْعَةَ أَعْوَامٍ، وَمَا رَضِيَ بِذَلِكَ لِعَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ وَشَرِيفِ قَدْرِهِ، وَلَوْ أُكْرِهَ رَجُلٌ بِالسِّجْنِ عَلَى الزِّنَا مَا جَازَ لَهُ ذَلِكَ إجْمَاعًا، فَإِنْ أُكْرِهَ بِالضَّرْبِ فَاخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ؛ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا كَانَ فَادِحًا فَإِنَّهُ يَسْقُطُ إثْمُ الزِّنَا وَحْدَهُ. وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: إنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُسْقِطُ الْحَدَّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ عَلَى عَبْدِهِ الْعَذَابَيْنِ، وَلَا يَصْرِفُهُ بَيْنَ الْبَلَاءَيْنِ فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْحَرَجِ فِي الدِّينِ، وَصَبَرَ يُوسُفُ عَلَى السِّجْنِ، وَاسْتَعَاذَ مِنْ الْكَيْدِ فَقَالَ: {وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} [يوسف: 33] الْآيَتَيْنِ. [مَسْأَلَة بِنَاءُ أَفْعَلَ فِي التَّفْضِيلِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: أَحَبُّ بِنَاءُ أَفْعَلَ فِي التَّفْضِيلِ يَكُونُ لِلْمُشْتَرِكَيْنِ فِي الشَّيْءِ، وَلِأَحَدِهِمَا الْمَزِيدُ فِي الْمُشْتَرَكِ فِيهِ عَلَى الْآخَرِ، وَلَمْ يَكُنْ الْمَدْعُوُّ إلَيْهِ حَبِيبًا إلَى يُوسُفَ، وَلَكِنَّهُ كَنَحْوِ الْقَوْلِ: الْجَنَّةُ أَحَبُّ

الآية العاشرة قوله تعالى يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا

إلَيَّ مِنْ النَّارِ، وَالْعَافِيَةُ أَحَبُّ إلَى [قَلْبِي] مِنْ الْبَلَاءِ؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِنَا. [الْآيَة الْعَاشِرَة قَوْله تَعَالَى يَا صَاحِبَيْ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا] الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف: 41]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُوِيَ أَنَّ الْفَتَيَيْنِ لَمَّا صَحِبَاهُ فِي السِّجْنِ وَكَلَّمَاهُ، وَرَأَيَا فَضْلَهُ وَأَدَبَهُ وَفَهْمَهُ سَأَلَاهُ عَنْ الَّذِي قَالَا إنَّهُمَا رَأَيَاهُ مِنْ أَمْرِ الْخَمْرِ وَالْخُبْزِ، فَأَعْرَضَ يُوسُفُ عَنْهُمَا، وَأَخَذَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ يَتَكَلَّمُ فِيهِ مَعَهُمَا، فَقَالَ لَهُمَا: {لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 37] وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ كَانَ قَدْ عَلَّمَهُ تَأْوِيلَ الرُّؤْيَا، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْلِهِ: {وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف: 21] يَعْنِي مَا يَكُونُ سَبَبًا لِظُهُورِ بَرَاءَتِهِ وَمَنْزِلَتِهِ، وَقَدْ كَانَ أَطْلَعَهُ مِنْ الْغُيُوبِ عَلَى مَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ الْبَوَاطِنِ، حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ الْمَلِكُ إذَا أَرَادَ إهْلَاكَ أَحَدٍ أَرْسَلَ إلَيْهِ طَعَامًا مَسْمُومًا، فَلَمَّا سَأَلَاهُ عَمَّا رَأَيَا فِي الْمَنَامِ مِنْ أَمْرِ الطَّعَامِ أَعْلَمَهُمَا أَنَّهُ يُخْبِرُهُمَا بِحَالِ كُلِّ طَعَامٍ يَأْتِيهِمَا فِي الْيَقِظَةِ وَالْمَنَامِ، وَأَقْبَلَ يُبَيِّنُ لَهُمَا حَالَ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ الْحَقِّ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُ مِنْ قَبْلِهِ كَذَلِكَ، وَنَصَبَ لَهُمَا الْأَدِلَّةَ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى تَأْوِيلِ مَا رَأَيَا، فَلَمَّا أَخْبَرَهُمَا بِالتَّأْوِيلِ نَدِمَا عَلَى مَا فَعَلَا، وَقَالَا: كَذَبْنَا. فَقَالَ لَهُمَا يُوسُفُ: {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف: 41]. [مَسْأَلَة مَنْ كَذَبَ فِي رُؤْيَا فَفَسَّرَهَا الْعَابِرُ لَهُ أَيَلْزَمُهُ حُكْمُهَا] فَإِنْ قِيلَ: وَمَنْ كَذَبَ فِي رُؤْيَا فَفَسَّرَهَا الْعَابِرُ لَهُ، أَيَلْزَمُهُ حُكْمُهَا؟ وَهِيَ:

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُلْنَا: لَا يَلْزَمُهُ؛ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ فِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ نَبِيٌّ. وَقَدْ قَالَ: إنَّهُ يَكُونُ كَذَا وَيَقَعُ كَذَا، فَأَوْجَدَ اللَّهُ مَا أَخْبَرَ كَمَا قَالَ؛ تَحْقِيقًا لِنُبُوَّتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا مَخْرَجُ كَلَامِ يُوسُفَ فِي أَنَّهُ يَكُونُ كَذَا إنْ كَانَا رَأَيَاهُ. قُلْنَا: ذَلِكَ جَائِزٌ؛ وَلَكِنْ الْفَتَيَانِ أَرَادَا اخْتِبَارَهُ بِذَلِكَ، فَحَقَّقَ اللَّهُ قَوْلَهُ [آيَةَ]، وَقَابَلَ الْهَزْلَ بِالْجَدِّ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15]. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ: إنِّي رَأَيْت كَأَنِّي أَعْشَبْت، ثُمَّ أَجْدَبْت، ثُمَّ أَعْشَبْت، ثُمَّ أَجْدَبْت. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَنْتَ رَجُلٌ تُؤْمِنُ، ثُمَّ تَكْفُرُ، ثُمَّ تُؤْمِنُ، ثُمَّ تَكْفُرُ، ثُمَّ تَمُوتُ كَافِرًا. فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: مَا رَأَيْت شَيْئًا. فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ قُضِيَ لَك مَا قُضِيَ لِصَاحِبِ يُوسُفَ. قُلْنَا: لَيْسَتْ لِأَحَدٍ بَعْدَ عُمَرَ؛ لِأَنَّ عُمَرَ كَانَ مُحَدَّثًا، وَكَانَ إذَا ظَنَّ ظَنًّا كَانَ، وَإِذَا تَكَلَّمَ بِهِ وَقَعَ عَلَى مَا وَرَدَ فِي أَخْبَارِهِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ؛ مِنْهَا: أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: أَظُنُّك كَاهِنًا، فَكَانَ كَمَا ظَنَّ خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ سَأَلَ رَجُلًا عَنْ اسْمِهِ، فَقَالَ لَهُ أَسْمَاءَ فِيهَا النَّارُ كُلُّهَا، فَقَالَ لَهُ: أَدْرِكْ أَهْلَك فَقَدْ احْتَرَقُوا؛ فَكَانَ كَمَا قَالَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة تفسير الرؤيا

[مَسْأَلَة تَفْسِيرَ الرُّؤْيَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَاهُنَا نُكْتَةٌ بَدِيعَةٌ: وَهِيَ أَنَّ يُوسُفَ وَإِنْ كَانَ قَالَ لَهُمَا {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف: 41] فَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَنْهُ: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] فَكَيْفَ يَقُولُ قُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ يَجْعَلُ نَجَاتَهُ ظَنًّا؟ وَأَجَابَ عَنْهُ النَّاسُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَالُوا: إنَّمَا أَخْبَرَ عَنْهُ بِالظَّنِّ؛ لِأَنَّ تَفْسِيرَ الرُّؤْيَا لَيْسَ بِقَطْعٍ، وَإِنَّمَا هُوَ ظَنٌّ، وَهَذَا بَاطِلٌ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي حَقِّ النَّاسِ، فَأَمَّا فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ فَلَا؛ فَإِنَّ حُكْمَهُمْ حَقٌّ كَيْفَمَا وَقَعَ. الثَّانِي: إنَّ ظَنَّ هَاهُنَا بِمَعْنَى أَيْقَنَ وَعَلِمَ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ أَحَدُهُمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ لُغَةً. [الْآيَة الْحَادِيَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ] الْحَادِيَةَ عَشْرَة: قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف: 42]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الضَّمِيرِ مِنْ قَوْلِهِ: {فَأَنْسَاهُ} [يوسف: 42] هَلْ هُوَ عَائِدٌ عَلَى يُوسُفَ أَمْ عَلَى الْفَتَى؟ فَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى يُوسُفَ، أَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ، وَذَكَرَ الْمَلِكَ؛ فَعُوقِبَ بِطُولِ اللُّبْثِ فِي السِّجْنِ، وَكَانَتْ كَلِمَتُهُ كَقَوْلِ لُوطٍ: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} [هود: 80]. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ».

مسألة هل النسيان معصوم منه الأنبياء

وَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْفَتَى نَسِيَ تَذْكِرَةَ الْمَلِكِ، فَدَامَ طُولُ مُكْثِ يُوسُفَ فِي السِّجْنِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45]. [مَسْأَلَة هَلْ النِّسْيَانُ مَعْصُومٌ مِنْهُ الْأَنْبِيَاء] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: [فَإِنْ قِيلَ:] إنْ كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى يُوسُفَ فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُضَافَ نِسْيَانُهُ إلَى الشَّيْطَانِ، وَلَيْسَ لَهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ سُلْطَانٌ؟ قُلْنَا: أَمَّا النِّسْيَانُ فَلَا عِصْمَةَ لِلْأَنْبِيَاءِ عَنْهُ إلَّا فِي [وَجْهٍ وَاحِدٍ هُوَ] جِهَةُ الْخَبَرِ عَنْ الْإِبْلَاغِ فَإِنَّهُمْ مَعْصُومُونَ فِيهِ نِسْيَانًا وَذِكْرًا، وَإِذَا وَقَعَ مِنْهُمْ النِّسْيَانُ حَيْثُ يَجُوزُ وُقُوعُهُ فَإِنَّهُ يُنْسَبُ إلَى الشَّيْطَانِ إطْلَاقًا، وَلَكِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يُخْبِرُ اللَّهُ بِهِ عَنْهُمْ، أَوْ يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ لَنَا نَحْنُ ذَلِكَ فِيهِمْ. . [مَسْأَلَة التَّعَلُّقِ بِالْأَسْبَابِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَمَّا تَعَلَّقَ يُوسُفُ بِالْمَخْلُوقِ دَامَ مُكْثُهُ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الرُّومِ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الْبِضْعُ مِنْ ثَلَاثٍ إلَى عَشْرٍ، وَعَيَّنَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ كَانَ سَبْعَ سِنِينَ، وَهِيَ مُدَّةُ بَلَاءِ أَيُّوبَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِيهَا جَوَازُ التَّعَلُّقِ بِالْأَسْبَابِ، وَإِنْ كَانَ الْيَقِينُ حَاصِلًا؛ لِأَنَّ الْأُمُورَ بِيَدِ مُسَبِّبِهَا، وَلَكِنَّهُ جَعَلَهَا سِلْسِلَةً، وَرَكَّبَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ؛ فَتَحْرِيكُهَا سُنَّةٌ، وَالتَّعْوِيلُ عَلَى الْمُنْتَهَى يَقِينٌ. وَاَلَّذِي يَدُلُّك عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ نِسْبَةُ مَا جَرَى مِنْ النِّسْيَانِ إلَى الشَّيْطَانِ، كَمَا جَرَى لِمُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لِقَاءِ الْخِضْرِ. وَهَذَا بَيِّنٌ فَتَأَمَّلُوهُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] أَطْلَقَ هَاهُنَا عَلَى السَّيِّدِ اسْمَ الرَّبِّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رَبَّهُ يُرَبِّهِ إذَا دَبَّرَهُ بِوُجُوهِ التَّغْذِيَةِ، وَحَفِظَ عَلَيْهِ مَرَاتِبَ التَّنْمِيَةِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي؛

الآية الثانية عشرة قوله تعالى وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف

لِيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي، وَلَا يَقُلْ رَبِّي وَلْيَقُلْ سَيِّدِي». وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا جَائِزًا فِي شَرْعِ يُوسُفَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الثَّانِيَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَقَالَ الْمَلِكُ إنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ] ٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43]. فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِيهَا صِحَّةُ رُؤْيَا الْكَافِرِ، وَلَا سِيَّمَا إذَا تَعَلَّقَتْ بِمُؤْمِنٍ، فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ آيَةً لِنَبِيٍّ، وَمُعْجِزَةً لِرَسُولٍ، وَتَصْدِيقًا لِمُصْطَفًى لِلتَّبْلِيغِ، وَحُجَّةً لِلْوَاسِطَةِ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْعِبَادِ. [مَسْأَلَة تَفْسِيرِ الرُّؤْيَا إذْ لَمْ يَأْتِهَا مِنْ بَابِهَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالُوا: أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ يَعْنِي: أَخْلَاطًا مَجْمُوعَةً، وَاحِدُهَا ضِغْثٌ: وَهُوَ مَجْمُوعٌ مِنْ حَشِيشٍ أَوْ حَطَبٍ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44]. وَقَدْ رُوِيَ: «الرُّؤْيَا لِأَوَّلِ عَابِرٍ». وَقَدْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ صَحِيحِ الْكَلَامِ، وَلَا قَطْعِ تَفْسِيرِ الرُّؤْيَا إذْ لَمْ يَأْتِهَا مِنْ بَابِهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ الصِّدِّيقَ لَمَّا أَخْطَأَ فِي تَفْسِيرِ الرُّؤْيَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُكْمًا عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ إذَا احْتَمَلَتْ وُجُوهًا مِنْ التَّفْسِيرِ، فَعَيَّنَ بِتَأْوِيلِهِ أَحَدَهَا جَازَ، وَمَنْ تَكَلَّمَ بِجَهْلٍ لَا يَكُونُ حُكْمًا عَلَيْهَا، وَإِنْ أَصَابَ. وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: «الرُّؤْيَا عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ مَا لَمْ تَتَحَدَّثْ بِهَا، فَإِذَا تَحَدَّثْت بِهَا سَقَطَتْ، وَلَا تُحَدِّثْ بِهَا إلَّا حَبِيبًا أَوْ لَبِيبًا». وَهَذَا مَعْنَى الرُّؤْيَا لِأَوَّلِ عَابِرٍ، فَإِنَّهُ

مسألة معنى قوله تعالى لعلهم يعلمون

إذَا تَحَدَّثَ بِهَا فَفُسِّرَتْ نَفَذَ حُكْمُهَا إذَا كَانَ بِحَقٍّ عَنْ عِلْمٍ، لَا كَمَا قَالَ أَصْحَابُ الْمَلِكِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا تَفْسِيرًا، وَإِنَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَمْحُوهَا عَنْ صَدْرِ الْمَلِكِ حَتَّى لَا تَشْغَلَ لَهُ بَالًا. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى {لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 46]. يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَعْلَمُونَ بِمَكَانِك، فَيَظْهَرُ عِنْدَهُمْ فَضْلُك حَتَّى يَكُونَ سَبَبَ خَلَاصِك، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْعِلْمُ عَلَى بَابِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الرُّؤْيَا، وَيُسَمَّى عِلْمًا، وَإِنْ كَانَ ظَنًّا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ كُلُّ ظَنٍّ شَرْعِيٍّ يَرْجِعُ إلَى الْعِلْمِ بِالدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ الَّذِي أُسْنِدَ إلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ} [يوسف: 49]. وَهَذَا عَامٌ لَمْ يَقَعْ السُّؤَالُ عَنْهُ، فَقِيلَ، إنَّ اللَّهَ زَادَهُ عِلْمًا عَلَى مَا سَأَلُوهُ عَنْهُ إظْهَارًا لِفَضْلِهِ وَإِعْلَامًا بِمَكَانِهِ مِنْ الْعِلْمِ، وَمَعْرِفَتِهِ. وَقِيلَ: أَدْرَكَ ذَلِكَ بِدَقَائِقَ مِنْ تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا لَا تَرْتَقِي إلَيْهَا دَرَجَتُنَا. وَهَذَا صَحِيحٌ مُحْتَمَلٌ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إلَى رَبِّك] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} [يوسف: 50] ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا، لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ. وَلَوْ لَبِثْت فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ لَأَجَبْت الدَّاعِيَ» وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ: «يَرْحَمُ اللَّهُ يُوسُفَ، لَوْ كُنْت أَنَا الْمَحْبُوسُ، ثُمَّ أُرْسِلَ إلَيَّ لَخَرَجْت سَرِيعًا، إنْ كَانَ لَحَلِيمًا ذَا أَنَاةٍ».

الآية الثالثة عشرة والرابعة عشرة قوله تعالى وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي

وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَقَدْ عَجِبْت مِنْ يُوسُفَ وَصَبْرِهِ وَكَرَمِهِ، وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ، حِينَ سُئِلَ عَنْ الْبَقَرَاتِ، وَلَوْ كُنْت مَكَانَهُ لَمَا أَخْبَرْتهمْ حَتَّى أَشْتَرِطَ أَنْ يُخْرِجُونِي. لَقَدْ عَجِبْت مِنْهُ حِينَ أَتَاهُ الرَّسُولُ، لَوْ كُنْت مَكَانَهُ لَبَادَرْتهمْ الْبَابَ». الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّمَا لَمْ يُرِدْ يُوسُفُ الْخُرُوجَ [مِنْ السِّجْنِ] حَتَّى تَظْهَرَ بَرَاءَتُهُ، لِئَلَّا يَنْظُرَ إلَيْهِ الْمَلِكُ بِعَيْنِ الْخَائِنِ، فَيَسْقُطَ فِي عَيْنِهِ، أَوْ يَعْتَقِدَ لَهُ حِقْدًا، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّ سِجْنَهُ كَانَ جَوْرًا مَحْضًا، وَظُلْمًا صَرِيحًا، وَانْظُرُوا رَحِمَكُمْ اللَّهُ إلَى عَظِيمِ حِلْمِهِ، وَوُفُورِ أَدَبِهِ، كَيْفَ قَالَ: مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ، فَذَكَرَ النِّسَاءَ جُمْلَةً، لِيُدْخِلَ فِيهِنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ مَدْخَلَ الْعُمُومِ بِالتَّلْوِيحِ، وَلَا يَقَعَ عَلَيْهَا تَصْرِيحٌ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ عَشْرَة وَالرَّابِعَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي] فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54] {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْمَلِكُ لِيُوسُفَ: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54] أَيْ مُتَمَكِّنٌ مِمَّا أَرَدْت، أَمِينٌ عَلَى مَا ائْتُمِنْتَ عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٌ، أَمَّا أَمَانَتُهُ فَلِمَا ظَهَرَ مِنْ بَرَاءَتِهِ، وَأَمَّا مَكَانَتُهُ فَلِأَنَّهُ ثَبَتَتْ عِفَّتُهُ وَنَزَاهَتُهُ.

مسألة سأل الإمارة وطلب الولاية

[مَسْأَلَة سَأَلَ الْإِمَارَةَ وَطَلَبَ الْوِلَايَة] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} [يوسف: 55] كَيْفَ سَأَلَ الْإِمَارَةَ وَطَلَبَ الْوِلَايَةَ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسَمُرَةَ: «لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ، وَإِنَّك إنْ سَأَلَتْهَا وُكِلْت إلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ تَسْأَلْهَا أُعِنْت عَلَيْهَا». وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّا لَا نُوَلِّي عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ؟». وَعَنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَجْوِبَةٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: إنِّي حَسِيبٌ كَرِيمٌ، وَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنُ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ». وَلَا قَالَ: إنِّي مَلِيحٌ جَمِيلٌ، إنَّمَا قَالَ: إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ، سَأَلَهَا بِالْحِفْظِ وَالْعِلْمِ لَا بِالْحَسَبِ وَالْجَمَالِ. الثَّانِي: سَأَلَ ذَلِكَ لِيُوَصِّلَ إلَى الْفُقَرَاءِ حُظُوظَهُمْ لَا لَحَظِّ نَفْسِهِ. الثَّالِثُ: إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ، فَأَرَادَ التَّعْرِيفَ بِنَفْسِهِ، وَصَارَ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْلِهِ: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32] الرَّابِعُ: أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ فَرْضًا مُتَعَيَّنًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ غَيْرُهُ. فَإِنْ قِيلَ: وَهِيَ:

مسألة كيف استجاز يوسف أن يقبل الولاية بتولية كافر وهو مؤمن نبي

[مَسْأَلَة كَيْفَ اسْتَجَازَ يُوسُف أَنْ يَقْبَلَ الْوِلَايَة بِتَوْلِيَةِ كَافِرٍ وَهُوَ مُؤْمِنٌ نَبِيٌّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: كَيْفَ اسْتَجَازَ أَنْ يَقْبَلَهَا بِتَوْلِيَةِ كَافِرٍ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ نَبِيٌّ؟ قُلْنَا: لَمْ يَكُنْ سُؤَالَ وِلَايَةٍ؛ إنَّمَا كَانَ سُؤَالَ تَخَلٍّ وَتَرْكٍ، لِيَنْتَقِلَ إلَيْهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لَمَكَّنَهُ مِنْهَا بِالْقَتْلِ وَالْمَوْتِ وَالْغَلَبَةِ وَالظُّهُورِ وَالسُّلْطَانِ وَالْقَهْرِ، لَكِنَّ اللَّهَ أَجْرَى سُنَّتَهُ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ، فَبَعْضُهُمْ عَامَلَهُمْ الْأَنْبِيَاءُ بِالْقَهْرِ [وَالسُّلْطَانِ] وَالِاسْتِعْلَاءِ، وَبَعْضُهُمْ عَامَلَهُمْ الْأَنْبِيَاءُ بِالسِّيَاسَةِ وَالِابْتِلَاءِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 56] حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَهِيَ الْآيَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ. [الْآيَة الْخَامِسَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ] ٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف: 67]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي أَمْرِهِ لَهُمْ بِالتَّفَرُّقِ: وَفِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ؛ أَظْهَرُهَا أَنَّهُ تُقَاةُ الْعَيْنِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُوَحِّدِينَ أَنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ، وَهُوَ مِنْ أَفْعَالِ اللَّهِ مَوْجُودٌ، وَعِنْدَ جَمِيعِ الْمُتَشَرِّعِينَ مَعْلُومٌ، وَالْبَارِئُ تَعَالَى هُوَ الْفَاعِلُ الْخَالِقُ، لَا فَاعِلَ بِالْحَقِيقَةِ وَلَا خَالِقَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16].

فَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ شَيْءٌ مِنْ الْفَلَكِ إلَى الذَّرَّةِ، وَلَا مِنْ دَوَرَانِهِ إلَى حَرَكَةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا وَهِيَ مَوْجُودَةٌ بِقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ، وَمُصَرَّفَةٌ بِقَضَائِهِ وَحُكْمِهِ، فَكُلُّ مَا تَرَى بِعَيْنِك أَوْ تَتَوَهَّمُهُ بِقَلْبِك فَهُوَ صُنْعُ اللَّهِ وَخَلْقُهُ، إذَا أَرَادَ شَيْئًا قَالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ. وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَ الْكُلَّ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ، وَلَكِنَّهُ سَبَّبَ الْأَسْبَابَ، وَرَكَّبَ الْمَخْلُوقَاتِ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ؛ فَالْجَاهِلُ إذَا رَأَى مَوْجُودًا بَعْدَ مَوْجُودٍ، أَوْ مَوْجُودًا مُرْتَبِطًا فِي الْعِيَانِ بِمَوْجُودٍ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ إلَى الرَّابِطَةِ مَنْسُوبٌ، وَعَلَيْهَا فِي الْفِعْلِ مَحْسُوبٌ، وَحَاشَ لِلَّهِ، بَلْ الْكُلُّ لَهُ، وَالتَّدْبِيرُ تَدْبِيرُهُ، وَالِارْتِبَاطُ تَقْدِيرُهُ، وَالْأَمْرُ كُلُّهُ لَهُ. وَمِنْ أَبْدَعِ مَا خَلَقَ النَّفْسُ؛ رَكَّبَهَا فِي الْجِسْمِ، وَجَعَلَهَا مَعْلُومَةً لِلْعَبْدِ ضَرُورَةً، مَجْهُولَةَ الْكَيْفِيَّةِ، إنْ جَاءَ يُنْكِرُهَا لَمْ يَقْدِرْ بِمَا يَظْهَرُ مِنْ تَأْثِيرِهَا عَلَى الْبَدَنِ وُجُودًا وَعَدَمًا، وَإِنْ أَرَادَ الْمَعْرِفَةَ بِهَا لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَنْسُبُهَا، وَلَا عَلَى أَيْ مَعْنًى يَقِيسُهَا، وَضَعَهَا اللَّهُ الْمُدَبِّرُ فِي الْبَدَنِ عَلَى هَذَا الْوَضْعِ لِيُمَيِّزَ الْإِيمَانَ بِهِ؛ إذْ يُعْلَمُ بِأَفْعَالِهِ ضَرُورَةً، وَلَا يُوصَلُ إلَى كَيْفِيَّتِهِ لِعَدَمِهَا فِيهِ، وَاسْتِحَالَتِهَا عَلَيْهِ؛ وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ. وَلَهَا آثَارٌ يَخْلُقُهَا الْبَارِي فِي الشَّيْءِ عِنْدَ تَعَلُّقِهَا بِهِ، مِنْهَا الْعَيْنُ وَهُوَ مَعْنًى يَحْدُثُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى جَرْيِ الْعَادَةِ فِي الْمُعَيَّنِ، إذَا أَعْجَبَتْ مَنْظَرَتُهُ الْعَائِنَ فَيَلْفِظُ بِهِ، إمَّا إلَى عُرُوِّ أَلَمٍ فِي الْمُعَيَّنِ، وَإِمَّا إلَى الْفَنَاءِ، بِحَسَبِ مَا يُقَدِّرُهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ وَلِهَذَا الْمَعْنَى نُهِيَ الْعَائِنُ عَنْ التَّلَفُّظِ بِالْإِعْجَابِ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ لَمْ يَضُرَّ اعْتِقَادُهُ عَادَةً، وَكَمَا أَنَفَذَ الْبَارِي مِنْ حُكْمِهِ أَنْ يَخْلُقَ فِي بَدَنِ الْمُعَيَّنِ أَلَمًا أَوْ فِنَاءً، فَكَذَلِكَ سَبَقَ مِنْ حِكْمَتِهِ أَنَّ الْعَائِنَ إذَا بَرَّكَ أَسْقَطَ قَوْلُهُ بِالْبَرَكَةِ قَوْلَهُ بِالْإِعْجَابِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ سَقَطَ حُكْمُهُ بِالِاغْتِسَالِ. وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَى ذَلِكَ الْأَطِبَّاءُ، وَاعْتَقَدُوهُ مِنْ أَكَاذِيبِ النَّقَلَةِ، وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِمَا سَطَّرُوا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ أَنَّ الْكَوْنَ وَالْفَسَادَ يَجْرِي عَلَى حُكْمِ الطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ، فَإِذَا شَذَّ شَيْءٌ

الآية السادسة عشرة قوله تعالى فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه

قَالُوا: هَذِهِ خَاصَّةٌ خَرَجَتْ مِنْ مَجْرَى الطَّبِيعَةِ لَا يُعْرَفُ لَهَا سَبَبٌ، وَجَمَعُوا مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً؛ فَهَذَا الَّذِي نَقَلَهُ الرُّوَاةُ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ خَوَاصُّ شَرْعِيَّةٌ بِحِكَمٍ إلَهِيَّةٍ، يَشْهَدُ لِصِدْقِهَا وُجُودُهَا كَمَا وُصِفَتْ؛ فَإِنَّا نَرَى الْعَائِنَ إذَا بَرَّكَ امْتَنَعَ ضَرَرُهُ، وَإِنْ اغْتَسَلَ شُفِيَ مَعِينُهُ، وَهَذَا بَالِغٌ فِي فَنِّهِ، فَلْيُنْظَرْ عَلَى التَّمَامِ فِي مَوَاضِعِهِ مِنْ كُتُبِ الْأُصُولِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ؛ وَهَذِهِ النُّبْذَةُ تَكْفِي فِي هَذِهِ الْعَارِضَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} [يوسف: 68] قَالُوا: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَمَلَهُمْ عَلَى التَّفَرُّقِ مَخَافَةَ الْعَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ، إنَّمَا هُوَ أَمْرٌ تَأْنَسُ بِهِ النُّفُوسُ، وَتَتَعَلَّقُ بِهِ الْقُلُوبُ؛ إذْ خُلِقَتْ مُلَاحِظَةً لِلْأَسْبَابِ. وَيَفْتَرِقُ اعْتِقَادُ الْخَلْقِ؛ فَمَنْ لَحَظَ الْأَسْبَابَ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا أَسْبَابٌ فِي الْعَادَةِ لَا تَفْعَلُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا هِيَ عَلَامَاتٌ؛ فَهُوَ الْمُوَحِّدُ، وَمَنْ نَسَبَهُ إلَيْهَا فِعْلًا وَاعْتَقَدَهَا مُدَبَّرَةً فَهُوَ الْجَاهِلُ أَوْ الْمُلْحِدُ. . [الْآيَة السَّادِسَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أخيه] ِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] الْآيَةُ فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إنَّمَا جَعَلَ السِّقَايَةَ حِيلَةً فِي الظَّاهِرِ لِأَخْذِ الْأَخِ مِنْهُمْ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُمْكِنًا لَهُ ظَاهِرًا مِنْ غَيْرِ إذْنٍ مِنْ اللَّهِ [وَلَمْ يَمْنَعْ الْحِيلَةَ]، وَاَللَّهُ قَادِرٌ عَلَى الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، حَكِيمٌ فِي تَفْصِيلِ الْحَالَيْنِ.

مسألة كيف رضي يوسف أن ينسب إلى إخوته السرقة ولم يفعلوها

[مَسْأَلَة كَيْفَ رَضِيَ يُوسُفُ أَنْ يَنْسِبَ إلَى إخْوَته السَّرِقَةَ وَلَمْ يَفْعَلُوهَا] فَإِنْ قِيلَ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَيْفَ رَضِيَ يُوسُفُ أَنْ يَنْسِبَ إلَيْهِمْ السَّرِقَةَ وَلَمْ يَفْعَلُوهَا؟ قِيلَ: عَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا سَرَقُوهُ مِنْ أَبِيهِ وَبَاعُوهُ، فَاسْتَحَقُّوا هَذَا الِاسْمَ بِذَلِكَ الْفِعْلِ. الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ أَيَّتُهَا الْعِيرُ حَالُكُمْ حَالُ السُّرَّاقِ. الْمَعْنَى: إنَّ شَيْئًا لِغَيْرِكُمْ صَارَ عِنْدَكُمْ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْمَلِكِ وَلَا عِلْمِهِ. الثَّالِثُ: وَهُوَ التَّحْقِيقُ أَنَّ هَذَا كَانَ حِيلَةً لِاجْتِمَاعِ شَمْلِهِ بِأَخِيهِ وَفَصْلِهِ عَنْهُ إلَيْهِ، وَهُوَ ضَرَرٌ دَفَعَهُ بِأَقَلَّ مِنْهُ. [مَسْأَلَة كَيْفَ اسْتَجَازَ يُوسُفُ الْحَيْلُولَةَ بَيْنَ أَخِيهِ وَأَبِيهِ فَيَزِيدُهُ حُزْنًا عَلَى حُزْنٍ] فَإِنْ قِيلَ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَكَيْفَ اسْتَجَازَ يُوسُفُ الْحَيْلُولَةَ بَيْنَ أَخِيهِ وَأَبِيهِ فَيَزِيدُهُ حُزْنًا عَلَى حُزْنٍ وَكَرْبًا عَلَى كَرْبٍ. قُلْنَا: إذَا اسْتَوَى الْكَرْبُ جَاءَ الْفَرْجُ. جَوَابٌ آخَرُ: وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ بِإِذْنٍ مِنْ اللَّهِ فَلَا اعْتِرَاضَ فِيهِ. جَوَابٌ ثَالِثٌ: وَذَلِكَ أَنَّ الْحُزْنَ كَانَ قَدْ غَلَبَ عَلَى يَعْقُوبَ غَلَبَةً لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا فَقْدُ أَخِيهِ كُلَّ التَّأْثِيرِ، أَوَ لَا تَرَاهُ لَمَّا فَقَدَ أَخَاهُ قَالَ: يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ.

الآية السابعة عشرة قوله تعالى قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير

[الْآيَة السَّابِعَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ] ٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا نَصٌّ فِي جَوَازِ الْكَفَالَةِ. وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ: لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْكَفَالَةِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ فِيهَا كَفَالَةُ إنْسَانٍ عَنْ إنْسَانٍ، وَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ الْتَزَمَ عَنْ نَفْسِهِ، وَضَمِنَ عَنْهَا، وَذَلِكَ جَائِزٌ لُغَةً لَازِمٌ شَرْعًا، قَالَ الشَّاعِرُ: فَلَسْت بِآمِرٍ فِيهَا بِسِلْمٍ ... وَلَكِنِّي عَلَى نَفْسِي زَعِيمُ وَقَالَ الْآخَرُ: وَإِنِّي زَعِيمٌ إنْ رَجَعْت مُمَلَّكًا ... بِسَيْرٍ تَرَى مِنْهُ الْغُرَانِقَ أَزْوَرَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ صَحِيحُ [بَيْدَ أَنَّ الزَّعَامَةَ] فِيهِ نَصٌّ، فَإِذَا قَالَ: أَنَا زَعِيمٌ فَمَعْنَاهُ أَنِّي مُلْتَزَمٌ، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: أَلْتَزِمُهُ عَنْ نَفْسِي أَوْ الْتَزَمْت عَنْ غَيْرِي؟ [مَسْأَلَة هَلْ تَصِحّ الْكِفَالَة فِي الْحُقُوق الَّتِي لَا تَقْبَل الْإِنَابَة] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] إنَّمَا يَكُونُ فِي الْحُقُوقِ الَّتِي تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا؛ وَأَمَّا كُلُّ حَقٍّ لَا يَقُومُ فِيهِ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ كَالْحُدُودِ فَلَا كَفَالَةَ فِيهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَتُرَكَّبُ عَلَى هَذِهِ مَسْأَلَةٌ. [مَسْأَلَة قَالَ أَنَا زَعِيمٌ لَك بِوَجْهِ فُلَانٍ] وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إذَا قَالَ: أَنَا زَعِيمٌ لَك بِوَجْهِ فُلَانٍ. قَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَلْزَمُهُ

مسألة الفرق بين الجعالة والإجارة

لِأَنَّهُ غَرَرٌ؛ إذْ لَا يَدْرِي هَلْ يَجِدُهُ أَمْ لَا؟ وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالزَّعَامَةِ تَنْزِيلُ الزَّعِيمِ مَقَامَ الْأَصْلِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ حُضُورِ الْأَصْلِ أَدَاءُ الْمَالِ، فَكَذَلِكَ الزَّعِيمُ. وَمَسَائِلُ الضَّمَانِ كَثِيرَةٌ ذَكَرْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَالْفُرُوعِ. [مَسْأَلَة الْفَرْقَ بَيْنَ الْجَعَالَةِ وَالْإِجَارَة] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: كَمَا أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ نَصٌّ فِي الزَّعَامَةِ فَمَعْنَاهَا نَصٌّ فِي الْجَعَالَةِ، وَهِيَ نَوْعٌ مِنْ الْإِجَارَةِ، لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْجَعَالَةِ وَالْإِجَارَةِ أَنَّ الْإِجَارَةَ يَتَقَدَّرُ فِيهَا الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ مِنْ الْجِهَتَيْنِ، وَالْجَعَالَةُ يَتَقَدَّرُ فِيهَا الْجُعَلُ وَالْعَمَلُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ. وَدَلِيلُهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَرَعَ الْبَيْعَ وَالِابْتِيَاعَ فِي الْأَمْوَالِ لِاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ وَتَبَدُّلِ الْأَحْوَالِ، فَلَمَّا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى انْتِقَالِ الْأَمْلَاكِ شَرَعَ لَهَا سَبِيلَ الْبَيْعِ وَبَيَّنَ أَحْكَامَهُ، وَلَمَّا كَانَتْ الْمَنَافِعُ كَالْأَمْوَالِ فِي حَاجَةٍ إلَى اسْتِيفَائِهَا؛ إذْ لَا يَقْدِرُ كُلُّ أَحَدٍ أَنْ يَتَصَرَّفَ لِنَفْسِهِ فِي جَمِيعِ أَغْرَاضِهِ نَصَبَ اللَّهُ الْإِجَارَةَ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ بِالْأَعْوَاضِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حُصُولِ الْأَغْرَاضِ، وَأَنْكَرَهَا الْأَصَمُّ، وَهُوَ عَنْ الشَّرِيعَةِ أَصَمُّ؛ فَقَدْ فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِجَارَةَ، وَفَعَلَهَا الصَّحَابَةُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي كُتُبِ الْخِلَافِ. [مَسْأَلَة تَقْدِيرُ الْعَمَلِ بِالزَّمَانِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدْ يُمْكِنُ تَقْدِيرُ الْعَمَلِ بِالزَّمَانِ، كَقَوْلِهِ: تَخْدُمُنِي الْيَوْمَ. وَقَدْ يَقُولُ: تَخِيطُ لِي هَذَا الثَّوْبَ؛ فَيُقَدَّرُ الْعَمَلُ بِالْوَجْهَيْنِ، وَقَدْ يَتَعَذَّرُ تَقْدِيرُ الْعَمَلِ، كَقَوْلِهِ: مَنْ جَاءَنِي بِضَالَّتِي أَوْ جَلَبَ عَبْدِي الْآبِقَ فَلَهُ كَذَا، فَأَحَدُ الْعِوَضَيْنِ لَا يَصِحُّ تَقْدِيرُهُ، وَالْعِوَضُ الْآخَرُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِهِ، فَإِنَّ مَا يَسْقُطُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَتَعَدَّى سُقُوطُهُ إلَى مَا لَا ضَرُورَةَ فِيهِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ الْحَدِيثُ الَّذِي قَدَّمْنَا مِنْ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى الرُّقْيَةِ، وَهُوَ عَمَلٌ لَا يَتَقَدَّرُ، وَقَدْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ وَالْجَعَالَةُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَأَقَرَّتْهُمَا الشَّرِيعَةُ، وَنَفَتْ عَنْهُمَا الْغَرَرَ وَالْجَهَالَةَ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ.

مسألة الكفالة

[مَسْأَلَة الْكَفَالَةِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي حَقِيقَةِ الْقَوْلِ فِي الْآيَةِ: إنَّ الْمُنَادِيَ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا، إنَّمَا كَانَ نَائِبًا عَنْ يُوسُفَ وَرَسُولًا لَهُ، فَشَرَطَ حِمْلَ الْبَعِيرِ عَلَى يُوسُفَ لِمَنْ جَاءَ بِالصُّوَاعِ وَتَحَمَّلَ هُوَ بِهِ عَنْ يُوسُفَ، فَصَارَتْ فِيهِ ثَلَاثُ فَوَائِدَ: الْأَوَّلُ: الْجَعَالَةُ، وَهُوَ عَقْدٌ يَتَقَدَّرُ فِيهِ الثَّمَنُ وَلَا يَتَقَدَّرُ فِيهِ الثَّمَنُ. الثَّانِيَةُ: الْكَفَالَةُ، وَهِيَ هَاهُنَا مُضَافَةٌ إلَى سَبَبٍ مُوجَبٍ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا تَقْرِيرُهُ فِي الْمَسَائِلِ؛ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهِ، فَإِنَّهُ فِعْلُ نَبِيٍّ، وَلَا يَكُونُ إلَّا شَرْعًا. وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْكَفَالَةِ؛ فَجَوَّزَهَا أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ مُحَالَةً عَلَى سَبَبِ وُجُوبٍ؛ كَقَوْلِهِ: مَا كَانَ لَك عَلَى فُلَانٍ فَهُوَ عَلَيَّ، أَوْ إذَا أَهَلَّ الْهِلَالُ فَلَكَ عَلَيَّ عَنْهُ كَذَا، بِخِلَافِ أَنْ تَكُونَ مُعَلَّقَةً بِشَرْطٍ مَحْضٍ، كَقَوْلِهِ: إنْ قَدِمَ فُلَانٌ أَوْ إنْ كَلَّمْت زَيْدًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَهَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ عَلَى جَوَازِهَا، مُحَالَةً عَلَى سَبَبِ الْوُجُوبِ. الثَّالِثَةُ: جَهَالَةُ الْمَضْمُونِ لَهُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هِيَ جَائِزَةٌ، وَتَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَيْضًا مَعَ جَهَالَةِ الشَّيْءِ الْمَضْمُونِ أَوْ كِلَيْهِمَا. وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيَّ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ مَعَ جَهَالَةِ الْمَكْفُولِ لَهُ، وَادَّعَى أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ مَنْسُوخٌ مِنْ الْآيَةِ خَاصَّةً. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْجُعَلِ، وَهِيَ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، وَلَيْسَ لَهُمْ فِيهِ تَعَلُّقٌ فِي مَذْهَبٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنَّ مَعْرِفَةَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ وَالْمَضْمُونِ لَهُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِمَا؛ أَمَّا مَعْرِفَةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ فَلِيُعْلَمَ هَلْ هُوَ أَهْلٌ لِلْإِحْسَانِ أَمْ لَا؟ وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الْمَضْمُونِ لَهُ فَلِيُعْلَمَ هَلْ يَصْلُحُ لِلْمُعَامَلَةِ أَمْ لَا؟

الآية الثامنة عشرة قوله تعالى قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين

الثَّانِي: أَنَّهُ افْتَقَرَ إلَى مَعْرِفَةِ الْمَضْمُونِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ مَعَهُ خَاصَّةً. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى مَعْرِفَةِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِمَا ثَبَتَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُ ضَمِنَ عَنْ الْمَيِّتِ وَلَمْ يَسْأَلْهُ النَّبِيُّ عَنْ الْمَضْمُونِ لَهُ وَلَا عَنْ الْمَضْمُونِ عَنْهُ». وَالْآيَةُ نَصٌّ فِي جَهَالَةِ الْمَضْمُونِ لَهُ، وَحَمْلُ جَهَالَةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ عَلَيْهِ أَخَفُّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الثَّامِنَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ] َ} [يوسف: 74] {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [يوسف: 75] {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]. فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَمَّا قَالَ إخْوَةُ يُوسُفَ: {تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} [يوسف: 73]. قَالَ أَصْحَابُ يُوسُفَ: {فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} [يوسف: 74]؟ فَقَالَ إخْوَةُ يُوسُفَ: {جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} [يوسف: 75] قَالَ الطَّبَرِيُّ: الْمَعْنَى جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ، عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إلَيْهِ مَقَامَهُ، التَّقْدِيرُ جَزَاؤُهُ اسْتِعْبَادُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ، أَوْ أَخْذُهُ وَاسْتِرْقَاقُهُ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: التَّقْدِيرُ جَزَاءُ السَّارِقِ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ، وَيَكُونُ جَزَاؤُهُ الْأَوَّلُ الِابْتِدَاءَ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ الْخَبَرَ، الْمَعْنَى مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ هُوَ، وَكَرَّرَهُ تَأْكِيدًا لِلْبَيَانِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ ... نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالْفَقِيرَا

مسألة القطع في السرقة

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَحْقِيقِ هَذَا الْكَلَامِ بِالتَّفْسِيرِ: وَذَلِكَ أَنَّ دِينَ الْمَلِكِ كَانَ أَنْ يَأْخُذَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِنْ السَّارِقِ مِثْلَيْ السَّرِقَةِ، وَكَانَ دِينُ يَعْقُوبَ أَنْ يُسْتَرَقَّ السَّارِقُ، فَأَخَذَ يُوسُفُ إخْوَتَهُ بِمَا فِي دِينِ يَعْقُوبَ بِإِقْرَارِهِمْ بِذَلِكَ وَتَسْلِيمِهِمْ فِيهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ عَمَّةَ يُوسُفَ بِنْتَ إِسْحَاقَ، وَكَانَتْ أَكْبَرَ مِنْ يَعْقُوبَ، صَارَتْ إلَيْهَا مِنْطَقَةُ إِسْحَاقَ لِسِنِّهَا؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَهَا بِالسِّنِّ، وَكَانَ مَنْ سَرَقَهَا اسْتُمْلِكَ، وَكَانَتْ عَمَّةُ يُوسُفَ قَدْ حَضَنَتْهُ وَأَحَبَّتْهُ حُبًّا شَدِيدًا، فَلَمَّا تَرَعْرَعَ قَالَ لَهَا يَعْقُوبُ: سَلِّمِي يُوسُفَ إلَيَّ؛ فَلَسْت أَقْدِرُ أَنْ يَغِيبَ عَنْ عَيْنِي سَاعَةً. قَالَتْ لَهُ: دَعْهُ عِنْدِي أَيَّامًا أَنْظُرُ إلَيْهِ فَلَعَلِّي أَتَسَلَّى عَنْهُ. فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا يَعْقُوبُ عَمَدَتْ إلَى مِنْطَقَةِ إِسْحَاقَ فَحَزَّمَتْهَا عَلَى يُوسُفَ مِنْ تَحْتِ ثِيَابِهِ، ثُمَّ قَالَتْ: لَقَدْ فَقَدْت مِنْطَقَةَ إِسْحَاقَ، فَانْظُرُوا مَنْ أَخَذَهَا، وَمَنْ أَصَابَهَا. فَالْتُمِسَتْ، ثُمَّ قَالَتْ: اكْشِفُوا أَهْلَ الْبَيْتِ، فَكَشَفُوا فَوُجِدَتْ مَعَ يُوسُفَ فَقَالَتْ: وَاَللَّهِ إنَّهُ لِي سَلَمٌ أَصْنَعُ فِيهِ مَا شِئْت. ثُمَّ أَتَاهَا يَعْقُوبُ، فَأَخْبَرَتْهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ وَذَاكَ، إنْ كَانَ فَعَلَ فَهُوَ سَلَمٌ لَك، فَأَمْسَكَتْهُ حَتَّى مَاتَتْ، فَبِذَلِكَ عَيَّرَهُ إخْوَتُهُ فِي قَوْلِهِمْ {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 77] مَعْنَاهُ أَنَّ الْقَرَابَةَ شِجْنَةٌ وَالصَّحَابَةُ شِجْنَةٌ. وَمِنْ هَاهُنَا تَعَلَّمَ يُوسُفُ وَضْعَ السِّقَايَةِ فِي رَحْلِ أَخِيهِ كَمَا عَمِلَتْ عَمَّتُهُ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف: 76] إذْ كَانَ لَا يَرَى اسْتِرْقَاقَ السَّارِقِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، فَكَيْفَ الْتِزَامُ الْإِخْوَةِ لِدِينِ يَعْقُوبَ بِالِاسْتِرْقَاقِ، فَقَضَى عَلَيْهِمْ بِهِ. وَالْكَيْدُ وَالْمَكْرُ هُوَ الْفِعْلُ الَّذِي يُخَالِفُ فِيهِ الْبَاطِنُ الظَّاهِرَ، وَالْقَوْلُ الَّذِي يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ؛ فَيَتَأَوَّلُهُ أَحَدُ الْمُتَخَاطِبَيْنِ عَلَى وَجْهٍ وَالْآخَرُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ. [مَسْأَلَة الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ أَنَّ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ نَاسِخٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الشَّرَائِعِ؛ إذْ كَانَ

مسألة التوصل إلى الأغراض بالحيل

فِي شَرْعِ يَعْقُوبَ اسْتِرْقَاقُ السَّارِقِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَا نَعْلَمُ مَا نَفَذَ بِهِ الْحُكْمُ فِي شَرْعِ يَعْقُوبَ هَلْ كَانَ مَخْصُوصًا بِعَيْنٍ مَسْرُوقَةٍ دُونَ عَيْنٍ أَمْ عَامًّا فِي كُلِّ عَيْنٍ؟ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا». وَهَذَا نَصٌّ فِي الْغَرَضِ، مُوَضِّحٌ لِلْمَقْصُودِ، فَافْهَمُوهُ. [مَسْأَلَة التَّوَصُّلِ إلَى الْأَغْرَاضِ بِالْحِيَلِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف: 76] فِيهِ جَوَازُ التَّوَصُّلِ إلَى الْأَغْرَاضِ بِالْحِيَلِ؛ إذَا لَمْ تُخَالِفْ شَرِيعَةً وَلَا هَدَمَتْ أَصْلًا، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي تَجْوِيزِهِ الْحِيَلَ، وَإِنْ خَالَفَتْ الْأُصُولَ، وَخَرَمَتْ التَّحْلِيلَ؛ سَمِعْت أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْفِهْرِيِّ وَغَيْرَهُ يَقُولُ: كَانَ شَيْخُنَا قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الدَّامَغَانِيُّ صَاحِبَ عَشْرَاتِ آلَافٍ مِنْ الْمَالِ، فَإِذَا جَاءَ رَأْسُ الْحَوْلِ دَعَا بَنِيهِ فَقَالَ لَهُمْ: قَدْ كَبِرَتْ سِنِّي، وَضَعُفَتْ قُوَّتِي، وَهَذَا مَالٌ لَا أَحْتَاجُهُ، فَهُوَ لَكُمْ. ثُمَّ يُخْرِجُهُ، وَيَحْتَمِلُهُ الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ إلَى دُورِ بَنِيهِ، فَإِذَا جَاءَ رَأْسُ الْحَوْلِ، وَدَعَا بَنِيهِ لِأَمْرٍ قَالُوا: يَا أَبَانَا؛ إنَّمَا أَمَلُنَا حَيَاتُك، وَأَمَّا الْمَالُ فَأَيُّ رَغْبَةٍ لَنَا فِيهِ مَا دُمْت حَيًّا، أَنْتَ وَمَالُك لَنَا، فَخُذْهُ إلَيْك. وَيَسِيرُ الرِّجَالُ بِهِ حَتَّى يَضَعُوهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيَرُدُّهُ إلَى مَوْضِعِهِ يُرِيدُ بِتَبْدِيلِ الْمِلْكِ إسْقَاطَ الزَّكَاةِ عَلَى رَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُجْتَمِعِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمُفْتَرِقِ، وَهَذَا خَطْبٌ عَظِيمٌ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ صَنَّفَ الْبُخَارِيُّ عَلَيْهِ فِي جَامِعِهِ كِتَابًا مَقْصُودًا. [مَسْأَلَة الْحِيلَةِ فِي التَّوَصُّلِ إلَى الْمُبَاحِ وَاسْتِخْرَاجِ الْحُقُوقِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ: قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} [يوسف: 56] دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْحِيلَةِ فِي التَّوَصُّلِ إلَى الْمُبَاحِ وَاسْتِخْرَاجِ الْحُقُوقِ.

قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هَذَا وَهْمٌ عَظِيمٌ. وَقَوْلُهُ: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} [يوسف: 56] قِيلَ فِيهِ: كَمَا مَكَّنَّا لِيُوسُفَ مِلْكَ نَفْسِهِ عَنْ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ مَكَّنَّا لَهُ مِلْكَ الْأَرْضِ عَنْ الْعَزِيزِ أَوْ مِثْلَهُ مِمَّا لَا يُشْبِهُ مَا ذَكَرَهُ. قَالَ الشَّفْعَوِيُّ: وَمِثْلُهُ: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44]. قَالَ الْإِمَامُ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَيْسَ هَذَا حِيلَةً؛ إنَّمَا هُوَ حَمْلٌ لِلْيَمِينِ عَلَى الْأَلْفَاظِ أَوْ عَلَى الْمَقَاصِدِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ. قَالَ الشَّفْعَوِيُّ: وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي عَامِلِ خَيْبَرَ [قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: نَصُّ هَذَا الْحَدِيثِ] «أَنَّ عَامِلَ خَيْبَرَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ قَالَ: لَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَكِنَّا نَبِيعُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ مِنْ تَمْرِ الْجَمْعِ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَفْعَلْ، بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا، وَكَذَلِكَ الْبُسْرُ» خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ. وَمَقْصُودُ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ جَمْعًا وَيَبْتَاعَ جَنِيبًا مِنْ الَّذِي بَاعَ مِنْهُ الْجَمْعَ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ. قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِهِ، لِئَلَّا يَكُونَ جَنِيبًا بِجَمْعٍ وَالدَّرَاهِمُ رِبًا، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَرِيرَةٌ بِجَرِيرَةٍ وَالدَّرَاهِمُ رِبًا. قَالَ الشَّفْعَوِيُّ: وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهِنْدَ: «خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ».

الآية التاسعة عشرة قوله تعالى ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق

قَالَ الْقَاضِي: «قَالَتْ هِنْدُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مَسِيكٌ لَا يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي. قَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ». وَهَذَا مِنْ بَابِ الْفَتْوَى وَتَسْلِيطِ الْمُفْتِي لِلْمُسْتَفْتِي عَلَى حُكْمِ الدَّعْوَى، فَهُوَ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ، وَرَبُّهُ أَعْلَمُ مِنْ الْكُلِّ بِكَذِبِهِ أَوْ صِدْقِهِ، وَلَا حِيلَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا. وَعَجَبًا لِمَنْ يَتَصَدَّى لِلْإِمَامَةِ، وَيَتَمَيَّزُ فِي الْفِرَقِ بِالزَّعَامَةِ، وَيَأْتِي بِهَذَا السَّفْسَافِ مِنْ الْمَقَالِ. قَالَ الْقَاضِي: وَزَادَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ مَعَارِيضِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَرْبِ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ هَذَا الْغَرَضِ عَلَى خَطٍّ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ هَذَا الْمَقْصِدِ فِي دَائِرَةِ الْأُفُقِ، فَكَيْفَ فِي مِقْدَارٍ مِنْ التَّقَابُلِ أَصْغَرَ مِنْ نَفَقٍ. [الْآيَة التَّاسِعَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى ارْجِعُوا إلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إنَّ ابْنَكَ سَرَقَ] َ وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} [يوسف: 81]. فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الشَّهَادَةُ مُرْتَبِطَةٌ بِالْعِلْمِ عَقْلًا وَشَرْعًا، فَلَا تُسْمَعُ إلَّا مِمَّنْ عَلِمَ، وَلَا تُقْبَلُ إلَّا مِنْهُ. وَمَرَاتِبُ الْعِلْمِ فِي طُرُقِهِ مُخْتَلِفَةٌ، وَلَكِنَّهُ يَعُودُ إلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ تَعَلُّقُهُ بِالْمَعْلُومِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ، فَإِذَا نَسِيَ الشَّهَادَةَ فَذُكِّرَ بِهَا وَتَذَكَّرَهَا أَدَّاهَا، وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ:

مسألة عرف خطه ولم يذكر الشهادة

{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282] وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْهَا لَمْ يُؤَدِّهَا عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. [مَسْأَلَة عَرَفَ خَطَّهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الشَّهَادَةَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنْ عَرَفَ خَطَّهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الشَّهَادَةَ قَالُوا: يُؤَدِّيهَا وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُؤَدِّيَ مِنْهَا مَا عَلِمَ وَهُوَ خَطُّهُ، وَيَتْرُكَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَلْيُنْظَرْ فِيهَا. [مَسْأَلَة ادَّعَى الرَّجُلُ شَهَادَة لَا يَحْتَمِلُهَا عُمْرُهُ وَلَا حَالُهُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إذَا ادَّعَى الرَّجُلُ شَهَادَةً لَا يَحْتَمِلُهَا عُمْرُهُ وَلَا حَالُهُ رُدَّتْ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى بَاطِنًا مَا كَذَّبَهُ الْعِيَانُ ظَاهِرًا. [مَسْأَلَة شَهَادَةُ الْمُرُورِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: شَهَادَةُ الْمُرُورِ: وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: مَرَرْت بِفُلَانٍ فَسَمِعْته، فَإِنْ اسْتَوْعَبَ الْقَوْلَ شَهِدَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ مَالِكٍ. وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ لَا يَشْهَدُ حَتَّى يُشْهِدَاهُ. وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ الشَّهَادَةُ عِنْدَ الِاسْتِيعَابِ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَهُوَ الْحَقُّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَهُ الْمَطْلُوبُ، وَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَدَاءُ الْعِلْمِ، وَكَانَ خَيْرَ الشُّهَدَاءِ إذَا أَعْلَمَ الْمَشْهُودَ لَهُ، وَشَرَّ الشُّهَدَاءِ إذَا كَتَمَهَا. [مَسْأَلَة جَلَسَ رَجُلَانِ لِلْمُحَاسَبَةِ فأبرز الْحِسَاب بَيْنَهُمَا ذِكْرًا هَلْ يَشْهَدُ بِهِ مَنْ حَضَرَهُ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا إذَا جَلَسَ رَجُلَانِ لِلْمُحَاسَبَةِ، فَأَبْرَزَ الْحِسَابُ بَيْنَهُمَا ذِكْرًا هَلْ يَشْهَدُ بِهِ مَنْ حَضَرَهُ، وَقَدْ كُلِّفَ ذَلِكَ وَأُجْلِسَ لَهُ؟ وَالصَّحِيحُ وُجُوبُ الْأَدَاءِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَهُ عِلْمُهُ.

مسألة أجلس رجل شاهدين من وراء حجاب وكلمه وقرره فاستوعبا كلامه

[مَسْأَلَة أَجْلَسَ رَجُلٌ شَاهِدِينَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَكَلَّمَهُ وَقَرَّرَهُ فَاسْتَوْعَبَا كَلَامَهُ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إذَا أَجْلَسَ رَجُلٌ شَاهِدِينَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَكَلَّمَهُ وَقَرَّرَهُ فَاسْتَوْعَبَا كَلَامَهُ، فَقَالَ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: لَا يَثْبُتُ ذَلِكَ، وَيَحْلِفُ أَنَّهُ مَا أَقَرَّ إلَّا بِأَمْرِ كَذَا يَذْكُرُهُ؛ فَإِنْ نَكَلَ لَزِمَهُ مَا يَشْهَدُ بِهِ. وَالْأَصْلُ فِي الْبَابِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الْمُوفِيَة عشرين قَوْله تَعَالَى وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَا عَلَى يُوسُفَ] الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ قَوْله تَعَالَى: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف: 84]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: حَدَّثَ مَالِكٌ عَنْ حُزْنِ يَعْقُوبَ أَنَّهُ حُزْنُ سَبْعِينَ ثَكْلَى. قِيلَ: فَمَا أُعْطِيَ؟ قَالَ: أَجْرَ سَبْعِينَ شَهِيدًا. قَالَ مَالِكٌ: قَالَ يُوسُفُ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ: مَا انْتَقَمْت لِنَفْسِي مِنْ شَيْءٍ أَتَى إلَيَّ، فَذَلِكَ زَادِي الْيَوْمَ مِنْ الدُّنْيَا، وَإِنَّ عَمَلِي لَاحِقٌ بِعَمَلِ آبَائِي، فَأَلْحِقُوا قَبْرِي بِقُبُورِهِمْ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يُرِيدُ مَالِكٌ بِالْكَلَامِ الثَّانِي قَوْلَ يُوسُفَ لِإِخْوَتِهِ: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92] أَيْ: لَا تَبْكِيتَ وَلَا مُؤَاخَذَةَ لَكُمْ بِمَا فَعَلْتُمْ؛ لِأَنَّ شِفَاءَ الْغَيْظِ وَالْجَزَاءَ بِالذَّنْبِ فِي الدُّنْيَا مِنْ عَمَلِ الدُّنْيَا لَا حَظَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ قَوْلُ يُوسُفَ: مَا انْتَقَمْت لِنَفْسِي مِنْ شَيْءٍ أَتَى إلَيَّ، فَذَلِكَ زَادِي الْيَوْمَ مِنْ الدُّنْيَا، وَإِنْ عَمَلِي لَاحِقٌ بِعَمَلِ آبَائِي أَيْ فِي الصَّفْحِ وَالْإِحْسَانِ، وَهُوَ فِعْلُ أَهْلِ النُّبُوَّةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ. [مَسْأَلَة قَوْلُهُ أُلْحِقُوا قَبْرِي بِقُبُورِ آبَائِي] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: " أَلْحِقُوا قَبْرِي بِقُبُورِ آبَائِي " شَاهَدْنَاهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ، وَجَاوَزْنَا فِيهِ [أَعْوَامًا

مسألة عجز الخلق عن الصبر فأذن لهم في الدمع والحزن

وَأَيَّامًا آمَنِينَ فِي نِعَمٍ فَاكِهِينَ، وَعَلَى الدَّرْسِ وَالْمُنَاظَرَةِ مُتَقَابِلِينَ، وَهُوَ فِي قَرْيَةِ جَيْرُونَ الَّتِي كَانَتْ لِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى سِتَّةُ فَرَاسِخَ فِي سَفْحِ الْجَبَلِ الَّذِي كَانَ فِيهِ بَيْتُ رَامَةَ مُتَعَبَّدُ [إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -]، الْمُشْرِقُ عَلَى مَدَائِنِ لُوطٍ، وَفِي وَسَطِ الْقَرْيَةِ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ مِنْ حِجَارَةٍ عِظَامٍ سُوَرًا عَظِيمًا، فِي دَاخِلِهِ مَسْجِدٌ، فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنْهُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ إِسْحَاقُ، وَيَلِيهِ فِي الْجَانِبِ الْمَذْكُورِ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ، وَيَلِيه فِي الطَّرَفِ الْجَوَّانِيِّ مِنْ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ يَعْقُوبُ عَلَى نِسْبَةٍ مُتَمَاثِلَةٍ. وَفِيمَا يُقَابِلُهَا مِنْ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ قُبُورُ أَزْوَاجِهِمْ عَلَى الِاعْتِدَالِ، عَلَى كُلِّ قَبْرٍ حَجَرٌ عَظِيمٌ وَاحِدٌ لَهُ الطُّولُ وَالْعَرْضُ وَالْعُمْقُ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ تَرْتِيبِ الرِّحْلَةِ. وَفِي الْجَانِبِ الْقِبْلِيِّ مِنْهُ خَارِجَ هَذَا الْحَرَمِ قَبْرُ يُوسُفَ مُنْتَبَذًا، كَانَ لَهُ قَيِّمٌ طُرْطُوشِيٌّ زَمِنٌ، وَلَهُ أُمٌّ تَنُوبُ عَنْهُ، وَهَيْئَةُ قَبْرِ يُوسُفَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَهَيْئَةِ قُبُورِهِمْ. وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ فِي مَوْضِعِ قَبْرِهِ لِأَجْلِ ذِكْرِ مَالِكٍ لَهُ، فَلَمْ يَذْكُرْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَّا أَشْبَهَ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَة عَجْزَ الْخَلْقِ عَنْ الصَّبْر فَأَذِنَ لَهُمْ فِي الدَّمْعِ وَالْحُزْنِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: كَانَ يَعْقُوبُ حَزِينًا فِي الدَّرَجَةِ الَّتِي قَدْ بَيَّنَّاهَا، وَلَكِنَّ حُزْنَهُ كَانَ فِي قَلْبِهِ جِبِلَّةً، وَلَمْ يَكْتَسِبْ لِسَانُهُ قَوْلًا قَلِقًا يُخَالِفُ الشَّرِيعَةَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ابْنِهِ فِي صَحِيحِ الْخَبَرِ: «تَدْمَعُ الْعَيْنُ، وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ، وَلَا نَقُولُ إلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا، وَإِنَّا بِك يَا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ». وَقَالَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ

الآية الحادية والعشرون قوله تعالى فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر

وَإِنَّمَا يُعَذَّبُ بِهَذَا وَأَشَارَ إلَى لِسَانِهِ، أَوْ يَرْحَمُ». وَهُوَ تَفَضُّلٌ مِنْهُ، سُبْحَانَهُ، حِينَ عَلِمَ عَجْزَ الْخَلْقِ عَنْ الصَّبْرِ؛ فَأَذِنَ لَهُمْ فِي الدَّمْعِ وَالْحُزْنِ، وَلَمْ يُؤَاخِذْهُمْ بِهِ، وَخَطَمَ الْفَمَ بِالزِّمَامِ عَنْ سُوءِ الْكَلَامِ، فَنَهَى عَمَّا نَهَى، وَأَمَرَ بِالتَّسْلِيمِ وَالرِّضَا لِنَافِذِ الْقَضَاءِ، وَخَاصَّةً عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى. وَأَحْسَنُ الْكَلَامِ فِي الشَّكْوَى سُؤَالُ الْمَوْلَى زَوَالَ الْبَلْوَى، وَذَلِكَ قَوْلُ يَعْقُوبَ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف: 86] مِنْ جَمِيلِ صُنْعِهِ وَغَرِيبِ لُطْفِهِ وَعَائِدَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ. [الْآيَة الْحَادِيَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ] ُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف: 88]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقَوْلُ فِي الْبِضَاعَةِ: قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَعْنَى الْبِضَاعَةِ فِي الْبِضْعِ آنِفًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {مُزْجَاةٍ} [يوسف: 88]: فِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَعْنِي قَلِيلَةً، إمَّا لِأَنَّهُ مَتَاعُ الْبَادِيَةِ الَّذِي لَا يَصْلُحُ لِلْمُلُوكِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَا سَعَةَ فِيهِ، إنَّمَا يُدَافَعُ بِهِ الْمَعِيشَةُ، مِنْ قَوْلِك: فُلَانٌ يُزْجِي كَذَا، أَيْ: يَدْفَعُ قَالَ الشَّاعِرُ: الْوَاهِبُ الْمِائَةَ الْهِجَانَ وَعَبْدَهَا ... عُوذًا تُزَجِّي خَلْفَهَا أَطْفَالَهَا يَعْنِي تَدْفَعُ.

مسألة معنى قوله تعالى فأوف لنا الكيل وتصدق علينا

الثَّانِي: قَالَ مَالِكٌ: مُزْجَاةٌ تَجُوزُ فِي كُلِّ مَكَان، فَهِيَ الْمُزْجَاةُ رَوَاهُ الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ. وَلَا أَدْرِي مَا هَذَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ جَبَذَ وَجَذَبَ، وَإِلَّا فَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ الرِّوَايَةِ فِيهِ. وَقَدْ فَسَّرَهَا بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا الْبُطْمُ وَالصَّنَوْبَرُ، وَالْبُطْمُ هُوَ الْحَبَّةُ الْخَضْرَاءُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} [يوسف: 88] الْمَعْنَى جِئْنَا بِقَدْرِنَا، فَأَعْطِنَا بِقَدْرِك، تَضَاءَلُوا بِالْحَاجَةِ، وَتَمَسْكَنُوا بِفَادِحَةِ الْمُصِيبَةِ فِي الْأَخَوَيْنِ، وَمَا صَارَ إلَيْهِ أَمْرُ الْأَبِ بَعْدَهُمَا. [مَسْأَلَة أُجْرَةُ الْكَيْلِ عَلَى الْبَائِعِ وَأُجْرَةُ النَّقْدِ عَلَى الْمُبْتَاعِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ: قَالُوا لِيُوسُفَ: فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ، فَكَانَ يُوسُفُ هُوَ الَّذِي يَكِيلُ، إشَارَةً إلَى أَنَّ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ تَمْيِيزُ حَقِّ الْمُشْتَرِي مِنْ حَقِّهِ، إلَّا أَنْ يَبِيعَ مِنْهُ مُعَيَّنًا صُبْرَةً أَوْ مَا لَا حَقَّ تَوْفِيَةٍ فِيهِ، فَقَبْلَ أَنْ يُوَفِّيَ فَمَا جَرَى عَلَى الْمَبِيعِ فَهُوَ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: أُجْرَةُ الْكَيْلِ عَلَى الْبَائِعِ، وَأُجْرَةُ النَّقْدِ عَلَى الْمُبْتَاعِ؛ لِأَنَّ الدَّافِعَ لِدَرَاهِمِهِ يَقُولُ: إنَّهَا طَيِّبَةٌ فَأَنْتَ الَّذِي تَدَّعِي الرَّدَاءَةَ فَانْظُرْ لِنَفْسِك، فَإِنْ خَرَجَ فِيهَا رَدِيءٌ كَانَتْ الْأُجْرَةُ عَلَى الدَّافِعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة وَكُلُّ مَا كَانَ صَدَقَةً أَوْ هِبَةً يَتْبَعُ الْبَيْعَ فَإِنَّهُ يُلْحَقُ بِهِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} [يوسف: 88] قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَمَّا عَلِمُوا أَنَّ بِضَاعَتَهُمْ غَيْرُ مَرْضِيَّةٍ قَالُوا: اجْعَلْهَا حِبَاءً إنْ لَمْ تَكُنْ شِرَاءً. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: طَلَبُوا مِنْهُ وَفَاءَ الْكَيْلِ وَالصَّدَقَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكُلُّ مَا كَانَ صَدَقَةً أَوْ هِبَةً يَتْبَعُ الْبَيْعَ فَإِنَّهُ يُلْحَقُ بِهِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَلَا يُلْحَقُ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَهِيَ مَسْأَلَةٌ طَوِيلَةٌ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.

الآية الثانية والعشرون قوله تعالى ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا

فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ جَازَ لَهُمْ أَنْ يَطْلُبُوا الصَّدَقَةَ وَهُمْ الْأَنْبِيَاءُ؟ قُلْنَا: عَنْهُ خَمْسَةُ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: لَا يَعْلَمُ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُمْ أَنْبِيَاءٌ، وَآمَنَا بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا بَعْدُ أَنْبِيَاءَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ حَالُهُمْ مَعَ الصَّدَقَةِ فِي شَرْعِهِمْ، فَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ مُبَاحًا لَهُمْ. الرَّابِعُ: مَعْنَى تَصَدَّقْ سَامِحْ، لَا أَصْلُ الصَّدَقَةِ. الْخَامِسُ: قِيلَ: تَصَدَّقْ عَلَيْنَا بِأَخِينَا. وَبِالْقَوْلَيْنِ الْأَخِيرِينَ أَقُولُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الثَّانِيَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا] وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف: 100]. قَالَ الْعُلَمَاءُ: كَانَ هَذَا سُجُودَ تَحِيَّةٍ لَا سُجُودَ عِبَادَةٍ، وَهَكَذَا كَانَ سَلَامُهُمْ بِالتَّكْبِيرِ وَهُوَ الِانْحِنَاءُ، وَقَدْ نَسَخَ اللَّهُ فِي شَرْعِنَا ذَلِكَ، وَجَعَلَ الْكَلَامَ بَدَلًا عَنْ الِانْحِنَاءِ وَالْقِيَامِ. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ كَفَّرَتْ أَعْضَاؤُهُ اللِّسَانَ، تَقُولُ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا، فَإِنَّك إنْ اسْتَقَمْت اسْتَقَمْنَا، وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا». فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُ فِي الْإِشَارَةِ بِالْإِصْبَعِ؟ قُلْنَا: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ اللِّسَانَ يَكْفِي فِي السَّلَامِ، وَأَمَّا حَرَكَةُ الْبَدَنِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ فَلَمْ يُشْرَعْ فِي السَّلَامِ، لَا تَحْرِيكُ يَدٍ [وَلَا قَدَمٍ] وَلَا قِيَامُ بَدَنٍ. الثَّانِي: أَنَّ رَدَّ السَّلَامِ فَرْضٌ، وَابْتِدَاؤُهُ سُنَّةٌ فِي مَشْهُورِ الْأَقْوَالِ، وَلَكِنْ يَجُوزُ الْقِيَامُ لِلرَّجُلِ الْكَبِيرِ بُدَاءَةً إذَا لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، كَمَا «قَالَ النَّبِيُّ لِجُلَسَائِهِ حِينَ جَاءَ سَعْدٌ: قُومُوا إلَى سَيِّدِكُمْ»؛ فَإِنْ أَثَّرَ فِيهِ لَمْ يَجُزْ عَوْنُهُ عَلَى ذَلِكَ، لِمَا رُوِيَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ». الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِشَارَةُ بِالْإِصْبَعِ إذَا بَعُدَ عَنْك لِتُعَيِّنَ لَهُ أَوْ بِهِ وَقْتَ السَّلَامِ، فَإِنْ كَانَ دَانِيًا فَلَا بَأْسَ بِالْمُصَافَحَةِ، فَقَدْ «صَافَحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعْفَرًا، حِينَ قَدِمَ مِنْ الْحَبَشَةِ»، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إلَّا غُفِرَ لَهُمَا» خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَإِنْ كَانَ كَرِهَ مَالِكٌ الْمُصَافَحَةَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَهَا أَمْرًا عَامًّا فِي الدِّينِ، وَلَا شَائِعًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَلَا مَنْقُولًا نَقْلَ السَّلَامِ؛ وَلَوْ كَانَ مِنْهُ لَاسْتَوَى مَعَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ.

سورة الرعد فيها خمس آيات

[سُورَةُ الرَّعْدِ فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى] ٍ الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى} [الرعد: 8] تَمَدُّحٌ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِعِلْمِ الْغَيْبِ، وَالْإِحَاطَةِ بِالْبَاطِنِ الَّذِي يَخْفَى عَلَى الْخَلْقِ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ. وَأَهْلُ الطِّبِّ يَقُولُونَ: إذَا ظَهَرَ النَّفْخُ فِي ثَدْيِ الْحَامِلِ الْأَيْمَنِ فَالْحَمْلُ ذَكَرٌ، وَإِنْ ظَهَرَ فِي الثَّدْيِ الْأَيْسَرِ فَالْحَمْلُ أُنْثَى، وَإِذَا كَانَ الثِّقَلُ لِلْمَرْأَةِ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ فَالْحَمْلُ ذَكَرٌ، وَإِنْ وَجَدَتْ الثِّقَلَ فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ فَالْوَلَدُ أُنْثَى؛ فَإِنْ قَطَعُوا بِذَلِكَ فَهُوَ كُفْرٌ، وَإِنْ قَالُوا: إنَّهَا تَجْرِبَةٌ وَجَدْنَاهَا تُرِكُوا وَمَا هُمْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي التَّمَدُّحِ؛ فَإِنَّ الْعَادَةَ يَجُوزُ انْكِسَارُهَا وَالْعِلْمُ لَا يَجُوزُ تَبَدُّلُهُ. [مَسْأَلَة أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} [الرعد: 8] وَقَدْ تَبَايَنَ النَّاسُ فِيهَا فِرَقًا، أَظْهَرُهَا تِسْعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: مَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ مِنْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَمَا تَزِيدُ عَلَيْهَا، كَقَوْلِهِ: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج: 5] قَالَهُ الْحَسَنُ. الثَّانِي: مَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ: مَا تُسْقِطُ، وَمَا تَزْدَادُ، يَعْنِي عَلَيْهِ إلَى التِّسْعَةِ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ.

الثَّالِثُ: إذَا حَاضَتْ الْحَامِلُ نَقَصَ الْوَلَدُ فَذَلِكَ غَيْضُهُ، وَإِذَا لَمْ تَحِضْ ثَمَّ فَتِلْكَ عَلَى النُّقْصَانِ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. الرَّابِعُ: مَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ فَتِلْكَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَمَا تَزْدَادُ فَتِلْكَ لِعَامَيْنِ؛ قَالَتْهُ عَائِشَةُ. الْخَامِسُ: مَا تَزْدَادُ لِثَلَاثَةِ أَعْوَامٍ؛ قَالَهُ اللَّيْثُ. السَّادِسُ: مَا تَزْدَادُ إلَى أَرْبَعِ سِنِينَ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ. السَّابِعُ: قَالَ مَالِكٌ فِي مَشْهُورِ قَوْلِهِ: إلَى خَمْسِ سِنِينَ. الثَّامِنُ: إلَى سِتِّ سِنِينَ، وَسَبْعِ سِنِينَ؛ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ. التَّاسِعُ: لَا حَدَّ لَهُ، وَلَوْ زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ الْأَعْوَامِ، وَأَكْثَرَ مِنْهَا؛ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: نَقَلَ بَعْضُ الْمُتَسَاهِلِينَ مِنْ الْمَالِكِيِّينَ أَنَّ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ، وَهَذَا مَا لَمْ يَنْطِقْ بِهِ قَطُّ إلَّا هَالِكِيٌّ: وَهُمْ الطَّبَائِعِيُّونَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ مُدَبِّرَ الْحَمْلِ فِي الرَّحِمِ الْكَوَاكِبُ السَّبْعَةُ تَأْخُذُهُ شَهْرًا شَهْرًا، وَيَكُونُ الشَّهْرُ الرَّابِعُ مِنْهَا لِلشَّمْسِ، وَلِذَلِكَ يَتَحَرَّكُ وَيَضْطَرِبُ، وَإِذَا كَمُلَ التَّدَاوُلُ فِي السَّبْعَةِ الْأَشْهُرِ بَيْنَ السَّبْعَةِ الْكَوَاكِبِ عَادَ فِي الشَّهْرِ الثَّامِنِ إلَى زُحَلَ فَيُبْقِلُهُ بِبَرْدِهِ. فَيَا لَيْتَنِي تَمَكَّنْت مِنْ مُنَاظَرَتِهِمْ أَوْ مُقَاتَلَتِهِمْ. مَا بَالُ الْمَرْجِعِ بَعْدَ تَمَامِ الدَّوْرِ يَكُونُ إلَى زُحَلَ دُونَ غَيْرِهِ؟ اللَّهُ أَخْبَرَكُمْ [بِهَذَا] أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ؟ وَإِذَا جَازَ أَنْ يَعُودَ إلَى اثْنَيْنِ مِنْهَا لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ التَّدْبِيرِ إلَى ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ، أَوْ يَعُودَ إلَى جَمِيعِهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا؟ مَا هَذَا التَّحَكُّمُ بِالظُّنُونِ الْبَاطِلَةِ

مسألة هل الحامل تحيض

عَلَى الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ؟ [فَمَنْ] نَصِيرِي مِنْ هَذَا الِاعْتِقَادِ، وَعَذِيرِي مِنْ الْمِسْكَيْنِ الَّذِي تَصَوَّرَ عِنْدَهُ أَنَّ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ، وَيَا لِلَّهِ وَيَا لِضَيَاعِ الْعِلْمِ بَيْنَ الْعَالَمِ فِي هَذِهِ الْأَقْطَارِ الْغَارِبَةِ مَطْلَعًا، الْعَازِبَةِ مَقْطَعًا، [مَسْأَلَة هَلْ الْحَامِلَ تَحِيضُ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْحَامِلَ لَا تَحِيضُ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ تَمَاسُكَ الْحَيْضِ عَلَامَةٌ عَلَى شَغْلِ الرَّحِمِ، وَاسْتِرْسَالَهُ عَلَامَةٌ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ؛ فَمُحَالٌ أَنْ يَجْتَمِعَ مَعَ الشَّغْلِ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى الْبَرَاءَةِ لَوْ اجْتَمَعَا، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ: وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ فِي الدَّمِ وَالْحَيْضِ فِي غَيْرِ حَالِ الْحَمْلِ، وَمَا تَزْدَادُ بَعْدَ غَيْضِهَا مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى يَجْتَمِعَ فِي الرَّحِمِ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الدَّمَ عَلَامَةٌ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ لَا مِنْ حَيْثُ الْقَطْعِ؛ فَجَازَ أَنْ يَجْتَمِعَا، بِخِلَافِ وَضْعِ الْحَمْلِ فَإِنَّهُ بَرَاءَةٌ لِلرَّحِمِ قَطْعًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ مَعَ الشَّغْلِ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ فِي تَفْسِيرِ مَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ فِي غَيْرِ حَالِ الْحَمْلِ وَمَا تَزْدَادُ بَعْدَ غَيْضِهَا حَتَّى يَجْتَمِعَ فِي الرَّحِمِ. فَإِنَّا نَقُولُ: إنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ غَيْضٍ وَازْدِيَادٍ وَسَيَلَانٍ وَتَوَقُّفٍ، وَإِذَا سَالَ الدَّمُ عَلَى عَادَتِهِ بِصِفَتِهِ مَا الَّذِي يَمْنَعُ مِنْ حُكْمِهِ؟ وَلَا جَوَابَ لَهُمْ عَنْ هَذَا. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا] الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد: 15]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:

مسألة تفسير قوله تعالى ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إذَا وُجِدَ الْفِعْلُ، فِي الْآدَمِيِّ مَعَ خَلْقِ الْإِرَادَةِ فِيهِ كَانَ طَوْعًا، وَإِذَا وُجِدَ الْفِعْلُ مَعَ عَدَمِ الْإِرَادَةِ كَانَ كَرْهًا، وَيَأْتِي تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَة تَفْسِير قَوْله تَعَالَى وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَفْسِيرِهَا عَلَى أَقْوَالٍ، جُمْهُورُهَا أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ: الْمُؤْمِنُ يَسْجُدُ طَوْعًا، وَالْكَافِرُ يَسْجُدُ خَوْفَ السَّيْفِ؛ فَالْأَوَّلُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ آمَنَ طَوْعًا مِنْ غَيْرِ لَعْثَمَةٍ. وَالثَّانِي: الْكَافِرُ يَسْجُدُ لِلَّهِ، إذَا أَصَابَهُ الضُّرُّ يَسْجُدُ لِلَّهِ كَرْهًا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} [الإسراء: 67] يُرِيدُ عَنْهُ وَعَبَدْتُمْ غَيْرَهُ. الثَّالِثُ: قَالَ الصُّوفِيَّةُ: الْمُخْلِصُ يَسْجُدُ لِلَّهِ مَحَبَّةً، وَغَيْرُهُ يَسْجُدُ لِابْتِغَاءِ عِوَضٍ، أَوْ لِكَشْفِ مِحْنَةٍ، فَهُوَ يَسْجُدُ كَرْهًا. الرَّابِعُ: الْخَلْقُ كُلُّهُمْ سَاجِدٌ، إلَّا أَنَّهُ مَنْ سَجَدَ بِقَلْبِهِ فَهُوَ طَوْعٌ، وَمَنْ سَجَدَ بِحَالِهِ فَهُوَ كَرْهٌ؛ إذْ الْأَحْوَالُ تَدُلُّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِ ذِي الْحَالِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: أَمَّا مَنْ سَجَدَ لِدَفْعِ شَرٍّ فَذَلِكَ بِأَمْرِ اللَّهِ، هُوَ الَّذِي أَمَرَنَا بِالطَّاعَةِ، وَوَعَدَنَا بِالثَّوَابِ عَلَيْهَا، وَنَهَانَا عَنْ الْمَعْصِيَةِ، وَأَوْعَدَ بِالْعِقَابِ عَلَيْهَا، وَهَذَا حَالُ التَّكْلِيفِ، فَلَا يَتَكَلَّفُ فِيهَا تَعْلِيلًا إلَّا نَاقِصُ الْفِطْرَةِ قَاصِرُ الْعِلْمِ؛ وَغَرَضُ الصُّوفِيَّةِ سَاقِطٌ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، فَمَا عَبَدَ اللَّهَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَلَا وَلِيٌّ مُكَمَّلٌ إلَّا طَلَبَ النَّجَاةَ.

الآية الثالثة قوله تعالى الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق

[الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ] َ} [الرعد: 20]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقَوْلُ فِي الْعَهْدِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَوْلُ فِي الْوَفَاءِ بِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُمَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَعْدِيدِ عُهُودِ اللَّهِ، وَهِيَ كَثِيرَةُ الْعَدَدِ، مُسْتَمِرَّةُ [الْمَدَدِ وَ] الْأَمَدِ. أَعْظَمُهَا عَهْدًا، وَأَوْكَدُهَا عَقْدًا مَا كَانَ فِي صُلْبِ آدَمَ عَلَى الْإِيمَانِ. الثَّانِي: مَا كَانَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الثَّالِثُ: مَا رَبَطَهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ الْإِقْرَارِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، فَإِنَّهَا أَلْزَمَتْ عُهُودًا، وَرَبَطَتْ عُقُودًا، وَوَظَّفَتْ تَكْلِيفًا، وَذَلِكَ يَتَعَدَّدُ بِعَدَدِ الْوَظَائِفِ الشَّرْعِيَّةِ، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، مِنْهَا الْوَفَاءُ بِالْعِرْفَانِ، وَالْقِيَامُ بِحَقِّ الْإِحْسَانِ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ، فَإِنَّك إلَّا تَرَهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ. وَمِنْهَا الِانْكِفَافُ عَنْ الْعِصْيَانِ، وَأَقَلُّهُ دَرَجَةً اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ، وَمِنْ أَعْظَمِ الْمَوَاثِيقِ فِي الذِّكْرِ أَلَا تَسْأَلَ سِوَاهُ، فَقَدْ كَانَ أَبُو حَمْزَةَ الْخُرَاسَانِيُّ مِنْ كِبَارِ الْعُبَّادِ سَمِعَ «أَنَّ نَاسًا بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلَّا يَسْأَلُوا أَحَدًا شَيْئًا، فَكَانَ أَحَدُهُمْ إذَا وَقَعَ سَوْطُهُ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا رَفْعَهُ إلَيْهِ»، فَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ: رَبِّ، إنَّ هَؤُلَاءِ عَاهَدُوا نَبِيَّك إذْ رَأَوْهُ، وَأَنَا أُعَاهِدُك أَلَّا أَسْأَلَ أَحَدًا شَيْئًا أَبَدًا. قَالَ: فَخَرَجَ حَاجًّا مِنْ الشَّامِ يُرِيدُ مَكَّةَ، فَبِينَا هُوَ يَمْشِي فِي الطَّرِيقِ بِاللَّيْلِ إذْ بَقِيَ عَنْ أَصْحَابِهِ لِعُذْرٍ، ثُمَّ اتَّبَعَهُمْ، فَبِينَا هُوَ يَمْشِي إلَيْهِمْ إذْ سَقَطَ فِي بِئْرٍ عَلَى حَاشِيَةِ الطَّرِيقِ، فَلَمَّا حَصَلَ فِي قَعْرِهِ قَالَ: أَسْتَغِيثُ؛ لَعَلَّ أَحَدًا

الآية الرابعة قوله تعالى مثل الجنة التي وعد المتقون

يَسْمَعُنِي فَيُخْرِجُنِي، ثُمَّ قَالَ: إنَّ الَّذِي عَاهَدْته يَرَانِي وَيَسْمَعُنِي، وَاَللَّهِ لَا تَكَلَّمْت بِحَرْفٍ لِبَشَرٍ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ إلَّا يَسِيرًا إذْ مَرَّ بِتِلْكَ الْبِئْرِ نَفَرٌ، فَلَمَّا رَأَوْهُ عَلَى حَاشِيَةِ الطَّرِيقِ قَالُوا: إنَّهُ لَيَنْبَغِي سَدُّ هَذِهِ الْبِئْرِ، ثُمَّ قَطَعُوا خَشَبًا، وَنَصَبُوهَا عَلَى فَمِ الْبِئْرِ وَغَطَّوْهَا بِالتُّرَابِ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَبُو حَمْزَةَ قَالَ: هَذِهِ مَهْلَكَةٌ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَغِيثَ بِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَخْرُجُ مِنْهَا أَبَدًا، ثُمَّ رَجَعَ إلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: أَلَيْسَ الَّذِي عَاهَدْت يَرَى ذَلِكَ كُلَّهُ، فَسَكَتَ وَتَوَكَّلَ، ثُمَّ اسْتَنَدَ فِي قَعْرِ الْبِئْرِ مُفَكِّرًا فِي أَمْرِهِ، فَإِذَا بِالتُّرَابِ يَقَعُ عَلَيْهِ، وَالْخَشَبُ يُرْفَعُ عَنْهُ، وَسَمِعَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُ: هَاتِ يَدَك. قَالَ: فَأَعْطَيْته يَدِي، فَأَقَلَّنِي فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ إلَى فَمِ الْبِئْرِ، فَخَرَجْت وَلَمْ أَرَ أَحَدًا، ثُمَّ سَمِعْت هَاتِفًا يَقُولُ: كَيْفَ رَأَيْت ثَمَرَةَ التَّوَكُّلِ؟ وَأَنْشَدَ: نَهَانِي حَيَائِي مِنْك أَنْ أَكْتُمَ الْهَوَى ... وَأَغْنَيْتنِي بِالْعِلْمِ مِنْك عَنْ الْكَشْفِ تَلَطَّفْت فِي أَمْرِي فَأَبْدَيْتَ شَاهِدِي ... إلَى غَائِبِي وَاللُّطْفُ يُدْرَكُ بِاللُّطْفِ تَرَاءَيْت لِي بِالْعِلْمِ حَتَّى كَأَنَّمَا ... تُخَبِّرُنِي بِالْغَيْبِ أَنَّك فِي كَفِّي أَرَانِي وَبِي مِنْ هَيْبَتِي لَك وَحْشَةٌ ... فَتُؤْنِسُنِي بِاللُّطْفِ مِنْك وَبِالْعَطْفِ وَتُحْيِي مُحِبًّا أَنْتَ فِي الْحُبِّ حَتْفُهُ ... وَذَا عَجَبٍ كَوْنُ الْحَيَاةِ مَعَ الْحَتْفِ فَهَذَا رَجُلٌ عَاهَدَ اللَّهَ، فَوَجَدَ الْوَفَاءَ عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ؛ فَبِهِ فَاقْتَدُوا تَهْتَدُوا. [الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ] َ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} [الرعد: 35]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {أُكُلُهَا دَائِمٌ} [الرعد: 35] بِضَمِّ الْهَمْزَةِ فِي الْأُكُلِ يَعْنِي بِهِ الْمَأْكُولَ لَا الْفِعْلَ. وَصَفَ اللَّهُ طَعَامَ الْجَنَّةِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْطُوعٍ وَلَا مَمْنُوعٍ، وَطَعَامُ الدُّنْيَا يَنْقَطِعُ وَيُمْنَعُ فَيَمْتَنِعُ.

الآية الخامسة قوله تعالى ويقول الذين كفروا لست مرسلا

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ نُوحٍ: سَمِعْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: " لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِنْ ثِمَارٍ مَا يُشْبِهُ ثِمَارَ الْجَنَّةِ إلَّا الْمَوْزُ " لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {أُكُلُهَا دَائِمٌ} [الرعد: 35] وَأَنْتَ تَجِدُ الْمَوْزَ فِي الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ. قَالَ الْقَاضِي: وَكَذَلِكَ رُمَّانُ بَغْدَادَ، شَاهَدْت الْمُحَوَّلَ قَرْيَةً مِنْ قُرَى نَهْرِ عِيسَى وَفِي شَجَرِ الرُّمَّانِ حَبُّ الْعَامَيْنِ يَجْتَمِعُ تَقْطَعُ مِنْهُ مَتَى شِئْت صَيْفًا وَشِتَاءً، وَقَيْظًا وَخَرِيفًا، إلَّا أَنَّ الْحَبَّةَ الَّتِي بَقِيَتْ فِي الشَّجَرَةِ عَامًا لَا تَفْلِقُهَا إلَّا بِالْقَدُومِ مِنْ شِدَّةِ الْقِشْرِ، فَإِذَا انْفَلَقَتْ ظَهَرَ تَحْتَهُ حَبُّ الرُّمَّانِ أَجْمَلَ مَا كَانَ وَأَيْنَعَهُ. [الْآيَة الْخَامِسَة قَوْله تَعَالَى وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا] قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الرعد: 43] فِيهَا الِاكْتِفَاءُ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ، وَهُوَ خَيْرُ الشَّاهِدِينَ إنْ كَانَ يَعْلَمُ مِنِّي الْحَقَّ فِي الدَّعْوَى وَالصِّدْقَ فِي التَّبْلِيغُ فَسَيَنْصُرُنِي، فَلَا جَرَمَ صَدَّقَهُ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَنَصَرَهُ بِالدَّلَالَاتِ، وَأَكْرَمَهُ بِالظُّهُورِ فِي الْعَوَاقِبِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43]؟ قِيلَ: هُوَ وَإِنْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ فِي اللَّفْظِ فَإِنَّهُ مَقْطُوعٌ عَنْهُ فِي الْمَعْنَى. التَّقْدِيرُ: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ يَشْهَدُ لِي بِصِدْقِي؛ وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ مُجَاهِدٌ: إنَّ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذِهِ غَفْلَةٌ فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الرعد: 43]، فَلَوْ كَانَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ هُوَ اللَّهُ لَكَانَ تَكْرَارًا مَحْضًا خَارِجًا عَنْ صِحَّةِ الْمَعْنَى وَجَزَالَةِ اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ فِي:

الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ: اُخْتُلِفَ فِيمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ بَعْدَ ذِكْرِ قَوْلِ مُجَاهِدٍ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَنْ آمَنَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. الثَّانِي: أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَقَدْ قُرِئَ: وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ بِخَفْضِ الْمِيمِ مِنْ " مِنْ " وَرَفْعِ الْعَيْنِ مِنْ " عُلِمَ ". وَقُرِئَ بِخَفْضِ الْمِيمِ مِنْ " مِنْ " وَبَاقِيهِ عَلَى الْمَشْهُورِ. الرَّابِعُ: الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَدَبُّرِ مَا مَضَى: أَمَّا مَنْ قَالَ إنَّهُمْ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْيَهُودِ، كَابْنِ سَلَامٍ، وَابْنِ يَامِينَ. وَمِنْ النَّصَارَى، كَسَلْمَانَ، وَتَمِيمٍ الدَّارِيِّ، فَإِنَّ الْمَعْنَى عِنْدَهُ بِالْكِتَابِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَعَوَّلَ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا لِأَنَّهُ عِنْدَهُ أَعْلَمُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ أَعْلَمُ مِنْهُ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ فِي ذِكْرِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ؛ أَوْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا». وَهُوَ حَدِيثٌ بَاطِلٌ، النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَدِينَةُ عِلْمٍ وَأَبْوَابُهَا أَصْحَابُهَا؛ وَمِنْهُمْ الْبَابُ الْمُنْفَسِحُ، وَمِنْهُمْ الْمُتَوَسِّطُ عَلَى قَدْرِ مَنَازِلِهِمْ فِي الْعُلُومِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُمْ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ فَصَدَقَ؛ لِأَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ يَعْلَمُ الْكِتَابَ، وَيُدْرِك وَجْهَ إعْجَازِهِ؛ يَشْهَدُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالصِّدْقِ.

وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ فَعَوَّلَ عَلَى حَدِيثٍ خَرَّجَهُ لِلتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَمَّا أُرِيدَ قَتْلُ عُثْمَانَ جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: مَا جَاءَ بِك؟ قَالَ: جِئْت فِي نَصْرِك. قَالَ: اُخْرُجْ إلَى النَّاسِ، فَاطْرُدْهُمْ عَنِّي، فَإِنَّك خَارِجًا خَيْرٌ لِي مِنْك دَاخِلًا. فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ إلَى النَّاسِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّهُ كَانَ اسْمِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فُلَانٌ، فَسَمَّانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدَ اللَّهِ، وَنَزَلَتْ فِي آيَاتٌ مِنْ الْقُرْآنِ فَنَزَلَتْ فِي: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف: 10] الْآيَةَ إلَى آخِرِهَا، وَنَزَلَتْ فِي: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43]. إنَّ لِلَّهِ سَيْفًا مَغْمُودًا عَنْكُمْ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ قَدْ جَاوَرَتْكُمْ فِي بَلَدِكُمْ هَذَا الَّذِي نَزَلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. اللَّهَ اللَّهَ فِي هَذَا الرَّجُلِ أَنْ تَقْتُلُوهُ، فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَتَلْتُمُوهُ لَتُطْرَدَنَّ جِيرَانُكُمْ الْمَلَائِكَةُ، وَلَيُسَلَّنَّ سَيْفُ اللَّهِ الْمَغْمُودُ عَنْكُمْ، فَلَا يُغْمَدُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالُوا: اُقْتُلُوا الْيَهُودِيَّ، وَاقْتُلُوا عُثْمَانَ. وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ تَنْزِلَ فِي عَبْدِ اللَّهِ سَبَبًا، وَتَتَنَاوَلَ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ لَفْظًا؛ وَيُعَضِّدُهُ مِنْ النِّظَامِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَعْنِي بِهِ قُرَيْشًا؛ فَاَلَّذِي عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ هُمْ إلَى مَعْرِفَةِ النُّبُوَّةِ وَالْكِتَابِ أَقْرَبُ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي هَذَا قَوْلُ الْمُتَجَادِلِينَ: كَفَى بِفُلَانٍ بَيْنَنَا شَهِيدًا فَيَرْضَيَانِ بِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ، وَيَزِيدُ هَذَا عَلَيْهِ ظُهُورُ هَذَا الْحَقِّ يَقِينًا، وَأَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُهُ نَصْرًا مُبِينًا، وَيُوَفِّقُ مَنْ يَعْرِفُهُ حَقًّا، وَيَشْهَدُ بِهِ تَصْدِيقًا وَصِدْقًا. وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ مَالِكٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ كَذَلِكَ رَوَى عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.

سورة إبراهيم فيها أربع آيات

[سُورَةُ إبْرَاهِيمَ فِيهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى ولقد أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ] ٍ الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5] فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَعْنَى ذَكِّرْهُمْ قُلْ لَهُمْ قَوْلًا يَتَذَكَّرُونَ بِهِ أَيَّامَ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي أَيَّامِ اللَّهِ قَوْلَانِ ": أَحَدُهُمَا: نِعَمُهُ. الثَّانِي: نِقَمُهُ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ. وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: بَلَاؤُهُ الْحَسَنُ، وَأَيَادِيهِ عِنْدَهُمْ. وَقَدْ أَخْبَرَنِي بَعْضُ أَشْيَاخِي مِنْ الصُّوفِيَّةِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ رَجُلٌ إذَا صَفَا لَهُ يَوْمٌ [وَاحِدٌ] جَعَلَ جَوْزًا فِي قِدْرٍ وَخَتَمَ عَلَيْهِ، فَإِذَا سُئِلَ عَنْ عُمْرِهِ أَخْرَجَ الْقِدْرَ وَفَضَّ الْخَتْمَ، وَعَدَّ الْجَوْزَ، فَيَرَى أَنَّ أَيَّامَهُ بِعَدَدِهَا. [مَسْأَلَة الْوَعْظِ الْمُرَقِّقِ لِلْقُلُوبِ الْمُقَوِّي لِلْيَقِينِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْوَعْظِ، الْمُرَقِّقِ لِلْقُلُوبِ، الْمُقَوِّي لِلْيَقِينِ؛ فَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ:

الآية الثانية قوله تعالى وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا

«بَيْنَمَا مُوسَى فِي قَوْمِهِ يُذَكِّرُهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ، وَأَيَّامُ اللَّهِ نَعْمَاؤُهُ وَبَلَاؤُهُ»، وَذَكَرَ حَدِيثَ الْخَضِرِ. وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا فِيهِ الْغَايَةَ فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ سَنَدًا وَمَتْنًا. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا] الْآيَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 13]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الطَّبَرِيُّ: مَعْنَاهُ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا، إلَّا أَنْ تَعُودُوا فِي مِلَّتِنَا، وَهُوَ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، فَإِنَّ (أَوْ) عَلَى بَابِهَا مِنْ التَّخْيِيرِ. خَيَّرَ الْكُفَّارُ الرُّسُلَ بَيْنَ أَنْ يَعُودُوا فِي مِلَّتِهِمْ أَوْ يُخْرِجُوهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ؛ وَهَذِهِ سِيرَةُ اللَّهِ فِي رُسُلِهِ وَعِبَادِهِ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ} [الإسراء: 76]. وَقَالَ فِي الصَّحِيحِ فِي «حَدِيثِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ وَقَوْلُهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، يَا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُك قَوْمُك. قَالَ: أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟ قَالَ لَهُ وَرَقَةُ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جِئْت بِهِ إلَّا عُودِيَ وَأُخْرِجَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُك أَنْصُرْك نَصْرًا مُؤَزَّرًا.» الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِيهِ إكْرَاهُ الرُّسُلِ بِالْخُرُوجِ عَنْ أَرْضِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شِدَّةُ ذَلِكَ وَوَقْعُهُ مِنْ النُّفُوسِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66]

الآية الثالثة قوله تعالى ألم تر كيف ضرب الله مثلا

فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ وُجُوهِ الْإِكْرَاهِ الْمُبِيحَةِ لِلْمَحْظُورِ، وَيَأْتِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذِهِ سِيرَةُ اللَّهِ فِي رُسُلِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ؛ فَلِذَلِكَ أَخْبَرَ عَنْ بَعْضِهِمْ، وَهُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، فَقَالَ: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ} [الأعراف: 88]. وَأَخْبَرَ هُنَا عَنْ عُمُومِ الْأَمْرِ، فَقَالَ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ} [إبراهيم: 13]. [الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا] كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 24] {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 25]. فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ نُزُولِهَا عَلَى مَعْنَاهَا: رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ الْحَبْحَابِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقِنَاعٍ مِنْ رُطَبٍ، فَقَالَ: مَثَلُ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ الْآيَةَ قَالَ: هِيَ النَّخْلَةُ». وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ، مَثَلُهَا كَمِثْلِ الْمُسْلِمِ، خَبِّرُونِي مَا هِيَ» الْحَدِيثَ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هِيَ النَّخْلَةُ»، فَذَكَرَ خِصَالًا فِي هَذِهِ الشَّجَرَةِ، وَمِنْهَا أَنَّهَا تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ.

مسألة الحين وفيه عشرة أقوال

[مَسْأَلَة الحين وَفِيهِ عَشَرَةُ أَقْوَالٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ الْحِينِ: وَفِيهِ عَشَرَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ سَاعَةٌ أَقَلُّ الزَّمَانِ. الثَّانِي: أَنَّهُ غُدْوَةٌ وَعَشِيَّةٌ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ شَهْرَانِ؛ قَالَهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. السَّادِسُ: أَنَّهُ سَنَةٌ؛ قَالَهُ عَلِيٌّ. السَّابِعُ: أَنَّهُ سَبْعَةُ أَعْوَامٍ. الثَّامِنُ: أَنَّهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً. التَّاسِعُ: أَنَّهُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. الْعَاشِرُ: أَنَّهُ مَجْهُولٌ. [مَسْأَلَة تَحْقِيقِ مَعْنَى الحين] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَحْقِيقِ مَعْنَاهُ: اعْلَمُوا أَفَادَكُمْ اللَّهُ الْعِرْفَانَ أَنَّا قَدْ أَحْكَمْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ مَلْجَئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ؛ وَنَحْنُ الْآنَ نُشِيرُ إلَى مَا يُغْنِي فِي ذَلِكَ الْغَرَضِ، وَيُشْرِفُ بِكُمْ عَلَى مَقْصُودِ الْفَتْوَى الْمُفْتَرَضِ، فَنَقُولُ: إنَّ الْحِينَ ظَرْفُ زَمَانٍ، وَهُوَ مُبْهَمٌ لَا تَخْصِيصَ فِيهِ، وَلَا تَعْيِينَ فِي الْمُفَسِّرِ لَهُ، وَهَذَا مُقَرَّرٌ لُغَةً، مُجْمَعٌ عَلَيْهِ مِنْ عُلَمَاءِ اللِّسَانِ، وَإِنَّمَا يُفَسِّرُهُ مَا يَقْتَرِنُ بِهِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ سَاعَةً لَحْظِيَّةً، وَيَحْتَمِلُ يَوْمَ السَّاعَةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَيَحْتَمِلُ حَالَ الْعَدَمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1]. وَلِأَجْلِ إبْهَامِهِ عُلِّقَ الْوَعِيدُ بِهِ، لِيَغْلِبَ الْخَوْفُ، لِاسْتِغْرَاقِ مُدَّةِ الْعَذَابِ نِهَايَةَ الْأَبَدِ فِيهِ، فَيَكُفَّ عَنْ الذَّنْبِ، أَوْ يَرْجُوَ لِاقْتِضَاءِ الْوَعِيدِ أَقَلَّ مُدَّةِ احْتِمَالِهِ؛ فَيَغْلِبَ الرَّجَاءُ، وَلَا يَقَعُ الْيَأْسُ عَنْ الْمَغْفِرَةِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ مِنْ الذَّنْبِ، ثُمَّ يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ. وَتَعَلَّقَ مَنْ قَالَ: إنَّ الْحِينَ غُدْوَةٌ وَعَشِيَّةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17]،

وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ نَزَعَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ ثَمُودَ: {وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ} [الذاريات: 43]. وَتَعَلَّقَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ بِبَقَاءِ الثَّمَرِ فِي النَّخْلِ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ: إنَّهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ بِأَنَّهُ مُدَّةُ الثَّمَرِ مِنْ حِينِ الِابْتِدَاءِ إلَى حِينِ الْجَنْيِ. وَتَعَلَّقَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى حِينٍ} [الذاريات: 43]. وَتَعَلَّقَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ سَبْعُ سِنِينَ أَوْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً بِأَخْبَارٍ إسْرَائِيلِيَّةٍ وَرَدَتْ فِي مُدَّةِ بَقَاءِ يُوسُفَ فِي السِّجْنِ بِاخْتِلَافٍ فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُمْ وَمِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ صَحِيحٌ وَفَاسِدٌ، وَقَوِيٌّ وَضَعِيفٌ؛ وَأَظْهَرُهَا اللَّحْظَةُ؛ لِأَنَّهُ اللُّغَةُ وَالْمَجْهُولُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ مِقْدَارُهُ عَلَى التَّعْيِينِ، وَالشَّهْرَانِ وَالسِّتَّةُ أَشْهُرٍ وَالسَّنَةُ [لِأَنَّهَا] كُلُّهَا تَخْرُجُ مِنْ ذِكْرِ الْحِينِ فِي ذِكْرِ النَّخْلَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ حِينًا فَلْيَصُمْ سَنَةً. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 25]. وَرَوَى أَشْهَبُ، عَنْ مَالِكٍ قَالَ: الْحِينُ الَّذِي يُعْرَفُ مِنْ الثَّمَرَةِ إلَى الثَّمَرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 25]. وَمِنْ الْحِينِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ قَوْلُهُ: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1]. وَقَالَ أَشْهَبُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: الْحِينُ الَّذِي يُعْرَفُ قَوْلُهُ: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} [إبراهيم: 25] فَهَذَا سَنَةٌ، وَالْحِينُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ قَوْلُهُ: {وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80]، فَهَذَا حِينٌ لَا يُعْرَفُ. وَقَدْ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: إنَّ الْحِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ حِينِ تَطْلُعُ الثَّمَرَةُ إلَى أَنْ

تُرْطِبَ، وَمِنْ حِينِ تُرْطِبُ إلَى أَنْ تَطْلُعَ. وَالْحِينُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، ثُمَّ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 25]. وَمِنْ الْحِينِ الْمَجْهُولِ قَوْلُهُ: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 88]. قَالَ الْقَاضِي: الَّذِي اخْتَارَهُ مَالِكٌ فِي الصَّحِيحِ سَنَةٌ، وَاخْتَارَ أَبُو حَنِيفَةَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَتَبَايَنَ الْعُلَمَاءُ وَالْأَصْحَابُ مِنْ كُلِّ بَابٍ عَلَى حَالِ احْتِمَالِ اللَّفْظِ. وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحِينَ الْمَجْهُولَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ، وَالْحِينُ الْمَعْلُومُ هُوَ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ، وَيَرْتَبِطُ بِهِ التَّكْلِيفُ، وَأَكْثَرُ الْمَعْلُومِ سَنَةٌ. وَمَالِكٌ يَرَى فِي الْأَيْمَانِ وَالْأَحْكَامِ أَعَمَّ الْأَسْمَاءِ وَالْأَزْمِنَةِ، وَأَكْثَرَهَا اسْتِظْهَارًا. وَالشَّافِعِيُّ يَرَى الْأَقَلَّ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَعَيَّنُ. وَأَبُو حَنِيفَةَ تَوَسَّطَ، فَقَالَ: سِتَّةُ أَشْهُرٍ. وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْمُقَدَّرَاتِ عِنْدَهُ لَا تَثْبُتُ قِيَاسًا، وَلَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ؛ وَإِنَّمَا الْمُعَوَّلُ عَلَى الْمَعْنَى بَعْدَ مَعْرِفَةِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ لُغَةً، وَهُوَ أَمْرٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْثِلَةِ؛ وَنَحْنُ نَضْرِبُ فِي ذَلِكَ الْأَمْثِلَةَ مَا نُبَيِّنُ بِهِ الْمَقْصُودَ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَمْثِلَةٍ: الْمِثَالُ الْأَوَّلُ: فَنَقُولُ: إذَا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ حِينًا فَيَحْتَمِلُ رَكْعَةً عِنْدَ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ النَّافِلَةِ، وَرَكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمَا أَقَلُّ النَّافِلَةِ فَيَتَقَدَّرُ الزَّمَانُ بِقَدْرِ الْفِعْلِ. الْمِثَالُ الثَّانِي: إذَا نَذَرَ أَنْ يَصُومَ حِينًا فَيَحْتَمِلُ يَوْمًا لَا أَقَلَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مِعْيَارُ الصَّوْمِ [الشَّرْعِيِّ]؛ إذْ هِيَ عِبَادَةٌ تَتَقَدَّرُ بِالزَّمَانِ، لَا بِالْأَفْعَالِ؛ لِأَنَّهُ تَرْكٌ فَلَا يَحُدُّهُ إلَّا الْوَقْتُ، بِخِلَافِ الْفِعْلِ، فَإِنَّهُ يَحُدُّ نَفْسَهُ. وَيَحْتَمِلُ الدَّهْرَ، وَيَحْتَمِلُ سَنَةً، فَرَأَى الشَّافِعِيُّ يَوْمًا أَخْذًا بِالْأَقَلِّ، وَأَلْزَمَ مَالِكٌ الدَّهْرَ؛ لِأَنَّهُ الْأَكْثَرُ، وَتَرَكَهُ مَالِكٌ لِلْعِلَّةِ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا مِنْ أَنَّهُ مَجْهُولٌ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: عَلَيَّ صَوْمُ الدَّهْرِ لَزِمَهُ وَتَوَسَّطَ، فَقَالَ سَنَةً، فَإِنَّهُ عَدْلٌ بَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ، وَبُيِّنَ فِي كِتَابِ

الآية الرابعة قوله تعالى ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم

اللَّهِ فِي ذِكْرِ النَّخْلَةِ، وَيُعَارِضُهُ أَنَّ سِتَّةَ أَشْهُرٍ بُيِّنَ أَيْضًا، وَلَكِنَّهُ أَخَذَ بِالْأَكْثَرِ فِي ذِكْرِ النَّخْلَةِ. الْمِثَالُ الثَّالِثُ: إذَا حَلَفَ أَلَّا يَدْخُلَ الدَّارَ حِينًا: وَهِيَ مُتَرَكِّبَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا فِي تَحْدِيدِ الْحِينِ، لَكِنَّهُ يَلْحَقُ الصَّلَاةَ فِي احْتِمَالِ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ، وَيَحْتَمِلُ سَائِرَ الْوُجُوهِ. وَالْمُعَوَّلُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا عَلَى الْعُرْفِ فِي ذَلِكَ إنْ لَمْ تَكُنْ نِيَّةٌ وَلَا سَبَبٌ وَلَا بِسَاطُ حَالٍ؛ فَيُرَكَّبُ الْبِرّ وَالْحِنْثُ عَلَى النِّيَّةِ أَوَّلًا، وَعَلَى السَّبَبِ ثَانِيًا، وَعَلَى الْبِسَاطِ ثَالِثًا، وَعَلَى اللُّغَةِ رَابِعًا، وَعَلَى الْعُرْفِ خَامِسًا، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ اللُّغَةِ عِنْدَنَا؛ وَسَيَأْتِي ذَلِكَ مُحَقَّقًا فِي سُورَةِ " ص " وَغَيْرِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ. [الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ] ِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِهَا: رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طُرُقٍ: أَنَّ أَوَّلَ مَنْ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أُمُّ إسْمَاعِيلَ، وَأَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَجَرَّتْ الذَّيْلَ أُمُّ إسْمَاعِيلَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا فَرَّتْ هَاجَرُ مِنْ سَارَةَ أَرْخَتْ ذَيْلَهَا لِتُعَفِّي أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا إبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهَا هُنَالِكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَلَ إبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَا إبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ أَنِيسٌ وَلَا شَيْءٌ؟ قَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ أَمَرَك بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: إذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا اللَّهُ. ثُمَّ رَجَعَتْ. فَانْطَلَقَ إبْرَاهِيمُ حَتَّى إذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتِ، ثُمَّ

دَعَا بِهَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم: 37] حَتَّى بَلَغَ: {يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37] وَجَعَلَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إسْمَاعِيلَ وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ حَتَّى إذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إلَيْهِ يَتَلَوَّى، أَوْ قَالَ: يَتَلَبَّطُ؛ فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إلَيْهِ، فَوَجَدَتْ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الْأَرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْ الْوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا، فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَهَبَطَتْ مِنْ الصَّفَا، حَتَّى إذَا بَلَغَتْ الْوَادِيَ، رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الْإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتْ الْوَادِيَ، ثُمَّ أَتَتْ الْمَرْوَةُ، فَقَامَتْ عَلَيْهِ، وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا، فَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَلِذَلِكَ سَعَى النَّاسُ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا فَقَالَتْ: صَهٍ، تُرِيدُ نَفْسَهَا، ثُمَّ تَسَمَّعَتْ فَسَمِعَتْ أَيْضًا. فَقَالَتْ: قَدْ أَسْمَعْتَ، إنْ كَانَ عِنْدَك غُوَاثٌ، فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ أَوْ قَالَ بِجَنَاحِهِ حَتَّى ظَهَرَ الْمَاءُ فَجَعَلَتْ تَخُوضُهُ وَتَقُولُ بِيَدِهَا: هَكَذَا، وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنْ الْمَاءِ فِي سِقَائِهَا وَهُوَ يَفُورُ بِقَدْرِ مَا تَغْرِفُ». قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إسْمَاعِيلَ، لَوْ تَرَكَتْ مَاءَ زَمْزَمَ أَوْ قَالَ: لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنْ الْمَاءِ لَكَانَتْ عَيْنًا مَعِينًا». قَالَ: فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا، فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ: لَا تَخَافِي الضَّيْعَةَ؛ فَإِنْ هَاهُنَا بَيْتُ اللَّهِ يَبْنِيه هَذَا الْغُلَامُ وَأَبُوهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضَيِّعُ أَهْلَهُ. وَكَانَ الْبَيْتُ مُرْتَفِعًا مِنْ الْأَرْضِ كَالرَّابِيَةِ، تَأْتِيهِ السُّيُولُ، فَتَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، وَكَانَتْ كَذَلِكَ حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمَ مُقْبِلِينَ مِنْ طَرِيقِ كَدَاءٍ، فَنَزَلُوا فِي أَسْفَلَ مَكَّةَ، فَرَأَوْا طَائِرَ عَائِفًا، فَقَالُوا: إنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَيَدُورُ عَلَى مَاءٍ لَعَهْدُنَا بِهَذَا الْوَادِي وَمَا فِيهِ مَاءٌ، فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ، فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ، فَأَقْبَلُوا. قَالَ: وَأُمُّ إسْمَاعِيلَ عِنْدَ الْمَاءِ، فَقَالُوا: أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَك؟ قَالَتْ: نَعَمْ، وَلَكِنْ لَا حَقَّ لَكُمْ فِي الْمَاءِ. قَالُوا: نَعَمْ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَأَلِفَتْ ذَلِكَ أُمُّ إسْمَاعِيلَ، وَهِيَ تُحِبُّ الْأُنْسَ، فَنَزَلُوا وَأَرْسَلُوا إلَى أَهْلَيْهِمْ، فَنَزَلُوا مَعَهُمْ، حَتَّى إذَا كَانَ بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ، وَشَبَّ الْغُلَامُ، وَتَعْلَمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ وَأَنْفَسَهُمْ أَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ، فَلَمَّا أَدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأَةً فِيهِمْ». وَمَاتَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ، فَجَاءَ إبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ، فَلَمْ يَجِدْ إسْمَاعِيلَ فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ، فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ فَقَالَتْ: نَحْنُ بَشَرٌ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ، وَشَكَتْ إلَيْهِ. فَقَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُك فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامَ، وَقَوْلِي لَهُ يُغَيِّرُ عَتَبَةَ بَابِهِ. فَلَمَّا جَاءَ إسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا فَقَالَ: هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: جَاءَنَا شَيْخٌ صِفَتُهُ كَذَا وَكَذَا، فَسَأَلْنَا عَنْك، فَأَخْبَرْته، وَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا؟ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّا فِي جَهْدٍ وَشِدَّةٍ. قَالَ: فَهَلْ أَوْصَاك بِشَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْك السَّلَامَ، وَيَقُولُ لَك: غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِك. قَالَ: ذَاكَ أَبِي، وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَك. الْحَقِي بِأَهْلِك. فَطَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى، فَلَبِثَ عَنْهُمْ إبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عَنْهُ، فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا. قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ؟ وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ، وَأَثْنَتْ عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ: مَا طَعَامُكُمْ قَالَتْ: اللَّحْمُ. قَالَ: فَمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَتْ: الْمَاءُ. قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالْمَاءِ. «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ حَبٌّ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ دَعَا لَهُمْ فِيهِ». قَالَ: فَهُمَا لَا يَخْلُو عَلَيْهِمَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إلَّا لَمْ يُوَافِقَاهُ. قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُك فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامَ وَمُرِيهِ يُثَبِّتُ عَتَبَةَ بَابِهِ. فَلَمَّا جَاءَ إسْمَاعِيلُ قَالَ: هَلْ أَتَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ؛ أَتَانَا شَيْخٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ، وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ، فَسَأَلَنِي عَنْك فَأَخْبَرْته، فَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا؟ فَأَخْبَرْته أَنَّا بِخَيْرٍ. قَالَ: فَأَوْصَاك بِشَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ؛ هُوَ يَقْرَأُ عَلَيْك السَّلَامَ، وَيَأْمُرُك أَنْ تُثَبِّتَ عَتَبَةَ بَابِك. قَالَ: ذَلِكَ أَبِي، وَأَنْتِ الْعَتَبَةُ، أَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَك.

مسألة حقيقة التوكل

ثُمَّ لَبِثَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلًا تَحْتَ دَوْحَةٍ قَرِيبًا مِنْ زَمْزَمَ. فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إلَيْهِ، فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الْوَلَدُ بِالْوَالِدِ وَالْوَالِدُ بِالْوَلَدِ، ثُمَّ قَالَ: يَا إسْمَاعِيلُ، إنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ. قَالَ: فَاصْنَعْ مَا أَمَرَك رَبُّك. قَالَ: وَتُعِينُنِي. قَالَ: وَأُعِينُك. قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَاهُنَا بَيْتًا وَأَشَارَ إلَى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا. قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ، فَجَعَلَ إسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالْحِجَارَةِ، وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي، حَتَّى إذَا ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ جَاءَ بِهَذَا الْحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ فَقَامَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَبْنِي، وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ؛ وَهُمَا يَقُولَانِ: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127]. قَالَ: فَجَعَلَا يَبْنِيَانِ حَتَّى تَدَوَّرَ حَوْلَ الْبَيْتِ، وَهُمَا يَقُولَانِ: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البقرة: 127]. [مَسْأَلَة حَقِيقَةِ التَّوَكُّلِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْله تَعَالَى {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم: 37] لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ فِي طَرْحِ عِيَالِهِ وَوَلَدِهِ بِأَرْضٍ مَضْيَعَةٍ اتِّكَالًا عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، وَاقْتِدَاءً بِفِعْلِ إبْرَاهِيمَ، كَمَا تَقُولُ الْغُلَاةُ مِنْ الصُّوفِيَّةِ فِي حَقِيقَةِ التَّوَكُّلِ؛ فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ فَعَلَ ذَلِكَ بِأَمْرِ اللَّهِ؛ لِقَوْلِهَا لَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: آللَّهُ أَمَرَك بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَمَّا كَانَ بِأَمْرٍ مِنْهُ أَرَادَ تَأْسِيسَ الْحَالِ وَتَمْهِيدَ الْمَقَامِ، وَخَطَّ الْمَوْضِعَ لِلْبَيْتِ الْمُحَرَّمِ وَالْبَلْدَةِ الْحَرَامِ، أَرْسَلَ الْمَلَكَ فَبَحَثَ بِالْمَاءِ، وَأَقَامَهُ مَقَامَ الْغِذَاءِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ تِلْكَ الْحَالِ إلَّا هَذَا الْمِقْدَارُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ».

مسألة لماذا خص إبراهيم الصلاة وجعلها من جملة الدين

وَقَدْ اجْتَزَأَ بِهِ أَبُو ذَرٍّ لَيَالِيَ أَقَامَ بِمَكَّةَ يَنْتَظِرُ لِقَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَسْتَمِعَ مِنْهُ قَالَ: حَتَّى سَمِنْت وَتَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي، وَكَانَ لَا يَجْتَرِئُ عَلَى السُّؤَالِ وَلَا يُمْكِنُهُ الظُّهُورُ وَلَا التَّكَشُّفُ، فَأَغْنَاهُ اللَّهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ عَنْ الْغِذَاءِ، وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ هَذَا مَوْجُودٌ فِيهِ إلَى يَوْمِهِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِمَنْ صَحَّتْ نِيَّتُهُ، وَسَلِمَتْ طَوِيَّتُهُ، وَلَمْ يَكُنْ بِهِ مُكَذِّبًا وَلَا شَرِبَهُ مُجَرِّبًا؛ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَوَكِّلِينَ، وَهُوَ يَفْضَحُ الْمُجَرِّبِينَ. وَلَقَدْ كُنْت بِمَكَّةَ مُقِيمًا فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكُنْت أَشْرَبُ مَاءَ زَمْزَمَ كَثِيرًا، وَكُلَّمَا شَرِبْته نَوَيْت بِهِ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ لِي بَرَكَتَهُ فِي الْمِقْدَارِ الَّذِي يَسَّرَهُ لِي مِنْ الْعِلْمِ، وَنَسِيت أَنْ أَشْرَبَهُ لِلْعَمَلِ؛ وَيَا لَيْتَنِي شَرِبْته لَهُمَا، حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيَّ فِيهِمَا، وَلَمْ يُقَدَّرْ؛ فَكَانَ صَغْوِي إلَى الْعِلْمِ أَكْثَرَ مِنْهُ إلَى الْعَمَلِ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْحِفْظَ وَالتَّوْفِيقَ بِرَحْمَتِهِ. [مَسْأَلَة لِمَاذَا خَصَّ إبْرَاهِيم الصَّلَاة وَجَعَلَهَا مِنْ جُمْلَة الدِّين] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ} [إبراهيم: 37]: خَصَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الدِّينِ لِفَضْلِهَا فِيهِ وَمَكَانِهَا مِنْهُ، وَهِيَ عَهْدُ اللَّهِ عِنْدَ الْعِبَادِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ».

مسألة تحريم مكة

[مَسْأَلَة تَحْرِيمِ مَكَّةَ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37] قَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِي تَحْرِيمِ مَكَّةَ، وَفَائِدَةُ حُرْمَتِهَا، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ حِكْمَةٍ، وَتَحْرِيمُهَا كَانَ بِالْعِلْمِ، وَكَانَ بِقَوْلِهِ مُخْبِرًا عَنْهُ؛ وَكُلُّ ذَلِكَ قَدِيمٌ لَا أَوَّلَ لَهُ، وَحَرَّمَهَا بِالْكِتَابِ حِينَ خَلَقَ الْقَلَمَ، وَهُوَ التَّحْرِيمُ الثَّالِثُ، وَقَالَ لَهُ: اُكْتُبْ فَكَتَبَ مَا يَكُونُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَمِنْ جُمْلَةِ مَا كَتَبَ أَنَّ مَكَّةَ بَيْتٌ مُحَرَّمُ مُكَرَّمٌ مُعَظَّمٌ؛ وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ آثَارٌ، مِنْهَا أَنَّهُ كَانَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ لَيْسَ عَلَيْهِ جِدَارٌ مُحِيطٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ وَأَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَضَاقَ عَلَى النَّاسِ وَسَّعَ عُمَرُ الْمَسْجِدَ، وَاشْتَرَى دُورًا فَهَدَمَهَا فِيهِ، وَهَدَمَ عَلَى النَّاسِ مَا قَرُبَ مِنْ الْمَسْجِدِ، حَتَّى أَبَوْا أَنْ يَبِيعُوا، وَوَضَعَ الْأَثْمَانَ حَتَّى أَخَذُوهَا بَعْدُ، ثُمَّ أَحَاطَ عَلَيْهِ بِجِدَارٍ قَصِيرٍ دُونَ الْقَامَةِ، وَأَنَّ عُثْمَانَ لَمَّا وَلِيَ وَسَّعَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَاشْتَرَى مِنْ قَوْمٍ، وَأَبَى آخَرُونَ أَنْ يَبِيعُوا، فَهَدَمَ عَلَيْهِمْ، فَصَيَّحُوا فَأَمَرَ بِهِمْ إلَى الْحَبْسِ حَتَّى كَلَّمَهُ فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدَ، وَوُجِدَ فِي الْمَقَامِ كِتَابٌ، فَجَعَلُوا يُخْرِجُونَهُ لِكُلِّ مَنْ أَتَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلَا يَعْلَمُونَهُ، حَتَّى أَتَاهُمْ حَبْرٌ مِنْ الْيَمَنِ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا فِيهِ: أَنَا اللَّهُ ذُو بَكَّةَ صُغْتُهَا يَوْمَ صُغْتُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَبَارَكْت لِأَهْلِهَا فِي اللَّحْمِ وَاللَّبَنِ، وَأَوَّلُ مَنْ يُحِلُّهَا أَهْلُهَا، وَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا خَرَّجَهُ جَمَاعَةٌ، وَاللَّفْظُ لِلتِّرْمِذِيِّ.

سورة الحجر فيها عشر آيات

[سُورَةُ الْحِجْرِ فِيهَا عَشْرُ آيَاتٍ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ] ٍ الْآيَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر: 22]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {لَوَاقِحَ} [الحجر: 22] وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: تُلْقِحُ الشَّجَرَ وَالسَّحَابَ، وَجُمِعَتْ عَلَى حَذْفِ الزَّائِدِ. الثَّانِي: أَنَّهُ مَوْضُوعٌ عَلَى النَّسَبِ، أَيْ ذَاتُ لَقْحٍ وَلِقَاحٍ. الثَّالِثُ: أَنَّ {لَوَاقِحَ} [الحجر: 22] جَمْعُ لَاقِحٍ، أَيْ حَامِلٍ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا تَحْمِلُ السَّحَابَ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلْجَنُوبِ لَاقِحٌ وَحَامِلٌ، وَلِلشِّمَالِ حَائِلٌ وَعَقِيمٌ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا} [الأعراف: 57] مَعْنَاهُ: حَمَلَتْ. وَأَقْوَى الْوَجْهِ فِيهِ النِّسْبَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَشْهَبُ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ، وَاللَّفْظُ لِأَشْهَبَ قَالَ مَالِكٌ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر: 22]، فَلِقَاحُ الْقَمْحِ عِنْدِي أَنْ يُحَبِّبَ وَيُسَنْبِلَ، وَلَا أَدْرِي مَا يَيْبَسُ فِي أَكْمَامِهِ، وَلَكِنْ يُحَبِّبُ حَتَّى يَكُونَ لَوْ يَبِسَ حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ فَسَادًا لَا خَيْرَ فِيهِ، وَلِقَاحُ الشَّجَرِ كُلِّهَا أَنْ يُثْمِرَ الشَّجَرُ وَيَسْقُطَ مِنْهُ مَا يَسْقُطُ، وَيَثْبُتَ مَا يَثْبُتُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَنْ تَوَرَّدَ الشَّجَرُ.

الآية الثانية قوله تعالى ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين

قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: إنَّمَا عَوَّلَ مَالِكٌ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ عَلَى تَشْبِيهِ لِقَاحِ الشَّجَرِ بِلِقَاحِ الْحَمْلِ، وَأَنَّ الْوَلَدَ إذَا عُقِدَ وَخُلِقَ وَنُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ تَحَبُّبِ الثَّمَرِ وَسَنْبَلَتِهِ، وَلِأَنَّهُ سُمِّيَ بِاسْمٍ تَشْتَرِك فِيهِ كُلُّ حَامِلَةٍ، وَهُوَ اللِّقَاحُ، وَعَلَيْهِ جَاءَ الْحَدِيثُ: «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ». [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ] َ} [الحجر: 24]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَتْ امْرَأَةٌ تُصَلِّي خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا وَاَللَّهِ مَا رَأَيْت قَطُّ مِثْلَهَا. قَالَ: فَكَانَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ إذَا صَلَّوْا تَقَدَّمُوا، وَبَعْضُهُمْ يَسْتَأْخِرُ، فَإِذَا سَجَدُوا نَظَرُوا إلَيْهَا مِنْ تَحْتِ أَيْدِيهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ». الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي شَرْحِ الْمُرَادِ بِهَا: فِيهَا خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: الْمُتَقَدِّمِينَ فِي الْخَلْقِ إلَى الْيَوْمِ، وَالْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بَعْدُ؛ بَيَانًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ الْمَوْجُودَ وَالْمَعْدُومَ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ وَجَمَاعَةٌ. الثَّانِي: مَنْ مَاتَ، وَمَنْ بَقِيَ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّالِثُ: الْمُسْتَقْدِمِينَ [مِنْ] سَائِرِ الْأُمَمِ، وَالْمُسْتَأْخِرِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. الرَّابِعُ: قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ فِي الطَّاعَةِ وَالْمُسْتَأْخِرِينَ فِي الْمَعْصِيَةِ.

مسألة أول الوقت في الصلاة

الْخَامِسُ: رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّ مَعْنَاهُ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ فِي الصُّفُوفِ فِي الصَّلَاةِ وَالْمُسْتَأْخِرِينَ بِهَا حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ؛ وَكُلُّ هَذَا مَعْلُومٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فَإِنَّهُ عَالِمٌ بِكُلِّ مَوْجُودٍ وَمَعْدُومٍ، وَبِمَا كَانَ [وَبِمَا] يَكُونُ وَبِمَا لَا يَكُونُ أَنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ [كَانَ] يَكُونُ. [مَسْأَلَة أَوَّلِ الْوَقْتِ فِي الصَّلَاةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ أَوَّلِ الْوَقْتِ فِي الصَّلَاةِ خَاصَّةً، وَعَلَى فَضْلِ الْمُبَادَرَةِ إلَى سَائِرِ الْأَعْمَالِ وَالْمُسَارَعَةِ إلَيْهَا عَامَّةً؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ. [مَسْأَلَة فَضْلِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ فِي الصَّلَاةِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى فَضْلِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ فِي الصَّلَاةِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا لَاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ». فَإِذَا جَاءَ الرَّجُلُ الْمَسْجِدَ عِنْدَ الزَّوَالِ فَنَزَلَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، فَقَدْ حَازَ ثَلَاثَ مَرَاتِبَ فِي الْفَضْلِ: أَوَّلَ الْوَقْتِ، وَالصَّفَّ الْأَوَّلِ، وَمُجَاوَرَةَ الْإِمَامِ. فَإِنْ جَاءَ عِنْدَ الزَّوَالِ وَنَزَلَ فِي الصَّفِّ الْآخَرِ أَوْ فِيمَا نَزَلَ عَنْ الْأَوَّلِ فَقَدْ حَازَ فَضْلَ أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَفَاتَهُ فَضْلُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ وَالْمُجَاوَرَةِ.

مسألة فضل الصف الأول في القتال

فَإِنْ جَاءَ وَقْتُ الزَّوَالِ وَنَزَلَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ دُونَ مَا يَلِي الْإِمَامَ فَقَدْ حَازَ فَضْلَ أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَفَضْلَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ، وَفَاتَهُ مُجَاوَرَةُ الْإِمَامِ، وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيه مَنْ يَشَاءُ. وَمُجَاوِرَةُ الْإِمَامِ لَا تَكُونُ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا هِيَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِيَلِيَنِّي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى». فَمَا يَلِي الْإِمَامَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ، فَإِنْ نَزَلَهَا غَيْرُهُ أُخِّرَ لَهُ وَتَقَدَّمَ هُوَ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ بِأَمْرِ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ، كَالْمِحْرَابِ هُوَ مَوْضِعُ الْإِمَامِ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ. [مَسْأَلَة فَضْلِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ فِي الْقِتَال] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: وَكَمَا تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى فَضْلِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ فِي الصَّلَاةِ، فَكَذَلِكَ تَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ فِي الْقِتَالِ؛ فَإِنَّ الْقِيَامَ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ، وَبَيْعَ النَّفْسِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُوَازِنُهُ عَمَلٌ فَالتَّقَدُّمُ إلَيْهِ أَفْضَلُ. وَلَا خِلَافَ فِيهِ وَلَا خَفَاءَ بِهِ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَتَقَدَّمُ فِي الْحَرْبِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ. قَالَ الْبَرَاءُ: «كُنَّا إذَا حَمِيَ الْبَأْسُ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». [الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى إلَّا آلَ لُوطٍ إنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إلَّا امْرَأَتَهُ] الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى: {إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 59] {إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} [الحجر: 60]. قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِمَا فِيهِ بَلَاغٌ لِلطَّلَبَةِ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الثَّانِيَ يَرْجِعُ إلَى مَا يَلِيه، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَوَّلِ مِنْ الْكَلَامِ تَعَلُّقَ الْأَوَّلِ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ بِهِ، لِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ فِيهِ.

الآية الرابعة قوله تعالى قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين

وَبَيَانُهُ الْآنَ عَلَى اخْتِصَارٍ لَكُمْ أَنَّا لَوْ عَلَّقْنَاهُ بِالْأَوَّلِ كَمَا عَلَّقْنَاهُ بِمَا يَلِيه لَكَانَ ذَلِكَ تَنَاقُضًا وَصَارَ الْكَلَامُ نَفْيًا لِمَا أُثْبِتَ، وَإِثْبَاتًا لِمَا نُفِيَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ، وَمِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ، فَإِذَا كَانَ الْأَوَّلُ إثْبَاتًا فَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ نَفْيٌ؛ ثُمَّ إنْ اسْتَثْنَى مِنْ النَّفْيِ فَإِنَّمَا يُسْتَثْنَى بِهِ إثْبَاتٌ، فَيَصِيرُ هَذَا الْمُسْتَثْنَى الْآخَرُ مَنْفِيًّا بِالِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ مُثْبَتًا بِالثَّانِي، وَهَذَا تَنَاقُضٌ، وَبَسْطُهُ وَإِيضَاحُهُ فِي الْأُصُولِ، فَأَبَانَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} [الحجر: 58] إلَّا آلَ لُوطٍ فَلَيْسُوا مِنْهُمْ، إلَّا امْرَأَتَهُ فَإِنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْ آلِهِ، فَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا مِنْ الْفِقْهِ قَوْلُ الْمُقِرِّ: عِنْدِي عَشَرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً إلَّا وَاحِدًا، فَثَبَتَ الْإِقْرَارُ بِثَمَانِيَةٍ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ قَوْلُ الْمُطَلِّقِ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا اثْنَتَيْنِ إلَّا وَاحِدَةً، فَتَكُونُ اثْنَتَيْنِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فَأَغْنَى عَنْ الْإِطْنَابِ فِيهِ. [الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ] َ} [الحجر: 71]. لَمَّا تَدَاعَى أَهْلُ الْمَدِينَةِ إلَى لُوطٍ حِينَ رَأَوْا وَسَمِعُوا بِجَمَالِ أَضْيَافِهِ، وَحُسْنِ شَارَتِهِمْ؛ قَصْدًا لِلْفَاحِشَةِ فِيهِمْ، تَحَرَّمَ لَهُمْ لُوطٌ بِالضِّيَافَةِ، وَسَأَلَهُمْ تَرْكَ الْفَضِيحَةِ، وَإِتْيَانَ الْمُرَاعَاةِ، فَلَمَّا قَالُوا لَهُ: {أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} [الحجر: 70] قَالَ لَهُمْ لُوطٌ: إنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ فَهَؤُلَاءِ بَنَاتِي إنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ. وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - أَنْ يَعْرِضُوا بَنَاتِهِمْ عَلَى الْفَاحِشَةِ فِدَاءً لِفَاحِشَةٍ أُخْرَى؛ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ هَؤُلَاءِ بَنَاتِ أُمَّتِي؛ لِأَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ أَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُ أُمَّتِهِ، وَبَنَاتُهُمْ بَنَاتُهُ، فَأَشَارَ عَلَيْهِمْ بِالتَّزْوِيجِ الشَّرْعِيِّ، وَحَمَلَهُمْ عَلَى النِّكَاحِ الْجَائِزِ كَسْرًا لِسَوْرَةِ الْغُلْمَةِ، وَإِطْفَاءً لِنَارِ الشَّهْوَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 165] {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء: 166] وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

الآية الخامسة قوله تعالى لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون

[الْآيَة الْخَامِسَة قَوْله تَعَالَى لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ] َ} [الحجر: 72]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ بِأَجْمَعِهِمْ: أَقْسَمَ اللَّهُ هُنَا بِحَيَاةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَشْرِيفًا لَهُ، أَنَّ قَوْمَهُ مِنْ قُرَيْشٍ فِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ وَفِي حَيْرَتِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ. قَالُوا: رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: " مَا خَلَقَ اللَّهُ وَمَا ذَرَأَ وَلَا بَرَأَ نَفْسًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَمَا سَمِعْت اللَّهَ أَقْسَمَ بِحَيَاةِ أَحَدٍ غَيْرِهِ ". وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ، وَلَا أَدْرِي مَا الَّذِي أَخْرَجَهُمْ عَنْ ذِكْرِ لُوطٍ إلَى ذِكْرِ مُحَمَّدٍ، وَمَا الَّذِي يَمْنَعُ أَنْ يُقْسِمَ اللَّهُ بِحَيَاةِ لُوطٍ، وَيَبْلُغَ بِهِ مِنْ التَّشْرِيفِ مَا شَاءَ؛ فَكُلُّ مَا يُعْطِي اللَّهُ لِلُوطٍ مِنْ فَضْلٍ وَيُؤْتِيه مِنْ شَرَفٍ فَلِمُحَمَّدٍ ضِعْفَاهُ؛ لِأَنَّهُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ. أَوَلَا تَرَاهُ قَدْ أَعْطَى لِإِبْرَاهِيمَ الْخُلَّةَ، وَلِمُوسَى التَّكْلِيمَ، وَأَعْطَى ذَلِكَ لِمُحَمَّدٍ، فَإِذَا أَقْسَمَ اللَّهُ بِحَيَاةِ لُوطٍ فَحَيَاةُ مُحَمَّدٍ أَرْفَعُ، وَلَا يُخْرَجُ مِنْ كَلَامٍ إلَى كَلَامٍ آخَرَ غَيْرِهِ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى لَعَمْرُك إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ} [الحجر: 72] أَرَادَ بِهِ الْحَيَاةَ وَالْعَيْشَ، يُقَالُ: عُمْرٌ وَعَمْرٌ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ، وَقَالُوا: إنَّ أَصْلَهَا الضَّمُّ، وَلَكِنَّهَا فُتِحَتْ فِي الْقَسَمِ خَاصَّةً لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ؛ وَالِاسْتِعْمَالُ إنَّمَا هُوَ فِي غَيْرِ الْقَسَمِ، فَأَمَّا الْقَسَمُ فَهُوَ بَعْضُ الِاسْتِعْمَالِ؛ فَلِذَلِكَ صَارَا لُغَتَيْنِ. فَتَدَبَّرُوا هَذَا. [مَسْأَلَة مَنْ أَقْسَمَ بِالنَّبِيِّ هَلْ تَلْزَمهُ الْكَفَّارَةُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: مَنْ أَقْسَمَ بِالنَّبِيِّ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ أَقْسَمَ بِمَا لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إلَّا بِهِ، فَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، كَمَا لَوْ أَقْسَمَ بِاَللَّهِ. وَقَدَّمْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقْسِمُ بِمَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَيْسَ لِخَلْقِهِ أَنْ يُقْسِمُوا إلَّا بِهِ

الآية السادسة قوله تعالى إن في ذلك لآيات للمتوسمين

لِقَوْلِهِ: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُت». فَإِنْ أَقْسَمَ بِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ آثِمٌ، أَوْ قَدْ أَتَى مَكْرُوهًا عَلَى قَدْرِ دَرَجَاتِ الْقَسَمِ وَحَالِهِ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: إنَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالْمُؤَنَّثِينَ مِنْهُمْ يُقْسِمُونَ بِحَيَاتِك وَبِعَيْشِك، وَلَيْسَ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الذِّكْرِ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ أَقْسَمَ بِهِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَذَلِكَ بَيَانٌ لِشَرَفِ الْمَنْزِلَةِ وَشَرَفِ الْمَكَانَةِ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ سِوَاهُ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَبِهِ أَقُولُ؛ لَكِنَّ الشَّرْعَ قَدْ قَطَعَهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَرَدَّ الْقَسَمَ إلَيْهِ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي [الْأُصُولِ وَفِي] مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [الْآيَة السَّادِسَة قَوْله تَعَالَى إنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ] َ} [الحجر: 75]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي التَّوَسُّمِ: وَهُوَ تَفَعُّلٌ مِنْ الْوَسْمِ، وَهُوَ الْعَلَامَةُ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مَطْلُوبٍ غَيْرِهَا. قَالَ الشَّاعِرُ يَمْدَحُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنِّي تَوَسَّمْت فِيك الْخَيْرَ نَافِلَةً ... وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي صَادِقُ الْبَصَرِ وَفِي الْفِرَاسَةِ أَيْضًا، يُقَالُ: تَفَرَّسْت وَتَوَسَّمْت. وَحَقِيقَتُهَا الِاسْتِدْلَال بِالْخَلْقِ عَلَى الْخُلُقِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِجُودَةِ الْقَرِيحَةِ، وَحِدَّةِ الْخَاطِرِ، وَصَفَاءِ الْفِكْرِ. يُحْكَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَمُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ كَانَا جَالِسِينَ بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ، وَدَخَلَ رَجُلٌ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَرَاهُ نَجَّارًا، وَقَالَ الْآخَرُ: بَلْ حَدَّادًا، فَتَبَادَرَ مَنْ حَضَرَ إلَى الرَّجُلِ فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ: كُنْت نَجَّارًا، وَأَنَا الْآنَ حَدَّادٌ، وَهَذِهِ زِيَادَةٌ عَلَى الْعَادَةِ، فَزَعَمَتْ الصُّوفِيَّةُ أَنَّهَا كَرَامَةٌ.

مسألة الحكم بالفراسة في الأحكام

وَقَالَ غَيْرُهُمْ: بَلْ هِيَ اسْتِدْلَالٌ بِالْعَلَامَةِ، وَمِنْ الْعَلَامَاتِ ظَاهِرٌ يَبْدُو لِكُلِّ أَحَدٍ، بِأَوَّلِ نَظَرٍ، وَمِنْهَا مَا هُوَ خَفِيٌّ فَلَا يَبْدُو لِكُلِّ أَحَدٍ، وَلَا يُدْرَكُ بِبَادِئِ النَّظَرِ. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ» وَهَذَا مُبَيَّنٌ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ. [مَسْأَلَة الْحُكْمُ بِالْفِرَاسَةِ فِي الْأَحْكَامِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّوَهُّمَ وَالتَّفَرُّسَ مِنْ مَدَارِكِ الْمَعَانِي وَمَعَالِمِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ، وَلَا يُؤْخَذُ بِهِ مَوْسُومٌ وَلَا مُتَفَرَّسٌ. وَقَدْ كَانَ قَاضِي الْقُضَاةِ الشَّامِيُّ الْمَالِكِيُّ بِبَغْدَادَ أَيَّامَ كَوْنِي بِالشَّامِ يَحْكُمُ بِالْفِرَاسَةِ فِي الْأَحْكَامِ جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَيَّامَ كَانَ قَاضِيهَا، وَلِشَيْخِنَا فَخْرِ الْإِسْلَامِ أَبِي بَكْرٍ الشَّاشِيِّ جُزْءٌ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ، كَتَبَهُ لِي بِخَطِّهِ، وَأَعْطَانِيهِ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ؛ فَإِنَّ مَدَارَك الْأَحْكَامِ مَعْلُومَةٌ شَرْعًا، مُدْرَكَةٌ قَطْعًا، وَلَيْسَتْ الْفِرَاسَةُ مِنْهَا. [الْآيَة السَّابِعَة قَوْله تَعَالَى وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ] َ} [الحجر: 80]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْحِجْرِ وَتَفْسِيرِهِ: وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا دِيَارُ ثَمُودَ.

مسألة الشرب من بئر ثمود

الثَّانِي: أَنَّهُ وَادٍ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ كُلُّ بِنَاءٍ بَنَيْته وَحَظَرْت عَلَيْهِ، وَمِنْهُ: {وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 53] وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ هَهُنَا دِيَارُ ثَمُودَ. [مَسْأَلَة الشُّرْب مِنْ بِئْر ثَمُود] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا نَزَلَ الْحِجْرَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَمَرَهُمْ أَلَّا يَشْرَبُوا مِنْ بِئْرِهَا، وَلَا يَسْتَقُوا مِنْهَا، فَقَالُوا: قَدْ عَجَنَّا وَاسْتَقَيْنَا. فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَطْرَحُوا ذَلِكَ الْعَجِينَ وَيُهْرِيقُوا الْمَاءَ.» وَعَنْهُ فِيهِ أَيْضًا «أَنَّ النَّاسَ نَزَلُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْضَ ثَمُودَ الْحِجْرَ، وَاسْتَقَوْا مِنْ بِئْرِهَا، وَاعْتَجَنُوا بِهِ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُهَرِيقُوا مَا اسْتَقَوْا مِنْ بِئْرِهَا، وَأَنْ يَعْلِفُوا الْإِبِلَ الْعَجِينَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنْ الْبِئْرِ الَّتِي كَانَتْ تَرِدُهَا النَّاقَةُ». الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رَوَى مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَصْحَابِ الْحِجْرِ: لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ، إلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ حَذَرًا أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ». وَفِي حَدِيثِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: «لَمَّا نَزَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحِجْرَ قَالَ: لَا تَسْأَلُوا الْآيَاتِ، فَقَدْ سَأَلَهَا قَوْمُ صَالِحٍ فَكَانَتْ تَرِدُ مِنْ هَذَا

مسألة ما لا يجوز استعماله من الطعام والشراب يجوز أن يعلفه الإبل والبهائم

الْفَجِّ، وَتَصْدُرُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ، وَكَانَتْ تَشْرَبُ مَاءَهُمْ يَوْمًا، وَيَشْرَبُونَ لَبَنَهَا يَوْمًا، فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَعَقَرُوهَا، فَأَخَذَتْهُمْ صَيْحَةٌ أَخْمَدَتْ مَنْ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ مِنْهُمْ، إلَّا رَجُلًا وَاحِدًا مِنْهُمْ كَانَ فِي حَرَمِ اللَّهِ فَقِيلَ: مَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَبُو رِغَالٍ. فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ أَصَابَهُ مَا أَصَابَ قَوْمَهُ». [مَسْأَلَة مَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ يَجُوزُ أَنْ يُعْلَفَهُ الْإِبِل وَالْبَهَائِم] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: «أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَرْقِ مَاءِ دِيَارِ ثَمُودَ، وَإِلْقَاءِ مَا عُجِنَ وَحِيسَ بِهِ». لِأَجْلِ أَنَّهُ مَاءُ سُخْطٍ، فَلَمْ يَجُزْ الِانْتِفَاعُ بِهِ، فِرَارًا مِنْ سَخَطِ اللَّهِ. وَقَالَ: «اعْلِفُوهُ الْإِبِلَ»؛ فَكَانَ فِي هَذَا دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ يَجُوزُ أَنْ يَعْلِفَهُ الْإِبِلُ وَالْبَهَائِمُ؛ إذْ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهَا، وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ مَالِكٌ فِي الْعَسَلِ النَّجِسِ إنَّهُ تُعْلَفُهُ النَّحْلُ. وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا دَارُ سُخْطٍ وَبُقْعَةُ غَضَبٍ؛ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَدْخُلُوهَا إلَّا بَاكِينَ». وَرُوِيَ «أَنَّهُ تَقَنَّعَ بِرِدَائِهِ، وَأَوْضَعَ رَاحِلَتَهُ حَتَّى خَرَجَ عَنْهَا». [مَسْأَلَة النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فَصَارَتْ هَذِهِ بُقْعَةً مُسْتَثْنَاةً مِنْ قَوْلِهِ: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا، وَجُعِلَ تُرَابُهَا طَهُورًا»؛ فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهَا، وَلَا الْوُضُوءُ مِنْ مَائِهَا، وَلَا الصَّلَاةُ فِيهَا. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إلَّا الْمَقْبَرَةُ وَالْحَمَّامُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ. وَهُوَ حَدِيثٌ مُضْطَرِبٌ.

وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ: الْمَزْبَلَةُ، وَالْمَجْزَرَةُ، وَالْمَقْبَرَةُ، وَالْحَمَّامُ، وَالطَّرِيقُ، وَظَهْرُ الْكَعْبَةِ، وَأَعْطَانُ الْإِبِلِ». وَذَكَرَ عُلَمَاؤُنَا مِنْهَا جُمْلَةً، وَجِمَاعُهَا هَذِهِ الثَّمَانِيَةُ. التَّاسِعُ: الْبُقْعَةُ النَّجِسَةُ. الْعَاشِرُ: الْبُقْعَةُ الْمَغْصُوبَةُ. الْحَادِيَ عَشَرَ: أَمَامَك جِدَارٌ عَلَيْهِ نَجَسٌ. الثَّانِيَ عَشَرَ: الْكَنِيسَةُ. الثَّالِثَ عَشَرَ: الْبِيعَةُ. الرَّابِعَ عَشَرَ: بَيْتٌ فِيهِ تَمَاثِيلُ. الْخَامِسَ عَشَرَ: الْأَرْضُ الْمُعْوَجَّةُ. السَّادِسَ عَشَرَ: مَوْضِعٌ تَسْتَقْبِلُ فِيهِ نَائِمًا أَوْ وَجْهَ رَجُلٍ. السَّابِعَ عَشَرَ: الْحِيطَانُ. وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ، وَمِنْ هَذَا مَا مُنِعَ لِحَقِّ الْغَيْرِ، وَمِنْهُ مَا مُنِعَ لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ الْمُحَقَّقَةِ أَوْ لِغَلَبَتِهَا، وَمِنْهُ مَا مُنِعَ مِنْهُ عِبَادَةً. فَمَا مُنِعَ مِنْهُ لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ إنْ فُرِشَ فِيهِ ثَوْبٌ طَاهِرٌ كَالْمَقْبَرَةِ وَالْحَمَّامِ فِيهَا أَوْ إلَيْهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَذَكَرَ أَبُو مُصْعَبٍ عَنْهُ الْكَرَاهِيَةَ، وَفَرَّقَ عُلَمَاؤُنَا بَيْنَ الْمَقْبَرَةِ الْجَدِيدَةِ وَالْقَدِيمَةِ، لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ إلَّا أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهَا مَاءٌ كَثِيرٌ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمَقْبَرَةِ يَتَأَكَّدُ إذَا كَانَتْ لِلْمُشْرِكِينَ لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ وَأَنَّهَا دَارُ عَذَابٍ كَالْحِجْرِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا يُصَلَّى إلَيْهَا».

الآية الثامنة قوله تعالى وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق

وَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» يُحَذِّرُ مِمَّا صَنَعُوا. وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمَجْمُوعَةِ: لَا يُصَلَّى فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ، وَإِنْ فَرَشَ ثَوْبًا، كَأَنَّهُ رَأَى لَهَا عِلَّتَيْنِ: الِاسْتِقْذَارَ بِهَا وَقِفَارَهَا، فَتُفْسِدُ عَلَى الْمُصَلِّي صَلَاتَهُ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَلَا بَأْسَ بِهِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُصَلَّى عَلَى بِسَاطٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ. وَكَرِهَ ابْنُ الْقَاسِمِ الصَّلَاةَ إلَى قِبْلَةٍ فِيهَا تَمَاثِيلُ، وَفِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، فَإِنْ فَعَلَ أَجْزَأَهُ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ لَا تُجْزِئُ. وَذَلِكَ عِنْدِي بِخِلَافِ الْأَرْضِ؛ فَإِنَّ الدَّارَ لَا تُدْخَلُ إلَّا بِإِذْنٍ، وَالْأَرْضُ وَإِنْ كَانَتْ مِلْكًا فَإِنَّ الْمَسْجِدِيَّةَ فِيهَا قَائِمَةٌ لَا يُبْطِلُهَا الْمِلْكُ. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ: «لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ». [الْآيَة الثَّامِنَة قَوْله تَعَالَى وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلَّا بِالْحَقِّ] قَوْله تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85]. قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ أَمَرَ أَنْ يَصْفَحَ عَنْهُمْ صَفْحًا جَمِيلًا، وَيُعْرِضَ عَنْهُمْ إعْرَاضًا حَسَنًا، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِالْقِتَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي.

الآية التاسعة قوله تعالى ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم

[الْآيَة التَّاسِعَة قَوْله تَعَالَى وَلَقَدْ آتَيْنَاك سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ] َ} [الحجر: 87]. فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ السَّبْعِ: وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ السَّبْعَ قِيلَ: هِيَ [أَوَّلُ] السُّوَرِ الطِّوَالِ: الْبَقَرَةُ، وَآلُ عِمْرَانَ، وَالنِّسَاءُ، وَالْمَائِدَةُ، وَالْأَنْعَامُ، وَالْأَعْرَافُ، وَبَرَاءَةُ تَتِمَّةُ الْأَنْفَالِ. وَقِيلَ: السَّابِعَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا يُونُسُ؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمْ. الثَّانِي: أَنَّهَا الْحَمْدُ، سَبْعُ آيَاتٍ؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ. الرَّابِعُ: أَنَّهَا الْأَمْرُ، وَالنَّهْيُ، وَالْبُشْرَى، وَالنِّذَارَةُ، وَضَرْبُ الْأَمْثَالِ، وَإِعْدَادُ النِّعَمِ، وَنَبَأُ الْأُمَمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْمَثَانِي: وَفِيهَا [أَرْبَعَةُ] أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: هِيَ السَّبْعُ الطِّوَالُ بِنَفْسِهَا؛ لِأَنَّهَا تُثَنَّى فِيهَا الْمَعَانِي. الثَّانِي: أَنَّهَا آيَاتُ الْفَاتِحَةِ؛ لِأَنَّهَا تُثَنَّى فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا آيَاتُ الْقُرْآنِ، كَمَا قَالَ: {مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر: 23] الرَّابِعُ: أَنَّهَا الْقُرْآنُ

مسألة معنى قوله تعالى لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ {وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87]: فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: هُوَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ. الثَّانِي: هُوَ الْحَوَامِيمُ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا الْفَاتِحَةُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي تَحْقِيقِ هَذَا الْمَسْطُورِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السَّبْعُ مِنْ السُّوَرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْآيَاتِ؛ لَكِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ كَشَفَ قِنَاعَ الْإِشْكَالِ، وَأَوْضَحَ شُعَاعَ الْبَيَانِ، فَفِي الصَّحِيحِ عِنْدَ كُلِّ فَرِيقٍ وَمِنْ كُلِّ طَرِيقٍ أَنَّهَا أُمُّ الْكِتَابِ، وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: «هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيت». وَبَعْدَ هَذَا فَالسَّبْعُ الْمَثَانِي كَثِيرٌ، وَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ، وَالنَّصُّ قَاطِعٌ بِالْمُرَادِ، قَاطِعٌ بِمَنْ أَرَادَ التَّكْلِيفَ وَالْعِنَادَ، وَبَعْدَ تَفْسِيرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا تَفْسِيرَ. وَلَيْسَ لِلْمُتَعَرِّضِ إلَى غَيْرِهِ إلَّا النَّكِيرُ. وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ لَوْلَا تَفْسِيرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أُحَرِّرَ فِي ذَلِكَ مَقَالًا وَجِيزًا، وَأُسْبِكَ مِنْ سَنَامِ الْمَعَارِفِ إبْرِيزًا، إلَّا أَنَّ الْجَوْهَرَ الْأَغْلَى مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى وَأَعْلَى؛ وَقَدْ بَيَّنَّا تَفْسِيرَهَا فِي أَوَّلِ سُورَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، إذْ هِيَ الْأُولَى مِنْهُ، فَلْيُنْظَرْ هُنَاكَ مِنْ هَهُنَا إنْ شَاءَ اللَّهُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88]. الْمَعْنَى: قَدْ أَعْطَيْنَاك الْآخِرَةَ، فَلَا تَنْظُرْ إلَى الدُّنْيَا، وَقَدْ أَعْطَيْنَاك الْعِلْمَ فَلَا تَتَشَاغَلْ بِالشَّهَوَاتِ، وَقَدْ مَنَحْنَاك لَذَّةَ الْقَلْبِ فَلَا تَنْظُرْ إلَى لَذَّةِ الْبَدَنِ، وَقَدْ أَعْطَيْنَاك الْقُرْآنَ فَتَغَنَّ بِهِ، فَلَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ أَيْ لَيْسَ مِنَّا مَنْ رَأَى بِمَا عِنْدَهُ مِنْ الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَيْسَ بِغَنِيٍّ حَتَّى يَطْمَحَ بِبَصَرِهِ إلَى زَخَارِفِ الدُّنْيَا، وَعِنْدَهُ مَعَارِفُ الْمَوْلَى، حَيِيَ بِالْبَاقِي، فَغَنِيَ عَنْ الْفَانِي.

مسألة هل الفاتحة هي القرآن العظيم

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «حُبِّبَ إلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ ثَلَاثٌ: الطِّيبُ، وَالنِّسَاءُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ». فَكَانَ يَتَشَاغَلُ بِالنِّسَاءِ جِبِلَّةَ الْآدَمِيَّةِ وَتَشَوُّفَ الْخِلْقَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَيُحَافِظُ عَلَى الطِّيبِ مَنْفَعَةً خَاصِّيَّةً وَعَامِّيَّةً، وَلَا يَقَرُّ لَهُ عَيْنٌ إلَّا فِي الصَّلَاةِ لَدَى مُنَاجَاةِ الْمَوْلَى، وَيَرَى أَنَّ مُنَاجَاةَ الْمَوْلَى أَجْدَرُ مِنْ ذَلِكَ وَأَوْلَى. وَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَ ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّهْبَانِيَّةُ وَالْإِقْبَالُ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا كَانَ فِي دِينِ عِيسَى؛ وَإِنَّمَا شَرَعَ اللَّهُ لَهُ وَلَنَا بِحِكْمَتِهِ حَنِيفِيَّةً سَمْحَةً خَالِصَةً عَنْ الْحَرَجِ خَفِيفَةً عَنْ الْإِصْرِ، نَأْخُذُ مِنْ الْآدَمِيَّةِ وَشَهَوَاتِهَا بِحَظٍّ وَافِرٍ، وَنَرْجِعُ إلَى اللَّهِ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، إنْ شُغِلَ بَدَنُهُ بِاللَّذَّاتِ عَكَفَ قَلْبُهُ عَلَى الْمَعَارِفِ، وَرَأَى الْيَوْمَ عُلَمَاءُ الْقُرَّاءِ وَالْمُخْلِصُونَ مِنْ الْفُضَلَاءِ أَنَّ الِانْكِفَافَ عَنْ اللَّذَّاتِ، وَالْخُلُوصَ لِرَبِّ السَّمَوَاتِ الْيَوْمَ أَوْلَى، لِمَا غَلَبَ عَلَى الدُّنْيَا مِنْ الْحَرَامِ، وَاضْطُرَّ إلَيْهِ الْعَبْدُ فِي الْمَعَاشِ مِنْ مُخَالَطَةِ مَنْ لَا تَجُوزُ مُخَالَطَتُهُ، وَمُصَانَعَةُ مَنْ تَحْرُمُ مُصَانَعَتُهُ، وَحِمَايَةُ الدُّنْيَا بِالدِّينِ، وَصِيَانَةُ الْمَالِ بِتَبَدُّلِ الطَّاعَةِ بَدَلًا عَنْهُ؛ فَكَانَتْ الْعُزْلَةُ أَفْضَلُ، وَالْفِرَارُ عَنْ النَّاسِ أَصْوَبُ لِلْعَبْدِ وَأَعْدَلُ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بِهِ الْوَعْدُ الَّذِي لَا خُلْفَ لَهُ مِنْ الصَّادِقِ؛ «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَكُونُ خَيْرُ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمًا يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ، وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ». فَإِنْ قِيلَ: فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ وَهِيَ: [مَسْأَلَة هَلْ الْفَاتِحَةُ هِيَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْفَاتِحَةِ: «هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ»، فَتَكُونُ الْفَاتِحَةُ هِيَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ. قُلْنَا: الْمُرَادُ بِالْمَثَانِي الْقُرْآنُ كُلُّهُ، فَالْمَعْنَى: وَلَقَدْ آتَيْنَاك سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي مِمَّا ثَنَّى بَعْضُ آيِهِ بَعْضًا، وَيَكُونُ الْمَثَانِي جَمْعُ مُثَنَّاةٍ، وَتَكُونُ آيُ الْقُرْآنِ مَوْصُوفَةً بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ بَعْضَهَا تَلَا بَعْضًا بِفُصُولٍ بَيْنَهَا، فَيُعْرَفُ انْقِضَاءُ الْآيَةِ وَابْتِدَاءُ الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى

الآية العاشرة قوله تعالى فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين

{كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 23]. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ {مَثَانِيَ} [الزمر: 23]؛ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ كُرِّرَتْ فِيهِ وَالْقَصَصَ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّهَا سُمِّيَتْ مَثَانِيَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ اسْتَثْنَاهَا لِمُحَمَّدٍ دُونَ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَلِأُمَّتِهِ دُونَ سَائِرِ الْأُمَمِ. [الْآيَة الْعَاشِرَة قَوْله تَعَالَى فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ] الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 98] فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: التَّسْبِيحُ: هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ صِفَاتِ الْجَلَالِ وَالتَّعْظِيمِ، بِالْقَلْبِ اعْتِقَادًا، وَبِاللِّسَانِ قَوْلًا. وَالْمُرَادُ بِهِ هَهُنَا الصَّلَاةُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَعْلَمُ ضِيقَ صَدْرِك بِمَا تَسْمَعُهُ مِنْ تَكْذِيبِك وَرَدِّ قَوْلِك، وَيَنَالُهُ أَصْحَابُك مِنْ إذَايَةِ أَعْدَائِك؛ فَافْزَعْ إلَى الصَّلَاةِ، فَهِيَ غَايَةُ التَّسْبِيحِ وَنِهَايَةُ التَّقْدِيسِ، «وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ فَزِعَ إلَى الصَّلَاةِ»، وَذَلِكَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: {وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 98]، أَيْ مِنْ الْمُصَلِّينَ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَإِنَّ دِعَامَةَ الْقُرْبَةِ فِي الصَّلَاةِ حَالَ السُّجُودِ. وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هَهُنَا الْأَمْرُ بِالسُّجُودِ نَفْسِهِ، فَيَرَى هَذَا الْمَوْضِعَ مَحَلَّ سُجُودٍ فِي الْقُرْآنِ. وَقَدْ شَاهَدْت الْإِمَامَ بِمِحْرَابِ زَكَرِيَّا مِنْ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ طُهْره اللَّهُ يَسْجُدُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ لَهُ فِي تَرَاوِيحَ رَمَضَانَ، وَسَجَدْت مَعَهُ فِيهَا، وَلَمْ يَرَهُ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ.

مسألة الرجل إذا قال لامرأته أنت طالق أبدا وقال نويت يوما أو شهرا

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]: أَمَرَهُ بِعِبَادَتِهِ إذَا قَصَّرَ عِبَادُهُ فِي خِدْمَتِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ طِبُّ عِلَّتِهِ، وَهِيَ كَمَا قَدَّمْنَا أَشْرَفُ الْخِصَالِ، وَالتَّسَمِّي بِهَا أَشْرَفُ الْخُطَطِ. قَالَ شُيُوخُ الْمَعَانِي: أَلَا تَرَيْ كَيْفَ سَمَّى اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ عِنْدَ أَفْضَلِ مَنَازِلِهِ، وَهِيَ الْإِسْرَاءُ، فَقَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] وَلَمْ يَقُلْ نَبِيِّهِ وَلَا رَسُولِهِ، وَلَقَدْ أَحْسَنَ الشَّاعِرُ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ اللَّفْظِ حَيْثُ يَقُولُ: يَا قَوْمِ قَلْبِي عِنْدَ زَهْرَاءَ ... يَعْرِفُهُ السَّامِعُ وَالرَّائِي لَا تَدْعُنِي إلَّا بِيَا عَبْدَهَا ... فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْيَقِينُ: الْمَوْتُ، فَأَمَرَهُ بِاسْتِمْرَارِ الْعِبَادَةِ أَبَدًا، وَذَلِكَ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، وَكَانَ هَذَا أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ أَبَدًا، لِاحْتِمَالِ لَفْظَةِ الْأَبَدِ لِلَّحْظَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلِجَمِيعِ الْأَبَدِ، كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْت حَيًّا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْيَقِينَ الْمَوْتَ «أَنَّ أُمَّ الْعَلَاءِ الْأَنْصَارِيَّةَ وَكَانَتْ بَايَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَتْ أَنَّهُمْ اقْتَسَمُوا الْمُهَاجِرِينَ قُرْعَةً، فَصَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ قَالَتْ: فَأَنْزَلْنَاهُ مَعَ أَبْنَائِنَا، فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْت: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْك أَبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتِي عَلَيْك، لَقَدْ أَكْرَمَك اللَّهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَمَا يُدْرِيك أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ؟ قُلْت: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَهْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ، وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ». الْحَدِيثَ. [مَسْأَلَة الرَّجُلَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَبَدًا وَقَالَ نَوَيْت يَوْمًا أَوْ شَهْرًا] وَيَتَرَكَّبُ عَلَى هَذَا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَبَدًا، وَقَالَ: نَوَيْت يَوْمًا أَوْ شَهْرًا كَانَتْ لَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ. وَلَوْ قَالَ: طَلَّقْتهَا حَيَاتَهَا لَمْ يُرَاجِعْهَا، وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

سورة النحل فيها إحدى وعشرون آية

[سُورَةُ النَّحْلِ فِيهَا إحْدَى وَعِشْرُونَ آيَةً] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ] سُورَةُ النَّحْلِ وَتُسَمَّى سُورَةُ النِّعَمِ فِيهَا إحْدَى وَعِشْرُونَ آيَةً الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: " الْأَنْعَامَ ": وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} [النحل: 5]: يَعْنِي مِنْ الْبَرْدِ بِمَا فِيهَا مِنْ الْأَصْوَافِ وَالْأَوْبَارِ وَالْأَشْعَارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} [النحل: 81] فَامْتَنَّ هَهُنَا بِالدِّفْءِ، وَامْتَنَّ هُنَاكَ بِالظِّلِّ، إنْ كَانَ لَاصِقًا بِالْبَدَنِ ثَوْبًا أَوْ كَانَ مُنْفَصِلًا بِنَاءً. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: دِفْؤُهَا نَسْلُهَا؛ فَرَبُّك أَعْلَمُ بِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: " مَنَافِعُ ": يَعْنِي مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْبَانِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ سِوَاهَا مِنْ الْمَنَافِعِ، فَقَالَ: وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ. وَقَدْ ذَكَرَ وَجْهَ اخْتِصَاصِهِ بِاللَّبَنِ، وَيَأْتِي ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى لِبَاسِ الصُّوفِ، فَهُوَ أَوْلَى ذَلِكَ وَأَوْلَاهُ، فَإِنَّهُ شِعَارُ الْمُتَّقِينَ

الآية الثانية قوله تعالى ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون

وَلِبَاسُ الصَّالِحِينَ، وَشَارَةُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَاخْتِيَارُ الزُّهَّادِ وَالْعَارِفِينَ، وَهُوَ يُلْبَسُ لِينًا وَخَشِنًا، وَجَيِّدًا وَمُقَارِبًا وَرَدِيئًا، وَإِلَيْهِ نَسَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ النَّاسِ الصُّوفِيَّ؛ لِأَنَّهُ لِبَاسُهُمْ فِي الْغَالِبِ، فَالْيَاءُ لِلنَّسَبِ وَالْهَاءُ لِلتَّأْنِيثِ، وَقَدْ أَنْشَدَنِي بَعْضُ أَشْيَاخِهِمْ بِالْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ: تَشَاجَرَ النَّاسُ فِي الصُّوفِيِّ وَاخْتَلَفُوا ... فِيهِ وَظَنُّوهُ مُشْتَقًّا مِنْ الصُّوفِ وَلَسْت أَنْحَلُ هَذَا الِاسْمَ غَيْرَ فَتًى ... صَافَى فَصُوفِيَ حَتَّى سُمِّيَ الصُّوفِيّ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5]: فَأَبَاحَ لَنَا أَكْلَهَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ بِشُرُوطِهِ وَأَوْصَافِهِ، وَكَانَ وَجْهُ الِامْتِنَانِ بِهَا أُنْسُهَا، كَمَا امْتَنَّ بِالْوَحْشِيَّةِ عَلَى وَجْهِ الِاصْطِيَادِ، فَالْأَوَّلُ نِعْمَةٌ هَنِيَّةٌ، وَالصَّيْدُ مُتْعَةٌ شَهِيَّةٌ، وَنَصْبَةٌ نَصِيَّةٌ، وَهُوَ الْأَغْلَبُ فِيهَا. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ] َ} [النحل: 6]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} [النحل: 6]: كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] وَالْجَمَالُ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّهُ يَكُونُ فِي الصُّورَةِ وَتَرْكِيبِ الْخِلْقَةِ، وَيَكُونُ فِي الْأَخْلَاقِ الْبَاطِنَةِ، وَيَكُونُ فِي الْأَفْعَالِ. فَأَمَّا جَمَالُ الْخِلْقَةِ فَهُوَ أَمْرٌ يُدْرِكُهُ الْبَصَرُ، فَيُلْقِيهِ إلَى الْقَلْبِ مُتَلَائِمًا، فَتَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْسُ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِوَجْهِ ذَلِكَ وَلَا بِسَبَبِهِ لِأَحَدٍ مِنْ الْبَشَرِ. وَأَمَّا جَمَالُ الْأَخْلَاقِ فَبِكَوْنِهَا عَلَى الصِّفَاتِ الْمَحْمُودَةِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْعَدْلِ وَالْعِفَّةِ، وَكَظْمِ الْغَيْظِ، وَإِرَادَةِ الْخَيْرِ لِكُلِّ وَاحِدٍ. وَأَمَّا جَمَالُ الْأَفْعَالِ فَهُوَ وُجُودُهَا مُلَائِمَةً لِصَالِحِ الْخَلْقِ، وَقَاضِيَةً بِجَلْبِ الْمَنَافِعِ إلَيْهِمْ، وَصَرْفِ الشَّرِّ عَنْهُمْ.

وَجَمَالُ الْأَنْعَامِ وَالدَّوَابِّ مِنْ جَمَالِ الْخِلْقَةِ مَحْسُوبٌ، وَهُوَ مَرْئِيٌّ بِالْأَبْصَارِ، مُوَافِقٌ لِلْبَصَائِرِ، وَمِنْ جَمَالِهَا كَثْرَتُهَا. فَإِذَا وَرَدَتْ الْإِبِلُ عَلَى الذُّرَى سَامِيَةَ الذُّرَى هَجْمَاتٍ هِجَانًا تَوَافَرَ حُسْنُهَا، وَعَظُمَ شَأْنُهَا، وَتَعَلَّقَتْ الْقُلُوبُ بِهَا. إذَا رَأَيْت الْبَقَرَ نِعَاجًا تَرِدُ أَفْوَاجًا أَفْوَاجًا، تَقَرُّ بِقَرِيرِهَا، مَعَهَا صُلُّغُهَا وَأَتَابِعُهَا، فَقَدْ انْتَظَمَ جَمَالُهَا وَانْتِفَاعُهَا. وَإِذَا رَأَيْت الْغَنَمَ فِيهَا السَّالِغُ وَالسَّخْلَةُ، وَالْغَرِيضُ وَالسَّدِيسُ صُوفُهَا أَهْدَلُ، وَضَرْعُهَا مُنْجَدِلٌ، وَظَهْرُهَا مُنْسَجِفٌ، إذَا صَعِدَتْ ثَنِيَّةً مَرَعَتْ، وَإِذَا أَسْهَلَتْ عَنْ رَبْوَةٍ طَمَرَتْ، تَقُومُ بِالْكِسَاءِ، وَتَقَرُّ عَلَى الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ، وَتَمْلَأُ الْحِوَاءَ سَمْنًا وَأَقِطًا، بَلْهَ الْبَيْتِ، حَتَّى يَسْمَعَ الْحَدِيثَ عَنْهَا كَيْتَ وَكَيْتَ، فَقَدْ قَطَعْت عَنْك لَعَلَّ وَلَيْتَ. وَإِذَا رَأَيْت الْخَيْلَ نَزَائِعَ يَعَابِيبَ، كَأَنَّهَا فِي الْبَيْدَاءِ أَهَاضِيبَ، وَفِي الْهَيْجَاءِ يَعَاسِيبَ، رُءُوسُهَا عَوَالٍ، وَأَثْمَانُهَا غَوَالٍ، لَيِّنَةَ الشَّكِيرِ، وَشَدِيدَةَ الشَّخِيرِ، تَصُومُ وَإِنْ رَعَتْ، وَتَفِيضُ إذَا سَعَتْ، فَقَدْ مَتَّعَتْ الْأَحْوَالَ وَأَمْتَعَتْ. وَإِذَا رَأَيْت الْبِغَالَ كَأَنَّهَا الْأَفْدَانُ بِأَكْفَالٍ كَالصَّوَى، وَأَعْنَاقٍ كَأَعْنَاقِ الظِّبَا، وَمَشْيٍ كَمَشْيِ الْقَطَا أَوْ الدَّبَى فَقَدْ بَلَغْت فِيهَا الْمُنَى. وَلَيْسَ فِي الْحَمِيرِ زِينَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ عَنْ الْخِدْمَةِ مَصُونَةً، وَلَكِنَّ الْمَنْفَعَةَ بِهَا مَضْمُونَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذَا الْجَمَالُ وَالتَّزَيُّنُ وَإِنْ كَانَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا فَقَدْ أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ لِعِبَادِهِ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ خَرَّجَهُ الْبَرْقَانِيُّ وَغَيْرُهُ: «الْإِبِلُ عِزٌّ لِأَهْلِهَا، وَالْغَنَمُ بَرَكَةٌ، وَالْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ». وَإِنَّمَا جَمَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعِزَّ فِي الْإِبِلِ؛ لِأَنَّ

الآية الثالثة قوله تعالى وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس

فِيهَا اللِّبَاسَ وَالْأَكْلَ وَاللَّبَنَ وَالْحَمْلَ وَالْغَزْوَ، وَإِنْ نَقَصَهَا الْكَرُّ وَالْفَرُّ. وَجَعَلَ الْبَرَكَةَ فِي الْغَنَمِ لِمَا فِيهَا مِنْ اللِّبَاسِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَكَثْرَةِ الْوِلَادَةِ، فَإِنَّهَا تَلِدُ فِي الْعَامِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، إلَى مَا يَتْبَعُهَا مِنْ السَّكِينَةِ، وَتَحْمِلُ صَاحِبَهَا عَلَيْهِ مِنْ خَفْضِ الْجَنَاحِ، وَلِينِ الْجَانِبِ، بِخِلَافِ الْفَدَّادِينَ أَهْلِ الْإِبِلِ. وَقَرَنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخَيْرَ بِنَوَاصِي الْخَيْلِ بَقِيَّةَ الدَّهْرِ، لِمَا فِيهَا مِنْ الْغَنِيمَةِ الْمُسْتَفَادَةِ لِلْكَسْبِ وَالْمَعَاشِ، وَمَا تُوَصِّلُ إلَيْهِ مِنْ قَهْرِ الْأَعْدَاءِ، وَغَلَبَةِ الْكُفَّارِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ. وَقَدْ رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6]؛ ذَلِكَ فِي الْمَوَاشِي تَرُوحُ إلَى الْمَرْعَى وَتَسْرَحُ عَلَيْهِ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ] الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل: 7]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا بِالْأَنْعَامِ عُمُومًا، وَخَصَّ الْإِبِلَ هَهُنَا بِالذِّكْرِ فِي حَمْلِ الْأَثْقَالِ، تَنْبِيهًا عَلَى مَا تَتَمَيَّزُ بِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَنْعَامِ؛ فَإِنَّ الْغَنَمَ لِلسَّرْحِ وَالذَّبْحِ، وَالْبَقَرَ لِلْحَرْثِ، وَالْإِبِلَ لِلْحَمْلِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «بَيْنَا رَاعٍ فِي غَنَمٍ عَدَا عَلَيْهَا الذِّئْبُ فَأَخَذَ مِنْهَا شَاةً، فَطَلَبَهُ الرَّاعِي، فَالْتَفَتَ إلَيْهِ الذِّئْبُ، وَقَالَ: مَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ، يَوْمَ لَا رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي وَبَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً قَدْ حَمَلَ عَلَيْهَا، فَالْتَفَتَتْ إلَيْهِ فَكَلَّمَتْهُ، فَقَالَتْ: إنِّي لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا، وَإِنَّمَا خُلِقْت لِلْحَرْثِ. فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، بَقَرَةٌ تَتَكَلَّمُ، فَقَالَ النَّبِيُّ: آمَنْت بِذَلِكَ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَمَا هُمَا ثَمَّ».

مسألة السفر بالدواب عليها الأثقال الثقال

[مَسْأَلَة السَّفَر بِالدَّوَابِّ عَلَيْهَا الْأَثْقَالُ الثِّقَالُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِيهِ جَوَازُ السَّفَرِ بِالدَّوَابِّ عَلَيْهَا الْأَثْقَالُ الثِّقَالُ، وَلَكِنْ عَلَى قَدْرِ مَا تَحْتَمِلُهُ مِنْ غَيْرِ إسْرَافٍ فِي الْحَمْلِ، مَعَ الرِّفْقِ فِي السَّيْرِ وَالنُّزُولِ لِلرَّاحَةِ. وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالرِّفْقِ بِهَا، وَالْإِرَاحَةِ لَهَا، وَمُرَاعَاةِ التَّفَقُّدِ لِعَلَفِهَا وَسَقْيِهَا، وَفِي الْمُوَطَّإِ قَالَ مَالِكٌ: عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ: «إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيَرْضَى بِهِ وَيُعِينُ عَلَيْهِ مَا لَا يُعِينُ عَلَى الْعُنْفِ، فَإِذَا رَكِبْتُمْ هَذِهِ الدَّوَابَّ الْعُجْمَ فَأَنْزِلُوهَا مَنَازِلَهَا، فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ جَدْبَةً فَانْجُوَا عَلَيْهَا بِنَقْيِهَا، وَعَلَيْكُمْ بِسَيْرِ اللَّيْلِ؛ فَإِنَّ الْأَرْضَ تُطْوَى بِاللَّيْلِ مَا لَا تُطْوَى بِالنَّهَارِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّعْرِيسَ عَلَى الطَّرِيقِ فَإِنَّهَا طُرُقُ الدَّوَابِّ وَمَأْوَى الْحَيَّاتِ». [الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً] ً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]. فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرَ اللَّهُ الْأَنْعَامَ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ، فَسَاقَ فِيهَا وُجُوهًا مِنْ الْمَتَاعِ، وَأَنْوَاعًا مِنْ الِانْتِفَاعِ، وَسَاقَ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ، فَكَشَفَ قِنَاعَهَا، وَبَيَّنَ أَنْتِفَاعَهَا، وَذَلِكَ الرُّكُوبُ وَالزِّينَةُ، كَمَا بَيَّنَ فِي تِلْكَ الْمُتَقَدِّمَةِ: الدِّفْءَ وَاللَّبَنَ وَالْأَكْلَ.

قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] فَجَعَلَهَا لِلرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ، وَلَمْ يَجْعَلْهَا لِلْأَكْلِ وَنَحْوِهِ عَنْ أَشْهَبَ، فَفَهِمَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجْهَ إيرَادِ النِّعَمِ، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ فِي كُلِّ نِعْمَةٍ مِنْ الِانْتِفَاعِ، فَاقْتَصَرَتْ كُلُّ مَنْفَعَةٍ عَلَى وَجْهِ مَنْفَعَتِهَا الَّتِي عَيَّنَ اللَّهُ لَهُ، وَرَتَّبَهَا فِيهِ، فَأَمَّا الْخَيْلُ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهَا تُؤْكَلُ، وَعُمْدَتُهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَنْ جَابِرٍ: «نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ». وَرُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ، وَحَرَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ». وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: كَانَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ جَابِرٍ حِكَايَةَ حَالٍ، وَقَضِيَّةً فِي عَيْنٍ؛ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا ذَبَحُوا لِضَرُورَةٍ، وَلَا يُحْتَجُّ بِقَضَايَا الْأَحْوَالِ الْمُحْتَمَلَةِ، وَأَمَّا الْحُمُرُ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّمَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، وَاخْتُلِفَ فِي تَحْرِيمِهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: إنَّمَا حُرِّمَتْ شَرْعًا. الثَّانِي: أَنَّهَا حُرِّمَتْ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ جُوَالَ الْقَرْيَةِ، أَيْ تَأْكُلُ الْجُلَّةَ، وَهِيَ النَّجَاسَةُ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا كَانَتْ حُمُولَةَ الْقَوْمِ؛ وَلِذَلِكَ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أُكِلَتْ الْحُمُرُ، فَنِيَتْ الْحُمُرُ؛ فَحَرَّمَهَا.

الرَّابِعُ: أَنَّهَا حُرِّمَتْ؛ لِأَنَّهَا أُفْنِيَتْ قَبْلَ الْقَسَمِ، فَمَنَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَكْلِهَا، حَتَّى تُقْسَمَ. وَأَمَّا الْبِغَالُ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فَإِنَّهَا تَلْحَقُ الْحَمِيرَ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ. فَأَمَّا إنْ قُلْنَا إنَّ الْخَيْلَ لَا تُؤْكَلُ فَهِيَ مُتَوَلِّدَةٌ بَيْنَ عَيْنَيْنِ لَا يُؤْكَلَانِ، وَإِنْ قُلْنَا: تُؤْكَلُ الْخَيْلُ فَإِنَّهَا عَيْنٌ مُتَوَلِّدَةٌ بَيْنَ مَأْكُولٍ وَبَيْنَ مَا لَا يُؤْكَلُ؛ فَغَلَبَ التَّحْرِيمُ عَلَى مَا يَلْزَمُ فِي الْأُصُولِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي تَحْقِيقِ الْمَقْصُودِ: قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ مَقْصُورَةٌ عَلَى مَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَحَقَّقْنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَيَنْضَافُ إلَيْهِ فِي آيَاتِ الْأَحْكَامِ مِنْهَا، وَقَدْ حَرَّرْنَا فِي كُتُبِ الْخِلَافِ أَنَّ مَدَارَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ فِي الْمَطْعُومَاتِ يَدُورُ عَلَى ثَلَاثِ آيَاتٍ، وَخَبَرٍ وَاحِدٍ. الْآيَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]. الْآيَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]. الْآيَةُ الثَّالِثَةُ: آيَةُ الْأَنْعَامِ قَوْلُهُ: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145]. الرَّابِعُ الْخَبَرُ: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ حَرَامٌ». وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَحَرَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ

مسألة الخيل منها هل تؤخذ الزكاة من مالك الخيل أم لا

الْأَهْلِيَّةِ». وَقَوْلُهُ: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ، كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، فَإِنْ عَوَّلْنَا عَلَيْهَا فَالْكُلُّ سِوَاهَا مُبَاحٌ، وَإِنْ رَأَيْنَا إلْحَاقَ غَيْرِهَا بِهَا حَسْبَمَا يَتَرَتَّبُ فِي الْأَدِلَّةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ». ثُمَّ جَاءَتْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا حَتَّى انْتَهَتْ أَسْبَابُ إبَاحَةِ الدَّمِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إلَى عَشَرَةِ أَسْبَابٍ، فَالْحَالُ فِي ذَلِكَ مُتَرَدِّدَةٌ وَلِأَجْلِهِ اخْتَارَ الْمُتَوَسِّطُونَ مِنْ عُلَمَائِنَا الْكَرَاهِيَةَ فِي هَذِهِ الْحُرُمَاتِ، تَوَسُّطًا بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ؛ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ، وَإِشْكَالِ مَأْخَذِ الْفَتْوَى فِيهَا. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: الثَّعْلَبُ وَالضَّبُعُ حَلَالٌ، وَهُوَ قَدْ عَوَّلَ عَلَى قَوْلِهِ: «أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ حَرَامٌ»، وَلَكِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الضَّبُعَ يَخْرُجُ عَنْهُ بِحَدِيثٍ يَرْوِيهِ جَابِرٌ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ الضَّبُعِ أَحَلَالٌ هِيَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَفِيهَا إذَا أَتْلَفَهَا الْمُحْرِمُ كَبْشٌ». وَفِي رِوَايَةٍ: هِيَ صَيْدٌ، وَفِيهَا كَبْشٌ. وَهَذَا نَصٌّ فِي الِاسْتِثْنَاءِ كَمَا زَعَمَ لَوْ صَحَّ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ سَنَدُهُ، وَلَوْ عَوَّلْنَا عَلَيْهِ لَمَا خَصَّصْنَا التَّحْلِيلَ مِنْ جُمْلَةِ السِّبَاعِ بِالضَّبُعِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: إنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى قَاعِدَةِ التَّحْلِيلِ، وَأَنَّ الْكُلَّ قَدْ خَرَجَ عَنْ التَّحْرِيمِ، وَانْحَصَرَتْ الْمُحَرَّمَاتُ فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ، وَهَذِهِ الْمُعَارَضَاتُ هِيَ الَّتِي أَوْجَبَتْ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ، فَانْظُرُوهَا وَاسْبُرُوهَا، وَمَا ظَهَرَ هُوَ الَّذِي يَتَقَرَّرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة الْخَيْلِ مِنْهَا هَلْ تُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنْ مَالِكِ الْخَيْلِ أَمْ لَا] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: ذَكَرَ اللَّهُ الْأَنْعَامَ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ فِي مَسَاقِ النَّعَمِ ذِكْرًا وَاحِدًا، وَذَكَرَ لِكُلِّ جِنْسٍ مِنْهَا مَنْفَعَةً حَسْبَمَا سَرَدْنَاهُ لَكُمْ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْخَيْلِ مِنْهَا؛ هَلْ تُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنْ مَالِكِهَا أَمْ لَا؟

فَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: لَا زَكَاةَ فِيهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: فِيهَا الزَّكَاةُ مُنْتَزَعًا مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ» الْحَدِيثَ. قَالَ فِيهِ: «وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلَا ظُهُورِهَا». وَاحْتَجُّوا بِأَثَرٍ يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «فِي الْخَيْلِ السَّائِمَةِ فِي كُلِّ فَرَسٍ دِينَارٌ». وَعَوَّلَ أَصْحَابُهُ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّ الْخَيْلَ جِنْسٌ يُسَامُ، وَيُبْتَغَى نَسْلُهُ فِي غَالِبِ الْبُلْدَانِ " فَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِ كَالْأَنْعَامِ. وَتَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ»، فَنَفَى الصَّدَقَةَ عَنْ الْعَبْدِ وَالْفَرَسِ نَفْيًا وَاحِدًا، وَسَاقَهُمَا مَسَاقًا وَاحِدًا؛ وَهُوَ صَحِيحٌ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «عَفَوْت لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ، إلَّا أَنَّ فِي الرَّقِيقِ صَدَقَةَ الْفِطْرِ». وَقَدْ كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إلَى عُمَرَ: إنِّي وَجَدْت أَمْوَالَ أَهْلِ الشَّامِ الرَّقِيقَ وَالْخَيْلَ. فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ أَنْ دَعْهُمَا، ثُمَّ اسْتَشَارَ عُثْمَانَ، فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَ عُمَرُ.

الآية الخامسة قوله تعالى وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا

وَرُوِيَ أَنَّ أَهْلَ الشَّامِ قَدْ جَمَعُوا صَدَقَةَ خُيُولِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَأَتَوْا بِهَا عُمَرَ، فَاسْتَشَارَ عَلِيًّا فَقَالَ: لَا أَرَى بِهِ بَأْسًا إلَّا أَنْ تَكُونَ سُنَّةً بَاقِيَةً بَعْدَك. فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلَا ظُهُورِهَا» فَيَعْنِي بِهِ الْحِمْلَانَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَلَى مَعْنَى النَّدْبِ وَالْخَلَاصِ مِنْ الْحِسَابِ. وَأَمَّا حَدِيثُهُمْ «فِي الْخَيْلِ السَّائِمَةِ فِي كُلِّ فَرَسٍ دِينَارٌ» فَيَرْوِيهِ غَوْرَكٌ السَّعْدِيُّ، وَهُوَ مَجْهُولٌ. جَوَابٌ آخَرُ " قَدْ نَاقَضُوا فَقَالُوا: إنَّ الصَّدَقَةَ فِي إنَاثِهَا لَا فِي ذُكُورِهَا. وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ فَضْلٌ بَيْنَهُمَا، وَنَقِيسُ الْإِنَاثَ عَلَى الذُّكُورِ فِي نَفْيِ الصَّدَقَةِ؟ فَإِنَّهُ حَيَوَانٌ يُقْتَنَى لِنَسْلِهِ لَا لِدَرِّهِ، لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي ذُكُورِهِ، فَلَمْ تَجِبْ فِي إنَاثِهِ، كَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الْخَامِسَة قَوْله تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي سخر الْبَحْر لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا] وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 14]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14]: فَسَمَّى الْحُوتَ لَحْمًا، وَأَنْوَاعُ اللَّحْمِ أَرْبَعَةٌ: لُحُومُ الْأَنْعَامِ، وَلُحُومُ الْوَحْشِ، وَلُحُومُ الطَّيْرِ، وَلُحُومُ الْحُوتِ. وَيَعُمُّهَا اسْمُ اللَّحْمِ، وَيَخُصُّهَا أَنْوَاعُهُ، وَفِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ تَتَشَابَهُ؛ وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيمَنْ حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلَ لَحْمًا؛ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَحْنَثُ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ. وَقَالَ أَشْهَبُ فِي الْمَجْمُوعَةِ: لَا يَحْنَثُ إلَّا بِأَكْلِ لُحُومِ الْأَنْعَامِ دُونَ الْوَحْشِ وَغَيْرِهِ،

مسألة حلف ألا يلبس حليا فلبس لؤلؤا

مُرَاعَاةً لِلْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، وَتَقْدِيمًا لَهَا عَلَى إطْلَاقِ اللَّفْظِ اللُّغَوِيِّ، وَهَذَا يَخْتَلِفُ فِي الْبِلَادِ، فَإِنَّهُ مَنْ كَانَ بِتَنِّيسَ أَوْ بِالْفَرَمَا لَا يَرَى لَحْمًا إلَّا الْحُوتَ، وَالْأَنْعَامُ قَلِيلَةٌ فِيهَا، فَعُرْفُهَا عَكْسُ عُرْفِ بَغْدَادَ، فَإِنَّهُ لَا أَثَرَ لِلْحُوتِ فِيهَا، وَإِنَّمَا الْمُعَوَّلُ عَلَى لُحُومِ الْأَنْعَامِ، وَإِذَا أَجْرَيْنَا الْيَمِينَ عَلَى الْأَسْبَابِ فَسَبَبُ الْيَمِينِ يُدْخِلُ فِيهَا مَا لَا يَجْرِي عَلَى الْعُرْفِ، وَيُخْرِجُهُ مِنْهَا، وَالنِّيَّةُ تَقْضِي عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ. وَقَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ: أَشْتَرِي لَحْمًا وَحِيتَانًا فَلَا يُعَدُّ تَكْرَارًا، وَاَلَّذِي أَخْتَارُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْحَالِفِ نِيَّةٌ وَلَا سَبَبٌ مَا قَالَهُ أَشْهَبُ. [مَسْأَلَة حَلَفَ أَلَّا يَلْبَسَ حُلِيًّا فَلَبِسَ لُؤْلُؤًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14]: يَعْنِي بِهِ اللُّؤْلُؤَ وَالْمَرْجَانَ، لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22]. وَهَذَا امْتِنَانٌ عَامٌّ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْهُ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى الرِّجَالِ الذَّهَبَ وَالْحَرِيرَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: مَنْ حَلَفَ أَلَّا يَلْبَسَ حُلِيًّا فَلَبِسَ لُؤْلُؤًا أَنَّهُ يَحْنَثُ، لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14] وَاَلَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ اللُّؤْلُؤُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحْنَثُ. وَلَمْ أَرَ لِعُلَمَائِنَا فِيهَا نَصًّا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَإِنَّهُ حَانِثٌ. [الْآيَة السَّادِسَة قَوْله تَعَالَى وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ] َ} [النحل: 16] فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ النُّجُومِ مَا يَكُونُ عَلَامَاتٍ، وَمِنْهَا مَا يَهْتَدُونَ بِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: خَلَقَ اللَّهُ هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلَاثِ خِصَالٍ: جَعَلَهَا اللَّهُ زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَجَعَلَهَا يَهْتَدُونَ بِهَا، وَجَعَلَهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ. فَمَنْ تَعَاطَى مِنْهَا غَيْرَ ذَلِكَ سَفَّهَ رَأْيَهُ، وَأَخْطَأَ حَظُّهُ، وَأَضَاعَ نَفْسَهُ، وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ تَحْقِيقَ ذَلِكَ وَتِبْيَانَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {وَبِالنَّجْمِ} [النحل: 16]: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلْجِنْسِ. وَالْمُرَادُ بِهِ جَمْعُ النُّجُومِ [وَلَا يَهْتَدِي بِهَا إلَّا الْعَارِفُ]. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الثُّرَيَّا. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجَدْيُ وَالْفَرْقَدَانِ. فَأَمَّا جَمِيعُ النُّجُومِ فَلَا يَهْتَدِي بِهَا إلَّا الْعَارِفُ بِمَطَالِعِهَا وَمَغَارِبِهَا، وَالْمَفْرِقُ بَيْنَ الْجَنُوبِيِّ وَالشَّمَالِيِّ مِنْهَا؛ وَذَلِكَ قَلِيلٌ فِي الْآخِرِينَ. وَأَمَّا الثُّرَيَّا فَلَا يَهْتَدِي بِهَا إلَّا مَنْ يَهْتَدِي بِجَمِيعِ النُّجُومِ، وَإِنَّمَا الْهَدْيُ لِكُلِّ أَحَدٍ بِالْجَدْيِ وَالْفَرْقَدَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ النُّجُومِ الْمُنْحَصِرَةِ الْمَطْلَعِ، الظَّاهِرَةِ السَّمْتِ، الثَّابِتَةِ فِي الْمَكَانِ فَإِنَّهَا تَدُورُ عَلَى الْقُطْبِ الثَّابِتِ دَوَرَانًا مُحَصَّلًا، فَهِيَ أَبَدًا هَدْيُ الْخَلْقِ فِي الْبَرِّ إذَا عَمِيَتْ الطُّرُقُ، وَفِي الْبَحْرِ عِنْدَ مَجْرَى السُّفُنِ، وَعَلَى الْقِبْلَةِ إذَا جَهِلَ السَّمْتَ، وَذَلِكَ عَلَى الْجُمْلَةِ بِأَنْ تَجْعَلَ الْقُطْبَ عَلَى ظَهْرِ مَنْكِبِك الْأَيْسَرِ، فَمَا اسْتَقْبَلْت فَهُوَ سَمْتُ الْجِهَةِ، وَتَحْدِيدُهَا فِي الْإِبْصَارِ أَنَّك إذَا نَظَرْت الشَّمْسَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ كَانُونَ الْأَوَّلِ طَالِعَةً فَاجْعَلْ بَيْنَ وَجْهِك وَبَيْنَهَا فِي التَّقْدِيرِ ذِرَاعًا، وَتَكُونُ مُسْتَقْبِلًا

لِلْكَعْبَةِ عَلَى التَّقْرِيبِ، سَالِكًا إلَى التَّحْقِيقِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إنَّهَا يُهْتَدَى بِهَا فِي الْأَنْوَاءِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ الْمَنَازِلَ، وَنَزَّلَ فِيهَا الْكَوَاكِبَ، وَرَتَّبَ لَهَا مَطَالِعَ وَمَغَارِبَ، وَرَبَطَ بِهَا عَادَةً نُزُولَ الْغَيْثِ، وَبِهَذَا عَرَفَتْ الْعَرَبُ أَنْوَاءَهَا، وَتَنَظَّرَتْ سُقْيَاهَا، وَأَضَافَتْ كَثْرَةَ السُّقْيَا إلَى بَعْضٍ، وَقِلَّتَهَا إلَى آخَرَ. وَيُرْوَى فِي الْأَثَرِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِلْعَبَّاسِ: كَمْ بَقِيَ لِنَوْءِ الثُّرَيَّا؟ فَقَالَ لَهُ: إنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: إنَّهَا تَدُورُ فِي الْأُفُقِ سَبْعًا، ثُمَّ يُدِرُّ اللَّهُ الْغَيْثَ، فَمَا جَاءَتْ السَّبْعُ حَتَّى غِيثَ النَّاسُ. وَفِي الْمُوَطَّإِ: إذَا نَشَأَتْ بَحْرِيَّةٌ، ثُمَّ تَشَاءَمَتْ فَتِلْكَ عَيْنٌ غُدَيْقَةٌ. وَمِنْ الْبِلَادِ مَا يَكُونُ مَطَرُهَا بِالصِّبَا، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مَطَرُهَا بِالْجَنُوبِ، وَيَزْعُمُ أَهْلُهَا أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَدُورُ عَلَى الْبَحْرِ، فَإِذَا جَرَّتْ الرِّيحُ ذَيْلَهَا عَلَى الْبَحْرِ أَلْقَحَتْ السَّحَابَ مِنْهُ، وَإِذَا جَرَّتْ ذَيْلَهَا عَلَى الْبَيْدَاءِ جَاءَتْ سَحَابًا عَقِيمًا، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّا لَا نَمْنَعُ ذَلِكَ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ رَبَّنَا قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْشِئَ الْمَاءَ فِي السَّحَابِ إنْشَاءً، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُسَيِّبَ لَهُ مَاءَ الْبَحْرِ الْمِلْحِ وَيُصَعِّدَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُسْتَفِلًا، وَيَحْلَوْلِي بِتَدْبِيرِهِ، وَقَدْ كَانَ مِلْحًا، وَيُنَزِّلَهُ إلَيْنَا فُرَاتًا عَذْبًا؛ وَلَكِنَّ تَعْيِينَ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لَا يَكُونُ بِنَظَرٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ لِذَلِكَ أَثَرٌ، وَإِنَّمَا طَرِيقُهُ الْخَبَرُ، فَنَحْنُ نَقُولُ: هُوَ جَائِزٌ، وَلَوْ أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ لَكَانَ وَاجِبًا. الثَّانِي: أَنَّ الشَّمَالَ تُسَمِّيهَا الْعَرَبُ الْمَجَرَّةُ؛ لِأَنَّهَا تَمْخَرُ السَّحَابَ، وَلَا تُمْطِرُ مَعَهَا، وَقَدْ تَأْتِي بَحْرِيَّةً وَبَرِّيَّةً، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْمَشِيئَةِ؛ وَأَنَّهُ لَا يُخْبِرُ عَنْ الْآثَارِ الْعُلْوِيَّةِ إلَّا السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ، لَا الْعُقُولُ الأرسطاليسية. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ: «قَالَ

الآية السابعة قوله تعالى وإن لكم في الأنعام لعبرة

اللَّهُ تَعَالَى: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوَاكِبِ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوَاكِبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوَاكِبِ». قُلْنَا: إنَّمَا خَرَجَ هَذَا عَلَى قَوْلِ الْعَرَبِ الَّتِي كَانَتْ تَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَأْثِيرِ الْكَوَاكِبِ لِجَاهِلِيَّتِهَا. وَأَمَّا مَنْ اعْتَقَدَهَا وَقْتًا وَمَحَلًّا وَعَلَامَةً يُنْشِئُهُ اللَّهُ فِيهَا وَيُدَبِّرُهُ عَلَيْهَا فَلَيْسَ مِنْ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَعْنَى. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ. [الْآيَة السَّابِعَة قَوْله تَعَالَى وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً] ً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} [النحل: 66]: فَجَاءَ الضَّمِيرُ بِلَفْظِ التَّذْكِيرِ عَائِدًا عَلَى جَمْعِ مُؤَنَّثٍ. وَأَجَابَ الْعُلَمَاءُ عَنْ ذَلِكَ بِسِتَّةِ أَجْوِبَةٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ سِيبَوَيْهِ: الْعَرَبُ تُخْبِرُ عَنْ الْأَنْعَامِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَمَا أَرَاهُ عَوَّلَ عَلَيْهِ إلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَهَذَا لَا يُشْبِهُ مَنْصِبَهُ، وَلَا يَلِيقُ بِإِدْرَاكِهِ. الثَّانِي: قَالَ الْكِسَائِيُّ: مَعْنَاهُ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِ مَا ذَكَرْنَا، وَهَذَا تَقْدِيرٌ بَعِيدٌ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ. الثَّالِثُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: الْأَنْعَامُ وَالنِّعَمُ وَاحِدٌ، وَالنَّعَمُ مُذَكَّرٌ، وَلِهَذَا تَقُولُ الْعَرَبُ: هَذَا نَعَمٌ وَارِدٌ، فَرُجِعَ إلَى لَفْظِ النَّعَمِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْأَنْعَامِ، وَهَذَا تَرْكِيبٌ طَوِيلٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ.

الرَّابِعُ: قَالَ الْكِسَائِيُّ أَيْضًا: إنَّمَا يُرِيدُ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِ بَعْضِهِ، وَهُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ أَبُو عُبَيْدَةَ، فَإِنَّهُ قَالَ: مَعْنَاهُ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِ أَيُّهَا كَانَ لَهُ لَبَنٌ مِنْهَا. الْخَامِسُ: أَنَّ التَّذْكِيرَ إنَّمَا جِيءَ بِهِ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ عَلَى ذِكْرِ النَّعَمِ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ لِلذَّكَرِ مَنْسُوبٌ؛ وَلِذَلِكَ قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ اللَّبَنَ لِلْفَحْلِ حِينَ «أَنْكَرَتْهُ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي حَدِيثِ أَفْلَحَ أَخِي أَبِي الْقُعَيْسِ؛ فَقَالَتْ: إنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ. فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّهُ عَمُّك فَلْيَلِجْ عَلَيْك». بَيَانٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ اللَّبَنَ لِلْمَرْأَةِ سَقْيٌ، وَلِلرَّجُلِ إلْقَاحٌ، فَجَرَى الِاشْتِرَاكُ بَيْنَهُمَا فِيهِ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْخِلَافِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ. السَّادِسُ: قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ: إنَّمَا يَرْجِعُ التَّذْكِيرُ إلَى مَعْنَى الْجَمْعِ، وَالتَّأْنِيثُ إلَى مَعْنَى الْجَمَاعَةِ، فَذَكَّرَ فِي آيَةِ النَّحْلِ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ، وَأَنَّثَ فِي آيَةِ الْمُؤْمِنِ بِاعْتِبَارِ تَأْنِيثِ لَفْظِ الْجَمَاعَةِ، وَيَنْتَظِمُ الْمَعْنَى بِهَذَا التَّأْوِيلِ انْتِظَامًا حَسَنًا. وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ الْجَمَاعَةِ وَالتَّذْكِيرُ بِاعْتِبَارِ الْجَمْعِ أَكْثَرُ فِي الْقُرْآنِ وَاللُّغَةُ مِنْ رَمْلِ يَبْرِينَ وَمَهَا فِلَسْطِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: نَبَّهَ اللَّهُ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ بِخُرُوجِ اللَّبَنِ خَالِصًا مِنْ بَيْنِ الْفَرْثِ وَالدَّمِ بَيْنَ حُمْرَةِ الدَّمِ وَقَذَارَةِ الْفَرْثِ، وَقَدْ جَمَعَهُمَا وِعَاءٌ وَاحِدٌ، وَجَرَى الْكُلُّ فِي سَبِيلٍ مُتَّحِدَةٍ، فَإِذَا نَظَرْت إلَى لَوْنِهِ وَجَدْته أَبْيَضَ نَاصِعًا خَالِصًا مِنْ شَائِبَةِ الْجَارِ، وَإِذَا شَرِبْته وَجَدْته سَائِغًا عَنْ بَشَاعَةِ الْفَرْثِ، يُرِيدُ لَذِيذًا، وَبَعْضُهُمْ قَالَ سَائِغًا، أَيْ لَا يُغَصُّ بِهِ، وَإِنَّهُ لِصِفَتِهِ، وَلَكِنَّ

مسألة قول من يقول إن المني نجس

التَّنْبِيهَ إنَّمَا وَقَعَ عَلَى اللَّذَّةِ وَطِيبِ الْمَطْعَمِ، مَعَ كَرَاهِيَةِ الْجَارِ الَّذِي انْفَصَلَ عَنْهُ فِي الْكَرِشِ، وَهُوَ الْفَرْثُ الْقَذِرُ. وَهَذِهِ قُدْرَةٌ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِلْقَائِمِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِالْمَصْلَحَةِ. [مَسْأَلَة قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْمَنِيَّ نَجِسٌ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ بَعْضُ الْمُتَصَوِّرِينَ بِصُورَةِ الْمُصَنِّفِينَ الْمُتَسَوِّرِينَ فِي عُلُومِ الدِّينِ: إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْمَنِيَّ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ الْمَخْرَجِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ الْبَوْلُ، وَهَذَا اللَّهُ يَقُولُ فِي اللَّبَنِ: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ، فَكَمَا يَخْرُجُ اللَّبَنُ مِنْ بَيْنِ الْفَرْثِ وَالدَّمِ سَائِغًا خَالِصًا طَاهِرًا، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ الْمَنِيُّ عَلَى مَخْرَجِ الْبَوْلِ طَاهِرًا. قَالَ الْقَاضِي: قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ أُصُولِ الْفِقْهِ صِفَةَ الْمُجْتَهِدِ الْمُفْتِي فِي الْأَحْكَامِ الْمُسْتَنْبِطِ لَهَا مِنْ الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ، وَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الصِّفَاتُ مَوْجُودَةً فِي هَذَا الْقَائِلِ مَا نَطَقَ بِمِثْلِ هَذَا، فَإِنَّ اللَّبَنَ جَاءَ الْخَبَرُ عَنْهُ مَجِيءَ النِّعْمَةِ وَالْمِنَّةِ الصَّادِرَةِ عَنْ الْقُدْرَةِ، لِيَكُونَ عِبْرَةً؛ فَاقْتَضَى ذَلِكَ كُلَّهُ لَهُ وَصْفَ الْخُلُوصِ وَاللَّذَّةِ وَالطَّهَارَةِ، وَأَيْنَ الْمَنِيُّ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ حَتَّى يَكُونَ مُلْحَقًا بِهِ أَوْ مَقِيسًا عَلَيْهِ؛ إنَّ هَذَا لَجَهْلٌ عَظِيمٌ. [الْآيَة الثَّامِنَة قَوْله تَعَالَى وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا] إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل: 67]. فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ قَوْمٌ: الْمَعْنَى: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ مَا تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ شَيْءٌ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا، وَدَلَّ عَلَى حَذْفِهِ قَوْلُهُ: {مِنْهُ} [النحل: 67] فَلِذَلِكَ سَاغَ حَذْفُهُ، وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ قَرِيبٌ.

مسألة قوله تعالى سكرا

[مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى سَكَرًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {سَكَرًا} [النحل: 67]: فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَغَيْرُهُمَا. الثَّانِي: أَنَّهُ خُمُورُ الْأَعَاجِمِ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ، وَيَرْجِعُ إلَى الْأَوَّلِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ الْخَلُّ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ أَيْضًا. الرَّابِعُ: أَنَّهُ الطَّعْمُ الَّذِي يُعْرَفُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ؛ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ مَا يَسُدُّ الْجُوعَ، مَأْخُوذٌ مِنْ سَكَرْتُ النَّهْرَ، إذَا سَدَدْته. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الرِّزْقُ الْحَسَنُ: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمَا. الثَّانِي: أَنَّهُ النَّبِيذُ وَالْخَلُّ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ الْأَوَّلُ، يَقُولُ: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا، فَجَعَلَ لَهُ اسْمَيْنِ، وَهُوَ وَاحِدٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَمَّا هَذِهِ الْأَقَاوِيلُ فَأَسَدُّهَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: إنَّ السَّكَرَ الْخَمْرُ، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ بَعْدَهَا مِنْ هَذِهِ الثَّمَرَاتِ. وَيُخَرَّجُ ذَلِكَ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اعْتِدَاءً مِنْكُمْ، وَمَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ اتِّفَاقًا أَوْ قَصْدًا إلَى مَنْفَعَةِ أَنْفُسِكُمْ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ بِاتِّفَاقٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَتَحْرِيمُ الْخَمْرِ مَدَنِيٌّ. فَإِنْ قِيلَ، وَهِيَ:

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} [النحل: 67] مَا يُسْكِرُ مِنْ الْأَنْبِذَةِ، وَخَلًّا، وَهُوَ الرِّزْقُ الْحَسَنُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّ اللَّهَ امْتَنَّ عَلَى عِبَادِهِ بِمَا خَلَقَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَقَعُ الِامْتِنَانُ إلَّا بِمُحَلَّلٍ لَا بِمُحَرَّمٍ؛ فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ مَا دُونَ الْمُسْكِرِ مِنْ النَّبِيذِ، فَإِذَا انْتَهَى إلَى السُّكْرِ لَمْ يَجُزْ؛ قَالَهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعَضَّدُوا رَأْيَهُمْ هَذَا مِنْ السُّنَّةِ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «حَرَّمَ اللَّهُ الْخَمْرَ لِعَيْنِهَا وَالسُّكْرَ مِنْ غَيْرِهَا». وَبِمَا رُوِيَ أَيْضًا عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يُنْبَذُ لَهُ فَيَشْرَبُهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَإِذَا كَانَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ سَقَاهُ الْخَدَمَ إذَا تَغَيَّرَ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا سَقَاهُ إيَّاهُمْ. فَالْجَوَابُ أَنَّا نَقُولُ: قَدْ عَارَضَ عُلَمَاؤُنَا هَذِهِ الْأَحَادِيثَ بِمِثْلِهَا، فَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَجَوَّدَهُ، وَثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ». وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، مَا أَسْكَرَ الْفَرَقُ فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ». وَرُوِيَ: «فَالْحَسْوَةُ مِنْهُ حَرَامٌ». وَقَدْ ثَبَتَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ بِاتِّفَاقٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ مِنْ الْحِنْطَةِ خَمْرًا، وَإِنَّ مِنْ الشَّعِيرِ خَمْرًا، وَإِنَّ مِنْ التَّمْرِ خَمْرًا، وَإِنْ مِنْ الزَّبِيبِ خَمْرًا، وَإِنَّ مِنْ الْعَسَلِ خَمْرًا». خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَإِنْ كَانَ قَالَهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ شَرْعٌ مُتَّبَعٌ، وَإِنْ كَانَ أَخْبَرَ بِهِ عَنْ اللُّغَةِ فَهُوَ حُجَّةٌ فِيهَا، لَا سِيَّمَا وَهُوَ نَطَقَ بِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ مَا بَيْنَ أَظْهُرِ الصَّحَابَةِ، فَلَمْ يَقُمْ مَنْ يُنْكِرُ عَلَيْهِ. جَوَابٌ آخَرُ: أَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ اللَّهَ امْتَنَّ، وَلَا يَكُونُ امْتِنَانُهُ وَتَعْدِيدُهُ إلَّا بِمَا أَحَلَّ فَصَحِيحٌ؛ بَيْدَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، ثُمَّ حُرِّمَتْ بَعْدُ. فَإِنْ قَبْلُ: كَيْفَ يُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ هَهُنَا، وَيَنْسَخُ هَذَا الْحُكْمَ، وَهُوَ خَبَرٌ، وَالْأَخْبَارُ لَا يَدْخُلُهَا النَّسْخُ. قُلْنَا: هَذَا كَلَامُ مَنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ الشَّرِيعَةَ، وَقَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَتَهُ قَبْلُ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ الْخَبَرَ إذَا كَانَ عَنْ الْوُجُودِ الْحَقِيقِيِّ فَذَلِكَ الَّذِي لَا يَدْخُلُهُ نَسْخٌ، أَوْ كَانَ عَنْ الْفَضْلِ الْمُعْطَى ثَوَابًا فَهُوَ أَيْضًا لَا يَدْخُلُهُ نَسْخٌ؛ فَأَمَّا إنْ كَانَ خَبَرًا عَنْ حُكْمِ الشَّرْعِ فَالْأَحْكَامُ تَتَبَدَّلُ وَتُنْسَخُ جَاءَتْ بِخَبَرٍ أَوْ بِأَمْرٍ، وَلَا يَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى تَكْذِيبٍ فِي الْخَبَرِ أَوْ الشَّرْعِ الَّذِي كَانَ مُخْبَرًا عَنْهُ قَدْ زَالَ بِغَيْرِهِ. وَإِذَا فَهِمْتُمْ هَذَا خَرَجْتُمْ عَنْ الصِّنْفِ الْغَبِيِّ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ الْكُفَّارِ فِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل: 101]. يَعْنِي أَنَّهُمْ جَهِلُوا أَنَّ الرَّبَّ يَأْمُرُ بِمَا يَشَاءُ، وَيُكَلِّفُ مَا يَشَاءُ، وَيَرْفَعُ مِنْ ذَلِكَ بِعَدْلِهِ مَا يَشَاءُ، وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ، وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ. جَوَابٌ ثَالِثٌ: وَأَمَّا مَا عَضَّدُوهُ بِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ فَالْأَوَّلُ ضَعِيفٌ، وَالثَّانِي فِي سَقْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا بَقِيَ لِلْخَدَمِ صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ مَا كَانَ يَسْقِيهِ لِلْخَدَمِ؛ لِأَنَّهُ مُسْكِرٌ، وَإِنَّمَا كَانَ يَسْقِيهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَغَيِّرُ الرَّائِحَةِ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْرَهَ الْخَلْقِ فِي خَبِيثِ الرَّائِحَةِ، وَلِذَلِكَ تَحَيَّلَ عَلَيْهِ أَزْوَاجُهُ فِي عَسَلِ زَيْنَبَ، فَإِنَّهُنَّ قُلْنَ لَهُ: إنَّا نَجِدُ مِنْك رِيحَ مَغَافِيرَ يَعْنِي رِيحًا نُنْكِرُهُ. وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كُتُبِ الْخِلَافِ أَثَرًا وَنَظَرًا، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الآية التاسعة قوله تعالى وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67]: وَإِذَا قِيلَ: إنَّ ثَمَرَاتِ الْحُبُوبِ وَغَيْرِهَا تُتَّخَذُ مِنْهُ رِزْقٌ حَسَنٌ وَسَكَرٌ. قُلْنَا: هَذِهِ الْحُبُوبُ وَسَائِرُ الثَّمَرَاتِ وَإِنْ وَقَعَ الِامْتِنَانُ بِهَا، وَكَانَتْ لَهَا وُجُوهٌ يُنْتَفَعُ مِنْهَا، فَلَا يَقُومُ مَقَامَ النَّخْلِ وَالْعِنَبِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ الْخَلَّ، وَهُوَ أَجَلُّ مَنْفَعَةٍ فِي الْعَالَمِ، فَإِنَّهُ دَوَاءٌ وَغِذَاءٌ، فَلَمَّا لَمْ يَحِلَّ مَحَلَّ هَاتَيْنِ الثَّمَرَتَيْنِ شَيْءٌ خُصَّا بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهِمَا. [الْآيَة التَّاسِعَة قَوْله تَعَالَى وَأَوْحَى رَبُّكَ إلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا] وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ - ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 68 - 69]. فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ بَيَّنَّا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَكُتُبِ الْأُصُولِ أَنَّ الْوَحْيَ يَنْقَسِمُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ: مِنْهَا الْإِلْهَامُ، وَهُوَ مَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ، وَهُوَ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7] {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8]. وَمِنْ ذَلِكَ الْبَهَائِمُ وَمَا يَخْلُقُ اللَّهُ فِيهَا مِنْ دَرْكِ مَنَافِعِهَا، وَاجْتِنَابِ مَضَارِّهَا، وَتَدْبِيرِ مَعَاشِهَا. وَمِنْ عَجِيبِ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي النَّحْلِ أَنْ أَلْهَمَهَا لِاِتِّخَاذِ بُيُوتِهَا مُسَدَّسَةً؛ فَبِذَلِكَ اتَّصَلَتْ حَتَّى صَارَتْ كَالْقِطْعَةِ الْوَاحِدَةِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْأَشْكَالَ مِنْ الْمُثَلَّثِ إلَى الْمُعَشَّرِ إذَا جُمِعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا إلَى أَمْثَالِهِ لَمْ يَتَّصِلْ، وَجَاءَتْ بَيْنَهُمَا فُرَجٌ إلَّا الشَّكْلَ الْمُسَدَّسَ فَإِنَّهُ إذَا جُمِعَ إلَى أَمْثَالِهِ التَّسْدِيسُ، يَحْمِي بَعْضُهَا بَعْضًا عِنْدَ الِاتِّصَالِ. وَجُعِلَتْ كُلُّ بَيْتٍ عَلَى قَدْرِهَا، فَإِذَا تَشَكَّلَ عِنْدَ حَرَكَةِ النَّحْلَةِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ، وَمَلَأَتْهُ عَسَلًا انْتَقَلَتْ إلَى غَيْرِهِ بِتَسْخِيرِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ وَتَذْلِيلِهِ، إنْ تُرِكَتْ عَسَّلَتْ، وَإِنْ حُمِلَتْ اتَّبَعَتْ، وَهِيَ ذَاتُ جَنَاحٍ، وَلَكِنَّ الْقَابِضَ الْبَاسِطَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَهَا وَدَبَّرَهَا.

مسألة أمر الذي يشتكي بطنه بشرب العسل

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ} [النحل: 69]: يَعْنِي: الْعَسَلَ، عَدَّدَهَا اللَّهُ فِي نِعَمِهِ، وَذَكَرَ شَرَابَهُ مُمْتَنًّا بِهِ، وَسَمَّاهُ شَرَابًا وَإِنْ كَانَ مَطْعُومًا؛ لِأَنَّهُ يُصْرَفُ فِي الْأَشْرِبَةِ أَكْثَرَ مِنْ تَصْرِيفِهِ فِي الْأَطْعِمَةِ، وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ، وَذَلِكَ بِالشَّرَابِيَّةِ أَخَصُّ كَمَا أَنَّ الْجَامِدَ أَخَصُّ بِالطَّعَامِيَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} [النحل: 69]: يُرِيدُ أَنْوَاعَهُ مِنْ الْأَحْمَرِ وَالْأَبْيَضِ وَالْأَصْفَرِ، وَالْجَامِدِ وَالسَّائِلِ؛ وَالْأُمُّ وَاحِدَةٌ، وَالْأَوْلَادُ مُخْتَلِفُونَ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقُدْرَةَ نَوَّعَتْهُ بِحَسَبِ تَنْوِيعِ الْغِذَاءِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْرُجُ عَلَى صِفَتِهِ، وَلَا يَجِيءُ إلَّا مِنْ جِنْسِهِ، وَلَكِنْ يُؤَثِّرُ بَعْضُ التَّأْثِيرِ فِيهِ لِيَدُلَّ عَلَيْهِ؛ وَيُغَيِّرُهُ اللَّهُ، لِتَتَبَيَّنَ قُدْرَتُهُ فِي التَّصْرِيفِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ} [الرعد: 4]. [مَسْأَلَة أَمَرَ الَّذِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ بِشُرْبِ الْعَسَلِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69]: وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْجِبُهُ الْحَلْوَاءُ وَالْعَسَلُ». وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ لَذْعَةِ نَارٍ». وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ «رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّ أَخِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ. فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلًا. ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلًا. ثُمَّ أَتَاهُ

الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلًا ثُمَّ أَتَاهُ، فَقَالَ: فَعَلْت، فَمَا زَادَهُ ذَلِكَ إلَّا اسْتِطْلَاقًا. فَقَالَ: صَدَقَ اللَّهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيك، اسْقِهِ عَسَلًا، فَسَقَاهُ فَبَرِئَ». وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَشْكُو قُرْحَةً وَلَا شَيْئًا إلَّا جَعَلَ عَلَيْهِ عَسَلًا حَتَّى الدُّمَّلَ إذَا خَرَجَ عَلَيْهِ طَلَاهُ بِعَسَلٍ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69]. وَرُوِيَ أَنَّ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيَّ مَرِضَ فَقِيلَ لَهُ: أَلَا نُعَالِجُك، قَالَ: ائْتُونِي بِمَاءِ سَمَاءٍ، فَإِنَّ اللَّهُ يَقُولُ: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق: 9] وَأْتُونِي بِعَسَلٍ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69]. وَأْتُونِي بِزَيْتٍ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} [النور: 35] فَجَاءُوهُ بِذَلِكَ كُلِّهِ، فَخَلَطَهُ جَمِيعًا ثُمَّ شَرِبَهُ فَبَرِئَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ: إنَّ الْهَاءَ فِي قَوْلِهِ: " فِيهِ " يَعُودُ عَلَى الْقُرْآنِ، أَيْ الْقُرْآنُ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ. وَهَذَا قَوْلٌ بَعِيدٌ، مَا أَرَاهُ يَصِحُّ عَنْهُمْ؛ وَلَوْ صَحَّ نَقْلًا لَمْ يَصِحَّ عَقْلًا؛ فَإِنَّ مَسَاقَ الْكَلَامِ كُلِّهِ لِلْعَسَلِ، لَيْسَ لِلْقُرْآنِ فِيهِ ذِكْرٌ؛ وَكَيْفَ يَرْجِعُ ضَمِيرٌ فِي كَلَامٍ إلَى مَا لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ كُلَّهُ مِنْهُ؟ وَلَكِنَّهُ إنَّمَا يُرَاعَى مَسَاقُ الْكَلَامِ وَمَنْحَى الْقَوْلِ، وَقَدْ حَسَمَ النَّبِيُّ فِي ذَلِكَ ذَا الْإِشْكَالِ، وَأَزَاحَ وَجْهَ الِاحْتِمَالِ حِينَ أَمَرَ الَّذِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ بِشُرْبِ الْعَسَلِ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ بِأَنَّ الْعَسَلَ لَمَّا سَقَاهُ إيَّاهُ مَا زَادَهُ إلَّا اسْتِطْلَاقًا أَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَوْدِ الشُّرْبِ لَهُ، وَقَالَ لَهُ: «صَدَقَ اللَّهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيك». الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69]: اُخْتُلِفَ فِي مَحْمَلِهِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَلِكُلِّ أَحَدٍ، كَمَا سُقْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ وَعَوْفٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ عَلَى الْعُمُومِ بِالتَّدْبِيرِ؛ إذْ يُخْلَطُ الْخَلُّ بِالْعَسَلِ وَيَطْبُخُ، فَيَأْتِي شَرَابًا يَنْفَعُ فِي كُلِّ حَالَةٍ مِنْ كُلِّ دَاءٍ.

العسل لا زكاة فيه

وَقَدْ اتَّفَقَ الْأَطِبَّاءُ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ عَلَى مَدْحِ عُمُومِ مَنْفَعَةِ السَّكَنْجَبِينِ فِي كُلِّ مَرَضٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ ذَلِكَ عَلَى الْخُصُوصِ، وَلَيْسَ هَذَا بِأَوَّلِ لَفْظٍ عَامٍّ حُمِلَ عَلَى مَقْصِدٍ خَاصٍّ؛ فَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْهُ، وَلُغَةُ الْعَرَبِ يَأْتِي فِيهَا الْعَامُّ كَثِيرًا بِمَعْنَى الْخَاصِّ، وَالْخَاصُّ بِمَعْنَى الْعَامِّ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَتَرَاكِ أَمْكِنَةٌ إذَا لَمْ أَرْضَهَا ... أَوْ يَرْتَبِطْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا وَالْمُرَادُ كُلُّ النُّفُوسِ؛ إذْ لَا تَخْلُو نَفْسٌ مِنْ ارْتِبَاطِ الْحِمَامِ لَهَا. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ يَجْرِي عَلَى نِيَّةِ كُلِّ أَحَدٍ، فَمَنْ قَوِيَتْ نِيَّتُهُ، وَصَحَّ يَقِينُهُ فَفَعَلَ فِعْلَ عَوْفٍ وَابْنِ عُمَرَ وَجَدَهُ كَذَلِكَ، وَمَنْ ضَعُفَتْ نِيَّتُهُ وَغَلَبَتْهُ عَلَى الدِّينِ عَادَتُهُ أَخَذَهُ مَفْهُومًا عَلَى قَوْلِ الْأَطِبَّاءِ، وَالْكُلُّ مِنْ حُكْمِ الْفَعَّالِ لِمَا يَشَاءُ. [الْعَسَلَ لَا زَكَاةَ فِيهِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَسَلَ لَا زَكَاةَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مَطْعُومًا مُقْتَاتًا، وَلَكِنَّهُ كَمَا رُوِيَ فِي ذِكْرِ النَّحْلِ ذُبَابُ غَيْثٍ، وَكَمَا جَاءَ فِي الْعَنْبَرِ أَنَّهُ شَيْءٌ دَسَرَهُ الْبَحْرُ، فَأَحَدُهُمَا يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ، وَالْآخَرُ يَطْفُو عَلَى الْمَاءِ، وَكِلَاهُمَا فِي هَذَا الْحُكْمِ سَوَاءٌ، وَقَدْ خَصَّ اللَّهُ الزَّكَاةَ بِمَا خَصَّهَا مِنْ الْأَمْوَالِ الْمُقْتَاتَةِ، وَالْأَعْيَانِ النَّامِيَةِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْهَا فِي مَوَاضِعِهَا فَلْيُقَفْ عِنْدَهَا. وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ كِتَابٌ مِنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى أَبِي، وَهُوَ بِمِنًى، أَلَّا يَأْخُذَ مِنْ الْعَسَلِ وَلَا مِنْ الْخَيْلِ صَدَقَةً. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّ الْعَسَلَ طَعَامٌ يَخْرُجُ مِنْ حَيَوَانٍ فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ كَاللَّبَنِ

الآية العاشرة قوله تعالى والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا

وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ اللَّبَنُ عَيْنٌ زَكَاتِيَّةٌ، وَقَدْ قَضَى حَقَّ النِّعْمَةِ فِيهِ وَحَازَ الِاسْتِيفَاءَ لِمَنَافِعِهَا، بِخِلَافِ الْعَسَلِ، فَإِنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي أَصْلِهِ، فَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ بِاللَّبَنِ. وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْعَسَلِ، مُحْتَجًّا بِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ مِنْ الْعَسَلِ الْعُشْرَ». وَالْحَدِيثُ لَا أَصْلَ لَهُ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي ذُبَابٍ رَوَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «قَدِمْت عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ اجْعَلْ لِقَوْمِي مَا أَسْلَمُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَفَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْتَعْمَلَنِي عَلَيْهِمْ»، ثُمَّ اسْتَعْمَلَنِي أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ قَالَ: فَكَلَّمْت قَوْمِي فِي الْعَسَلِ، فَقُلْت لَهُمْ: زَكُّوهُ، فَإِنَّهُ لَا خَيْرَ فِي ثَمَرَةٍ لَا تُزَكَّى. قَالُوا: كَمْ؟ فَقُلْت: الْعُشْرُ. فَأَخَذْت مِنْهُمْ الْعُشْرَ، فَأَتَيْت عُمَرَ فَأَخْبَرْته، فَقَبَضَهُ، وَبَاعَهُ، وَجَعَلَهُ فِي صَدَقَاتِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ صَحَّ هَذَا كَانَ بِطَوَاعِيَتِهِمْ صَدَقَةً نَافِلَةً، وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا نَحْنُ فِي فَرْضِ أَصْلِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ فِيهِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الْعَاشِرَة قَوْله تَعَالَى وَاَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا] وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل: 72]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [النحل: 72]: يَعْنِي مِنْ جِنْسِكُمْ، يَعْنِي مِنْ الْآدَمِيِّينَ، رَدًّا عَلَى الْعَرَبِ الَّتِي كَانَتْ تَعْتَقِدُ أَنَّهَا تَتَزَوَّجُ الْجِنَّ وَتُبَاضِعُهَا، حَتَّى رَوَتْ أَنَّ عَمْرَو بْنَ هِنْدٍ تَزَوَّجَ مِنْهُمْ غُولًا، وَكَانَ يَخْبَؤُهَا عَنْ الْبَرْقِ، لِئَلَّا تَرَاهُ فَتَنْفِرَ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي لَمَحَ الْبَرْقَ وَعَايَنَتْهُ السِّعْلَاةُ

فَقَالَتْ: عَمْرُو، وَنَفَرَتْ فَلَمْ يَرَهَا أَبَدًا، وَهَذَا مِنْ أَكَاذِيبِهَا، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي حُكْمِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ، رَدًّا عَلَى الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ وُجُودَ الْجِنِّ، وَيُحِيلُونَ طَعَامَهُمْ وَنِكَاحَهُمْ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف: 189] حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {أَزْوَاجًا} [النحل: 72]: زَوْجُ الْمَرْأَةِ هِيَ ثَانِيَتُهُ، فَإِنَّهُ فَرْدٌ، فَإِذَا انْضَافَتْ إلَيْهِ كَانَا زَوْجَيْنِ، وَإِنَّمَا جُعِلَتْ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ دُونَهَا؛ لِأَنَّهُ أَصْلُهَا فِي الْوُجُودِ، وَقِوَامُهَا فِي الْمَعَاشِ، وَأَمِيرُهَا فِي التَّصَرُّفِ، وَعَاقِلُهَا فِي النِّكَاحِ، وَمُطْلِقُهَا مِنْ قَيْدِهِ، وَعَاقِلُ الصَّدَاقِ وَالنَّفَقَةِ عَنْهَا فِيهِ، وَوَاحِدٌ مِنْ هَذَا كُلِّهِ يَكْفِي لِلْأَصَالَةِ، فَكَيْفَ بِجَمِيعِهَا؟. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72]: وُجُودُ الْبَنِينَ يَكُونُ مِنْهُمَا مَعًا، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ تَخَلُّقُ الْمَوْلُودِ فِيهَا، وَوُجُودُهُ ذَا رُوحٍ وَصُورَةٍ بِهَا، وَانْفِصَالُهُ كَذَلِكَ عَنْهَا، أُضِيفَ إلَيْهَا، وَلِأَجْلِهِ تَبِعَهَا فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، وَصَارَ مِثْلَهَا فِي الْمَالِيَّةِ. سَمِعْت إمَامَ الْحَنَابِلَةِ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ أَبُو الْوَفَاءِ عَلِيُّ بْنُ عَقِيلٍ يَقُولُ: إنَّمَا تَبِعَ الْوَلَدُ الْأُمَّ فِي الْمَالِيَّةِ، وَصَارَ بِحُكْمِهَا فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ انْفَصَلَ عَنْ الْأَبِ نُطْفَةً لَا قِيمَةَ لَهُ، وَلَا مَالِيَّةَ فِيهِ، وَلَا مَنْفَعَةَ مَثْبُوتَةَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا اكْتَسَبَ مَا اكْتَسَبَ بِهَا وَمِنْهَا، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ تَبِعَهَا، كَمَا لَوْ أَكَلَ رَجُلٌ تَمْرًا فِي أَرْضِ رَجُلٍ، فَسَقَطَتْ مِنْهُ نَوَاةٌ فِي الْأَرْضِ مِنْ يَدِ الْآكِلِ، فَصَارَتْ نَخْلَةً، فَإِنَّهَا مِلْكُ صَاحِبِ الْأَرْضِ دُونَ الْآكِلِ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّهَا انْفَصَلَتْ مِنْ الْآكِلِ وَلَا قِيمَةَ لَهَا؛ وَهَذِهِ مِنْ الْبَدَائِعِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: {وَحَفَدَةً} [النحل: 72]: وَفِيهَا ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ الْأَخْتَانُ؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ.

الثَّانِي: أَنَّهُمْ الْأَصْهَارُ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّالِثُ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: الْخَتَنُ الزَّوْجُ، وَمَنْ كَانَ مِنْ ذَوِي رَحِمِهِ. وَالصِّهْرُ مَنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ مِنْ الرِّجَالِ. الرَّابِعُ: أَنَّهَا ضِدُّ ذَلِكَ؛ قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ. الْخَامِسُ: قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْخَتَنُ مَنْ كَانَ مِنْ الرِّجَالِ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ، وَالْأَصْهَارُ مِنْهُمَا جَمِيعًا. السَّادِسُ: الْحَفَدَةُ: أَعْوَانُ الرَّجُلِ وَخَدَمِهِ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَعَانَك فَقَدْ حَفَدَك؛ وَبِهِ قَالَ عِكْرِمَةُ. السَّابِعُ: حَفَدَةُ الرَّجُلِ أَعْوَانُهُ مِنْ وَلَدِهِ. الثَّامِنُ: أَنَّهُ وَلَدُ الرَّجُلِ وَوَلَدُ وَلَدِهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: هَذِهِ الْأَقْوَالُ كَمَا سَرَدْنَاهَا إمَّا أُخِذَتْ عَنْ لُغَةٍ، وَإِمَّا عَنْ تَنْظِيرٍ، وَإِمَّا عَنْ اشْتِقَاقٍ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54]؛ فَالنَّسَبُ مَا دَارَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ. وَالصِّهْرُ مَا تَعَلَّقَ بِهِمَا، وَيُقَالُ أَخْتَانُ الْمَرْأَةِ وَأَصْهَارُ الرَّجُلِ عُرْفًا وَلُغَةً، وَيُقَالُ لِوَلَدِ الْوَلَدِ: الْحَفِيدُ، وَيُقَالُ: حَفِيدُهُ يَحْفِدُهُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي وَكَسْرِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ إذَا خَدَمَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الدُّعَاءِ: وَإِلَيْك نَسْعَى وَنَحْفِدُ. فَالظَّاهِرُ عِنْدِي مِنْ قَوْلِهِ: {بَنِينَ} [النحل: 72] أَوْلَادُ الرَّجُلِ مِنْ صُلْبِهِ، وَمِنْ قَوْلِهِ: {وَحَفَدَةً} [النحل: 72] أَوْلَادُ وَلَدِهِ. وَلَيْسَ فِي قُوَّةِ اللَّفْظِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا. وَنَقُولُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا: وَاَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا، وَمِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ، وَمِنْ الْبَنِينَ حَفَدَةً. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ: وَاَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً، فَيَكُونُ الْبَنُونَ مِنْ الْأَزْوَاجِ، وَالْحَفَدَةُ مِنْ الْكُلِّ مِنْ زَوْجٍ وَابْنٍ، يُرِيدُ بِهِ خُدَّامًا يَعْنِي أَنَّ الْأَزْوَاجَ وَالْبَنِينَ يَخْدُمُونَ الرَّجُلَ بِحَقِّ قِوَامِيَّتِهِ وَأُبُوَّتِهِ. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يَخْدُمُ الرَّجُلُ زَوْجَهُ فِيمَا خَفَّ مِنْ الْخِدْمَةِ وَيُعِينُهَا. وَقَدْ قَالُوا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: يَخْدُمُهَا. وَقَالُوا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: يُنْفِقُ عَلَى خَادِمٍ وَاحِدَةٍ. وَفِي رِوَايَةٍ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ

وَاحِدَةٍ عَلَى قَدْرِ الثَّرْوَةِ وَالْمَنْزِلَةِ؛ وَهَذَا أَمْرٌ دَائِرٌ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ الَّذِي هُوَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّ نِسَاءَ الْأَعْرَابِ وَسُكَّانَ الْبَادِيَةِ يَخْدُمْنَ أَزْوَاجَهُنَّ حَتَّى فِي اسْتِعْذَابِ الْمَاءِ وَسِيَاسَةِ الدَّوَابِّ. وَنِسَاءَ الْحَوَاضِرِ يَخْدُمُ الْمُقِلُّ مِنْهُمْ زَوْجَهُ فِيمَا خَفَّ وَيُعِينُهَا. وَأَمَّا أَهْلُ الثَّرْوَةِ فَيَخْدُمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَيَتَرَفَّهْنَ مَعَهُمْ إذَا كَانَ لَهُمْ مَنْصِبٌ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ أَمْرًا مُشْكِلًا شَرَطَتْ عَلَيْهِ الزَّوْجَةُ ذَلِكَ، فَتَشْهَدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ عَرَفَ أَنَّهَا مِمَّنْ لَا تَخْدُمُ نَفْسَهَا، فَالْتَزَمَ إخْدَامَهَا؛ فَيُنَفِّذُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَتَنْقَطِعُ الدَّعْوَى فِيهِ. وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ فِي الْآيَةِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: وَسَأَلْته عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72] مَا الْحَفَدَةُ؟ قَالَ: الْخَدَمُ وَالْأَعْوَانُ فِي رَأْيٍ. وَيُرْوَى أَنَّ الْحَفَدَةَ الْبَنَاتُ يَخْدُمْنَ الْأَبَوَيْنِ فِي الْمَنَازِلِ. وَيُرْوَى أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: {وَحَفَدَةً} [النحل: 72] قَالَ: هُمْ الْأَعْوَانُ؛ مَنْ أَعَانَك فَقَدْ حَفَدَك. قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَتَقُولُهُ. أَمَا سَمِعْت قَوْلَ الشَّاعِرِ: حَفَدَ الْوَلَائِدُ حَوْلَهُنَّ وَأُلْقِيَتْ ... بِأَكُفِّهِنَّ أَزِمَّةُ الْأَجْمَالِ وَتَصْرِيفُ الْفِعْلِ حَفَدَ يَحْفِدُ كَمَا قَدَّمْنَا حَفْدًا وَحُفُودًا وَحَفَدَانًا. وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: إنَّ الْحَفَدَةَ عِنْدَ الْعَرَبِ الْخَدَمُ، وَكَفَى بِمَالِكٍ فَصَاحَةً، وَهُوَ مَحْضُ الْعَرَبِ فِي قَوْلِهِ: إنَّهُمْ الْخَدَمُ. وَبِقَوْلِ الْخَلِيلِ، وَهُوَ ثِقَةٌ فِي نَقْلِهِ عَنْ الْعَرَبِ؛ فَخَرَجَتْ خِدْمَةُ الْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ مِنْ الْقُرْآنِ بِأَبْدَعَ بَيَانٍ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ «أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِدِيَّ دَعَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُرْسِهِ، فَكَانَتْ امْرَأَتُهُ خَادِمَهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَهِيَ الْعَرُوسُ، فَقَالَ: أَوَتَدْرُونَ مَا أَنَقَعْت لِرَسُولِ اللَّهِ؟ أَنَقَعْت لَهُ تَمَرَاتٍ مِنْ اللَّيْلِ فِي تَوْرٍ».

وَكَذَلِكَ رُوِيَ «عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ، فَإِذَا سَمِعَ الْأَذَانَ خَرَجَ». وَهَذَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ: وَيُعِينُهَا. وَفِي أَخْلَاقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «كَانَ يَخْصِفُ النَّعْلَ، وَيَقُمُّ الْبَيْتَ، وَيَخِيطُ الثَّوْبَ». وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَعُودُ الْمَرِيضَ، وَيَشْهَدُ الْجِنَازَةَ، وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْعَبْدِ، وَكَانَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ عَلَى حِمَارٍ مَخْطُومٍ بِحَبْلٍ مِنْ لِيفٍ عَلَيْهِ إكَافٌ مِنْ لِيفٍ». وَقَالَ «عَنْ عَائِشَةَ وَقَدْ قِيلَ لَهَا: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَعْمَلُ فِي الْبَيْتِ؟ قَالَتْ: كَانَ بَشَرًا مِنْ الْبَشَرِ، يُفَلِّي ثَوْبَهُ، وَيَحْلِبُ شَاتَهُ، وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ». قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: حَتَّى فِي وُضُوئِهِ؛ فَرُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ عَنْ «ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ فِي لَيْلَةٍ كَانَتْ لَا تُصَلِّي فِيهَا، فَأَوَى رَسُولُ اللَّهِ إلَى فِرَاشِهِ، فَلَمَّا كَانَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ قَامَ فَخَرَجَ إلَى الْحُجْرَةِ فَقَلَّبَ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ وَجْهَهُ، ثُمَّ قَالَ: نَامَتْ الْعُيُونُ، وَغَارَتْ النُّجُومُ، وَاَللَّهُ حَيٌّ قَيُّومٌ ثُمَّ عَمَدَ إلَى قِرْبَةٍ فِي جَانِبِ الْحُجْرَةِ فَحَلَّ شِنَاقَهَا ثُمَّ تَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ». خَرَّجَهُ ابْنُ حَمَّادٍ الْحَافِظُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ التَّقَصِّي وَغَيْرِهِ. وَمِنْ أَفْضَلِ مَا يَخْدُمُ الْمَرْءُ فِيهِ نَفْسَهُ الْعِبَادَاتُ الَّتِي يَتَقَرَّبُ بِهَا إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ حَتَّى يَكُونَ عَمَلُهَا كُلِّهَا لِوَجْهِ اللَّهِ، وَعَمَلُ شُرُوطِهَا وَأَسْبَابِهَا كُلِّهَا مِنْهُ؛ فَذَلِكَ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ إذَا أَمْكَنَ. وَقَدْ خَرَّجَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ: «سَأَلْت عَائِشَةَ مَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَ: كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ، فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ

الآية الحادية عشرة قوله تعالى ضرب الله مثلا عبدا مملوكا

خَرَجَ». وَمِنْ الرُّوَاةِ مَنْ قَالَ: إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ خَرَجَ قَالَ الْإِمَامُ يَعْنِي الْإِقَامَةَ. [الْآيَة الْحَادِيَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا] لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل: 75]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ فِي قَوْلٍ، وَلِلْمَخْلُوقِ وَالْخَالِقِ فِي [قَوْلٍ] آخَرَ، مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَبْدَ الْمَمْلُوكَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ هُوَ الْكَافِرُ، وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا هُوَ الْمُؤْمِنُ، آتَاهُمَا اللَّهُ مَالًا كَثِيرًا وَرِزْقًا وَاسِعًا، فَأَمَّا الْكَافِرُ فَبَخِلَ بِهِ وَأَمْسَكَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَقَلَّبَ بِهِ فِي ذَاتِ اللَّهِ يَمِينًا وَشِمَالًا هَكَذَا وَهَكَذَا سِرًّا وَجِهَارًا. وَأَمَّا الْمَعْنَى عَلَى ضَرْبِ الْمَثَلِ لِلْمَخْلُوقِ وَالْخَالِقِ فَهُوَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْعَبْدَ الْمَمْلُوكَ هُوَ الصَّبِيُّ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ لِغِرَارَتِهِ وَجَهَالَتِهِ، كَمَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]. وَضَرَبَ الْمَثَلَ بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 75] لِلَّهِ. وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِنَفْسِهِ عَلَى وَجْهٍ بَدِيعٍ بَيَّنَّاهُ فِي قَانُونِ التَّأْوِيلِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ فِيهِ، وَقَالَ: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل: 74] [يَعْنِي لَا تَضْرِبُوا] أَنْتُمْ الْأَمْثَالَ لِلَّهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَقُولُ وَيُرِيدُ، وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا تَقُولُونَ وَمَا تُرِيدُونَ، إلَّا إذَا عَلِمْتُمْ وَأَذِنَ لَكُمْ فِي الْقَوْلِ.

مسألة حال العبيد المماليك

[مَسْأَلَة حَالُ الْعَبِيدِ الْمَمَالِيكِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75]: إثْبَاتٌ فِي نَكِرَةٍ، فَلَيْسَ يَقْتَضِي الشُّمُولَ، وَلَا يُعْطِي الْعُمُومَ؛ وَإِنَّمَا يُفِيدُ وَاحِدًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ يَقْدِرُ بِأَنْ يُقْدِرَهُ مَوْلَاهُ، فَيَنْقَسِمُ حَالُ الْعَبِيدِ الْمَمَالِيكِ إلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَكُونُ فِي أَصْلِ وَضْعِهِ لَا يَقْدِرُ. الثَّانِي: أَنْ يَقْدِرَ بِأَنْ تُوضَعَ لَهُ الْقُدْرَةُ، وَيُمَكَّنَ مِنْ التَّصَرُّفِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَقْدِرُ وَإِنْ أُقْدِرَ وَلَا يَمْلِكُ وَإِنْ مُلِّكَ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ. وَتَعَلَّقَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ، فَلَا يَمْلِكُ. أَصْلُهُ الْبَهِيمَةُ قَالَ أَهْلُ خُرَاسَانَ: وَهَذَا الْفِقْهُ صَحِيحٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَمْلُوكِيَّةَ تُنَافِي الْمَالِكِيَّةَ؛ فَإِنَّ الْمَمْلُوكِيَّةَ تَقْتَضِي الْحَجْرَ وَالْمَنْعَ، وَالْمَالِكِيَّةَ تَقْتَضِي الْإِذْنَ وَالْإِطْلَاقَ؛ فَلَمَّا تَنَاقَضَا لَمْ يَجْتَمِعَا. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّ الْحَيَاةَ وَالْآدَمِيَّةَ عِلَّةُ الْمِلْكِ، فَهُوَ آدَمِيٌّ حَيٌّ، فَجَازَ أَنْ يَمْلِكَ كَالْحُرِّ، وَإِنَّمَا طَرَأَ عَلَيْهِ الرِّقُّ عُقُوبَةً، فَصَارَ لِلسَّيِّدِ عَلَيْهِ حَقُّ الْحَجْرِ، وَذِمَّتُهُ خَالِيَةٌ عَنْ ذَلِكَ، فَإِذَا أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ وَفَكَّ الْحَجْرَ عَنْهُ رَجَعَ إلَى أَصْلِهِ فِي الْمَالِكِيَّةِ بِعِلَّةِ الْحَيَاةِ وَالْآدَمِيَّةِ وَبَقَاءِ ذِمَّتِهِ خَالِيَةً عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ»، فَأَضَافَ الْمَالَ إلَى الْعَبْدِ، وَمَلَّكَهُ إيَّاهُ، وَجَعَلَهُ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا لَهُ.

فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ إضَافَةُ مَحَلٍّ، كَمَا يُقَالُ سَرْجُ الدَّابَّةِ وَبَابُ الدَّارِ، فَيُضَافُ ذَلِكَ إلَيْهَا، إضَافَةَ مَحَلٍّ لَا إضَافَةَ تَمْلِيكٍ. قُلْنَا: إنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ إضَافَةُ مَحَلٍّ؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ وَالدَّارَ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا الْمِلْكُ وَلَا يَصِحُّ لَهُمَا التَّمْلِيكُ؛ بِخِلَافِ الْعَبْدِ، فَإِنَّهُ آدَمِيٌّ حَيٌّ، فَصَحَّ أَنْ يَمْلِكَ وَيُمَلَّكَ، وَجَازَ أَنْ يَقْدِرَ وَيُقْدَرَ. وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ لِرَأْيِهِمْ الْمُفْسِدُ لِكَلَامِهِمْ أَنَّهُ إذَا أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي النِّكَاحِ جَازَ، فَنَقُولُ: مَنْ مَلَكَ الْأَبْضَاعَ مَلَكَ الْمَتَاعَ كَالْحُرِّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْبُضْعَ أَشْرَفُ مِنْ الْمَالِ، فَإِذَا مَلَكَ الْبُضْعَ بِالْإِذْنِ فَأَوْلَى وَأَحْرَى أَنْ يَمْلِكَ الْمَالَ الَّذِي هُوَ دُونَهُ فِي الْحُرْمَةِ بِالْإِذْنِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا جَازَ لَهُ النِّكَاحُ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ يَشْتَهِي طَبْعًا؛ فَلَوْ مَنَعْنَاهُ اسْتِيفَاءَ شَهْوَتِهِ الْجِبِلِّيَّةِ لَأَضْرَرْنَا بِهِ، وَلَوْ سَلَّطْنَاهُ عَلَى اقْتِضَائِهَا بِصِفَةِ الْبَهَائِمِ، لَعَطَّلْنَا التَّكْلِيفَ؛ فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى الْإِذْنِ فِي النِّكَاحِ لَهُ؛ إذْ لَا يَصِحُّ الِانْتِفَاعُ بِالْبُضْعِ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ، بِخِلَافِ الْمَالِ، فَإِنَّهُ يُسْتَبَاحُ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ بِالْأَكْلِ وَاللِّبَاسِ وَالرُّكُوبِ، وَيَكْفِي فِيهِ مُجَرَّدُ الْإِذْنِ وَالْإِبَاحَةِ دُونَ التَّمْلِيكِ، وَهَذِهِ عُمْدَتُهُمْ. وَقَدْ أَجَابَ عَنْهَا عُلَمَاؤُنَا بِأَجْوِبَةٍ كَثِيرَةٍ؛ عُمْدَتُهَا أَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تُبِيحُ الْفُرُوجَ، وَإِنَّمَا إبَاحَتُهَا فِي الْأَصْلِ طَلَبًا لِلنَّسْلِ بِتَكْثِيرِ الْخَلْقِ، وَتَنْفِيذًا لِلْوَعْدِ؛ فَبِهَذِهِ الْحِكْمَةِ وُضِعَتْ إبَاحَتُهَا، وَشُرِعَ النِّكَاحُ لِاسْتِبْقَائِهَا. فَقَوْلُهُمْ: إنَّهَا أُبِيحَتْ ضَرُورَةً غَلَطٌ. وَقَدْ أَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ النِّكَاحَ لَوْ كَانَ مُبَاحًا لَهُ بِالضَّرُورَةِ لَتَقَدَّرَ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ إلَّا نِكَاحُ وَاحِدَةٍ. فَإِنْ قُلْتُمْ: إنَّهَا رُبَّمَا لَا تَعْصِمُهُ، فَكَانَ مِنْ حَقِّكُمْ أَنْ تُبَلِّغُوهُ إلَى أَرْبَعٍ، كَمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ اسْتَدْلَلْنَا بِهِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ إنَّمَا جَرَى عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيلِ، لَا بِحُكْمِ الضَّرُورَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الْمَمْلُوكِيَّةَ تُنَاقِضُ الْمَالِكِيَّةَ عَلَى مَا بَسَطُوهُ، فَلَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُنَاقِضُهَا إذَا تَقَابَلَتَا بِالْبُدَاءَةِ. فَأَمَّا إذْ كَانَ الْحَجْرُ طَارِئًا بِالرِّقِّ، وَكَانَ الْأَصْلُ بِالْحَيَاةِ

الآية الثانية عشرة قوله تعالى والله جعل لكم من بيوتكم سكنا

وَالْآدَمِيَّةِ الْإِطْلَاقُ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَرْفَعَ الْمَالِكُ لِلْحَجْرِ حُكْمَهُ بِالْإِذْنِ، كَمَا يَرْتَفِعُ فِي النِّكَاحِ. وَلَا جَوَابَ لَهُمْ عَنْ هَذَا. [الْآيَة الثَّانِيَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَاَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا] الْآيَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80]. فِيهَا ثَمَانِي مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النحل: 80]: اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ لِسُلُوكِ سَبِيلِ الْمَعَارِفِ أَنَّ كُلَّ مَا عَلَاك فَأَظَلَّك فَهُوَ سَقْفٌ، وَكُلَّ مَا أَقَلَّك فَهُوَ أَرْضٌ، وَكُلَّ مَا سَتَرَك مِنْ جِهَاتِك الْأَرْبَعِ فَهُوَ جِدَارٌ، فَإِذَا انْتَظَمَتْ وَاتَّصَلَتْ فَهُوَ بَيْتٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {سَكَنًا} [النحل: 80]: يَعْنِي مَحَلًّا تَسْكُنُونَ فِيهِ، وَتَهْدَأُ جَوَارِحُكُمْ عَنْ الْحَرَكَةِ، وَقَدْ تَتَحَرَّكُ فِيهِ، وَتَسْكُنُ فِي غَيْرِهِ، إلَّا أَنَّ الْقَوْلَ خَرَجَ فِيهِ عَلَى غَالِبِ الْحَالِ، وَهُوَ أَنَّ الْحَرَكَةَ تَكُونُ فِيمَا خَرَجَ عَنْ الْبَيْتِ، فَإِذَا عَادَ الْمَرْءُ إلَيْهِ سَكَنَ. وَبِهَذَا سُمِّيَتْ مَسَاكِنُ لِوُجُودِ السُّكُونِ فِيهَا فِي الْأَغْلَبِ، وَعُدَّ هَذَا فِي جُمْلَةِ النِّعَمِ، فَإِنَّهُ لَوْ خُلِقَ الْعَبْدُ مُضْطَرِبًا أَبَدًا كَالْأَفْلَاكِ لَكَانَ ذَلِكَ كَمَا خُلِقَ وَأَرَادَ، وَلَوْ خُلِقَ سَاكِنًا كَالْأَرْضِ لَكَانَ كَمَا خُلِقَ وَأَرَادَ، وَلَكِنَّهُ أَوْجَدَهُ خَلْقًا يَتَصَرَّفُ بِالْوَجْهَيْنِ، وَيَخْتَلِفُ حَالُهُ بَيْنَ الْحَالَيْنِ، وَرَدَّدَهُ بَيْنَ كَيْفَ وَأَيْنَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا} [النحل: 80]: يَعْنِي جُلُودَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، فَإِنَّهُ يُتَّخَذُ مِنْهَا بُيُوتًا، وَهِيَ الْأَخْبِيَةُ، فَتُضْرَبُ فَيُسْكَنُ فِيهَا، وَيَكُونُ بُنْيَانًا عَالِيهَا وَنَوَاحِيهَا، وَهَذَا أَمْرٌ انْتَشَرَ فِي تِلْكَ الدِّيَارِ، وَعَرِيَتْ عَنْهُ بِلَادُنَا، فَلَا تُضْرَبُ الْأَخْبِيَةُ إلَّا مِنْ الْكَتَّانِ وَالصُّوفِ. وَقَدْ «كَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

قُبَّةً مِنْ أَدَمٍ»، وَنَاهِيَك بِأَدِيمِ الطَّائِفِ غَلَاءً فِي الْقِيمَةِ، وَاعْتِلَاءً فِي الصِّفَةِ، وَحُسْنًا فِي الْبَشَرَةِ. وَلَمْ يُعَدَّ ذَلِكَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرَفًا وَلَا رَآهُ سَرَفًا؛ لِأَنَّهُ مِمَّا امْتَنَّ اللَّهُ بِهِ مِنْ نِعَمِهِ، وَأَذِنَ فِيهِ مِنْ مَتَاعِهِ، وَظَهَرَتْ وُجُوهُ مَنْفَعَتِهِ فِي الِاكْتِنَانِ وَالِاسْتِظْلَالِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ عَنْهُ جِنْسُ الْإِنْسَانِ. وَمِنْ غَرِيبِ مَا جَرَى أَنِّي زُرْت بَعْضَ الْمُتَزَهِّدِينَ مِنْ الْغَافِلِينَ مَعَ بَعْضِ رِجَالِ الْمُحَدِّثِينَ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فِي خِبَاءِ كَتَّانٍ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ صَاحِبِي الْمُحَدِّثُ أَنْ يَحْمِلَهُ إلَى مَنْزِلِهِ ضَيْفًا، وَقَالَ: إنَّ هَذَا مَوْضِعٌ يَكْثُرُ فِيهِ الْحَرُّ، وَالْبَيْتُ أَرْفَقُ بِك، وَأَطْيَبُ لِنَفْسِي فِيك. فَقَالَ لَهُ: هَذَا الْخِبَاءُ لَنَا كَثِيرٌ، وَكَانَ فِي صِنْفِهَا مِنْ الْحَقِيرِ. فَقُلْت لَهُ: لَيْسَ كَمَا زَعَمْت، قَدْ كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ رَئِيسُ الزُّهَّادِ قُبَّةٌ مِنْ أَدَمٍ طَائِفِيٍّ يُسَافِرُ مَعَهَا، وَيَسْتَظِلُّ بِهَا، فَبَهَتَ وَرَأَيْته عَلَى مَنْزِلَةٍ مِنْ الْعِيِّ، فَتَرَكْته مَعَ صَاحِبِي، وَخَرَجْت عَنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} [النحل: 80]: أَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالِانْتِفَاعِ بِصُوفِ الْغَنَمِ، وَوَبَرِ الْإِبِلِ، وَشَعْرِ الْمَعْزِ، كَمَا أَذِنَ فِي الْأَعْظَمِ، وَهُوَ ذَبْحُهَا وَأَكْلُ لُحُومِهَا. كَمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ لَنَا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، وَعَلِمَ كَيْفِيَّةَ الِانْتِفَاعِ بِهَا. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {أَثَاثًا} [النحل: 80]: هُوَ كُلُّ مَا يَحْتَاجُ الْمَرْءُ إلَى اسْتِعْمَالِهِ مِنْ آلَةٍ، وَيَفْتَقِرُ إلَيْهِ فِي تَصْرِيفِ مَنَافِعِهِ مِنْ حَاجَةٍ، وَمِنْهُ أَثَاثُ الْبَيْتِ، وَأَصْلُهُ مِنْ الْكَثْرَةِ، يُقَالُ: أَثَّ النَّبْتُ يَئِثُّ، إذَا كَثُرَ، وَكَذَلِكَ الشَّعْرُ يُقَالُ: شَعْرٌ أَثِيثٌ، إذَا كَانَ كَثِيرًا مُلْتَفًّا. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: {وَمَتَاعًا} [النحل: 80]: وَهُوَ كُلُّ مَا انْتَفَعَ بِهِ الْمَرْءُ فِي مَصَالِحِهِ، وَصَرَفَهُ فِي حَوَائِجِهِ، يُقَالُ: تَمَتَّعَ الرَّجُلُ بِمَالِهِ إذَا نَالَ لَذَّتَهُ، وَبِبَدَنِهِ إذَا وَجَدَ صِحَّتَهُ، وَبِأَهْلِهِ إذَا أَصَابَ حَاجَتَهُ، وَبِبَنِيهِ إذَا ظَهَرَ بِنُصْرَتِهِمْ، وَبِجِيرَتِهِ إذَا رَأَى مَنْفَعَتَهُمْ.

مسألة هل الموت يؤثر في تحريم الصوف والوبر والشعر

[مَسْأَلَة هَلْ الْمَوْتَ يُؤَثِّرُ فِي تَحْرِيمِ الصُّوفِ وَالْوَبَرِ وَالشَّعْرِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {إِلَى حِينٍ} [النحل: 80]: وَاخْتُلِفَ فِيهِ، فَقِيلَ: إلَى أَنْ يَفْنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالِاسْتِعْمَالِ. وَقِيلَ: إلَى حِينِ الْمَوْتِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ التَّأْوِيلِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: إنَّ الْمَوْتَ لَا يُؤَثِّرُ فِي تَحْرِيمِ الصُّوفِ وَالْوَبَرِ، وَالشَّعْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهَا إذْ الْمَوْتُ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْنًى يَحِلُّ بَعْدَ عَدَمِ الْحَيَاةِ، وَلَمْ تَكُنْ الْحَيَاةُ فِي الصُّوفِ وَالْوَبَرِ وَالشَّعْرِ فَيَخْلُفُهَا الْمَوْتُ فِيهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يَحْرُمُ بِالْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَيِّتَةِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْتُ يَحِلُّ بِبَعْضِهَا. وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ هَذَا أَنَّ الْمَيْتَةَ وَإِنْ كَانَ اسْمًا يَنْطَلِقُ عَلَى الْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ بِالْحَقِيقَةِ إلَى مَا فِيهِ حَيَاةٌ، فَنَحْنُ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا نَعْدِلُ عَنْهَا إلَى سِوَاهَا. وَقَدْ تَعَلَّقَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِمْ بِأَنَّ الْمَوْتَ وَإِنْ كَانَ لَا يَحِلُّ الصُّوفَ وَالْوَبَرَ وَالشَّعْرَ، وَلَكِنَّ الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْجُثَّةِ تَتَعَدَّى إلَى هَذِهِ الْأَجْزَاءِ مِنْ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ وَالْأَرْشِ، وَتَتْبَعُهَا فِي حُكْمِ الْإِحْرَامِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ، فَكَذَلِكَ الطَّهَارَةُ وَالتَّنْجِيسُ. وَتَحْرِيرُهُ أَنْ نَقُولَ: حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَجْزَاءِ مِنْ الْجُمْلَةِ، أَصْلُهُ سَائِرُ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ، وَهَذَا لَا تَعْوِيلَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْحَقِيقَةَ مَعَنَا، وَأَمَّا الْأَحْكَامُ فَهِيَ مُتَعَارِضَةٌ، فَلَئِنْ شَهِدَ لَهُ مَا ذُكِرَ مِنْ الْأَحْكَامِ عَلَى اتِّبَاعِ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ لِلْجُمْلَةِ فَلْيَشْهَدَنَّ لَنَا بِانْفِصَالِ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ عَنْ الْجُمْلَةِ الْحُكْمُ الْأَكْبَرُ، وَهِيَ إبَانَتُهَا عَنْ الْجُثَّةِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ وَإِزَالَتُهَا مِنْهَا، وَهُوَ دَلِيلٌ يُعَضِّدُنَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ

مسألة معنى قوله تعالى ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها

الْأَجْزَاءُ تَابِعَةً فِي الْجُمْلَةِ لَتَنَجَّسَتْ بِإِبَانَتِهَا عَنْهَا، كَأَجْزَاءِ الْأَعْضَاءِ؛ وَإِذَا تَعَارَضَتْ الْأَحْكَامُ وَجَبَ التَّرْجِيحُ بِالْحَقِيقَةِ، عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ الَّتِي تَعَلَّقُوا بِهَا لَا حُجَّةَ فِيهَا؛ أَمَّا الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقَانِ بِاللَّذَّةِ، وَهِيَ فِي الشَّعْرِ كَمَا تَكُونُ فِي الْبَدَنِ. وَأَمَّا الْإِحْرَامُ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِإِلْقَاءِ التَّفَثِ، وَإِذْهَابِ الزِّينَةِ، وَالشَّعْرِ مِنْ ذَلِكَ الْوَصْفِ. وَأَمَّا الْأَرْشُ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِإِبْطَالِ الْجَمَالِ تَارَةً وَإِبْطَالِ الْمَنْفَعَةِ أُخْرَى، وَالْجَمَالُ وَالْمَنْفَعَةُ مَعًا مَوْجُودَانِ فِي الشَّعْرِ أَوْ أَحَدُهُمَا، بِخِلَافِ الطَّهَارَةِ وَالتَّنْجِيسِ، فَإِنَّهُ حُكْمٌ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَلَيْسَ لِلصُّوفِ وَلَا لِلْوَبَرِ وَلَا لِلشَّعْرِ مَدْخَلٌ بِحَالٍ. وَقَدْ عَوَّلَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ إمَامُ الشَّافِعِيَّةِ بِبَغْدَادَ عَلَى أَنَّ الشَّعْرَ وَالصُّوفَ وَالْوَبَرَ جُزْءٌ مُتَّصِلٌ بِالْحَيَوَانِ اتِّصَالَ خِلْقَةِ، يُنَمَّى بِنَمَائِهِ، فَيَنْجُسُ بِمَوْتِهِ، كَسَائِرِ الْأَجْزَاءِ. وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا بِأَنَّ النَّمَاءَ لَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى الْحَيَاةِ؛ فَإِنَّ النَّبَاتَ يُنَمَّى وَلَيْسَ بِحَيٍّ، وَإِذَا عَوَّلُوا عَلَى النَّمَاءِ الْمُتَّصِلِ بِالْحَيَوَانِ عَوَّلْنَا عَلَى الْإِبَانَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْإِحْسَاسِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْحَيَاةِ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْقَوْلَ فِيهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَأَشَرْنَا إلَيْهِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَبِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَتَحَصَّلُ الْعِلْمُ لَكُمْ، وَيَخْلُصُ مِنْ الْأَشْكَالِ عِنْدَكُمْ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} [النحل: 80]: وَلَمْ يَذْكُرْ الْقُطْنَ وَلَا الْكَتَّانَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ، وَإِنَّمَا عَدَّدَ عَلَيْهِمْ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَخُوطِبُوا فِيمَا عَرَفُوا بِمَا فَهِمُوا، وَمَا قَامَ مَقَامَ هَذِهِ وَنَابَ مَنَابَهَا يَدْخُلُ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَالنِّعْمَةِ مَدْخَلَهَا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} [النور: 43]؛ فَخَاطَبَهُمْ بِالْبَرَدِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ نُزُولَهُ كَثِيرًا عِنْدَهُمْ، وَسَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الثَّلْجِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي بِلَادِهِمْ، وَهُوَ مِثْلُهُ فِي الصِّفَةِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَقَدْ ذَكَرَهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعًا فِي التَّطْهِيرِ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي بِمَاءٍ وَثَلْجٍ وَبَرَدٍ، وَنَقِّنِي مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا، كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ الدَّنِسُ بِالْمَاءِ».

الآية الثالثة عشرة قوله تعالى والله جعل لكم مما خلق ظلالا

[الْآيَة الثَّالِثَةُ عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَاَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا] وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل: 81]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: عَدَّدَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ نِعَمِهِ مَا شَرَحَ فِيهَا، فَمِنْهَا الظِّلَالُ تَقِي مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ الَّذِي لَا تَحْتَمِلُهُ الْأَبْدَانُ، وَلَا يَبْقَى مَعَهُ، وَلَا دُونَهُ الْإِنْسَانُ، مِنْ شَجَرٍ وَحَجَرٍ وَغَمَامٍ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا الْجِبَالُ، وَهِيَ: [مَسْأَلَة كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَبَّدُ بِغَارِ حِرَاءٍ وَيَمْكُثُ فِيهِ اللَّيَالِيَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: خَلَقَهَا اللَّهُ عُدَّةً لِلْخَلْقِ، يَأْوُونَ إلَيْهَا، وَيَتَحَصَّنُونَ بِهَا، وَيَعْتَزِلُونَ الْخَلْقَ فِيهَا، فَقَدْ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَعَبَّدُ بِغَارِ حِرَاءٍ، وَيَمْكُثُ فِيهِ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ وَقَدْ خَرَجَ مُهَاجِرًا إلَى رَبِّهِ، هَارِبًا مِنْ قَوْمِهِ، فَارًّا بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ مَعَ أَصْحَابِهِ، وَاسْتَحْصَنَ بِغَارِ ثَوْرٍ، وَأَقَامَ فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ مَعَ الصِّدِّيقِ صَاحِبِهِ، ثُمَّ أَمْضَى هِجْرَتَهُ، وَأَنْفَذَ عَزْمَتَهُ حَتَّى انْتَهَى إلَى دَارِ هِجْرَتِهِ». وَقَدْ قِيلَ: أَرَادَ بِهِ السَّهْلَ وَالْجِبَالَ، وَلَكِنَّهُ حَذَفَ أَحَدَهُمَا لِدَلَالَةِ الْآخَرِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَمَا أَدْرِي إذَا يَمَّمْتُ أَرْضًا ... أُرِيدُ الْخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي أَأَلْخَيْرُ الَّذِي أَنَا مُبْتَغِيهِ ... أَمْ الشَّرُّ الَّذِي هُوَ يَبْتَغِينِي وَكَمَا قَالَ فِي الْحَرِّ بَعْدَ هَذَا: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] أَرَادَ وَالْبَرْدَ، فَحُذِفَ؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ أَحَدُهُمَا بَقِيَ الْآخَرُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]: وَالسِّرْبَالُ: كُلُّ مَا سَتَرَ بِاللِّبَاسِ مِنْ ثَوْبٍ مِنْ صُوفٍ أَوْ وَبَرٍ أَوْ شَعْرٍ أَوْ قُطْنٍ أَوْ

الآية الرابعة عشرة قوله تعالى إن الله يأمر بالعدل والإحسان

كَتَّانٍ. وَهَذِهِ نِعْمَةٌ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى الْآدَمِيِّ فَإِنَّهُ خَلَقَهُ عَارِيًّا، ثُمَّ جَعَلَهُ بِنِعْمَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَاسِيًا؛ وَسَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ سَرَابِيلُهَا جُلُودُهَا أَوْ مَا يَكُونُ مِنْ صُوفٍ أَوْ شَعْرٍ أَوْ وَبَرٍ عَلَيْهَا؛ فَشَرَّفَ الْآدَمِيَّ بِأَنْ كُسِيَ مِنْ أَجْزَاءٍ سِوَاهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} [النحل: 81]: يَعْنِي دُرُوعَ الْحَرْبِ؛ مَنَّ اللَّهُ بِهَا عَلَى الْعِبَادِ عُدَّةً لِلْجِهَادِ، وَعَوْنًا عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَعَلَّمَهَا، كَمَا عَلَّمَ صَنْعَةَ غَيْرِهَا، وَلَبِسَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ ظَاهَرَ يَوْمَ أُحُدٍ بَيْنَ دِرْعَيْنِ، تُقَاةَ الْجِرَاحَةِ، وَإِنْ كَانَ يَطْلُبُ الشَّهَادَةَ، كَمَا يَعُدُّ السَّيْفَ وَالرُّمْحَ وَالسَّهْمَ لِلْقَتْلِ بِهَا لِغَيْرِهِ، وَالْمُدَافَعَةِ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ يُنْفِذُ اللَّهُ مَا شَاءَ مِنْ حُكْمِهِ، وَلَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَطْلُبَ الشَّهَادَةَ بِأَنْ يَسْتَقْتِلَ مَعَ الْأَعْدَاءِ، وَلَا بِأَنْ يَسْتَسْلِمَ لِلْحُتُوفِ، وَلَكِنَّهُ يُقَاتِلُ لِتَكُونَ كَلِمَةَ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَيَأْخُذُ حِذْرَهُ، وَيَسْأَلُ اللَّهَ الشَّهَادَةَ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ، وَيُعْطِيه اللَّهُ بَعْدُ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل: 81] بِفَتْحِ التَّاءِ عَلَى [قِرَاءَةِ] مَنْ قَرَأَهَا كَذَلِكَ، وَمَنْ قَرَأَهَا بِالضَّمِّ فَمَعْنَاهُ لَعَلَّكُمْ تَنْقَادُونَ إلَى طَاعَتِهِ شُكْرًا عَلَى نِعْمَتِهِ. [الْآيَة الرَّابِعَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ] ِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]. فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى " قَوْله تَعَالَى: " بِالْعَدْلِ ": وَهُوَ مَعَ الْعَالَمِ، وَحَقِيقَتُهُ التَّوَسُّطُ بَيْنَ طَرَفَيْ النَّقِيضِ، وَضِدُّهُ الْجَوْرُ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْبَارِيَ خَلَقَ الْعَالَمَ مُخْتَلِفًا مُتَضَادًّا مُتَقَابِلًا مُزْدَوِجًا، وَجَعَلَ الْعَدْلَ فِي اطِّرَادِ الْأُمُورِ بَيْنَ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ جَارِيًا فِيهِ عَلَى الْوَسَطِ فِي كُلِّ مَعْنًى، فَالْعَدْلُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ

إيثَارُ حَقِّ اللَّهِ عَلَى حَظِّ نَفْسِهِ، وَتَقْدِيمُ رِضَاهُ عَلَى هَوَاهُ، وَالِاجْتِنَابُ لِلزَّوَاجِرِ، وَالِامْتِثَالُ لِلْأَوَامِرِ. وَأَمَّا الْعَدْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ فَمَنْعُهَا عَمَّا فِيهِ هَلَاكُهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] وَعُزُوبُ الْأَطْمَاعِ عَنْ الِاتِّبَاعِ، وَلُزُومُ الْقَنَاعَةِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَمَعْنًى. وَأَمَّا الْعَدْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلْقِ فَفِي بَذْلِ النَّصِيحَةِ، وَتَرْكِ الْخِيَانَةِ فِيمَا قَلَّ وَكَثُرَ، وَالْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِك لَهُمْ بِكُلِّ وَجْهٍ، وَلَا يَكُونُ مِنْك إلَى أَحَدٍ مَسَاءَةٌ بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ، لَا فِي سِرٍّ وَلَا فِي عَلَنٍ، حَتَّى بِالْهَمِّ وَالْعَزْمِ، وَالصَّبْرُ عَلَى مَا يُصِيبُك مِنْهُمْ مِنْ الْبَلْوَى، وَأَقَلُّ ذَلِكَ الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِك وَتَرْكُ الْأَذَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِحْسَانُ: وَهُوَ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ: فَأَمَّا فِي الْعِلْمِ فَبِأَنْ تَعْرِفَ حُدُوثَ نَفْسِك وَنَقْصَهَا، وَوُجُوبَ الْأَوَّلِيَّةِ لِخَالِقِهَا وَكَمَالِهِ. وَأَمَّا الْإِحْسَانُ فِي الْعَمَلِ فَالْحَسَنُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، حَتَّى إنَّ الطَّائِرَ فِي سِجْنِك، وَالسِّنَّوْرَ فِي دَارِك، لَا يَنْبَغِي أَنْ تُقَصِّرَ فِي تَعَهُّدِهِ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ امْرَأَةً دَخَلَتْ النَّارَ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا لَا هِيَ سَقَتْهَا وَلَا أَطْعَمَتْهَا وَلَا أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ». وَيُقَالُ: الْإِحْسَانُ أَلَّا تَتْرُكَ لِأَحَدٍ حَقًّا، وَلَا تَسْتَوْفِيَ مَا لَك. وَقَدْ «قَالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك». وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى مَا تَعْتَقِدُهُ الصُّوفِيَّةُ مِنْ مُشَاهَدَةِ الْحَقِّ فِي كُلِّ حَالٍ، وَالْيَقِينُ بِأَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْك؛ فَلَيْسَ مِنْ الْأَدَبِ أَنْ تَعْصِيَ مَوْلَاك بِحَيْثُ يَرَاك.

الآية الخامسة عشرة قوله تعالى وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90]: يَعْنِي: فِي صِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِيفَاءِ الْحُقُوقِ؛ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْعَدْلُ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ. وَكَذَلِكَ يَلْزَمُ إيتَاءُ حُقُوقِ الْخَلْقِ إلَيْهِمْ. وَإِنَّمَا خَصَّ ذَوِي الْقُرْبَى؛ لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ أَوْكَدُ، وَصِلَتَهُمْ أَوْجَبُ، لِتَأْكِيدِ حَقِّ الرَّحِمِ الَّتِي اشْتَقَّ اللَّهُ اسْمَهَا مِنْ اسْمِهِ، وَجَعَلَ صِلَتَهَا مِنْ صِلَتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْفَحْشَاءُ: وَذَلِكَ كُلُّ قَبِيحٍ، مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَغَايَتُهُ الزِّنَا؛ وَالْمُنْكَرُ مَا أَنْكَرَهُ الشَّرْعُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ؛ وَالْبَغْيُ هُوَ الْكِبْرُ وَالظُّلْمُ وَالْحَسَدُ وَالتَّعَدِّي، وَحَقِيقَتُهُ تَجَاوُزُ الْحَدِّ، مِنْ بَغَى الْجُرْحُ. فَهَذِهِ سِتُّ مَسَائِلَ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هَذِهِ أَجْمَعُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ لِخَيْرٍ يُمْتَثَلُ وَشَرٍّ يُجْتَنَبُ، وَأَرَادَ مَا قَالَ قَتَادَةُ: إنَّهُ لَيْسَ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْمَلُونَ بِهِ إلَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَلَا مِنْ خُلُقٍ سَيِّئٍ كَانُوا يَتَعَايَرُونَهُ بَيْنَهُمْ إلَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَأَنْ يُرِيدَ الْخَيْرَ لِلْخَلْقِ كُلِّهِمْ؛ إنْ كَانَ مُؤْمِنًا فَيَزْدَادُ إيمَانًا، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَيَتَبَدَّلُ إسْلَامًا، وَمُوَالَاةُ الْخَلْقِ بِالْبِشْرِ وَالسِّيَاسَةِ. وَلِهَذَا يُرْوَى أَنَّ عِيسَى عَرَضَ لَهُ كَلْبٌ أَوْ خِنْزِيرٌ فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ بِسَلَامٍ، إشَارَةً إلَى تَرْكِ الْإِذَايَةِ حَتَّى فِي الْحَيَوَانِيَّةِ الْمُؤْذِيَةِ. [الْآيَة الْخَامِسَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ] الْآيَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل: 91]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي ذِكْرِ الْعَهْدِ وَالْوَفَاءِ بِهِ: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَائِدَةِ وَالرَّعْدِ شَرْحُهُ وَأَشَرْنَا إلَيْهِ حَيْثُ وَقَعَ ذِكْرُهُ بِمَا أَمْكَنَ فِيهِ.

مسألة لماذ كرر اليمين مرارا أو كثرها أعدادا

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91]: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: أَمَّا التَّوْكِيدُ فَهُوَ حَلِفُ الْإِنْسَانِ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ مِرَارًا، يُرَدِّدُ فِيهِ الْأَيْمَانَ يَمِينًا بَعْدَ يَمِينٍ، كَقَوْلِهِ: وَاَللَّهِ لَا أَنْقُصُهُ مِنْ كَذَا وَكَذَا، يَحْلِفُ بِذَلِكَ مِرَارًا ثَلَاثَةً أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: كَفَّارَةُ ذَلِكَ وَاحِدَةٌ [إنَّمَا عَلَيْهِ] مِثْلُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: هِيَ فِي الْعُهُودِ، وَالْعَهْدُ يَمِينٌ، وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَهْدَ لَا يُكَفِّرُ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اسْتِهِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ، يُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ». وَأَمَّا الْيَمِينُ فَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ فِيهَا الْكَفَّارَةَ مُخَلِّصَةً مِنْهَا، وَحَالَّةُ مَا انْعَقَدَتْ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: التَّوْكِيدُ فِي الْيَمِينِ الْمُكَرَّرَةِ هُوَ أَنْ يَحْلِفَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ حَلَفَ مَرَّةً وَاحِدَةً فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَأَوْضَحْنَا صِحَّةَ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ، وَضَعْفَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. [مَسْأَلَة لماذ كَرَّرَ الْيَمِينَ مِرَارًا أَوْ كَثَّرَهَا أَعْدَادًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إنْ كَرَّرَ الْيَمِينَ مِرَارًا أَوْ كَثَّرَهَا أَعْدَادًا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ التَّأْكِيدَ مَعَ التَّوْحِيدِ، أَوْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ التَّأْكِيدَ مَعَ تَثْنِيَةِ الْيَمِينِ، فَإِنْ قَصَدَ بِذَلِكَ التَّأْكِيدَ مَعَ التَّوْحِيدِ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَانَ قَصَدَ التَّوْكِيدَ مَعَ تَثْنِيَةِ الْيَمِينِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: تَكُونُ يَمِينَيْنِ، وَقَالَ مَالِكٌ: تَكُونُ يَمِينًا وَاحِدَةً إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ كَفَّارَتَيْنِ. وَتَعَلَّقَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهَا تَثْنِيَةُ يَمِينٍ، فَتَثْنِيَةُ الْكَفَّارَةِ أَصْلٌ، فَلَهُ أَنْ يَعْقِدَهَا بِذَلِكَ.

الآية السادسة عشرة قوله تعالى فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم

وَعَوَّلَ مَالِكٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَصَدَ الْكَفَّارَةَ فَيَلْزَمُهُ مَا الْتَزَمَ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْصِدْ الْكَفَّارَةَ، وَإِنَّمَا قَصَدَ إلَى تَثْنِيَةِ الْيَمِينِ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى كَفَّارَتَيْنِ كَمَا لَوْ حَلَفَ بِيَمِينٍ وَاحِدَةٍ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَوْ شَيْئَيْنِ، فَإِنَّ كَفَّارَةً وَاحِدَةً تُجْزِيهِ. [الْآيَة السَّادِسَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ] ِ} [النحل: 98]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: انْتَهَى الْعِيُّ بِقَوْمٍ إلَى أَنْ قَالُوا: إنَّ الْقَارِئَ إذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ حِينَئِذٍ يَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: إذَا أَرَادَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ تَعَوَّذَ بِاَللَّهِ، وَتَأَوَّلُوا ظَاهِرَ " إذَا قَرَأْت " عَلَى أَنَّهُ إذَا أَرَدْت، كَمَا قَالَ: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] مَعْنَاهُ، إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ إلَى الصَّلَاةِ، وَكَقَوْلِهِ: إذَا أَكَلْت فَسَمِّ اللَّهَ؛ مَعْنَاهُ: إذَا أَرَدْت الْأَكْلَ. وَحَقِيقَةُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ " فَعَلَ " يَحْتَمِلُ ابْتَدَأَ الْفِعْلَ، وَيَحْتَمِلُ تَمَادِيهِ فِي الْفِعْلِ، وَيَحْتَمِلُ تَمَامَهُ لِلْفِعْلِ. وَحَقِيقَتُهُ تَمَامُ الْفِعْلِ وَفَرَاغُهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ قَوْمٍ أَنَّ حَقِيقَتَهُ كَانَ فِي الْفِعْلِ، وَاَلَّذِي رَأَيْنَاهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ بِنَاءَ الْمَاضِي هُوَ فَعَلَ، كَمَا أَنَّ بِنَاءَ الْحَالِ هُوَ يَفْعَلُ، وَهُوَ بِنَاءُ الْمُسْتَقْبَلِ بِعَيْنِهِ. وَيُخَلِّصُهُ لِلْحَالِ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِك الْآنَ، وَيُخَلِّصُهُ لِلِاسْتِقْبَالِ قَوْلُك سَيَفْعَلُ، هَذَا مُنْتَهَى الْحَقِيقَةِ فِيهِ. وَإِذَا قُلْنَا: قَرَأَ، بِمَعْنَى أَرَادَ، كَانَ مَجَازًا، وَوَجَدْنَا مُسْتَعْمَلًا، وَلَهُ مِثَالٌ فَحَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: وَمَا الْفَائِدَةُ فِي الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ الشَّيْطَانِ وَقْتَ الْقِرَاءَةِ؟ وَهِيَ:

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُلْنَا: فَائِدَتُهُ امْتِثَالُ الْأَمْرِ؛ وَلَيْسَ لِلشَّرْعِيَّاتِ فَائِدَةٌ إلَّا الْقِيَامُ بِحَقِّ الْوَفَاءِ فِي امْتِثَالِهَا أَمْرًا، أَوْ اجْتِنَابِهَا نَهْيًا. وَقَدْ قِيلَ: فَائِدَتُهَا الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] يَعْنِي فِي تِلَاوَتِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي جُزْءِ تَنْبِيهِ الْغَبِيِّ عَلَى مِقْدَارِ النَّبِيِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا افْتَتَحَ الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ كَبَّرَ، ثُمَّ يَقُولُ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك، وَتَبَارَكَ اسْمُك، وَتَعَالَى جَدُّك، وَلَا إلَهَ غَيْرُك، ثُمَّ يَقُولُ: لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ، ثَلَاثًا. ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، ثَلَاثًا، أَعُوذُ بِاَللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ»، ثُمَّ يَقْرَأُ. هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ، وَاللَّفْظُ لَهُ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَعَوَّذُ فِي صَلَاتِهِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ»، وَهَذَا نَصٌّ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يَرَى الْقِرَاءَةَ قَبْلَ الِاسْتِعَاذَةِ بِمُطْلَقِ ظَاهِرِ اللَّفْظِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَتَعَوَّذُ فِي الْفَرِيضَةِ، وَيَتَعَوَّذُ فِي النَّافِلَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ: فِي قِيَامِ رَمَضَانَ. وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ: " سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك " قَبْلَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَجْهَرُ بِذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ إسْكَاتَةً فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إسْكَاتُك بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ فِيهِ؟ قَالَ: أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ، كَمَا بَاعَدْت بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي

الآية السابعة عشرة قوله تعالى من كفر بالله من بعد إيمانه

مِنْ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ». وَمَا أَحَقَّنَا بِالِاقْتِدَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ، لَوْلَا غَلَبَةُ الْعَامَّةِ عَلَى الْحَقِّ. وَتَعَلَّقَ مَنْ أَخَذَ بِظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ بِمَا كَانَ فِي الْمَدِينَةِ مِنْ الْعَمَلِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَك أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْأُمَّةِ تَرَكَ الِاسْتِعَاذَةَ فَإِنَّهُ أَمْرٌ يُفْعَلُ سِرًّا، فَكَيْفَ يُعْرَفُ جَهْرًا. وَمِنْ أَغْرَبِ مَا وَجَدْنَاهُ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمَجْمُوعَةِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} [النحل: 98] الْآيَةَ قَالَ: ذَلِكَ بَعْدَ قِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ لِمَنْ قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ، وَهَذَا قَوْلٌ لَمْ يَرِدْ بِهِ أَثَرٌ، وَلَا يُعَضِّدُهُ نَظَرٌ؛ فَإِنَّا قَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ الْآيَةِ، وَحَقِيقَتَهَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ كَانَ هَذَا كَمَا قَالَ بَعْضُ النَّاسِ إنَّ الِاسْتِعَاذَةَ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ لَكَانَ تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِقِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ دَعْوَى عَرِيضَةً لَا تُشْبِهُ أُصُولَ مَالِكٍ، وَلَا فَهْمَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِسِرِّ هَذِهِ الرِّوَايَةِ. [الْآيَة السَّابِعَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ] ِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106]. فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْمُرْتَدِّينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضٍ مِنْ أَحْكَامِ الرِّدَّةِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْكُفْرَ بِاَللَّهِ كَبِيرَةٌ مُحْبِطَةٌ لِلْعَمَلِ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَهَا إيمَانٌ أَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْ، وَالْكَافِرُ أَوْ الْمُرْتَدُّ هُوَ الَّذِي جَرَى بِالْكُفْرِ لِسَانُهُ، مُخْبِرًا عَمَّا انْشَرَحَ بِهِ مِنْ الْكُفْرِ صَدْرُهُ، فَعَلَيْهِ مِنْ اللَّهِ الْغَضَبُ، وَلَهُ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ، إلَّا مَنْ أُكْرِهَ، وَهِيَ:

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَذَكَرَ اسْتِثْنَاءَ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ بِلِسَانِهِ عَنْ إكْرَاهٍ، وَلَمْ يَعْقِدْ عَلَى ذَلِكَ قَلْبَهُ، فَإِنَّهُ خَارِجٌ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ، مَعْذُورٌ فِي الدُّنْيَا، مَغْفُورٌ فِي الْأُخْرَى. وَالْمُكْرَهُ: هُوَ الَّذِي لَمْ يُخَلَّ وَتَصْرِيفَ إرَادَتِهِ فِي مُتَعَلِّقَاتِهَا الْمُحْتَمِلَةِ لَهَا، فَهُوَ مُخْتَارٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُ بَقِيَ لَهُ فِي مَجَالِ إرَادَتِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَلَى الْبَدَلِ، وَهُوَ مُكْرَهٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ حُذِفَ لَهُ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْإِرَادَةِ مَا كَانَ تَصَرُّفُهَا يَجْرِي عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِكْرَاهِ، وَسَبَبُ حَذْفِهَا قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ؛ فَالْقَوْلُ هُوَ التَّهْدِيدُ، وَالْفِعْلُ هُوَ أَخْذُ الْمَالِ، أَوْ الضَّرْبُ، أَوْ السَّجْنُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ. وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي التَّهْدِيدِ، هَلْ هُوَ إكْرَاهٌ أَمْ لَا؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إكْرَاهٌ؛ فَإِنَّ الْقَادِرَ الظَّالِمَ إذَا قَالَ لِرَجُلٍ: إنْ لَمْ تَفْعَلْ كَذَا وَإِلَّا قَتَلْتُك، أَوْ ضَرَبْتُك، أَوْ أَخَذْت مَالَك، أَوْ سَجَنْتُك، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَحْمِيهِ إلَّا اللَّهَ، فَلَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى الْفِعْلِ، وَيُسْقِطَ عَنْهُ الْإِثْمَ فِي الْجُمْلَةِ، إلَّا فِي الْقَتْلِ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّهُ إذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَفْدِيَ نَفْسَهُ بِقَتْلِ غَيْرِهِ؛ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْبَلَاءِ الَّذِي يَنْزِلُ بِهِ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي الزِّنَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، خِلَافًا لِابْنِ الْمَاجِشُونِ، فَإِنَّهُ أَلْزَمَهُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّهَا شَهْوَةٌ خُلُقِيَّةٌ لَا يُتَصَوَّرُ عَلَيْهَا إكْرَاهٌ، وَلَكِنَّهُ غَفَلَ عَنْ السَّبَبِ فِي بَاعِثِ الشَّهْوَةِ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ. وَإِنَّمَا وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى شَهْوَةٍ بَعَثَ عَلَيْهَا سَبَبٌ اخْتِيَارِيٌّ، فَقَاسَ الشَّيْءَ عَلَى ضِدِّهِ، فَلَمْ يَحِلَّ بِصَوَابٍ مِنْ عِنْدِهِ. وَأَمَّا الْكُفْرُ بِاَللَّهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلَى شَرْطِ أَنْ يَلْفِظَ بِلِسَانِهِ، وَقَلْبُهُ مُنْشَرِحٌ بِالْإِيمَانِ، فَإِنْ سَاعَدَ قَلْبُهُ فِي الْكُفْرِ لِسَانَهُ كَانَ آثِمًا كَافِرًا؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا سُلْطَانَ لَهُ فِي الْبَاطِنِ، وَإِنَّمَا سُلْطَتُهُ عَلَى الظَّاهِرِ؛ بَلْ قَدْ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ عُلَمَائِنَا: إنَّهُ

إذَا تَلَفَّظَ بِالْكُفْرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ إلَّا جَرَيَانَ الْمَعَارِيضِ، وَمَتَى لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ كَافِرًا أَيْضًا. وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ فَإِنَّ الْمَعَارِيضَ أَيْضًا لَا سُلْطَانَ لِلْإِكْرَاهِ عَلَيْهَا، مِثَالُهُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: اُكْفُرْ بِاَللَّهِ، فَيَقُولُ: أَنَا كَافِرٌ بِاَللَّهِ، يُرِيدُ بِاللَّاهِي، وَيَحْذِفُ الْيَاءَ كَمَا تُحْذَفُ مِنْ الْغَازِي وَالْقَاضِي وَالرَّامِي، فَيُقَالُ: الْغَازِ وَالْقَاضِ ذَرَّةً. وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ لَهُ: اُكْفُرْ بِالنَّبِيِّ، فَيَقُولُ: هُوَ كَافِرٌ بِالنَّبِيِّ، وَهُوَ يُرِيدُ بِالنَّبِيِّ الْمَكَانَ الْمُرْتَفِعَ مِنْ الْأَرْضِ. فَإِنْ قِيلَ لَهُ: اُكْفُرْ بِالنَّبِيءِ مَهْمُوزًا، يَقُولُ: أَنَا كَافِرٌ بِالنَّبِيءِ بِالْهَمْزِ، وَيُرِيدُ بِهِ الْمُخَبِّرَ أَيَّ مُخَبِّرٍ كَانَ، أَوْ يُرِيدُ بِهِ النَّبِيءَ الَّذِي قَالَ فِيهِ الشَّاعِرُ: فَأَصْبَحَ رَتْمًا دُقَاقَ الْحَصَى ... مَكَانَ النَّبِيءِ مِنْ الْكَاثِبِ وَلِذَلِكَ يُحْكَى عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِنْ زَمَنِ فِتْنَةِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ دُعِيَ إلَى أَنْ يَقُولَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: الْقُرْآنُ وَالتَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ يُعَدِّدُهُنَّ بِيَدِهِ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ مَخْلُوقَةٌ، يَقْصِدُ هُوَ بِقَلْبِهِ أَصَابِعَهُ الَّتِي عَدَّدَ بِهَا، وَفَهِمَ الَّذِي أَكْرَهَهُ أَنَّهُ يُرِيدُ الْكُتُبَ الْأَرْبَعَةَ الْمُنَزَّلَةَ مِنْ اللَّهِ عَلَى أَنْبِيَائِهِ، فَخَلَصَ فِي نَفْسِهِ، وَلَمْ يَضُرَّهُ فَهْمُ الَّذِي أَكْرَهَهُ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا أَمْرًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ، مَشْهُورًا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَلَّفَ فِي ذَلِكَ شَيْخُ اللُّغَةِ وَرَئِيسُهَا أَبُو بَكْرِ بْنُ دُرَيْدٍ كِتَابَ الْمَلَاحِنِ لِلْمُكْرَهِينَ، فَجَاءَ بِبِدَعٍ فِي الْعَالَمِينَ، ثُمَّ رَكَّبَ عَلَيْهِ الْمُفْجِعَ الْكَابِتَ، فَجَمَعَ فِي ذَلِكَ مَجْمُوعًا وَافِرًا حَسَنًا، اسْتَوْلَى فِيهِ عَلَى الْأَمَدِ، وَقَرْطَسَ الْغَرَضَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ لَيْسَ بِقَبِيحٍ لِعَيْنِهِ وَذَاتِهِ؛ إذْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا حَسَّنَهُ الْإِكْرَاهُ، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْأَشْيَاءَ لَا تَقْبُحُ لِذَوَاتِهَا وَلَا تَحْسُنُ لِذَوَاتِهَا؛ وَإِنَّمَا تَقْبُحُ وَتَحْسُنُ بِالشَّرْعِ؛ فَالْقَبِيحُ مَا نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ، وَالْحَسَنُ مَا أَمَرَ الشَّرْعُ بِهِ.

مسألة سبب نزول آية من كفر بالله من بعد إيمانه

وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أَنَّ الْقَتْلَ الْوَاقِعَ اعْتِدَاءً يُمَاثِلُ الْقَتْلَ الْمُسْتَوْفَى قِصَاصًا فِي الصُّورَةِ وَالصِّفَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْغَافِلَ عَنْ سَبَبِهِمَا لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ الْإِيلَاجُ فِي الْفَرْجِ عَنْ نِكَاحٍ، يُمَاثِلُ الْإِيلَاجَ عَنْ سِفَاحٍ فِي اللَّذَّاتِ وَالْحَرَكَاتِ، إنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْإِذْنُ؛ وَكَذَلِكَ الْكُفْرُ الَّذِي يَصْدُرُ عَنْ الْإِكْرَاهِ يُمَاثِلُ الصَّادِرَ عَنْ الِاخْتِيَارِ؛ وَلَكِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا إذْنُ الشَّرْعِ فِي أَحَدِهِمَا وَحَجْرُهُ فِي الْآخَرِ، وَقَدْ أَحْكَمْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إنَّ الْكُفْرَ وَإِنْ كَانَ بِالْإِكْرَاهِ جَائِزًا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ مَنْ صَبَرَ عَلَى الْبَلَاءِ وَلَمْ يُفْتَتَنْ حَتَّى قُتِلَ فَإِنَّهُ شَهِيدٌ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ آثَارُ الشَّرِيعَةِ الَّتِي يَطُولُ سَرْدُهَا، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْإِذْنُ وَخَصَّهُ مِنْ اللَّهِ رِفْقًا بِالْخَلْقِ، وَإِبْقَاءً عَلَيْهِمْ، وَلِمَا فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ مِنْ السَّمَاحَةِ، وَنَفْيِ الْحَرَجِ، وَوَضْعِ الْإِصْرِ. [مَسْأَلَة سَبَبَ نُزُولِ آيَة مِنْ كُفْر بِاَللَّهِ مِنْ بَعْد إيمَانِهِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَدْ آنَ الْآنَ أَنْ نَذْكُرَ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْمَكِّيَّةِ، وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: الْأُولَى: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَأُمِّهِ سُمَيَّةَ، وَخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ، وَسَلَمَةَ بْنِ هِشَامٍ، وَالْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَعَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ، وَقَوْمٍ أَسْلَمُوا، فَفَتَنَهُمْ الْمُشْرِكُونَ عَنْ دِينِهِمْ، فَثَبَتَ بَعْضُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَافْتُتِنَ بَعْضُهُمْ، وَصَبَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى الْبَلَاءِ وَلَمْ يَصْبِرْ بَعْضٌ، فَقُتِلَتْ سُمَيَّةُ، وَافْتُتِنَ عَمَّارٌ فِي ظَاهِرِهِ دُونَ بَاطِنِهِ، وَسَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلَتْ الْآيَةُ. الثَّانِيَةُ: قَالَ عِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي قَوْمٍ أَسْلَمُوا بِمَكَّةَ، وَلَمْ يُمْكِنُهُمْ الْخُرُوجُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ أَخْرَجَهُمْ الْمُشْرِكُونَ مَعَهُمْ كُرْهًا فَقُتِلُوا. قَالَ: وَفِيهِمْ نَزَلَتْ: {إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا} [النساء: 98] {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 99]. الثَّالِثَةُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ سَبْعَةٌ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ

مسألة طلاق المكره

وَبِلَالٌ وَخَبَّابٌ وَعَمَّارٌ، وَصُهَيْبٌ، وَسُمَيَّةُ، فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَنَعَهُ أَبُو طَالِبٍ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ قَوْمُهُ، وَأَمَّا الْآخَرُونَ فَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ، وَأَوْقَفُوكُمْ فِي الشَّمْسِ، فَبَلَغَ مِنْهُمْ الْجَهْدُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَبْلُغَ، مِنْ حَرِّ الْحَدِيدِ وَالشَّمْسِ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْعِشَاءِ أَتَاهُمْ أَبُو جَهْلٍ، وَمَعَهُ حَرْبَةٌ فَجَعَلَ يَشْتُمُهُمْ وَيُوَبِّخُهُمْ، ثُمَّ أَتَى سُمَيَّةَ فَطَعَنَ بِالْحَرْبَةِ فِي قُبُلِهَا حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ فَمِهَا، فَهِيَ أَوَّلُ شَهِيدٍ اُسْتُشْهِدَ فِي الْإِسْلَامِ. وَقَالَ الْآخَرُونَ: مَا سَأَلُوهُمْ إلَّا بِلَالًا، فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ، فَجَعَلُوا يُعَذِّبُونَهُ وَيَقُولُونَ لَهُ: ارْجِعْ إلَى رَبِّك، وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ، حَتَّى مَلُّوهُ، ثُمَّ كَتَّفُوهُ، وَجَعَلُوا فِي عُنُقِهِ حَبْلًا مِنْ لِيفٍ، وَدَفَعُوهُ إلَى صِبْيَانِهِمْ يَلْعَبُونَ بِهِ بَيْنَ أَخْشَبَيْ مَكَّةَ، حَتَّى مَلُّوهُ وَتَرَكُوهُ، فَقَالَ عَمَّارٌ: كُلُّنَا قَدْ تَكَلَّمَ بِاَلَّذِي قَالُوا لَهُ، لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَدَارَكَنَا، غَيْرَ بِلَالٍ، فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللَّهِ، فَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ، حَتَّى تَرَكُوهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي هَؤُلَاءِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اشْتَرَى بِلَالًا فَأَعْتَقَهُ. [مَسْأَلَة طَلَاقَ الْمُكْرَهِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: لَمَّا سَمَحَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكُفْرِ بِهِ، وَهُوَ أَصْلُ الشَّرِيعَةِ، عِنْدَ الْإِكْرَاهِ، وَلَمْ يُؤَاخِذْ بِهِ، حَمَلَ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِ فُرُوعَ الشَّرِيعَةِ، فَإِذَا وَقَعَ الْإِكْرَاهُ عَلَيْهَا لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ، وَلَا يَتَرَتَّبُ حُكْمٌ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ جَاءَ الْأَثَرُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ». وَالْخَبَرُ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهُ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ بِاتِّفَاقٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَلَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي تَفَاصِيلَ: مِنْهَا: قَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ فِي حَدِّ الزِّنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَمِنْهَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: إنَّ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ يَلْزَمُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْدَمْ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ الرِّضَا، وَلَيْسَ وُجُودُهُ بِشَرْطٍ فِي الطَّلَاقِ كَالْهَازِلِ. وَهَذَا قِيَاسٌ بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ الْهَازِلَ قَاصِدٌ إلَى إيقَاعِ الطَّلَاقِ، رَاضٍ بِهِ

مسألة الإكراه على الحنث في اليمين هل يقع به أم لا

وَالْمُكْرَهُ غَيْرُ رَاضٍ بِهِ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ فِي الطَّلَاقِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى». وَمِنْهَا أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الْقَتْلِ إذَا قَتَلَ يُقْتَلُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ مَنْ يُكَافِئُهُ ظُلْمًا اسْتِبْقَاءً لِنَفْسِهِ، فَقُتِلَ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ الْجَمَاعَةُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَسَحْنُونٌ: لَا يُقْتَلُ، وَهِيَ عَثْرَةٌ مِنْ سَحْنُونٍ وَقَعَ فِيهَا بِأَسَدِ بْنِ الْفُرَاتِ الَّذِي تَلَقَّفَهَا عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ بِالْعِرَاقِ، وَأَلْقَاهَا إلَيْهِ، وَمَنْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقِيَ نَفْسَهُ بِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَثْلَمُهُ وَلَا يَظْلِمُهُ». وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اُنْصُرْ أَخَاك ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: تَكُفَّهُ عَنْ الظُّلْمِ فَذَلِكَ نَصْرُك إيَّاهُ». [مَسْأَلَة الْإِكْرَاهِ عَلَى الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ هَلْ يَقَعُ بِهِ أَمْ لَا] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: مِنْ غَرِيبِ الْأَمْرِ أَنَّ عُلَمَاءَنَا اخْتَلَفُوا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ، هَلْ يَقَعُ بِهِ أَمْ لَا؟ وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ عِرَاقِيَّةٌ سَرَتْ لَنَا مِنْهُمْ، لَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَلَا كَانُوا هُمْ، وَأَيُّ فَرْقٍ يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِنَا بَيْنَ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْيَمِينِ فِي أَنَّهَا لَا تَلْزَمُ وَبَيْنَ الْحِنْثِ فِي أَنَّهُ لَا يَقَعُ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَرَاجِعُوا بَصَائِرَكُمْ، وَلَا تَغْتَرُّوا بِذِكْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَإِنَّهَا وَصْمَةٌ فِي الدِّرَايَةِ.

مسألة أكره الرجل على إسلام أهله لما لا يحل

[مَسْأَلَة أُكْرِهَ الرَّجُلُ عَلَى إسْلَامِ أَهْلِهِ لِمَا لَا يَحِلُّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: إذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ عَلَى إسْلَامِ أَهْلِهِ لِمَا لَا يَحِلُّ أَسْلَمَهَا، وَلَمْ يَقْتُلْ نَفْسَهُ دُونَهَا، وَلَا احْتَمَلَ إذَايَةً فِي تَخْلِيصِهَا. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ أَيُّوبَ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ حَاجِبٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَنْبَأَنَا شُعَيْبُ أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَاجَرَ إبْرَاهِيمُ بِسَارَةَ، وَدَخَلَ بِهَا قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ مِنْ الْمُلُوكِ، أَوْ جَبَّارٌ مِنْ الْجَبَابِرَةِ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ أَنْ أَرْسِلْ إلَيَّ بِهَا، فَقَامَ إلَيْهَا، فَقَامَتْ تَتَوَضَّأُ وَتُصَلِّي، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ إنْ كُنْت آمَنْت بِك وَبِرَسُولِك فَلَا تُسَلِّطْ عَلَيَّ الْكَافِرَ، فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ». [مَسْأَلَة الْإِكْرَاهُ بِحَقٍّ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: فَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ بِحَقٍّ عِنْدَ الْإِبَايَةِ مِنْ الِانْقِيَادِ إلَيْهِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ شَرْعًا تَنْفُذُ مَعَهُ الْأَحْكَامُ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي رَدِّ شَيْءٍ مِنْهَا. وَلَا خِلَافَ فِيهِ. وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ دَلِيلَ ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: «بَيْنَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إذْ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: انْطَلِقُوا إلَى يَهُودَ فَخَرَجْنَا مَعَهُ، حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ الْمَدَارِسِ، فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَادَاهُمْ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا. فَقَالُوا لَهُ: قَدْ بَلَّغْت يَا أَبَا الْقَاسِمِ. فَقَالَ: ذَلِكَ أُرِيدُ ثُمَّ قَالَهَا الثَّانِيَةَ، فَقَالُوا: قَدْ بَلَّغْت يَا أَبَا الْقَاسِمِ، ثُمَّ قَالَ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْأَرْضُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. وَأَنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ، وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّمَا الْأَرْضُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ»، وَلِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلِهِ، وَمِنْ حُكْمِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَمَلِهِ نَظَائِرُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى بَيْعِ الْمُضْطَرِّ أَحْكَامٌ، بَيَانُهَا فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

الآية الثامنة عشرة قوله تعالى ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام

[الْآيَة الثَّامِنَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ] ٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116] فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قِرَاءَتِهَا: قَرَأَهَا الْجَمَاعَةُ الْكَذِبَ بِنَصْبِ الْكَافِ؛ وَخَفْضِ الذَّالِ، وَنَصْبِ الْبَاءِ. وَقَرَأَهَا الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ مِثْلُهُ، إلَّا أَنَّ الْبَاءَ مَخْفُوضَةٌ، وَقَرَأَهَا قَوْمٌ بِضَمِّ الْكَافِ وَالذَّالِ. فَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى يَكُونُ فِيهَا الْكَذِبُ عَلَى الْإِتْبَاعِ لِمَوْضِعِ مَا يَقُولُونَ. وَمَنْ رَفَعَ الْكَافَ وَالذَّالَ جَعَلَهُ نَعَتَا لِلْأَلْسِنَةِ. وَمَنْ نَصَبَ الْكَافَ وَالْبَاءَ جَعَلَهُ مَفْعُولَ قَوْلِهِ: تَقُولُوا، وَهُوَ بَيِّنٌ كُلُّهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ: لَا تَصِفُوا الْأَعْيَانَ بِأَنَّهَا حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِكُمْ؛ إنَّمَا الْمُحَرِّمُ الْمُحَلِّلُ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. وَهَذَا رَدٌّ عَلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ: أَنَّ الْمَيْتَةَ حَلَالٌ، وَعَلَى الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ: مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا، وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا؛ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ بِضَلَالِهِمْ، وَاعْتِدَاءً، وَإِنْ أَمْهَلَهُمْ الْبَارِي فِي الدُّنْيَا فَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى. [مَسْأَلَة التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ لِي مَالِكٌ: لَمْ يَكُنْ مِنْ فُتْيَا الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقُولُوا: هَذَا حَرَامٌ وَهَذَا حَلَالٌ، وَلَكِنْ يَقُولُونَ: إنَّا نَكْرَهُ هَذَا، وَلَمْ أَكُنْ لِأَصْنَعَ هَذَا، فَكَانَ النَّاسُ يُطِيعُونَ ذَلِكَ، وَيَرْضَوْنَ بِهِ. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ إنَّمَا هُوَ لِلَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ

الآية التاسعة عشرة قوله تعالى إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا

بَيَانُهُ؛ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَرِّحَ بِهَذَا فِي عَيْنٍ مِنْ الْأَعْيَانِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَارِي يُخْبِرُ بِذَلِكَ عَنْهُ، وَمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِي أَنَّهُ حَرَامٌ يَقُولُ: إنِّي أَكْرَهُ كَذَا، وَكَذَلِكَ كَانَ مَالِكٌ يَفْعَلُ؛ اقْتِدَاءً بِمِنْ تَقَدَّمَ مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ فِيمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَنَّهَا حَرَامٌ وَتَكُونُ ثَلَاثًا. قُلْنَا: سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَنَقُولُ هَاهُنَا: إنَّ الرَّجُلَ هُوَ الَّذِي أَلْزَمَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ، فَأَلْزَمَهُ مَالِكٌ مَا الْتَزَمَ. جَوَابٌ آخَرُ: وَهُوَ أَقْوَى؛ وَذَلِكَ أَنَّ مَالِكًا لَمَّا سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ: إنَّهَا حَرَامٌ أَفْتَى بِذَلِكَ اقْتِدَاءً بِهِ، وَقَدْ يَتَقَوَّى الدَّلِيلُ عَلَى التَّحْرِيمِ عِنْد الْمُجْتَهِدِ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ عِنْدَنَا، كَمَا يَقُولُ: إنَّ الرِّبَا حَرَامٌ فِي غَيْرِ الْأَعْيَانِ السِّتَّةِ الَّتِي وَقَعَ ذِكْرُهَا فِي الرِّبَا، وَهِيَ الذَّهَبُ، وَالْفِضَّةُ، وَالْبُرُّ، وَالشَّعِيرُ، وَالتَّمْرُ، وَالْمِلْحُ، وَكَثِيرًا مَا يُطْلِقُ مَالِكٌ، فَذَلِكَ حَرَامٌ لَا يَصْلُحُ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ، وَفِيمَا خَالَفَ الْمَصَالِحَ، وَخَرَجَ عَنْ طَرِيقِ الْمَقَاصِدِ، لِقُوَّةِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ. [الْآيَة التَّاسِعَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا] وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 120]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ، كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ. فَقِيلَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ إنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ بِهَذَا إبْرَاهِيمَ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إنَّ الْأُمَّةَ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ، وَإِنَّ الْقَانِتَ هُوَ الْمُطِيعُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: حَدَّثَنِي فَرْوَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الْأَشْجَعِيُّ قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إنَّ مُعَاذًا كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا. فَقُلْت فِي نَفْسِي: غَلِطَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إنَّمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: إنَّ

الآية العشرون قوله تعالى إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه

إبْرَاهِيمُ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا. فَقَالَ: أَتَدْرِي مَا الْأُمَّةُ الْقَانِتُ؟ قُلْت: اللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ: الْأُمَّةُ الَّذِي يُعَلِّمُ الْخَيْرَ. وَالْقَانِتُ لِلَّهِ: الْمُطِيعُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُعَلِّمُ الْخَيْرَ، وَكَانَ مُطِيعًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْحَنِيفُ: الْمُخْلِصُ، وَكَانَ إبْرَاهِيمُ قَائِمًا لِلَّهِ بِحَقِّهِ صَغِيرًا وَكَبِيرًا، آتَاهُ اللَّهُ رُشْدَهُ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ، فَنَصَحَ لَهُ، وَكَسَّرَ الْأَصْنَامَ، وَبَايَنَ قَوْمَهُ بِالْعَدَاوَةِ، وَدَعَا إلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَلَمْ تَأْخُذْهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ؛ فَأَعْطَاهُ اللَّهُ أَلَّا يَبْعَثَ نَبِيًّا بَعْدَهُ إلَّا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَأَعْطَاهُ اللَّهُ أَلَّا يُسَافِرَ فِي الْأَرْضِ، فَتَخْطُرُ سَارَةُ بِقَلْبِهِ إلَّا هَتَكَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا الْحِجَابَ، فَيَرَاهَا، وَكَانَ أَوَّلَ مِنْ اخْتَتَنَ، وَأَقَامَ مَنَاسِكَ الْحَجِّ، وَضَحَّى، وَعَمِلَ بِالسُّنَنِ نَحْوَ قَصِّ الْأَظْفَارِ، وَنَتْفِ الْإِبِطِ، وَحَلْقِ الْعَانَةِ، وَأَعْطَاهُ اللَّهُ الذِّكْرَ الْجَمِيلَ فِي الدُّنْيَا، فَاتَّفَقَتْ الْأُمَمُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَنْقُصْ مَا أُعْطِيَ فِي الدُّنْيَا مِنْ حَظِّهِ فِي الْآخِرَةِ، وَأُوحِيَ إلَى مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ، فَإِنَّهُ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا، وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ. فَعَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ، وَيُعَلِّمَ الْأُمَّةَ، فَيَكُونَ فِي دِينِ إبْرَاهِيمَ عَلَى الْمِلَّةِ. [الْآيَة الْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى إنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ] الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النحل: 124]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْمُرَادُ بِاَلَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، أَيْ فُرِضَ تَعْظِيمُ يَوْمِ السَّبْتِ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ؛ هُوَ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ فَرَغَ مِنْ خَلْقِ الْأَشْيَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ سَبَّتَ يَوْمَ السَّبْتِ.

وَقَالَ آخَرُونَ: أَفْضَلُ الْأَيَّامِ يَوْمُ الْأَحَدِ؛ لِأَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي ابْتَدَأَ فِيهِ خَلْقَ الْأَشْيَاءِ، فَاخْتَلَفُوا فِي تَعْظِيمِ غَيْرِ مَا فُرِضَ عَلَيْهِمْ تَعْظِيمُهُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ اسْتَحَلُّوهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مَا الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ؟ فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي تَعْظِيمِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِيهِ؛ اسْتَحَلَّهُ بَعْضُهُمْ، وَحَرَّمَهُ آخَرُونَ؛ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ. الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانُوا يَطْلُبُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَأَخْطَئُوهُ، وَأَخَذُوا السَّبْتَ، فَفُرِضَ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ فِي الْقَوْلِ الرَّابِعِ: إنَّهُمْ أُلْزِمُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ عِيدًا، فَخَالَفُوا وَقَالُوا: نُرِيدُ يَوْمَ السَّبْتِ؛ لِأَنَّهُ فَرَغَ فِيهِ مِنْ خَلْقِ السَّمَوَاتِ. الْخَامِسُ: رُوِيَ أَنَّ عِيسَى أَمَرَ النَّصَارَى أَنْ يَتَّخِذُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ عِيدًا، فَقَالُوا: لَا يَكُونُ عِيدُنَا إلَّا بَعْدَ عِيدِ الْيَهُودِ، فَجَعَلُوهُ الْأَحَدَ. وَرُوِيَ أَنَّ مُوسَى قَالَ لِبَنِي إسْرَائِيلَ: تَفَرَّغُوا إلَى اللَّهِ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ فِي يَوْمٍ تَعْبُدُونَهُ، وَلَا تَعْمَلُونَ فِيهِ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا؛ فَاخْتَارُوا يَوْمَ السَّبْتِ، فَأَمَرَهُمْ مُوسَى بِالْجُمُعَةِ، فَأَبَوْا إلَّا السَّبْتَ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الَّذِي يُفَصِّلُ هَذَا الْقَوْلَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ».

مسألة اختيار اليهود يوم السبت واستراح يوم السبت

فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَهَذَا الْيَوْمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ»، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عُرِضَ عَلَيْهِمْ، فَاخْتَارَ كُلُّ أَحَدٍ مَا ظَهَرَ إلَيْهِ، وَأَلْزَمْنَاهُ مِنْ غَيْرِ عَرْضٍ، فَالْتَزَمْنَاهُ. وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «فَهَذَا يَوْمُهُمْ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ». وَفِي الصَّحِيحِ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ: «فَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا، يَغْسِلُ فِيهِ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ». وَهَذَا مُجْمَلٌ، فَسَّرَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: «غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ». [مَسْأَلَة اخْتِيَار الْيَهُود يَوْمَ السَّبْتِ وَاسْتَرَاحَ يَوْمَ السَّبْتِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: رُوِيَ أَنَّ الْيَهُودَ حِينَ اخْتَارُوا يَوْمَ السَّبْتِ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ ابْتَدَأَ الْخِلْقَةَ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَأَتَمَّهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَاسْتَرَاحَ يَوْمَ السَّبْتِ، فَنَحْنُ نَتْرُكُ الْعَمَلَ يَوْمَ السَّبْتِ. فَأَكْذَبَهُمْ اللَّهُ فِي قَوْلِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [ق: 38] الْآيَةَ. فَلَمَّا تَرَكُوا الْعَمَلَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ بِالْتِزَامِهِمْ، وَابْتَدَعُوهُ بِرَأْيِهِمْ الْفَاسِدِ، وَاخْتِيَارِهِمْ الْفَائِلِ، كَانَ مِنْهُمْ مَنْ رَعَاهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ اخْتَرَمَهُ فَسَخِطَ اللَّهُ عَلَى الْجَمِيعِ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَاخْتَارَ اللَّهُ لَنَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقِبَلِنَا خِيرَةَ رَبِّنَا لَنَا، وَالْتَزَمْنَا مِنْ غَيْرِ مَثْنَوِيَّةٍ مَا

أَلْزَمَنَا، وَعَرَفْنَا مِقْدَارَ فَضْلِهِ، فَقَالَ لَنَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَم، وفِيهِ أُهْبِطَ، وَفِيهِ تِيبَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ مَاتَ، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ إلَّا وَهِيَ مُصِيخَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ حِينِ تُصْبِحُ إلَى حِينِ تَطْلُعُ الشَّمْسُ، شَفَقًا مِنْ السَّاعَةِ، إلَّا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ» فِي حَدِيثٍ طَوِيل هَذَا أَكْثَرُهُ. وَجَمَعَ لَنَا فِيهِ الْوَجْهَيْنِ: فَضْلَ الْعَمَلِ فِي الْآخِرَةِ، وَجَوَازَ الْعَمَلِ فِي الدُّنْيَا، وَخَشِيَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا جَرَى لِمَنْ كَانَ قَبْلَنَا مِنْ التَّنَطُّعِ فِي يَوْمِهِمْ الَّذِي اخْتَارُوهُ، فَمَنَعْنَا مِنْ صِيَامِهِ، فَقَالَ: «لَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ، وَلَا لَيْلَتَهَا بِقِيَامٍ». وَعَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَرَأَى مَالِكٍ أَنَّ صَوْمَهُ جَائِزٌ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ. وَقَالَ: إنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي زَمَانِهِ كَانَ يَصُومُهُ، وَأَرَاهُ كَانَ يَتَحَرَّاهُ. وَنَهْيُ النَّبِيِّ عَنْ تَخْصِيصِهِ أَشْبَهُ بِحَالِ الْعَالِمِ الْيَوْمَ فَإِنَّهُمْ يَخْتَرِعُونَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يُلْحِقُهُمْ بِمَنْ تَقَدَّمَ، وَيَسْلُكُونَ بِهِ سُنَّتَهُمْ؛ وَذَلِكَ مَذْمُومٌ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ فِيهِ الصَّلَاةَ، وَلَمْ يَشْرَعْ فِيهِ الصِّيَامَ، وَشَرَعَ فِيهِ الذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ؛ فَوَجَبَ الِاقْتِفَاءُ لِسُنَّتِهِ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى مَا أَبَانَ مِنْ شِرْعَتِهِ، وَالْفِرَارُ عَنْ الرَّهْبَانِيَّةِ الْمُبْتَدَعَةِ، والْخَشْيَةُ مِنْ الْبَاطِلِ الْمَذْمُومِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: «فِيهِ خُلِقَ آدَم» يَعْنِي: جَمَعَ فِيهِ خَلْقَهُ، وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ، وَهَذَا فَضْلٌ بَيِّنٌ. وَقَوْلُهُ: «فِيهِ أُهْبِطَ إلَى الْأَرْضِ» يَخْفَى وَجْهُ الْفَضْلِ فِيهِ؛ وَلَكِنَّ الْعُلَمَاءَ أَشَارُوا إلَى أَنَّ وَجْهَ التَّفْضِيلِ فِيهِ أَنَّهُ تِيبَ عَلَيْهِ مِنْ ذَنْبِهِ، وَهَبَطَ إلَى الْأَرْضِ لِوَعْدِ رَبِّهِ، حِينَ قَالَ: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]. فَلَمَّا سَبَقَ الْوَعْدُ بِهِ حَقَّقَهُ اللَّهُ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَنَفَاذُ الْوَعْدِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، وَفَضْلٌ عَظِيمٌ، وَوَجْهُ الْفَضْلِ فِي مَوْتِهِ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لِلِقَائِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَقْتًا لِلِقَائِهِ. قُلْنَا: يَكُونُ هَذَا أَيْضًا فَضْلًا، يَشْتَرِكُ فِيهِ مَعَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَيَبْقَى لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ فَضْلُهُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ لَهُ زَائِدًا عَلَى سَائِرِ أَيَّامِ الْجُمُعَةِ؛ وَمَنْ شَارِكْ شَيْئًا فِي وَجْهٍ، وَسَاوَاهُ فِيهِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَفْضُلَهُ فِي وُجُوهٍ أُخَرَ سِوَاهُ. وَأَمَّا وَجْهُ تَفْضِيلِهِ فِي قِيَامِ السَّاعَةِ فِيهِ فَلِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ، فَجَعَلَ قُدُومَهُ فِي أَفْضَلِ الْأَوْقَاتِ، وَتَكُونُ فَاتِحَتُهُ فِي أَكْرَمِ أَوْقَاتِ سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَمِنْ فَضْلِهِ اسْتِشْعَارُ كُلِّ دَابَّةٍ، وَتَشَوُّقُهَا إلَيْهِ؛ لِمَا يُتَوَقَّعُ فِيهِ مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ؛ إذْ هُوَ وَقْتُ فَنَائِهَا، وَحِينِ اقْتِصَاصِهَا وَجَزَائِهَا، حَاشَ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ اللَّذَيْنِ رُكِّبَتْ فِيهِمَا الْغَفْلَةُ الَّتِي تَرَدَّدَ فِيهَا الْآدَمِيُّ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَهُمَا رُكْنَا التَّكْلِيفِ، وَمَعْنَى الْقِيَامِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وفَائِدَةُ جَرَيَانِ الْأَعْمَالِ عَلَى الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَتَمَامُ الْفَضْلِ، وَوَجْهُ الشَّرَفِ تِلْكَ السَّاعَةُ الَّتِي يَنْشُرُ الْبَارِّي فِيهَا رَحْمَتَهُ، وَيَفِيضُ فِي الْخَلْقِ نَيْلُهُ، وَيَظْهَرُ فِيهَا كَرْمُهُ؛ فَلَا يَبْقَى دَاعٍ إلَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ، وَلَا كَرَامَةٌ إلَّا وَيُؤْتِيهَا، وَلَا رَحْمَةٌ إلَّا يَبُثُّهَا لِمَنْ تَأَهَّبَ لَهَا، وَاسْتَشْعَرَ بِهَا، وَلَمْ يَكُنْ غَافِلًا عَنْهَا. وَلَمَّا كَانَ وَقْتًا مَخْصُوصًا بِالْفَضْلِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَوْقَاتِ قَرَنَهُ اللَّهُ بِأَفْضَلِ الْحَالَاتِ لِلْعَبْدِ، وَهِيَ حَالَةُ الصَّلَاةِ، فَلَا عِبَادَةَ أَفْضَلُ مِنْهَا، وَلَا حَالَةَ أَخَصُّ بِالْعَبْدِ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَمَعَ فِيهَا عِبَادَاتِ الْمَلَائِكَةِ كُلِّهِمْ؛ إذْ مِنْهُمْ قَائِمٌ لَا يَبْرَحُ عَنْ قِيَامِهِ

وَرَاكِعٌ لَا يَرْفَعُ عَنْ رُكُوعِهِ، وَسَاجِدٌ لَا يَتَفَصَّى مِنْ سُجُودِهِ، فَجَمَعَ اللَّهُ لِبَنِي آدَمَ عِبَادَاتِ الْمَلَائِكَةِ فِي عِبَادَةٍ وَاحِدَةٍ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إنَّ الْعَبْدَ إذَا نَامَ فِي سُجُودِهِ بَاهَى اللَّهُ بِهِ مَلَائِكَتَهُ، يَقُولُ: يَا مَلَائِكَتِي، اُنْظُرُوا عَبْدِي، رُوحُهُ عِنْدِي، وَبَدَنُهُ فِي طَاعَتِي». وَصَارَتْ هَذِهِ السَّاعَةُ فِي الْأَيَّامِ كَلَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي اللَّيَالِي فِي مَعْنَى الْإِبْهَامِ، لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ فِي أَنَّ إبْهَامَهَا أَصْلَحُ لِلْعِبَادِ مِنْ تَعْيِينِهَا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَوْ عُلِمَتْ وَهَتَكُوا حُرْمَتَهَا مَا أُمْهِلُوا، وَإِذَا أُبْهِمَتْ عَلَيْهِمْ عَمَّ عَمَلُهُمْ الْيَوْمَ كُلَّهُ وَالشَّهْرَ كُلَّهُ، كَمَا أُبْهِمَتْ الْكَبَائِرُ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ، وَهُوَ جَانِبُ السَّيِّئَاتِ، لِيَجْتَنِبَ الْعَبْدُ الذُّنُوبَ كُلَّهَا؛ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَخْلَصُ لَهُ، فَإِذَا أَرَادَ الْعَبْدُ تَحْصِيلَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَلْيَقُمْ الْحَوْلَ عَلَى رَأْيِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَوْ الشَّهْرَ كُلَّهُ عَلَى رَأْيِ آخَرِينَ، أَوْ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ عَلَى رَأْيِ كُلِّ أَحَدٍ. وَلَقَدْ كُنْت فِي الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ، وَكَانَ بِهَا مُتَعَبِّدٌ يَتَرَصَّدُ سَاعَةَ الْجُمُعَةِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ، فَإِذَا كَانَ هَذَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَثَلًا خَلَا بِرَبِّهِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى الضُّحَى، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَإِذَا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ خَلَا بِرَبِّهِ مِنْ الضُّحَى إلَى زَوَالِ الشَّمْسِ، فَإِذَا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ الثَّالِثَةِ خَلَا بِرَبِّهِ مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ إلَى الْعَصْرِ، ثُمَّ انْقَلَبَ، فَإِذَا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ الرَّابِعَةِ خَلَا بِرَبِّهِ مِنْ الْعَصْرِ إلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ، فَتَحْصُلُ لَهُ السَّاعَةُ فِي أَرْبَعِ جُمَعٍ، فَاسْتَحْسَنَ النَّاسُ ذَلِكَ مِنْهُ. وَقَالَ لَنَا شَيْخُنَا أَبُو بَكْرٍ الْفِهْرِيُّ: هَذَا لَا يَصِحُّ لَهُ؛ لِأَنَّ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ تَكُونَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يَرْصُدُهَا مِنْ الزَّوَالِ إلَى الْعَصْرِ تَكُونُ مِنْ الْعَصْرِ إلَى الْغُرُوبِ، وَفِي الْيَوْمِ الَّذِي تَكُونُ مِنْ الْعَصْرِ إلَى الْغُرُوبِ يَتَرَصَّدُهَا هُوَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى الضُّحَى؛ إذْ يُمْكِنُ أَنْ تَنْتَقِلَ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ، وَلَا تَثْبُتُ عَلَى سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ؛ يَشْهَدُ لِصِحَّةِ ذَلِكَ انْتِقَالُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي لَيَالِيِ الشَّهْرِ؛ فَإِنَّهَا تَكُونُ فِي كُلِّ عَامٍ فِي لَيْلَةٍ، لَا تَكُونُ فِيهَا فِي الْعَامِ الْآخَرِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصَبَ لَهُمْ عَلَيْهَا عَلَامَةً مَرَّةً، فَوَجَدُوا تِلْكَ الْعَلَامَةَ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَسَأَلَهُ آخَرُ مَتَى يَنْزِلُ: فَإِنَّهُ شَاسِعُ الدَّارِ؟ فَقَالَ لَهُ: انْزِلْ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَمَا كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُعَلِّمَ عَلَامَةً فَلَا يَصْدُقُ، وَمَا كَانَ أَيْضًا لِيَسْأَلهُ سَائِلٌ ضَعِيفٌ لَا يُمْكِنُهُ مُلَازَمَتُهُ عَنْ أَفْضَلِ وَقْتٍ يَنْزِلُ إلَيْهِ فِيهِ، وَأَكْرَمِ لَيْلَةٍ يَأْتِيه فِيهَا، لِيَحْصُلَ لَهُ فَضْلُهُ، فَيَحْمِلُهُ عَلَى النَّاقِصِ عَنْ غَيْرِهِ، الْمَحْطُوطِ عَنْ سِوَاهُ، وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّك عَلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ تَحْصِيلَ السَّاعَةِ عَمَرَ الْيَوْمَ كُلَّهُ بِالْعِبَادَةِ، أَوْ تَحْصِيلَ اللَّيْلَةِ قَامَ الشَّهْرَ كُلَّهُ فِي جَمِيعِ لَيَالِيِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا خَرَجَ إلَى الْوُضُوءِ، أَوْ اشْتَغَلَ بِالْأَكْلِ، فَجَاءَتْ تِلْكَ السَّاعَةُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَهُوَ غَيْرُ دَاعٍ وَلَا سَائِلٍ، كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ؟ قُلْنَا: إذَا كَانَ وَقْتُهُ كُلُّهُ مَعْمُورًا بِالْعِبَادَةِ وَالدُّعَاءِ، فَجَاءَتْ وَقْتَ الْوُضُوءِ أَوْ الْأَكْلِ أُعْطِيَ طَلِبَتَهُ، وَأُجِيبَتْ دَعْوَتُهُ، وَلَمْ يُحَاسَبْ مِنْ أَوْقَاتِهِ بِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، عَلَى أَنِّي قَدْ رَأَيْت مِنْ عُلَمَائِنَا مَنْ قَالَ: إذَا تَوَضَّأَ أَوْ أَكَلَ، فَاشْتَغَلَ بِذَلِكَ بَدَنُهُ وَلِسَانُهُ، فَلِيُقْبِلْ عَلَى الطَّاعَةِ بِقَلْبِهِ، حَتَّى يَلْقَى تِلْكَ السَّاعَةَ مُتَعَبِّدًا بِقَلْبِهِ. وَهَذَا حَسَنُ، وَهُوَ عِنْدِي غَيْرُ لَازِمٍ؛ بَلْ يَكْفِي أَنْ يَكُونَ مُلَازِمًا لِلْعِبَادَةِ، مَا عَدَّا أَوْقَاتِ الْوُضُوءِ وَالْأَكْلِ، فَيُعْفَى عَنْهُ فِيهَا، وَيُعْطَى عِنْدَهَا كُلَّ مَا سَأَلَ فِي غَيْرِهَا بِلُطْفِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ، وَسِعَةِ رَحْمَتِهِ لَهُمْ، وَعُمُومِ فَضْلِهِ، لَا رَبَّ غَيْرُهُ. عَلَى أَنَّ مُسْلِمًا قَدْ كَشَفَ الْغِطَاءَ عَنْ هَذَا الْخَفَاءِ، فَقَالَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّهُ «سُئِلَ عَنْ السَّاعَةِ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: هِيَ مِنْ جُلُوسِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ إلَى انْقِضَاءِ الصَّلَاةِ». وَهَذَا نَصٌّ جَلِيٌّ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصٌّ فِي أَنَّهَا بَعْدَ الْعَصْرِ، وَلَا يَصِحُّ.

الآية الحادية والعشرون قوله تعالى وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به

[الْآيَة الْحَادِيَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ] الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126] فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: وَفِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ، أَصْلُهَا رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا: «أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أُصِيبَ مِنْ الْأَنْصَارِ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ رَجُلًا، وَمِنْ الْمُهَاجِرِينَ سِتَّةٌ، فِيهِمْ حَمْزَةُ، فَمَثَّلُوا بِهِمْ، فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ: لَئِنْ أَصَبْنَا مِنْهُمْ يَوْمًا مِثْلَ هَذَا لَنُرْبِيَنَّ عَلَيْهِمْ قَالَ: فَلَمَّا كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} [النحل: 126] الْآيَةَ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كُفُّوا عَنْ الْقَوْمِ إلَّا أَرْبَعَةً». الثَّانِيَةُ: أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ عَلَى حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حِينَ اُسْتُشْهِدَ، فَنَظَرَ إلَى شَيْءٍ لَمْ يَنْظُرْ إلَى شَيْءٍ كَانَ أَوْجَعَ مِنْهُ لِقَلْبِهِ، وَنَظَرَ إلَيْهِ قَدْ مُثِّلَ بِهِ، فَقَالَ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْك، فَإِنَّك كُنْت مَا عَرَفْتُك فَعُولًا لِلْخَيْرَاتِ، وَصُولًا لِلرَّحِمِ، وَلَوْلَا حُزْنُ مَنْ بَعْدَك عَلَيْك لَسَرَّنِي أَنْ أَدَعَك، حَتَّى تُحْشَرَ مِنْ أَفْرَادٍ شَتَّى أَمَا وَاَللَّهِ مَعَ ذَلِكَ لَأُمَثِّلَنَّ بِسَبْعِينَ مِنْهُمْ. فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاقِفٌ بِخَوَاتِيمِ النَّحْلِ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} [النحل: 126] الْآيَاتِ؛ فَصَبَرَ النَّبِيُّ، وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ، وَلَمْ يُمَثِّلْ بِأَحَدٍ».

مسألة الجزاء على المثلة

[مَسْأَلَة الْجَزَاءُ عَلَى الْمُثْلَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الْجَزَاءُ عَلَى الْمُثْلَةِ عُقُوبَةٌ؛ فَأَمَّا ابْتِدَاءً فَلَيْسَ بِعُقُوبَةٍ، وَلَكِنَّهَا سُمِّيَتْ بِاسْمِهَا، كَمَا قَالَ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وَكَمَا قَالَ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]؛ وَعَادَةُ الْعَرَبِ هَكَذَا فِي الِازْدِوَاجِ، فَجَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى حُكْمِ اللُّغَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَوَازُ التَّمَاثُلِ فِي الْقِصَاصِ، فَمَنْ قَتَلَ بِحَدِيدَةٍ قُتِلَ بِهَا، وَكَذَلِكَ مِنْ قَتَلَ بِحَجَرٍ أَوْ حَبْلٍ أَوْ عُودٍ اُمْتُثِلَ فِيهِ مَا فَعَلَ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ وَالْمَائِدَةِ وَغَيْرِهَا، فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126]: إشَارَةٌ إلَى فَضْلِ الْعَفْوِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَائِدَةِ وَغَيْرِهَا. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.

سورة الإسراء فيها عشرون آية

[سُورَةُ الْإِسْرَاءِ فِيهَا عِشْرُونَ آيَةً] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى] ً الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1] فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي {سُبْحَانَ} [الإسراء: 1]: وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ؛ قَالَهُ سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلُ. وَمَنَعَهُ عِنْدَهُمَا مِنْ الصَّرْفِ كَوْنُهُ مَعْرِفَةً فِي آخِرِهِ زَائِدَانِ. وَذَكَرَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ مِنْ الْعَرَبِ مِنْ يَصْرِفُهُ وَيُصَرِّفُهُ. الثَّانِي: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى النِّدَاءِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ مَنْصُوبٌ لِوُقُوعِهِ مَوْقِعَهُ. الرَّابِعُ: أَنَّهَا كَلِمَةٌ رَضِيَهَا اللَّهُ لِنَفْسِهِ؛ قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، ومَعْنَاهَا عِنْدَهُمْ بَرَاءَةُ اللَّهِ مِنْ السُّوءِ، وَتَنْزِيهُ اللَّهِ مِنْهُ قَالَ الشَّاعِرُ: أَقُولُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ ... سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ مَصْدَرٌ فَلِأَنَّهُ جَارٍ عَلَى بِنَاءِ الْمَصَادِرِ، فَكَثِيرًا مَا يَأْتِي عَلَى فُعْلَانَ. وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ اسْمٌ وُضِعَ لِلْمَصْدَرِ فَلِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ لَا يَجْرِي عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ سَبَّحَ. وأَمَّا

مسألة أشرف اسم للنبي

قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ بِأَنَّهُ مُنَادًى فَإِنَّهُ يُنَادَى فِيهِ بِالْمَعْرِفَةِ مِنْ مَكَان بَعِيدٍ، وَهُوَ كَلَامٌ جُمِعَ فِيهِ بَيْنَ دَعْوَى فَارِغَةٍ لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا، ثُمَّ لَا يَعْصِمُهُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يُقَالَ لَهُ: هَلْ هُوَ اسْمٌ أَوْ مَصْدَرٌ؟ وَمَا زَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُجْرِي فِي الْمَنْقُولِ طَلْقَهُ حَتَّى إذَا جَاءَ الْمَعْقُولُ عَقَلَهُ الْعِيُّ وَأَغْلَقَهُ. وَقَدْ جَمَعَ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَرَفَةَ جُزْءًا قَرَأْنَاهُ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ فِيهِ عَنْ التَّقْصِيرِ سَلَامٌ، وَالْقَدْرُ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ سِيبَوَيْهِ فِيهِ يَكْفِي، فَلْيَأْخُذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ وَيَكْتَفِي. [مَسْأَلَة أشرف اسْم لِلنَّبِيِّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1]: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَوْ كَانَ لِلنَّبِيِّ اسْمٌ أَشْرَفَ مِنْهُ لَسَمَّاهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ الْعَلِيَّةِ بِهِ، وَفِي مَعْنَاهُ تُنْشِدُ الصُّوفِيَّةُ: يَا قَوْمِ قَلْبِي عِنْدَ زَهْرَاءَ ... يَعْرِفُهَا السَّامِعُ وَالرَّائِي لَا تَدْعُنِي إلَّا بِيَا عَبْدَهَا ... فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي وَقَالَ الْأُسْتَاذُ جَمَالُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ هَوَازِنَ: لَمَّا رَفَعَهُ إلَى حَضْرَتِهِ السَّنِيَّةِ، وَأَرْقَاهُ فَوْقَ الْكَوَاكِبِ الْعُلْوِيَّةِ، أَلْزَمهُ اسْمَ الْعُبُودِيَّةِ لَهُ، تَوَاضُعًا لِلْإِلَهِيَّةِ. [مَسْأَلَة هَلْ أُسْرِيَ بِجَسَدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ بِرُوحِهِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَضَى اللَّهُ بِحِكْمَتِهِ وَحُكْمُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ النَّاسُ، هَلْ أُسْرِيَ بِجَسَدِ رَسُولِ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْ بِرُوحِهِ؟ وَلَوْلَا مَشِيئَةُ رَبِّنَا السَّابِقَةُ بِالِاخْتِلَافِ لَكَانَتْ الْمَسْأَلَةُ أَبَيْنَ عِنْدَ الْإِنْصَافِ؛ فَإِنَّ الْمُنْكِرَ لِذَلِكَ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مُلْحِدًا يُنْكِرُ الْقُدْرَةَ، وَيَرَى أَنَّ الثَّقِيلَ لَا يَصْعَدُ عُلُوًّا، وَطَبْعُهُ اسْتِفَالٌ فَمَا بَالُهُ يَتَكَلَّمُ مَعَنَا فِي هَذَا الْفَرْعِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِلْأَصْلِ؛ وَهُوَ وُجُودُ الْإِلَهِ وَقُدْرَتُهُ، وَأَنَّهُ يُصَرِّفُ الْأَشْيَاءَ بِالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ، لَا بِالطَّبِيعَةِ. وَإِنْ كَانَ الْمُنْكِرُ مِنْ أَغْبِيَاءِ الْمِلَّةِ يُقِرُّ مَعَنَا بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْعِلْمِ، وَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّصْرِيفِ وَالتَّدْبِيرِ وَالتَّقْدِيرِ، فَيُقَالُ لَهُ: وَمَا الَّذِي يَمْنَعُ مِنْ ارْتِقَاءِ النَّبِيِّ فِي الْهَوَاءِ بِقُدْرَةِ خَالِقِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ؟

فَإِنْ قَالَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ. قُلْنَا لَهُ: قَدْ وَرَدَ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ عَلَى لِسَانِ كُلِّ فَرِيقٍ، مِنْهُمْ أَبُو ذَرٍّ؛ قَالَ أَنَسٌ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي، وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ، فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ: افْتَحْ. قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ. قَالَ: هَلْ مَعَك أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، مَعِي مُحَمَّدٌ. فَقَالَ: أُرْسِلَ إلَيْهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَلَمَّا فَتَحَ عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَإِذَا رَجُلٌ عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ، وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ، إذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَالِابْنِ الصَّالِحِ. قُلْت: يَا جِبْرِيلُ، مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا آدَم، وَهَذِهِ الْأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَالْأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ عَنْ شِمَالِهِ بَكَى. ثُمَّ عَرَجَ بِي إلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَقَالَ لِخَازِنِهَا: افْتَحْ، فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا مِثْلَ مَا قَالَ لَهُ الْأَوَّلُ، فَفَتَحَ. قَالَ أَنَسٌ: فَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ فِي السَّمَاءِ آدَمَ، وَإِدْرِيسَ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَإِبْرَاهِيمَ.» وَلَمْ يُثْبِتْ كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ آدَمَ فِي السَّمَاء الدُّنْيَا، وَإِبْرَاهِيم فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ. قَالَ أَنَسٌ: «فَلَمَّا مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ جِبْرِيلَ بِإِدْرِيسَ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَالْأَخِ الصَّالِحِ. فَقُلْت: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا إدْرِيسُ. ثُمَّ مَرَرْت بِمُوسَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ. قُلْت: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: مُوسَى. ثُمَّ مَرَرْت بِعِيسَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ. قُلْت: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: عِيسَى. ثُمَّ مَرَرْت بِإِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ. قُلْت: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: إبْرَاهِيمُ». قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا حَبَّةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَا يَقُولَانِ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثُمَّ عَرَجَ بِي حَتَّى ظَهَرْت لَمُسْتَوًى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ».

قَالَ ابْنُ حَزْمٍ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلَاةً، فَرَجَعْت بِذَلِكَ حَتَّى مَرَرْت بِمُوسَى، فَقَالَ: مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِك؟ قُلْت: فَرَضَ خَمْسِينَ صَلَاةً. قَالَ: ارْجِعْ إلَى رَبِّك؛ فَإِنَّ أُمَّتَك لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعَنِي، فَرَجَعْت، فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْت إلَى مُوسَى، قُلْت: وَضَعَ شَطْرَهَا. فَقَالَ: ارْجِعْ إلَى رَبِّك، فَإِنَّ أُمَّتَك لَا تُطِيقُ ذَلِكَ. فَرَجَعْت، فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْت إلَيْهِ، فَقَالَ: ارْجِعْ إلَى رَبِّك فَإِنَّ أُمَّتَك لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعْته، فَقَالَ: هِيَ خَمْسٌ، وَهِيَ خَمْسُونَ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ. فَرَجَعْت إلَى مُوسَى، فَقَالَ: ارْجِعْ إلَى رَبِّك، فَقُلْت: قَدْ اسْتَحْيَيْت مِنْ رَبِّي. قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى انْتَهَى إلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ، ثُمَّ أُدْخِلْت الْجَنَّةَ، فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ». فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بَيْنَا أَنَا بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ.» وَذَكَرَ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ بِطُولِهِ، إلَى أَنْ قَالَ: «ثُمَّ اسْتَيْقَظْت، وَأَنَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ». قُلْنَا: عَنْهُ أَجْوِبَةٌ؛ مِنْهَا: أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ رَوَاهُ شَرِيكٌ عَنْ أَنَسٍ، وَكَانَ تَغَيَّرَ بِآخِرَةٍ فَيُعَوَّلُ عَلَى رِوَايَاتِ الْجَمِيعِ. الثَّانِي: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِسْرَاءَ رُؤْيَا مَنَامٍ، وَطَّدَهُ اللَّهُ بِهَا، ثُمَّ أَرَاهُ إيَّاهَا رُؤْيَا عَيْنٍ، كَمَا فَعَلَ بِهِ حِينَ أَرَادَ مُشَافَهَتَهُ بِالْوَحْيِ؛ «أَرْسَلَ إلَيْهِ الْمَلَكَ فِي الْمَنَامِ بِنَمَطٍ مِنْ دِيبَاجٍ فِيهِ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك، وَقَالَ لَهُ: اقْرَأْ. فَقَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَغَطَّهُ حَتَّى بَلَغَ مِنْهُ الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَهُ، فَقَالَ: اقْرَأْ. قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ» إلَى آخَرِ الْحَدِيثِ.

مسألة فرض الصلاة

فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمَلَكُ فِي الْيَقِظَةِ بِمِثْلِ مَا أَرَادَهُ فِي الْمَنَامِ. وَكَانَتْ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ أَرَاهُ اللَّهُ فِي الْمَنَامِ مَا أَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ تَوْطِيدًا وَتَثْبِيتًا لِنَفْسِهِ، حَتَّى لَا يَأْتِيَهُ الْحَالُ فَجْأَةً، فَتُقَاسِي نَفْسُهُ الْكَرِيمَةَ مِنْهَا شِدَّةً، لِعَجْزِ الْقُوَى الْآدَمِيَّةِ عَنْ مُبَاشَرَةِ الْهَيْئَةِ الْمَلَكِيَّةِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]؛ وَلَوْ كَانَتْ رُؤْيَا مَنَامٍ مَا اُفْتُتِنَ بِهَا أَحَدٌ، وَلَا أَنْكَرَهَا؛ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَبْعَدُ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يَرَى نَفْسَهُ يَخْتَرِقُ السَّمَوَاتِ، وَيَجْلِسُ عَلَى الْكُرْسِيِّ، وَيُكَلِّمُهُ الرَّبُّ. [مَسْأَلَة فَرْضُ الصَّلَاةِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ كَانَ فَرْضُ الصَّلَاةِ؛ وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْإِسْرَاءِ صَلَاةَ الْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ»، وَيَتَنَفَّلُ فِي الْجُمْلَةِ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ حَتَّى رَفَعَهُ اللَّهُ مَكَانًا عَلِيًّا، وَفَرَضَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ، وَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ فَعَلَّمَهُ أَعْدَادَهَا وَصِفَاتِهَا، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَمَّنِي جِبْرِيلُ عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ، وَصَلَّى بِي الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ، وَصَلَّى بِي الْعَصْرَ عِنْدَمَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، وَصَلَّى بِي الْمَغْرِبَ حِينَ غَرُبَتْ الشَّمْسُ، وَصَلَّى بِي الْعِشَاءَ عِنْدَمَا غَابَ الشَّفَقُ، وَصَلَّى بِي الصُّبْحَ حِينَ بَرَقَ الْفَجْرُ وَحَرُمَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ عَلَى الصَّائِمِ. ثُمَّ صَلَّى بِي الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ لِوَقْتِ الْعَصْرِ بِالْأَمْسِ، وَصَلَّى بِي الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، وَصَلَّى بِي الْمَغْرِبَ حِينَ غَرُبَتْ الشَّمْسُ لِوَقْتِهَا بِالْأَمْسِ، وَصَلَّى بِي الْعِشَاءَ حِينَ ثُلُثِ اللَّيْلِ، وَصَلَّى بِي الصُّبْحَ وَقَائِلٌ يَقُولُ: أَطْلَعَتْ الشَّمْسُ؟ لَمْ تَطْلُعْ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، هَذَا وَقْتُك، وَوَقْتُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَك، وَالْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ».

الآية الثانية قوله تعالى وإذا أردنا أن نهلك قرية

وَقَدْ مَهَّدْنَا الْقَوْلَ فِي الْحَدِيثِ فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ، وَبَيَّنَّا مَا فِيهِ مِنْ عُلُومٍ، عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا مِنْ حَدِيثٍ وَطُرُقِهِ، وَلُغَةٍ وَتَصْرِيفِهَا، وَتَوْحِيدٍ وَعَقْلِيَّاتٍ، وَعِبَادَاتٍ وَآدَابٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فِيمَا نَيَّفَ عَلَى ثَلَاثِينَ وَرَقَةً، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ، فَفِيهِ الشِّفَاءُ مِنْ دَاءِ الْجَهْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً] ً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16] فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ قَوْلُهُ: {أَمَرْنَا} [الإسراء: 16]: فِيهَا مِنْ الْقِرَاءَاتِ ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ: الْقِرَاءَةُ الْأُولَى: أَمَرْنَا بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ. الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ: بِتَشْدِيدِهَا. الْقِرَاءَةُ الثَّالِثَةُ: آمَرْنَا بِمَدٍّ بَعْدَ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ. فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى: فَهِيَ الْمَشْهُورَةُ، وَمَعْنَاهُ أَمَرْنَاهُمْ بِالْعَدْلِ، فَخَالَفُوا، فَفَسَقُوا بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، فَهَلَكُوا بِالْكَلِمَةِ السَّابِقَةِ الْحَاقَّةِ عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ: بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ: فَهِيَ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَأَبِي عَمْرٍو، وَأَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، وَمَعْنَاهُ كَثَّرْنَاهُمْ، وَالْكَثْرَةُ إلَى التَّخْلِيطِ أَقْرَبُ عَادَةً. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْمَدِّ فِي الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ فَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ، وَالْأَعْرَجِ، وَخَارِجَةَ عَنْ نَافِعٍ. وَيَكُونُ مَعْنَاهُ الْكَثْرَةُ؛ فَإِنَّ أَفْعَلَ وَفَعَّلَ يُنْظَرَانِ فِي التَّصْرِيفِ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْإِمَارَةِ، أَيْ جَعَلْنَاهُمْ أُمَرَاءَ، فَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ مِنْ جَعْلِهِمْ وُلَاةً فَيَلْزَمُهُمْ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ، فَيُقَصِّرُونَ فِيهِ فَيَهْلِكُونَ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ دَارًا وَعِيَالًا وَخَادِمًا فَهُوَ مَلَكٌ وَأَمِيرٌ، فَإِذَا

الآية الثالثة قوله تعالى من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء

صَلُحَتْ أَحْوَالُهُمْ أَقْبَلُوا عَلَى الدُّنْيَا وَآثَرُوهَا عَلَى الْآخِرَةِ فَهَلَكُوا، وَمِنْهُ الْأَثَرُ: «خَيْرُ الْمَالِ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ وَمُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ»: أَيْ كَثِيرَةُ النَّتَاجِ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ قَوْلُهُ: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف: 71]. أَيْ عَظِيمًا. وَالْقَوْلُ فِيهَا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ مُتَقَارِبٌ مُتَدَاخِلٌ؛ وَقَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ. وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ هَذَا الْفِسْقُ وَأَعْظَمُهُ فِي الْمُخَالَفَةِ الْكُفْرُ أَوْ الْبِدْعَةُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي نَظِيرِهِ: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} [هود: 100] {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101] {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]. فَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ عَصَوْا وَكَفَرُوا، وَهَذِهِ صِفَةُ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ فِي قَصَصِ الْقُرْآنِ، وَأَخْبَارِ مَنْ مَضَى مِنْ الْأُمَمِ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ] الْآيَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 18] {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19] قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّةِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، وَبَيَّنَّا أَنَّ مَنْ أَرَادَ غَيْرَ اللَّهِ فَهُوَ مُتَوَعَّدٌ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ آيَةَ الشُّورَى مُطْلَقَةٌ فِي أَنَّ مَنْ أَرَادَ الدُّنْيَا يُؤْتِيهِ اللَّهُ مِنْهَا، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ وَهَذِهِ مُقَيَّدَةٌ فِي أَنَّهُ إنَّمَا يُؤْتَى حَقَّهُ فِي الدُّنْيَا مَنْ يَشَاءُ اللَّهُ أَنْ يُؤْتِيَهُ ذَلِكَ. وَلَيْسَ الْوَعْدُ بِذَلِكَ عَامًّا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَلَا يُعْطَى لِكُلِّ مُرِيدٍ، لِقَوْلِهِ: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا} [الإسراء: 18] الْآيَةَ.

الآية الرابعة قوله تعالى وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا

[الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى وَقَضَى رَبُّك أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا] الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا} [الإسراء: 23] {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24] فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {وَقَضَى} [الإسراء: 23]. قَدْ بَيَّنَّا تَفْسِيرَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي كِتَابِ الْمُشْكَلَيْنِ بِجَمِيعِ وُجُوهِهَا، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ مِنْ مَعَانِيهَا خَلَقَ، وَمِنْهَا أَمَرَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا هَاهُنَا إلَّا أَمَرَ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ يُتَصَوَّرُ وُجُودُ مُخَالَفَتِهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ خِلَافِ مَا خَلَقَ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ الْخَالِقُ؛ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِعِبَادَتِهِ، وَبِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ مَقْرُونًا بِعِبَادَتِهِ، كَمَا قَرَنَ شُكْرَهُمَا بِشُكْرِهِ، وَلِهَذَا قَرَأَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ: وَوَصَّى رَبُّك. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ». وَعَنْ أَنَسٍ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: «الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ». وَمِنْ الْبِرِّ إلَيْهِمَا، وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمَا أَلَا نَتَعَرَّضَ لِسَبِّهِمَا، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ

وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ». حَتَّى إنَّهُ يَبَرُّهُ وَإِنْ كَانَ مُشْرِكًا إذَا كَانَ لَهُ عَهْدٌ قَالَ اللَّه: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا} [الإسراء: 23]: خَصَّ حَالَةَ الْكِبَرِ؛ لِأَنَّهَا بِطُولِ الْمَدَى تُوجِبُ الِاسْتِثْقَالَ عَادَةً، وَيَحْصُلُ الْمَلَلُ، وَيَكْثُرُ الضَّجَرُ، فَيَظْهَرُ غَضَبُهُ عَلَى أَبَوَيْهِ، وَتَنْتَفِخُ لَهُمَا أَوْدَاجُهُ، وَيَسْتَطِيلُ عَلَيْهِمَا بِدَالَّةِ الْبُنُوَّةِ، وَقِلَّةِ الدِّيَانَةِ. وَأَقَلُّ الْمَكْرُوهِ أَنْ يُؤَفِّفَ لَهُمَا؛ وَهُوَ مَا يُظْهِرُهُ بِتَنَفُّسِهِ الْمُرَدَّدِ مِنْ الضَّجَرِ. وَأَمَرَ بِأَنْ يُقَابِلَهُمَا بِالْقَوْلِ الْمَوْصُوفِ بِالْكَرَامَةِ، وَهُوَ السَّالِمُ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ مِنْ عُيُوبِ الْقَوْلِ الْمُتَجَرِّدِ عَنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ مِنْ مَكْرُوهِ الْأَحَادِيثِ. ثُمَّ قَالَ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24]: الْمَعْنَى تَذَلَّلْ لَهُمَا تَذْلِيلَ الرَّعِيَّةِ لِلْأَمِيرِ، وَالْعَبِيدِ لِلسَّادَةِ؛ وَضَرَبَ خَفْضَ الْجَنَاحِ وَنَصْبَهُ مَثَلًا لِجَنَاحِ الطَّائِرِ حِينَ يَنْتَصِبُ بِجَنَاحِهِ لِوَلَدِهِ أَوْ لِغَيْرِهِمْ مِنْ شِدَّةِ الْإِقْبَالِ. وَالذُّلُّ هُوَ اللِّينُ وَالْهَوْنُ فِي الشَّيْءِ، ثُمَّ قَالَ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: {وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24]: مَعْنَاهُ: اُدْعُ لَهُمَا فِي حَيَاتِهِمَا وَبَعْدَ مَمَاتِهِمَا بِأَنْ يَكُونَ الْبَارِئُ يَرْحَمُهُمَا كَمَا رَحِمَاك، وَتَرَفَّقْ بِهِمَا كَمَا رَفَقَا بِك؛ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يُجْزِي الْوَالِدَ عَنْ الْوَلَدِ؛ إذْ لَا يَسْتَطِيعُ الْوَلَدُ كِفَاءً عَلَى نِعْمَةِ وَالِدِهِ أَبَدًا. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ»، مَعْنَاهُ يُخَلِّصُهُ مِنْ أَسْرِ الرِّقِّ كَمَا خَلَّصَهُ مِنْ أَسْرِ الصِّغَرِ.

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُمَا وَلِيَاهُ صَغِيرًا جَاهِلًا مُحْتَاجًا، فَآثَرَاهُ عَلَى أَنْفُسِهِمَا، وَسَهِرَا لَيْلَهُمَا وَأَنَامَاهُ، وَجَاعَا وَأَشْبَعَاهُ، وَتَعَرَّيَا وَكَسَوَاهُ، فَلَا يُجْزِيهِمَا إلَّا أَنْ يَبْلُغَا مِنْ الْكِبَرِ إلَى الْحَدِّ الَّذِي كَانَ هُوَ فِيهِ مِنْ الصِّغَرِ، فَيَلِي مِنْهُمَا مَا وَلِيَا مِنْهُ، وَيَكُونُ لَهُمَا حِينَئِذٍ عَلَيْهِ فَضْلُ التَّقَدُّمِ بِالنِّعْمَةِ عَلَى الْمُكَافِئِ عَلَيْهَا. وَقَدْ أَخْبَرَنِي الشَّرِيفُ الْأَجَلُّ الْخَطِيبُ نَسِيبُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ الْقَاضِي ذُو الشَّرَفَيْنِ أَبُو الْحُسَيْنِ إبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْحُسَيْنِيُّ بِدِمَشْقَ، أَنْبَأَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الشِّيرَازِيِّ بِمَكَّةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، سَمِعْتُهُ دَاخِلَ الْكَعْبَةِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ، وَكَانَ حَافِظًا، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ رَيْدَةَ الضَّبِّيُّ الْأَصْبَهَانِيُّ بِأَصْبَهَانَ قِرَاءَةً، أَنْبَأَنَا أَبُو الْقَاسِمِ سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ الْحَافِظُ الطَّبَرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ الْبَرْدَعِيُّ بِمِصْرَ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ عُبَيْدُ بْنُ خَلَصَةَ بِمَعَرَّةِ النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ الْمَدَنِيُّ عَنْ الْمُنْكَدِرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ؛ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنَّ أَبِي أَخَذَ مَالِي. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلرَّجُلِ: فَأْتِنِي بِأَبِيك. فَنَزَلَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُقْرِئُك السَّلَامَ، وَيَقُولُ لَك: إذَا جَاءَك الشَّيْخُ فَاسْأَلْهُ عَنْ شَيْءٍ قَالَهُ فِي نَفْسِهِ، مَا سَمِعَتْهُ أُذُنَاهُ، فَلَمَّا جَاءَ الشَّيْخُ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا بَالُ ابْنِك يَشْكُوك؟ أَتُرِيدُ أَنْ تَأْخُذَ مَالَهُ؟ فَقَالَ: سَلْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ أُنْفِقُهُ إلَّا عَلَى إحْدَى عَمَّاتِهِ أَوْ خَالَاتِهِ أَوْ عَلَى نَفْسِي؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إيهٍ دَعْنَا مِنْ هَذَا، أَخْبِرْنِي عَنْ شَيْءٍ قُلْته فِي نَفْسِك مَا سَمِعَتْهُ أُذُنَاك. فَقَالَ الشَّيْخُ: وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَزَالُ اللَّهُ تَعَالَى يَزِيدُنَا بِك يَقِينًا، لَقَدْ قُلْت فِي نَفْسِي شَيْئًا مَا سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، فَقَالَ: قُلْ وَأَنَا أَسْمَعُ. قَالَ: قُلْت: غَذَوْتُك مَوْلُودًا وَمُنْتُك يَافِعًا ... تَعِلُّ بِمَا أَجْنِي عَلَيْك وَتَنْهَلُ إذَا لَيْلَةٌ ضَافَتْك بِالسَّقَمِ لَمْ أَبِتْ ... لِسُقْمِكَ إلَّا سَاهِرًا أَتَمَلْمَلُ كَأَنِّي أَنَا الْمَطْرُوقُ دُونَك بِاَلَّذِي ... طُرِقْت بِهِ دُونِي فَعَيْنِي تَهْمُلُ تَخَافُ الرَّدَى نَفْسِي عَلَيْك وَإِنَّهَا ... لَتَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ وَقْتٌ مُؤَجَّلٌ فَلَمَّا بَلَغْت السِّنَّ وَالْغَايَةَ الَّتِي ... إلَيْهَا مَدَى مَا كُنْت فِيك أُؤَمِّلُ جَعَلْت جَزَائِي غِلْظَةً وَفَظَاظَةً ... كَأَنَّك أَنْتَ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ فَلَيْتَك إذْ لَمْ تَرْعَ حَقَّ أُبُوَّتِي ... فَعَلْت كَمَا الْجَارُ الْمُجَاوِرُ يَفْعَلُ

قَالَ: فَحِينَئِذٍ أَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَلَابِيبِ ابْنِهِ، وَقَالَ: أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك». قَالَ سُلَيْمَانُ: لَا يُرْوَى هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ بِهَذَا التَّمَامِ وَالشِّعْرِ إلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، تَفَرَّدَ بِهِ عُبَيْدُ بْنُ خَلَصَةَ. وَأَخْبَرَنَا أَبُو الْمَعَالِي ثَابِتُ بْنُ بُنْدَارٍ فِي دَارِنَا بالمُعْتَمِدِيَّةِ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنِ غَالِبٍ الْحَافِظِ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، حَدَّثَنَا سُوَيْد بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْغَفَّارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ شُجَاعِ بْنِ قَيْسِ بْنِ هِشَامٍ السَّكُونِيِّ، قَالُوا: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: بَيْنَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَمْشُونَ إذْ أَصَابَهُمْ مَطَرٌ، فَأَوَوْا إلَى غَارٍ فَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: يَا هَؤُلَاءِ، لَا يُنْجِيكُمْ إلَّا الصِّدْقُ، فَلْيَدْعُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَا يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُ قَدْ صَدَقَ: فَقَالَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ إنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي أَجِيرٌ، عَمِلَ لِي عَلَى فَرْقِ أُرْزٍ، فَذَهَبَ وَتَرَكَهُ، فَزَرَعْته، فَصَارَ مِنْ أَمْرِهِ أَنِّي اشْتَرَيْت مِنْ ذَلِكَ الْفَرْقِ بَقَرًا، ثُمَّ أَتَانِي يَطْلُبُ أَجْرَهُ، فَقُلْت لَهُ: اعْمِدْ إلَى تِلْكَ الْبَقَرِ، فَسُقْهَا فَإِنَّهَا مِنْ ذَلِكَ الْفَرْقِ فَسَاقَهَا. فَإِنْ كُنْت فَعَلْت ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِك فَفَرِّجْ عَنَّا، فَانْسَاحَتْ عَنْهُمْ الصَّخْرَةُ. فَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ إنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَكَانَتْ لِي غَنَمٌ، وَكُنْت آتِيهِمَا فِي كُلِّ لَيْلَةٍ بِلَبَنِ غَنَمٍ لِي، فَأَبْطَأْت عَنْهُمَا ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَأَتَيْتهمَا وَقَدْ رَقَدَا وَأَهْلِي وَعِيَالِي يَتَضَاغَوْنَ مِنْ الْجُوعِ، وَكُنْت لَا أَسْقِيهِمْ حَتَّى يَشْرَبَ أَبَوَايَ، فَكَرِهْت أَنْ أُوقِظَهُمَا مِنْ رَقْدَتِهِمَا، وَكَرِهْت أَنْ أَرْجِعَ فَيَسْتَيْقِظَا لِشُرْبِهِمَا، فَلَمْ أَزَلْ أَنْتَظِرُهُمَا حَتَّى طَلَعَ

الْفَجْرُ، فَقَامَا فَشَرِبَا، فَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْت ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِك فَفَرِّجْ عَنَّا، فَانْسَاحَتْ عَنْهُمْ الصَّخْرَةُ، حَتَّى نَظَرُوا إلَى السَّمَاءِ. فَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ إنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَتْ لِي ابْنَةُ عَمٍّ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إلَيَّ، وَإِنِّي رَاوَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَأَبَتْ عَلَيَّ إلَّا أَنْ آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَطَلَبْتهَا حَتَّى قَدَرْت عَلَيْهَا، فَجِئْت بِهَا فَدَفَعْتهَا إلَيْهَا فَأَمْكَنَتْنِي مِنْ نَفْسِهَا، فَلَمَّا قَعَدْت بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتْ لِي: اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَفُضَّ الْخَاتَمَ إلَّا بِحَقِّهِ. فَقُمْت عَنْهَا، وَتَرَكْت لَهَا الْمِائَةَ دِينَارٍ فَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنِّي تَرَكْت ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِك فَافْرِجْ عَنَّا، فَفَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَخَرَجُوا يَمْشُونَ». وَمِنْ تَمَامِ بِرِّ الْأَبَوَيْنِ صِلَةُ أَهْلِ وُدِّهِمَا، لِمَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ». وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ، وَسُخْطُ الرَّبِّ فِي سُخْطِ الْوَالِدَيْنِ». خَرَّجَهُمَا التِّرْمِذِيُّ. وَلِذَلِكَ عَدَلَ عُقُوقُهُمَا الْإِشْرَاكَ فِي الْإِثْمِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بِرَّهُمَا قَرِينُ الْإِيمَانِ فِي الْأَجْرِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ أَخْبَرَنَا الشَّرِيفُ الْأَجَلُّ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الشَّاشِيُّ بِهَا قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيُّ فِي كِتَابِهِ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عِيسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى الْوَزِيرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْغَسِيلِ، عَنْ أُسَيْدَ عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي أُسَيْدَ، وَكَانَ بَدْرِيًّا

الآية الخامسة قوله تعالى وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا

قَالَ: «كُنْت عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسًا فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ وَالِدِيَّ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِمَا شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا بَعْدَهُمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا رَحِمَ لَك إلَّا مِنْ قِبَلِهِمَا، فَهَذَا الَّذِي بَقِيَ عَلَيْك». وَقَدْ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَهْدِي لِصَدَائِقِ خَدِيجَةَ بِرًّا بِهَا وَوَفَاءً لَهَا»، وَهِيَ زَوْجَةٌ، فَمَا ظَنُّك بِالْأَبَوَيْنِ. وَقَدْ أَخْبَرَنِي شَيْخُنَا الْفِهْرِيُّ فِي الْمُذَاكَرَةِ أَنَّ الْبَرَامِكَةَ لَمَّا اُحْتُبِسُوا أَجْنَبَ الْأَبُ، فَاحْتَاجَ إلَى غُسْلٍ، فَقَامَ ابْنُهُ بِالْإِنَاءِ عَلَى السِّرَاجِ لَيْلَةً حَتَّى دَفِيءَ وَاغْتَسَلَ بِهِ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ التَّوْفِيقَ لَنَا وَلَكُمْ بِرَحْمَتِهِ. [الْآيَة الْخَامِسَة قَوْله تَعَالَى وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا] } [الإسراء: 26] {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 27] {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا} [الإسراء: 28] فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِي حَقِّ ذَوِي الْقُرْبَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ، وَأَكَّدَ اللَّهُ هَاهُنَا حَقَّهُ؛ لِأَنَّهُ وَصَّى بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ خُصُوصًا مِنْ الْقَرَابَةِ، ثُمَّ ثَنَّى التَّوْصِيَةَ بِذِي الْقُرْبَى عُمُومًا، وَأَمَرَ بِتَوْصِيلِ حَقِّهِ إلَيْهِ مِنْ صِلَةِ رَحِمٍ وَأَدَاءِ حَقٍّ مِنْ مِيرَاثٍ وَسِوَاهُ فَلَا يُبَدَّلُ فِيهِ، وَلَا يُغَيَّرُ عَنْ جِهَتِهِ بِتَوْلِيجِ وَصِيَّةٍ، أَوْ سِوَى ذَلِكَ مِنْ الدَّخْلِ. وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ قَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُخُولًا مُتَقَدِّمًا، أَوْ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى، مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْآيَةَ لِلْقَرَابَةِ الْأَدْنَيْنَ الْمُخْتَصِّينَ

مسألة حق والمسكين وابن السبيل

بِالرَّجُلِ، فَأَمَّا قَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ أَبَانَ اللَّهُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ حَقَّهُمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّ مَحَبَّتَهُمْ هِيَ أَجْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى هُدَاهُ لَنَا. [مَسْأَلَة حَقّ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الإسراء: 26]: وَلَهُمْ حَقَّانِ: أَحَدُهُمَا: أَدَاءُ الزَّكَاةِ. وَالثَّانِي: الْحَقُّ الْمُفْتَرَضُ مِنْ الْحَاجَةِ عِنْدَ عَدَمِ الزَّكَاةِ، أَوْ فَنَائِهَا، أَوْ تَقْصِيرِهَا مِنْ عُمُومِ الْمُحْتَاجِينَ، وَأَخْذِ السُّلْطَانِ دُونَهُمْ، وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى، فَانْظُرُوا فِيهِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26] قَالَ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ: التَّبْذِيرُ هُوَ مَنْعُهُ مِنْ حَقِّهِ، وَوَضْعُهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، وَهُوَ أَيْضًا تَفْسِيرُ الْحَدِيثِ: «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ». وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ وَهُوَ الْإِسْرَافُ، وَذَلِكَ حَرَامٌ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27] وَذَلِكَ نَصٌّ فِي التَّحْرِيمِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَنْ أَنْفَقَ فِي الشَّهَوَاتِ، هَلْ هُوَ مُبَذِّرٌ أَمْ لَا؟ قُلْنَا: مَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ فِي الشَّهَوَاتِ زَائِدًا عَلَى الْحَاجَاتِ، وَعَرَّضَهُ بِذَلِكَ لَلنَّفَادِ فَهُوَ مُبَذِّر. وَمَنْ أَنْفَقَ رِبْحَ مَالِهِ فِي شَهَوَاتِهِ، أَوْ غَلَّتَهُ، وَحَفِظَ الْأَصْلَ أَوْ الرَّقَبَةَ، فَلَيْسَ بِمُبَذِّرٍ. وَمَنْ أَنْفَقَ دِرْهَمًا فِي حَرَامٍ فَهُوَ مُبَذِّرٌ يُحْجَرُ عَلَيْهِ فِي نَفَقَةِ دِرْهَمٍ فِي الْحَرَامِ، وَلَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ بِبَذْلِهِ فِي الشَّهَوَاتِ، إلَّا إذَا خِيفَ عَلَيْهِ النَّفَادُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمْ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} [الإسراء: 28] الْآيَةَ: أَمَرَ اللَّهُ بِالْإِقْبَالِ عَلَى الْآبَاءِ وَالْقَرَابَةِ وَالْمَسَاكِينِ وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ عِنْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْعَطَاءِ، وَالْقُدْرَةِ، فَإِنْ كَانَ عَجْزٌ عَنْ ذَلِكَ جَازَ الْإِعْرَاضُ، حَتَّى يَرْحَمَ اللَّهُ بِمَا يُعَادُ عَلَيْهِمْ بِهِ؛ فَاجْعَلْ بَدَلَ الْعَطَاءِ قَوْلًا فِيهِ يُسْرٌ.

الآية السادسة قوله تعالى ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط

وَقِيلَ: إنَّمَا أَمَرَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ عِنْدَ خَوْفِ نَفَقَتِهِمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ، فَيَنْتَظِرُ رَحْمَةَ اللَّهِ بِالتَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ: إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي «خَبَّابٍ، وَبِلَالٍ، وَعَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ، وَغَيْرِهِمْ، مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ؟ كَانُوا يَأْتُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَسْأَلُونَهُ، فَيُعْرِضُ عَنْهُمْ؛ إذْ لَا يَجِدُ مَا يُعْطِيهِمْ، فَأُمِرَ أَنْ يُحْسِنَ لَهُمْ الْقَوْلَ إلَى أَنْ يَرْزُقَهُ اللَّهُ مَا يُعْطِيهِمْ»، وَهُوَ قَوْلُهُ: {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} [الإسراء: 28]. [الْآيَة السَّادِسَة قَوْله تَعَالَى وَلَا تَجْعَلْ يَدَك مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِك وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ] ِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29] فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29] هَذَا مَجَازٌ، عَبَّرَ بِهِ عَنْ الْبَخِيلِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى إخْرَاجِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ فَضَرَبَ لَهُ مَثَلًا الْغُلَّ الَّذِي يَمْنَعُ مِنْ تَصَرُّفِ الْيَدَيْنِ، وَقَدْ ضَرَبَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَثَلًا آخَرَ، فَقَالَ: «مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ، مِنْ لَدُنْ ثُدِيِّهِمَا إلَى تَرَاقِيِهِمَا، فَأَمَّا الْمُنْفِقُ فَلَا يُنْفِقُ إلَّا سَبَغَتْ وَوَفَرَتْ عَلَى جِلْدِهِ حَتَّى يَخْفَى بَنَانُهُ، وَيَعْفُوَ أَثَرُهُ. وَأَمَّا الْبَخِيلُ فَلَا يُرِيدُ أَنْ يُنْفِقَ شَيْئًا إلَّا لَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا. فَهُوَ يُوَسِّعُ وَلَا يَتَّسِعُ». الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] ضَرَبَ بَسْطَ الْيَدِ مَثَلًا لِذَهَابِ الْمَالِ، فَإِنَّ قَبْضَ الْكَفِّ يَحْبِسُ مَا فِيهَا، وَبَسْطَهَا

يُذْهِبُ مَا فِيهَا، وَمِنْهُ الْمَثَلُ الْمَضْرُوبُ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ: {إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ} [الرعد: 14]. فِي أَحَدِ وَجْهَيْ تَأْوِيلِهِ، كَأَنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى التَّوَسُّطِ فِي الْمَنْعِ وَالدَّفْعِ، كَمَا قَالَ: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] فَيُؤَوَّلُ مَعْنَى الْكَلَامِ إلَى أَوْجُهٍ ثَلَاثَةٍ: الْأَوَّلُ: لَا يَمْتَنِعُ عَنْ نَفَقَتِهِ فِي الْخَيْرِ، وَلَا يُنْفِقُ فِي الشَّرِّ. الثَّانِي: لَا يَمْنَعُ حَقَّ اللَّهِ، وَلَا يَتَجَاوَزُ الْوَاجِبَ؛ لِئَلَّا يَأْتِيَ مَنْ يَسْأَلُ، فَلَا يَجِدُ عَطَاءً. الثَّالِثُ: لَا تُمْسِكْ كُلَّ مَالِك، وَلَا تُعْطِ جَمِيعَهُ، فَتَبْقَى مَلُومًا فِي جِهَاتِ الْمَنْعِ الثَّلَاثِ، مَحْسُورًا، أَيْ مُنْكَشِفًا فِي جِهَةِ الْبَسْطِ وَالْعَطَاءِ لِلْكُلِّ أَوْ لِسَائِرِ وُجُوهِ الْعَطَاءِ الْمَذْمُومَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذَا خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ، وَكَثِيرًا مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا كَانَ سَيِّدَهُمْ وَوَاسِطَتَهُمْ إلَى رَبِّهِمْ عَبَّرَ بِهِ عَنْهُمْ، عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قَدْ خَيَّرَهُ اللَّهُ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ، فَاخْتَارَ الْفَقْرَ، يَجُوعُ يَوْمًا، وَيَشْبَعُ يَوْمًا، وَيَشُدُّ عَلَى بَطْنِهِ مِنْ الْجُوعِ حَجَرَيْنِ، وَكَانَ عَلَى ذَلِكَ صَبَّارًا، وَكَانَ يَأْخُذُ لِعِيَالِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ حِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّضِيرَ وَفَدَكَ وَخَيْبَرَ، ثُمَّ يَصْرِفُ مَا بَقِيَ فِي الْحَاجَاتِ، حَتَّى يَأْتِيَ أَثْنَاءَ الْحَوْلِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي هَذَا الْخِطَابِ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْأُمَّةِ، لِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ الْخِلَالِ وَالْجَلَالِ، وَشَرَفِ الْمَنْزِلَةِ، وَقُوَّةِ النَّفْسِ عَلَى الْوَظَائِفِ، وَعَظِيمِ الْعَزْمِ عَلَى الْمَقَاصِدِ، فَأَمَّا سَائِرُ النَّاسِ فَالْخِطَابُ عَلَيْهِمْ وَارِدٌ، وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ كَمَا تَقَدَّمَ إلَيْهِمْ مُتَوَجِّهٌ، إلَّا أَفْرَادًا خَرَجُوا مِنْ ذَلِكَ بِكَمَالِ صِفَاتِهِمْ، وَعَظِيمِ أَنْفُسِهِمْ، مِنْهُمْ «أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، خَرَجَ عَنْ جَمِيعِ مَالِهِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقِبَلَهُ مِنْهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ»؛ وَأَشَارَ عَلَيَّ أَبِي لُبَابَةَ وَكَعْبٍ بِالثُّلُثِ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِمْ؛ لِنَقْصِهِمْ عَنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ فِي أَحْوَالِهِمْ؛ وَأَعْيَانٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، كَانُوا عَلَى هَذَا، فَأَجْرَاهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَائْتَمَرُوا بِأَمْرِ اللَّهِ، وَاصْطَبِرُوا عَلَى بَلَائِهِ، وَلَمْ تَتَعَلَّقْ قُلُوبُهُمْ بِدُنْيَا، وَلَا ارْتَبَطَتْ أَبْدَانُهُمْ بِمَالٍ مِنْهَا؛ وَذَلِكَ لِثِقَتِهِمْ بِمَوْعُودِ اللَّهِ فِي الرِّزْقِ، وَعُزُوبِ أَنْفُسِهِمْ عَنْ التَّعَلُّقِ بِغَضَارَةِ الدُّنْيَا.

الآية السابعة قوله تعالى ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم

وَقَدْ كَانَ فِي أَشْيَاخِي مَنْ ارْتَقَى إلَى هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ فَمَا ادَّخَرَ قَطُّ شَيْئًا لِغَدٍ، وَلَا نَظَرَ بِمُؤَخِّرِ عَيْنِهِ إلَى أَحَدٍ، وَلَا رَبَطَ عَلَى الدُّنْيَا بِيَدٍ، وَقَدْ تَحَقَّقَ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ، وَهُوَ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ. [الْآيَة السَّابِعَة قَوْله تَعَالَى وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ] ْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء: 31] فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سُئِلَ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك. قَالَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يُطْعَمَ مَعَك». وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ وَحَدِيثٌ صَحِيحٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَتْلَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ؛ إذْ فِيهِ إذَايَةُ الْجِنْسِ، وَإِيثَارُ النَّفْسِ، وَتَعَاطِي الْوَحْدَةِ الَّتِي لَا قِوَامَ لِلْعَالَمِ بِهَا، وَتَخَلُّقُ الْجِنْسِيَّةِ بِأَخْلَاقِ السَّبُعِيَّةِ، وَإِذَا كَانَتْ مَعَ قُوَّةِ الْأَسْبَابِ فِي جَارٍ أَوْ قَرِيبٍ، وَالْوَلَدُ أَلْصَقُ الْقَرَابَةِ، وَأَعْظَمُ الْحُرْمَةِ، فَيَتَضَاعَفُ الْإِثْمُ بِتَضَاعُفِ الْهَتْكِ لِلْحُرْمَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَكَانَ مَوْرِدُ هَذَا النَّهْيِ فِي الْمَقْصِدِ الْأَكْبَرِ أَهْلَ الْمَوْءُودَةِ الَّذِينَ كَانُوا يَرَوْنَ قَتْلَ

الآية الثامنة قوله تعالى ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق

الْإِنَاثِ مَخَافَةَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِنَّ، وَعَدَمَ النُّصْرَةِ مِنْهُنَّ، وَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَنْ فَعَلَ فِعْلَهُمْ مِنْ قَتْلِ وَلَدِهِ إمَّا خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ؛ لَكِنَّ هَذَا أَقْوَى فِيهَا. وَقَدْ قَدَّمَنَا بَيَانَ الْقَوْلِ فِي جَرَيَانِ الْقِصَاصِ بَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ هَاهُنَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء: 31]. الْخَاءُ وَالطَّاءُ وَالْهَمْزَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْقَصْدِ، وَبِعَدَمِ الْقَصْدِ، تَقُولُ: خَطِئْت إذَا تَعَمَّدْت، وَأَخْطَأْت إذَا تَعَمَّدْت وَجْهًا وَأَصَبْت غَيْرَهُ، وَقَدْ يَكُونُ الْخَطَأُ مَعَ عَدَمِ الْقَصْدِ، وَهُوَ مَعْنًى مُتَرَدِّدٌ كَمَا بَيَّنَّا، لِقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً} [النساء: 92] [الْآيَة الثَّامِنَة قَوْله تَعَالَى وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ] ِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33] فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ} [الإسراء: 33]: الْمَعْنَى لِلْقَرِيبِ مِنْهُ، مَأْخُوذٌ مِنْ الْوَلِيِّ، وَهُوَ الْقُرْبُ عَلَى مَا حَقَقْنَاهُ فِي " كِتَابِ الْأَمَدِ الْأَقْصَى " وَالْقُرْبُ فِي الْمَعَانِي لَيْسَ بِالْمَسَافَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالصِّفَاتِ، وَالصِّفَةُ الَّتِي بِهَا كَانَ قَرِيبًا هِيَ النَّسَبُ الَّذِي هُوَ الْبَعْضِيَّةُ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ يَنْتَسِبُ إلَيْهِ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَعْضِيَّةِ فَهُوَ وَلِيٌّ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ الْوَارِثُ مُطْلَقًا، فَكُلُّ مَنْ وَرِثَهُ فَهُوَ وَلِيُّهُ. وَعَلَى ذَلِكَ وَرَدَ لَفْظُ الْوِلَايَةِ فِي الْقُرْآنِ. وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْقِصَاصَ رَدْعًا عَنْ الْإِتْلَافِ، وَحَيَاةً لِلْبَاقِينَ؛ وَظَاهِرُهُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا لِجَمِيعِ النَّاسِ، كَالْحُدُودِ وَالزَّوَاجِرِ عَنْ السَّرِقَةِ وَالزِّنَا، حَتَّى لَا

يَخْتَصَّ بِهَا مُسْتَحِقٌّ، بَيْدَ أَنَّ الْبَارِئَ تَعَالَى اسْتَثْنَى الْقِصَاصَ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَجَعَلَهُ لِلْأَوْلِيَاءِ الْوَارِثِينَ، لِيَتَحَقَّقَ فِيهِ الْعَفْوُ الَّذِي نُدِبَ إلَيْهِ فِي بَابِ الْقَتْلِ، وَلَمْ يُجْعَلْ عَفَوَا فِي سَائِرِ الْحُدُودِ، لِحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ، وَقُدْرَتِهِ النَّافِذَةِ، وَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَيْنَ أَنْ يَقْتُلَ أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ». وَكَانَتْ هَذِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ خَاصِّيَّةً أُعْطِيَتْهَا هَذِهِ الْأُمَّةُ، تَفَضُّلًا وَتَفْضِيلًا، وَحِكْمَةً وَتَفْصِيلًا، فَخُصَّ بِذَلِكَ الْأَوْلِيَاءُ، لِيُتَصَوَّرَ الْعَفْوُ، أَوْ الِاسْتِيفَاءُ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْحُزْنِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي دُخُولِ النِّسَاءِ فِي الدَّمِ، فَإِذَا قَالَ بِدُخُولِهِنَّ فِيهِ، فَلِعُمُومِ الْآيَةِ، وَإِذَا قَالَ بِخُرُوجِهِنَّ عَنْهُ فَلِأَنَّ طَلَبَ الْقِصَاصِ مَبْنَاهُ عَلَى النَّصْرِ وَالْحِمَايَةِ، وَلَيْسَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِهَا، وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33]. فَإِذَا قُلْنَا بِدُخُولِهِنَّ فِيهِ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى فَفِي أَيِّ شَيْءٍ يَكُونُ دُخُولُهُنَّ؟ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا: فِي الْقَوَدِ دُونَ الْعَفْوِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْغَرَضَ اسْتِبْقَاؤُهُ لِحُصُولِ الْحَيَاةِ، وَالتَّشَفِّي مِنْ عَدَمِ النَّصِيرِ، وَعَظِيمِ الْحُزْنِ عَلَى الْفَقِيدِ؛ وَالنِّسَاءُ بِذَلِكَ أَخَصُّ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ دُخُولَهُنَّ فِي الْعَفْوِ دُونَ الْقَوَدِ تَغْلِيبًا لِجَانِبِ الْإِسْقَاطِ الَّذِي يُغَلَّبُ فِي الْحُدُودِ؛ فَمِنْ أَيِّ وَجْهٍ وَجَدْنَا الْإِسْقَاطَ، وَإِنْ ضَعُفَ أَمْضَيْنَاهُ. انْتِصَافٌ ذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّبَرِيُّ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي أَنَّهُ احْتَجَّ عَلَى مَنْعِ النِّسَاءِ مِنْ الدُّخُولِ فِي الْآيَةِ بِوُجُوهٍ رَكِيكَةٍ، مِنْهَا: أَنَّ الْوَلِيَّ فِي ظَاهِرِهِ عَلَى التَّذْكِيرِ وَهُوَ وَاحِدٌ؛ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ مَا كَانَ بِمَعْنَى الْجِنْسِ اسْتَوَى الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ فِيهِ. قَالَ الْقَاضِي: لَمْ يُنْصِفْ الطَّبَرِيُّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ كَلَامَ إسْمَاعِيلَ، وَاسْتَرَكَّهُ قَبْلَ اسْتِيفَائِهِ، فَالرَّكِيكُ هُوَ قَوْلُهُ الَّذِي لَمْ يَتِمَّ؛ وَتَمَامُ قَوْلِ إسْمَاعِيلَ هُوَ أَنَّهُ

قَالَ: إنَّ الْوَلِيَّ هَاهُنَا عَلَى التَّذْكِيرِ؛ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ فِي مَعْنَى الْجِنْسِ، كَمَا قَالَ: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَلِيُّ الْقَتِيلِ وَاحِدًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ جَمَاعَةً، وَلَا تَدْخُلُ الْمَرْأَةُ فِي جُمْلَةِ الْأَوْلِيَاءِ، كَمَا دَخَلَتْ فِي جُمْلَةِ النَّاسِ حِينَ قَالَ: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2]؛ لِأَنَّهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعْنَاهَا وَمَعْنَى الرَّجُلِ سَوَاءٌ؛ إذْ كَانَ الْخَيْرُ وَعَمَلُ الصَّالِحَاتِ إنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يَخُصُّهُمَا فِي أَنْفُسِهِمَا وَالْوَلِيُّ يَكُونُ وَلِيًّا لِغَيْرِهِ، وَهُوَ وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ، وَالْمَرْأَةُ لَا تَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ كُلَّهَا. قَالَ الطَّبَرِيُّ: قَالَ إسْمَاعِيلُ: الْمَرْأَةُ لَا تَسْتَحِقُّ كُلَّ الْقِصَاصِ، والْقِصَاصُ لَا بَعْضَ لَهُ؛ فَلَزِمَهُ مِنْ ذَلِكَ إخْرَاجُ الزَّوْجِ مِنْ الْوِلَايَةِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: تَبَصَّرْ أَيُّهَا الطَّبَرِيُّ مَا قَالَهُ إسْمَاعِيلُ الْمَالِكِيُّ: إنَّمَا لَا تَسْتَحِقُّ الْمَرْأَةُ الْوِلَايَةَ كُلَّهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِكَامِلَةٍ، لَا فِي شَهَادَةٍ وَلَا فِي تَعْصِيبٍ؛ فَكَيْفَ تَضْعُفُ عَنْ الْكَمَالِ فِي أَضْعَفِ الْأَحْكَامِ، وَيَثْبُتُ الْقِصَاصُ لَهَا عَلَى الْكَمَالِ، أَيْنَ يَا طَبَرِيُّ تَحْقِيقُ شَيْخِك إمَامِ الْحَرَمَيْنِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ، وَأَمَّا احْتِجَاجُك بِالزَّوْجِ فَهُوَ الرَّكِيكُ مِنْ الْقَوْلِ؛ فَإِنَّ الزَّوْجَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي وِلَايَةِ الدَّمِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: قَالَ إسْمَاعِيلُ: الْمَقْصُودُ مِنْ الْقِصَاصِ تَقْلِيلُ الْقَتْلِ، وَالْمَقْصُودُ بِكَثْرَةِ الْقَتْلِ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ، وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَلَّا يَجْرِيَ الْقِصَاصُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: إمَّا أَنَّ فَكَّيْك ضَعُفَا عَنْ لَوْكِ مَا قَالَهُ إسْمَاعِيلُ، وَإِمَّا تَعَامَيْت عَمْدًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَتْلَ وَالِاعْتِدَاءَ إنَّمَا شَأْنُهُ الْغَوَائِلُ وَالشَّحْنَاءُ، وَهِيَ بَيْنَ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، وَلَا يَقْتُلُ عَلَى الْغَائِلَةِ امْرَأَةً إلَّا دَنِيءُ الْهِمَّةِ، وَيُعَيَّرُ بِهِ بَقِيَّةَ الدَّهْرِ؛ فَكَانَ ذَلِكَ وَاقِعًا فِي الْغَالِبِ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، فَوَقَعَ الْقَوْلُ بِجَزَاءِ ذَلِكَ، وَهُوَ الْقِصَاصُ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ إذْ خُرُوجُ الْكَلَامِ عَلَى غَالِبِ الْأَحْوَالِ هِيَ الْفَصَاحَةُ الْعَرَبِيَّةُ، وَالْقَوَاعِدُ الدِّينِيَّةُ. وَقَدْ تَفَطَّنَ لِذَلِكَ شَيْخُك إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، فَجَعَلَهُ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَرَدَّ إلَيْهِ كَثِيرًا مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ؛ فَكَيْف ذُهِلْت عَنْهُ، وَأَنْتَ تَحْكِيهِ وَتُعَوِّلُ فِي تَصَانِيفِك عَلَيْهِ،

مسألة قوله تعالى سلطانا فيه خمسة أقوال

[مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى سُلْطَانًا فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {سُلْطَانًا} [الأعراف: 33] فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: السُّلْطَانُ أَمْرُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: السُّلْطَانُ الْحُجَّةُ. الثَّالِثُ: قَالَ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ: السُّلْطَانُ إنْ شَاءَ عَفَا، وَإِنْ شَاءَ قَتَلَ، وإنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ؛ قَالَهُ أَشْهَبُ وَالشَّافِعِيُّ. الرَّابِعُ: السُّلْطَانُ طَلَبُهُ حَتَّى يُدْفَعَ إلَيْهِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَظْهَرَ مِنْ بَعْضٍ، أَمَّا طَلَبُهُ حَتَّى يُدْفَعَ إلَيْهِ فَهُوَ ابْتِدَاءُ الْحَقِّ، وَآخِرُهُ اسْتِيفَاؤُهُ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْخَامِسُ. وَأَمْرُ اللَّهِ هُوَ حُجَّةُ الْخَلْقِ لِعِبَادِهِ، وَعَلَيْهِمْ، وَالِاسْتِيفَاءُ هُوَ الْمُنْتَهَى، وَقَدْ تَدَاخَلَتْ، وَتَقَارَبَتْ، وَأَوْضَحُهَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ: إنَّهُ أَمْرُ اللَّهِ. ثُمَّ إنَّ أَمْرَ اللَّهِ لَمْ يَقَعْ نَصًّا، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ؛ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ: الْقَتْلُ خَاصَّةً. وَقَالَ أَشْهَبُ عَنْهُ: الْخِيرَةُ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالدِّيَةِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وقَدْ قَدَّمْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ، فَلْيُنْظَرْ فِيهِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَفِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33]: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْحَسَنُ: لَا يَقْتُلُ غَيْرَ قَاتِلِهِ الثَّانِي: قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَقْتُلُ بَدَلَ وَلِيِّهِ اثْنَيْنِ، كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ. الثَّالِثُ: لَا يُمَثِّلُ بِالْقَاتِلِ؛ قَالَهُ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ، وَكُلُّهُ مُرَادٌ؛ لِأَنَّهُ إسْرَافٌ كُلُّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33]: يَعْنِي مُعَانًا.

الآية التاسعة قوله تعالى ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن

فَإِنْ قِيلَ: وَكَمْ مِنْ وَلِيٍّ مَخْذُولٍ لَا يَصِلُ إلَى حَقِّهِ. قُلْنَا: الْمَعُونَةُ تَكُونُ بِظُهُورِ الْحُجَّةِ تَارَةً، وَبِاسْتِيفَائِهَا أُخْرَى، وَبِمَجْمُوعِهِمَا ثَالِثَةً، فَأَيُّهَا كَانَ فَهُوَ نَصْرٌ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَحِكْمَتُهُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ وَفِي إفْرَادِ النَّوْعَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة التَّاسِعَة قَوْله تَعَالَى وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا} [الإسراء: 34] {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [الإسراء: 35] فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ فِي مَوَاضِعَ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ وَقَوْلُهُ: {إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 34]: يَعْنِي الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ لِلْيَتِيمِ، وَذَلِكَ بِكُلِّ وَجْهٍ تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ فِيهِ لِلْيَتِيمِ، لَا لِلْمُتَصَرِّفِ فِيهِ، كَقَوْلِ عَائِشَةَ: اتَّجَرُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى لَا تَأْكُلُهَا الزَّكَاةُ، وَقَدْ فَسَّرَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ الْحَسَنَ فِيهِ يَعْنِي التِّجَارَةَ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الإسراء: 34] يَعْنِي قُوَّتَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْأَشُدِّ فِي سُورَةِ يُوسُفَ، وَسَرَدْنَا الْأَقْوَالَ فِيهِ، وَالْأَشُدُّ كَمَا قُلْنَا فِي الْقُوَّةِ، وَقَدْ تَكُونُ فِي الْبَدَنِ. وَقَدْ تَكُونُ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالتَّجْرِبَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ الْوَجْهَيْنِ؛ فَإِنَّ الْأَشُدَّ هَاهُنَا وَقَعَتْ مُطْلَقَةً، وَجَاءَ بَيَانُ الْيَتِيمِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ مُقَيَّدًا قَالَ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء: 6]

مسألة معنى قوله تعالى وأوفوا الكيل إذا كلتم

فَجَمَعَ بَيْنَ قُوَّةِ الْبَدَنِ بِبُلُوغِ النِّكَاحِ، وَبَيْنَ قُوَّةِ الْمَعْرِفَةِ بِإِينَاسِ الرُّشْدِ، وَعَضَّدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ لَوْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ تَمْكِينَ الْيَتِيمِ مِنْ مَالِهِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَعْرِفَةِ لَهُ وَبَعْدَ حُصُولِ قُوَّةِ الْبَدَنِ لَأَذْهَبَهُ فِي شَهَوَاتِهِ، وَبَقِيَ صُعْلُوكًا لَا مَالَ لَهُ. وَخَصَّ الْيَتِيمَ بِهَذَا الشَّرْطِ فِي هَذَا الذِّكْرِ لِغَفْلَةِ النَّاسِ عَنْهُ، وَافْتِقَادِ الْآبَاءِ لِبَنِيهِمْ، فَكَانَ الْإِهْمَالُ لِفَقِيدِ الْأَبِ أَوْلَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا} [الإسراء: 34] يَعْنِي مَسْئُولًا عَنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْعَهْدِ فِي مَوَاضِعَ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إذَا كِلْتُمْ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ} [الإسراء: 35] يُرِيدُ أَعْطُوهُ بِالْوَفَاءِ، وَهُوَ التَّمَامُ، لَا بَخْسَ فِيهِ، بِالْقِسْطِ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} [الإسراء: 35] يَعْنِي الْمِيزَانَ الْعَدْلَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الْقَبَّانُ يَعْنِي بِهِ مَا قَالَ اللَّهُ مُخْبِرًا عَنْهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} [هود: 84] وَقَالَ: {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} [الرحمن: 7] {أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} [الرحمن: 8] لَا بِزِيَادَةٍ وَلَا بِنُقْصَانٍ. وَمِنْ نَوَادِرِ أَبِي الْفَضْلِ الْجَوْهَرِيِّ مَا أَنْبَأَنَا عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْوَاعِظُ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إذَا أَمْسَكْت عَلَّاقَةَ الْمِيزَانِ بِالْإِبْهَامِ وَالسَّبَّابَةِ، وَارْتَفَعَتْ سَائِرُ الْأَصَابِعِ كَانَ تَشَكُّلِهَا مَقْرُوءًا بِقَوْلِك اللَّهُ، فَكَأَنَّهَا إشَارَةُ مِنْهُ سُبْحَانَهُ فِي تَسْيِيرِ الْوَزْنِ كَذَلِكَ إلَى أَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَيْك، فَاعْدِلْ فِي وَزْنِك. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [الإسراء: 35]: أَيْ عَاقِبَةً. مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَدْلَ وَالْوَفَاءَ فِي الْكَيْلِ أَفْضَلُ لِلتَّاجِرِ وَأَكْرَمُ لِلْبَائِعِ مِنْ طَلَبِ الْحِيلَةِ فِي الزِّيَادَةِ لِنَفْسِهِ، وَالنُّقْصَانِ عَلَى غَيْرِهِ، وَأَحْسَنُ عَاقِبَةٍ، فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ. [الْآيَة الْعَاشِرَة قَوْله تَعَالَى وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ] ٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا} [الإسراء: 36]

فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: " لَا تَقْفُ ": تَقُولُ الْعَرَبُ: قَفَوْته أَقْفُوهُ، وَقَفْته أَقُوفُهُ، وَقَفَّيْته: إذَا اتَّبَعْت أَثَرَهُ، وَقَافِيَةُ كُلِّ شَيْءٍ آخِرُهُ؛ وَمِنْهُ اسْمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُقَفَّى؛ لِأَنَّهُ جَاءَ آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَخْيَرُهُمْ. وَمِنْهُ الْقَائِفُ، وَهُوَ الَّذِي يَتَّبِعُ أَثَرَ الشَّبَهِ، يُقَالُ قَافَ الْقَائِفُ يَقُوفُ، إذَا فَعَلَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قَرَأَهُ بَعْضُهُمْ: وَلَا تَقُفْ، مِثْلَ تَقُلْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ: لِلنَّاسِ فِيهَا خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: لَا تَسْمَعُ وَلَا تَرَ مَا لَا يَحِلُّ سَمَاعُهُ وَلَا رُؤْيَتُهُ. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَتَّبِعُ مَا لَا تَعْلَمُ وَلَا يَعْنِيَك. الثَّالِثُ: قَالَ قَتَادَةُ: لَا تَقُلْ رَأَيْت مَا لَمْ أَرَ، وَلَا سَمِعْت مَا لَمْ أَسْمَعْ. الرَّابِعُ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: هُوَ شَهَادَةُ الزُّورِ. الْخَامِسُ: قِيلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ لَا تَقْفُ لَا تَقُلْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ؛ وَبَعْضُهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ، وَإِنْ كَانَتْ مُرْتَبِطَةً؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَسْمَعَ مَا لَا يَحِلُّ، وَلَا يَقُولَ بَاطِلًا، فَكَيْفُ أَعْظَمُهُ وَهُوَ الزُّورُ. وَيَرْجِعُ الْخَامِسُ إلَى الثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لَهُ، وَإِذَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَّبِعَهُ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: إنَّ الْمُفْتِيَ بِالتَّقْلِيدِ إذَا خَالَفَ نَصَّ الرِّوَايَةِ فِي نَصِّ النَّازِلَةِ عَمَّنْ قَلَّدَهُ أَنَّهُ مَذْمُومٌ دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّهُ يَقِيسُ وَيَجْتَهِدُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا الِاجْتِهَادُ فِي قَوْلِ اللَّهِ وَقَوْلِ الرَّسُولِ، لَا فِي قَوْلِ بَشَرٍ بَعْدَهُمَا.

مسألة معنى قوله تعالى إن السمع والبصر والفؤاد

وَمَنْ قَالَ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَخْرُجُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ فِي مَوْضِعِ كَذَا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَأَنْتَ تَقُولُهَا وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ قَبْلَك. قُلْنَا: نَعَمْ؛ نَحْنُ نَقُولُ ذَلِكَ فِي تَفْرِيعِ مَذْهَبِ مَالِكٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْتِزَامِ الْمَذْهَبِ بِالتَّخْرِيجِ، لَا عَلَى أَنَّهَا فَتْوَى نَازِلَةٌ تَعْمَلُ عَلَيْهَا الْمَسَائِلُ، حَتَّى إذَا جَاءَ سَائِلٌ عُرِضَتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى الدَّلِيلِ الْأَصْلِيِّ؛ لَا عَلَى التَّخْرِيجِ الْمَذْهَبِيِّ، وَحِينَئِذٍ يُقَالُ لَهُ الْجَوَابُ كَذَا فَاعْمَلْ عَلَيْهِ. وَمِنْهَا قَوْلُ النَّاسِ: هَلْ الْحَوْضُ قَبْلَ الْمِيزَانِ وَالصِّرَاطِ أَوْ الْمِيزَانُ قَبْلَهُمَا أَمْ الْحَوْضُ؟ فَهَذَا قَفْوُ مَا لَا سَبِيلَ إلَى عِلْمِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ لَا يُدْرَكُ بِنَظَرِ الْعَقْلِ، وَلَا بِنَظَرِ السَّمْعِ، وَلَيْسَ فِيهِ خَبَرٌ صَحِيحٌ، فَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ. وَمِثْلُهُ: كَيْفَ كِفَّةُ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ؟ كَيْفَ يُعْطَى كِتَابَهُ؟. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ} [الإسراء: 36]: يُسْأَلُ كُلُّ وَاحِدِ مِنْهَا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَيُسْأَلُ الْفُؤَادُ عَمَّا افْتَكَرَ وَاعْتَقَدَ، وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ عَمَّا رَأَى مِنْ ذَلِكَ أَوْ سَمِعَ، فَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُنْكِرُ، فَتَنْطِقُ عَلَيْهِ جَوَارِحُهُ، فَإِذَا شَهِدَتْ اسْتَوْجَبَتْ الْخُلُودَ الدَّائِمَ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ الْعَاصِي فَلَمْ يَأْتِ فِيهِ أَمْرٌ صَحِيحٌ، فَهُوَ مِثَالٌ رَابِعٌ مِنْهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي رِسَالَةِ تَقْوِيمِ الْفَتْوَى عَلَى أَهْلِ الدَّعْوَى. [الْآيَة الْحَادِيَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا] الْآيَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا} [الإسراء: 37] {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا - ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 38 - 39] فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {مَرَحًا} [الإسراء: 37]: فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: مُتَكَبِّرًا. الثَّانِي: بَطِرًا. الثَّالِثُ: شَدِيدُ الْفَرَحِ. الرَّابِعُ: النَّشَاطُ. فَإِذَا تَتَبَّعْت هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَجَدْتهَا مُتَقَارِبَةً، وَلَكِنَّهَا مُنْقَسِمَةٌ قِسْمَيْنِ مُخْتَلِفِينَ: أَحَدُهُمَا مَذْمُومٌ، وَالْآخَرُ مَحْمُودٌ؛ فَالتَّكَبُّرُ وَالْبَطَرُ مَذْمُومَانِ، وَالْفَرَحُ وَالنَّشَاطُ مَحْمُودَانِ؛ وَلِذَلِكَ يُوصَفُ اللَّهُ بِالْفَرَحِ، فَفِي الْحَدِيثِ: «لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ مِنْ رَجُلٍ» الْحَدِيثَ " وَالْكَسَلُ مَذْمُومٌ شَرْعًا، وَالنَّشَاطُ ضِدُّهُ. وَقَدْ يَكُونُ التَّكَبُّرُ مَحْمُودًا، وَذَلِكَ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ وَعَلَى الظَّلَمَةِ. وَحَقِيقَةُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ الْآنَ أَنَّ الْفَرَحَ إذَا كَانَ بَدَنِيًّا وَصِفَاتٍ لَيْسَ لَهَا فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ، أَوْ كَانَ النَّشَاطُ إلَى مَا لَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يَكُونُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا نِيَّةٌ دِينِيَّةٌ لِلْمُتَّصِفِ بِهِمَا؛ فَذَلِكَ الَّذِي ذَمَّ اللَّهُ هَاهُنَا. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي: الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ: {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ} [الإسراء: 37]: يَعْنِي لَنْ تَتَوَلَّجَ بَاطِنَهَا، فَتَعْلَمَ مَا فِيهَا، وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يُرِيدُ لَنْ تُسَاوِيَ الْجِبَالَ بِطَوْلِك، وَلَا بِطُولِك، وَإِنَّمَا تَسْتَقْبِلُ مَا أَمَامَك؛ وَأَيُّ فَضْلٍ لَك فِي ذَلِكَ؟ وَالْمُسَاوَاةُ فِيهِ مَوْجُودَةٌ بَيْنَ الْخَلْقِ.

وَيُرْوَى أَنَّ سَبَأً دَوَّخَ الْأَرْضَ بِأَجْنَادِهِ شَرْقًا وَغَرْبًا، سَهْلًا وَجَبَلًا، وَقَتَلَ وَأَسَرَ وَبِهِ سُمِّيَ سَبَأٌ وَدَانَ لَهُ الْخَلْقُ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ انْفَرَدَ عَنْ أَصْحَابِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: إنِّي لَمَّا نِلْت مَا لَمْ يَنَلْ أَحَدٌ رَأَيْت الِابْتِدَاءَ بِشُكْرِ هَذِهِ النِّعَمِ؛ فَلَمْ أَرَ أَوْقَعَ فِي ذَلِكَ مِنْ السُّجُودِ لِلشَّمْسِ إذَا أَشْرَقَتْ، فَسَجَدُوا لَهَا، فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ عِبَادَةِ الشَّمْسِ، فَهَذِهِ عَاقِبَةُ الْخُيَلَاءِ وَالتَّكَبُّرِ وَالْمَرَحِ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38]: قُرِئَ {سَيِّئُهُ} [الإسراء: 38] بِرَفْعِ الْهَمْزَةِ وَبِالْهَاءِ، وَبِنَصَبِ الْهَمْزَةِ وَالتَّاءِ، فَمَنْ قَرَأَهُ بِرَفْعِ الْهَمْزَةِ وَالْهَاءِ أَرَادَ أَنَّ الْكَلَامَ الْمُتَقَدِّمَ فِيهِ حُسْنٌ مَأْمُورٌ بِهِ، وَفِيهِ سَيِّئٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَرَجَعَ الْوَصْفُ بِالسُّوءِ إلَى السِّيءِ مِنْهُ. وَمَنْ قَرَأَهُ بِالْهَمْزَةِ الْمَنْصُوبَةِ وَالتَّاءِ رَجَعَ إلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مِنْ الْمَأْمُورِ بِهِ. وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ الْأَوَّلَ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَكُونُ الشَّيْءُ مَكْرُوهًا، وَالْكَرَاهِيَةُ عِنْدَكُمْ إرَادَةُ عَدَمِ الشَّيْءِ، فَكَيْفَ يُوجَدُ مَا أَرَادَ اللَّهُ عَدَمَهُ؟. قُلْنَا: قَدْ أَجَبْنَا عَنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ شَرْحِ الْمُشْكَلَيْنِ، بِبَسْطٍ. بَيَانُهُ عَلَى الْإِيجَازِ؛ أَنَّ مَعْنَى مَكْرُوهًا مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَمُرَادًا مَأْمُورٌ بِهِ، وَعَلَى هَذَا جَاءَ قَوْله تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]؛ أَيْ يَأْمُرُ بِالْيُسْرِ، وَلَا يَأْمُرُ بِالْعُسْرِ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَيْضًا كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّك مَكْرُوهًا شَرْعًا، أَيْ لَا يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الشَّرْعِ، وَإِنْ أَرَادَ وُجُودَهُ، كَقَوْلِهِ: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7]؛ مَعْنَاهُ دِينًا لَا وُجُودًا؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، تَعَالَى أَنْ يَكُونَ مِنْ عَبْدِهِ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُهُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} [الإسراء: 39]: قَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَ الْحِكْمَةِ هَاهُنَا، وَفِي كُتُبِنَا، وَفَسَّرْنَا وُجُوهَهَا وَمَوَارِدَهَا: وَلُبَابُهَا هَاهُنَا أَنَّهَا الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْعِلْمِ. وَأَعْظَمُهَا قَدْرًا وَأَشْرَفُهَا مَأْمُورًا مَا بَدَأَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ.

الآية الثانية عشرة قوله تعالى تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن

[الْآيَة الثَّانِيَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ] الْآيَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44] فِيهَا مَسْأَلَتَانِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ، أُمَّهَاتُهَا سِتَّةٌ: الْأَوَّلُ: دَلَالَتُهَا عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِهِ الْعُلَا وأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى. الثَّانِي: تَذْكِرَتُهَا لِلتَّسْبِيحِ بِهَا. الثَّالِثُ: كُلُّ شَيْءٍ لَهُ يُسَبِّحُ: لَمْحُ الْبَرْقِ، وَصَرِيفُ الرَّعْدِ، وَصَرِيرُ الْبَابِ، وَخَرِيرُ الْمَاءِ. الرَّابِعُ: قَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: كُلُّ ذِي رُوحٍ يُسَبِّحُ. الْخَامِسُ: قَالَ النَّخَعِيُّ وَغَيْرُهُ: الطَّعَامُ يُسَبِّحُ. السَّادِسُ: قَالَ أَكْثَرُ النَّاسِ، مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ: كُلُّ شَيْءٍ يُسَبِّحُ تَسْبِيحًا لَا يَعْلَمُهُ الْآدَمِيُّونَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمُوا نَوَّرَ اللَّهُ بَصَائِرَكُمْ بِعِرْفَانِهِ أَنَّ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ كَثُرَ الْخَوْضُ فِيهَا بَيْنَ النَّاسِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَاهَا فِي كِتَابِ الْمُشْكَلَيْنِ عَلَى مُقْتَضَى أَدِلَّةِ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ؛ وَتَرْتِيبُ الْقَوْلِ هَاهُنَا أَنَّهُ لَيْسَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لِلْجَمَادَاتِ فَضْلًا عَنْ الْبَهَائِمِ تَسْبِيحٌ بِكَلَامٍ، وَإِنْ لَمْ نَفْقَهْهُ نَحْنُ عَنْهَا؛ إذْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ قِيَامِ الْكَلَامِ بِالْمَحَلِّ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ هَيْئَةٌ آدَمِيَّةٌ، وَلَا وُجُودُ بَلَّةٍ وَلَا رُطُوبَةٍ، وَإِنَّمَا تَكْفِي لَهُ الْجَوْهَرِيَّةُ أَوْ الْجِسْمِيَّةُ خِلَافًا لِلْفَلَاسِفَةِ وَإِخْوَتِهِمْ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ يَرَوْنَ الْهَيْئَةَ الْآدَمِيَّةَ وَالْبَلَّةَ وَالرُّطُوبَةَ شَرْطًا فِي الْكَلَامِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ بِأَدِلَّتِهِ الَّتِي تَقَرَّرَتْ فِي مَوْضِعِهِ، وَبِأَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي

الْآدَمِيِّينَ عَرَضٌ يَخْلُقُهُ اللَّهُ فِيهِمْ، وَلَيْسَ يَفْتَقِرُ الْعَرَضُ إلَّا لِوُجُودِ جَوْهَرٍ أَوْ جِسْمٍ يَقُومُ بِهِ خَاصَّةً، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ فَإِنَّمَا هِيَ عَادَةٌ، وَلِلْبَارِي تَعَالَى نَقْضُ الْعَادَةِ وَخَرْقُهَا بِمَا شَاءَ مِنْ قُدْرَتِهِ لِمَنْ شَاءَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَبَرِّيَّتِهِ. وَلِهَذَا حَنَّ الْجِذْعُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَبَّحَ الْحَصَى فِي كَفِّهِ وَكَفِّ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ بِمَكَّةَ حَجَرٌ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ، وَكَانَتْ الصَّحَابَةُ تَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامَ بِبَرَكَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ كُلُّهُ هَيْئَةٌ، وَلَا وُجِدَتْ لَهُ رُطُوبَةٌ وَلَا بَلَّةٌ، وَعَلَى إنْكَارِ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ وَإِبْطَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ حَامَتْ بِمَا ابْتَدَعَتْهُ مِنْ الْمَقَالَاتِ، فَيَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ دَلَالَةَ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى الْخَالِقِ ظَاهِرَةٌ، وَتَذْكِرَتُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالْمُسَبِّحِينَ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ بَيِّنَةٌ. وَهَذَا وَإِنْ سُمِّيَ تَسْبِيحًا فَذَلِكَ شَائِعٌ لُغَةً، كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تُعَبِّرُ عَنْ لِسَانِ الْحَالِ بِلِسَانِ الْمَقَالِ، فَتَقُولُ: يَشْكُو إلَيَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى. وَكَمَا قَالَتْ: قِفْ بِالدِّيَارِ فَقُلْ: يَا دِيَارُ مَنْ غَرَسَ أَشْجَارَك، وَجَنَى ثِمَارَك، وَأَجْرَى أَنْهَارَك، فَإِنْ لَمْ تُجِبْك جُؤَارًا أَجَابَتْك اعْتِبَارًا؛ وَكَمَا قَالَ شَاعِرُهُمْ عَنْ شَجَرَةٍ: رُبَّ رَكْبٍ قَدْ أَنَاخُوا حَوْلَنَا ... يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ بِالْمَاءِ الزُّلَالِ سَكَتَ الدَّهْرُ زَمَانًا عَنْهُمْ ... وَكَذَاك الدَّهْرُ حَالًا بَعْدَ حَالِ وَذَلِكَ مَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً، وَهُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ الْبَدِيعِ فِي الْفَصَاحَةِ، وَالْغَايَةِ فِي الْبَلَاغَةِ. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ تَسْبِيحَ الْبَرْقِ لَمَعَانُهُ، وَالرَّعْدِ هَدِيرُهُ، وَالْمَاءِ خَرِيرُهُ، وَالْبَابِ صَرِيرُهُ، فَنَوْعٌ مِنْ الدَّلَالَةِ، وَوَجْهٌ مِنْ التَّسْمِيَةِ بِالْمَجَازِ ظَاهِرٌ. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ كُلَّ ذِي رُوحٍ يُسَبِّحُ بِنَفْسِهِ وَصُورَتُهُ، فَمِثْلُهُ فِي الدَّلَالَةِ وَفِي الْمَجَازِ فِي التَّسْمِيَةِ. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الطَّعَامَ يُسَبِّحُ الْتَحَقَ بِالْجَمَادِ فِي الْمَعْنَى وَالْعِبَارَةُ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ تَسْبِيحًا رَبُّنَا بِهِ أَعْلَمُ، لَا نَعْلَمُهُ نَحْنُ؛ أَخْذًا بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ لَمْ نَكْذِبْ، وَلَمْ نَغْلَطْ، وَلَا رَكِبْنَا مُحَالًا فِي الْعَقْلِ؛ وَنَقُولُ: إنَّهَا تُسَبِّحُ دَلَالَةً وَتَذْكِرَةً وَهَيْئَةً وَمَقَالَةً، وَنَحْنُ لَا نَفَقُهُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَلَا نَعْلَمُ، إنَّمَا يَعْلَمُهُ مَنْ خَلَقَهُ، كَمَا قَالَ: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك: 14]. وَقَدْ مَهَّدْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ عِنْدَ قَوْلِهِ: «شَكَتْ النَّارُ إلَى

الآية الثالثة عشرة قوله تعالى واستفزز من استطعت منهم بصوتك

رَبِّهَا فَقَالَتْ: يَا رَبِّ، أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا» هَلْ هُوَ بِكَلَامٍ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ قَوْلِهِ: امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي وَالْكُلُّ جَاءَ مِنْ عِنْدِنَا، وَرَبُّنَا عَلَيْهِ قَادِرٌ. وَأَكْمَلُ التَّسْبِيحِ تَسْبِيحُ الْمَلَائِكَةِ وَالْآدَمِيِّينَ وَالْجِنِّ فَإِنَّهُ تَسْبِيحٌ مَقْطُوعٌ بِأَنَّهُ كَلَامٌ مَعْقُولٌ، مَفْهُومٌ لِلْجَمِيعِ بِعِبَارَةٍ مُخْلَصَةٍ، وَطَاعَةٍ مُسَلَّمَةٍ، وَأَجَلُّهَا مَا اقْتَرَنَ بِالْقَوْلِ فِيهَا فِعْلٌ مِنْ رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ أَوْ مَجْمُوعُهُمَا، وَهِيَ صَلَاةُ الْآدَمِيِّينَ؛ وَذَلِكَ غَايَةُ التَّسْبِيحِ وَبِهِ سُمِّيَتْ الصَّلَاةُ سُبْحَةً. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]: قُلْنَا: أَمَّا الْكُفَّارُ الْمُنْكِرُونَ لِلصَّانِعِ فَلَا يَفْقَهُونَ مِنْ وُجُوهِ التَّسْبِيحِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ شَيْئًا كَالْفَلَاسِفَةِ، فَإِنَّهُمْ جَهِلُوا دَلَالَتَهَا عَلَى الصَّانِعِ، فَهُمْ لِمَا وَرَاءَ ذَلِكَ أَجْهَلُ. وَأَمَّا مَنْ عَرَفَ الدَّلَالَةَ وَفَاتَهُ مَا وَرَاءَهَا فَهُوَ يَفْقَهُ وَجْهًا وَيَخْفَى عَلَيْهِ آخَرُ، فَتَكُونُ الْآيَةُ عَلَى الْعُمُومِ فِي حَقِّ الْفَلَاسِفَةِ، وَتَكُونُ عَلَى الْخُصُوصِ فِيمَا وَرَاءَهُمْ، مِمَّنْ أَدْرَكَ شَيْئًا مِنْ تَسْبِيحِهِمْ؛ لِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد: 15] فَجَعَلَ تَصْرِيفَ الظِّلِّ ذُلًّا، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالسُّجُودِ، وَهِيَ غَايَةُ الْمَذَلَّةِ لِمَنْ لَهُ بِالْحَقِيقَةِ وَحْدَهُ الْعِزَّةُ، وَهَذَا تَوْقِيفٌ نَفِيسٌ لِلْمَعْرِفَةِ؛ فَإِذَا انْتَهَيْتُمْ إلَيْهِ عَارِفِينَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِنَا فَقِفُوا عِنْدَهُ، فَلَيْسَ وَرَاءَهُ مَزِيدٌ، إلَّا فِي تَفْصِيلِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ؛ وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ] َ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا} [الإسراء: 64] فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {وَاسْتَفْزِزْ} [الإسراء: 64]: فِيهِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: اسْتَخِفَّهُمْ. الثَّانِي: اسْتَجْهِلْهُمْ. وَلَا يُخَفُّ إلَّا مَنْ يَجْهَلُ؛ فَالْجَهْلُ تَفْسِيرٌ مَجَازِيٌّ، وَالْخِفَّةُ تَفْسِيرٌ حَقِيقِيٌّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {بِصَوْتِكَ} [الإسراء: 64]: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: بِدُعَائِك. الثَّانِي: بِالْغِنَاءِ وَالْمِزْمَارِ. الثَّالِثُ: كُلُّ دَاعٍ دَعَاهُ إلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ؟ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. فَأَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ فَهُوَ الْحَقِيقَةُ، وَأَمَّا الثَّانِي وَالثَّالِثُ فَهُمَا مُجَازَانِ، إلَّا أَنَّ الثَّانِيَ مَجَازٌ خَاصٌّ، وَالثَّالِثُ مَجَازٌ عَامٌّ. وَقَدْ «دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ بَيْتَ عَائِشَةَ، وَفِيهِ جَارِيَتَانِ مِنْ جِوَارِي الْأَنْصَارِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتْ بِهِ الْأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثٍ، فَقَالَ: أَمِزْمَارُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ». فَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَبِي بَكْرٍ تَسْمِيَةَ الْغِنَاءِ مِزْمَارَ الشَّيْطَانِ؟ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُبَاحَ قَدْ يَسْتَدْرِجُ بِهِ الشَّيْطَانُ إلَى الْمَعْصِيَةِ أَكْثَرَ وَأَقْرَبَ إلَى الِاسْتِدْرَاجِ إلَيْهَا بِالْوَاجِبِ، فَيَكُونُ إذَا تَجَرَّدَ مُبَاحًا، وَيَكُونُ عِنْدَ الدَّوَامِ وَمَا تَعَلَّقَ بِهِ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَعَاصِي حَرَامًا، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ مِزْمَارَ الشَّيْطَانِ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نُهِيت عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ فَذَكَرَ الْغِنَاءَ وَالنَّوْحَ». وَقَدَّمْنَا شَرْحَ ذَلِكَ كُلِّهِ.

الآية الرابعة عشرة والخامسة عشرة قوله تعالى ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الإسراء: 64]: وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119]. وَهَذَا تَفْسِيرُ أَنَّ صَوْتَهُ أَمْرُهُ بِالْبَاطِلِ، وَدُعَاؤُهُ إلَيْهِ عَلَى الْعُمُومِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَدِينُهُ مِنْ تَحْرِيمِ بَعْضِ الْأَمْوَالِ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ وَبَعْضِ الْأَوْلَادِ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا شَرَحْنَاهُ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف: 190]؛ وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ. [الْآيَة الرَّابِعَة عَشْرَة وَالْخَامِسَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى رَبُّكُمْ الَّذِي يُزْجِي لَكُمْ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ] الْآيَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [الإسراء: 66] قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ رُكُوبَ الْبَحْرِ جَائِزٌ عَلَى الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ، وَقَسَّمْنَا وُجُوهَ رُكُوبِهِ فِي مَقَاصِدِ الْخَلْقِ بِهِ، وَذَكَرْنَا أَنَّ مِنْ جُمْلَتِهِ التِّجَارَةَ وَجَلْبَ الْمَنَافِعِ مِنْ بَعْضِ الْبِلَادِ إلَى بَعْضٍ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [الإسراء: 66] يَعْنِي التِّجَارَةَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]. وَقَالَ: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]. وَلَا خِلَافَ أَنَّ ذَلِكَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ التِّجَارَةُ؛ فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ؛ وَكَذَلِكَ يَدُلُّ: الْآيَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ قَوْلُهُ: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا} [الإسراء: 70] عَلَى جَوَازِ رُكُوبِهِ أَيْضًا، وَهِيَ الْآيَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا تَفْسِيرَهَا فِي اسْمِ الْكَرِيمِ مِنْ كِتَابِ " الْأَمَدِ الْأَقْصَى " فَلْيُطْلَبْ ذَلِكَ فِيهِ.

الآية السادسة عشرة قوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس

[الْآيَة السَّادِسَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ] الْآيَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ} [الإسراء: 78]: أَيْ اجْعَلْهَا قَائِمَةً، أَيْ دَائِمَةً. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]: وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: زَالَتْ عِنْدَ كَبِدِ السَّمَاءِ؛ قَالَهُ عُمَرُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَطَائِفَةٌ سِوَاهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ وَغَيْرُهُمْ. الثَّانِي: أَنَّ الدُّلُوكَ هُوَ الْغُرُوبُ؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعَلِيٌّ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. [مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى غَسَقِ اللَّيْلِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: {غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78]: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: إقْبَالُ ظُلْمَتِهِ. الثَّانِي: اجْتِمَاعُ ظُلْمَتِهِ. الثَّالِثُ: مَغِيبُ الشَّفَقِ. وَقَدْ قَيَّدْت عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الدُّلُوكَ إنَّمَا سُمِّيَ بِهِ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ يَدْلُكُ عَيْنَيْهِ إذَا نَظَرَ إلَى الشَّمْسِ فِيهِ، أَمَّا فِي الزَّوَالِ فَلِكَثْرَةِ شُعَاعِهَا، وَأَمَّا فِي الْغُرُوبِ فَلِيَتَبَيَّنَهَا، وَهَذَا لَوْ نُقِلَ عَنْ الْعَرَبِ لَكَانَ قَوِيًّا، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: هَذَا مُقَامُ قَدَمَيْ رَبَاحِ ... حَتَّى يُقَالَ دَلَكْت بَرَاحِ كَقَوْلِهِ قَطَامِ وَجَذَامِ، وَفِي ذَلِكَ كَلَامٌ. وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: دُلُوكُ الشَّمْسِ مَيْلُهَا. وَغَسَقُ

مسألة الوقت الذي يحرم فيه الطعام والشراب على الصائم وتجوز فيه صلاة الصبح

اللَّيْلِ اجْتِمَاعُ اللَّيْلِ وَظُلْمَتُهُ وَرِوَايَةُ مَالِكٍ عَنْهُ أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ مَالِكٍ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالنَّاسُ يَتَمَارَوْنَ فِي الشَّمْسِ لَمْ تَغِبْ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: نَرَى أَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَغِبْ. قَالَ: هَذَا وَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ وَقْتُ هَذِهِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ قَرَأَ: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78]؛ قَالَ: وَهَذَا دُلُوكُ الشَّمْسِ، وَهَذَا غَسَقُ اللَّيْلِ. وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ: أَنَّ الدُّلُوكَ هُوَ الْمَيْلُ، وَلَهُ أَوَّلٌ عِنْدَنَا وَهُوَ الزَّوَالُ، وَآخِرٌ وَهُوَ الْغُرُوبُ، وَكَذَلِكَ الْغَسَقُ هُوَ الظُّلْمَةُ، وَلَهَا ابْتِدَاءٌ وَانْتِهَاءٌ، فَابْتِدَاؤُهَا عِنْدَ دُخُولِ اللَّيْلِ، وَانْتِهَاؤُهَا عِنْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ، فَرَأَى مَالِكٌ أَنَّ الْآيَةَ تَضَمَّنَتْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، فَقَوْلُهُ: دُلُوكِ الشَّمْسِ يَتَنَاوَلُ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَقَوْلُهُ: {غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] اقْتَضَى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، وَقَوْلُهُ: {قُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] اقْتَضَى صَلَاةَ الصُّبْحِ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَسَمَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ قُرْآنًا لِيُبَيِّنَ أَنَّ رُكْنَ الصَّلَاةِ وَمَقْصُودَهَا الْأَكْبَرُ الذِّكْرُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]؛ مَعْنَاهُ صَلُّوا عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَطْوَلُ الصَّلَوَاتِ قِرَاءَةً، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، يَقُولُ الْعَبْدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَقُولُ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي». «وَيَقُولُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ: اقْرَأْ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَمَا تَيَسَّرَ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ»، مَعْنَاهُ صَلُّوا عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَهِيَ أَطْوَلُ الصَّلَوَاتِ قِرَاءَةً. [مَسْأَلَة الْوَقْت الَّذِي يَحْرُمُ فِيهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ عَلَى الصَّائِمِ وَتَجُوزُ فِيهِ صَلَاةُ الصُّبْحِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {الْفَجْرِ} [الإسراء: 78]: يَعْنِي سَيَلَانَ الضَّوْءِ، وَجَرَيَانَ النُّورِ فِي الْأُفُقِ، مِنْ فَجَرَ الْمَاءُ وَهُوَ ظُهُورُهُ وَسَيَلَانُهُ، فَيَكُونُ كَثِيرًا، وَمِنْ هَذَا الْفَجْرُ وَهُوَ كَثْرَةُ الْمَاءِ وَهُوَ ابْتِدَاءُ النَّهَارِ وَأَوَّلُ الْيَوْمِ

مسألة أفضل الصلوات

وَالْوَقْتُ الَّذِي يَحْرُمُ فِيهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ عَلَى الصَّائِمِ؛ وَتَجُوزُ فِيهِ صَلَاةُ الصُّبْحِ فِعْلًا وَتَجِبُ إلْزَامًا فِي الذِّمَّةِ وَحَتْمًا، وَيُسْتَحَبُّ فِيهِ فِعْلُهَا نَدْبًا، حَسْبَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهُ فِيهَا مِنْ مُوَاظَبَتِهِ عَلَى صَلَاتِهَا فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالْمَنَازِلِ، لَا بِالطَّالِعِ مِنْهَا، وَلَا بِالْغَارِبِ، وَلَا بِالْمُتَوَسِّطِ فِي كَبِدِ السَّمَاءِ؛ لِأَنَّك إذَا تَرَاءَيْت الطَّالِعَ أَوْ الْغَارِبَ فَتَرَاءَى الْفَجْرُ أَوَّلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْأَصْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَالرُّجُوعُ إلَى الْبَدَلِ؛ وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ مَوَاقِيتَ الصَّلَاةِ بَيِّنَةً لِيَتَسَاوَى فِي دَرْكِهَا الْعَامِّيُّ وَالْخَاصِّيُّ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ نَصَبَهَا بَيِّنَةً لِلْأَبْصَارِ، ظَاهِرَةً دُونَ اسْتِبْصَارٍ، فَلَا عُذْرَ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَلِّبَهَا خُفْيَةً؛ فَذَلِكَ عَكْسُ الشَّرِيعَةِ، وَخَلْطُ التَّكْلِيفِ وَتَبْدِيلُ الْأَحْكَامِ. [مَسْأَلَة أَفْضَلَ الصَّلَوَاتِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]: يَعْنِي مَشْهُودًا بِالْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ وَالْكَاتِبِينَ. ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ رِوَايَةِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ قَالَ: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَفِي صَلَاةِ الْعَصْرِ. ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ». وَبِهَذَا فُضِّلَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَيُشَارِكُهَا فِي ذَلِكَ الْعَصْرُ، فَيَكُونَانِ جَمِيعًا أَفْضَلَ الصَّلَوَاتِ، وَيَتَمَيَّزُ عَلَيْهَا الصُّبْحُ بِزِيَادَةِ فَضْلٍ حَتَّى تَكُونَ الْوُسْطَى، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة وَقْت صَلَاةَ الظُّهْرِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ يَتَمَادَى وَقْتُهَا مِنْ الزَّوَالِ إلَى الْغُرُوبِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَلَّقَ وُجُوبَهَا عَلَى الدُّلُوكِ، وَهَذَا دُلُوكٌ كُلُّهُ؛ قَالَهُ الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي تَفْصِيلٍ، وَأَشَارَ إلَيْهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ.

وَقَالَ آخَرُونَ: وَقْتُ الْمَغْرِبِ يَكُونُ مِنْ الْغُرُوبِ إلَى مَغِيبِ الشَّفَقِ؛ لِأَنَّهُ غَسَقٌ كُلُّهُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَقَوْلُهُ فِي مُوَطَّئِهِ الَّذِي قَرَأَهُ طُولَ عُمُرِهِ، وَأَمْلَاهُ حَيَاتَهُ. وَمِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِيهَا، وَأَشَرْنَا إلَيْهَا فِي كُتُبِنَا عِنْدَ جَرَيَانِهَا أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُعَلَّقَةَ بِالْأَسْمَاءِ، هَلْ تَتَعَلَّقُ بِأَوَائِلِهَا أَمْ بِآخِرِهَا؟ فَيَرْتَبِطُ الْحُكْمُ بِجَمِيعِهَا. وَقَدْ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ، وَجَرَى الْخِلَافُ فِي مَسَائِلِ مَالِكٍ عَلَى وَجْهٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُخْتَلِفٌ عِنْدَهُ. وَالْأَقْوَى فِي النَّظَرِ أَنْ يَرْتَبِطَ الْحُكْمُ بِأَوَائِلِهَا، لِئَلَّا يَعُودَ ذِكْرُهَا لَغْوًا، فَإِذَا ارْتَبَطَ بِأَوَائِلِهَا جَرَى بَعْدَ ذَلِكَ النَّظَرُ فِي تَعَلُّقِهِ بِالْكُلِّ إلَى الْآخِرِ أَمْ اقْتِصَارُهُ عَلَى الْأَوَّلِ عَلَى مَا يُعْطِيه الدَّلِيلُ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَعَلُّقِ الصَّلَاةِ بِالزَّوَالِ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ الدُّلُوكِ. وَكُنَّا نُعَلِّقُهَا بِالْجَمِيعِ، إلَّا أَنَّ صَلَاةَ الْعَصْرِ قَدْ أَخَذَتْ مِنْهَا وَقْتَهَا، مِنْ كَوْنِ ظِلِّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ؛ فَانْقَطَعَ حُكْمُ الظُّهْرِ لِدُخُولِ وَقْتِ الْعَصْرِ، فَبَقِيَ النَّظَرُ فِي اشْتِرَاكِهِمَا مَعًا، بِدَلِيلٍ آخَرَ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ، وَفِيهِ طُولٌ. وَأَمَّا صَلَاةُ الْمَغْرِبِ فَأَمْرُهَا أَبْيَنُ مِنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الدُّلُوكِ، وَهُوَ الْغُرُوبُ، وَلَيْسَ بَعْدَهَا صَلَاةٌ تُقْطَعُ بِهَا، وَتَأْخُذُ الْوَقْتَ مِنْهَا إلَى مَغِيبِ الشَّفَقِ، فَهَلْ يَتَمَادَى وَقْتُهَا إلَى دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى، أَمْ يَتَعَلَّقُ بِالْأَوَّلِ خَاصَّةً؟ وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ هَذَا كُلَّهُ، فَقَالَ: «وَقْتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَحْضُرْ وَقْتُ الْعِشَاءِ». وَقَالَ أَيْضًا فِيهِ: «وَقْتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَسْقُطْ نُورُ الشَّفَقِ»؛ فَارْتَفَعَ الْخِلَافُ بِبَيَانِ مُبَلِّغِ الشَّرِيعَةِ.

الآية السابعة عشرة قوله تعالى ومن الليل فتهجد به نافلة لك

[الْآيَة السَّابِعَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَك] الْآيَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {فَتَهَجَّدْ بِهِ} [الإسراء: 79]: يَعْنِي اسْهَرْ بِهِ. وَالْهُجُودُ: النَّوْمُ، وَالتَّهَجُّدُ تَفَعُّلٌ، وَهُوَ لِاكْتِسَابِ الْفِعْلِ وَإِثْبَاتِهِ فِي الْأَصْلِ، وَقَدْ يَأْتِي لِنَفْيِهِ فِي حُرُوفٍ مَعْدُودَةٍ، جِمَاعُهَا سَبْعَةٌ: تَهَجَّدَ: نَفَى الْهُجُودَ، تَخَوَّفَ: نَفَى الْخَوْفَ، تَحَنَّثَ: نَفَى الْحِنْثَ، تَنَجَّسَ: أَلْقَى النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ. تَحَرَّجَ، نَفَى الْحَرَجَ، تَأَثَّمَ: نَفَى الْإِثْمَ، تَعَذَّرَ: نَفَى الْعُذْرَ. تَقَذَّرَ: نَفَى الْقَذَرَ. وَفِي الْبُخَارِيِّ: تَجَزَّعَ: نَفَى الْجَزَعَ. [مَسْأَلَة مِنْ خَصَائِصِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيَامُ اللَّيْلِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79]: وَالنَّفَلُ هُوَ الزِّيَادَةُ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ؛ وَفِي وَجْهِ الزِّيَادَةِ هَاهُنَا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى فَرْضِهِ خَاصَّةً دُونَ النَّاسِ. الثَّانِي: قَوْلُهُ: {نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79]؛ أَيْ زِيَادَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يُكَفِّرُ شَيْئًا؛ إذْ غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ فَاسِدٌ؛ إذْ نَفْلُهُ وَفَرْضُهُ لَا يُصَادِفُ ذَنْبًا، ولَا صَلَاةُ اللَّيْلِ وَلَا صَلَاةُ النَّهَارِ تُكَفِّرَانِ خَطِيئَةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْدُومٌ فِي حَدِّهِ وُجُودًا، مَعْدُومٌ فِي حَقِّهِ مُؤَاخَذَةً لَوْ كَانَ لِفَضْلِ الْمَغْفِرَةِ مِنْ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَمِنْ خَصَائِصِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيَامُ اللَّيْلِ، «وَكَانَ يَقُومُ حَتَّى تَرِمَ قَدَمَاهُ»؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ " الْأَحْزَابِ " وَفِي سُورَةِ " الْمُزَّمِّلِ ". الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي صِفَةِ هَذَا التَّهَجُّدِ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ النَّوْمُ، ثُمَّ الصَّلَاةُ، ثُمَّ النَّوْمُ، ثُمَّ الصَّلَاةُ.

الآية الثامنة عشرة قوله تعالى ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي

الثَّانِي: أَنَّهُ الصَّلَاةُ بَعْدَ النَّوْمِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ. وَهَذَا دَعَاوَى مِنْ التَّابِعِينَ فِيهَا، وَلَعَلَّهُمْ إنَّمَا عَوَّلُوا عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَنَامُ وَيُصَلِّي، وَيَنَامُ وَيُصَلِّي، فَعَوَّلُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ كَانَ امْتِثَالًا لِهَذَا الْأَمْرِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فَالْأَمْرُ فِيهِ قَرِيبٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي وَجْهِ كَوْنِ قِيَامِ اللَّيْلِ سَبَبًا لِلْمَقَامِ الْمَحْمُودِ وَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَارِئَ يَجْعَلُ مَا شَاءَ مِنْ فِعْلِهِ سَبَبًا لِفَضْلِهِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِوَجْهِ الْحِكْمَةِ فِيهِ، أَوْ بِمَعْرِفَةِ وَجْهِ الْحِكْمَةِ. الثَّانِي: أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ فِيهِ الْخَلْوَةُ مَعَ الْبَارِئِ وَالْمُنَاجَاةُ دُونَ النَّاسِ؛ فَيُعْطَى الْخَلْوَةَ بِهِ وَمُنَاجَاتُهُ فِي الْقِيَامَةِ، فَيَكُونُ مَقَامًا مَحْمُودًا، وَيَتَفَاضَلُ فِيهِ الْخَلْقُ بِحَسَبِ دَرَجَاتِهِمْ؛ فَأَجَلُّهُمْ فِيهِ دَرَجَةً مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ يُعْطَى مِنْ الْمَحَامِدِ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ، وَيَشْفَعُ وَلَا يَشْفَعُ أَحَدٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الثَّامِنَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَيَسْأَلُونَك عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي] الْآيَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: 85] قَدْ أَطَلْنَا النَّفَسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي كِتَابِ الْمُشْكَلَيْنِ وَشَرْحِ الصَّحِيحِ بِمَا يَقِفُ بِكُمْ فِيهَا عَلَى الْمَعْرِفَةِ، فَأَمَّا الْآنَ فَخُذُوا نَبْذَةً تُشْرِفُ بِكُمْ عَلَى الْغَرَضِ: ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ طَرِيقِ «ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ قَالَ بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَرْثٍ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَسِيبٍ إذْ مَرَّ الْيَهُودُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ. فَقَالَ: مَا رَابَكُمْ إلَيْهِ؟ لَا يَسْتَقْبِلْنَكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ. قَالُوا: سَلُوهُ، فَسَأَلُوهُ عَنْ

الآية التاسعة عشرة قوله تعالى ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات

الرُّوحِ، فَأَمْسَكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا فَعَلِمْت أَنَّهُ يُوحَى إلَيْهِ، فَقُمْت مَقَامِي، فَلَمَّا نَزَلَ الْوَحْيُ قَالَ: يَسْأَلُونَكَ عَنْ " الرُّوحِ " الْآيَةَ». قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: لَمْ يَأْتِهِ فِي ذَلِكَ جَوَابٌ، وَقَدْ قَالَ بَكْرُ بْنُ مُضَرَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ: إنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ، فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ فَلَيْسَ بِنَبِيٍّ، وَإِنْ لَمْ يُخْبِرْكُمْ فَهُوَ نَبِيٌّ، فَسَأَلُوهُ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَتَكَلَّمُونَ مَعَ الْخَلْقِ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ، وَلَا يُفِيضُونَ مَعَهُمْ فِي الْمُشْكِلَاتِ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُونَ فِي الْبَيِّنِ مِنْ الْأُمُورِ الْمَعْقُولَاتِ، وَالرُّوحُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى جَعَلَهُ اللَّهُ فِي الْأَجْسَامِ، فَأَحْيَاهَا بِهِ، وَعَلِمَهَا وَأَقْدَرَهَا، وَبَنَى عَلَيْهَا الصِّفَاتِ الشَّرِيفَةَ، وَالْأَخْلَاقَ الْكَرِيمَةَ، وَقَابَلَهَا بِأَضْدَادِهَا لِنُقْصَانِ الْآدَمِيَّةِ، فَإِذَا أَرَادَ الْعَبْدُ إنْكَارَهَا لَمْ يَقْدِرْ لِظُهُورِ آثَارِهَا، وَإِذَا أَرَادَ مَعْرِفَتَهَا وَهِيَ بَيْنَ جَنْبَيْهِ لَمْ يَسْتَطِعْ؟؛ لِأَنَّهُ قَصُرَ عَنْهَا وَقَصُرَ بِهِ دُونَهَا. وَقَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: إنَّهُ سُبْحَانَهُ رَكَّبَ ذَلِكَ فِيهِ عِبْرَةً، كَمَا قَالَ: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] لِيَرَى أَنَّ الْبَارِئَ تَعَالَى لَا يُقْدَرُ عَلَى جَحْدِهِ لِظُهُورِ آيَاتِهِ فِي أَفْعَالِهِ: فَفِي كُلِّ شَيْءٍ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ وَلَا يُحِيطُ بِهِ لِكِبْرِيَائِهِ وَعَظَمَتِهِ، فَإِذَا وَقَفَ مُتَفَكِّرًا فِي هَذَا نَادَاهُ الِاعْتِبَارُ: لَا تَرْتَبْ، فَفِيك مِنْ ذَلِكَ آثَارٌ، اُنْظُرْ إلَى مَوْجُودٍ فِي إهَابِك لَا تَقْدِرُ عَلَى إنْكَارِهِ لِظُهُورِ آثَارِهِ، وَلَا تُحِيطُ بِمِقْدَارِهِ، لِقُصُورِك عَنْهُ فَيَأْخُذُهُ الدَّلِيلُ، وَتَقُومُ لِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ عَلَيْهِ. [الْآيَة التَّاسِعَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ] ٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء: 101]

فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ: وَفِيهَا خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ يَدُهُ، وَعَصَاهُ، وَلِسَانُهُ، وَالْبَحْرُ، وَالطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ. الثَّانِي: أَنَّهَا الطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ، وَالْبَحْرُ، وَعَصَاهُ، وَالطَّمْسَةُ، وَالْحَجَرُ؛ قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا الطَّمْسَةُ قَالَ قَوْلُهُ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} [يونس: 88]. قَالَ: فَدَعَا عُمَرُ بِخَرِيطَةٍ كَانَتْ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أُصِيبَتْ بِمِصْرَ، فَإِذَا فِيهَا الْجَوْزَةُ وَالْبَيْضَةُ وَالْعَدَسَةُ، مُسِخَتْ حِجَارَةً كَانَتْ مِنْ أَمْوَالِ فِرْعَوْنَ بِمِصْرَ. الثَّالِثُ: رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ هِيَ: الْحَجَرُ، وَالْعَصَا، وَالْيَدُ، والطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ، وَالطَّوْدُ. وَقَالَ مَالِكٌ: الطُّوفَانُ: الْمَاءُ. الرَّابِعُ: رَوَى مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ هِيَ: الطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ، وَالْعَصَا، وَالْيَدُ، وَالْبَحْرُ والْجَبَلُ، فِي أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ. الْخَامِسُ: رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ أَنْ «يَهُودِيَّيْنِ سَأَلَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ التِّسْعِ الْآيَاتِ؛ فَقَالَ: هِيَ أَلَّا تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إلَى ذِي سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ، وَلَا تَسْخَرُوا، وَلَا تَقْذِفُوا الْمُحْصَنَاتِ، وَلَا تُوَلَّوْا الْأَدْبَارَ عِنْدَ الزَّحْفِ، وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةً يَهُودُ أَلَّا تَعْتَدُوا فِي السَّبْتِ. فَقَبَّلَا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَقَالَا: نَشْهَدُ أَنَّك نَبِيٌّ. فَقَالَ: وَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْ تَتَّبِعَانِي؟ فَقَالَا: إنَّ دَاوُد دَعَا أَلَّا يَزَالَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ، وَإِنَّا نَخَافُ إنْ اتَّبَعْنَاك أَنْ تَقْتُلَنَا يَهُودُ».

الآية العشرون قوله تعالى قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الَّذِي جَرَى مِنْ الْأَحْكَامِ هَاهُنَا ذِكْرُ الْعَصَا، وَسَنَسْتَوْفِي الْقَوْلَ فِيهَا فِي سُورَةِ " طَهَ " إنْ شَاءَ اللَّهُ. [الْآيَة الْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى قُلْ اُدْعُوا اللَّهَ أَوْ اُدْعُوا الرَّحْمَنَ] الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ: قَوْله تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} [الإسراء: 110] فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: وَفِي ذَلِكَ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الصَّلَاةَ هُنَا الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ، فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ، وَمَنْ أَنْزَلَ وَمَنْ جَاءَ بِهِ؛ فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} [الإسراء: 110] فَيَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ {وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] حَتَّى لَا يَسْمَعَكَ أَصْحَابُك الْآيَةَ». الثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الدُّعَاءِ؛ قَالَهُ الْبُخَارِيُّ، وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ، وَابْنِ وَهْبٍ أَيْضًا، رَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ. الثَّالِثُ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: قِيلَ لِمُحَمَّدٍ: لَا تُحْسِنْ صَلَاتَك فِي الْعَلَانِيَةِ مُرَاءَاةً، وَلَا تُسِيئُهَا فِي الْمُخَافَتَةِ. الرَّابِعُ: رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ إنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ لِأَمْرٍ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ فِي عَدَدِ خَزَنَةِ النَّارِ: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 30] قَالُوا فِي ذَلِكَ مَا قَالُوا، وَجَعَلُوا إذَا سَمِعُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَفَرَّقُونَ عَنْهُ، فَكَانَ الرَّجُلُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَسْمَعَ اسْتَرَقَ السَّمْعَ

دُونَهُمْ فَرَقًا مِنْهُمْ، فَإِذَا رَأَى أَنَّهُمْ قَدْ عَرَفُوا أَنَّهُ يَسْتَمِعُ] ذَهَبَ خَشْيَةَ أَذَاهُمْ، وَإِنْ خَفَضَ صَوْتَهُ يَظُنُّ الَّذِي يَسْمَعُ أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ مِنْ قِرَاءَتِهِ شَيْئًا وَسَمِعَ هُوَ شَيْئًا مِنْهُمْ أَصَاخَ لَهُ يَسْمَعُ مِنْهُ، فَقِيلَ لَهُ: لَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِك فَيَتَفَرَّقُوا عَنْك، وَلَا تُخَافِتْ بِهَا فَلَا يَسْمَعُهَا مَنْ يَسْتَرِقُ السَّمْعَ، رَجَاءَ أَنْ يَرْعَوِيَ إلَى بَعْضِ مَا يَسْمَعُ فَيَنْتَفِعُ بِهِ الْوَسْنَانُ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ يُخَافِتُ، وَعُمَرُ يَجْهَرُ، فَقِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أُسْمِعُ مَنْ أُنَاجِي. وَقِيلَ لِعُمَرَ فِيهِ، فَقَالَ: أُوقِظُ الْوَسْنَانَ، وَأَطْرُدُ الشَّيْطَانَ، وَأَذْكُرُ الرَّحْمَنَ. فَقِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ: ارْفَعْ قَلِيلًا. وَقِيلَ لِعُمَرَ: اخْفِضْ قَلِيلًا، وَذَكَرَ هَذَا عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110]. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: عَبَّرَ اللَّهُ هَاهُنَا بِالصَّلَاةِ عَنْ الْقِرَاءَةِ، كَمَا عَبَّرْ بِالْقِرَاءَةِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي قَوْلِهِ: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُرْتَبِطٌ بِالْآخَرِ؛ الصَّلَاةُ تَشْتَمِلُ عَلَى قِرَاءَةٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ، فَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ أَجْزَائِهَا، فَيُعَبَّرُ بِالْجُزْءِ عَنْ الْجُمْلَةِ وَبِالْجُمْلَةِ عَنْ الْجُزْءِ، عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي الْمَجَازِ وَهُوَ كَثِيرٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَتَبُّعِ الْأَسْبَابِ بِالتَّنْقِيحِ: أَمَّا رِوَايَاتُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَصَحُّهَا الْأَوَّلُ وَأَمَّا رِوَايَةُ عَائِشَةَ فَيُعَضِّدُهَا مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي مَسِيرٍ، فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ، وَلَا غَائِبًا، وَإِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا؛ إنَّهُ بَيْنَكُمْ وبَيْنَ رُءُوسِ رِحَالِكُمْ». وَأَمَّا الثَّالِثُ فَإِنْ صَحَّ فَيَكُونُ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والْمُرَادُ أُمَّتُهُ، إذْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.

وَأَمَّا الرَّابِعُ فَمُحْتَمَلٌ، لَكِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَيُشْبِهُ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِي الدُّعَاءِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي الْجَهْرِ، حَتَّى يَضُرَّ ذَلِكَ بِالْقَارِئِ، وَلَا يُمْكِنُهُ التَّمَادِي عَلَيْهِ، فَأَخَذَ بِالْوَسَطِ مِنْ الْجَهْرِ الْمُتْعِبِ وَالْإِسْرَارِ الْمُخَافِتِ. وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَالَ فِيهَا قَوْلًا سَادِسًا؛ وَهُوَ لَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِك بِالنَّهَارِ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا بِاللَّيْلِ، وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا سَنَّهَا اللَّهُ لِنَبِيِّهِ وَأَوْعَزَ بِهَا إلَيْكُمْ.

سورة الكهف فيها عشرون آية

[سُورَةُ الْكَهْفِ فِيهَا عِشْرُونَ آيَةً] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى إنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا] ً الْآيَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [الكهف: 7]. قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ] ْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف: 19] {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 20]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} [الكهف: 19] هَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْوَكَالَةِ، وَهُوَ عَقْدُ نِيَابَةٍ أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَقِيَامِ الْمَصْلَحَةِ بِهِ، إذْ يَعْجَزُ كُلُّ أَحَدٍ عَنْ تَنَاوُلِ أُمُورِهِ إلَّا بِمَعُونَةٍ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ يَتَرَفَّهُ فَيَسْتَنِيبُ مَنْ يُرِيحُهُ، حَتَّى جَازَ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ؛ لُطْفًا مِنْهُ سُبْحَانَهُ، وَرِفْقًا بِضَعَفَةِ الْخَلِيقَةِ، ذَكَرَهَا اللَّهُ كَمَا تَرَوْنَ، وَبَيَّنَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا تَسْمَعُونَ، وَهُوَ أَقْوَى آيَةٍ فِي الْغَرَضِ.

وَقَدْ تَعَلَّقَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا فِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ مِنْ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] وَبِقَوْلِهِ: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا} [يوسف: 93]. وَآيَةُ الْقَمِيصِ ضَعِيفَةٌ، وَآيَةُ الْعَامِلِينَ حَسَنَةٌ. وَقَدْ رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «أَرَدْت الْخُرُوجَ إلَى خَيْبَرَ، فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقُلْت لَهُ: إنِّي أُرِيدُ الْخُرُوجَ إلَى خَيْبَرَ، فَقَالَ: ائْتِ وَكِيلِي، فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا، فَإِنْ ابْتَغَى مِنْك آيَةً فَضَعْ يَدَك عَلَى تَرْقُوَتِهِ». وَقَدْ وَكَّلَ عُمَرَ بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ عَلَى عَقْدِ نِكَاحِ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ عِنْدَ النَّجَاشِيِّ، وَوَكَّلَ أَبَا رَافِعٍ عَلَى نِكَاحِ مَيْمُونَةَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَوَكَّلَ حَكِيمَ بْنُ حِزَامٍ عَلَى شِرَاءِ شَاةٍ، وَالْوَكَالَةُ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ حَقٍّ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهِ؛ وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ، تَحْرِيرُهُ فِي خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ مِثَالًا: الْأَوَّلُ: الطَّهَارَةُ: وَهِيَ عِبَادَةٌ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا فِي صَبِّ الْمَاءِ خَاصَّةً عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، وَلَا تَجُوزُ عَلَى عَرْكِهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُتَوَضِّئُ مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. الثَّانِي: النَّجَاسَةُ. الثَّالِثُ: الصَّلَاةُ: وَلَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا بِحَالٍ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا يُؤَدِّيهَا الْمُكَلَّفُ، وَلَوْ بِأَشْفَارِ عَيْنَيْهِ إشَارَةً، إلَّا فِي رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ. الرَّابِعُ: الزَّكَاةُ: وَتَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي أَخْذِهَا وَإِعْطَائِهَا. الْخَامِسُ: الصِّيَامُ: وَلَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهِ بِحَالٍ، إلَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَجُمْلَةٍ مِنْ السَّلَفِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. السَّادِسُ الِاعْتِكَافُ وَهُوَ مِثْلُهُ. السَّابِعُ: الْحَجُّ. الثَّامِنُ: الْبَيْعُ: وَهِيَ الْمُعَاوَضَةُ وَأَنْوَاعُهَا.

مسألة الاجتماع على الطعام المشترك وأكله على الإشاعة

التَّاسِعُ: الرَّهْنُ. الْعَاشِرُ: الْحَجْرُ: يَصِحُّ أَنْ يُوَكِّلَ الْحَاكِمُ مَنْ يَحْجُرُ وَيُنَفِّذُ سَائِرَ الْأَحْكَامِ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ الْحَوَالَةُ، وَالضَّمَانُ، وَالشَّرِكَةُ، وَالْإِقْرَارُ، وَالصُّلْحُ، وَالْعَارِيَّةُ؛ فَهَذِهِ سِتَّةَ عَشَرَ مِثَالًا. وَأَمَّا الْغَصْبُ: فَإِنْ وَكَّلَ فِيهِ كَانَ الْغَاصِبُ الْوَكِيلَ دُونَ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مُحَرَّمٍ فِعْلُهُ لَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهِ، وَيَتْبَعُ ذَلِكَ الشُّفْعَةُ، وَالْقَرْضُ، وَلَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ فِي اللُّقَطَةِ. وَأَمَّا قَسْمُ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ فَتَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ. وَالنِّكَاحُ وَأَحْكَامُهُ تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ، كَالطَّلَاقِ. وَالْإِيلَاءُ يَمِينٌ لَا وَكَالَةَ فِيهِ. وَأَمَّا اللِّعَانُ: فَلَا تَصِحُّ الْوَكَالَةُ فِيهِ بِحَالٍ. وَأَمَّا الظِّهَارُ: فَلَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ، وَلَا يَجُوزُ فِعْلُهُ. وَالْخِيَانَاتُ: لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ فِيهَا لِهَذِهِ الْعِلَّةِ مِنْ أَنَّهَا بَاطِلٌ وَظُلْمٌ، وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ عَلَى طَلَبِ الْقِصَاصِ وَاسْتِيفَائِهِ، وَكَذَلِكَ فِي الدِّيَةِ، وَلَا وَكَالَةَ فِي الْقَسَامَةِ؛ لِأَنَّهَا أَيْمَانٌ. وَيَصِحُّ التَّوْكِيلُ فِي الزَّكَاةِ، وَفِي الْعِتْقِ وَتَوَابِعِهِ إلَّا فِي الِاسْتِيلَادِ؛ فَهَذِهِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ مِثَالًا، تَكُونُ دُسْتُورًا لِغَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَبْقَ بَعْدَهَا إلَّا يَسِيرُ فَرْعٍ لَهَا. [مَسْأَلَة الِاجْتِمَاعِ عَلَى الطَّعَامِ الْمُشْتَرَكِ وَأَكْلِهِ عَلَى الْإِشَاعَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الطَّعَامِ الْمُشْتَرَكِ وَأَكْلِهِ عَلَى الْإِشَاعَةِ. وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى مَا قَالُوهُ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْ أَعْطَاهُ وَرِقَهُ مُفْرَدًا، فَلَا يَكُونُ فِيهِ اشْتِرَاكٌ، وَلَا مُعَوِّلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَّا عَلَى حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ مَرَّ بِقَوْمٍ يَأْكُلُونَ تَمْرًا، فَقَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْإِقْرَانِ إلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ أَخَاهُ».

مسألة توكيل ذي العذر

الثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي جَيْشِ الْخَبَطِ «وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَهُمْ وَفَقَدُوا الزَّادَ، فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَزْوَادِ ذَلِكَ الْجَيْشِ، فَجُمِعَتْ، فَكَانَ يَقُوتُنَا كُلَّ يَوْمٍ قَلِيلًا». وَهَذَا دُونَ الْأَوَّلِ فِي الظُّهُورِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو عُبَيْدَةَ كَانَ يُعْطِيهِمْ كَفَافًا مِنْ ذَلِكَ الْقُوتِ، وَلَا يَجْمَعُهُمْ عَلَيْهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَحَادِيثَ ذَلِكَ وَمَسَائِلَهُ فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ. [مَسْأَلَة تَوْكِيلِ ذِي الْعُذْرِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ نُكْتَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْوَكَالَةَ فِيهَا إنَّمَا كَانَتْ مَعَ التَّقِيَّةِ وَخَوْفِ أَنْ يَشْعُرَ بِهِمْ أَحَدٌ لَمَّا كَانُوا يَخَافُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْهُمْ، وَجَوَازُ تَوْكِيلِ ذِي الْعُذْرِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَأَمَّا مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ تَوْكِيلِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ. وَكَانَ سَحْنُونٌ قَدْ تَلَقَّفَهُ عَنْ أَسَدِ بْنِ الْفُرَاتِ، فَحَكَمَ بِهِ أَيَّامَ قَضَائِهِ. وَلَعَلَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِأَهْلِ الظُّلْمِ وَالْجَبَرُوتِ؛ إنْصَافًا مِنْهُمْ، وَإِرْذَالًا بِهِمْ. وَهُوَ الْحَقُّ، فَإِنَّ الْوَكَالَةَ مَعُونَةٌ، وَلَا تَكُونُ لِأَهْلِ الْبَاطِلِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي ذَلِكَ قَائِمٌ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ مِنْ الْحُقُوقِ الَّتِي تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا، فَجَازَتْ الْوَكَالَةُ عَلَيْهِ؛ أَصْلُهُ دَفْعُ الدَّيْنِ. وَمُعَوِّلُهُمْ عَلَى أَنَّ الْحُقُوقَ تَخْتَلِفُ، وَالنَّاسُ فِي الْأَخْلَاقِ يَتَفَاوَتُونَ، فَرُبَّمَا أَضَرَّ الْوَكِيلُ بِالْآخَرِ. قُلْنَا: وَرُبَّمَا كَانَ أَحَدُهُمَا ضَعِيفًا فَيَنْظُرُ لِنَفْسِهِ فِيمَنْ يُقَاوِمُ خَصْمَهُ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَنْضَبِطُ، فَرَجَعْنَا إلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ جَوَازُ النِّيَابَةِ فِي الْإِطْلَاقِ، وَلِلْوَكَالَةِ مَسَائِلُ يَأْتِي فِي أَبْوَابِهَا ذِكْرُ فُرُوعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} [الكهف: 19] قِيلَ: أَرَادَ أَكْثَرَ.

الآية الثالثة قوله تعالى ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله

وَقِيلَ: أَرَادَ أَطْهَرَ، يَعْنِي أَزْكَى وَأَحَلَّ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَبْعِدَ طَلَبَهُ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ النَّهَامَةِ، وَإِنَّمَا مَحْمَلُهُ عَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ مُرَادًا فَمَعْنَاهُ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ رِزْقَهُمْ كَانَ مِنْ عَدَدِهِمْ، فَاحْتَاجُوا إلَى وَضْعٍ فِي الْمَطْعُومِ لِيَقُومَ بِهِمْ. وَالْمَعْنَى الْآخَرُ مِنْ طَلَبِ الطَّهَارَةِ بَيِّنٌ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ] الْآيَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا - إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف: 23 - 24] فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَاَللَّهِ مَا أَرَانَا إلَّا قَدْ أُعْذِرْنَا فِي أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَاَللَّهِ لَئِنْ أَصْبَحْت، ثُمَّ صَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ فِي صَلَاتِهِ، لَقَدْ أَخَذْت صَخْرَةً، ثُمَّ رَضَخْت رَأْسَهُ فَاسْتَرَحْنَا مِنْهُ، فَامْنَعُونِي عِنْدَ ذَلِكَ، أَوْ أَسْلِمُونِي. قَالُوا: يَا أَبَا الْحَكَمِ، وَاَللَّهِ لَا نُسْلِمُك أَبَدًا. فَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ غَدَا إلَى مُصَلَّاهُ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ، وَغَدَا أَبُو جَهْلٍ مَعَهُ حَجَرٌ، وَقُرَيْشٌ فِي أَنْدِيَتِهِمْ يَنْظُرُونَ مَا يَصْنَعُ، فَلَمَّا سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ إلَيْهِ أَبُو جَهْلٍ بِذَلِكَ الْحَجَرِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ رَجَعَ مُنْهَزِمًا مُنْتَفِعًا لَوْنُهُ، كَادَتْ رُوحُهُ تُفَارِقُهُ، فَقَامَ إلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِمَّنْ سَمِعَ مَا قَالَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، قَالُوا: يَا أَبَا الْحَكَمِ، مَالَك؟ فَوَاَللَّهِ لَقَدْ كُنْت مُجِدًّا فِي أَمْرِك، ثُمَّ رَجَعْت بِأَسْوَإِ هَيْئَةٍ رَجَعَ بِهَا رَجُلٌ، وَمَا رَأَيْنَا دُونَ مُحَمَّدٍ شَيْئًا يَمْنَعُهُ مِنْك. فَقَالَ: وَيْلَكُمْ، وَاَللَّهِ لَعَرَضَ دُونَهُ لِي فَحْلٌ مِنْ الْإِبِلِ، مَا رَأَيْت مِثْلَ هَامَتِهِ وَأَنْيَابِهِ وَقَصَرَتِهِ لِفَحْلٍ قَطُّ، يَخْطِرُ دُونَهُ، لَوْ دَنَوْت لَأَكَلَنِي. فَلِمَا قَالَهَا أَبُو جَهْلٍ قَامَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَاَللَّهِ لَقَدْ نَزَلَ

بِسَاحَتِكُمْ أَمْرٌ مَا أَرَاكُمْ اُبْتُلِيتُمْ بِهِ قَبْلَهُ، قُلْتُمْ لِمُحَمَّدٍ: شَاعِرٌ، وَاَللَّهِ مَا هُوَ بِشَاعِرٍ. وَقُلْتُمْ: كَاهِنٌ، وَاَللَّهِ مَا هُوَ بِكَاهِنٍ. وَقُلْتُمْ سَاحِرٌ، وَاَللَّهِ مَا هُوَ بِسَاحِرٍ. وَقُلْتُمْ: مَجْنُونٌ، وَاَللَّهِ مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ. وَاَللَّهِ لَقَدْ كَانَ مُحَمَّدٌ أَرْضَاكُمْ فِيكُمْ: أَصْدَقَكُمْ حَدِيثًا، وَأَعْظَمَكُمْ أَمَانَةً، وَخَيْرَكُمْ جِوَارًا، حَتَّى بَلَغَ مِنْ السِّنِّ مَا بَلَغَ، فَأَبْصِرُوا بَصَرَكُمْ، وَانْتَبِهُوا لِأَمْرِكُمْ. فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: هَلْ أَنْتَ يَا نَضْرُ خَارِجٌ إلَى أَحْبَارِ يَهُودَ بِيَثْرِبَ، وَنَبْعَثُ مَعَك رَجُلًا؛ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَالْعِلْمِ بِمَا أَصْبَحْنَا نَخْتَلِفُ نَحْنُ وَمُحَمَّدٌ فِيهِ، تَسْأَلُهُمْ، ثُمَّ تَأْتِينَا عَنْهُمْ بِمَا يَقُولُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَخَرَجُوا، وَبَعَثُوا مَعَهُ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ، فَقَدِمَا عَلَى أَحْبَارِ الْيَهُودِ، فَوَصَفَا لَهُمْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا يَدْعُوهُمْ إلَيْهِ، وَخِلَافَهُمْ إيَّاهُ، فَقَالُوا لَهُمَا: سَلُوهُ عَنْ ثَلَاثِ خِلَالٍ، نَأْمُرُكُمْ بِهِنَّ: سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ مَضَوْا فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ كَانَ لَهُمْ خَبَرٌ وَنَبَأٌ، وَحَدِيثٌ مُعْجِبٌ، وَأَخْبَرُوهُمْ خَبَرَهُمْ. وَسَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ قَدْ بَلَغَ مِنْ الْبِلَادِ مَا لَمْ يَبْلُغْ غَيْرُهُ مِنْ مَشَارِقِهَا وَمَغَارِبِهَا يُقَالُ لَهُ ذُو الْقَرْنَيْنِ، وَأَخْبَرُوهُمْ خَبَرَهُ. وَسَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ مَا هُوَ؟ فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثِ فَالرَّجُلُ نَبِيٌّ فَاتَّبِعُوهُ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَالرَّجُلُ كَذَّابٌ، فَرَوْا رَأْيَكُمْ. فَقَدِمَ النَّضْرُ وَعُقْبَةُ عَلَى قُرَيْشٍ مَكَّةُ، فَقَالَا: قَدْ أَتَيْنَاكُمْ بِفَصْلِ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، أَمَرَتْنَا أَحْبَارُ يَهُودَ أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ ثَلَاثَةٍ أُمُورٍ، فَإِنْ أَخْبَرَنَا بِهِنَّ فَهُوَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، فَاتَّبِعُوهُ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا فَالرَّجُلُ كَذَّابٌ. فَمَشَوْا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ؛ أَخْبِرْنَا عَنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ، نَسْأَلُك عَنْهَا، فَإِنْ أَخْبَرْتنَا عَنْهَا فَأَنْتَ نَبِيٌّ. أَخْبِرْنَا عَنْ فِتْيَةٍ مَضَوْا فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ، كَانَ لَهُمْ حَدِيثٌ مُعْجِبٌ، وَعَنْ رَجُلٍ طَوَافٍ بَلَغَ مِنْ الْبِلَادِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ غَيْرُهُ، وَعَنْ الرُّوحِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «غَدًا أُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ» وَلَمْ يَسْتَثْنِ، فَمَكَثَ عَنْهُ جِبْرِيلُ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، مَا يَأْتِيهِ، وَلَا يَرَاهُ حَتَّى أَرْجَفَ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ، قَالُوا: إنَّ مُحَمَّدًا وَعَدَنَا أَنْ يُخْبِرَنَا عَمَّا سَأَلْنَاهُ عَنْهُ غَدًا، فَهَذِهِ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، فَكَبُرَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لُبْثُ جِبْرِيلُ عَنْهُ، ثُمَّ جَاءَهُ بِسُورَةِ الْكَهْفِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَقَدْ احْتَبَسْت عَنِّي

يَا جِبْرِيلُ حَتَّى سُؤْت ظَنًّا» فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: 64]. ثُمَّ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ. فَنَزَلَ فِي أَمْرِ الْفِتْيَةِ: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ} [الكهف: 9] إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. فَقَالَ حِينَ فَرَغَ مِنْ وَصْفِهِمْ، وَتَبَيَّنَ لَهُ خَبَرُهُمْ: {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا} [الكهف: 22]. يَقُولُ لَا مُنَازَعَةَ، وَلَا تَبْلُغْ بِهِمْ فِيهَا جَهْدَ الْخُصُومَةِ، وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا، لَا الْيَهُودُ الَّذِينَ أَمَرُوهُمْ أَنْ يَسْأَلُوك، وَلَا الَّذِينَ سَأَلُوا مِنْ قُرَيْشٍ، يَقُولُ: قَدْ قَصَصْنَا عَلَيْك خَبَرَهُمْ عَلَى حَقِّهِ وَصِدْقِهِ. وَنَزَلَ فِي قَوْلِهِ: أُخْبِرُكُمْ بِهِ غَدًا قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} [الكهف: 23] {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 24] فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا اللَّهُ صَانِعٌ فِي ذَلِكَ أَيُخْبِرُهُمْ عَمَّا يَسْأَلُونَك عَنْهُ؟ أَمْ يَتْرُكُهُمْ؟ {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] الْآيَةَ. وَجَاءَهُ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء: 85] الْآيَةَ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ نَادَاهُمْ الرُّوحُ جِبْرِيلُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَبَلَغَنَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ قَالَ لَهُ أَحْبَارُ يَهُودَ: بَلَغَنَا يَا مُحَمَّدُ أَنَّ فِيمَا تَلَوْت حِينَ سَأَلَك قَوْمُك عَنْ الرُّوحِ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إلَّا قَلِيلًا، فَإِيَّانَا أَرَدْت بِهَا أَمْ قَوْمَك؟ فَقَالَ: كُلًّا أُرِيدُكُمْ بِهَا». قَالُوا: أَوَلَيْسَ فِيمَا تَتْلُو: إنَّا أُوتِينَا التَّوْرَاةَ فِيهَا بَيَانُ كُلِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: «بَلَى، وَالتَّوْرَاةُ فِي عِلْمِ اللَّهِ قَلِيلٌ، وَهِيَ عِنْدَكُمْ كَثِيرٌ مُجْزِئٌ» فَيَذْكُرُونَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ نَزَلْنَ عِنْدَ ذَلِكَ: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} [لقمان: 27] إلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ بِالْمَدِينَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ. وَهُوَ أَصَحُّ.

مسألة ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن

[مَسْأَلَة مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} [الكهف: 23] {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 24] قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا تَأْدِيبٌ مِنْ اللَّهِ لِرَسُولِهِ، أَمَرَهُ فِيهِ أَنْ يُعَلِّقَ كُلَّ شَيْءٍ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ إذْ مِنْ دِينِ الْأُمَّةِ وَمِنْ نَفِيسِ اعْتِقَادِهِمْ (مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ) لَا جَرَمَ فَلَقَدْ تَأَدَّبَ نَبِيُّنَا بِأَدَبِ اللَّهِ حِينَ عَلَّقَ الْمَشِيئَةَ بِالْكَائِنِ لَا مَحَالَةَ، فَقَالَ يَوْمًا وَقَدْ خَرَجَ إلَى الْمَقْبَرَةِ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ». وَقَالَ أَيْضًا: «إنِّي وَاَللَّهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفَّرْت عَنْ يَمِينِي». الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَالَهُ الْمَرْءُ كَمَا يَلْزَمُهُ فِي الِاعْتِقَادِ، فَهَلْ يَكُونُ اسْتِثْنَاءً فِي الْيَمِينِ أَمْ لَا؟ قَالَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ: يَكُونُ اسْتِثْنَاءً. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَشْهَبُ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَأُسَامَةُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَالِكٍ. إنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} [الكهف: 23] {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 24]. إنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ ذِكْرَ اللَّهِ عِنْدَ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ وَلَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ. وَهَذَا الَّذِي قَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ أَجِدْ عَلَيْهِ دَلِيلًا؛ لِأَنَّ رَبْطَ الْمَشِيئَةِ، وَذِكْرَهَا قَوْلًا مِنْ الْعَبْدِ لِفِعْلِ الْعَبْدِ، فَقَالَ لِعَبْدِهِ: لَا تَقُلْ إنِّي فَاعِلٌ شَيْئًا فِيمَا تَسْتَقْبِلُهُ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، تَقْدِيرُهُ عِنْدَ قَوْمٍ: إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ. وَتَقْدِيرُهُ عِنْد آخَرِينَ: إلَّا أَنْ تَقُولَ إنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي رِسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ، وَهَذَا عَزْمٌ مِنْ اللَّهِ لِعَبْدِهِ عَلَى أَنْ يُدْخِلَ قَوْلًا وَعَقْدًا فِي مَشِيئَةِ رَبِّهِ، فَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ؛ وَقَوْلُ ذَلِكَ أَجْدَرُ فِي قَضَاءِ الْأَمْرِ، وَدَرْكِ الْحَاجَةِ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً تَحْمِلُ كُلُّ امْرَأَةٍ فَارِسًا يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ، فَلَمْ تَحْمِلْ شَيْئًا إلَّا وَاحِدًا سَاقِطًا أَحَدُ شِقَّيْهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ قَالَهَا لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ». فَهَذَا بَيَانُ الثُّنْيَا فِي الْيَمِينِ، وَأَنَّهَا حَالَةٌ لِعَقْدِ الْأَيْمَانِ، وَأَصْلٌ فِي سُقُوطِ سَبَبِ الْكَفَّارَةِ عَنْهَا، وَإِنَّمَا الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَنْ يُذْكَرَ اللَّهُ عِنْدَ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24]. وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ وَاذْكُرْ رَبَّك إذَا نَسِيت بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي الْأَيْمَانِ، مَتَى ذَكَرْتَ، وَلَوْ إلَى سَنَةٍ، وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَالْحَسَنُ. الثَّانِي: قَالَ عِكْرِمَةُ: مَعْنَاهُ وَاذْكُرْ رَبَّك إذَا غَضِبْت. الثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَاهُ وَاذْكُرْ رَبَّك إذَا نَسِيت بِالِاسْتِثْنَاءِ، فَيَرْفَعُ عَنْهُ ذِكْرُ الِاسْتِثْنَاءِ الْحَرَجَ، وَتَبْقَى الْكَفَّارَةُ. وَإِنْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا انْتَفَى الْحَرَجُ وَالْكَفَّارَةُ. فَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ مَعْنَاهُ وَاذْكُرْ رَبَّك إذَا نَسِيت بِالِاسْتِثْنَاءِ فَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَإِنِّي وَاَللَّهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي». وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ وَاذْكُرْ رَبَّك إذَا غَضِبْتَ بِالْغَيْنِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَتَيْنِ فَمَعْنَاهُ التَّثَبُّتُ عِنْدَ الْغَضَبِ فَإِنَّهُ مَوْضِعُ عَجَلَةٍ، وَمَزَلَّةُ قَدَمٍ، وَالْمَرْءُ يُؤَاخَذُ بِمَا يَنْطِقُ بِهِ فَمُهُ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.

مسألة معنى قوله تعالى وقل عسى أن يهدين ربي.

وَمَنْ رَوَاهُ بِالْعَيْنِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَتَيْنِ فَهُوَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُرَادُ بِهِ أُمَّتُهُ، لِاسْتِحَالَةِ الْمَعْصِيَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ شَرْعًا بِالْخَبَرِ الْوَارِدِ الصَّادِقِ فِي تَنْزِيهِهِمْ عَنْهَا. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ مَعْنَاهُ وَاذْكُرْ رَبَّك بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ لِيَرْتَفِعَ عَنْك الْحَرَجُ دُونَ الْكَفَّارَةِ فَهُوَ تَحَكُّمٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ الصَّحِيحَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ إرَادَةُ الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي يَرْفَعُ الْيَمِينَ الْمُنْعَقِدَةَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَهِيَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَدَتْ فِي الْيَمِينِ بِهِ خَاصَّةً لَا تَتَعَدَّاهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَيْمَانِ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمْ فَقَالُوا: إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ نَافِعٌ فِي كُلِّ يَمِينٍ كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ تَنْعَقِدُ مُطْلَقَةً، فَإِذَا قَرَنَ بِهَا ذِكْرَ اللَّهِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ كَانَ ذَلِكَ مَانِعًا انْعِقَادَهَا، كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ. وَمُعَوِّلُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إنَّمَا تُعْلَمُ بِوُقُوعِ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا مَا يَشَاءُ، فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقَدْ كَانَ الطَّلَاقُ بِوُجُودِ الْمَشِيئَةِ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْفِعْلِ عَلَامَةٌ عَلَيْهَا، وَهَذَا أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ السُّنَّةِ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي.] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي} [الكهف: 24] الْآيَةَ: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَمْرٌ قِيلَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَعْنَى التَّبَرُّكِ أَوْ التَّأْدِيبِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ مِيعَادِكُمْ. فَإِنْ قِيلَ: وَأَيُّ قُرْبٍ، وَقَدْ فَاتَ الْأَجَلُ؟ قُلْنَا: الْقُرْبُ هُوَ مَا أَرَادَ اللَّهُ وَقْتَهُ وَإِنْ بَعُدَ، وَالْبُعْدُ مَا لَمْ يُرِدْ اللَّهُ وَقْتَهُ وَإِنْ قَرُبَ الثَّالِثُ: الْمَعْنَى إنَّكُمْ طَلَبْتُمْ مِنِّي آيَاتٍ دَالَّةً عَلَى نُبُوَّتِي، فَأَخْبَرْتُكُمْ، فَلَمْ تَقْبَلُوا مِنِّي، فَعَسَى أَنْ يُعْطِيَنِي اللَّهُ مَا هُوَ أَقْرَبُ لِإِجَابَتِكُمْ مِمَّا سَأَلْتُمْ.

مسألة فائدة الاستثناء في قوله تعالى ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله

[مَسْأَلَة فَائِدَة الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ قَوْمٌ: أَيُّ فَائِدَةٍ لِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ حَقِيقٌ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ قَامَ، وَكُلُّ أَحَدٍ قَدْ عَلِمَ بِأَنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ. قُلْنَا: عَنْهُ أَرْبَعَةُ أَجْوِبَةٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَبُّدٌ مِنْ اللَّهِ، فَامْتِثَالُهُ وَاجِبٌ، لِالْتِزَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ، وَانْقِيَادِهِ إلَيْهِ، وَمُوَاظَبَتِهِ عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَرْءَ قَدْ اشْتَمَلَ عَقْدُهُ عَلَى أَنَّهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ كَانَ مَا وَعَدَ بِفِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ وَاتَّصَلَ بِكَلَامِهِ فِي ضَمِيرِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَّصِلَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ فِي كَلَامِهِ بِلِسَانِهِ، حَتَّى يَنْتَظِمَ اللِّسَانُ وَالْقَلْبُ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ شِعَارُ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَتَعَيَّنَ الْإِجْهَارُ بِهِ، لِيُمَيَّزَ مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ. الرَّابِعُ: أَنَّ فِيهِ التَّنْبِيهَ عَلَى مَا يَطْرَأُ فِي الْعَوَاقِبِ بِدَفْعٍ أَوْ تَأَتٍّ، وَرَفْعَ الْإِيهَامِ الْمُتَوَقَّعِ بِقَطْعِ الْعَقْلِ الْمُطْلَقِ فِي الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ مَشِيئَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَهَذِهِ كَانَتْ فَائِدَةُ الِاسْتِثْنَاءِ دَخَلَتْ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ رُخْصَةً، وَبَقِيَتْ سَائِرُ الِالْتِزَامَاتِ عَلَى الْأَصْلِ؛ وَلِهَذَا يُرْوَى عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَهُوَ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ. وَلَوْ قَالَهَا فِي الطَّلَاقِ لَمْ تَلْزَمْ؛ لِأَنَّهُ أَبْغَضُ الْحَلَالِ إلَى اللَّهِ. وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ يَرْفَعُ الْعَقْدَ الْمُلْتَزَمَ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَالطَّلَاقِ فَلْيَرْفَعْهُ فِي الْعِتْقِ، وَإِنْ كَانَتْ رُخْصَةً فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ لِكَثْرَةِ تَرَدُّدِهَا فَلَا يُقَاسُ عَلَى الرُّخَصِ. [مَسْأَلَة اللَّهَ أَدَّبَ رَسُولَهُ عَلَيْهِ السَّلَام بِرَبْطِ الْأُمُورِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ حُجْزَةٌ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ وَالْبِدْعَةِ وَالسُّنَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَدَّبَ رَسُولَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِرَبْطِ الْأُمُورِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، تَقَدَّسَ تَعَالَى، وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ آخَرَ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ: وَاَللَّهِ لَأُعْطِيَنَّكَ حَقَّك غَدًا إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَجَاءَ الْغَدُ وَلَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا أَنَّهُ لَا حِنْثَ عَلَيْهِ فِي يَمِينِهِ، وَلَا يَلْحَقُهُ فِيهِ كَذِبٌ، وَالتَّأْخِيرُ مَعْصِيَةٌ مِنْ الْغَنِيِّ

الآية الرابعة قوله تعالى ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين

الْقَادِرِ، وَلَوْ كَانَ اللَّهُ لَمْ يَشَأْ التَّأْخِيرَ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ، وَهُوَ لَا يَشَاءُ الْمَعَاصِيَ، كَمَا يَقُولُونَ، إذَنْ كَانَ يَكُونُ الْحَالِفُ كَاذِبًا حَانِثًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَأُعْطِيَنَّكَ حَقَّك إنْ عِشْت غَدًا، فَعَاشَ فَلَمْ يُعْطِهِ كَانَ حَانِثًا كَاذِبًا. وَعِنْدَ مُعْتَزِلَةِ الْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ لِإِعْطَاءِ هَذَا الْحَالِفِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْحَقِّ أَمْرُهُ، وَقَدْ عُلِمَ حُصُولُ أَمْرِهِ بِذَلِكَ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءُ الْحَالِفِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ الْمَعْلُومِ حُصُولُهُ بِمَنْزِلَةِ اسْتِثْنَاءِ الْحَالِفِ بِكُلِّ مَعْلُومٍ حُصُولُهُ، وَكَمَا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَأُعْطِيَنَّكَ حَقَّك إنْ أَمَرَنِي اللَّهُ غَدًا بِذَلِكَ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، بَيْدَ أَنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ أَرَادَ إعْطَاءَ حَقِّ هَذَا إرَادَةً مُتَقَدِّمَةً لِلْأَمْرِ بِهِ، وَبِذَلِكَ صَارَ الْأَمْرُ أَمْرًا، وَهِيَ مُتَجَدِّدَةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَالْحَالِفُ كَاذِبٌ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ مِنْ أَقْوَالِهِمْ، حَانِثٌ. وَقَدْ زَعَمَ الْبَغْدَادِيُّونَ أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ هِيَ تَقِيَّةُ الْعَبْدِ إلَى غَدٍ وَتَأْخِيرُهُ لَهُ، وَرَفْعُ الْعَوَائِقِ عَنْهُ. وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا لَوَجَبَ إذَا أَصْبَحَ الْحَالِفُ حَيًّا بَاقِيًا سَالِمًا مِنْ الْعَوَائِقِ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا حَانِثًا إذَا لَمْ يُعْطِهِ حَقَّهُ. وَقَدْ قَالُوا: إنَّمَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْحِنْثُ إذَا قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ رُخْصَةً مِنْ الشَّرْعِ. قُلْنَا: حَكَمَ الشَّرْعُ بِسُقُوطِ الْحَرَجِ وَالْحِنْثِ عَنْهُ إذَا قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبَقَائِهِ عَلَيْهِ إذَا قَالَ: إنْ أَبْقَانِي اللَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بَيِّنٌ مَعْنًى، كَمَا هُوَ بَيِّنٌ لَفْظًا؛ إذْ لَوْ كَانَ مَعْنًى وَاحِدًا لَمَا اخْتَلَفَ الْحُكْمُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ مَعْنَاهُ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إلْجَائِي إلَيْهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَوْ أَلْجَأَهُ إلَيْهِ لَمْ يُتَصَوَّرْ التَّكْلِيفُ فِيهِ بِالْإِلْزَامِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى فِعْلِ الشَّيْءِ مَعَ الْأَمْرِ بِهِ عِنْدَهُمْ مُحَالٌ، فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِمْ بِحَالٍ. وَقَدْ بَسَطْنَاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ بِأَعَمَّ مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ. [الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ] الْآيَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا - قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: 25 - 26].

مسألة الفرار من الظالم

فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ مَالِكٌ: الْكَهْفُ مِنْ نَاحِيَةِ الرُّومِ. وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ مُعَاوِيَةَ غَزْوَةَ الْمَضِيقِ نَحْوَ الرُّومِ، فَمَرَرْنَا بِالْكَهْفِ الَّذِي فِيهِ أَصْحَابُ الْكَهْفِ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. وَاسْمُ الْجَبَلِ الَّذِي فِيهِ الْكَهْفُ بنجلوس. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْكَهْفُ الْغَارُ فِي الْوَادِي، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَقَالَ قَوْمٌ: إنَّ الْكَهْفَ فِي نَاحِيَةِ الشَّامِ عَلَى قُرْبٍ مِنْ وَادِي مُوسَى، يَنْزِلُهُ الْحُجَّاجُ إذَا سَارُوا إلَى مَكَّةَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ: " أَمْ حَسِبْت أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ ". ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ بَابَ " حَدِيثُ الْغَارِ " وَذَكَرَ عَلَيْهِ خَبَرَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ آوَاهُمْ الْمَطَرُ إلَى غَارٍ، وَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: «وَاَللَّهِ لَا يُنْجِيكُمْ إلَّا الصِّدْقُ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} [الكهف: 26] هِيَ الْحُجَّةُ: لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ} [الكهف: 25] مِنْ كَلَامِهِمْ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِيمَا قَبْلُ سُكْنَى الْجِبَالِ وَدُخُولَ الْغِيرَانِ لِلْعُزْلَةِ عَنْ الْخَلْقِ وَالِانْفِرَادِ بِالْخَالِقِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة الْفِرَار مِنْ الظَّالِمِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِيهِ جَوَازُ الْفِرَارِ مِنْ الظَّالِمِ: وَهِيَ سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَحِكْمَةُ اللَّهِ فِي الْخَلِيقَةِ. وَقَدْ شَرَحْنَاهَا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ.

الآية الخامسة قوله تعالى ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله

[الْآيَة الْخَامِسَة قَوْله تَعَالَى وَلَوْلَا إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ] الْآيَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِي أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا} [الكهف: 39]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الذِّكْرُ مَشْرُوعٌ لِلْعَبْدِ فِي كُلِّ حَالٍ عَلَى النَّدْبِ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَذْكُرُ اللَّهَ كُلَّ أَحْيَانِهِ». وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحِ: «لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتنَا، فَقُضِيَ بَيْنَهَا وَلَدٌ لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ أَبَدًا». وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ فِيهَا ذِكْرُ اللَّهِ إذَا دَخَلَ أَحَدُنَا مَنْزِلَهُ أَوْ مَسْجِدَهُ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَ كَمَا قَالَ اللَّهُ: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ} [الكهف: 39] أَيْ مَنْزِلَك قُلْت: {مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ} [الكهف: 39]. قَالَ أَشْهَبُ: قَالَ مَالِكٌ: يَنْبَغِي لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ مَنْزِلَهُ أَنْ يَقُولَ هَذَا.

الآية السادسة قوله تعالى المال والبنون زينة الحياة الدنيا

وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ لِي حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ: رَأَيْت عَلَى بَابِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ مَكْتُوبًا {مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ} [الكهف: 39]. وَرُوِيَ أَنَّ مَنْ قَالَ أَرْبَعًا أَمِنَ مِنْ أَرْبَعٍ، مَنْ قَالَ هَذِهِ أَمِنَ مِنْ هَذَا، وَمَنْ قَالَ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ أَمِنَ مِنْ كَيْدِ النَّاسِ لَهُ قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]. وَمَنْ قَالَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إلَى اللَّهِ أَمَّنَهُ اللَّهُ مِنْ الْمَكْرِ. قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ الْعَبْدِ الصَّالِحِ أَنَّهُ قَالَ: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر: 44] {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر: 45]. وَمَنْ قَالَ: {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، أَمِنَ مِنْ الْغَمِّ، وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: مَا مِنْ أَحَدٍ يَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ إلَّا رَضِيَ بِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة السَّادِسَة قَوْله تَعَالَى الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا} [الكهف: 46]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مَا عَدَا اللَّهَ وَصِفَاتِهِ الْعُلَا لَهُ أَوَّلٌ، فَإِنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مَا عَدَا نَعِيمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَعَذَابَ أَهْلِ النَّارِ لَهُ آخِرٌ، وَكُلُّ مَا لَا آخِرَ لَهُ فَهُوَ الْبَاقِي حَقِيقَةً. وَلَكِنَّ الْبَاقِيَ بِالْحَقِّ وَالْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْأَمَدِ. فَأَمَّا نَعِيمُ الْجَنَّةِ فَأُصُولٌ مُذْ خُلِقَتْ لَمْ تَفْنَ وَلَا تَفْنَى بِخَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَفُرُوعٌ وَهِيَ النِّعَمُ، هِيَ أَعْرَاضٌ إنَّمَا تُوصَفُ بِالْبَقَاءِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ أَمْثَالَهَا يَتَجَدَّدُ مِنْ غَيْرِ انْقِطَاعٍ، كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ وَغَيْرِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَعَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ قَبْلُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ بِقَوْلِهِ: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56]

فَهَذَا فَنَاءٌ وَتَجْدِيدٌ، فَيَجْعَلُهُ بَقَاءً مَجَازًا بِالْإِضَافَةِ إلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ يَفْنَى فَلَا يَعُودُ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَالْأَعْمَالُ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْ الْخَلْقِ مِنْ حَسَنٍ وَقَبِيحٍ لَا بَقَاءَ لَهَا، وَلَا تَجَدُّدَ بَعْدَ فَنَاءِ الْخَلْقِ، فَهِيَ بَاقِيَاتٌ صَالِحَاتٌ وَطَالِحَاتٌ، حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ فِي الْحَقِيقَةِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ الْأَعْمَالُ أَسْبَابًا فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَكَانَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ دَائِمَيْنِ لَا يَنْقَطِعَانِ، وَبَاقِيَيْنِ لَا يَفْنَيَانِ، كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ، وُصِفَتْ الْأَعْمَالُ بِالْبَقَاءِ، حَمْلًا مَجَازِيًّا عَلَيْهَا، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ مِنْ وَجْهِ تَسْمِيَةِ الْمَجَازِ. وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِسَبَبِهِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ، أَوْ تَسْمِيَتُهُ بِفَائِدَتِهِ الْمَقْصُودَةِ بِهِ، فَنَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهَا خَيْرُ مَا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍ، وَعَمَلٍ وَحَالٍ فِي الْمَآلِ، فَقَالَ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّك ثَوَابًا مِنْ الْمَالِ وَالْبَنِينَ، وَخَيْرٌ أَمَلًا فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ إرَادَتَهُ، وَاقْتَضَى ذَلِكَ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ بِهَذَا الْعُمُومِ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ كُلَّ عَمَلٍ صَالِحٍ، وَهُوَ الَّذِي وَعَدَ بِالثَّوَابِ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ عَيَّنُوا فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا، وَرَوَوْا فِيهِ أَحَادِيثَ، وَاخْتَارُوا مِنْ ذَلِكَ أَنْوَاعًا يَكْثُرُ تَعْدَادُهَا، وَيَطُولُ إيرَادُهَا، أُمَّهَاتُهَا أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ: رَوَى مَالِكٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، «أَنَّ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ قَوْلُ الْعَبْدِ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ». الثَّانِي: رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِثْلَهُ. الثَّالِثُ: مِثْلُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الرَّابِعُ: أَنَّهَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ؛ وَبِهِ أَقُولُ، وَإِلَيْهِ

الآية السابعة قوله تعالى وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين

أَمِيلُ، وَلَيْسَ فِي الْبَابِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، أَمَّا أَنَّ فَضْلَ التَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَالْحَوْقَلَةِ مَشْهُورٌ فِي الصَّحِيحِ كَثِيرٌ، وَلَا مِثْلَ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي ذَلِكَ بِحِسَابٍ وَلَا تَقْدِيرٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة السَّابِعَة قَوْله تَعَالَى وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ] ِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف: 60]. وَهِيَ آيَةٌ سَيَرْتَبِطُ بِهَا غَيْرُهَا؛ لِأَنَّهُ حَدِيثُ الْخَضِرِ كُلُّهُ، وَذَلِكَ فِي سَبْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَرْدِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ بِغَايَةِ الْإِيعَابِ، وَشَرَحْنَا مَسَائِلَهُ، وَتَكَلَّمْنَا عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَنَحْنُ الْآنَ هَاهُنَا لَا نَعْدُو مَا يَتَعَلَّقُ بِالْآيَاتِ عَلَى التَّقْرِيبِ الْمُوجِزِ الْمُوعِبِ فِيهَا بِعَوْنِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ. فَأَمَّا حَدِيثُهُ فَهُوَ مَا رَوَى أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ وَغَيْرُهُ، وَالْمُعَوَّلُ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ: إنَّ نَوْفًا الْبِكَالِيُّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى صَاحِبَ بَنِي إسْرَائِيلَ لَيْسَ مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ، فَقَالَ: كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ، سَمِعْت أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ يَقُولُ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: قَامَ مُوسَى خَطِيبًا فِي بَنِي إسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ. فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، إذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْك. قَالَ مُوسَى: أَيْ رَبِّ، فَكَيْفَ لِي بِهِ؟ فَقَالَ لَهُ: احْمِلْ حُوتًا فِي مِكْتَلٍ، فَحَيْثُ تَفْقِدُ الْحُوتَ فَثَمَّ هُوَ، وَانْطَلَقَ مَعَهُ فَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، فَجَعَلَ مُوسَى حُوتًا فِي مِكْتَلٍ، فَانْطَلَقَ وَفَتَاهُ يَمْشِيَانِ حَتَّى أَتَيَا الصَّخْرَةَ، فَرَقَدَ مُوسَى وَفَتَاهُ، فَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ الْمِكْتَلِ، فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ قَالَ: وَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُ جَرْيَةَ الْمَاءِ، حَتَّى كَانَ مِثْلَ الطَّاقِ، وَكَانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا، وَلِمُوسَى وَلِفَتَاهُ عَجَبًا، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتِهِمَا، وَنَسِيَ صَاحِبُ مُوسَى أَنْ يُخْبِرَهُ. فَلَمَّا أَصْبَحَ مُوسَى قَالَ لِفَتَاهُ: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف: 62].

قَالَ: وَلَمْ يَنْصَبْ حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِي أُمِرَ بِهِ. قَالَ: {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} [الكهف: 63] {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف: 64]. قَالَ: فَكَانَا يَقُصَّانِ آثَارَهُمَا. قَالَ سُفْيَانُ: يَزْعُمُ نَاسٌ أَنَّ تِلْكَ الصَّخْرَةَ عِنْدَهَا عَيْنُ الْحَيَاةِ، وَلَا يُصِيبُ مَاؤُهَا مَيِّتًا إلَّا عَاشَ. قَالَ: وَكَانَ الْحُوتُ قَدْ أَكَلَ مِنْهُ، فَلَمَّا قَطَرَ عَلَيْهِ الْمَاءُ عَاشَ. قَالَ: فَقَصَّا آثَارَهُمَا حَتَّى أَتَيَا الصَّخْرَةَ، فَرَأَى رَجُلًا مُسَجًّى عَلَيْهِ بِثَوْبٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إنِّي بِأَرْضِك السَّلَامِ؟ قَالَ: أَنَا مُوسَى. قَالَ: مُوسَى بَنِي إسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: يَا مُوسَى، إنَّك عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ لَا أَعْلَمُهُ، وَأَنَا عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لَا تَعْلَمُهُ. فَقَالَ مُوسَى: {أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66] {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف: 67]. قَالَ لَهُ الْخَضِرُ: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف: 70] قَالَ: نَعَمْ. فَانْطَلَقَ الْخَضِرُ وَمُوسَى يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ، فَكَلَّمَاهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمَا، فَعَرَفُوا الْخَضِرَ، فَحَمَلُوهَا بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَعَمَدَ الْخَضِرُ إلَى لَوْحٍ مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ فَنَزَعَهُ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى. قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْت إلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا، لَقَدْ جِئْت شَيْئًا إمْرًا. قَالَ: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف: 72] {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف: 73]. ثُمَّ خَرَجَا مِنْ السَّفِينَةِ، فَبَيْنَمَا هُمَا يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ إذَا بِغُلَامٍ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَ الْخَضِرُ بِرَأْسِهِ، فَاقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ، فَقَتَلَهُ. قَالَ لَهُ مُوسَى: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف: 74] {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف: 75].

قَالَ: وَهَذِهِ أَشَدُّ مِنْ الْأُولَى: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} [الكهف: 76] {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77] {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 78]. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى لَوَدِدْنَا أَنَّهُ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَخْبَارِهِمَا» قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْأُولَى كَانَتْ مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا. قَالَ: وَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ، ثُمَّ نَقَرَ فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: مَا عِلْمِي وَعِلْمُك فِي عِلْمِ اللَّهِ إلَّا بِمِقْدَارِ مَا أَخَذَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ الْبَحْرِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ: وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا. وَكَانَ يَقْرَأُ: وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ كَافِرًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ أُبَيٌّ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْغُلَامُ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ طُبِعَ يَوْمَ طُبِعَ كَافِرًا». وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ؛ لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ فَاهْتَزَّتْ تَحْتَهُ خَضْرَاءَ». الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} [الكهف: 60] فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ يَخْدُمُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ ابْنُ أُخْتِهِ وَهُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونِ بْنِ أَفْرَائِيمَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ. وَإِنَّمَا سَمَّاهُ فَتَاهُ؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْفَتَى، وَهُوَ الْعَبْدُ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ} [يوسف: 62] وَقَالَ:

مسألة الرحلة في طلب العلم الذي ليس بفرض

{تُرَاوِدُ فَتَاهَا} [يوسف: 30] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي، وَلْيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي». فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي أَنَّهُ عَبْدٌ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ. وَفِي التَّفْسِيرِ أَنَّهُ ابْنُ أُخْتِهِ. وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَا يُقْطَعُ بِهِ، فَالْوَقْفُ فِيهِ أَسْلَمُ. [مَسْأَلَة الرِّحْلَةُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ الَّذِي لَيْسَ بِفَرْضٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِيهِ الرِّحْلَةُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ الَّذِي لَيْسَ بِفَرْضٍ، وَقَدْ رَحَلَتْ الصَّحَابَةُ فِيهِ وَأُذِنَ لَهُمْ فِي التَّرَحُّلِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا فَضْلًا عَنْ الدِّينِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. [الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة مِنْ الْآيَة الثَّامِنَة قَوْله تَعَالَى فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ مِنْ الْآيَةِ الثَّامِنَةِ {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} [الكهف: 61]. جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى النِّسْيَانَ سَبَبًا لِلزِّيَادَةِ عَلَى مِقْدَارِ الْحَاجَةِ فِي الْمَسِيرِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ كَانَ كَتَبَ لَهُ لِقَاءَهُ، وَكَتَبَ الزِّيَادَةَ فِي السَّيْرِ عَلَى مَوْضِعِ اللِّقَاءِ، فَنَفَذَ الْكُلُّ؛ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ النِّسْيَانِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَكَذَلِكَ عَلَى الْخَلْقِ فِي مَعَانِي الدِّينِ، وَهُوَ عَفْوٌ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ. [الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة مِنْ الْآيَة التَّاسِعَة قَوْله تَعَالَى قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا] } [الكهف: 62] بَيَّنَ ذَلِكَ جَوَازَ الِاسْتِخْدَامِ لِلْأَصْحَابِ أَوْ الْعَبِيدِ فِي أُمُورِ الْمَعَاشِ وَحَاجَةِ الْمَنَافِعِ، لِفَضْلِ الْمَنْزِلَةِ، أَوْ لِحَقِّ السَّيِّدِيَّةِ.

المسألة السادسة من الآية العاشرة قوله تعالى وما أنسانيه إلا الشيطان

[الْمَسْأَلَة السَّادِسَة مِنْ الْآيَة الْعَاشِرَة قَوْله تَعَالَى وَمَا أَنْسَانِيهِ إلَّا الشَّيْطَانُ] ُ} [الكهف: 63]: نَسِيَهُ يُوشَعُ، وَنَسِيَهُ أَيْضًا مُوسَى، وَنِسْبَةُ الْفَتَى نِسْيَانَهُ إلَى الشَّيْطَانِ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُ. وَلَا يُنْسَبُ نِسْيَانُ الْأَنْبِيَاءِ إلَى الشَّيْطَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا نِسْيَانُهُمْ أُسْوَةٌ لِلْخَلْقِ وَسُنَّةٌ فِيهِمْ. [مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} [الكهف: 63] قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَصَارَ الْمَاءُ عَلَى الْحُوتِ مِثْلَ الطَّاقِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ عَلَامَةً لِمُوسَى، وَلَوْلَاهُ مَا عَلِمَ أَيْنَ فَقَدَ الْحُوتَ، وَلَا وَجَدَ إلَى لِقَاءِ الْمَطْلُوبِ سَبِيلًا. [الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة مِنْ الْآيَة الْحَادِيَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ] ِي} [الكهف: 66]: وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَعَلِّمَ تَبَعٌ لِلْعَالِمِ، وَلَوْ تَفَاوَتَتْ الْمَرَاتِبُ. [الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة مِنْ الْآيَة الثَّانِيَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى إنَّك لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا] } [الكهف: 67]. حَكَمَ عَلَيْهِ بِعَادَةِ الْخَلْقِ فِي عَدَمِ الصَّبْرِ عَمَّا يَخْرُجُ مِنْ الِاعْتِيَادِ، وَهُوَ أَصْلٌ فِي الْحُكْمِ بِالْعَادَةِ. [الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة مِنْ الْآيَة الثَّالِثَةُ عَشْرَة قَوْله تَعَالَى سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَك أَمْرًا] } [الكهف: 69]. قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: اسْتَثْنَى فِي التَّصَبُّرِ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ، فَلَا جَرَمَ وَجَّهَ مَا اسْتَثْنَى فِيهِ، فَكَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرِقَ السَّفِينَةَ أَوْ يَقْتُلَ الْغُلَامَ لَمْ يَقْبِضْ يَدَهُ، وَلَا نَازَعَهُ، وَخَالَفَهُ فِي الْأَمْرِ، فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ، وَسَأَلَهُ.

المسألة الحادية عشرة من الآية الرابعة عشرة قوله تعالى لا تؤاخذني بما نسيت

[الْمَسْأَلَة الْحَادِيَة عَشْرَة مِنْ الْآيَة الرَّابِعَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ] ُ} [الكهف: 73]. ذَكَرَ أَنَّ النِّسْيَانَ لَا يَقْتَضِي الْمُؤَاخَذَةَ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ فِي طَلَاقٍ وَلَا غَيْرِهِ. [الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة عَشْرَة مِنْ الْآيَة الْخَامِسَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى إنْ سَأَلْتُك عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي] } [الكهف: 76]. فَهَذَا شَرْطٌ، وَهُوَ لَازِمٌ، وَالْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ، وَأَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ يُوَفَّى بِهِ مَا الْتَزَمَهُ الْأَنْبِيَاءُ، أَوْ اُلْتُزِمَ لِلْأَنْبِيَاءِ، فَهَذَا أَصْلٌ مِنْ الْقَوْلِ بِالشُّرُوطِ وَارْتِبَاطِ الْأَحْكَامِ بِهَا، وَهُوَ يُسْتَدَلُّ بِهِ فِي الْأَيْمَانِ وَغَيْرِهَا. [مَسْأَلَة قِيَامِ الِاعْتِذَارِ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ مُطْلَقًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} [الكهف: 76] هَذَا يَدُلُّ عَلَى قِيَامِ الِاعْتِذَارِ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ مُطْلَقًا، وَبِقِيَامِ الْحُجَّةِ مِنْ الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ بِالْقَطْعِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: صَبَرَ مُوسَى عَلَى قَتْلِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ عِنْدَهُ الْقَتْلَ، وَلَمْ يَغْتَرَّ لَمَّا كَانَ أَعْلَمَهُ مِنْ أَنَّ عِنْدَهُ عِلْمًا لَيْسَ عِنْدَهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا صَبَرَ عَلَى حَالٍ ظَاهِرُهَا الْمُحَالُ، وَكَانَ هُوَ أَعْلَمُ بِبَاطِنِهَا فِي الْمَآلِ. [الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة عَشْرَة مِنْ الْآيَة السَّادِسَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى فَانْطَلَقَا حَتَّى إذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا] } [الكهف: 77]. وَصَلَا إلَى الْقَرْيَةِ مُحْتَاجَيْنِ إلَى الطَّعَامِ، فَعَرَضُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَكَانُوا ثَلَاثَةً، فَأَبَوْا عَنْ قَبُولِ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَهَذَا سُؤَالٌ، وَهُوَ عَلَى مَرَاتِبَ فِي الشَّرْعِ، وَمَنَازِلَ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ. وَهَذَا السُّؤَالُ مِنْ تِلْكَ الْأَقْسَامِ هُوَ سُؤَالُ الضِّيَافَةِ، وَهِيَ فَرْضٌ أَوْ سُنَّةٌ كَمَا بَيَّنَّاهُ

المسألة السادسة عشرة من الآية السابعة عشرة قوله تعالى أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر

هُنَالِكَ، وَسُؤَالُهَا جَائِزٌ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُمْ نَزَلُوا بِقَوْمٍ فَاسْتَضَافُوهُمْ، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُهُمْ، فَسَأَلُوهُمْ: هَلْ مِنْ رَاقٍ، فَجَعَلُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنْ الْغَنَمِ. . الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ. وَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَوَّزَ الْكُلَّ، وَقَدْ كَانَ مُوسَى حِينَ سَقَى لِبِنْتَيْ شُعَيْبٍ أَجْوَعَ مِنْهُ حِينَ أَتَى الْقَرْيَةَ مَعَ الْخَضِرِ، وَلَمْ يَسْأَلْ قُوتًا؛ بَلْ سَقَى ابْتِدَاءً، وَفِي الْقَرْيَةِ سَأَلَا الْقُوتَ، وَفِي ذَلِكَ لِلْعُلَمَاءِ انْفِصَالَاتٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا أَنَّ مُوسَى كَانَ فِي حَدِيثِ مَدْيَنَ مُنْفَرِدًا، وَفِي قِصَّةِ الْقَرْيَةِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ. وَقِيلَ: كَانَ هَذَا سَفَرَ تَأْدِيبٍ فَوُكِلَ إلَى تَكْلِيفِ الْمَشَقَّةِ، وَكَانَ ذَلِكَ سَفَرَ هِجْرَةٍ فَوُكِلَ إلَى الْعَوْنِ وَالْقُوَّةِ. [الْمَسْأَلَة السَّادِسَة عَشْرَة مِنْ الْآيَة السَّابِعَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ] ِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79]. فَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إنَّ الْمِسْكِينَ هُوَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ، وَفَرَّ مِنْ ذَلِكَ قَوْمٌ حَتَّى قَرَءُوهَا لِمَسَّاكِينَ بِتَشْدِيدِ السِّينِ مِنْ الِاسْتِمْسَاكِ، وَهَذَا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا نَسَبَهُمْ إلَى الْمَسْكَنَةِ لِأَجْلِ ضَعْفِ الْقُوَّةِ، بَلْ عَدَمِهَا فِي الْبَحْرِ، وَافْتِقَارِ الْعَبْدِ إلَى الْمَوْلَى كَسْبًا وَخَلْقًا. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ يَقِينًا أَنَّ الْحَوْلَ وَالْقُوَّةَ لِلَّهِ فَلْيَرْكَبْ الْبَحْرَ. [الْمَسْأَلَة السَّابِعَة عَشْرَة مِنْ الْآيَة الثَّامِنَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ] ِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 82].

الآية التاسعة عشرة قوله تعالى قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض

[الْآيَة التَّاسِعَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ] ِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف: 94]. فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ: الْخَرْجُ: الْجَزَاءُ وَالْأُجْرَةُ، وَكَانَ مَلِكًا يَنْظُرُ فِي أُمُورِهِمْ، وَيَقُومُ بِمَصَالِحِهِمْ، فَعَرَضُوا عَلَيْهِ جَزَاءً فِي أَنْ يَكُفَّ عَنْهُمْ مَا يَجِدُونَهُ مِنْ عَادِيَةِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَعَلَى الْمَلِكِ فَرْضُ أَنْ يَقُومَ بِحِمَايَةِ الْخَلْقِ فِي حِفْظِ بَيْضَتِهِمْ، وَسَدِّ فُرْجَتِهِمْ، وَإِصْلَاحِ ثَغْرِهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ الَّتِي تَفِيءُ عَلَيْهِمْ، وَحُقُوقِهِمْ الَّتِي يَجْمَعُهَا خَزَنَتُهُمْ تَحْتَ يَدِهِ وَنَظَرِهِ، حَتَّى لَوْ أَكْلَتهَا الْحُقُوقُ، وَأَنْفَدَتْهَا الْمُؤَنُ، وَاسْتَوْفَتْهَا الْعَوَارِضُ، لَكَانَ عَلَيْهِمْ جَبْرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَعَلَيْهِ حُسْنُ النَّظَرِ لَهُمْ، وَذَلِكَ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: الْأَوَّلُ: أَلَّا يَسْتَأْثِرَ بِشَيْءٍ عَلَيْهِمْ. الثَّانِي: أَنْ يَبْدَأَ بِأَهْلِ الْحَاجَةِ مِنْهُمْ فَيُعِينُهُمْ. الثَّالِثُ: أَنْ يُسَوِّيَ فِي الْعَطَاءِ بَيْنَهُمْ عَلَى مِقْدَارِ مَنَازِلِهِمْ، فَإِذَا فَنِيَتْ بَعْدَ هَذَا ذَخَائِرُ الْخِزَانَةِ وَبَقِيَتْ صِفْرًا فَأَطْلَعَتْ الْحَوَادِثُ أَمْرًا بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ قَبْلَ أَمْوَالِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُغْنِ ذَلِكَ فَأَمْوَالُهُمْ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَلَى تَقْدِيرٍ، وَتُصْرَفُ بِأَحْسَنِ تَدْبِيرٍ. فَهَذَا ذُو الْقَرْنَيْنِ لَمَّا عَرَضُوا عَلَيْهِ الْمَالَ قَالَ: لَسْت أَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَحْتَاجُ إلَيْكُمْ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ، أَيْ اخْدِمُوا بِأَنْفُسِكُمْ مَعِي، فَإِنَّ الْأَمْوَالَ عِنْدِي وَالرِّجَالَ عِنْدَكُمْ؛ وَرَأَى أَنَّ الْأَمْوَالَ لَا تُغْنِي دُونَهُمْ، وَأَنَّهُمْ إنْ أَخَذُوهَا أُجْرَةً نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، فَعَادَ عَلَيْهِمْ بِالْأَخْذِ، فَكَانَ التَّطَوُّعُ بِخِدْمَةِ الْأَبْدَانِ أَوْلَى. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي كِتَابِ الْفَيْءِ وَالْخَرَاجِ وَالْأَمْوَالِ مِنْ شَرْحِ الْحَدِيثِ بَيَانًا شَافِيًا، وَهَذَا الْقَدْرُ يَتَعَلَّقُ بِالْقُرْآنِ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَتَمَامُهُ هُنَالِكَ. وَضَبْطُ الْأَمْرِ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَخْذُ مَالِ أَحَدٍ إلَّا لِضَرُورَةٍ تَعْرِضُ فَيُؤْخَذُ ذَلِكَ الْمَالُ جَهْرًا لَا سِرًّا، وَيُنْفَقُ بِالْعَدْلِ لَا بِالِاسْتِئْثَارِ، وَبِرَأْيِ الْجَمَاعَةِ لَا بِالِاسْتِبْدَادِ بِالرَّأْيِ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.

الآية العشرون قوله تعالى قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا

[الْآيَة الْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا] الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا} [الكهف: 103] {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104]. فِيهَا مَسْأَلَةٌ: أَجَابَ اللَّهُ عَمَّا وَقَعَ التَّقْرِيرُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105]. لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ حَمَلُوا عَلَيْهِمْ غَيْرَهُمْ، وَأَلْحَقُوا بِهِمْ مَنْ سِوَاهُمْ مِمَّنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُمْ، وَيَرْجِعُونَ فِي الْجُمْلَةِ إلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: الْكُفَّارُ بِاَللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْأَنْبِيَاءِ، وَالتَّكْلِيفِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ زَيَّنَ لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ، إنْفَاذًا لِمَشِيئَتِهِ، وَحُكْمًا بِقَضَائِهِ، وَتَصْدِيقًا لِكَلَامِهِ. الصِّنْفُ الثَّانِي: أَهْلُ التَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ الدَّلِيلِ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] كَأَهْلِ حَرُورَاءَ وَالنَّهْرَوَانِ، وَمَنْ عَمَل بِعَمَلِهِمْ الْيَوْمَ، وَشَغَبَ الْآنَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ تَشْغِيبَ أُولَئِكَ حِينَئِذٍ، فَهُمْ مِثْلُهُمْ وَشَرٌّ مِنْهُمْ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَوْمًا، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: لَا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إلَّا أَخْبَرْته، فَقَامَ ابْنُ الْكَوَّاءِ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْأَلَهُ عَمَّا سَأَلَ عَنْهُ صُبَيْغُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: مَا الذَّارِيَاتُ ذَرْوًا؟ قَالَ عَلِيٌّ: الرِّيَاحُ. قَالَ: مَا الْحَامِلَاتُ وِقْرًا؟ قَالَ: السَّحَابُ. قَالَ: فَمَا الْجَارِيَاتُ يُسْرًا؟ قَالَ: السُّفُنُ. قَالَ: فَمَا الْمُقَسِّمَاتُ أَمْرًا؟ قَالَ: الْمَلَائِكَةُ. قَالَ: فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا} [الكهف: 103] قَالَ: ارْقَ إلَيَّ أُخْبِرْك. قَالَ: فَرَقَى إلَيْهِ دَرَجَتَيْنِ قَالَ: فَتَنَاوَلَهُ بِعَصًا كَانَتْ بِيَدِهِ، فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بِهَا. ثُمَّ قَالَ: أَنْتَ وَأَصْحَابُك. وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِتَكْفِيرِ الْمُتَأَوِّلِينَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا نُبْذَةً مِنْهُ، وَتَمَامُهَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ. الصِّنْفُ الثَّالِثُ: الَّذِينَ أَفْسَدُوا أَعْمَالَهُمْ بِالرِّيَاءِ وَضَيَّعُوا أَحْوَالَهُمْ بِالْإِعْجَابِ، وَقَدْ

أَتَيْنَا عَلَى الْبَيَانِ فِي ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ، وَيَلْحَقُ بِهَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ كَثِيرٌ، وَهُمْ الَّذِينَ أَفْنَوْا زَمَانَهُمْ النَّفِيسَ فِي طَلَبِ الْخَسِيسِ. كَانَ شَيْخُنَا الطُّوسِيُّ الْأَكْبَرُ يَقُولُ: لَا يَذْهَبُ بِكُمْ الزَّمَانُ فِي مُصَاوَلَةِ الْأَقْرَانِ وَمُوَاصَلَةِ الْإِخْوَانِ. وَقَدْ خَتَمَ الْبَارِي الْبَيَانَ، وَخَتَمَ الْبُرْهَانَ بِقَوْلِهِ: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].

سورة مريم فيها ست آيات

[سُورَةُ مَرْيَمَ فِيهَا سِتُّ آيَاتٍ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّك عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} [مريم: 2] {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 3]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55]. وَقَدْ رَوَى سَعْدٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ، وَخَيْرُ الرِّزْقِ مَا يَكْفِي» وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ الرِّيَاءِ، فَأَمَّا دُعَاءُ زَكَرِيَّا فَإِنَّمَا كَانَ خَفِيًّا، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ لَيْلًا. وَالثَّانِي: لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي دُعَائِهِ أَحْوَالًا تَفْتَقِرُ إلَى الْإِخْفَاءِ، كَقَوْلِهِ: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي. وَهَذَا مِمَّا يُكْتَمُ وَلَا يُجْهَرُ بِهِ، وَقَدْ أَسَرَّ مَالِكٌ الْقُنُوتَ، وَجَهَرَ بِهِ الشَّافِعِيُّ، وَالْجَهْرُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَدْعُو بِهِ جَهْرًا حَسْبَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

الآية الثانية قوله تعالى وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا

[الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرًا] فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} [مريم: 5]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لِلْمَوْلَى ثَمَانِيَةَ مَعَانٍ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ وَالْحَدِيثِ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ مِنْ جُمْلَتِهَا الْوَارِثُ، وَابْنُ الْعَمِّ. وَلَمْ يَخَفْ زَكَرِيَّا إرْثَ الْمَالِ، وَلَا رَجَاهُ مِنْ الْوَلَدِ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ إرْثَ النُّبُوَّةِ، وَعَلَيْهَا خَافَ أَنْ تَخْرُجَ عَنْ عَقِبِهِ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ». وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: «إنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا عِلْمًا». وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَجَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ فِي الْوَلَدِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ دَعَاهُ لِإِظْهَارِ دِينِهِ، وَإِحْيَاءِ نُبُوَّتِهِ، وَمُضَاعَفَةِ أَجْرِهِ، فِي وَلَدٍ صَالِحٍ نَبِيٍّ بَعْدَهُ، وَلَمْ يَسْأَلْهُ لِلدُّنْيَا. الثَّانِي: لِأَنَّ رَبَّهُ كَانَ قَدْ عَوَّدَهُ الْإِجَابَةَ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم: 4]. وَهَذِهِ وَسِيلَةٌ حَسَنَةٌ أَنْ يَتَشَفَّعَ إلَيْهِ بِنِعَمِهِ، وَيَسْتَدِرَّ فَضْلَهُ بِفَضْلِهِ. يُرْوَى أَنَّ حَاتِمَ الْجَوَادَ لَقِيَهُ رَجُلٌ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ حَاتِمٌ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا الَّذِي أَحْسَنْت إلَيْهِ عَامَ أَوَّلٍ. قَالَ: مَرْحَبًا بِمَنْ تَشَفَّعَ إلَيْنَا بِنَا.

الآية الثالثة قوله تعالى يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا

[الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا] } [مريم: 12]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ بَيَّنَّا الْحِكْمَةَ وَالْحُكْمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، وَفِي غَيْرِهِ مِنْ الْكُتُبِ، وَأَوْضَحْنَا وُجُوهَهَا ومُتَصَرَّفاتِها ومُتَعَلَّقاتِها كُلَّهَا. وَأَجَلُّهَا مَرْتَبَةُ النُّبُوَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْمُرَادِ بِالْحُكْمِ هَاهُنَا: وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: الْوَحْيُ. وَالثَّانِي: النُّبُوَّةُ. وَالثَّالِثُ: الْمَعْرِفَةُ وَالْعَمَلُ بِهَا. وَهَذَا كُلُّهُ مُحْتَمَلٌ يَفْتَقِرُ إلَى تَحْقِيقٍ؛ فَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ الْوَحْيُ فَجَائِزٌ أَنْ يُوحِيَ اللَّهُ إلَى الصَّغِيرِ، وَيُكَاشِفَهُ بِمَلَائِكَتِهِ وَأَمْرِهِ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْمُكَاشَفَةُ نُبُوَّةً غَيْرَ مَهْمُوزَةٍ رِفْعَةً وَمَهْمُوزَةً إخْبَارًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُرْسِلَهُ إلَى الْخَلْقِ كَامِلَ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ مُؤَيَّدًا بِالْمُعْجِزَةِ، وَلَكِنْ لَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ خَبَرٌ، وَلَا كَانَ فِيمَنْ تَقَدَّمَ. وَقَوْلُ عِيسَى: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم: 30]. إخْبَارٌ عَمَّا وَجَبَ لَهُ حُصُولُهُ، لَا عَمَّا حَصَلَ بَعْدُ. وَأَمَّا الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ فَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12]. قَالَ عِيسَى: أُوصِيكُمْ بِالْحِكْمَةِ، وَالْحِكْمَةُ فِي قَوْلِ مَالِكٍ هِيَ طَاعَةُ اللَّهِ، وَالِاتِّبَاعُ لَهَا، وَالْفِقْهُ فِي الدِّينِ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَقَالَ: وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّك تَجِدُ الرَّجُلَ عَاقِلًا فِي أَمْرِ الدُّنْيَا ذَا بَصَرٍ فِيهَا، وَتَجِدُ آخَرَ ضَعِيفًا فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ عَالِمًا بِأَمْرِ دِينِهِ بَصِيرًا بِهِ، يُؤْتِيهِ اللَّهُ إيَّاهُ، وَيَحْرِمُهُ هَذَا، فَالْحِكْمَةُ الْفِقْهُ فِي دِينِ اللَّهِ.

الآية الرابعة قوله تعالى وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا

وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12] قَالَ: الْمَعْرِفَةُ وَالْعَمَلُ بِهِ. انْتَهَى قَوْلُ مَالِكٍ. وَفِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ أَنَّهُ قِيلَ لِيَحْيَى، وَهُوَ صَغِيرٌ: أَلَا تَذْهَبُ نَلْعَبُ؟ قَالَ: مَا خُلِقْت لِلَّعِبِ. [الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى وهزي إلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جِنِيًّا] } [مريم: 25]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 25] أَمْرٌ بِتَكَلُّفِ الْكَسْبِ فِي الرِّزْقِ، وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا مِنْ غَيْرِ تَكَسُّبٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37]. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: كَانَ قَلْبُهَا فَارِغًا لِلَّهِ، فَفَرَّغَ اللَّهُ جَارِحَتَهَا عَنْ النَّصَبِ، فَلَمَّا وَلَدَتْ عِيسَى، وَتَعَلَّقَ قَلْبُهَا بِحُبِّهِ، وَكَّلَهَا اللَّهُ إلَى كَسْبِهَا، وَرَدَّهَا إلَى الْعَادَةِ فِي التَّعَلُّقِ بِالْأَسْبَابِ، وَفِي مَعْنَاهُ أَنْشَدُوا: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِمَرْيَمَ ... إلَيْك فَهُزِّي الْجِذْعَ يَسَّاقَطْ الرُّطَبْ وَلَوْ شَاءَ أَحْنَى الْجِذْعَ مِنْ غَيْرِ هَزِّهَا ... إلَيْهَا وَلَكِنْ كُلُّ شَيْءٍ لَهُ سَبَبْ وَقَدْ كَانَ حُبُّ اللَّهِ أَوْلَى بِرِزْقِهَا ... كَمَا كَانَ حُبُّ الْخَلْقِ أَدْعَى إلَى النَّصَبْ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي صِفَةِ الْجِذْعِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ لِنَخْلَةٍ خَضْرَاءَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ زَمَانَ الشِّتَاءِ، فَصَارَ وُجُودُ التَّمْرِ فِي غَيْرِ إبَّانِهِ آيَةً.

الآية الخامسة قوله تعالى إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا

الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ جِذْعًا يَابِسًا فَهَزَّتْهُ، فَاخْضَرَّ وَأَوْرَقَ وَأَثْمَرَ فِي لَحْظَةٍ. وَدَخَلْتُ بَيْتَ لَحْمٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَرَأَيْت فِي مُتَعَبَّدِهِمْ غَارًا عَلَيْهِ جِذْعٌ يَابِسٌ كَانَ رُهْبَانُهُمْ يَذْكُرُونَ أَنَّهُ جِذْعُ مَرْيَمَ بِإِجْمَاعٍ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ دَخَلَتْ بَيْتَ لَحْمٍ قَبْلَ اسْتِيلَاءِ الرُّومِ عَلَيْهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَرَأَيْت الْغَارَ فِي الْمُتَعَبَّدِ خَالِيًا مِنْ الْجِذْعِ. فَسَأَلَتْ الرُّهْبَانَ بِهِ، فَقَالُوا: نَخَرَ وَتَسَاقَطَ، مَعَ أَنَّ الْخَلْقَ كَانُوا يَقْطَعُونَهُ اسْتِشْفَاءً حَتَّى فُقِدَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: قَالَ اللَّهُ: رُطَبًا جَنِيًّا. الْجَنِيُّ: مَا طَابَ مِنْ غَيْرِ نَقْشٍ وَلَا إفْسَادٍ، وَالنَّقْشُ أَنْ يُنْقَشَ فِي أَسْفَلِ الْبُسْرَةِ حَتَّى تُرَطَّبَ، فَهَذَا مَكْرُوهٌ يَعْنِي مَالِكٌ أَنَّ هَذَا تَعْجِيلٌ لِلشَّيْءِ قَبْلَ رِقَّتِهِ، وَإِفْسَادٌ لِجَنَاهُ؛ فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَلَوْ فَعَلَهُ فَاعِلٌ مَا كَانَ ذَلِكَ مُجَوِّزًا لِبَيْعِهِ، وَلَا حُكْمًا بِطِيبِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. [الْآيَة الْخَامِسَة قَوْله تَعَالَى إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا] الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: لَقَدْ كَادَ أَعْدَاءُ اللَّهِ أَنْ يُقِيمُوا عَلَيْنَا السَّاعَةَ بِقَوْلِهِمْ هَذَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم: 90] {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم: 91] {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 92] {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93]. وَصَدَقَ، فَإِنَّهُ قَوْلٌ عَظِيمٌ سَبَقَ الْقَضَاءَ وَالْقَدْرَ، وَلَوْلَا أَنَّ الْبَارِئَ لَا يَضَعُهُ كُفْرُ الْكَافِرِ، وَلَا يَرْفَعُهُ إيمَانُ الْمُؤْمِنِ، وَلَا يَزِيدُ هَذَا فِي مُلْكِهِ، كَمَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ

مسألة الرجل لا يجوز أن يملك ابنه

مُلْكِهِ، مَا جَرَى شَيْءٌ مِنْ هَذَا عَلَى الْأَلْسِنَةِ، وَلَكِنَّهُ الْقُدُّوسُ الْحَكِيمُ الْحَلِيمُ، فَلَمْ يُبَالِ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا يَقُولُهُ الْمُبْطِلُونَ. [مَسْأَلَة الرَّجُلَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ ابْنَهُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ ابْنَهُ وَوَجْهُ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْوَلَدِيَّةَ وَالْعَبْدِيَّةَ فِي طَرَفَيْ تَقَابُلٍ، فَنَفَى إحْدَاهُمَا، وَأَثْبَتَ الْأُخْرَى، وَلَوْ اجْتَمَعَتَا لَمَا كَانَ لِهَذَا الْقَوْلِ فَائِدَةٌ يَقَعُ الِاحْتِجَاجُ بِهَا، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهَا، وَالتَّبَرِّي مِنْهَا؛ وَلِهَذَا أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ أَمَةَ الرَّجُلِ إذَا حَمَلَتْ فَإِنَّ وَلَدَهَا فِي بَطْنِهَا حُرٌّ لَا رِقَّ فِيهِ بِحَالٍ، وَمَا جَرَى فِي أُمِّهِ مَوْضُوعٌ عَنْهُ، وَلَوْ لَمْ يُوضَعْ عَنْهُ، فَلَا خِلَافَ فِي الْوَلَدِ، وَبِهِ يَقَعُ الِاحْتِجَاجُ. وَإِذَا اشْتَرَى الْحُرُّ أَبَاهُ وَابْنَهُ عَتَقَا عَلَيْهِ، حِينَ يَتِمُّ الشِّرَاءُ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ». فَهَذَا نَصٌّ. وَالْأَوَّلُ دَلِيلٌ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى؛ فَإِنَّ الْأَبَ إذَا لَمْ يَمْلِكْ ابْنَهُ مَعَ عُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ عَلَيْهِ فَالِابْنُ بِعَدَمِ مِلْكِ الْأَبِ أَوْلَى مَعَ قُصُورِهِ عَنْهُ، وَكَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ هَذَا الْوَلَدَ مَمْلُوكٌ لِغَيْرِهِ، فَإِذَا أَزَالَ مِلْكَ الْغَيْرِ بِالشِّرَاءِ إلَيْهِ تَبْطُلُ عَنْهُ، وَعَتَقَ، وَالْتَحَقَ بِالْأَوَّلِ، وَفِي ذَلِكَ تَفْرِيعٌ وَتَفْصِيلٌ مَوْضِعُهُ شَرْحُ الْحَدِيثِ، وَمَسَائِلُ الْفِقْهِ، فَلْيُنْظَرْ فِيهَا. [مَسْأَلَة الْآيَة السَّادِسَة قَوْله تَعَالَى إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا] الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رَوَى مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ إذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ. ثُمَّ يُنَادِي مَلَائِكَةَ السَّمَاءِ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ؛ فَتُحِبُّهُ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96]. وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا فَذَكَرَ مِثْلَهُ». وَفِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ أَحَادِيثُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَعْرَضْنَا عَنْهَا لِضَعْفِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ فِي حَدِيثِ: «اتَّقِ اللَّهَ يُحِبَّك النَّاسُ، وَإِنْ كَرِهُوك»، فَقَالَ: هَذَا حَقٌّ، وَقَرَأَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} [مريم: 96] الْآيَةَ. وَقَرَأَ مَالِكٌ: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39]. وَهَذَا يُبَيِّنُ سَبَبَ حُبِّ اللَّهِ، وَخَلْقَهُ الْمَحَبَّةَ فِي الْخَلْقِ؛ وَذَلِكَ نَصٌّ فِي قَوْلِهِ: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 76] وَهُوَ أَحَدُ قِسْمَيْ الشَّرِيعَةِ مِنْ اجْتِنَابِ النَّهْيِ.

سورة طه فيها ست آيات

[سُورَةُ طَهَ فِيهَا سِتُّ آيَاتٍ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى إنِّي أَنَا رَبُّك فَاخْلَعْ نَعْلَيْك إنَّك بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طَوًى] ٍ الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه: 12]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي خَلْعِ النَّعْلَيْنِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا أَنْبَأَنَا أَبُو زَيْدٍ الْحِمْيَرِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ اللَّخْمِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَلِيٍّ أَحْمَدَ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، أَنْبَأَنَا عَمِّي عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا عَمِّي أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَانَتْ نَعْلَا مُوسَى مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ». وَحَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ الْهَرَوِيُّ، حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ الْأَشْجَعِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: يَوْمَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى كَانَ عَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ، وَكِسَاءُ صُوفٍ، وَسَرَاوِيلُ صُوفٍ، وَكُمَّةُ صُوفٍ، وَنَعْلَانِ مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ غَيْرِ مُذَكًّى. وَرَوَاهُ ابْنُ عَرَفَةَ عَنْ خَلَفِ بْنِ خَلِيفَةَ بِمِثْلِهِ مُسْنَدًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الثَّانِي: قَالَ مُجَاهِدٌ: قَالَ لَهُ رَبُّهُ: اخْلَعْ نَعْلَيْك، أَفِضْ بِقَدَمَيْك إلَى بَرَكَةِ الْوَادِي.

قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ: إنْ قُلْنَا: إنَّ خَلْعَ النَّعْلَيْنِ كَانَ لِيَنَالَ بَرَكَةَ التَّقْدِيسِ فَمَا أَجْدَرَهُ بِالصِّحَّةِ، فَقَدْ اسْتَحَقَّ التَّنْزِيهَ عَنْ النَّعْلِ، وَاسْتَحَقَّ الْوَاطِئُ التَّبَرُّكَ بِالْمُبَاشَرَةِ، كَمَا لَا تُدْخَلُ الْكَعْبَةَ بِنَعْلَيْنِ، وَكَمَا كَانَ مَالِكٌ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً بِالْمَدِينَةِ، بِرًّا بِتُرْبَتِهَا الْمُحْتَوِيَةِ عَلَى الْأَعْظُمِ الشَّرِيفَةِ، وَالْجُثَّةِ الْكَرِيمَةِ. وَإِنْ قُلْنَا بِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ، فَلَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ أَنْ يَكُونَ مُوسَى أُمِرَ بِخَلْعِ نَعْلَيْهِ، وَكَانَ أَوَّلُ تَعَبُّدٍ أُحْدِثَ إلَيْهِ، كَمَا كَانَ أَوَّلَ مَا قِيلَ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 2] {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5]. وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي جِلْدِ الْمَيْتَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ عَلَى حَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يُدْبَغْ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ، لِمُطْلَقِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هَلَّا أَخَذْتُمْ إهَابَهَا فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ» وَلَمْ يَذْكُرْ دِبَاغًا. الثَّانِي: أَنَّهُ يُدْبَغُ فَيُنْتَفَعُ بِهِ مَدْبُوغًا، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هَلَّا أَخَذْتُمْ إهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ» قَالَهُ مَالِكٌ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ إذَا دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ». خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ.

الآية الثانية قوله تعالى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري

وَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَوَضَّأُ مِنْ قِرْبَةٍ مَدْبُوغَةٍ مِنْ جِلْدِ مَيْتَةٍ، حَتَّى صَارَتْ شَنًّا» قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي، وَهُوَ الرَّابِعُ، وَوَرَاءَ هَذِهِ تَفْصِيلٌ. وَالصَّحِيحُ جَوَازُ الطَّهَارَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ نَعْلَا مُوسَى لَمْ تُدْبَغَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَا دُبِغَتَا، وَلَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِهِ إذْنٌ فِي اسْتِعْمَالِهَا. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا لَمْ تُدْبَغْ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْقَوْلَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ فِي الْبَابِ. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي] } [طه: 14]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {لِذِكْرِي} [طه: 14] وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَقِمْ الصَّلَاةَ، لَأَنْ تَذْكُرَنِي قَالَهُ مُجَاهِدٌ. الثَّانِي: أَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي لَك بِالْمَدْحِ. الثَّالِثُ: أَقِمْ الصَّلَاةَ إذَا ذَكَرْتنِي. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَرُوِيَتْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَقِمْ الصَّلَاةَ لِلذِّكْرِ، وَقُرِئَ: لِلذِّكْرَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الذِّكْرَ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إلَى الضَّمِيرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إلَى الْفَاعِلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إلَى ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ. وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا» فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: أَقِمْ الصَّلَاةَ لِلذِّكْرَى، وَلِذِكْرِي، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: لِلذِّكْرَى إذَا ذَكَّرْتُك بِهَا، وَلِتَذْكُرَنِي فِيهَا، وَلِذِكْرِي لَك بِهَا.

مسألة نام عن صلاة أو نسيها

فَإِنْ قِيلَ: الذِّكْرُ مَصْدَرٌ فِي الْإِثْبَاتِ، وَلَا يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ. قُلْنَا: بَلْ يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ، كَمَا تَقُولُ: عَجِبْت مِنْ ضَرْبِي زَيْدًا، إذَا كَانَ الضَّرْبُ الْوَاقِعُ بِهِ عَامًّا فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الضَّرْبِ، فَيَكُونُ الْعُمُومُ فِي كَيْفِيَّاتِ الضَّرْبِ وَمُتَعَلِّقَاتِهِ، وَالْإِثْبَاتُ فِي النَّكِرَةِ الَّتِي لَا تَعُمُّ مَا يَتَنَاوَلُ الْأَشْخَاصَ. [مَسْأَلَة نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا» يَقْتَضِي وُجُوبَ الصَّلَاةِ عَلَى كُلِّ ذَاكِرٍ إذَا ذَكَرَ، سَوَاءٌ كَانَ الذِّكْرُ دَائِمًا، كَالتَّارِكِ لَهَا عَنْ عِلْمٍ، أَوْ كَانَ الذِّكْرُ طَارِئًا، كَالتَّارِكِ لَهَا عَنْ غَفْلَةٍ، وَكُلُّ نَاسٍ تَارِكٌ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِقَصْدٍ وَبِغَيْرِ قَصْدٍ، فَمَتَى كَانَ الذِّكْرُ وَجَبَ الْفِعْلُ دَائِمًا أَوْ مُنْقَطِعًا. فَافْهَمُوا هَذِهِ النُّكْتَةَ تُرِيحُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ شَغَبِ الْمُبْتَدِعَةِ، فَمَا زَالُوا يُزَهِّدُونَ النَّاسَ فِي الصَّلَاةِ، حَتَّى قَالُوا: إنَّ مَنْ تَرَكَهَا مُتَعَمِّدًا لَا يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهَا، وَنَسَبُوا ذَلِكَ إلَى مَالِكٍ. وَحَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ ذِهْنَهُ أَحَدُّ، وَسَعْيَهُ فِي حِيَاطَةِ الدِّينِ آكَدُ مِنْ ذَلِكَ، إنَّمَا قَالَ: إنَّ مَنْ تَرَكَ صَلَاةً مُتَعَمِّدًا لَا يَقْضِي أَبَدًا. كَمَا قَالَ فِي الْأَثَرِ: «مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا لَمْ يُجْزِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ» إشَارَةً إلَى أَنَّ مَا مَضَى لَا يَعُودُ، لَكِنْ مَعَ هَذَا لَا بُدَّ مِنْ تَوْفِيَةِ التَّكْلِيفِ حَقَّهُ بِإِقَامَةِ الْقَضَاءِ مَقَامَ الْأَدَاءِ، وَإِتْبَاعِهِ بِالتَّوْبَةِ، وَيَفْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَشَاءُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى أَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتْ الْمُتَزَهِّدَةُ: مَعْنَى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] أَيْ: لَا تَذْكُرْ فِيهَا غَيْرِي، فَإِنَّهُ قَالَ: فَاعْبُدْنِي، أَيْ لِي تَذَلَّلْ، وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِمُجَرَّدِ ذِكْرِي، تَحَرَّمَ عَنْ الدُّنْيَا، وَأَخْلِصْ لِلْأُخْرَى، وَاعْمُرْ لِسَانَك وَقَلْبَك بِذِكْرِ الْمَوْلَى. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ هُوَ الْأَوْلَى، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ كُتِبَ لَهُ مِنْهَا بِمِقْدَارِ ذَلِكَ فِيهَا، وَقَدْ مَهَّدْنَا هَذَا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ.

الآية الثالثة قوله تعالى وما تلك بيمينك يا موسى

[الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى] } [طه: 17] {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 18]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ} [طه: 17] قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّمَا سَأَلَهُ عَنْهَا لَمَّا كَانَ أَضْمَرَ مِنْ الْآيَةِ لَهُ فِيهَا، حَتَّى إذَا رَجَعَ عَلَيْهَا، وَتَحَقَّقَ حَالَهَا، وَكُسِيَتْ تِلْكَ الْحُلَّةَ الثُّعْبَانِيَّةَ بِمَرْأًى مِنْهُ لِابْتِدَائِهَا كَانَ تَبْدِيلُهَا مَعَ الذِّكْرِ أَوْقَعَ فِي الْقَلْبِ وَأَيْسَرَ لَهُ مِنْ أَنْ يَغْفُلَ عَنْهَا، فَيَرَاهَا بِحُلَّةِ الثُّعْبَانِيَّةِ مَكْسُوَّةً، فَيَظُنُّ أَنَّمَا عَيَّنَ أُخْرَى سِوَاهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: {قَالَ هِيَ عَصَايَ} [طه: 18] قَالَ أَرْبَابُ الْقُلُوبِ: الْجَوَابُ الْمُطْلَقُ أَنْ يَقُولَ هِيَ عَصًا، وَلَا يُضِيفُ إلَى نَفْسِهِ شَيْئًا، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَكُونَا اثْنَيْنِ أَفْرَدَ عَنْهَا بِصِفَةِ الْحَيَّةِ، فَبَقِيَ وَحْدَهُ لِلَّهِ، كَمَا يُحِبُّ، حَتَّى لَا يَكُونَ مَعَهُ إلَّا اللَّهُ، يَقُولُ اللَّهُ: أَنْتَ عَبْدِي، وَيَقُولُ مُوسَى: أَنْتَ رَبِّي. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَجَابَ مُوسَى بِأَكْثَرَ مِنْ الْمَعْنَى الَّذِي وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهُ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْجَوَابِ أَرْبَعَةَ مَعَانٍ، وَكَانَ يَكْفِي وَاحِدٌ قَالَ: الْإِضَافَةُ، وَالتَّوَكُّؤُ، وَالْهَشُّ، وَالْمَآرِبُ الْمُطْلَقَةُ، وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى جَوَابِ السُّؤَالِ بِأَكْثَرَ مِنْ مُقْتَضَى ظَاهِرِهِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ طَهُورِ مَاءِ الْبَحْرِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْهَشُّ: هُوَ أَنْ يَضَعَ الْمِحْجَنَ فِي أَصْلِ الْغُصْنِ وَيُحَرِّكَهُ فَيَسْقُطُ مِنْهُ مَا سَقَطَ، وَيَثْبُتُ مَا

الآية الرابعة قوله تعالى اذهبا إلى فرعون إنه طغى

ثَبَتَ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: «مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَاعٍ يَعْضِدُ شَجَرَةً فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: هُشُّوا وَارْعَوْا»، وَهَذَا مِنْ بَابِ الِاقْتِصَادِ فِي الِاقْتِيَاتِ، فَإِنَّهُ إذَا عَضَّدَ الشَّجَرَةَ الْيَوْمَ لَمْ يَجِدْ فِيهَا غَدًا شَيْئًا وَلَا غَيْرَهُ مِمَّنْ يَخْلُفُهُ، فَإِذَا هَشَّ وَرَعَى أَخَذَ وَأَبْقَى، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ، فَلْيَأْخُذْ وَلْيَدْعُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ كَثِيرًا فَلْيَأْخُذْهُ كَيْفَ شَاءَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ. تَعَرَّضَ قَوْمٌ لِتَعْدِيدِ مَنَافِعِ الْعَصَا، كَأَنَّهُمْ يُفَسِّرُونَ بِذَلِكَ قَوْلَ مُوسَى {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 18]، وَهَذَا مِمَّا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَصْرِفَ الْعَصَا فِي حَاجَةٍ عَرَضَتْ؛ أَمَّا إنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الدِّينِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ إجْمَاعًا وَهُوَ الْخُطْبَةُ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِاخْتِلَافٍ وَهُوَ التَّوَكُّؤُ عَلَيْهَا فِي صَلَاةِ النَّافِلَةِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِهِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ هُنَا وَسِوَاهُ. [الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى اذْهَبَا إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى] } [طه: 43] {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى - قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه: 44 - 45]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يَجُوزُ أَنْ يُرْسِلَ اللَّهُ رَسُولَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذِكْرَ قَاضِيَيْنِ وَأَمِيرَيْنِ، وَالرِّسَالَةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا تَبْلِيغٌ عَنْ اللَّهِ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ، فَإِنْ كَانَ الْقَضَاءُ وَقُلْنَا لَا يَجُوزُ لِنَبِيٍّ أَنْ يُشَرِّعَ إلَّا بِوَحْيٍ جَازَ أَنْ يَحْكُمَا مَعًا، وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ النَّبِيُّ لَمْ يَحْكُمْ إلَّا أَحَدُهُمَا، وَهَذَا يَتِمُّ بَيَانُهُ فِي قِصَّةِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

[مَسْأَلَة الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي جَوَازِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ بِاللِّينِ لِمَنْ مَعَهُ الْقُوَّةُ، وَضُمِنَتْ لَهُ الْعِصْمَةُ، أَلَا تَرَاهُ قَالَ لَهُمَا: قَوْلَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا، وَلَا تَخَافَا إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى. فَفِي الإسرائليات أَنَّ مُوسَى أَقَامَ عَلَى بَابِ فِرْعَوْنَ سَنَةً لَا يَجِدُ رَسُولًا يُبَلِّغُ كَلَامًا، حَتَّى لَقِيَهُ حِينَ خَرَجَ فَجَرَى لَهُ مَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ تَسْلِيَةً لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي سِيرَتِهِمْ مَعَ الظَّالِمِينَ. وَرَبُّك أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ. [الْآيَة الْخَامِسَة قَوْله تَعَالَى وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا] } [طه: 115]. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي مِثْلِهَا مِنْ أَحْكَامٍ؛ بَيْدَ أَنَّهُ كُنَّا فِي الْإِمْلَاءِ الْأَوَّلِ قَدْ وَعَدْنَا فِي قَوْلِهِمْ: إنَّهُ أَكَلَهَا نَاسِيًا بِبَيَانِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَهَا نَحْنُ بِقُوَّةِ اللَّهِ نَنْتَقِضُ مِنْ عُهْدَةِ الْوَعْدِ، فَنَقُولُ: كَمَا قَالَ فِي تَنْزِيهِ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِمَنْزِلَتِهِمْ مِمَّا يَنْسِبُ الْجَهَلَةُ إلَيْهِمْ مِنْ وُقُوعِهِمْ فِي الذُّنُوبِ عَمْدًا مِنْهُمْ إلَيْهَا، وَاقْتِحَامًا لَهَا مَعَ الْعِلْمِ بِهَا، وَحَاشَ لِلَّهِ، فَإِنَّ الْأَوْسَاطَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَتَوَرَّعُونَ عَنْ ذَلِكَ، فَكَيْفَ بِالنَّبِيِّينَ، وَلَكِنَّ الْبَارِئَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِحُكْمِهِ النَّافِذِ، وَقَضَائِهِ السَّابِقِ، أَسْلَمَ آدَمَ إلَى الْمُخَالَفَةِ، فَوَقَعَ فِيهَا مُتَعَمِّدًا نَاسِيًا، فَقِيلَ فِي تَعَمُّدِهِ: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ} [طه: 121]. وَقِيلَ فِي بَيَانِ عُذْرِهِ: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} [طه: 115]. وَنَظِيرُهُ مِنْ التَّمْثِيلَاتِ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ لَا يَدْخُلُ دَارًا أَبَدًا، فَيَدْخُلَهَا مُتَعَمِّدًا نَاسِيًا لِيَمِينِهِ، أَوْ مُخْطِئًا فِي تَأْوِيلِهِ، فَهُوَ عَامِدٌ نَاسٍ، وَمُتَعَلِّقُ الْعَمْدِ غَيْرُ مُتَعَلِّقِ النِّسْيَانِ، وَجَازَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَقُولَ فِي عَبْدِهِ: عَصَى تَحْقِيرًا وَتَعْذِيبًا، وَيَعُودَ عَلَيْهِ بِفَضْلِهِ فَيَقُولَ: نَسِيَ تَنْزِيهًا، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنَّا أَنْ يُخْبِرَ بِذَلِكَ عَنْ آدَمَ، إلَّا إذَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَثْنَاءِ قَوْلِ اللَّهِ عَنْهُ، أَوْ قَوْلِ نَبِيِّهِ. وَأَمَّا أَنْ نَبْتَدِئَ فِي ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِنَا فَلَيْسَ بِجَائِزٍ لَنَا فِي آبَائِنَا الْأَدْنَيْنَ إلَيْنَا، الْمُمَاثِلَيْنِ لَنَا، فَكَيْفَ بِأَبِينَا الْأَقْدَمِ الْأَعْظَمِ، النَّبِيِّ الْمُقَدَّمِ، الَّذِي عَذَرَهُ اللَّهُ، وَتَابَ عَلَيْهِ، وَغَفَرَ لَهُ.

الآية السادسة قوله تعالى فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك

وَوَجْهُ الْخَطَأِ فِي قِصَّةِ آدَمَ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ، وَلَكِنَّ وُجُوهَ الِاحْتِمَالَاتِ تَتَصَرَّفُ، وَالْمُدْرَكُ مِنْهَا عِنْدَنَا أَنْ يُذْهَلَ عَنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ، كَمَا ضَرَبْنَا الْمَثَلَ فِي دُخُولِ الدَّارِ. الثَّانِي: أَنْ يُذْهَلَ عَنْ جِنْسٍ مَنْهِيٍّ مِنْهُ، وَيَعْتَقِدَهُ فِي عَيْنِهِ؛ إذْ قَالَ اللَّهُ لَهُ هَذِهِ الشَّجَرَةُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ عَلَى مَعْنَى الْجَزْمِ الشَّرْعِيِّ لِمَعْنًى مُغَيَّبٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 35]. قُلْنَا: قَدْ قِيلَ مَعْنَاهُ مِنْ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِكُمَا، كَمَا قَالَ: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر: 32]. وَالصَّحِيحُ هُوَ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ، وَهُوَ الَّذِي نَسِيَ مِنْ تَحْذِيرِ اللَّهِ لَهُ، أَوْ تَأْوِيلُهُ فِي تَنْزِيلِهِ، وَرَبُّك أَعْلَمُ كَيْفَ دَارَ الْحَدِيثُ. وَالتَّعْيِينُ يَفْتَقِرُ إلَى تَأْوِيلِهِ، وَكَذَلِكَ قُلْنَا إنَّ النَّاسِيَ فِي الْحِنْثِ مَعْذُورٌ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة السَّادِسَة قَوْله تَعَالَى فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ] َ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه: 130]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ آنَاءِ} [طه: 130] وَزْنُهُ أَفْعَالٌ، وَاحِدُهَا إنْيٌ مِثْلُ عَدْلٍ، وَإِنًى مِثْلُ عِنَبٍ فِي السَّالِمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب: 53]. [مَسْأَلَة الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَسَبِّحْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى هَاهُنَا: سَبِّحْ، صَلِّ؛ لِأَنَّهُ غَايَةُ التَّسْبِيحِ وَأَشْرَفُهُ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ ذَلِكَ بَيَانٌ لِصَلَاةِ الْفَرْضِ أَمْ لِصَلَاةِ النَّفْلِ؟

مسألة معنى قوله تعالى ومن آناء الليل

فَقِيلَ: قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يَعْنِي الصُّبْحَ. وَقَبْلَ غُرُوبِهَا يَعْنِي الْعَصْرَ. وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَلَّا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا». وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَيْضًا: «مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ». [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ} [طه: 130] يَعْنِي سَاعَاتِهِ، يُرِيدُ بِذَلِكَ قِيَامَ اللَّيْلِ كُلِّهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَفِي الثَّانِي صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ عَلَى حَدِّ قَوْله تَعَالَى: {حِينَ تُمْسُونَ} [الروم: 17] فِي الْفَرْضِ، وَعَلَى حَدِّ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1] {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} [المزمل: 2]، عَلَى حَدِّ قَوْلِنَا فِي أَنَّهُ النَّفَلُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَأَطْرَافَ النَّهَارِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} [طه: 130]: يَعْنِي فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ صَلَاةَ الظُّهْرِ. وَقِيلَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ؛ لِأَنَّهَا فِي الطَّرَفِ الثَّانِي. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْمَغْرِبَ مِنْ طَرَفِ اللَّيْلِ، لَا مِنْ طَرَفِ النَّهَارِ. وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي بِعْنِي بِهِ صَلَاةَ التَّطَوُّعِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى لَعَلَّكَ تَرْضَى] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه: 130]: هُوَ مُجْمَلُ قَوْلِهِ الْمُفَسِّرِ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]، وَيُمَاثِلُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5].

سورة الأنبياء فيها ثلاث آيات

[سُورَة الْأَنْبِيَاء فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ] ٍ الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ، وَاللَّفْظُ لَهُ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إلَّا فِي ثَلَاثٍ: قَوْلُهُ: إنِّي سَقِيمٌ، وَلَمْ يَكُنْ سَقِيمًا، وَقَوْلُهُ لِسَارَةَ: أُخْتِي؛ وقَوْله تَعَالَى: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]». وَثَبَتَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ إلَّا ثَلَاثَ كِذْبَاتٍ: ثِنْتَيْنِ مِنْهَا فِي ذَاتِ اللَّهِ، قَوْلُهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وَقَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] وَبَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ وَسَارَةُ إذْ أَتَى عَلَى جَبَّارٍ مِنْ الْجَبَابِرَةِ فَقِيلَ: إنَّ هَاهُنَا رَجُلًا مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ، فَسَأَلَهُ عَنْهَا، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: أُخْتِي. فَأَتَى سَارَةَ فَقَالَ: يَا سَارَةُ، لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي

وَغَيْرَك، وَإِنَّ هَذَا سَأَلَنِي فَأَخْبَرْته أَنَّك أُخْتِي، فَلَا تَكْذِبِينَنِي. فَأَرْسَلَ إلَيْهَا فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا بِيَدِهِ، فَأُخِذَ، فَقَالَ: اُدْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّك، فَدَعَتْ اللَّهَ، فَأُطْلِقَ. ثُمَّ تَنَاوَلَهَا الثَّانِيَةَ فَأُخِذَ مِثْلَهَا أَوْ أَشَدَّ. فَقَالَ: اُدْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّك، فَأُطْلِقَ، فَدَعَا بَعْضَ حَجَبَتِهِ فَقَالَ: لَمْ تَأْتِنِي بِإِنْسَانٍ، إنَّمَا أَتَيْتنِي بِشَيْطَانٍ، فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ». الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ظَاهِرِ الْمَقْصُودِ بِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذَا تَعْرِيضٌ، وَفِي التَّعَارِيضِ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْكَذِبِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ إنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ؛ فَشَرَطَ النُّطْقَ فِي الْفِعْلِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ: لِأَنَّهُ عَدَّدَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّعْرِيضِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَيَتَّخِذُونَهُمْ آلِهَةً دُونَ اللَّهِ، وَهُمْ كَمَا قَالَ إبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْك شَيْئًا؟ فَقَالَ إبْرَاهِيمُ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا، لِيَقُولُوا إنَّهُمْ لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يَفْعَلُونَ وَلَا يَنْفَعُونَ وَلَا يَضُرُّونَ، فَيَقُولُ لَهُمْ: فَلِمَ تَعْبُدُونَ؟ فَتَقُومُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ. وَلِهَذَا يَجُوزُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ فَرْضُ الْبَاطِلِ مَعَ الْخَصْمِ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى الْحَقِّ مِنْ ذَاتِ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ أَقْرَبُ فِي الْحُجَّةِ وَأَقْطَعُ لِلشُّبْهَةِ، كَمَا قَالَ لِقَوْمِهِ: هَذَا رَبِّي، عَلَى مَعْنَى الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، حَتَّى إذَا أَفَلَ مِنْهُمْ تَبَيَّنَ حُدُوثُهُ، وَاسْتِحَالَةُ كَوْنِهِ إلَهًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: هَذَا رَبِّي، هَذِهِ أُخْتِي، وَإِنِّي سَقِيمٌ، وَبَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ: هَذِهِ وَإِنْ كَانَتْ مَعَارِيضَ وَحَسَنَاتٍ، وَحُجَجًا فِي الْحَقِّ، وَدَلَالَاتٍ، لَكِنَّهَا أَثَّرَتْ فِي الرُّتْبَةِ، وَخَفَّضَتْ عَنْ مُحَمَّدٍ مِنْ الْمَنْزِلَةِ، وَاسْتَحْيَا مِنْهَا قَائِلُهَا عَلَى مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ؛ لِأَنَّ الَّذِي كَانَ يَلِيقُ بِمَرْتَبَتِهِ فِي النُّبُوَّةِ وَالْخِلَّةِ أَنْ يَصْدَعَ بِالْحَقِّ، وَيُصَرِّحَ بِالْأَمْرِ فَيَكُونُ مَا كَانَ، وَلَكِنَّهُ رُخِّصَ لَهُ فَقَبِلَ الرُّخْصَةَ، فَكَانَ مَا كَانَ مِنْ الْقِصَّةِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ:

مسألة لا يجعل في ذات الله إلا العمل الخالص

«إنَّمَا اُتُّخِذْت خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ» يَعْنِي بِشَرْطِ أَنْ تُتَّبَعَ عَثَرَاتِي، وَتُخْتَبَرَ أَحْوَالِي، وَالْخِلَّةُ الْمُطْلَقَةُ لِمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ قَالَ لَهُ: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]، وَلِذَلِكَ تَقُولُ الْعَرَبُ فِي أَمْثَالِهَا: ابْغِنِي مِنْ وَرَائِي، أَيْ اخْتَبِرْ حَالِي. [مَسْأَلَة لَا يُجْعَلُ فِي ذَاتِ اللَّهِ إلَّا الْعَمَلَ الْخَالِصَ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ نُكْتَةٌ عُظْمَى تَقْصِمُ الظَّهْرَ، وَهِيَ أَنَّهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ إلَّا ثَلَاثَ كِذْبَاتٍ: ثِنْتَيْنِ مِنْهَا مَاحَلَ بِهِمَا عَنْ دِينِ اللَّهِ» وَهِيَ قَوْلُهُ: إنِّي سَقِيمٌ، وَبَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا، وَلَمْ يَعُدَّ قَوْلَهُ: هَذِهِ أُخْتِي فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ دَفَعَ بِهَا مَكْرُوهًا، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ لِإِبْرَاهِيمَ فِيهَا حَظٌّ مِنْ صِيَانَةِ فِرَاشِهِ، وَحِمَايَةِ أَهْلِهِ، لَمْ يَجْعَلْ فِي جَنْبِ اللَّهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُجْعَلُ فِي ذَاتِ اللَّهِ إلَّا الْعَمَلَ الْخَالِصَ مِنْ شَوَائِبِ الْحُظُوظِ الدُّنْيَوِيَّةِ، أَوْ الْمَعَانِي الَّتِي تَرْجِعُ إلَى النَّفْسِ، حَتَّى إذَا خَلَصَتْ لِلدِّينِ كَانَتْ لِلَّهِ، كَمَا قَالَ: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3] وَهَذَا لَوْ صَدَرَ مِنَّا لَكَانَ لِلَّهِ، وَلَكِنَّ مَنْزِلَةَ إبْرَاهِيمَ اقْتَضَتْ هَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة قَوْله تَعَالَى وَدَاوُد وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ] الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ - فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 78 - 79]. فِيهَا ثَمَانِي عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء: 78] لَمْ يُرِدْ إذْ جَمَعَهُمَا فِي الْقَوْلِ اجْتِمَاعَهُمَا فِي الْحُكْمِ، فَإِنَّ حَاكِمَيْنِ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ لَا يَجُوزُ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَإِنَّمَا حَكَمَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادٍ بِحُكْمٍ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ هُوَ الْفَاهِمُ لَهَا.

مسألة دستور في قصص القرآن

[مَسْأَلَة دُسْتُورٍ فِي قَصَصِ الْقُرْآنِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي دُسْتُورٍ فِي قَصَصِ الْقُرْآنِ: وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ لِرَسُولِهِ مَا جَرَى مِنْ الْأُمَمِ وَعَلَيْهَا، وَأَقْوَالَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَفْعَالَهَا، فَأَحْسَنَ الْقَصَصَ وَهُوَ أَصْدَقُهُ؛ فَإِنَّ الإسرائليات ذَكَرُوهَا مُبَدَّلَةً وَبِزِيَادَةٍ بَاطِلَةٍ مَوْصُولَةٍ، أَوْ بِنُقْصَانٍ مُحَرَّفٍ لِلْمَقْصِدِ مَنْقُولَةٍ، وَمَا نُقِلَ مِنْ حَدِيثِ نَفْشِ الْغَنَمِ، وَقَضَاءِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ فِيهَا، اُنْظُرُوا إلَيْهِ، فَمَا وَافَقَ مِنْهُ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ فَهُوَ صَحِيحٌ، وَمَا خَالَفَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَمَا لَمْ يَرِدْ لَهُ فِيهِ ذِكْرٌ فَهُوَ مُحْتَمَلٌ، رَبُّك أَعْلَمُ بِهِ. . [مَسْأَلَة ذِكْرِ وَصْفِ مَا قَضَاهُ النَّبِيَّانِ داود وسليمان فِي الْحَرْث] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي ذِكْرِ وَصْفِ مَا قَضَاهُ النَّبِيَّانِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ - فِيهِ: وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ زَرْعًا وَقَعَتْ فِيهِ الْغَنَمُ لَيْلًا، قَالَهُ قَتَادَةُ. الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ كَرْمًا نَبَتَتْ عَنَاقِيدُهُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَشُرَيْحٍ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّفْشَ رَعْيُ اللَّيْلِ، وَالْهَمَلَ رَعْيُ النَّهَارِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي ذِكْرِ وَصْفِ قَضَائِهِمَا: أَمَّا حُكْمُ دَاوُد فَإِنَّهُ يُرْوَى أَنَّهُ قَضَى لِصَاحِبِ الْحَرْثِ بِالْغَنَمِ. وَأَمَّا حُكْمُ سُلَيْمَانَ فَإِنَّهُ قَضَى بِأَنْ تُدْفَعَ الْغَنَمُ لِصَاحِبِ الْحَرْثِ عَلَّه يَغْتَلُّهَا، وَيُدْفَعَ الْحَرْثُ إلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ لِيَقُومَ بِعِمَارَتِهِ، فَإِذَا عَادَ فِي السَّنَةِ الْمُقْبِلَةِ إلَى مِثْلِ حَالَتِهِ رُدَّ إلَى كُلِّ أَحَدٍ مَالُهُ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَمُجَاهِدٌ، فَرَجَعَ دَاوُد إلَى حُكْمِ سُلَيْمَانَ. [مَسْأَلَة صِفَةِ حُكْمِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَاقَة دَخَلَتْ حَائِطًا فَأَفْسَدَتْهُ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي صِفَةِ حُكْمِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا: رَوَى الزُّهْرِيُّ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَحَرَامُ بْنُ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةَ «أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ دَخَلَتْ حَائِطًا، فَأَفْسَدَتْ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْحَوَائِطِ حِفْظُهَا بِالنَّهَارِ، وَأَنَّ مَا أَفْسَدَتْ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ ضَامِنٌ عَلَى أَهْلِهَا». وَفِي رِوَايَةٍ: «وَعَلَى أَهْلِ الْمَوَاشِي حِفْظُهَا بِاللَّيْلِ». وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَا كَلَامَ فِيهِ.

مسألة رجوع القاضي عما حكم به

[مَسْأَلَة رُجُوعِ الْقَاضِي عَمَّا حَكَمَ بِهِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي هَذِهِ دَلِيلٌ عَلَى رُجُوعِ الْقَاضِي عَمَّا حَكَمَ بِهِ، إذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْحَقَّ فِي غَيْرِهِ، وَهَكَذَا فِي رِسَالَةِ عُمَرَ إلَى أَبِي مُوسَى: فَأَمَّا أَنْ يَنْظُرَ قَاضٍ فِيمَا حَكَمَ بِهِ قَاضٍ فَلَا يَجُوزُ لَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَدَاعَى إلَى مَا لَا آخِرَ لَهُ، وَفِيهِ مَضَرَّةٌ عُظْمَى مِنْ جِهَةِ نَقْضِ الْأَحْكَامِ، وَتَبْدِيلِ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ، وَعَدَمِ ضَبْطِ قَوَانِينِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ أَحَدٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ إلَى نَقْضِ مَا رَآهُ الْآخَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ يَحْكُمُ بِمَا يَظْهَرُ إلَيْهِ. [مَسْأَلَة الْأَنْبِيَاءَ يَجُوزُ لَهُمْ الْحُكْمُ بِالِاجْتِهَادِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّ دَاوُد لَمْ يَكُنْ أَنْفَذَ الْحُكْمَ، وَظَهَرَ لَهُ مَا قَالَ غَيْرُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَمْ يَكُنْ حُكْمًا، وَإِنَّمَا كَانَتْ فُتْيَا، فَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ دَاوُد كَانَ فُتْيَا فَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ النَّبِيُّ، وَفُتْيَاهُ حُكْمٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ الْآخَرُ: إنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَنْفَذَ الْحُكْمَ فَظَهَرَ لَهُ مَا قَالَ غَيْرُهُ. فَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {إِذْ يَحْكُمَانِ} [الأنبياء: 78]، فَبَيَّنَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ قَدْ حَكَمَ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إنَّ الْفُتْيَا حُكْمٌ، وَهُوَ صَحِيحٌ لَفْظًا، وَفِي بَعْضِ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُقَلِّدَ قَوْلُهُ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُجْتَهِدَ قَوْلُ غَيْرِهِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ اللَّهَ أَوْحَى أَنَّ الْحُكْمَ حُكْمُ سُلَيْمَانَ، فَعَلَى هَذَا كَانَ الْقَضَاءُ مِنْ اللَّهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ. وَهَذَا كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يَجُوزُ لَهُمْ الْحُكْمُ بِالِاجْتِهَادِ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ التَّمْحِيصِ أَنَّ اجْتِهَادَهُمْ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، فَلَا إحَالَةَ فِي أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا يَكُونُ دَلِيلًا إذَا عُدِمَ النَّصُّ، وَهُمْ لَا يَعْدَمُونَهُ، لِأَجْلِ نُزُولِ الْمَلَكِ. قُلْنَا: إذَا لَمْ يَنْزِلْ الْمَلَكُ فَقَدْ عَدِمُوا النَّصَّ. جَوَابٌ آخَرُ: وَذَلِكَ أَنَّهُ عِنْدَنَا دَلِيلٌ مَعَ عَدَمِ النَّصِّ، وَعِنْدَهُمْ هُوَ دَلِيلٌ مَعَ وُجُودِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة من أتلف شيئا فعليه الضمان

[مَسْأَلَة مَنْ أَتْلَفَ شَيْئًا فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: فِي تَحْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كُلِّهَا: وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا إشْكَالَ فِي أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ شَيْئًا فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، لَكِنَّ الْمَوَاشِيَ جَاءَ فِيهَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ». فَحَكَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّ فِعْلَ الْبَهَائِمِ هَدَرٌ، وَهَذَا عُمُومٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ سَنَدًا وَمَتْنًا، وَحَدِيثُ نَاقَةِ الْبَرَاءِ خَاصٌّ، وَمَا قَضَى بِهِ دَاوُد وَسُلَيْمَانُ غَيْرُ مَعْلُومٍ عَلَى التَّعْيِينِ مِمَّنْ يَقْطَعُ بِصِدْقِهِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ نَعْتَنِيَ بِشَرْعِنَا، فَنَقُولَ: لَا خِلَافَ أَنَّ الْعَامَّ يَقْضِي عَلَيْهِ الْخَاصُّ، وَقَضَاءُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَاقَةِ الْبَرَاءِ بِأَنَّ حِفْظَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ بِالنَّهَارِ عَلَى أَرْبَابِهَا؟ لِمَا عَلَى أَهْلِ الْمَوَاشِي مِنْ الْمَشَقَّةِ فِي حِفْظِهَا بِالنَّهَارِ، وَبِأَنَّ حِفْظَ الْكُلِّ بِاللَّيْلِ عَلَى أَرْبَابِ الْمَوَاشِي؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حِفْظِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ شَاقٌّ عَلَى أَرْبَابِهَا، فَجَرَى الْحُكْمُ عَلَى الْأَوْفَقِ وَالْأَسْمَحِ بِمُقْتَضَى الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، وَمَجْرَى الْمَصْلَحَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ أَوْفَقَ لِلْفَرِيقَيْنِ، وَأَسْهَلَ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَأَحْفَظَ لِلْمَالِكَيْنِ. وَلَيْسَ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ؛ لِمَا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّينَ الْمُتَقَدِّمِينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ - فِي أَصْلِ الضَّمَانِ، وَإِنَّمَا هُوَ خِلَافٌ فِي صِفَتِهِ. [مَسْأَلَة ضَمَان أَرْبَابِ الْمَوَاشِي مَا أَصَابَتْ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا ضَمَانَ عَلَى أَرْبَابِ الْمَوَاشِي فِيمَا أَصَابَتْ بِالنَّهَارِ وَقَالَ اللَّيْثُ: يَضْمَنُ أَرْبَابُ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.

مسألة ليس لأهل المواشي أن يخرجوا مواشيهم إلى قرى الزرع بغير ذواد

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا أَفْسَدَتْ الْمَوَاشِي لَيْلًا أَوْ نَهَارًا لَمْ يَكُنْ عَلَى صَاحِبِهَا ضَمَانٌ. وَتَحْقِيقُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ مَعْنَى حَدِيثِ «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» وَهَذَا يَنْفِي الضَّمَانَ كُلَّهُ، وَمَعْنَى حَدِيثِ الْبَرَاءِ، وَهُوَ نَصٌّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَوَجَبَ تَخْصِيصُ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بِحَدِيثِ الْعَجْمَاءِ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا بِقَضَاءِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ نَصٌّ، فَنَقُولُ: إنَّهُ يُعَارِضُ هَذَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، فَيُفْتَقَرُ حِينَئِذٍ إلَى الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَالتَّرْجِيحِ فِيهِ، فَوَجَبَ الْوُقُوفُ عِنْدَهَا وَقْفَ بِنَاءِ النَّصِّ عَلَيْهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: إذَا قُلْنَا: إنَّ أَرْبَابَ الْمَوَاشِي يَضْمَنُونَ مَا أَفْسَدَتْ مَاشِيَتُهُمْ بِاللَّيْلِ، فَإِنَّهُمْ يَضْمَنُونَ قِيمَةَ الزَّرْعِ عَلَى رَجَاءِ أَنْ يَتِمَّ أَوْ لَا يَتِمَّ قَالَ عَنْهُ مُطَرِّفٌ، وَلَا يَسْتَأْنِي بِالزَّرْعِ أَنْ يَنْبُتَ أَوْ لَا يَنْبُتَ كَمَا يَفْعَلُ فِي سِنِّ الصَّغِيرِ. وَقَالَ عِيسَى، عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: قِيمَتُهُ لَوْ حَلَّ بَيْعُهُ. وَقَالَ أَشْهَبُ، وَابْنُ نَافِعٍ عَنْهُ فِي الْمَجْمُوعَةِ: وَإِنْ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ. وَالْأَوَّلُ أَقْوَى؛ لِأَنَّهَا صِفَتُهُ، فَيُقَوَّمُ كَذَلِكَ لَوْ تَمَّ أَوْ لَمْ يَتِمَّ، كَمَا يُقَوَّمُ كُلُّ مُتْلَفٍ عَلَى صِفَتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: إذَا أَفْسَدَتْ الْمَوَاشِي ذَلِكَ فَعَلَى أَرْبَابِهَا قِيمَةُ مَا أَفْسَدَتْ، وَإِنْ زَادَ عَلَى قِيمَتِهَا. وَقَالَ اللَّيْثُ: تَسْقُطُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْقِيمَةِ، وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ إنَّمَا هِيَ عَلَى أَرْبَابِ الْمَوَاشِي، وَلَيْسَتْ عَلَى الْمَوَاشِي، وَتُخَالِفُ هَذَا جِنَايَةُ الْعَبْدِ، فَإِنَّهَا عَلَيْهِ، فَيَحْمِلُ السَّيِّدُ مِنْهَا إنْ أَرَادَ فِدَاءَهُ قِيمَتَهُ. [مَسْأَلَة لَيْسَ لِأَهْلِ الْمَوَاشِي أَنْ يُخْرِجُوا مَوَاشِيَهُمْ إلَى قُرَى الزَّرْعِ بِغَيْرِ ذُوَّادٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: لَوْ لَمْ يُقْضَ فِي الْمُفْسِدِ بِشَيْءٍ حَتَّى نَبَتَ أَوْ انْجَبَرَ فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ مَنْفَعَةُ رَعْيٍ أَوْ شَيْءٍ ضَمِنَ تِلْكَ الْمَنْفَعَةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَلَا ضَمَانَ رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ. وَقَالَ أَصْبَغُ: يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ قَدْ تَحَقَّقَ، وَالْجَبْرُ لَيْسَ مِنْ جِهَتِهِ، فَلَا يُعْتَدُّ لَهُ بِهِ.

مسألة المواشي على قسمين ضواري وحريسة

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَالَ أَصْبَغُ فِي الْمَدِينَةِ: لَيْسَ لِأَهْلِ الْمَوَاشِي أَنْ يُخْرِجُوا مَوَاشِيَهُمْ إلَى قُرَى الزَّرْعِ بِغَيْرِ ذُوَّادٍ، فَرَكَّبَ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذَا أَنَّ الْبُقْعَةَ لَا تَخْلُو أَنْ تَكُونَ بُقْعَةَ زَرْعِ أَوْ بُقْعَةَ سَرْحٍ، فَإِنْ كَانَتْ بُقْعَةَ زَرْعٍ فَلَا تَدْخُلُهَا مَاشِيَةٌ إلَّا مَاشِيَةً تُحْتَاجُ فِي الزَّرْعِ، وَعَلَى أَرْبَابِهَا حِفْظُهَا، وَمَا أَفْسَدَتْ [فَصَاحِبُهَا] ضَامِنٌ عَلَى أَهْلِهَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، وَإِنْ كَانَتْ بُقْعَةَ سَرْحٍ فَعَلَى صَاحِبِ الزَّرْعِ الَّذِي يَحْرُثُهُ فِيهَا حِفْظُهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَى أَرْبَابِ الْمَوَاشِي. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: قَالَ أَشْهَبُ، وَابْنُ نَافِعٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ: سَوَاءٌ كَانَتْ الثِّمَارُ وَالزُّرُوعُ مُحْظَرًا عَلَيْهَا أَوْ بِغَيْرِ حِظَارٍ، وَلَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِالْحِظَارِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَخْتَلِفُ. وَهَذَا أَصْوَبُ، فَإِنَّ الْعَجْمَاءَ لَا يَرُدُّهَا حِظَارٌ. [مَسْأَلَة الْمَوَاشِي عَلَى قِسْمَيْنِ ضَوَارِي وَحَرِيسَةٌ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: الْمَوَاشِي عَلَى قِسْمَيْنِ ضَوَارِي، وَحَرِيسَةٌ، وَعَلَيْهَا قَسَّمَهَا مَالِكٌ، فَالضَّوَارِي هِيَ الْمُعْتَادَةُ لِلزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، فَقَالَ مَالِكٌ: تُغَرَّبُ وَتُبَاعُ فِي بَلَدٍ لَا زَرْعَ فِيهِ رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ رَبُّهَا، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِي الدَّابَّةِ الَّتِي ضَرِيَتْ إفْسَادَ الزَّرْعِ: تُغَرَّبُ وَتُبَاعُ. وَأَمَّا مَا يُسْتَطَاعُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ فَلَا يُؤْمَرُ صَاحِبُهُ بِإِخْرَاجِهِ، هَذَا بَيِّنٌ. [مَسْأَلَة النَّحْلُ وَالْحَمَامُ وَالْإِوَزُّ وَالدَّجَاجُ كَالْمَاشِيَةِ لَا يُمْنَعُ صَاحِبُهَا مِنْ اتِّخَاذِهَا وَإِنْ أَضَرَّتْ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَالَ أَصْبَغُ: النَّحْلُ، وَالْحَمَامُ، وَالْإِوَزُّ، وَالدَّجَاجُ، كَالْمَاشِيَةِ، لَا يُمْنَعُ صَاحِبُهَا مِنْ اتِّخَاذِهَا، وَإِنْ أَضَرَّتْ، وَعَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ حِفْظُ زُرُوعِهِمْ.

مسألة المجتهدين في الفروع إذا اختلفوا هل الحق في قول واحد منهم غير معين أم متعدد

وَهَذِهِ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ مِمَّا لَا يَضُرُّ بِغَيْرِهِ مُكِّنَ مِنْهُ، وَأَمَّا انْتِفَاعُهُ بِمَا يَتَّخِذُهُ بِإِضْرَارِهِ بِأَحَدٍ فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ، وَهَذِهِ الضَّوَارِي عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمَدِينَةِ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى أَرْبَابِهَا إلَّا بَعْدَ التَّقَدُّمِ. وَأَرَى الضَّمَانَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ التَّقَدُّمِ، إذَا كَانَتْ ضَوَارِيَ. [مَسْأَلَة الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْفُرُوعِ إذَا اخْتَلَفُوا هَلْ الْحَقُّ فِي قَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ أَمْ مُتَعَدِّد] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: قَالَ الْحَسَنُ: لَوْلَا هَذِهِ الْآيَةُ لَرَأَيْت الْقُضَاةَ قَدْ هَلَكُوا، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى أَثْنَى عَلَى سُلَيْمَانَ بِصَوَابِهِ، وَعَذَرَ دَاوُد بِاجْتِهَادِهِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْفُرُوعِ إذَا اخْتَلَفُوا، هَلْ الْحَقُّ فِي قَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، أَمْ جَمِيعُ أَقْوَالِهِمْ حَقٌّ؟ وَاَلَّذِي نَرَاهُ أَنَّ جَمِيعَهَا حَقٌّ لِقَوْلِهِ: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79]. وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ التَّمْحِيصِ، فَلْيُنْظَرْ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ.

سورة الحج فيها ست عشرة آية

[سُورَةُ الْحَجِّ فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ آيَةً] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ] ً الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج: 5] يَعْنِي آدَمَ، {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} [الحج: 5] يَعْنِي وَلَدَهُ، وَهُوَ الْمَنِيُّ سُمِّيَ نُطْفَةً لِقِلَّتِهِ، وَهُوَ الْقَلِيلُ مِنْ الْمَاءِ {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} [الحج: 5] يَعْنِي قِطْعَةً صَغِيرَةً مِنْ دَمٍ. {ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} [الحج: 5] يَعْنِي ثُمَّ مِنْ جُزْءٍ مُخَثَّرٍ يُشْبِهُ اللُّقْمَةَ الَّتِي مُضِغَتْ. وَقَوْلُهُ: {مُخَلَّقَةٍ} [الحج: 5] فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: صَارَتْ خَلْقًا، وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ مَا قَذَفَتْهُ الرَّحِمُ نُطْفَةً؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ. الثَّانِي: تَامَّةُ الْخَلْقِ، وَغَيْرُ تَامَّةِ الْخَلْقِ قَالَ قَتَادَةُ. الثَّالِثُ: مَعْنَاهُ مُصَوَّرَةٌ وَغَيْرُ مُصَوَّرَةٍ كَالسَّقْطِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. الرَّابِعُ: يُرِيدُ تَامَّةَ الشُّهُورِ، وَغَيْرَ تَامَّةٍ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ قَدَّمْنَا شَيْئًا مِنْ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْغَرَضِ، وَنَحْنُ الْآنَ نُفِيضُ فِيهِ بِمَا إذَا اتَّصَلَ بِمَا فِي سُورَةِ الرَّعْدِ كَانَ بَيَانًا لِلْمَسْأَلَةِ وَعِرْفَانًا، فَنَقُولُ: فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَقْوَالٌ عَنْ السَّلَفِ: فَأَمَّا الرِّوَايَاتُ فَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَهَا وَنُعِيدُ مِنْهَا هَاهُنَا الرِّوَايَةَ الْأُولَى: رَوَى يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، حَدَّثَنَا دَاوُد عَنْ عَامِرٍ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوه، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النُّطْفَةَ إذَا اسْتَقَرَّتْ فِي الرَّحِمِ أَخَذَهَا مَلَكٌ بِكَفِّهِ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ؟ ذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ مَا الْأَجَلُ؟ مَا الْأَثَرُ؟ وَبِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ؟ قَالَ دَاوُد: وَشُكِّلَتْ فِي الْخَلْقِ وَالْخُلُقِ، فَيُقَالُ لَهُ: انْطَلِقْ إلَى أُمِّ الْكِتَابِ، فَإِنَّك تَجِدُ فِيهَا قِصَّةَ هَذِهِ النُّطْفَةِ، فَيَنْطَلِقُ فَيَجِدُ قِصَّتَهَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ تَتَخَلَّقُ فَتَأْكُلُ رِزْقَهَا، وَتَطَأُ أَثَرَهَا، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهَا قُبِضَتْ فَدُفِنَتْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي قُدِّرَ لَهَا، ثُمَّ قَرَأَ عَامِرٌ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج: 5]. الثَّانِيَةُ: مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ دَاوُد بِمِثْلِهِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إذَا اسْتَقَرَّتْ النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ أَدَارَهَا مَلَكٌ بِكَفِّهِ، وَقَالَ: أَيْ رَبِّ، مُخَلَّقَةٌ أَوْ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ؟ قَالَ: فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُخَلَّقَةٍ قَذَفَتْهَا الْأَرْحَامُ دَمًا، وَإِنْ كَانَتْ مُخَلَّقَةً قَالَ: أَيْ رَبِّ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ مَا الرِّزْقُ؟ مَا الْأَثَرُ؟ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ؟ وَآثَارُ السَّلَفِ أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ عَامِرٌ فِي النُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ: فَإِذَا انْتَكَسَتْ فِي الْخَلْقِ الرَّابِعِ كَانَتْ نَسَمَةً مُخَلَّقَةً، وَإِذَا قَذَفَتْهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَهِيَ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ. الثَّانِي: قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ: السَّقْطُ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ. الثَّالِثُ: قَالَ قَتَادَةُ: تَامَّةٌ وَغَيْرُ تَامَّةٍ.

مسألة الصلاة على السقط

الرَّابِعُ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمُخَلَّقَةُ الَّتِي خَلَقَ فِيهَا الرَّأْسَ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ. وَغَيْرُ مُخَلَّقَةٍ الَّتِي لَمْ يَخْلُقْ فِيهَا شَيْئًا. [مَسْأَلَة الصَّلَاةِ عَلَى السَّقْطِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: إنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِالصَّلَاةِ عَلَى السَّقْطِ، وَيَقُولُ: سَمُّوهُمْ وَاغْسِلُوهُمْ، وَكَفِّنُوهُمْ وَحَنِّطُوهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ أَكْرَمَ بِالْإِسْلَامِ صَغِيرَكُمْ وَكَبِيرَكُمْ، وَيَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج: 5]، لَمْ يَسْتَتِمَّ سَائِرُ خَلْقِهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَلْقًا تَامًّا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إذَا رَجَعْنَا إلَى أَصْلِ الِاشْتِقَاقِ فَإِنَّ النُّطْفَةَ وَالْعَلَقَةَ وَالْمُضْغَةَ مُخَلَّقَةٌ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ خَلْقُ اللَّهِ، وَإِذَا رَجَعْنَا إلَى التَّصْوِيرِ الَّذِي هُوَ مُنْتَهَى الْخِلْقَةِ كَمَا قَالَ: ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَذَلِكَ مَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إنَّهَا الَّتِي صُوِّرَتْ بِرَأْسٍ وَيَدَيْنِ وَرِجْلَيْنِ، وَبَيْنَهَا حَالَاتٌ. فَأَمَّا النُّطْفَةُ فَلَيْسَتْ بِشَيْءٍ يَقِينًا، وَأَمَّا إنْ تَلَوَّنَتْ فَقَدْ تَخَلَّقَتْ فِي رَحِمِ الْأُمِّ بِالتَّلْوِينِ، وَتَخَلَّقَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِالتَّخْثِيرِ؛ فَإِنَّهُ إنْشَاءٌ بَعْدَ إنْشَاءٍ. وَيَزْعُمُ قَوْمٌ أَنَّ مَعَ التَّخْثِيرِ يَظْهَرُ التَّخْطِيطُ وَمِثَالُ التَّصْوِيرِ، فَلِذَلِكَ شَكَّ مَالِكٌ فِيهِ، وَقَالَ: وَمِنْ رَأْيِي مَنْ يُعْرَفُ أَنَّهُ سَقْطٌ فَهُوَ الَّذِي تَكُونُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ. وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ، وَشَرْحُ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ. وَعَلَى هَذَا يُحْمَلَ مَا جَاءَ مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ عَلَى الْمُخَلَّقِ وَغَيْرِ الْمُخَلَّقِ، وَعَلَى التَّامِّ وَالنَّاقِصِ. وَلَعَلَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ أَرَادَ السَّقْطَ مَا تَبَيَّنَ خَلْقُهُ فَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى، وَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ خَلْقُهُ فَلَا وُجُودَ لَهُ، وَالِاسْمُ فِيهِ دُونَ مَوْجُودٍ يُسَمَّى وَبِمَاذَا تَكُونُ الْوَلَدُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ هُنَالِكَ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ، وَاَللَّهُ يَنْفَعُنَا بِعِزَّتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ عِدَّةَ الْمَرْأَةِ تَنْقَضِي بِالسَّقْطِ الْمَوْضُوعِ، ذَكَرَهُ إسْمَاعِيلُ الْقَاضِي، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ حَمْلٌ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]

الآية الثانية قوله تعالى إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام

، وَكَذَلِكَ قَالَ: لَا تَكُونُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، وَلَا يَرْتَبِطُ شَيْءٌ مِنْ الْأَحْكَامِ بِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُخَلَّقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج: 5]، فَيُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَلْقٌ، كَمَا أَنَّهُ حَمْلٌ. وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ بِمُضْغَةٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَنْبِيهًا عَلَى الْقُدْرَةِ. قُلْنَا: فَأَيْنَ الْمَقْدُورُ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ الْقُدْرَةُ؟ هَلْ هُوَ تَصْرِيفُ الْوَلَدِ بَيْنَ الْأَحْوَالِ، وَنَقْلِهِ مِنْ صِفَةٍ إلَى صِفَةٍ؟ فَذَكَرَ أَنَّ أَصْلَهُ النُّطْفَةُ، ثُمَّ تَتَدَاوَلُهُ الصِّفَاتُ، فَيَكُونُ خَلْقًا وَحَمْلًا. قَالَ الْمُعْتَرِضُ: وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ} [الطلاق: 4] مَا يُسَمَّى وَلَدًا. قُلْنَا: بَلْ الْمُرَادُ بِهِ مَا يُسَمَّى حَمْلًا وَخَلْقًا لِشَغْلِ الرَّحِمِ؛ فَإِذَا سَقَطَ بَرِئَتْ الرَّحِمُ مِنْ شُغْلِهَا. قَالَ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ: وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أَنَّهُ يَرِثُ أَبَاهُ، فَدَلَّ عَلَى وُجُودِهِ خَلْقًا، وَكَوْنِهِ وَلَدًا وَحَمْلًا. قَالَ الْمُعْتَرِضُ: لَا حُجَّةَ فِي الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ مُسْتَنِدًا إلَى حَالِ كَوْنِهِ نُطْفَةً. قُلْنَا لَوْ لَمْ يَكُنْ خَلْقًا مَوْجُودًا، وَلَا وَلَدًا مَحْسُوبًا مَا أُسْنِدَ مِيرَاثُهُ إلَى حَالٍ وَلَا قُضِيَ لَهُ بِهِ. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ] ِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]. فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رُوِيَ «أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَ خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ عَامَ سِتٍّ، فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنْ دُخُولِ الْبَيْتِ، وَمَنَعُوهُ، فَقَاضَاهُمْ عَلَى الْعَامِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَقَضَى عُمْرَتَهُ فِي مَكَانِهِ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَرَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ». الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25] فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْمَسْجِدَ نَفْسَهُ، دُونَ الْحَرَمِ؛ وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ. الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْحَرَمَ كُلَّهُ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ صَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ عَنْهُ، فَنَزَلَ خَارِجًا مِنْهُ فِي الْحِلِّ، وَعَيَّرَهُمْ اللَّهُ بِذَلِكَ، وَدَلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الحج: 25]، فَصِفَةُ الْحَرَامِ تَقْتَضِي الْحَرَمَ كُلَّهُ،؛ لِأَنَّهُ بِصِفَتِهِ فِي التَّحْرِيمِ، وَآخِذٌ بِجَزَاءٍ عَظِيمٍ مِنْ التَّكْرِمَةِ وَالتَّعْظِيمِ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: 97]، وَكَانَ الْحَرَمُ مِثْلَهُ؛ لِأَنَّهُ حَرِيمُهُ، وَحَرِيمُ الدَّارِ مِنْ الدَّارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ} [الحج: 25] يُرِيدُ خَلَقْنَاهُ لَهُمْ، وَسَمَّيْنَاهُ، وَوَضَعْنَاهُ شَرْعًا وَدِينًا، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْجَعْلِ وَتَصَرُّفَاتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {سَوَاءً الْعَاكِفُ} [الحج: 25]. يَعْنِي الْمُقِيمَ، وَكَذَلِكَ اسْمُهُ فِي اللُّغَة. وَالْبَادِي: يُرِيدُ الطَّارِئَ عَلَيْهِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَأَلْت مَالِكًا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25]

فَقَالَ لِي مَالِكٌ: السَّعَةُ وَالْأَمْنُ وَالْحَقُّ. قَالَ مَالِكٌ: وَقَدْ كَانَتْ الْفَسَاطِيطُ تُضْرَبُ فِي الدُّورِ يَنْزِلُهَا النَّاسُ. وَالْبَادِي أَهْلُ الْبَادِيَةِ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَقْدُمُ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ قَالَ: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف: 100] قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: سَوَاءٌ فِي الْحَقِّ وَالسَّعَةِ، وَالْبَادِي أَهْلُ الْبَادِيَةِ، وَمَنْ يَقْدُمُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ كَانَتْ تُضْرَبُ الْفَسَاطِيطُ فِي الدُّورِ، وَلَقَدْ سَمِعْت أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَنْزِعُ أَبْوَابَ مَكَّةَ إذَا قَدِمَ النَّاسُ. قَالَ: وَالْحَجُّ كُلُّهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي الْمَعْنَى الَّذِي فِيهِ التَّسْوِيَةُ: وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي دُورِهِ وَمَنَازِلِهِ، لَيْسَ الْمُقِيمُ فِيهَا أَوْلَى بِهَا مِنْ الطَّارِئِ عَلَيْهَا. هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَمَالِكٍ كَمَا تَقَدَّمَ وَغَيْرِهِ. الثَّانِي: أَنَّهُمَا فِي الْحَقِّ سَوَاءٌ وَالْحُرْمَةُ وَالنُّسُكُ. وَالصَّحِيحُ عُمُومُ التَّسْوِيَةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ، وَعَلَيْهِ حَمَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ فِي الْمَوْسِمِ بِقَلْعِ أَبْوَابِ دُورِ مَكَّةَ حَتَّى يَدْخُلَهَا الَّذِي يَقْدُمُ، فَيَنْزِلُ حَيْثُ شَاءَ، وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ دُورَ مَكَّةَ [هَلْ هِيَ] مِلْكٌ لِأَرْبَابِهَا أَمْ هِيَ لِلنَّاسِ؟ الثَّانِي: يَنْبَنِي عَلَيْهِ هَذَا الْأَصْلُ، وَهُوَ أَنَّ مَكَّةَ هَلْ اُفْتُتِحَتْ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا؟ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ رَوَى عَلْقَمَةُ بْنُ نَضْلَةَ قَالَ: تُوُفِّيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا نَرَى رِبَاعَ مَكَّةَ إلَّا السَّوَائِبَ، مَنْ احْتَاجَ سَكَنَ، وَمَنْ اسْتَغْنَى أَسْكَنَ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ الْقَوْلَ فِي رِبَاعِ مَكَّةَ.

مسألة الجنايات تعظم على قدر عظم الزمان

وَاَلَّذِي عِنْدِي الْآنَ فِيهَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - افْتَتَحَ مَكَّةَ عَنْوَةً، لَكِنَّهُ مَنَّ عَلَيْهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَسُمُّوا الطُّلَقَاءَ، وَمَنَّ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، أَمَرَ مُنَادِيَهُ فَنَادَى: مَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَتَرَكَهُمْ فِي مَنَازِلِهِمْ عَلَى أَحْوَالِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ عَلَيْهِمْ»، وَلَكِنَّ النَّاسَ إذَا كَثُرُوا وَارِدِينَ عَلَيْهِمْ شَارَكُوهُمْ بِحُكْمِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ. وَقَدْ رَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ نَهَى أَنْ تُغْلَقَ مَكَّةُ زَمَنَ الْحَاجِّ، وَأَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَنْزِلُونَ مِنْهَا حَيْثُ وَجَدُوا فَارِغًا، حَتَّى كَانُوا يَضْرِبُونَ الْفَسَاطِيطَ فِي جَوْفِ الدُّورِ. [مَسْأَلَة الْجِنَايَاتِ تُعَظَّمُ عَلَى قَدْرِ عِظَمِ الزَّمَانِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج: 25] تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي دُخُولِ الْبَاءِ هَاهُنَا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهَا زَائِدَةٌ، كَزِيَادَتِهَا فِي قَوْلِهِ: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20]، وَعَلَيْهِ حَمَلُوا قَوْلَ الشَّاعِرِ: نَحْنُ بَنُو جَعْدَةَ أَصْحَابُ الْفَلَجْ ... نَضْرِبُ بِالسَّيْفِ وَنَرْجُو بِالْفَرَجْ أَرَادَ وَنَرْجُو الْفَرَجَ. وَهَذَا مِمَّا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي سَبِيلِ الْعَرَبِيَّةِ؛ لِأَنَّ حَمْلَ الْمَعْنَى عَلَى الْفِعْلِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْحَرْفِ. فَيُقَالُ الْمَعْنَى: وَمَنْ يُهِمُّ فِيهِ بِمِيلٍ يَكُونُ ذَلِكَ الْمَيْلُ ظُلْمًا؛ لِأَنَّ الْإِلْحَادَ هُوَ الْمَيْلُ فِي اللُّغَةِ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ صَارَ فِي عُرْفِ الشَّرِيعَةِ مَيْلًا مَذْمُومًا، فَرَفَعَ اللَّهُ الْإِشْكَالَ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْمَيْلَ بِالظُّلْمِ هُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا، وَالظُّلْمُ فِي الْحَقِيقَةِ لُغَةً وَشَرْعًا وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالذُّنُوبِ الْمُطْلَقَةِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَنَفْسِهِ، وَبِالذُّنُوبِ الْمُتَعَدِّيَةِ إلَى الْخَلْقِ، وَهُوَ أَعْظَمُ. وَلِذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ لَهُ فُسْطَاطَانِ: أَحَدُهُمَا فِي الْحِلِّ، وَالْآخَرُ فِي الْحَرَمِ؛ فَكَانَ إذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ دَخَلَ فُسْطَاطَ الْحَرَمِ، وَإِذَا أَرَادَ الْأَمْرَ لِبَعْضِ شَأْنِهِ دَخَلَ فُسْطَاطَ الْحِلِّ، صِيَانَةً لِلْحَرَمِ عَنْ قَوْلِهِمْ: كَلًّا وَاَللَّهِ، وَبَلَى وَاَللَّهِ، حِينَ عَظَّمَ اللَّهُ الذَّنْبَ فِيهِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْجِنَايَاتِ تُعَظَّمُ عَلَى قَدْرِ عِظَمِ الزَّمَانِ، كَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَعَلَى قَدْرِ عِظَمِ الْمَكَانِ، كَالْبَلَدِ الْحَرَامِ، فَتَكُونُ الْمَعْصِيَةُ مَعْصِيَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا بِنَفْسِ الْمُخَالَفَةِ، وَالثَّانِيَةُ بِإِسْقَاطِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، أَوْ الْبَلَدِ الْحَرَامِ فَإِنْ أَشْرَكَ فِيهِ أَحَدٌ فَقَدْ أَعْظَمَ الذَّنْبَ، وَمَنْ اسْتَحَلَّهُ مُتَعَمِّدًا

الآية الثالثة قوله تعالى وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت

فَقَدْ أَعْظَمَ الذَّنْبَ، وَمَنْ اسْتَحَلَّهُ مُتَأَوِّلًا فَقَدْ أَعْظَمَ الذَّنْبَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ فِيهَا بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُولُوا: إنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ». وَهَذَا نَصٌّ. وَقَدْ قَالَ أَبُو شُرَيْحٍ الْعَدَوِيُّ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ الْعَاصِي، وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إلَى مَكَّةَ: «ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أُحَدِّثُك قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ، حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ: حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ فِيهَا دَمًا، أَوْ يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُولُوا لَهُ: إنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، وَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ». فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ: مَا قَالَ لَك عَمْرٌو؟ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ مِنْك بِذَلِكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، إنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا، وَلَا فَارًّا بِدَمٍ، وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ. وَهَذَا مِنْ احْتِجَاجِ عَمْرٍو بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ قَائِمًا بِالْحَقِّ، عَادِلًا فِي الْحَرَمِ، دَاعِيًا إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ] ِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالُوا مَعْنَاهُ وَطَّأْنَا وَمَهَّدْنَا. وَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوا؛ إنَّمَا الْمَبَاءَةُ الْمَنْزِلُ، وَبَوَّأْنَا فَعَّلْنَا مِنْهُ

الآية الرابعة قوله تعالى وأذن في الناس بالحج

فَالْمَعْنَى وَإِذْ نَزَّلْنَا بِتَشْدِيدِ الزَّايِ لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ، أَيْ عَرَّفْنَاهُ بِهِ مَنْزِلًا، وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ اللَّامُ فِيهِ، فَخَفِيَ الْأَمْرُ عَلَى يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا حَتَّى قَالَ: إنَّ اللَّامَ هَاهُنَا زَائِدَةٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ النَّاسُ: جَعَلَ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَامَةً رِيحًا هَبَّتْ حَتَّى كَشَفَتْ أَسَاسَ آدَمَ فِي الْبَيْتِ. وَقِيلَ: نَصَبَ لَهُ ظِلًّا عَلَى قَدْرِ الْبَيْتِ، فَقَدَّرَهُ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَطَّهُ لَهُ جِبْرِيلُ. وَهَذِهِ الْجُمَلُ لَا تَتَخَصَّصُ إلَّا بِنَصٍّ صَرِيحٍ صَحِيحٍ. وَقَدْ قَدَّمْنَا حَدِيثَ إبْرَاهِيمَ وَمَا كَانَ مِنْهُ مَعَ هَاجَرَ وَابْنِهَا، وَكَيْف عَادَ، وَكَيْف بَنَى، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رَوَى أَبُو ذَرٍّ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ لَهُ: أَيُّ الْمَسْجِدِ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ الْأَوَّلَ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ. قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى. قُلْت: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً. ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْك الصَّلَاةُ فَصَلِّ»، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ هَاهُنَا وَفِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج: 26] يَعْنِي لَا تَقْرَبْهُ بِمَعْصِيَةٍ وَلَا نَجَاسَةٍ وَلَا قَذَارَةٍ، وَكَانَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى شَاءَ اللَّهُ فَعُبِدَ فِيهِ غَيْرُهُ، وَأُشْرِكَ فِيهِ بِهِ، وَلُطِّخَ بِالدِّمَاءِ النَّجِسَةِ، وَمُلِئَ مِنْ الْأَقْذَارِ الْمُنْتِنَةِ. [الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ] ِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27]. فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ:

مسألة لا يفترض الحج على من ليس له زاد ولا راحلة

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {وَأَذِّنْ} [الحج: 27] تَقَدَّمَ بَيَانُ أَذِّنْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ مَعْنَاهُ أَعْلِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ إبْرَاهِيمَ أَنْ يُنَادِيَ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ، وَذَلِكَ نَصُّ الْقُرْآنِ. وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ النِّدَاءِ كَيْف وَقَعَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أُمِرَ بِهِ فِي جُمْلَةِ شَرَائِعِ الدِّينِ، الصَّلَاةُ، وَالزَّكَاةُ، وَالصِّيَامُ، وَالْحَجُّ، حَسْبَمَا تَمَهَّدَتْ بِهِ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ الَّتِي أَسَّسَهَا لِسَانُهُ، وَأَوْضَحَهَا بِبَيَانِهِ، وَخَتَمَهَا مُبَلَّغَةً تَامَّةً بِمُحَمَّدٍ فِي زَمَانِهِ. الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَرْقَى عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ وَيُنَادِي: أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا، فَلَمْ تَبْقَ نَفْسٌ إلَّا أَبْلَغَ اللَّهُ نِدَاءَ إبْرَاهِيمَ إلَيْهَا، فَمَنْ لَبَّى حِينَئِذٍ حَجَّ، وَمَنْ سَكَتَ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ نَصِيبٌ، وَرَبُّنَا عَلَى ذَلِكَ مُقْتَدِرٌ، فَإِنْ صَحَّ بِهِ الْأَثَرُ اسْتَمَرَّ عَقِيدَةً وَاسْتَقَرَّ، وَإِلَّا فَالْأَوَّلُ يَكْفِي فِي الْمَعْنَى. [مَسْأَلَة لَا يُفْتَرَضُ الْحَجُّ عَلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ زَادٌ وَلَا رَاحِلَةٌ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {يَأْتُوكَ رِجَالا} [الحج: 27] قَالَ أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ: لَا يُفْتَرَضُ الْحَجُّ عَلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ زَادٌ وَلَا رَاحِلَةٌ، وَهِيَ الِاسْتِطَاعَةُ، حَسْبَمَا تُفَسَّرُ فِي حَدِيثِ الْجَوْزِيِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي سُورَةِ آلِ عُمْرَانِ، فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهِ، بَيْدَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَصٌّ فِي أَنَّ حَالَ الْحَاجِّ فِي فَرْضِ الْإِجَابَةِ مُنْقَسِمَةٌ إلَى رَاجِلٍ وَرَاكِبٍ، وَلَيْسَ عَنْ هَذَا لِأَحَدٍ مَذْهَبٌ، وَلَا بَعْدَهُ فِي الدَّلِيلِ مَطْلَبٌ، حَسْبَمَا هِيَ عَلَيْهِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمَذْهَبِ، فَإِنَّ الِاسْتِطَاعَةَ عِنْدَنَا صِفَةُ الْمُسْتَطِيعِ، وَهِيَ قَائِمَةٌ بِبَدَنِهِ، فَإِذَا قَدَرَ يَمْشِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْعِبَادَةُ، وَإِذَا عَجَزَ وَوَجَدَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَتَحَقَّقَ الْوَعْدُ بِالْوَجْهَيْنِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ} [الحج: 27] يَعْنِي الَّتِي انْضَمَّ جَنْبَاهَا مِنْ الْهُزَالِ حَتَّى أَكَلَتْهَا الْفَيَافِي، وَرَعَتْهَا الْمَفَازَاتُ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ مِنْهَا أَوَانَ انْفِصَالِهِ مِنْ بَلَدِهِ عَلَى بَدَنٍ، فَإِنَّ حَرْبَ الْبَيْدَاءِ وَمُعَالَجَةَ الْأَعْدَاءِ رَدَّهَا هِلَالًا، فَوَصَفَهَا اللَّهُ بِالْمَآلِ الَّذِي انْتَهَتْ عَلَيْهِ إلَى مَكَّةَ.

مسألة حج الراجل أفضل من حج الراكب

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {يَأْتِينَ} [الحج: 27] رَدَّ الضَّمِيرَ إلَى الْإِبِلِ تَكْرِمَةً لَهَا؛ لِقَصْدِهَا الْحَجَّ مَعَ أَرْبَابِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} [العاديات: 1] فِي خَيْلِ الْجِهَادِ تَكْرِمَةً لَهَا حِينَ سَعَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {عَمِيقٍ} [الحج: 27] يَعْنِي بَعِيدٌ، وَبِنَاءُ " عَمُقَ " لِلْبُعْدِ قَالَ الشَّاعِرُ يَصِفُ قَفْرًا: وَقَاتِمُ الْأَعْمَاقِ خَاوِي الْمُحْتَرَقِ يُرِيدُ بِالْأَعْمَاقِ الْأَبْعَادَ تَرَى عَلَيْهَا قَتَامًا يُخْتَرَقُ مِنْهَا جَوًّا خَاوِيًا، وَتَمْشِي فِيهِ كَأَنَّك وَإِنْ كُنْت مُصْعِدًا هَاوٍ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ بِئْرٌ عَمِيقَةٌ، أَيْ بَعِيدَةُ الْقَعْرِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَّ قَبْلَ الْهِجْرَةِ حَجَّتَيْنِ، وَحَجَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ ثَالِثَةً»، وَظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ حَجَّهُ كَانَ عَلَى دِينِ إبْرَاهِيمَ وَدَعْوَتِهِ، وَإِنَّمَا حَجَّ عَلَى دِينِهِ وَمِلَّتِهِ تَنَفُّلًا بِالْعِبَادَةِ، وَاسْتِكْثَارًا مِنْ الطَّاعَةِ، فَلَمَّا جَاءَهُ فَرْضُ الْحَجِّ بَعْدَ تَمَلُّكِهِ لِمَكَّةَ وَارْتِفَاعِ الْعَوَائِقِ، وَتَطْهِيرِ الْبَيْتِ، وَتَقْدِيسِ الْحَرَمِ، قَدَّمَ أَبَا بَكْرٍ لِيُقِيمَ لِلنَّاسِ حَجَّهُمْ، ثُمَّ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِي الْعَامِ الثَّانِي، وَقَدْ قَدَّمْنَا وَجْهَ تَأْخِيرِهِ إلَى حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ قَبْلُ. [مَسْأَلَة حَجَّ الرَّاجِلِ أَفْضَلُ مِنْ حَجِّ الرَّاكِبِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: لَمَّا قَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرَهُ رِجَالًا عَلَى كُلِّ ضَامِرٍ دَلَّ عَلَى أَنَّ حَجَّ الرَّاجِلِ أَفْضَلُ مِنْ حَجِّ الرَّاكِبِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّهَا لَحَوْجَاءُ فِي نَفْسِي أَنْ أَمُوتَ قَبْلَ أَنْ أَحُجَّ مَاشِيًا، لِأَنِّي سَمِعْت اللَّهَ يَقُولُ: {يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] فَبَدَأَ بِأَهْلِ الرِّجْلَةِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ إبْرَاهِيمَ وَعِيسَى حَجَّا مَاشِيَيْنِ، وَإِنَّمَا «حَجَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاكِبًا

الآية الخامسة قوله تعالى ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات

وَلَمْ يَحُجَّ مَاشِيًا»؛ لِأَنَّهُ إنْ اقْتَدَى بِهِ أَهْلُ مِلَّتِهِ لَمْ يَقْدِرُوا، وَإِنْ قَصَّرُوا عَنْهُ تَحَسَّرُوا، وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفًا رَحِيمًا. وَلَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ طَافَ رَاكِبًا لِيَرَى النَّاسُ هَيْئَةَ الطَّوَافِ. [الْآيَة الْخَامِسَة قَوْله تَعَالَى لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ] قَوْله تَعَالَى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ لَامُ الْمَقْصُودِ وَالْفَائِدَةُ الَّتِي يَنْسَاقُ الْحَدِيثُ لَهَا وَتُنَسَّقُ عَلَيْهِ، وَأَجَلُّهَا قَوْلُهُ: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]. وَقَدْ تَتَّصِلُ بِالْفِعْلِ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ؛ وَتَتَّصِلُ بِالْحَرْفِ، كَقَوْلِهِ {لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [الحديد: 29]. وَقَدْ حَقَّقْنَا مَوْرِدَهَا فِي مَلْجَئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى مَنَافِعَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ {مَنَافِعَ} [الحج: 28] فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: الْمَنَاسِكُ. الثَّانِي: الْمَغْفِرَةُ. الثَّالِثُ: التِّجَارَةُ. الرَّابِعُ: مِنْ الْأَمْوَالِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ نُسُكٍ وَتِجَارَةٍ وَمَغْفِرَةٍ وَمَنْفَعَةٍ دُنْيَا وَآخِرَةٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ عُمُومُ قَوْلِ: {مَنَافِعَ} [الحج: 28] فَكُلُّ ذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ هَذَا الْقَوْلُ، وَهَذَا

مسألة الأيام المعلومات

يُعَضِّدُهُ مَا فِي الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] وَذَلِكَ هُوَ التِّجَارَةُ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ. [مَسْأَلَة الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] فِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ. الثَّانِي: أَنَّهَا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ. وَبِالْأَوَّلِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمَعْلُومَاتِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ هَاهُنَا. وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ النَّحْرِ؛ يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ. وَقَالَ: هُوَ النَّهَارُ دُونَ اللَّيْلِ. وَمِثْلَهُ رَوَى أَشْهَبُ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ، وَثَبَتَ يَقِينًا أَنَّ الْمُرَادَ بِذَكَرِ اسْمِ اللَّهِ هَاهُنَا الْكِنَايَةُ عَنْ النَّحْرِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطُهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {فَكُلُوا} [الحج: 28] قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَكْلِ مِنْ لَحْمِ الصَّيْدِ، وَجَرَى فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذِكْرِ الْهَدْيِ، وَحَقِيقَتُهُ تَأْتِي بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28]: فَأَمَّا الْفَقِيرُ فَهُوَ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ عَلَى نَعْتِ مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ. وَأَمَّا الْبَائِسُ فَهُوَ الَّذِي ظَهَرَ عَلَيْهِ الْبُؤْسُ، وَهُوَ ضَرَرُ الْمَرَضِ أَوْ ضَرَرُ الْحَاجَةِ. [الْآيَة السَّادِسَة قَوْله تَعَالَى ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ] : قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]: فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي ذِكْرِ التَّفَثِ: قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: هَذِهِ لَفْظَةٌ غَرِيبَةٌ عَرَبِيَّةٌ لَمْ يَجِدْ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ فِيهَا شِعْرًا، وَلَا أَحَاطُوا بِهَا خَبَرًا، وَتَكَلَّمَ السَّلَفُ عَلَيْهَا عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: التَّفَثُ حَلْقُ الشَّعْرِ، وَلُبْسُ الثِّيَابِ، وَمَا أَتْبَعَ ذَلِكَ مِمَّا يَحِلُّ بِهِ الْمُحْرِمُ. الثَّانِي: أَنَّهُ مَنَاسِكُ الْحَجِّ؛ رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّالِثُ: حَلْقُ الرَّأْسِ قَالَهُ قَتَادَةُ. الرَّابِعُ: رَمْيُ الْجِمَارِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. الْخَامِسُ: إزَالَةُ قَشَفِ الْإِحْرَامِ، مِنْ تَقْلِيمِ أَظْفَارٍ، وَأَخْذِ شَعْرٍ، وَغُسْلٍ، وَاسْتِعْمَالِ طِيبٍ قَالَهُ الْحَسَنُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ الْأَوَّلُ. فَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ فَلَوْ صَحَّ عَنْهُمَا لَكَانَ حُجَّةً، لِشَرَفِ الصُّحْبَةِ وَالْإِحَاطَةِ بِاللُّغَةِ. وَأَمَّا قَوْلُ قَتَادَةَ إنَّهُ حَلْقُ الرَّأْسِ فَمِنْ قَوْلِ مَالِكٍ. وَأَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ إنَّهُ رَمْيُ الْجِمَارِ فَمِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ تَتَبَّعْت التَّفَثَ لُغَةً فَرَأَيْت أَبَا عُبَيْدَةَ مَعْمَرَ بْنَ الْمُثَنَّى قَدْ قَالَ: إنَّهُ قَصُّ الْأَظْفَارِ، وَأَخْذُ الشَّارِبِ، وَكُلُّ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ، إلَّا النِّكَاحُ، وَلَمْ يَجِيءَ فِيهِ بِشِعْرٍ يُحْتَجُّ بِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ: التَّفَثُ هُوَ الرَّمْيُ، وَالْحَلْقُ، وَالتَّقْصِيرُ، وَالذَّبْحُ، وَقَصُّ الْأَظْفَارِ وَالشَّارِبِ، وَنَتْفُ الْإِبْطِ. وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ نَحْوَهُ، وَلَا أُرَاهُ أَخَذَهُ إلَّا مِنْ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: تَفِثَ الرَّجُلُ إذَا كَثُرَ وَسَخُهُ، وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ: حَفُّوا رُءُوسَهُمْ لَمْ يَحْلِقُوا تَفَثًا وَلَمْ يَسُلُّوا لَهُمْ قَمْلًا وَصِئْبَانًا

مسألة النذر

وَإِذَا انْتَهَيْتُمْ إلَى هَذَا الْمَقَامِ ظَهَرَ لَكُمْ أَنَّ مَا ذُكِرَ أَشَارَ إلَيْهِ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ، وَمَا ذَكَرَهُ قُطْرُبٌ هُوَ الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي التَّفَثِ، وَهَذِهِ صُورَةُ قَضَاءِ التَّفَثِ لُغَةً. وَأَمَّا حَقِيقَتُهُ الشَّرْعِيَّةُ فَإِذَا نَحَرَ الْحَاجُّ أَوْ الْمُعْتَمِرُ هَدْيَهُ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَأَزَالَ وَسَخَهُ، وَتَطَهَّرَ وَتَنَقَّى، وَلَبِسَ الثِّيَابَ، فَيَقْضِي تَفَثَهُ وَأَمَّا وَفَاءُ نَذْرِهِ، وَهِيَ: [مَسْأَلَة النَّذْر] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَإِنَّ النَّذْرَ كُلُّ مَا لَزِمَ الْإِنْسَانَ أَوْ الْتَزَمَهُ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ بُكَيْر: إنَّهُ رَمْيُ الْجِمَارِ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ هُوَ الْعَقْلُ، فَهُوَ رَمْيُ الْجِمَارِ، لِأَجَلِ النَّذْرِ يَعْنِي بِالْعَقْلِ الدِّيَةَ. وَالْأَوَّلُ أَقْوَى: لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِرَمْيِ الْجِمَارِ، وَبِنَحْرِ الْهَدْيِ، وَيَجْتَنِبُ الْوَطْءَ وَالطِّيبَ، حَتَّى تَقَعَ الزِّيَارَةُ. [مَسْأَلَة طَوَافُ الزِّيَارَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] هَذَا هُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ، وَهُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ، وَهُوَ رُكْنُ الْحَجِّ بِاتِّفَاقٍ، وَبِهِ يَتِمُّ الْحَجُّ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ أَعْمَالِهِ وَنِهَايَةُ أَرْكَانِهِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]: وَفِي تَسْمِيَتِهِ بِالْعَتِيقِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ عَتُقَ أَيْ قَدُمَ؛ إذْ هُوَ أَوَّلُ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ. الثَّانِي: أَنَّهُ عَتَقَ، أَيْ خَلُصَ مِنْ الْجَبَابِرَةِ عَنْ الْهَوَانِ إلَى انْقِضَاءِ الزَّمَانِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ.

الآية السابعة قوله تعالى ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه

[الْآيَة السَّابِعَة قَوْله تَعَالَى ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ] قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْحُرُمَاتُ: امْتِثَالُ مَا أَمَرَ بِهِ، وَاجْتِنَابُ مَا نَهَى عَنْهُ، فَإِنَّ لِهَذَا حُرْمَةَ الْمُبَادَرَةِ إلَى الِامْتِثَالِ، وَلِذَلِكَ حُرْمَةُ الِانْكِفَافِ وَالِانْزِجَارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [الحج: 30] قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج: 30] وَصَفَ اللَّهُ الْأَوْثَانَ بِأَنَّهَا رِجْسٌ، وَالرِّجْسُ النَّجِسُ، وَهِيَ نَجِسَةٌ حُكْمًا، وَالنَّجَاسَةُ لَيْسَتْ وَصْفًا ذَاتِيًّا لِلْأَعْيَانِ، وَإِنَّمَا هِيَ وَصْفٌ شَرْعِيٌّ مِنْ أَحْكَامِ الْإِيمَانِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّهَا لَا تُزَالُ إلَّا بِالْإِيمَانِ كَمَا لَمْ تَجُزْ الطَّهَارَةُ فِي الْأَعْضَاءِ إلَّا بِالْمَاءِ، إذْ الْمَنْعَانِ مُتَمَاثِلَانِ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ لَيْسَا بِجِنْسَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [مَسْأَلَة قَوْلَ الزُّورِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] وَهُوَ الْكَذِبُ. وَلَهُ مُتَعَلِّقَاتٌ، أَعْظَمُهَا عُقُوبَةُ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ فِي ذَاتِهِ، أَوْ صِفَاتِهِ أَوْ أَفْعَالِهِ، وَهُوَ الشِّرْكُ. وَيُلْحَقُ بِهِ الْكَذِبُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ عَلَى اللَّهِ؛ إذْ بِكَلَامِهِ يَتَكَلَّمُ. الْمُتَعَلِّقُ الثَّانِي: الشَّهَادَةُ. وَهُوَ تَصْوِيرُ الْبَاطِلِ بِصُورَةِ الْحَقِّ فِي طَرِيقِ الْحُكْمِ؛ «وَلِهَذَا عَظَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْرَهَا، فَذَكَرَ الْكَبَائِرَ، فَقَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ»، ثُمَّ

الآية الثامنة قوله تعالى ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب

قَالَ: «وَقَوْلُ الزُّورِ، أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ. فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ». وَمِنْ طَرِيقٍ آخَرَ: «عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ ثُمَّ قَرَأَ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30]». ثُمَّ تَتَفَاوَتُ مُتَعَلِّقَاتُ الْكَذِبِ بِحَسَبِ عِظَمِ ضَرَرِهِ وَقِلَّتِهِ. [الْآيَة الثَّامِنَة قَوْله تَعَالَى ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ] قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج: 32]: وَاحِدُهَا شَعِيرَةٌ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهَا الْمَعَالِمُ. وَحَقِيقَتُهَا أَنَّهَا فَعِيلَةٌ، مِنْ شَعَرَتْ، بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ. وَشَعَرْتُ: دَرَيْتُ، وَتَفَطَّنْتُ، وَعَلِمْتُ، وَتَحَقَّقْتُ؛ كُلَّهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي الْأَصْلِ، وَتَتَبَايَنُ الْمُتَعَلِّقَاتُ فِي الْعُرْفِ، هَذَا مَعْنَاهُ لُغَةً. فَأَمَّا الْمُرَادُ بِهَا فِي الشَّرْعِ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَفِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا عَرَفَةُ، وَالْمُزْدَلِفَةُ، وَالصَّفَا، وَالْمَرْوَةُ، وَمَحَلُّ الشَّعَائِرِ إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ.

مسألة معنى قوله تعالى لكم فيها منافع

قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ. الثَّانِي: أَنَّهَا مَنَاسِكُ الْحَجِّ وَتَعْظِيمُهُ اسْتِيفَاؤُهَا. الثَّالِثُ: أَنَّهَا الْبُدْنُ، وَتَعْظِيمُهَا اسْتِسْمَانُهَا. الرَّابِعُ: أَنَّهُ دِينُ اللَّهِ وَكُتُبُهُ، وَتَعْظِيمُهَا الْتِزَامُهَا. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا جَمِيعُ مَنَاسِكِ الْحَجِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] يُرِيدُ فَإِنَّ حَالَةَ التَّعْظِيمِ إذَا كَسَتْ الْعَبْدَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَأَصْلُهُ تُقَاةُ الْقَلْبِ بِصَلَاحِ السِّرِّ وَإِخْلَاصِ النِّيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّعْظِيمَ مِنْ أَفْعَالِ الْقَلْبِ، وَهُوَ الْأَصْلُ لِتَعْظِيمِ الْجَوَارِحِ بِالْأَفْعَالِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} [الحج: 33]: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا التِّجَارَةُ؛ وَيَكُونُ الْأَجَلُ عَلَى هَذَا الْقُدْرَةَ عَلَى الْحَجِّ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَنَافِعَ الثَّوَابُ، وَالْأَجَلَ يَوْمُ الدِّينِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَنَافِعَ الرُّكُوبُ، وَالدُّرُّ وَالنَّسْلُ، وَالْأَكْلُ؛ وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهَا الْبُدْنُ، وَالْأَجَلَ إيجَابُ الْهَدْيِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا الْبُدْنُ، وَتَدُلُّ عَلَى غَيْرِهَا إمَّا مِنْ طَرِيقِ الْمُمَاثَلَةِ، وَإِمَّا مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى. [مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33]: يُرِيدُ أَنَّهَا تَنْتَهِي إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، وَهُوَ الطَّوَافُ؛ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ: إنَّ الْحَجَّ كُلَّهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ، يَعْنِي أَنَّ شَعَائِرَ الْحَجِّ كُلَّهَا تَنْتَهِي إلَى الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: تَنْتَهِي إلَى مَكَّةَ، هَذَا عُمُومٌ لَا يُفِيدُ شَيْئًا فَإِنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِذِكْرِ الْبَيْتِ، فَلَا مَعْنَى لِإِلْغَائِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: إنَّهُ إلَى الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، وَهَذَا إنَّمَا بَنَوْهُ عَلَى أَنَّ الشَّعَائِرَ هِيَ الْبُدْنُ، وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ الشَّعَائِرِ مَعَ عُمُومِهَا.

الآية التاسعة قوله تعالى ولكل أمة جعلنا منسكا

[الْآيَة التَّاسِعَة قَوْله تَعَالَى وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا] قَوْله تَعَالَى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج: 34] {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج: 35]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ مَنْسِكٌ بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا، وَبَابُ مَفْعَلُ فِي اللُّغَةِ يَخْتَلِفُ حَالُ دَلَالَتِهِ بِاخْتِلَافِ حَالِ فِعْلِهِ؛ فَإِذَا كَانَ مَكْسُورَ الْعَيْنِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَاسْمُ الْمَكَانِ مِنْهُ مَفْعَلُ، وَالْمَصْدَرُ مَفْتُوحُ الْعَيْنِ، وَاسْمُ الزَّمَانِ مِنْهُ كَاسْمِ الْمَكَانِ، قَالُوا: أَتَتْ النَّاقَةُ عَلَى مَضْرِبِهَا وَمَحْلَبِهَا. وَمَا كَانَ الْعَيْنُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْهُ مَفْتُوحًا فَالْمَصْدَرُ وَالْمَكَانُ مَفْتُوحَانِ، كَالْمَشْرَبِ وَالْمَلْبَسِ، وَيَأْتِي لِغَيْرِهِ كَالْمَكْبَرِ مِنْ كَبُرَ يَكْبُرُ، وَمَا كَانَ عَلَى فَعَلَ يَفْعُلُ بِضَمِّ الْعَيْنِ فَبِمَنْزِلَةِ مَا كَانَ عَلَى يَفْعَلُ مَفْتُوحًا، لَمْ يَقُولُوا فِيهِ مَفْعَلُ بِضَمِّ الْعَيْنِ. وَقَدْ جَاءَ الْمَصْدَرُ مَكْسُورًا فِي هَذَا الْبَابِ، قَالُوا مَطْلِعَ الشَّمْسِ، وَالْحِجَازِيُّونَ يَفْتَحُونَهُ، وَقَدْ كَسَرُوا اسْمَ الْمَكَانِ أَيْضًا، فَقَالُوا: الْمَنْبِتُ لِمَوْضِعِهِ، وَالْمَطْلِعُ لِمَوْضِعِهِ، فَعَلَى هَذَا قُلْ: مَنْسَكًا وَمَنْسِكًا بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى مَنْسَكًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَاهُ، فَقِيلَ: مَعْنَى مَنْسَكًا حَجًّا. قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: ذَبْحًا قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: عِيدًا قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ نَسَكْت، وَلَهُ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ: الْأَوَّلُ: تَعَبَّدْت، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: 128] خُصَّ فِي الْحَجِّ عَلَى عَادَةِ اللُّغَةِ.

الآية العاشرة قوله تعالى والبدن جعلناها لكم من شعائر الله

الثَّانِي: قَالَ ثَعْلَبٌ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ النَّسِيكَةِ، وَالنَّسِيكَةُ: الْمُخَلَّصَةُ مِنْ الْخَبَثِ، وَيُقَالُ لِلذَّبْحِ نُسُكٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْعِبَادَاتِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُذْبَحُ لِغَيْرِهِ. وَادَّعَى ابْنُ عَرَفَةَ أَنَّ مَعْنَى نَسَكْت ذَهَبْت، وَكُلُّ مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبًا فَقَدْ نَسَكَ. وَلَا يَرْجِعُ إلَّا إلَى الْعِبَادَةِ وَالتَّقَرُّبِ. وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَلَمَّا رَأَى قَوْمٌ أَنَّ الْعِبَادَةَ تَتَكَرَّرُ قَالَ: إنَّ نَسَكْت بِمَعْنَى تَعَهَّدْت. وَاَلَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الْفَرَّاءُ مِنْ أَنَّهُ الْعِيدُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْمَنَاسِكِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 34] يَعْنِي يَذْبَحُونَهَا لِلَّهِ دُونَ غَيْرِهِ فِي هَدْيٍ أَوْ ضَحِيَّةٍ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي إقَامَةِ الصَّلَاةِ: وَقَدْ تَقَدَّمَ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج: 35] وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ. [الْآيَة الْعَاشِرَة قَوْله تَعَالَى وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ] الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج: 36]. فِيهَا ثَمَانِي عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36] الْبُدْنُ جَمْعُ بَدَنَةٍ، وَهِيَ الْوَاحِدَةُ مِنْ الْإِبِلِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ مِنْ الْبَدَانَةِ وَهِيَ السِّمَنُ، يُقَالُ: بَدُنَ الرَّجُلُ بِضَمِّ الْعَيْنِ: إذَا سَمِنَ، وَبَدَّنَ بِتَشْدِيدِهَا: إذَا كَبِرَ وَأَسَنَّ، وَإِنَّمَا

مسألة قراءة قوله تعالى فاذكروا اسم الله عليها صواف

سَمَّاهَا بِصِفَتِهَا لِيُنَبِّهَ بِذَلِكَ عَلَى اخْتِيَارِهَا، وَتَعْيِينِ الْأَفْضَلِ مِنْهَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَحَقُّ مَا اُخْتِيرَ لَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ وَعَطَاءٍ أَنَّ الْبَقَرَةَ يُقَالُ لَهَا بَدَنَةٌ وَحَكَى ابْنُ شَجَرَةَ أَنَّهُ يُقَالُ فِي الْغَنَمِ، وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ، وَالْبُدْنُ هِيَ الْإِبِلُ. وَالْهَدْيُ عَامٌّ فِي الْإِبِلِ، وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36] وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهَا بَعْضُ الشَّعَائِرِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج: 36] يَعْنِي مَنْفَعَةَ اللِّبَاسِ وَالْمَعَاشِ وَالرُّكُوبِ وَالْأَجْرِ، فَأَمَّا الْأَجْرُ فَهُوَ خَيْرٌ مُطْلَقًا، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَهُوَ خَيْرٌ إذَا قَوَّى عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ. [مَسْأَلَة قِرَاءَة قَوْله تَعَالَى فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36]: فِيهَا ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ: صَوَافَّ بِفَاءٍ مُطْلَقَةٍ، قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ. صَوَافِنَ بِنُونٍ، قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ. صَوَافِّي بِيَاءٍ مُعْجَمَةٍ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ تَحْتِهَا، قِرَاءَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. فَأَمَّا قَوْلُ صَوَافَّ فَمِنْ صَفَّ يَصُفُّ إذَا كَانَتْ جُمْلَةً؛ مِنْ مَقَامٍ أَوْ قُعُودٍ، أَوْ مُشَاةٍ، بَعْضُهَا إلَى جَانِبِ بَعْضٍ عَلَى الِاسْتِوَاءِ، وَيَكُونُ مَعْنَاهَا هَاهُنَا صَفَّتْ قَوَائِمَهَا فِي حَالِ نَحْرِهَا، أَوْ صَفَّتْ أَيْدِيَهَا قَالَ مُجَاهِدٌ. وَأَمَّا صَوَافِنُ فَالصَّافِنُ هُوَ الْقَائِمُ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَثْنِي إحْدَى رِجْلَيْهِ. وَأَمَّا صَوَافِّي فَهُوَ جَمْعُ صَافِيَةٍ، وَهِيَ الَّتِي أَخْلَصَتْ لِلَّهِ نِيَّةً وَجَلَالًا، وَإِشْعَارًا وَتَقْلِيدًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا إشْعَارَ، وَهُوَ بِدْعَةٌ؛ لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ؛ وَكَأَنَّهُ لَا خَبَرَ عِنْدَهُ لِلسُّنَّةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَلَا لِلْأَحَادِيثِ الْمُتَعَاضِدَةِ، فَهِيَ فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةِ بَعْدَهُ وَمَعَهُ وَالْخُلَفَاءُ لِلْإِشْعَارِ.

مسألة كيفية نحر الهدي

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} [الحج: 36] يَعْنِي انْحَرُوهَا، كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ اسْمٌ صَارَ كِنَايَةً عَنْ النَّحْرِ وَالذَّبْحِ، لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّهُ شَرْطٌ فِيهِ وَأَصْلٌ مَعَهُ. [مَسْأَلَة كَيْفِيَّةِ نَحْرِ الْهَدْيِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي كَيْفِيَّةِ نَحْرِ الْهَدْيِ: وَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ الصَّوَافِّ، فَقَالَ: يُقَيِّدُهَا ثُمَّ يَصُفُّهَا. وَقَالَ لِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ مِثْلَهُ. وَقَالَ: فَيَنْحَرُهَا قَائِمَةً، وَلَا يَعْقِلُهَا، إلَّا أَنْ يَضْعُفَ إنْسَانٌ فَيَتَخَوَّفَ أَنْ تَتَفَلَّتَ بَدَنَتُهُ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْحَرَهَا مَعْقُولَةً، وَإِنْ كَانَ يَقْوَى عَلَيْهَا فَلْيَنْحَرْهَا قَائِمَةً مَصْفُوفَةً يَدَاهَا بِالْقُيُودِ. قَالَ: وَسَأَلْت مَالِكًا عَنْ الْبَدَنَةِ تُنْحَرُ وَهِيَ قَائِمَةٌ هَلْ تُعَرْقَبُ؟ قَالَ: مَا أُحِبُّ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ يَضْعُفُ عَنْهَا، فَلَا يَقْوَى عَلَيْهَا، فَيَخَافُ أَنْ تَتَفَلَّتَ مِنْهُ، فَلَا أَرَى بَأْسًا أَنْ يُعَرْقِبَهَا، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ لِلْعُلَمَاءِ: الْأَوَّلُ: يُقِيمُهَا. الثَّانِي: يُقَيِّدُهَا أَوْ يَعْقِلُهَا. الثَّالِثُ: يُعَرْقِبُهَا. وَزَادَ مَالِكٌ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ قُوَّةِ الرَّجُلِ وَضَعْفِهِ. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِثْلُهُ. وَالْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: فِي نَحْرِهَا مُقَيَّدَةً: فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ بَدَنَتَهُ فَنَحَرَهَا قَالَ: " ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً سُنَّةَ مُحَمَّدٍ ". الثَّانِي: فِي نَحْرِهَا قَائِمَةً: فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحَرَ بِيَدِهِ سَبْعَ بُدْنٍ قِيَامًا».

مسألة الهدي تطوعا أو واجبا

وَقَدْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَأْخُذُ الْحَرْبَةَ بِيَدِهِ فِي عُنْفُوَانِ أَيْدِهِ فَيَنْحَرُ بِهَا فِي صَدْرِهَا وَيُخْرِجُهَا عَلَى سَنَامِهَا، فَلَمَّا أَسَنَّ كَانَ يَنْحَرُهَا بَارِكَةً لِضَعْفِهِ، وَيُمْسِكُ مَعَهُ رَجُلٌ الْحَرْبَةَ، وَآخَرُ بِخِطَامِهَا. وَالْعَقْلُ بَعْضُ تَقْيِيدٍ، وَالْعَرْقَبَةُ تَعْذِيبٌ لَا أَرَاهُ إلَّا لَوْ نَدَّ، فَلَا بَأْسَ بِعَرْقَبَتِهِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 36] يَعْنِي سَقَطَتْ عَلَى جُنُوبِهَا، يُرِيدُ مَيِّتَةً، كَنَّى عَنْ الْمَوْتِ بِالسُّقُوطِ عَلَى الْجَنْبِ، كَمَا كَنَّى عَنْ النَّحْرِ وَالذَّبْحِ بِذَكَرِ اسْمِ اللَّهِ، وَالْكِنَايَاتُ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ أَبْلَغُ مِنْ التَّصْرِيحِ قَالَ الشَّاعِرُ: لِمُعَفَّرٍ قَهْدٌ يُنَازِعُ شِلْوَهُ ... غُبْسٌ كَوَاسِبُ مَا يُمَنَّ طَعَامُهَا وَقَالَ آخَرُ: فَتَرَكْنَهُ جَزْرَ السِّبَاعَ يَنُشْنَهُ ... مَا بَيْنَ قُلَّةِ رَأْسِهِ وَالْمِعْصَمِ فِي مَعْنَاهُ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ. [مَسْأَلَة الْهَدْيُ تَطَوُّعًا أَوْ وَاجِبًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 36] وَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الْهَدْيُ تَطَوُّعًا أَوْ وَاجِبًا، فَأَمَّا هَدْيُ التَّطَوُّعِ فَيَأْكُلُ مِنْهُ، وَأَمَّا الْهَدْيُ الْوَاجِبُ فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ أَقْوَالٌ، أُصُولُهَا ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: لَا يَأْكُلُ مِنْهُ بِحَالٍ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ. الثَّانِي: أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ هَدْيِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، وَلَا يَأْكُلُ مِنْ الْوَاجِبِ بِحُكْمِ الْإِحْرَامِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ الْوَاجِبِ كُلِّهِ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: جَزَاءُ الصَّيْدِ، وَفِدْيَةُ الْأَذَى، وَنَذْرُ الْمَسَاكِينِ. وَتَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ إخْرَاجُهُ مِنْ مَالِهِ، فَكَيْفَ يَأْكُلُ مِنْهُ؟

مسألة الأكل والإطعام من الهدي

وَتَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّ مَا وَجَبَ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ الْتَحَقَ بِجَزَاءِ الصَّيْدِ. وَتَعَلَّقَ مَالِكٌ بِأَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ جَعَلَهُ اللَّهُ لِلْمَسَاكِينِ بِقَوْلِهِ: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة: 95]، وَحُكْمُ الْبَدَلِ حُكْمُ الْمُبْدَلِ، وَقَالَ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]. «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي فِدْيَةِ الْأَذَى: وَأَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ مُدَّيْنِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ»، وَنَذْرُ الْمَسَاكِينِ مُصَرَّحٌ بِهِ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْهَدَايَا فَهُوَ عَلَى أَصْلِ قَوْله تَعَالَى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36]. وَهَذَا نَصٌّ فِي إبَاحَةِ الْأَكْلِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحَرَ بُدْنَهُ، وَأَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ، فَطَبَخَهَا وَأَكَلَ مِنْهَا، وَشَرِبَ مِنْ مَرَقِهَا، وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ وَاجِبًا، وَهُوَ دَمُ الْقِرَانِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فِي حَجِّهِ». وَإِنَّمَا أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَكْلِ لَأَجْلِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ لَا تَرَى أَنْ تَأْكُلَ مِنْ نُسُكِهَا، فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِمُخَالَفَتِهِمْ، فَلَا جَرَمَ كَذَلِكَ شُرِعَ وَبَلَّغَ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ حِينَ أَهْدَى وَأَحْرَمَ. وَمَا تَعَلَّقَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ غَيْرُ صَحِيحٍ. فَلَيْسَتْ الْعِلَّةُ مَا ذُكِرَ مِنْ الْحَظْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ دَعْوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا. [مَسْأَلَة الْأَكْلَ وَالْإِطْعَامَ مِنْ الْهَدْي] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حُكْمِ قَوْله تَعَالَى {فَكُلُوا} [الحج: 36]، {وَأَطْعِمُوا} [الحج: 36] عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمَا وَاجِبَانِ قَالَهُ أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ أَبِي ثَعْلَبَةَ. الثَّانِي: أَنَّهُمَا مُسْتَحَبَّانِ قَالَهُ ابْنُ شُرَيْحٍ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَكْلَ مُسْتَحَبٌّ، وَالْإِطْعَامَ وَاجِبٌ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ صَرِيحُ قَوْلِ مَالِكٍ؛ فَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُمَا وَاجِبَانِ فَتَعَلَّقَ بِظَاهِرِ الْقَوْلِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَفِيهِ غَرِيبَةٌ مِنْ الْفِقْهِ لَمْ تَقَعْ لِي، مُذْ قَرَأْت الْعِلْمَ، لَهَا نَظِيرٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: إنَّهُمَا

مسألة أكل من لحم الهدي الذي لا يحل أكله

جَمِيعًا يُتْرَكَانِ؛ لِأَنَّهُمَا مُسْتَحَبَّانِ لَمْ يُتَصَوَّرْ شَرْعًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ إلَّا إتْلَافُهَا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، فَلَا يَصِحُّ اسْتِحْبَابُهُمَا مَعًا؛ وَإِنَّمَا يُقَالُ أَحَدُهُمَا وَاجِبٌ عَلَى الْبَدَلِ، أَوْ يُقَالُ الْأَكْلُ مُسْتَحَبٌّ، وَالْإِطْعَامُ وَاجِبٌ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ. وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ الْأَكْلَ وَاجِبٌ، وَقَدْ احْتَجَّ عُلَمَاؤُنَا بِأَمْثِلَةٍ وَرَدَتْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَلَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا سَقَطَ أَمْرٌ بِدَلِيلٍ لَا يَسْقُطُ غَيْرُهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. [مَسْأَلَة أَكَلَ مِنْ لَحْمِ الْهَدْيِ الَّذِي لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: إذَا أَكَلَ مِنْ لَحْمِ الْهَدْيِ الَّذِي لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، فَفِيهِ لِعُلَمَائِنَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا وَقَعَ فِي الْمَدِينَةِ أَنَّهُ إنْ كَانَ جَهْلٌ فَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. قَالَ مَالِكٌ: وَقَدْ كَانَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: يَأْكُلُ مِنْهُ. وَقَالَ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِنَا: إنَّهُ إذَا أَكَلَ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ أَوْ فِدْيَةِ الْأَذَى بَعْدَ أَنْ بَلَغَ مَحَلَّتَهُ غَرِمَ. وَمَاذَا يَغْرَمُ؟ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ الْهَدْيَ كُلَّهُ؛ قَالَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ. الثَّانِي: لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا غُرْمُ قَدْرِ مَا أَكَلَ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، لَا شَيْءَ غَيْرُهُ. وَكَذَا لَوْ نَذَرَ هَدْيَ الْمَسَاكِينِ، فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ بَلَغَ مَحِلَّهُ لَا يَغْرَمُ إلَّا مَا أَكَلَ، خِلَافًا لِلْمُدَوِّنَةِ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدِي مَا ذَكَرْته لَكُمْ، إذْ النَّحْرُ قَدْ وَقَعَ، وَالتَّعَدِّي إنَّمَا هُوَ فِي اللَّحْمِ، فَيَغْرَمُ بِقَدْرِ مَا تَعَدَّى فِيهِ. وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيمَا يَغْرَمُ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: فَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: إنَّهُ يَغْرَمُ قِيمَةَ اللَّحْمِ. وَقَالَ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ وَابْنِ حَبِيبٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ: إنَّهُ يَغْرَمُهُ طَعَامًا. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ إنَّمَا هُوَ فِي مُقَابَلَةِ الْهَدْيِ كُلِّهِ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ عِبَادَةً، وَلَيْسَ

مسألة معني قوله تعالى القانع والمعتر

حُكْمُ التَّعَدِّي حُكْمَ الْعِبَادَةِ، فَأَمَّا إذَا عَطِبَ الْوَاجِبُ كُلُّهُ قَبْلَ مَحَلِّهِ فَلِيَأْكُلْ مِنْهُ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ بَدَلَهُ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: فَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَعَطِبَ قَبْلَ مَحَلِّهِ لَمْ يَأْكُلْ؛ لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ أَنْ يَكُونَ أَسْرَعَ بِهِ لِيَأْكُلَهُ، وَهَذَا مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ، وَهِيَ: [مَسْأَلَة معني قَوْله تَعَالَى الْقَانِع والمعتر] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الْقَانِعَ: وَالْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: الْمُعْتَرَّ: وَفِي ذَلِكَ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ: الْقَانِعُ الْفَقِيرُ، وَالْمُعْتَرُّ الزَّائِرُ. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ، وَعُقْبَةُ: السَّائِلُ، وَقَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ. الثَّالِثُ: الْمُعْتَرُّ الَّذِي يَعْتَرِيك؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَالْقَانِعُ الْجَالِسُ فِي بَيْتِهِ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. الرَّابِعُ: الْقَانِعُ الَّذِي يَرْضَى بِالْقَلِيلِ. وَالْمُعْتَرُّ الَّذِي يَمُرُّ بِك وَلَا يُبَايِتُكَ؛ قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ. الْخَامِسُ: الَّذِي يَقْنَعُ هُوَ الْمُتَعَفِّفُ، وَالْمُعْتَرُّ السَّائِلُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: هَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ، فَأَمَّا الْقَانِعُ فَفِعْلُهُ قَنَعَ يَقْنَعُ، وَلَهُ فِي اللُّغَةِ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا الَّذِي يَرْضَى بِمَا عِنْدَهُ. وَالثَّانِي: الَّذِي يُذَلُّ، وَكِلَاهُمَا يَنْطَلِقُ عَلَى الْفَقِيرِ، فَإِنَّهُ ذَلِيلٌ. فَإِنْ وَقَفَ عِنْدَ رِزْقِهِ فَهُوَ قَانِعٌ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ فَهُوَ مُلْحِفٌ. وَأَمَّا الْمُعْتَرُّ وَالْمُعْتَرِي فَهُمَا مُتَقَارِبَانِ مَعْنًى، مَعَ افْتِرَاقِهِمَا اشْتِقَاقًا، فَالْمُعْتَرُّ مُضَاعَفٌ، وَالْمُعْتَرِي مُعْتَلُّ اللَّامِ، وَمِنْ النَّادِرِ فِي الْعَرَبِيَّةِ كَوْنُهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ قَالَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ: وَشَيْبَةُ فِيهِمْ وَالْوَلِيدُ وَمِنْهُمْ ... أُمَيَّةُ مَأْوَى الْمُعْتَرِينَ وَذِي الرَّحَلِ

مسألة الهدي يقسم أثلاثا

يُرِيدُ بِالْمُعْتَرِينَ مَنْ يُقِيمُ لِلزِّيَارَةِ، وَذُو الرَّحْلِ مَنْ يَمُرُّ بِك فَتُضَيِّفُهُ. وَقَالَ زُهَيْرٌ: عَلَى مُكْثِرِيهِمْ رِزْقُ مَنْ يَعْتَرِيهِمْ ... وَعِنْدَ الْمُقِلِّينَ السَّمَاحَةُ وَالْبَذْلُ وَيُعَضِّدُ هَذَا قَوْله تَعَالَى: {إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 54] يُرِيدُ نَزَلَ بِك؛ فَهَذَا كُلُّهُ فِي الْمُعْتَلِّ. وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي الْمُضَاعَفِ، فَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ: يُعْطِي ذَخَائِرَ مَالِهِ ... مُعَتَّرَهُ قَبْلَ السُّؤَالِ وَقَالَ الْكُمَيْتُ: أَيَا خَيْرَ مَنْ يَأْتِهِ الطَّارِقُو ... نَ إمَّا عِيَادًا وَإِمَّا اعْتِرَارًا وَقَالَ آخَرُ: لَمَالُ الْمَرْءِ يُصْلِحُهُ فَيُغْنِي ... مَفَاقِرَهُ أَعَفُّ مِنْ الْقُنُوعِ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: وَاَلَّذِي عِنْدِي فِيهِ أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِمَا مُتَقَارِبٌ كَتَقَارُبِ مَعْنَى الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ. وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْأَكْلِ وَإِطْعَامِ الْفَقِيرِ. وَالْفَقِيرُ عَلَى قِسْمَيْنِ: مُلَازِمٌ لَك، وَمَارٌّ بِك، فَأَذِنَ اللَّهُ فِي إطْعَامِ الْكُلِّ مِنْهُمَا مَعَ اخْتِلَافِ حَالِهِمَا، وَمِنْ هَاهُنَا وَهِمَ بَعْضُ النَّاسِ فِيهِ، فَقَالَ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: إنَّ الْقَانِعَ هُوَ جَارُك الْغَنِيُّ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ وَجْهٌ كَمَا بَيَّنَّاهُ. [مَسْأَلَة الْهَدْيَ يُقَسَّمُ أَثْلَاثًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْهَدْيَ يُقَسَّمُ أَثْلَاثًا: قِسْمٌ يَأْكُلُهُ صَاحِبُهُ، وَقِسْمٌ يَأْخُذُهُ الْقَانِعُ، وَقِسْمٌ يَأْخُذُهُ الْمُعْتَرُّ، وَإِنَّمَا يُقَسَّمُ قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يَأْخُذُهُ الْآكِلُ، وَقِسْمٌ يَأْخُذُهُ الْقَانِعُ وَالْمُعْتَرُّ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: لَيْسَ عِنْدَنَا فِي الضَّحَايَا قِسْمٌ مَعْلُومٌ مَوْصُوفٌ. قَالَ مَالِكٌ فِي حَدِيثِهِ: بَلَغَنِي عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ شَيْءٌ لَيْسَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَنَا، وَهُوَ

الآية الحادية عشرة قوله تعالى لن ينال الله لحومها ولا دماؤها

الَّذِي أَشَرْنَا إلَيْهِ: قِسْمَتُهَا أَثْلَاثًا. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5]، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِيُجَزَّأَ أَثْلَاثًا؛ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ لَيْسَ بِأَصْلٍ يُرْجَعُ إلَيْهِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ثَوْبَانَ: «ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَاةٍ ثُمَّ قَالَ لِي: أَصْلِحْ لَحْمَهَا، فَمَا زَالَ يَأْكُلُ مِنْهُ، حَتَّى قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ صَدَقَةً». وَهَذَا نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ. [الْآيَة الْحَادِيَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا] وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج: 37]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ} [الحج: 37] مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُشْكِلَةِ؛ فَإِنَّ النَّيْلَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَارِئِ سُبْحَانَهُ، وَلَكِنْ عَبَّرَ بِهِ تَعْبِيرًا مَجَازِيًّا عَنْ الْقَبُولِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا نَالَ الْإِنْسَانَ مُوَافِقٌ أَوْ مُخَالِفٌ؛ فَإِنْ نَالَهُ مُوَافِقٌ قَبِلَهُ، أَوْ مُخَالِفٌ كَرِهَهُ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْأَفْعَالِ بَدَنِيَّةً كَانَتْ أَوْ مَالِيَّةً بِالْإِضَافَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ إذْ لَا يُخْتَلَفُ فِي حَقِّهِ إلَّا بِمُقْتَضَى نَهْيِهِ وَأَمْرِهِ، وَإِنَّمَا مَرَاتِبُهَا الْإِخْلَاصُ فِيهَا وَالتَّقْوَى مِنْهَا. وَلِذَلِكَ قَالَ: لَنْ يَصِلَ إلَى اللَّهِ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا، وَإِنَّمَا يَصِلُ إلَيْهِ التَّقْوَى مِنْكُمْ، فَيَقْبَلُهُ وَيَرْفَعُهُ إلَيْهِ وَيَسْمَعُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ} [الحج: 37] امْتَنَّ عَلَيْنَا سُبْحَانَهُ بِتَذْلِيلِهَا لَنَا وَتَمْكِينِنَا مِنْ تَصْرِيفِهَا، وَهِيَ أَعْظَمُ مِنَّا أَبْدَانًا، وَأَقْوَى أَعْضَاءً، ذَلِكَ لِيَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ الْأُمُورَ لَيْسَتْ عَلَى مَا تَظْهَرُ إلَى الْعَبْدِ مِنْ التَّدْبِيرِ

الآية الثانية عشرة قوله تعالى أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا

وَإِنَّمَا هِيَ بِحَسَبِ مَا يُدَبِّرُهَا الْعَزِيزُ الْقَدِيرُ، فَيَغْلِبُ الصَّغِيرُ الْكَبِيرَ، لِيَعْلَمَ الْخَلْقُ أَنَّ الْغَالِبَ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [الحج: 37] ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اسْمَهُ عَلَيْهَا فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا فَقَالَ: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36]، وَذَكَرَ هَاهُنَا التَّكْبِيرَ، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَجْمَعُ بَيْنَهَا إذَا نَحَرَ هَدْيَهُ، فَيَقُولُ: " بِسْمِ اللَّهِ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ". وَهَذَا مِنْ فِقْهِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الذَّبْحِ وَالتَّكْبِيرُ عِنْدَ الْإِحْلَالِ بَدَلًا مِنْ التَّلْبِيَةِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَفِعْلُ ابْنِ عُمَرَ أَفْقَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الثَّانِيَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا] وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: سَبَبُ نُزُولِهَا: وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجُوا نَبِيَّهُمْ، إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، لَيَهْلِكُنَّ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39]. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَعَرَفْت أَنَّهُ سَيَكُونُ قِتَالٌ»؛ خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ. الثَّانِي: قَالَ مُجَاهِدٌ: الْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ، نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مُهَاجِرِينَ، وَكَانُوا يُمْنَعُونَ، فَأَذِنَ اللَّهُ فِي قِتَالِهِمْ، وَهِيَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ. الثَّالِثُ: قَالَ الضَّحَّاكُ: اسْتَأْذَنَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ، فَقِيلَ: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38]

مسألة معنى قوله تعالى أذن

فَلَمَّا هَاجَرَ نَزَلَتْ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39]، وَهَذَا نَاسِخٌ لِكُلِّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ إعْرَاضٍ وَتَرْكٍ وَصَفْحٍ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي قِسْمِ النَّسْخِ الثَّانِي مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى أُذِنَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَعْنَى {أُذِنَ} [الحج: 39] أُبِيحَ، فَإِنَّهُ لَفْظٌ مَوْضُوعٌ فِي اللُّغَةِ لِإِبَاحَةِ كُلِّ مَمْنُوعٍ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِبَاحَةَ مِنْ الشَّرْعِ، وَأَنَّهُ لَا يُحْكَمُ قَبْلَ الشَّرْعِ، لَا إبَاحَةً وَلَا حَظْرًا إلَّا مَا حَكَمَ بِهِ الشَّرْعُ، وَبَيَّنَهُ، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ كَانَ بَعَثَ رَسُولَهُ وَدَعَا قَوْمَهُ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَتَصَرَّفُوا إلَّا بِأَمْرٍ، وَلَا فَعَلُوا إلَّا بِإِذْنٍ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: بَيَّنَّا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَعَثَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحُجَّةِ دَعَا قَوْمَهُ إلَى اللَّهِ دُعَاءً دَائِمًا عَشَرَةَ أَعْوَامٍ، لِإِقَامَةِ حُجَّةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَوَفَاءً بِوَعْدِهِ الَّذِي امْتَنَّ بِهِ بِفَضْلِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15]، وَاسْتَمَرَّ النَّاسُ فِي الطُّغْيَانِ، وَمَا اسْتَدَلُّوا بِوَاضِحِ الْبُرْهَانِ، وَحِينَ أَعْذَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ إلَى الْخَلْقِ، وَأَبَوْا عَنْ الصِّدْقِ أَمَرَ رَسُولَهُ بِالْقِتَالِ، لِيَسْتَخْرِجَ الْإِقْرَارَ بِالْحَقِّ مِنْهُمْ بِالسَّيْفِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قُرِئَ يُقَاتِلُونَ بِكَسْرِ التَّاءِ وَفَتْحِهَا، فَإِنْ كَسَرْت التَّاءَ كَانَ خَبَرًا عَنْ فِعْلِ الْمَأْذُونِ لَهُمْ، وَإِنْ فَتَحْتَهَا كَانَ خَبَرًا عَنْ فِعْلِ غَيْرِهِمْ بِهِمْ، وَإِنَّ الْإِذْنَ وَقَعَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَهُمْ، فَفِي فَتْحِ التَّاءِ بَيَانُ سَبَبِ الْقِتَالِ، وَقَدْ كَانَ الْكُفَّارُ يَتَعَمَّدُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ بِالْإِذَايَةِ، وَيُعَامِلُونَهُمْ بِالنِّكَايَةِ: لَقَدْ خَنَقَهُ الْمُشْرِكُونَ حَتَّى كَادَتْ نَفْسُهُ تَذْهَبُ، فَتَدَارَكَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر: 28] وَقَدْ بَلَغَ بِأَصْحَابِهِ إلَى الْمَوْتِ؛ فَقَدْ قَتَلَ أَبُو جَهْلٍ سُمَيَّةَ أُمَّ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ. وَقَدْ عُذِّبَ بِلَالٌ، وَمَا بَعْدَ هَذَا إلَّا الِانْتِصَارُ بِالْقِتَالِ. وَالْأَقْوَى عِنْدِي قِرَاءَةُ كَسْرِ التَّاءِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ وُقُوعِ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَمَّا

الآية الثالثة عشرة قوله تعالى الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق

فَعَلُوا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ فِي الْقِتَالِ عِنْدَ اسْتِقْرَارِهِ بِالْمَدِينَةِ، فَأَخْرَجَ الْبُعُوثَ، ثُمَّ خَرَجَ بِنَفْسِهِ، حَتَّى أَظْهَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]. . [الْآيَة الثَّالِثَةُ عَشْرَة قَوْله تَعَالَى الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ] ٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي الْحَرْبِ، وَلَمْ تَحِلَّ لَهُ الدِّمَاءُ»، إنَّمَا يُؤْمَرُ بِالدُّعَاءِ إلَى اللَّهِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى، وَالصَّفْحِ عَنْ الْجَاهِلِ [مُدَّةَ عَشَرَةَ أَعْوَامٍ، لِإِقَامَةِ حُجَّةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَوَفَاءً بِوَعْدِهِ الَّذِي امْتَنَّ بِهِ بِفَضْلِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] فَاسْتَمَرَّ الطُّغْيَانُ وَمَا اسْتَدَلُّوا بِوَاضِحِ الْبُرْهَانِ]. وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ اضْطَهَدَتْ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى فَتَنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَنَفَوْهُمْ عَنْ بِلَادِهِمْ، فَهُمْ بَيْنَ مَفْتُونٍ فِي دِينِهِ، وَمُعَذِّبٍ، وَبَيْنَ هَارِبٍ فِي الْبِلَادِ مُغَرَّبٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ إلَى الْمَدِينَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَبَرَ عَلَى الْأَذَى، فَلَمَّا عَتَتْ قُرَيْشٌ عَلَى اللَّهِ، وَرَدُّوا أَمْرَهُ وَكَرَامَتَهُ، وَكَذَّبُوا نَبِيَّهُ، وَعَذَّبُوا مَنْ آمَنَ بِهِ وَعَبَدَهُ وَوَحَّدَهُ، وَصَدَّقَ نَبِيَّهُ، وَاعْتَصَمَ بِدِينِهِ، أَذِنَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ فِي الْقِتَالِ وَالِامْتِنَاعِ وَالِانْتِصَارِ مِمَّنْ ظَلَمَهُمْ وَبَغَى عَلَيْهِمْ؛ فَكَانَتْ أَوَّلُ آيَةٍ أُنْزِلَتْ فِي إذْنِهِ لَهُ بِالْحَرْبِ وَإِحْلَالِهِ لَهُ الدِّمَاءَ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39] إلَى قَوْلِهِ: (" الْأُمُورِ ").

مسألة نسبة الفعل الموجود من الملجأ المكره إلى الذي ألجأه وأكرهه

أَيْ إنَّمَا أَحْلَلْت لَهُمْ الْقِتَالَ؛ لِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَنْبٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّاسِ إلَّا أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ، وَأَنَّهُمْ إذَا ظَهَرُوا أَقَامُوا الصَّلَاةَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ. وَعَنْ هَذَا عَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا أَخْبَرَنَا نَصْرُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الزَّاهِدِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُوسَى، أَنْبَأَنَا الْمَرْوَزِيِّ، حَدَّثَنَا الْفَرَبْرِيُّ، حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُسْنَدِيُّ، حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ: سَمِعْت أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ». [مَسْأَلَة نِسْبَةِ الْفِعْلِ الْمَوْجُودِ مِنْ الْمُلْجَأِ الْمُكْرَهِ إلَى الَّذِي أَلْجَأَهُ وَأَكْرَهَهُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} [الحج: 40] دَلِيلٌ عَلَى نِسْبَةِ الْفِعْلِ الْمَوْجُودِ مِنْ الْمُلْجَأِ الْمُكْرَهِ إلَى الَّذِي أَلْجَأَهُ وَأَكْرَهَهُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمُ فِعْلِهِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ يَلْزَمُهُ الْغُرْمُ، وَكَذَلِكَ الْمُكْرَهُ عَلَى قَتْلِ الْغَيْرِ يَلْزَمُهُ الْقَتْلُ. وَرُوِيَ فِي مُخْتَصَرِ الطَّبَرِيِّ أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَأْذَنُوهُ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ، إذْ آذَوْهُ بِمَكَّةَ غِيلَةً، فَنَزَلَتْ: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38] فَلَمَّا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ أَطْلَقَ قِتَالَهُمْ، وَهَذَا إنْ كَانَ صَحِيحًا فَقَدْ نَسَخَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ فَقَتَلَهُ مَعَ أَصْحَابِهِ غِيلَةً».

الآية الرابعة عشرة قوله تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى

وَكَذَلِكَ «بَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَهْطًا إلَى أَبِي رَافِعٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْحَقِيقِ، فَقَتَلُوهُ غِيلَةً». [الْآيَة الرَّابِعَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلَّا إذَا تَمَنَّى] أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج: 52] {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ - وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 53 - 54]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ، أَظْهَرُهَا وَمَا فِيهَا ظَاهِرٌ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَلَسَ فِي نَادٍ مِنْ أَنْدِيَةِ قَوْمِهِ، كَثِيرٌ أَهْلُهُ، فَتَمَنَّى يَوْمَئِذٍ أَلَّا يَأْتِيَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْءٌ فَيَنْفِرُوا عَنْهُ يَوْمَئِذٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1] فَقَرَأَ حَتَّى إذَا بَلَغَ إلَى قَوْلِهِ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19] {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم: 20]. أَلْقَى الشَّيْطَانُ كَلِمَتَيْنِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَا، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى. فَتَكَلَّمَ بِهَا، ثُمَّ مَضَى بِقِرَاءَةِ السُّورَةِ كُلِّهَا، ثُمَّ سَجَدَ فِي آخَرِ السُّورَةِ، وَسَجَدَ الْقَوْمُ جَمِيعًا مَعَهُ، وَرَفَعَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ تُرَابًا إلَى جَبْهَتِهِ وَسَجَدَ عَلَيْهِ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، فَلَمَّا أَمْسَى أَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ السُّورَةَ، فَلَمَّا بَلَغَ الْكَلِمَتَيْنِ قَالَ: مَا جِئْتُك بِهَاتَيْنِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا} [الإسراء: 73] {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا} [الإسراء: 74] {إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء: 75] فَمَا زَالَ مَغْمُومًا مَهْمُومًا حَتَّى نَزَلَتْ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52].»

مسألة النبي إذا أرسل الله إليه الملك بوحيه

وَفِي رِوَايَةٍ «أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لَهُ: لَقَدْ تَلَوْتَ يَا مُحَمَّدُ عَلَى النَّاسِ شَيْئًا لَمْ آتِك بِهِ، فَحَزِنَ وَخَافَ خَوْفًا شَدِيدًا؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ: إنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ رَسُولٌ وَلَا نَبِيٌّ تَمَنَّى كَمَا تَمَنَّى، وَأَحَبَّ كَمَا أَحَبَّ، إلَّا وَالشَّيْطَانُ قَدْ أَلْقَى فِي أُمْنِيَّتِهِ كَمَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ». [مَسْأَلَة النَّبِيَّ إذَا أَرْسَلَ اللَّهُ إلَيْهِ الْمَلَكُ بِوَحْيِهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمُوا أَنَارَ اللَّهُ أَفْئِدَتكُمْ بِنُورِ هُدَاهُ، وَيَسَّرَ لَكُمْ مَقْصِدَ التَّوْحِيدِ وَمَغْزَاهُ أَنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ، فَسُبْحَانَ مَنْ يَتَفَضَّلُ بِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَيَصْرِفُهُ عَمَّنْ يَشَاءُ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْآيَةِ فِي فَصْلِ تَنْبِيهِ الْغَبِيِّ عَلَى مِقْدَارِ النَّبِيِّ بِمَا نَرْجُو بِهِ عِنْدَ اللَّهِ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى، فِي مَقَامِ الزُّلْفَى، وَنَحْنُ الْآنَ نَجْلُو بِتِلْكَ الْفُصُولِ الْغَمَاءَ، وَنُرَقِّيكُمْ بِهَا عَنْ حَضِيضِ الدَّهْمَاءِ، إلَى بِقَاعِ الْعُلَمَاءِ فِي عَشْرِ مَقَامَاتٍ: الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبِيَّ إذَا أَرْسَلَ اللَّهُ إلَيْهِ الْمَلَكُ بِوَحْيِهِ، فَإِنَّهُ يَخْلُقُ لَهُ الْعِلْمَ بِهِ، حَتَّى يَتَحَقَّقَ أَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا صَحَّتْ الرِّسَالَةُ، وَلَا تَبَيَّنَتْ النُّبُوَّةُ، فَإِذَا خَلَقَ اللَّهُ لَهُ الْعِلْمَ بِهِ تَمَيَّزَ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَثَبَتَ الْيَقِينُ، وَاسْتَقَامَ سَبِيلُ الدِّينِ، وَلَوْ كَانَ النَّبِيُّ إذَا شَافَهَهُ الْمَلَكُ بِالْوَحْيِ لَا يَدْرِي أَمَلُك هُوَ أَمْ إنْسَانٌ، أَمْ صُورَةٌ مُخَالِفَةٌ لِهَذِهِ الْأَجْنَاسِ أَلْقَتْ عَلَيْهِ كَلَامًا، وَبَلَّغَتْ إلَيْهِ قَوْلًا لَمْ يَصِحَّ لَهُ أَنْ يَقُولَ: إنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَا ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّهُ أَمْرُ اللَّهِ، فَهَذِهِ سَبِيلٌ مُتَيَقَّنَةٌ، وَحَالَةٌ مُتَحَقِّقَةٌ، لَا بُدَّ مِنْهَا، وَلَا خِلَافَ فِي الْمَنْقُولِ وَلَا فِي الْمَعْقُولِ فِيهَا، وَلَوْ جَازَ لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَتَمَثَّلَ فِيهَا، أَوْ يَتَشَبَّهَ بِهَا مَا أَمِنَاهُ عَلَى آيَةٍ، وَلَا عَرَفْنَا مِنْهُ بَاطِلًا مِنْ حَقِيقَةٍ؛ فَارْتَفَعَ بِهَذَا الْفَصْلِ اللَّبْسُ، وَصَحَّ الْيَقِينُ فِي النَّفْسِ. . [مَسْأَلَة اللَّهَ قَدْ عَصَمَ رَسُولَهُ مِنْ الْكُفْرِ] الْمَقَامُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَصَمَ رَسُولَهُ مِنْ الْكُفْرِ، وَآمَنَهُ مِنْ الشِّرْكِ، وَاسْتَقَرَّ ذَلِكَ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ بِإِجْمَاعِهِمْ فِيهِ، وَإِطْبَاقِهِمْ عَلَيْهِ؛ فَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يَكْفُرَ بِاَللَّهِ، أَوْ يَشُكَّ فِيهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ؛ بَلْ لَا تَجُوزُ عَلَيْهِ الْمَعَاصِي فِي الْأَفْعَالِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُنْسَبَ إلَى الْكُفْرِ فِي الِاعْتِقَادِ؛ بَلْ هُوَ الْمُنَزَّهُ عَنْ ذَلِكَ فِعْلًا وَاعْتِقَادًا. وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ بِأَوْضَحِ دَلِيلٍ.

مسألة الله قد عرف رسوله بنفسه وبصره بأدلته

[مَسْأَلَة اللَّهَ قَدْ عَرَّفَ رَسُولَهُ بِنَفْسِهِ وَبَصَّرَهُ بِأَدِلَّتِهِ] الْمَقَامُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَرَّفَ رَسُولَهُ بِنَفْسِهِ، وَبَصَّرَهُ بِأَدِلَّتِهِ، وَأَرَاهُ مَلَكُوتَ سَمَوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، وَعَرَّفَهُ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنْ إخْوَتِهِ، فَلَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا نَعْرِفُهُ الْيَوْمَ، وَنَحْنُ حُثَالَةُ أُمَّتِهِ؛ وَمَنْ خَطَرَ لَهُ ذَلِكَ فَهُوَ مِمَّنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ، غَيْرَ عَارِفٍ بِنَبِيِّهِ وَلَا بِرَبِّهِ. الْمَقَامُ الرَّابِعُ: تَأَمَّلُوا فَتَحَ اللَّهُ أَغْلَاقَ النَّظَرِ عَنْكُمْ إلَى قَوْلِ الرُّوَاةُ الَّذِينَ هُمْ بِجَهْلِهِمْ أَعْدَاءٌ عَلَى الْإِسْلَامِ، مِمَّنْ صَرَّحَ بِعَدَاوَتِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا جَلَسَ مَعَ قُرَيْشٍ تَمَنَّى أَلَّا يَنْزِلَ عَلَيْهِ مِنْ اللَّهِ وَحْيٌ، فَكَيْفَ يَجُوزُ لِمَنْ مَعَهُ أَدْنَى مُسْكَةٍ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آثَرَ وَصْلَ قَوْمِهِ عَلَى وَصْلِ رَبِّهِ، وَأَرَادَ أَلَا يَقْطَعَ أُنْسَهُ بِهِمْ بِمَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ مِنْ الْوَحْيِ الَّذِي كَانَ حَيَاةَ جَسَدِهِ وَقَلْبِهِ، وَأُنْسَ وَحْشَتِهِ، وَغَايَةَ أُمْنِيَّتِهِ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجْوَدَ النَّاسِ؛ فَإِذَا جَاءَهُ جِبْرِيلُ كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ فَيُؤْثِرُ عَلَى هَذَا مُجَالَسَةَ الْأَعْدَاءِ. [مَسْأَلَة قَوْلَ الشَّيْطَانِ تِلْكَ الْغَرَانِقَةُ الْعُلَا وَإِنْ شَفَاعَتَهَا تُرْتَجَى لِلنَّبِيِّ] الْمَقَامُ الْخَامِسُ: أَنَّ قَوْلَ الشَّيْطَانِ تِلْكَ الْغَرَانِقَةُ الْعُلَا، وَإِنَّ شَفَاعَتَهَا تُرْتَجَى لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبِلَهُ مِنْهُ؛ فَالْتَبَسَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ بِالْمَلَكِ، وَاخْتَلَطَ عَلَيْهِ التَّوْحِيدُ بِالْكُفْرِ، حَتَّى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا. وَأَنَا مِنْ أَدْنَى الْمُؤْمِنِينَ مَنْزِلَةً، وَأَقَلِّهِمْ مَعْرِفَةً بِمَا وَفَّقَنِي اللَّهُ لَهُ، وَآتَانِي مِنْ عِلْمِهِ، لَا يَخْفَى عَلَيَّ وَعَلَيْكُمْ أَنَّ هَذَا كُفْرٌ لَا يَجُوزُ وُرُودُهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَلَوْ قَالَهُ أَحَدٌ لَكُمْ لَتَبَادَرَ الْكُلُّ إلَيْهِ قَبْلَ التَّفْكِيرِ بِالْإِنْكَارِ وَالرَّدْعِ، وَالتَّثْرِيبِ وَالتَّشْنِيعِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَجْهَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَالَ الْقَوْلِ، وَيَخْفَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ، وَلَا يَتَفَطَّنُ لِصِفَةِ الْأَصْنَامِ بِأَنَّهَا الْغَرَانِقَةُ الْعُلَا، وَأَنَّ شَفَاعَتَهَا تُرْتَجَى. وَقَدْ عَلِمَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا أَنَّهَا جَمَادَاتٌ لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ، وَلَا تَنْطِقُ وَلَا تَضُرُّ، وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَنْصُرُ وَلَا تَشْفَعُ، بِهَذَا كَانَ يَأْتِيه جِبْرِيلُ الصَّبَاحُ وَالْمَسَاءُ، وَعَلَيْهِ انْبَنَى التَّوْحِيدُ، وَلَا يَجُوزُ نَسْخُهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْمَنْقُولِ، فَكَيْفَ يَخْفَى هَذَا عَلَى الرَّسُولِ؟ ثُمَّ لَمْ يَكْفِ هَذَا حَتَّى قَالُوا: إنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا عَادَ إلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ لِيُعَارِضَهُ فِيمَا أَلْقَى إلَيْهِ الْوَحْيُ كَرَّرَهَا عَلَيْهِ جَاهِلًا بِهَا تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ أَنْكَرَهَا عَلَيْهِ جِبْرِيلُ، وَقَالَ لَهُ: مَا جِئْتُك بِهَذِهِ. فَحَزِنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِذَلِكَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} [الإسراء: 73]

مسألة معنى قوله تعالى لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا

، فَيَا لِلَّهِ وَالْمُتَعَلِّمِينَ وَالْعَالَمِينَ مِنْ شَيْخٍ فَاسِدٍ وَسُوسٍ هَامِدٍ، لَا يَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَافِيَةً لِمَا زَعَمُوا، مُبْطِلَةً لِمَا رَوَوْا وَتَقَوَّلُوا، وَهُوَ: الْمَقَامُ السَّادِسُ: وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ الْعَرَبِيِّ: كَادَ يَكُونُ كَذَا: مَعْنَاهُ قَارَبَ وَلَمْ يَكُنْ؛ فَأَخْبَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ قَارَبُوا أَنْ يَفْتِنُوهُ عَنْ الَّذِي أُوحِيَ إلَيْهِ، وَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، ثُمَّ قَالَ: لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ. وَهُوَ: الْمَقَامُ السَّابِعُ: وَلَمْ يَفْتَرِ، وَلَوْ فَتَنُوك وَافْتَرَيْت لَاتَّخَذُوك خَلِيلًا، فَلَمْ تُفْتَتَنْ وَلَا افْتَرَيْت، وَلَا عَدُّوك خَلِيلًا. وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاك وَهُوَ: [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا] الْمَقَامُ الثَّامِنُ: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا} [الإسراء: 74]؛ فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ ثَبَّتَهُ، وَقَرَّرَ التَّوْحِيدَ وَالْمَعْرِفَةَ فِي قَلْبِهِ، وَضَرَبَ عَلَيْهِ سُرَادِقَ الْعِصْمَةِ، وَآوَاهُ فِي كَنَفِ الْحُرْمَةِ. وَلَوْ وَكَّلَهُ إلَى نَفْسِهِ، وَرَفَعَ عَنْهُ ظِلَّ عِصْمَتِهِ لَحْظَةً لَأَلْمَمَت بِمَا رَامُوهُ، وَلَكِنَّا أَمَرْنَا عَلَيْك بِالْمُحَافَظَةِ، وَأَشْرَقْنَا بِنُورِ الْهِدَايَةِ فُؤَادَك، فَاسْتَبْصِرْ وَأَزِحْ عَنْك الْبَاطِلَ، وَادْحَرْ. فَهَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ فِي عِصْمَتِهِ مِنْ كُلِّ مَا نُسِبَ إلَيْهِ، فَكَيْفَ يَتَأَوَّلُهَا أَحَدٌ؟ عَدُّوا عَمَّا نُسِبَ مِنْ الْبَاطِلِ إلَيْهِ. الْمَقَامُ التَّاسِعُ: قَوْلُهُ: فَمَا زَالَ مَهْمُومًا حَتَّى نَزَلَتْ عَلَيْهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} [الحج: 52] الْآيَةَ. فَأَمَّا غَمُّهُ وَحُزْنُهُ فَبِأَنْ تَمَكَّنَ الشَّيْطَانُ مِمَّا تَمَكَّنَ، مِمَّا يَأْتِي بَيَانُهُ؛ وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعِزُّ عَلَيْهِ أَنْ يَنَالَ الشَّيْطَانُ مِنْهُ شَيْئًا وَإِنْ قَلَّ تَأْثِيرُهُ. [مَسْأَلَة بَرَاءَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا نُسِبَ إلَيْهِ] الْمَقَامُ الْعَاشِرُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَصٌّ فِي غَرَضِنَا، دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا، أَصْلٌ فِي بَرَاءَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا نُسِبَ إلَيْهِ أَنَّهُ قَالَهُ عِنْدَنَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مِنْ سُنَّتِهِ فِي رُسُلِهِ وَسِيرَتِهِ فِي أَنْبِيَائِهِ أَنَّهُمْ إذَا قَالُوا عَنْ اللَّهِ قَوْلًا زَادَ الشَّيْطَانُ فِيهِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، كَمَا يَفْعَلُ سَائِرُ الْمَعَاصِي، كَمَا تَقُولُ: أَلْقَيْت فِي الدَّارِ كَذَا، وَأَلْقَيْت فِي الْعِكْمِ كَذَا، وَأَلْقَيْت فِي الْكِيسِ كَذَا. فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الشَّيْطَانَ زَادَ فِي الَّذِي قَالَهُ

الآية الخامسة عشرة قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم

النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا أَنَّ النَّبِيَّ قَالَهُ؛ وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا قَرَأَ تَلَا قُرْآنًا مُقَطَّعًا، وَسَكَتَ فِي مَقَاطِعِ الْآيِ سُكُوتًا مُحَصَّلًا، وَكَذَلِكَ كَانَ حَدِيثُهُ مُتَرَسِّلًا مُتَأَنِّيًا، فَيَتَّبِعُ الشَّيْطَانُ تِلْكَ السَّكَتَاتِ الَّتِي بَيْنَ قَوْلِهِ: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم: 20] وَبَيْنَ قَوْله تَعَالَى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى} [النجم: 21]، فَقَالَ يُحَاكِي صَوْتَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَإِنَّهُنَّ الْغَرَانِقَةُ الْعُلَا، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى. فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ لِقِلَّةِ الْبَصِيرَةِ وَفَسَادِ السَّرِيرَةِ فَتَلَوْهَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَسَبُوهَا بِجَهْلِهِمْ إلَيْهِ، حَتَّى سَجَدُوا مَعَهُ اعْتِقَادًا أَنَّهُ مَعَهُمْ، وَعَلِمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ، وَيَرْفُضُونَ غَيْرَهُ، وَتُجِيبُ قُلُوبُهُمْ إلَى الْحَقِّ، وَتَنْفِرُ عَنْ الْبَاطِلِ؛ وَكُلُّ ذَلِكَ ابْتِلَاءٌ مِنْ اللَّهِ وَمِحْنَةٌ. فَأَيْنَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ إلَّا غَايَةُ الْبَيَانِ بِصِيَانَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْإِسْرَارِ وَالْإِعْلَانِ عَنْ الشَّكِّ وَالْكُفْرَانِ. وَقَدْ أَوْعَدْنَا إلَيْكُمْ تَوْصِيَةً أَنْ تَجْعَلُوا الْقُرْآنَ إمَامَكُمْ، وَحُرُوفَهُ أَمَامَكُمْ، فَلَا تَحْمِلُوا عَلَيْهَا مَا لَيْسَ فِيهَا، وَلَا تَرْبِطُوا فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا، وَمَا هُدِيَ لِهَذَا إلَّا الطَّبَرِيُّ بِجَلَالَةِ قَدْرِهِ، وَصَفَاءِ فِكْرِهِ، وَسَعَةِ بَاعِهِ فِي الْعِلْمِ، وَشِدَّةِ سَاعِدِهِ وَذِرَاعِهِ فِي النَّظَرِ؛ وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إلَى هَذَا الْغَرَضِ، وَصَوَّبَ عَلَى هَذَا الْمَرْمَى فَقَرْطَسَ بَعْدَمَا ذَكَرَ فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ كُلِّهَا بَاطِلَةٌ، لَا أَصْلَ لَهَا، وَلَوْ شَاءَ رَبُّك لَمَا رَوَاهَا أَحَدٌ وَلَا سَطَرَهَا، وَلَكِنَّهُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، عَصَمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ بِالتَّوْفِيقِ وَالتَّسْدِيدِ، وَجَعَلَنَا مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ. . [الْآيَة الْخَامِسَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ] ْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]. حَمَلَهَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُنَا لَهُ قَوْمٌ عَلَى أَنَّهَا سَجْدَةُ تِلَاوَةٍ، فَسَجَدُوهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ سُجُودُ الصَّلَاةِ، فَقَصَرُوهُ عَلَيْهِ. وَرَأَى عُمَرُ أَنَّهَا سَجْدَةُ تِلَاوَةٍ. وَإِنِّي لَأَسْجُدُ بِهَا وَأَرَاهَا كَذَلِكَ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ وَهْبٍ

الآية السادسة عشرة قوله تعالى وجاهدوا في الله حق جهاده

وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ سُورَةَ الْحَجِّ، فَسَجَدَ فِيهَا السَّجْدَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: إنَّ هَذِهِ السُّورَةَ فُضِّلَتْ بِسَجْدَتَيْنِ. قَالَ مَالِكٌ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ: رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ يَسْجُدُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ سَجْدَتَيْنِ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ أَكْثَرَ الْخَلْقِ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُدْوَةً. رَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ «قُلْت لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفِي سُورَةِ الْحَجِّ سَجْدَتَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا لَا يَقْرَأْهُمَا»، رَوَاهُ وَهْبُ بْنُ لَهِيعَةَ عَنْ مُسَرِّحِ بْنِ هَاعَانَ عَنْهُ. [الْآيَة السَّادِسَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ] ِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْحَرَجُ هُوَ الضِّيقُ، وَمِنْهُ الْحَرَجَةُ، وَهِيَ الشَّجَرَاتُ الْمُلْتَفَّةُ لَا تَسْلُكُ؛ لِالْتِفَافِ شَجَرَاتِهَا، وَكَذَلِكَ وَقَعَ التَّفْسِيرُ فِيهِ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. رُوِيَ أَنَّ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ جَاءَ فِي نَاسٍ مِنْ قَوْمِهِ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَسَأَلَهُ عَنْ الْحَرَجِ، فَقَالَ: أَوَ لَسْتُمْ الْعَرَبَ؟ فَسَأَلُوهُ ثَلَاثًا. كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: أَوَ لَسْتُمْ الْعَرَبَ، ثُمَّ قَالَ: اُدْعُ لِي رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ، فَقَالَ لَهُ: مَا الْحَرَجُ فِيكُمْ؟ قَالَ: الْحَرَجَةُ مِنْ الشَّجَرَةِ: مَا لَيْسَ لَهُ مَخْرَجٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذَلِكَ الْحَرَجُ، وَلَا مَخْرَجَ لَهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي مَحَلِّ النَّفْي: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] قَالَ: هَذَا فِي تَقْدِيمِ الْأَهِلَّةِ وَتَأْخِيرهَا بِالْفِطْرِ، وَالْأَضْحَى، وَفِي الصَّوْمِ. وَثَبَتَ صَحِيحًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَقُولُ: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، إنَّمَا ذَلِكَ سَعَةُ الْإِسْلَامِ: مَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ التَّوْبَةِ وَالْكَفَّارَاتِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أُحِلَّ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ. قَالَ الْقَاضِي: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ. وَقَدْ كَانَتْ الشَّدَائِدُ وَالْعَزَائِمُ فِي الْأُمَمِ، فَأَعْطَى اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ مِنْ الْمُسَامَحَةِ وَاللِّينِ مَا لَمْ يُعْطِ أَحَدًا قَبْلَهَا فِي حُرْمَةِ نَبِيِّهَا، وَرَحْمَةِ نَبِيِّهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهَا». فَأَعْظَمُ حَرَجٍ رَفْعُ الْمُؤَاخَذَةِ بِمَا نُبْدِي فِي أَنْفُسِنَا وَنُخْفِيهِ، وَمَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ إصْرٍ وُضِعَ، كَمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَغَيْرِهَا. وَمِنْهَا التَّوْبَةُ بِالنَّدَمِ، وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْعَوْدِ فِي الْمُسْتَقْبِلِ، وَالِاسْتِغْفَارُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ. وَقِيلَ لِمَنْ قَبْلَنَا: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54]، وَلَوْ ذَهَبْت إلَى تَعْدِيدِ نِعَمِ اللَّهِ فِي رَفْعِ الْحَرَجِ لَطَالَ الْمَرَامُ. وَمِنْ جُمْلَتِهِ أَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُنَا تَعَالَى إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ أَيْضًا فِيمَا قَبْلَ ذَلِكَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَغَيْرِهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ. قَالَ: اذْبَحْ، وَلَا حَرَجَ. فَجَاءَ آخَرُ، فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ فَقَالَ: ارْمِ

مسألة تعارض دليلان أحدهما بالحظر والآخر بالإباحة

وَلَا حَرَجَ. فَمَا سُئِلَ يَوْمَهُ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إلَّا قَالَ: افْعَلْ وَلَا حَرَجَ». فَأَعْجَبُ لِمَنْ يَقُولُ: إنَّ الدَّمَ عَلَى مَنْ قَدَّمَ الْحَلْقَ عَلَى النَّحْرِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَالَ: وَلَا حَرَجَ، وَلَقَدْ نَزَلَتْ بِي هَذِهِ النَّازِلَةُ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ، كَانَ مَعِي مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ، فَلَمَّا رَمَيْت جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، وَانْصَرَفْت إلَى النَّحْرِ جَاءَ الْمُزَيِّنُ وَحَضَرَ الْهَدْيَ، فَقَالَ أَصْحَابِي: نَنْحَرُ وَنَحْلِقُ، فَحَلَقْت، وَلَمْ أَشْعُرْ قَبْلَ النَّحْرِ، وَمَا تَذَكَّرْت إلَّا وَجُلُّ شَعْرِي قَدْ ذَهَبَ بِالْمُوسَى، فَقُلْت: دَمٌ عَلَى دَمٍ، لَا يَلْزَمُ، وَرَأَيْت بَعْدَ ذَلِكَ الِاحْتِيَاطَ لِارْتِفَاعِ الْخِلَافِ. وَالْحَقُّ هُوَ الْأَوَّلُ، فَهُوَ الْمَعْقُولُ. [مَسْأَلَة تَعَارَضَ دَلِيلَانِ أَحَدُهُمَا بِالْحَظْرِ وَالْآخَرُ بِالْإِبَاحَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إذَا تَعَارَضَ دَلِيلَانِ أَحَدُهُمَا بِالْحَظْرِ، وَالْآخَرُ بِالْإِبَاحَةِ، فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ مَالَ إلَى الِاسْتِظْهَارِ، وَقَالَ: يُقَدَّمُ دَلِيلُ الْحَظْرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُقَدَّمُ دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ، وَيَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ مَقَاصِدُ مَالِكٍ، إلَّا فِي بَابِ الرِّبَا، فَيُقَدَّمُ دَلِيلُ الْحَظْرِ، وَذَلِكَ مِنْ فِقْهِهِ الْعَظِيمِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى زِيَادَةِ رُكْنٍ فِي الْعِبَادَةِ، أَوْ شَرْطٍ، وَقَامَ الدَّلِيلُ عَلَى إسْقَاطِهِ، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا فِيهِ؛ فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَخَذَ بِالِاحْتِيَاطِ، وَقَضَى بِزِيَادَةِ الرُّكْنِ وَالشَّرْطِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَ بِالْخِفَّةِ، وَقَالَ بِدَلِيلِ الْإِسْقَاطِ، وَلَمْ يُعَوِّلْ مَالِكٌ هَاهُنَا عَلَى أَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ: كَانَ بِزِيَادَةٍ أَوْ بِإِسْقَاطٍ، وَرَأْيُهُ هُوَ الَّذِي نَرَاهُ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، فَهُنَالِكَ يُنْظَرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. [مَسْأَلَة إذَا كَانَ الْحَرَجُ فِي نَازِلَةٍ عَامًّا فِي النَّاسِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إذَا كَانَ الْحَرَجُ فِي نَازِلَةٍ عَامًّا فِي النَّاسِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ، وَإِذَا كَانَ خَاصًّا لَمْ يُعْتَبَرْ عِنْدَنَا، وَفِي بَعْضِ أُصُولِ الشَّافِعِيِّ اعْتِبَارُهُ، وَذَلِكَ يُعْرَضُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ؛ فَمِنْهُ خُذُوهُ بِعَوْنِ اللَّهِ.

سورة المؤمنون فيها اثنتا عشرة آية

[سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ آيَةً] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ] سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ آيَةً الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2]. فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِي قَالَ: سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ يُسْمَعُ عِنْدَ وَجْهِهِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، فَأُنْزِلَ عَلَيْهِ يَوْمًا، فَلَبِثْنَا سَاعَةً، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلَا تَنْقُصْنَا، وَأَكْرِمْنَا وَلَا تُهِنَّا، وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا، وَآثِرْنَا وَلَا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا، وَارْضِنَا وَارْضَ عَنَّا ثُمَّ قَالَ: أُنْزِلَ عَلَيَّ عَشْرُ آيَاتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ. ثُمَّ قَالَ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] حَتَّى خَتَمَ عَشْرَ آيَاتٍ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ أَبُو عِيسَى وَقَطَعَهُ. وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُقَلِّبُ بَصَرَهُ فِي السَّمَاءِ إذَا صَلَّى، فَنَزَلَتْ آيَةٌ». قَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ لَمْ تَكُنْ {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] فَلَا أَدْرِي أَيَّةَ آيَةٍ هِيَ؟ قَالَ الْقَاضِي: هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: وَهَذَا الْحَدِيثُ مَقْطُوعٌ مَظْنُونٌ، فَمَقْصُودُهُ غَيْرُ مَقْطُوعٍ، فَسُقْنَاهُ عَلَى حَالِهِ لَكُمْ حَتَّى نَكُونَ فِي مَعْرِفَتِهِ سَوَاءً مَعَكُمْ.

كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يلتفت في صلاته خاشعا خاضعا

[كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَلْتَفِتُ فِي صَلَاتِهِ خَاشِعًا خَاضِعًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هُوَ الْخُضُوعُ، وَهُوَ الْإِخْبَاتُ، وَالِاسْتِكَانَةُ، وَهِيَ أَلْفَاظٌ مُتَرَادِفَةٌ أَوْ مُتَقَارِبَةٌ، أَوْ مُتَلَازِمَةٌ؛ «وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: خَضَعَ لَك سَوَادِي، وَآمَنَ بِك فُؤَادِي». وَحَقِيقَتُهُ السُّكُونُ عَلَى حَالَةِ الْإِقْبَالِ الَّتِي تَأَهَّبَ لَهَا وَاحْتَرَمَ بِهَا بِالسِّرِّ فِي الضَّمِيرِ، وَبِالْجَوَارِحِ فِي الظَّاهِرِ؛ فَقَدْ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَلْتَفِتُ فِي صَلَاتِهِ خَاشِعًا خَاضِعًا»، وَكَذَلِكَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ لَا يَلْتَفِتُ، وَكَذَلِكَ كَانَ حَفِيدُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ لِعُرْوَةِ: لَوْ رَأَيْت قِيَامَ ابْنِ الزُّبَيْرِ يَعْنِي أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ فِي الصَّلَاةِ لَقُلْت: غُصْنٌ تَصْفِقُهُ الرِّيَاحُ، وَحِجَارَةُ الْمَنْجَنِيقِ تَقَعُ هَاهُنَا، وَرَضْفٌ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إذَا قَامَ يُصَلِّي كَأَنَّهُ عُودٌ مِنْ الْخُشُوعِ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: إنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ يُصَلِّي فِي الْحِجْرِ مُرْخِيًا ثِيَابَهُ. فَجَاءَ حَجَرُ الْخَذَّافِ، فَذَهَبَ بِطَائِفَةٍ مِنْ ثَوْبِهِ، فَمَا الْتَفَتَ، وَكَذَلِكَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ إذَا صَلَّى لَا يَتَحَرَّكُ مِنْهُ شَيْءٌ؛ وَمِنْ هَاهُنَا قَالَ الْعُلَمَاءُ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إنَّهُ يَضَعُ بَصَرَهُ فِي مَوْضِعِ سُجُودِهِ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالصُّوفِيَّةُ بِأَسْرِهِمْ، فَإِنَّهُ أَحْضَرُ لِقَلْبِهِ، وَأَجْمَعُ لِفِكْرِهِ. قَالَ مَالِكٌ: إنَّمَا يَنْظُرُ أَمَامَهُ، فَإِنَّهُ إنْ حَنَى رَأْسَهُ ذَهَبَ بَعْضُ الْقِيَامِ الْمَنْقُوضِ عَلَيْهِ فِي الرَّأْسِ، وَهُوَ أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ مِنْهُ، وَإِنْ أَقَامَ رَأْسَهُ وَتَكَلَّفَ النَّظَرَ بِبَصَرِهِ إلَى الْأَرْضِ فَتِلْكَ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ وَحَرَجٌ، يَعْرِفُونَ ذَلِكَ بِالتَّجْرِبَةِ، وَمَا جَعَلَ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ؛ وَإِنَّمَا أُمِرْنَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْجِهَةَ بِبَصَائِرِنَا وَأَبْصَارِنَا، أَمَّا إنَّهُ أَفْضَلُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مَتَى قَدَرَ وَكَيْفَ قَدَرَ، وَإِنَّمَا الْمَمْنُوعُ أَنْ يَرْفَعَ بَصَرَهُ فِي الصَّلَاةِ إلَى السَّمَاءِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ أَنْ يَسْتَقْبِلَ السَّمَاءَ، وَإِنَّمَا أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْجِهَةَ الْكَعْبِيَّةَ، فَإِذَا رَفَعَ بَصَرَهُ فَهُوَ إعْرَاضٌ

عَنْ الْجِهَةِ الَّتِي أُمِرَ بِهَا، حَتَّى «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لِيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ رَفْعِهِمْ أَبْصَارَهُمْ إلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ» وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: حَتَّى قَالَ عُلَمَاؤُنَا حِينَ رَأَوْا عَامَّةَ الْخَلْقِ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ سَالِمَةٌ: إنَّ الْمُرَادَ بِالْخَطْفِ هَاهُنَا أَخْذُهَا عَنْ الِاعْتِبَارِ حِينَ يَمُرُّ بِآيَاتِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ مُعْرِضٌ، وَذَلِكَ أَشَدُّ الْخَطْفِ، وَمِنْ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ بِرَفْعِ الْحَرَجِ الْإِذْنُ فِي أَنْ يَلْحَظَ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَإِنْ كَانَ يُصَلِّي بِبَصَرِهِ وَرَأْسِهِ دُونَ بَدَنِهِ، أَذِنَ الشَّرْعُ فِيهِ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فَمِنْ مَرَاسِيلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَلْمَحُ فِي الصَّلَاةِ، وَلَا يَلْتَفِتُ». وَرَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ: إنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ إذَا صَلَّى لَمْ يَقُلْ هَكَذَا وَهَكَذَا. فَقَالَ: لَكِنَّا نَقُولُ هَكَذَا وَهَكَذَا، وَنَكُونُ مِثْلَ النَّاسِ؛ إشَارَةً مِنْ ابْنِ عُمَرَ إلَى أَنَّهُ تَكْلِيفٌ يَخْرُجُ إلَى الْحَرَجِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] قَالَ: الْإِقْبَالُ عَلَيْهَا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَا يَعْرِفُ مَنْ عَلَى يَمِينِهِ، وَلَا مَنْ عَلَى يَسَارِهِ. صَلَّيْت الْمَغْرِبَ لَيْلَةً مَا بَيْنَ بَابِ الْأَخْضَرِ، وَبَابِ حِطَّةٍ مِنْ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، وَمَعَنَا شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَغْرِبِيِّ الزَّاهِدُ، فَلَمَّا سَلَّمْنَا تَمَارَى رَجُلَانِ كَانَا عَنْ يَمِينِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمَغْرِبِيِّ؛ وَجَعَلَ أَحَدُهُمَا يَقُولُ لِلْآخَرِ: أَسَأْت صَلَاتَك، وَنَقَرْت نَقْرَ الْغُرَابِ. وَالْآخَرُ يَقُولُ لَهُ: كَذَبْت؛ بَلْ أَحْسَنْت وَأَجْمَلْت. فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزَّاهِدِ: أَلَمْ يَكُنْ إلَى جَانِبِك؛ فَكَيْفَ رَأَيْته يُصَلِّي؟

الآية الثانية قوله تعالى والذين هم لفروجهم حافظون

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَا عِلْمَ لِي بِهِ، كُنْت مُشْتَغِلًا بِنَفْسِي وَصَلَاتِي عَنْ النَّاسِ وَصَلَاتِهِمْ. فَخَجِلَ الرَّجُلُ وَأُعْجِبَ الْحَاضِرُونَ بِالْقَوْلِ. وَصَدَقَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزَّاهِدُ؛ لَوْ كَانَ لِصَلَاتِهِ قَدْرٌ، أَوْ لَهُ بِهَا شُغْلٌ وَإِقْبَالٌ بِالْكُلِّيَّةِ لَمَا عَلِمَ مَنْ عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ عَنْ يَسَارِهِ فَضْلًا عَنْ مَعْرِفَتِهِ كَيْفِيَّةَ صَلَاتِهِ، وَإِلَّا فَأَحَدُ الرَّجُلَيْنِ أَسَاءَ صَلَاتَهُ فِي حَذْفِ صِفَاتِهَا، وَاخْتِصَارِ أَرْكَانِهَا، وَهَذَا أَسَاءَ صَلَاتَهُ فِي الِاشْتِغَالِ بِصَلَاةِ هَذَا، حَتَّى ذَهَبَ حِفْظُ صَلَاتِهِ وَخُشُوعُهَا. وَنُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ قَوْلَك: " اللَّهُ أَكْبَرُ " يُحَرِّمُ عَلَيْك الْأَفْعَالَ بِالْجِوَارِ، وَالْكَلَامَ بِاللِّسَانِ؛ وَنِيَّةَ الصَّلَاةِ تُحَرِّمُ عَلَيْك الْخَوَاطِرَ بِالْقَلْبِ، وَالِاسْتِرْسَالَ عَنْ الْأَفْكَارِ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ ضَبْطَ الشَّرِّ مِنْ السِّرِّ يَفُوتُ طَوْقَ الْبَشَرِ سَمَحَ فِيهِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانًا لَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ] َ} [المؤمنون: 5]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مِنْ غَرِيبِ الْقُرْآنِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ الْعَشْرِ هِيَ عَامَّةٌ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، كَسَائِرِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ الَّتِي هِيَ مُحْتَمَلَةٌ لَهُمْ، فَإِنَّهَا عَامَّةٌ فِيهِمْ، إلَّا قَوْلَهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] فَإِنَّهُ خِطَابٌ لِلرِّجَالِ خَاصَّةً دُونَ النِّسَاءِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6]، وَلَا إبَاحَةَ بَيْنَ النِّسَاءِ وَبَيْنَ مِلْكِ الْيَمِينِ فِي الْفَرْجِ؛ وَإِنَّمَا عُرِفَ حِفْظُ الْمَرْأَةِ فَرْجَهَا مِنْ أَدِلَّةٍ أُخَرَ، كَآيَاتِ الْإِحْصَانِ عُمُومًا وَخُصُوصًا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَدِلَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: سَمِعْت حَرْمَلَةَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: سَأَلْت مَالِكًا عَنْ الرَّجُلِ يَجْلِدُ عُمَيْرَةَ، فَتَلَا هَذِهِ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7].

مسألة نكاح المتعة

وَهَذَا؛ لِأَنَّهُمْ يَكْنُونَ عَنْ الذَّكَرِ بِعُمَيْرَةَ، وَفِيهِ يَقُولُ الشَّاعِرُ: إذَا حَلَلْت بِوَادٍ لَا أَنِيسَ بِهِ ... فَاجْلِدْ عُمَيْرَةَ لَا دَاءٌ وَلَا حَرَجٌ وَيُسَمِّيهِ أَهْلُ الْعِرَاقِ الِاسْتِمْنَاءَ، وَهُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنْ الْمَنِيِّ. وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَلَى وَرَعِهِ يُجَوِّزُهُ، وَيَحْتَجُّ بِأَنَّهُ إخْرَاجُ فَضْلَةٍ مِنْ الْبَدَنِ؛ فَجَازَ عِنْدَ الْحَاجَةِ، أَصْلُهُ الْفَصْدُ وَالْحِجَامَةُ. وَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يُدَانَ اللَّهُ إلَّا بِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إنَّهُ كَالْفَاعِلِ بِنَفْسِهِ، وَهِيَ مَعْصِيَةٌ أَحْدَثَهَا الشَّيْطَانُ وَأَجْرَاهَا بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى صَارَتْ قِيلَةً، وَيَا لَيْتَهَا لَمْ تُقَلْ، وَلَوْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهَا لَكَانَ ذُو الْمُرُوءَةِ يُعْرِضُ عَنْهَا لِدَنَاءَتِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قِيلَ: إنَّهَا خَيْرٌ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ. قُلْنَا: نِكَاحُ الْأَمَةِ وَلَوْ كَانَتْ كَافِرَةً عَلَى مَذْهَبِ الْعُلَمَاءِ خَيْرٌ مِنْ هَذَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ بِهِ قَائِلٌ أَيْضًا، وَلَكِنَّ الِاسْتِمْنَاءَ ضَعِيفٌ فِي الدَّلِيلِ عَارٌ بِالرَّجُلِ الدَّنِيءِ، فَكَيْفَ بِالرَّجُلِ الْكَبِيرِ، [مَسْأَلَة نِكَاحِ الْمُتْعَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ قَوْمٌ: هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ الْفَرْجَ إلَّا بِالنِّكَاحِ أَوْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَالْمُتَمَتِّعَةُ لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ، وَهَذَا يَضْعُفُ. فَإِنَّا لَوْ قُلْنَا: إنَّ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ جَائِزٌ فَهِيَ زَوْجَةٌ إلَى أَجَلٍ يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ الزَّوْجَةِ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْحَقِّ الَّذِي أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ مِنْ تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ لَمَا كَانَتْ زَوْجَةً، فَلَمْ تَدْخُلْ فِي الْآيَةِ، وَبَقِيَتْ عَلَى أَصْلِ حِفْظِ الْفَرْجِ وَتَحْرِيمِهِ مِنْ سَبَبِهَا. [مَسْأَلَة نَكَحَ مَا لَا يَحِلُّ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا، وَهِيَ الثَّالِثَةُ

الآية الرابعة قوله تعالى والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون

{فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7]. فَسُمِّيَ مَنْ نَكَحَ مَا لَا يَحِلُّ عَادِيًا، وَأُوجِبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِعُدْوَانِهِ، وَاللَّائِطُ عَادٍ قُرْآنًا وَلُغَةً، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء: 166] فَوَجَبَ أَنْ نُقِيمَ الْحَدَّ عَلَيْهِ؛ وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ. [الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ] َ} [المؤمنون: 8]. قَدْ قَدَّمْنَا وُجُوبَ حِفْظِ الْأَمَانَةِ وَالْعَهْدِ، وَبَيَّنَّا قِيَامَ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ فِيمَا مَضَى، فَأَدِّ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك؛ وَكَذَلِكَ مَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ فِيك فَلَا تَنْقُضْهُ فِيهِ، وَمَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ عِنْدَك فَلَا تَكْفُرْ بِهِ عِنْدَهُ، وَمَنْ غَدَرَ بِك فَلَا تَغْدِرْ بِهِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِيمَا سَلَف فِي مَوَاضِعَ، فَلْيُنْظَرْ فِيهَا؛ وَلْيُجْمَعْ فِي الْقَلْبِ مِنْهَا. [الْآيَة الْخَامِسَة قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ] َ} [المؤمنون: 9]. قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي حِفْظِ الصَّلَاةِ فِي نَفْسِهَا، وَبَيَّنَّا الْمُحَافَظَةَ عَلَيْهَا بِإِدَامَةِ أَفْعَالِهَا فِي أَوْقَاتِهَا مَتَى تَكَرَّرَتْ مَفْرُوضَاتُهَا، فَاعْلَمُوهُ. [الْآيَة السَّادِسَة قَوْله تَعَالَى وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ] ٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 18]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَمِمَّا امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِهِ، وَمِنْ أَعْظَمِ الْمِنَنِ الْمَاءُ الَّذِي بِهِ حَيَاةُ الْأَبْدَانِ وَنَمَاءُ الْحَيَوَانِ.

وَالْمَاءُ الْمُنَزَّلُ مِنْ السَّمَاءِ عَلَى قِسْمَيْنِ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ اسْتَوْدَعَهُ فِي الْأَرْضِ، وَجَعَلَهُ فِيهَا مُخْزُونَا لِسُقْيَا النَّاسِ، يَجِدُونَهُ [عُدَّةً] عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَهُوَ مَاءُ الْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ، وَمَا يُسْتَخْرَجُ مِنْ الْآبَارِ. وَالْقِسْمُ الْآخَرُ هُوَ الَّذِي يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ فِي كُلِّ وَقْتٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ} [المؤمنون: 18] الْآيَةَ، أَهُوَ فِي الْخَرِيفِ فِيمَا بَلَغَك، قَالَ: لَا وَاَللَّهِ؛ بَلْ هَذَا فِي الْخَرِيفِ وَالشِّتَاءِ، وَكُلُّ شَيْءٍ يَنْزِلُ مَاؤُهُ مِنْ السَّمَاءِ إذَا شَاءَ، ثُمَّ هُوَ عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرٌ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مَالِكٌ مُحْتَمَلٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً، فَأَسْكَنَهُ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ يُنَزِّلُهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَيَكُونُ مِنْهُ غِذَاءٌ، وَمِنْهُ اخْتِزَانٌ زَائِدٌ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ. وَقَدْ قَالَ أَشْهَبُ: قَالَ مَالِكٌ: هِيَ الْأَرْضُ الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا يَعْنِي قَوْلَهُ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا} [السجدة: 27]، وَقَوْلَهُ: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} [الطارق: 11] يَعْنِي الْمَطَرَ، {وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} [الطارق: 12] يَعْنِي النَّبَاتَ. وَهَذَا يَكُونُ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ، كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ: «إنَّ اللَّهَ لَا يُخَلِّي الْأَرْضَ مِنْ مَطَرٍ فِي عَامِرٍ أَوْ غَامِرٍ، وَإِنَّهُ مَا نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءٌ إلَّا بِحِفْظِ مَلَكٍ مُوَكَّلٍ بِهِ، إلَّا مَا كَانَ مِنْ مَاءِ الطُّوفَانِ، فَإِنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ مَا لَمْ يَحْفَظْهُ الْمَلَكُ»، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة: 11]

لِأَنَّ الْمَاءَيْنِ الْتَقَيَا عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ مَا كَانَ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ بِالْإِقْلَاعِ، فَلَمْ تَمْتَصَّ الْأَرْضُ مِنْ قَطْرِهِ، وَأَمَرَ الْأَرْضَ بِابْتِلَاعِ مَا خَرَجَ مِنْهَا فَقَطْ، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ} [هود: 44]. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَمْ تَشْرَبْ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ قَطْرَةً. نُكْتَةٌ أُصُولِيَّةٌ: قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُ: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} [الطارق: 11] فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ ذَاتُ الْمَطَرِ؛ لِأَنَّهَا تَرْجِعُ فِي كُلِّ عَامٍ إلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا مِنْ إنْزَالِ الْمَطَرِ مِنْهَا. وَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ كَمَا بَيَّنَّا أَنَّهَا تَرُدُّ مَا أَخَذَتْ مِنْ الْأَرْضِ مِنْ الْمَاءِ؛ إذْ السَّحَابُ يَسْتَقِي مِنْ الْبَحْرِ، وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ قَوْلَ الْهُذَلِيِّ: شَرِبْنَ بِمَاءِ الْبَحْرِ ثُمَّ تَرَفَّعَتْ ... مَتَى لُجَجٌ لَهُنَّ نَئِيجُ يَعْنِي السَّحَابَ، وَهَذِهِ دَعْوَى عَرِيضَةٌ طَوِيلَةٌ، وَهِيَ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ جَائِزَةٌ، وَلَكِنَّهُ أَمْرٌ لَا يُعْلَمُ بِالنَّظَرِ، وَإِنَّمَا طَرِيقُهُ الْخَبَرُ، وَلَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ أَثَرٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 18]: يَعْنِي لَقَادِرُونَ عَلَى إذْهَابِ الْمَاءِ الَّذِي أَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ، فَيَهْلَكُ النَّاسُ بِالْعَطَشِ، وَتَهْلَكُ مَوَاشِيهِمْ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك: 30] وَقَدْ قَالَ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فَهَذَا عَامٌّ فِي مَاءِ الْمَطَرِ وَالْمَاءِ الْمُخْتَزَنِ فِي أَرْضٍ، فَصَارَتْ إحْدَى الْآيَتَيْنِ عَامَّةً وَهِيَ آيَةُ الطَّهُورِ. وَالْآيَةُ الْأُخْرَى خَاصَّةً وَهِيَ مَاءُ الْقَدْرِ الْمُسْكَنِ فِي الْأَرْضِ، وَمِنْ هَاهُنَا

مسألة أنزل الله من الجنة إلى الأرض خمسة أنهار

قَالَ مَنْ قَالَ: إنَّ مَاءَ الْبَحْرِ لَا يُتَوَضَّأُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَمْ يُخْبِرْ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أُنْزِلَ مِنْ السَّمَاءِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ»، وَهَذَا نَصٌّ فِيهِ. [مَسْأَلَة أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْجَنَّةِ إلَى الْأَرْضِ خَمْسَةَ أَنْهَارٍ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْجَنَّةِ إلَى الْأَرْضِ خَمْسَةَ أَنْهَارٍ: سَيْحُونَ، وَهُوَ نَهْرُ الْهِنْدِ وَجَيْحُونَ، وَهُوَ نَهْرُ بَلْخٍ، وَدِجْلَةَ، وَالْفُرَاتِ، وَهُمَا نَهَرَا الْعِرَاقِ، وَالنِّيلَ وَهُوَ نَهْرُ مِصْرَ، أَنْزَلَهَا اللَّهُ مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ مِنْ عُيُونِ الْجَنَّةِ فِي أَسْفَلِ دَرَجَةٍ مِنْ دَرَجَاتِهَا، فَاسْتَوْدَعَهَا الْجِبَالَ، وَأَجْرَاهَا فِي الْأَرْضِ، وَجَعَلَ فِيهَا مَعَايِشَ لِلنَّاسِ فِي أَصْنَافِ مَعَايِشِهِمْ»، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ} [المؤمنون: 18] فَإِذَا كَانَ عِنْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَرْسَلَ اللَّهُ جِبْرِيلَ فَرَفَعَ مِنْ الْأَرْضِ الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ، وَهَذِهِ الْأَنْهَارَ الْخَمْسَةَ؛ فَيَرْفَعُ ذَلِكَ إلَى السَّمَاءِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 18]. وَهَذَا جَائِزٌ فِي الْقُدْرَةِ إنْ صَحَّتْ بِهِ الرِّوَايَةُ. [وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سَيْحُونُ وَجَيْحُونُ وَالْفُرَاتُ كُلٌّ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ». وَهَذَا تَفْسِيرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 18] يَعْنِي بِهِ نَهْرًا يَجْرِي، وَعَيْنًا تَسِيلُ، وَمَاءً رَاكِدًا فِي جَوْفِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ]. وَإِنَّمَا الَّذِي فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ رَأَى سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، وَذَكَرَ مَا أَنْشَأَ مِنْ الْمَاءِ وَمِنْ النَّبَاتِ». وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ.

الآية السابعة قوله تعالى وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة

[الْآيَة السَّابِعَة قَوْله تَعَالَى وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إلَى رَبْوَةٍ] ٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: (رَبْوَةٍ) فِيهَا خَمْسُ لُغَاتٍ: كَسْرُ الرَّاءِ، وَفَتْحُهَا، وَضَمُّهَا، ثَلَاثُ لُغَاتٍ، وَيُقَالُ رِبَاوَةٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا، وَلَمْ أُقَيِّدْ غَيْرَهُ فِيمَا وَجَدْته الْآنَ عِنْدِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَعْيِينِ هَذِهِ الرَّبْوَةِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا الرَّمْلَةُ؛ وَهِيَ فِلَسْطِينُ؛ قَالَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ. الثَّانِي: قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ أَقْرَبُ الْأَرْضِ إلَى السَّمَاءِ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلًا. الثَّالِثُ: أَنَّهَا دِمَشْقُ؛ قَالَهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ وَأَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ. الرَّابِعُ: أَنَّهَا مِصْرُ قَالَهُ ابْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ. وَلَيْسَ الرُّبَا إلَّا بِمِصْرَ، وَالْمَاءُ يُرْسَلُ فَيَكُونُ الرُّبَا عَلَيْهَا الْقُرَى، وَلَوْلَا ذَلِكَ غَرِقَتْ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ الْمُرْتَفِعُ مِنْ الْأَرْضِ؛ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ. السَّادِسُ: أَنَّهَا الْمَكَانُ الْمُسْتَوِي؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْأَقْوَالُ مِنْهَا مَا تُفَسَّرُ لُغَةً، وَمِنْهَا مَا تُفَسَّرُ نَقْلًا؛ فَأَمَّا الَّتِي تُفَسَّرُ لُغَةً فَكُلُّ أَحَدٍ يَشْتَرِكُ فِيهِ؛ لِأَنَّهَا مُشْتَرَكَةُ الْمَدْرَكِ بَيْنَ الْخَلْقِ. وَأَمَّا مَا يُفَسَّرُ مِنْهَا نَقْلًا فَمُفْتَقِرٌ إلَى سَنَدٍ صَحِيحٍ يَبْلُغُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا أَنَّهُ تَبْقَى هَاهُنَا نُكْتَةٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا نَقَلَ النَّاسُ تَوَاتُرًا أَنَّ هَذَا مَوْضِعُ كَذَا، أَوْ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ جَرَى كَذَا، أَوْ وَقَعَ لَزِمَ قَبُولُهُ، وَالْعِلْمُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ الْإِيمَانُ، وَخَبَرَ الْآحَادِ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْمُخْبِرِ بِهِ بِصِفَةِ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ، وَالْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ بِمَنْزِلَةِ الْعِيَانِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.

الآية الثامنة قوله تعالى يا أيها الرسل كلوا من الطيبات

وَاَلَّذِي شَاهَدْت عَلَيْهِ النَّاسَ، وَرَأَيْتهمْ يُعَيِّنُونَهَا تَعْيِينَ تَوَاتُرٍ دِمَشْقَ، فَفِي سَفْحِ الْجَبَلِ فِي غَرْبِيِّ دِمَشْقَ مَائِلًا إلَى جَوْفِهَا مَوْضِعٌ مُرْتَفِعٌ تَتَشَقَّقُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ الْعَظِيمَةُ، وَفِيهَا الْفَوَاكِهُ الْبَدِيعَةُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ، وَقَدْ اُتُّخِذَ بِهَا مَسْجِدٌ يُقْصَدُ إلَيْهِ، وَيُتَعَبَّدُ فِيهِ، أَمَّا أَنَّهُ قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَوْلِدَ عِيسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ بِبَيْتِ لَحْمٍ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَفِيهِ رَأَيْت الْجِذْعَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنَّهَا لَمَّا خَرَجَتْ بِابْنِهَا اخْتَلَفَتْ الرُّوَاةُ، هَلْ أَخَذَتْ بِهِ غَرْبًا إلَى مِصْرَ؟ أَمْ أَخَذَتْ بِهِ شَرْقًا إلَى دِمَشْقَ؟ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: {ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50] فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَرْضٌ مُنْبَسِطَةٌ وَبَاحَةٌ وَاسِعَةٌ. الثَّانِي: ذَاتُ شَيْءٍ يَسْتَقِرُّ فِيهِ مِنْ قُوتٍ وَمَاءٍ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ مُحْتَمَلٌ. وَقَوْلُهُ: {وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50] وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50] يُرِيدُ بِهِ الْمَاءَ، وَهُوَ مَفْعَلُ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَيُقَالُ: مَعَنَ الْمَاءُ وَأَمْعَنَ إذَا سَالَ، فَيَكُونُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ. قَالَ عُبَيْدٌ: وَاهِيَةٌ أَوْ مَعِينٌ مُمْعِنٌ أَوْ هَضْبَةٌ دُونَهَا لُهُوبُ وَفِيهَا أَقْوَالُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ. [الْآيَة الثَّامِنَة قَوْلُهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ] ِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]. قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الطَّيِّبِ، وَتَفْسِيرُهُ بِالْحَلَالِ؛ وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعَمْرِيِّ عَنْهُ، وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: وَعَلَيْكُمْ مِنْ الْمَطَاعِمِ بِمَا طَابَ مِنْهَا. وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا} [المؤمنون: 51].

الآية التاسعة قوله تعالى والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة

ثُمَّ قَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]. ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، مَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ» وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ مِنْ أَطْيَبِ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ». وَقَالَ تَعَالَى فِي دَاوُد: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [الأنبياء: 80]. وَرَوَى عُلَمَاؤُنَا أَنَّ عِيسَى كَانَ يَأْكُلُ مِنْ غَزْلِ أُمِّهِ. «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: جُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَتْ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي». فَجَعَلَ اللَّهُ رِزْقَ مُحَمَّدٍ فِي كَسْبِهِ لِفَضْلِهِ، وَخَصَّ لَهُ أَفْضَلَ أَنْوَاعِ الْكَسْبِ، وَهُوَ أَخْذُ الْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ، لِشَرَفِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [الْآيَة التَّاسِعَة قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ] ٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60] {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الَّذِينَ يُطِيعُونَ وَهُمْ خَائِفُونَ أَلَّا يُقْبَلَ مِنْهُمْ.

مسألة النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر قد غلب عليه مقام الخوف

الثَّانِي: الَّذِينَ يَعْصِمُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ يُعَذَّبُوا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60] قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: لَا، يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ أَوْ يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَلَّا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ.» وَقَدْ رَوَى عَطَاءٌ قَالَ: دَخَلْت مَعَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَ لَهَا: كَيْفَ كَانُوا يَقْرَءُونَ، {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} [المؤمنون: 60]؟ قَالَتْ: يَأْتُونَ مَا أَتَوْا، فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهَا قَالَ لِي عُبَيْدُ بْنَ عُمَيْرٍ: لَأَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَتْ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ حُمُرِ النَّعَمِ يَعْنِي بِقَوْلِهَا: يَأْتُونَ مَا أَتَوْا مِنْ الْمَجِيءِ أَيْ يَأْتُونَ الذُّنُوبَ وَهُمْ خَائِفُونَ. [مَسْأَلَة النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ مَقَامُ الْخَوْفِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: عَوَّلُوا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَلَا تَتَعَلَّقُوا بِأَعْضَاءِ الْكَسِيرِ، إنَّمَا كَانَ الْقَوْمُ إذَا غَلَبَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ الْإِخْلَاصُ وَالْقُرْبُ خَافُوا يَوْمَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ كَبِيرَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْأَفْضَلَ لِلْمُتَّقِينَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَيْهِمْ مَقَامُ الرَّجَاءِ، أَوْ يَغْلِبَ عَلَيْهِمْ مَقَامُ الْخَوْفِ؛ فَهَذِهِ الْآيَةُ تَشْهَدُ بِفَضْلِ غَلَبَةِ مَقَامِ الْخَوْفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ - وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ - وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 57 - 59] {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60] {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61]. وَكَانَ «النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ مَقَامُ الْخَوْفِ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ مَادًّا يَدَيْهِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: كَفَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ مُنْجِزٌ

مسألة المبادرة إلى الأعمال الصالحة

لَك مَا وَعَدَك، حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَدْ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ، مُغَلِّبًا جَانِبَ الرَّجَاءِ فِي نُفُوذِ الْوَعْدِ». قَالَ الْقَاضِي: لَيْسَ يُحْتَاجُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إلَى اخْتِلَافِ الْقِرَاءَةِ بَيْنَ يَأْتُونَ وَيُؤْتُونَ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: {يُؤْتُونَ} [المؤمنون: 60] يُعْطِي الْأَمْرَيْنِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: آتَيْت مِنْ نَفْسِي الْقَبُولَ، وَآتَيْت مِنْهَا الْإِنَابَةَ، تُرِيدُ أَعْطَيْت الْقِيَادَ مِنْ نَفْسِي يَعْنِي إذَا أَطَاعَ وَأَعْطَيْت الْعِنَادَ مِنْ نَفْسِي يَعْنِي إذَا عَصَى، فَمَعْنَاهُ يُؤْتُونَ مَا أَتَوْا مِنْ طَاعَةٍ أَوْ مِنْ مَعْصِيَةٍ، وَلَكِنْ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَسِيَاقُ الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنَّهُ يُؤْتِي الطَّاعَةَ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِالْخَشْيَةِ لِرَبِّهِمْ، وَالْإِيمَانِ بِآيَاتِهِ، وَتَنْزِيهِهِ عَنْ الشِّرْكِ، وَخَوْفِهِمْ عَدَمَ الْقَبُولِ مِنْهُمْ عِنْدَ لِقَائِهِ لَهُمْ، فَلَا جَرَمَ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يُسَارِعُ فِي الْخَيْرَاتِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ عَلَى الْعِصْيَانِ مُتَمَادِيًا فِي الْخِلَافِ مُسْتَمِرًّا، فَكَيْفَ يُوصَفُ بِأَنَّهُ يُسَارِعُ فِي الْخَيْرَاتِ أَوْ بِالْخَشْيَةِ لِرَبِّهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِيهِ. أَمَّا إنَّ الَّذِي يَأْتِي الْمَعْصِيَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: الَّذِي يَأْتِيهَا وَيَخَافُ الْعَذَابَ فَهَذَا هُوَ الْمُذْنِبُ. وَاَلَّذِي يَأْتِيهَا آمِنًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ جِهَةِ غَلَبَةِ الرَّجَاءِ عَلَيْهِ فَهُوَ الْمَغْرُورُ، وَالْمَغْرُورُ فِي حِزْبِ الشَّيْطَانِ. وَإِنْ أَتَاهَا شَاكًّا فِي الْعَذَابِ فَهُوَ مُلْحِدٌ لَا مَغْفِرَةَ لَهُ. وَلِأَجْلِ إشْكَالِ قَوْلِهِ: {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} [المؤمنون: 60] قَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْنِي بِهِ إنْفَاقَ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ إلَيْهِ صَلَاحِيَةُ لَفْظِ الْعَطَاءِ إلَّا فِي الْمَالِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لَفْظَ الْعَطَاءِ يَنْطَلِقُ فِي كُلِّ مَعْنًى: مَالٍ وَغَيْرِهِ، وَفِي كُلِّ طَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ، وَاتَّضَحَتْ الْآيَةُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة الْمُبَادَرَةَ إلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [المؤمنون: 61] هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُبَادَرَةَ إلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ مِنْ صَلَاةٍ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَغَيْرِ

الآية العاشرة قوله تعالى مستكبرين به سامرا تهجرون

ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ، هُوَ الْأَفْضَلُ، وَمَدْحُ الْبَارِي أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى صِفَةِ الْفَضْلِ فِي الْمَمْدُوحِ عَلَى غَيْرِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ مُتَقَدِّمَةٍ. [الْآيَة الْعَاشِرَة قَوْله تَعَالَى مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ] َ} [المؤمنون: 67]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الذَّمِّ أَهْلُ الْحَرَمِ قَالَ اللَّهُ لَهُمْ: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ} [المؤمنون: 66] مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ، أَيْ بِالْحَرَمِ، يُرِيدُ يَتَعَاطَوْنَ بِهِ الْكِبْرَ وَيَدَّعُونَ، حَتَّى كَانُوا يَرَوْنَ النَّاسَ يَتَخَطَّفُونَ مِنْ حَوْلِهِمْ، وَهُمْ آمِنُونَ. وَمِنْ الْكِبْرِ كُفْرٌ، وَهُوَ التَّكَبُّرُ عَلَى اللَّهِ، وَعَلَى رَسُولِهِ، وَالتَّكَبُّرُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِسْقٌ، وَالتَّكَبُّرُ عَلَى الْكُفَّارِ إيمَانٌ؛ فَلَيْسَ الْكِبْرُ حَرَامًا لِعَيْنِهِ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ حُكْمُهُ بِحُكْمِ مُتَعَلَّقِهِ. [مَسْأَلَة التَّحَلُّقُ بِاللَّيْلِ لِلسَّمَرِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {سَامِرًا} [المؤمنون: 67] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: حَلْقًا حَلْقًا، وَأَصْلُهُ التَّحَلُّقُ بِاللَّيْلِ لِلسَّمَرِ، وَكَنَّى بِقَوْلِهِ: سَامِرًا عَنْ الْجَمَاعَةِ، كَمَا يُقَالُ: بَاقِرٌ وَجَامِلٌ لِجَمَاعَةِ الْبَقَرِ وَالْجِمَالِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْمَثَلِ: لَا أُكَلِّمُهُ السَّمَرَ وَالْقَمَرَ يَعْنِي فِي قَوْلِهِمْ: اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: السَّمَرُ ظِلُّ الْقَمَرِ. وَحَقِيقَتُهُ عِنْدِي أَنَّهُ لَفْظٌ يُسْتَعْمَلُ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ لَهُمَا: ابْنَا سَمِيرٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي النَّهَارِ جِبِلَّةٌ، وَفِي اللَّيْلِ عَادَةٌ، فَانْتَظَمَا، وَعُبِّرَ عَنْهُمَا بِهِ، وَقَدْ قَرَأَهُ أَبُو رَجَاءٍ سُمَّارًا جَمْعُ سَامِرٍ. وَقَدْ قَالَ الطَّبَرِيُّ: إنَّمَا وَحَدّ سَامِرًا، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْجَمْعِ؛ لِأَنَّهُ وُضِعَ مَوْضِعَ الْوَقْتِ يَعْنِي وَالْوَقْتُ وَاحِدٌ، وَإِذَا خَرَجَ الْكَلَامُ عَنْ الْفَاعِلِ أَوْ الْفِعْلِ إلَى الْوَقْتِ وُحِّدَ لِيَدُلَّ عَلَى خُرُوجِهِ عَنْ بَابِهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 67]: قُرِئَ بِرَفْعِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ، وَبِنَصَبِ التَّاءِ وَضَمِّ الْجِيمِ؛ فَالْأَوَّلُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَهْجَرَ إذَا نَطَقَ بِالْفُحْشِ. وَالثَّانِي مِنْ هَجَرَ إذَا هَذَى، وَمَعْنَاهُ تَتَكَلَّمُونَ بِهَوَسٍ، وَلَا يَضُرُّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ؛ إنَّمَا ضَرَرُهُ نَازِلٌ بِكُمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ " هَجَرَ " فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وَلِذَلِكَ فَسَّرَهَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، فَقَالَ: مُسْتَكْبِرِينَ بِحَرَمِي، تَهْجُرُونَ نَبِيِّ وَزَادَ قَتَادَةُ أَنَّ سَامِرَ الْحَرَمِ آمِنٌ، لَا يَخَافُ بَيَاتًا، فَعَظَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ السَّمَرَ فِي الْأَمْنِ وَإِفْنَاءَهُ فِي سَبِّ الرَّسُولِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، إنَّمَا كُرِهَ السَّمَرُ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 67] يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ ذَمَّ قَوْمًا بِأَنَّهُمْ يَسْمُرُونَ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ، إمَّا فِي هَذَيَانٍ، وَإِمَّا فِي إذَايَةٍ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ وَغَيْرِهِ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا» يَعْنِي صَلَاةَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ؛ أَمَّا الْكَرَاهِيَةُ لِلنَّوْمِ قَبْلَ الْعِشَاءِ فَلِئَلَّا يُعَرِّضَهَا لِلْفَوَاتِ. وَكَذَلِكَ قَالَ عُمَرُ فِيهَا: " فَمَنْ نَامَ فَلَا نَامَتْ عَيْنُهُ، فَمَنْ نَامَ فَلَا نَامَتْ عَيْنُهُ، فَمَنْ نَامَ فَلَا نَامَتْ عَيْنُهُ ". وَأَمَّا كَرَاهِيَةُ السَّمَرِ بَعْدَهَا؛ فَلِأَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ كَفَّرَتْ خَطَايَاهُ، لِيَنَامَ عَلَى سَلَامَةٍ، وَقَدْ خَتَمَ الْمَلَكُ الْكَرِيمُ الْكَاتِبُ صَحِيفَتَهُ بِالْعِبَادَةِ، فَيَمْلَؤُهَا بِالْهَوَسِ، وَيَجْعَلُ خَاتَمَهَا الْبَاطِلَ أَوْ اللَّغْوَ؛ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ فِعْلِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّمَا يُكْرَهُ السَّمَرُ بَعْدَهَا لِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:

«إيَّاكُمْ وَالسَّمَرَ بَعْدَ هَدْأَةِ الرِّجْلِ؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَبُثُّ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ، أَغْلِقُوا الْأَبْوَابَ، وَأَوْكُوا السِّقَاءَ، وَخَمِّرُوا الْآنِيَةَ، وَأَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ». وَكَانَ عُمَرُ يَجْدِبُ السَّمَرَ بَعْدَ الْعِشَاءِ، أَيْ يَعِيبُهُ، وَيَطُوفُ بِالْمَسْجِدِ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، وَيَقُولُ: " الْحَقُوا بِرِحَالِكُمْ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَكُمْ صَلَاةً فِي بُيُوتِكُمْ " وَقَدْ كَانَ يَضْرِب عَلَى السَّمَرِ حِينَئِذٍ وَيَقُولُ: " أَسَمَرًا أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَنَوْمًا آخِرَهُ، أَرِيحُوا كِتَابَكُمْ "، حَتَّى إنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ قَرَضَ بَيْتَ شِعْرٍ بَعْدَ الْعِشَاءِ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ حَتَّى يُصْبِحَ " وَأَسْنَدَهُ شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: بَابُ السَّمَرِ فِي الْفِقْهِ وَالْخَيْرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَذَكَرَ قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: انْتَظَرْنَا الْحَسَنَ، وَرَاثَ عَلَيْنَا، حَتَّى جَاءَ قَرِيبًا مِنْ وَقْتِ قِيَامِهِ، فَقَالَ: دَعَانَا جِيرَانُنَا هَؤُلَاءِ. ثُمَّ قَالَ: قَالَ أَنَسٌ: انْتَظَرْنَا النَّبِيَّ ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى إذَا كَانَ شَطْرُ اللَّيْلِ، فَجَاءَ فَصَلَّى، ثُمَّ خَطَبَنَا، فَقَالَ: «أَلَا إنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا وَرَقَدُوا، وَإِنَّكُمْ لَمْ تَزَالُوا فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرْتُمْ الصَّلَاةَ». قَالَ الْحَسَنُ: " وَإِنَّ الْقَوْمَ لَا يَزَالُونَ فِي خَيْرِ مَا انْتَظَرُوا الْخَيْرَ ". ثُمَّ قَالَ: " بَابُ السَّمَرِ مَعَ الضَّيْفِ وَالْأَهْلِ ": وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ إنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا أُنَاسًا فُقَرَاءَ، وَإِنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ أَرْبَعَةٍ فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ بِسَادِسٍ»، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ

الآية الحادية عشرة قوله تعالى ادفع بالتي هي أحسن

جَاءَ بِثَلَاثَةٍ، وَانْطَلَقَ النَّبِيُّ بِعَشْرَةٍ. قَالَ: فَهُوَ وَأَنَا وَأَبِي وَأُمِّي، وَلَا أَدْرِي هَلْ قَالَ: وَامْرَأَتِي وَخَادِمٌ بَيْنَ بَيْتِنَا وَبَيْتِ أَبِي بَكْرٍ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ لَبِثَ حَتَّى صُلِّيَتْ الْعِشَاءُ، ثُمَّ رَجَعَ فَلَبِثَ حَتَّى نَعَسَ النَّبِيُّ، فَجَاءَ بَعْدَمَا مَضَى مِنْ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ. قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: مَا حَبَسَكَ عَنْ أَضْيَافِك؟ قَالَ: أَوَمَا عَشَّيْتِهِمْ، قَالَتْ: أَبَوْا حَتَّى تَجِيءَ. قَالَ: فَذَهَبْت أَنَا فَاخْتَبَأْتُ. وَقَالَ: يَا غُنْثَرُ، فَجَدَّعَ وَسَبَّ، وَقَالَ: " كُلُوا، لَا هَنِيئًا، وَاَللَّهِ لَا أَطْعَمُهُ أَبَدًا. وَاَيْمُ اللَّهِ مَا كُنَّا نَأْخُذُ مِنْ لُقْمَةٍ إلَّا رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرَ مِنْهَا ". قَالَ: وَشَبِعُوا، وَصَارَتْ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَنَظَرَ إلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ، فَإِذَا هِيَ كَمَا هِيَ أَوْ أَكْثَرُ. فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ، مَا هَذَا قَالَتْ: لَا، وَقُرَّةِ عَيْنِي، لَهِيَ الْآنَ أَكْثَرُ مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِثَلَاثٍ مِرَارٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ الشَّيْطَانِ يَعْنِي يَمِينَهُ، ثُمَّ أَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً، ثُمَّ حَمَلَهَا إلَى النَّبِيِّ، فَأَصْبَحْت عِنْدَهُ، وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ عَقْدٌ، فَمَضَى الْأَجَلُ، فَفَرَّقْنَا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُنَاسٌ، اللَّهُ أَعْلَمُ كَمْ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ، فَأَكَلُوا مِنْهَا أَجْمَعُونَ، أَوْ كَمَا قَالَ. قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ السَّمَرِ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ هَجْرِ الْقَوْلِ أَوْ لَغْوِهِ، أَوْ لِأَجْلِ خَوْفِ فَوْتِ قِيَامِ اللَّيْلِ. فَإِذَا كَانَ عَلَى خِلَافِ هَذَا أَوْ تَعَلَّقَتْ بِهِ حَاجَةٌ أَوْ غَرَضٌ شَرْعِيٌّ فَلَا حَرَجَ فِيهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ مَنْزَعِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَأْخَذٌ آخَرُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الْحَادِيَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى ادْفَعْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 96]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِلْعُلَمَاءِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: ادْفَعْ بِالْإِغْضَاءِ وَالصَّفْحِ إسَاءَةَ الْمُسِيءِ. الثَّانِي: ادْفَعْ الْمُنْكَرَ بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ. الثَّالِثُ: ادْفَعْ سَيِّئَتَك بِالْحَسَنَةِ بَعْدَهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]، إلَّا أَنَّ هَذِهِ خَاصَّةٌ فِي الْعَفْوِ، وَاَلَّتِي شَرَحْنَا الْكَلَامَ فِيهَا هَاهُنَا عَامَّةٌ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ حَسْبَمَا سَطَّرْنَاهُ آنِفًا، وَهِيَ مَخْصُوصَةٌ فِي الْكُفَّارِ بِالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، بَاقِيَةٌ فِي الْمُؤْمِنِينَ عَلَى عُمُومِهَا، فَأَمَّا قَوْلُهُمْ: ادْفَعْ سَيِّئَتَك بِالْحَسَنَةِ بَعْدَهَا فَيُشِيرُ إلَى الْغَفْلَةِ وَحَسَنَتُهَا الذِّكْرُ، كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيّ: أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً. وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنِّي لَأَتُوبُ إلَى اللَّهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ» وَقَالَتْ الصُّوفِيَّةُ: إنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ ادْفَعْ حَظَّ الدُّنْيَا إذَا زَحَمَ حَظَّ الْآخِرَةِ بِحَظِّ الْآخِرَةِ وَحْدَهَا. قَالَ لِي شِيحُنَا أَبُو بَكْرٍ الْفِهْرِيُّ: مَتَى اجْتَمَعَ لَك أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا لِلدُّنْيَا وَالْآخَرُ لِلَّهِ فَقَدِّمْ مَا لِلَّهِ فَإِنَّهُمَا يَحْصُلَانِ لَك جَمِيعًا. وَإِنْ قَدَّمْت الدُّنْيَا رُبَّمَا فَاتَا مَعًا، وَرُبَّمَا حَصَلَ حَظُّ الدُّنْيَا وَلَمْ يُبَارَكْ لَك فِيهِ.

الآية الثانية عشرة قوله تعالى وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين

وَلَقَدْ جَرَّبْتُهُ فَوَجَدْتُهُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ دَفْعُ الْجَفَاءِ، لَا جَرَمَ، كَذَلِكَ قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. وَفِقْهُ الْآيَةِ: اُسْلُكْ مَسْلَكَ الْكِرَامِ، وَلَا تَلْحَظْ جَانِبَ الْمُكَافَأَةِ، ادْفَعْ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَلَا تَسْلُكْ مَسْلَكَ الْمُبَايَعَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ: سَلِّمْ عَلَى مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْكَ، وَتَكْثُرُ الْأَمْثِلَةُ، وَالْقَصْدُ مَفْهُومٌ، فَاسْلُكُوهُ. [الْآيَة الثَّانِيَة عَشْرَة قَوْلُهُ تَعَالَى وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ] ِ} [المؤمنون: 97] {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 98]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا سُلْطَانَ لِلشَّيْطَانِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ اللَّهَ عَصَمَهُ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَسْتَعِيذُ مِنْهُ، كَمَا كَانَ يَسْتَغْفِرُ بَعْدَ إعْلَامِهِ بِالْمَغْفِرَةِ لَهُ، تَحْقِيقًا لِلْمَوْعِدِ، أَوْ تَأْكِيدًا لِلشَّرْطِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمْرُهُ [لَنَا] بِالِاسْتِعَاذَةِ عَامٌّ، فَلَا جَرَمَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَعِيذُ، حَتَّى عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، فَيَقُولُ: «أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْثِهِ وَنَفْخِهِ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ؛ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ».

سورة النور فيها تسع وعشرون آية

[سُورَةُ النُّورِ فِيهَا تِسْعٌ وَعِشْرُونَ آيَةً] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ] ً الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور: 1]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {سُورَةٌ} [النور: 1]: يَعْنِي مُنَزَّلَةً وَمُرَتَّبَةٌ؛ أَلَمْ تَرَوْا قَوْلَ الشَّاعِرِ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً ... تَرَى كُلَّ مُلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ وَعَامَّةُ الْقُرَّاءِ عَلَى رَفْعِهَا، وَقَرَأَهَا عِيسَى بْنُ عُمَرَ بِالنَّصْبِ؛ وَهُوَ بَيِّنٌ، فَأَمَّا الرَّفْعُ فَقَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ: إنَّهَا عَلَى خَبَرِ الِابْتِدَاءِ، التَّقْدِيرُ هَذِهِ سُورَةٌ؛ لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالنَّكِرَةِ قَبِيحٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الرِّسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ أَنَّهُ فَصِيحٌ مَلِيحٌ، وَجِئْنَا فِيهِ بِالْمِثَالِ الصَّحِيحِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَرَضْنَاهَا يُقْرَأُ بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِهَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {وَفَرَضْنَاهَا} [النور: 1]: يُقْرَأُ بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِهَا، فَمَنْ خَفَّفَ فَمَعْنَاهُ أَوْجَبْنَاهَا مُعَيَّنَةً مُقَدَّرَةً، كَمَا قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ، ذَكَرٍ وَأُنْثَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ». وَمَنْ شَدَّدَ فَمَعْنَاهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا عَلَى مَعْنَى وَضَعْنَاهَا فَرَائِضَ فَرَائِضَ، أَوْ فَرْضًا فَرْضًا، كَمَا تَقُولُ: نَزَّلْت فُلَانًا، أَيْ قَدَّرْت لَهُ الْمَنَازِلَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ.

مسألة معنى قوله تعالى وأنزلنا فيها آيات بينات

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِم: " فَنَزَّلَنِي زَيْدٌ " أَيْ رَتَّبَ لِي مَنَازِلَ كَثِيرَةً. الثَّانِي: عَلَى مَعْنَى التَّكْثِيرِ، وَهُوَ صَحِيحٌ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [النور: 1] فِيهَا حِجَجٌ وَتَوْحِيدٌ، وَفِيهَا دَلَائِلُ الْأَحْكَامِ، وَالْكُلُّ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ: حِجَجُ الْعُقُولِ تُرْشِدُ إلَى مَسَائِلِ التَّوْحِيدِ، وَدَلَائِلُ الْأَحْكَامِ تُرْشِدُ إلَى وَجْهِ الْحَقِّ، وَتَرْفَعُ غُمَّةَ الْجَهْلِ؛ وَهَذَا هُوَ شَرَفِ السُّورَةِ، وَهُوَ أَقَلُّ مَا وَقَعَ التَّحَدِّي بِهِ فِي سَبِيلِ الْمُعْجِزَةِ، فَيَكُونُ شَرَفًا لِلنَّبِيِّ فِي الْوِلَايَةِ، شَرَفًا لَنَا فِي الْهِدَايَةِ. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ] ٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]. فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {الزَّانِيَةُ} [النور: 2] قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حَدِّ الزِّنَا، وَحَقِيقَتُهُ، وَأَنَّهُ الْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ شَرْعًا فِي غَيْرِ مِلْكٍ وَلَا شُبْهَةِ مِلْكٍ، كَانَ فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ، فِي ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِاسْمِ اللُّغَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَإِنْ كَانَ بِأَنَّ اللِّوَاطَ فِي مَعْنَى الزِّنَا فَحَسَنٌ أَيْضًا، وَلَا مُبَالَاةَ كَيْفَ يُرَدُّ الْأَمْرُ عَلَيْكُمْ، فَقَدْ أَحْكَمْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَحَقَقْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ بِأَدِلَّتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ فِيهِمَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي آيَةِ السَّرِقَةِ إعْرَابًا وَقِرَاءَةً وَمَعْنًى، كِفَّةً كِفَّةً؛ فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهِ.

مسألة تفسير قوله تعالى الزانية والزاني

[مَسْأَلَة تَفْسِير قَوْله تَعَالَى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] فَذَكَرَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى فِيهِ، وَالزَّانِي كَانَ يَكْفِي عَنْهُ. قُلْنَا: هَذَا تَأْكِيدٌ لِلْبَيَانِ، كَمَا قَالَ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38]. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ فِي الزِّنَا لِئَلَّا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ الرَّجُلَ لَمَّا كَانَ هُوَ الْوَاطِئُ وَالْمَرْأَةُ مَحَلُّ ذِكْرِهِمَا دَفْعًا لِهَذَا الْإِشْكَالِ الَّذِي أَوْقَع جَمَاعَةً مِنْ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى قَالُوا: لَا كَفَّارَةَ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي الْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: جَامَعْت أَهْلِي فِي رَمَضَانَ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَفِّرْ ". وَالْمَرْأَةُ لَيْسَتْ بِمُجَامِعَةٍ وَلَا وَاطِئَةٍ، وَهَذَا تَقْصِيرٌ عَظِيمٌ مِنْ الشَّافِعِيِّ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَأَنَّهَا تَتَّصِفُ بِالْوَطْءِ، فَكَيْفَ بِالْجِمَاعِ الَّذِي هُوَ مُفَاعَلَةٌ، هَذَا مَا لَا يَخْفَى عَلَى لَبِيبٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] فَبَدَأَ بِالْمَرْأَةِ قَبْلَ الرَّجُلِ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: ذَلِكَ لِفَائِدَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: أَنَّ الزِّنَا فِي الْمَرْأَةِ أَعَرُّ لِأَجْلِ الْحَمْلِ، فَصَدَّرَ بِهَا لِعِظَمِ حَالِهَا فِي الْفَاحِشَةِ. الثَّانِيَةُ: أَنَّ الشَّهْوَةَ فِي الْمَرْأَةِ أَكْثَرُ، فَصَدَّرَ بِهَا تَغْلِيظًا لِرَدْعِ شَهْوَتِهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَكَّبَ فِيهَا حَيَاءً، وَلَكِنَّهَا إذَا زَنَتْ ذَهَبَ الْحَيَاءُ. [مَسْأَلَة حَدّ الزِّنَا] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} [النور: 2] جَعَلَ اللَّهُ كَمَا تَقَدَّمَ حَدَّ الزِّنَا قِسْمَيْنِ: رَجْمًا عَلَى الثَّيِّبِ، وَجَلْدًا عَلَى الْبِكْرِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} [النور: 2] عَامٌّ فِي كُلِّ زَانٍ، ثُمَّ شَرَحَتْ السُّنَّةُ حَالَ الثَّيِّبِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ». فَقَالَ سُنَّةً، وَأَنْزَلَ اللَّهُ الْجَلْدَ قُرْآنًا، وَبَقِيَ الرَّجْمُ عَلَى حَالِهِ فِي الثَّيِّبِ، وَالتَّغْرِيبُ فِي الْبِكْرِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ هُنَالِكَ.

مسألة المخاطب بالأمر بالجلد

[مَسْأَلَة الْمُخَاطَبَ بِالْأَمْرِ بِالْجَلْدِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَذَا الْأَمْرِ بِالْجَلْدِ الْإِمَامُ، وَمَنْ نَابَ عَنْهُ، وَزَادَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: السَّادَةُ فِي الْعَبِيدِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي كُلِّ جَلْدٍ وَقَطْعٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: فِي الْجَلْدِ خَاصَّةً دُونَ الْقَطْعِ، كَمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ: «إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ». وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [مَسْأَلَة صفة الضَّرْب لِلزُّنَاةِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} [النور: 2] فَتُسْقِطُوا الْحَدَّ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} [النور: 2] فَتُخَفِّفُوا الْحَدَّ؛ وَهُوَ عِنْدِي مَحْمُولٌ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَحْمِلَ أَحَدًا رَأْفَةٌ عَلَى زَانٍ بِأَنْ يُسْقِطَ الْحَدَّ أَوْ يُخَفِّفَهُ عَنْهُ. وَصِفَةُ الضَّرْبِ أَنْ يَكُونَ سَوْطًا بَيْنَ السَّوْطَيْنِ، وَضَرْبًا بَيْنَ الضَّرْبَيْنِ، وَتَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْحُدُودُ كُلُّهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا سَوَاءٌ بَيْنَ الْحُدُودِ، ضَرْبُ الزَّانِي أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ الْقَذْفِ، وَضَرْبُ الْقَذْفِ أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ الشُّرْبِ، وَكَأَنَّهُمْ نَظَرُوا صُورَةَ الذَّنْبِ، فَرَكَّبُوا عَلَيْهِ صِفَةَ الْعُقُوبَةِ، وَالشُّرْبُ أَخَفُّ مِنْ الْقَذْفِ، وَالْقَذْفُ أَخَفُّ مِنْ الزِّنَا؛ فَحَمَلُوهُ عَلَيْهِ وَقَرَنُوهُ بِهِ. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ أَصَابَ حَدًّا، وَأُتِيَ بِسَوْطٍ شَدِيدٍ، فَقَالَ: دُونَ هَذَا. وَأُتِيَ بِسَوْطٍ دُونَهُ، فَقَالَ: فَوْقَ هَذَا».

مسألة الحكمة من قوله تعالى وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين

وَأَمَرَ عُمَرُ بِرَجُلٍ يَضْرِبُ الْحَدَّ، فَقَالَ لَهُ: " لَا تَرْفَعْ إبِطَكَ ". وَعَنْهُ: أَنَّهُ اخْتَارَ سَوْطًا بَيْنَ السَّوْطَيْنِ. وَيُفَرَّقُ عَلَيْهِ الضَّرْبُ فِي ظَهْرِهِ، وَتُجْتَنَبُ مَقَاتِلُهُ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ. وَهَذَا مَا لَمْ يَتَتَابَعْ النَّاسُ فِي الشَّرِّ، وَلَا احْلَوْلَتْ لَهُمْ الْمَعَاصِي، حَتَّى يَتَّخِذُوهَا ضَرَاوَةً، وَيَعْطِفُ النَّاسُ عَلَيْهِمْ بِالْهَوَادَةِ، فَلَا يَتَنَاهَوْا عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ؛ فَحِينَئِذٍ تَتَعَيَّنُ الشِّدَّةُ، وَيَزِيدُ الْحَدُّ، لِأَجْلِ زِيَادَةِ الذَّنْبِ. وَقَدْ أُتِيَ عُمَرُ بِسَكْرَانٍ فِي رَمَضَانَ، فَضَرَبَهُ مِائَةً: ثَمَانِينَ حَدُّ الْخَمْرِ، وَعِشْرِينَ لِهَتْكِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ؛ فَهَكَذَا يَجِبُ أَنْ تَتَرَكَّبَ الْعُقُوبَاتُ عَلَى تَغْلِيظِ الْجِنَايَاتِ، وَهَتْكِ الْحُرُمَاتِ. وَقَدْ لَعِبَ رَجُلٌ بِصَبِيٍّ، فَضَرَبَهُ الْوَالِي ثَلَاثَمِائَةِ سَوْطٍ، فَلَمْ يُغَيِّرْ ذَلِكَ مَالِكًا حِينَ بَلَغَهُ، فَكَيْفَ لَوْ رَأَى زَمَانَنَا هَذَا بِهَتْكِ الْحُرُمَاتِ وَالِاسْتِهْتَارِ بِالْمَعَاصِي، وَالتَّظَاهُرِ بِالْمَنَاكِرِ، وَبَيْعِ الْحُدُودِ، وَاسْتِيفَاءِ الْعَبِيدِ لَهَا فِي مَنْصِبِ الْقُضَاةِ؟؛ لَمَاتَ كَمِدًا، وَلَمْ يُجَالِسْ أَحَدًا؛ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. [مَسْأَلَة الْحِكْمَة مِنْ قَوْله تَعَالَى وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]. وَفِقْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَدَّ الْمَحْدُودَ، وَمَنْ شَهِدَهُ وَحَضَرَهُ يَتَّعِظُ بِهِ وَيَزْدَجِرُ لِأَجْلِهِ، وَيَشِيعُ حَدِيثُهُ؛ فَيَعْتَبِرُ بِهِ مَنْ بَعْدَهُ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: وَاخْتُلِفَ فِي تَحْدِيدِ الطَّائِفَةِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: وَاحِدٌ، فَمَا زَادَ عَلَيْهِ؛ قَالَ إبْرَاهِيمُ. الثَّانِي: رَجُلَانِ فَصَاعِدًا؛ قَالَهُ عَطَاءٌ. الثَّالِثُ: ثَلَاثَةٌ فَصَاعِدًا؛ قَالَهُ قَوْمٌ. الرَّابِعُ: أَرْبَعَةٌ فَصَاعِدًا؛ قَالَ عِكْرِمَةُ.

الآية الثالثة قوله تعالى الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة

الْخَامِسُ: أَنَّهُ عَشْرَةٌ. وَحَقِيقَةُ الطَّائِفَةِ فِي الِاشْتِقَاقِ فَاعِلَةٌ مِنْ طَافَ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]. وَذَلِكَ يَصِحُّ فِي الْوَاحِدِ. وَمِنْ هَاهُنَا اسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، إلَّا أَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ هَاهُنَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونُوا جَمَاعَةً لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْ التَّشْدِيدِ وَالْعِظَةِ وَالِاعْتِبَارِ. وَاَلَّذِي أَشَارَ إلَى أَنْ تَكُونَ أَرْبَعَةً نَزَعَ بِأَنَّهُ أَقَلُّ عَدَدِ شُهُودِهِ. وَالصَّحِيحُ سُقُوطُ الْعَدَدِ، وَاعْتِبَارُ الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ بِهِمْ التَّشْدِيدُ مِنْ غَيْرِ حَدٍّ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً] ً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي وَجْهِ نُزُولِهَا: فِيهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: «أَنَّهَا نَزَلَتْ مَخْصُوصَةً فِي رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نِكَاحِ امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ مَهْزُولٍ، كَانَتْ مِنْ بَغَايَا الزَّانِيَاتِ، وَشَرَطَتْ لَهُ أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ»؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ. الثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ، وَكَانَ رَجُلًا يَحْمِلُ الْأَسْرَى مِنْ مَكَّةَ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِمْ الْمَدِينَةَ قَالَ: وَكَانَتْ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ بِمَكَّةَ يُقَالُ لَهَا عَنَاقُ، وَكَانَتْ صَدِيقَةً لَهُ، وَأَنَّهُ كَانَ وَعَدَ رَجُلًا مِنْ أَسَارَى مَكَّةَ يَحْمِلُهُ قَالَ: فَجِئْت حَتَّى انْتَهَيْت إلَى ظِلِّ حَائِطٍ مِنْ حَوَائِطِ مَكَّةَ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ. قَالَ: فَجَاءَتْ عَنَاقُ فَأَبْصَرْت

سَوَادَ ظِلِّي بِجَنْبِ الْحَائِطِ، فَلَمَّا انْتَهَتْ إلَيَّ عَرَفَتْنِي، فَقَالَتْ: مَرْثَدٌ، فَقُلْت: مَرْثَدٌ، فَقَالَتْ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا. هَلُمَّ، فَبِتْ عِنْدَنَا اللَّيْلَةَ، فَقُلْت: يَا عَنَاقُ؛ إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الزِّنَا قَالَتْ: يَا أَهْلَ الْخِيَامِ؛ هَذَا الرَّجُلُ يَحْمِلُ أَسْرَاكُمْ، فَتَبِعَنِي ثَمَانِيَةٌ، وَسَلَكْت الْخَنْدَمَةَ، فَانْتَهَيْت إلَى غَارٍ، فَدَخَلْت فَجَاءُوا حَتَّى قَامُوا عَلَى رَأْسِي، فَبَالُوا فَتَطَايَرَ بَوْلُهُمْ عَلَى رَأْسِي، وَعَمَّاهُمْ اللَّهُ عَنِّي. قَالَ: ثُمَّ رَجَعُوا، وَرَجَعْت إلَى صَاحِبِي فَحَمَلْتُهُ، وَكَانَ رَجُلًا ثَقِيلًا، حَتَّى انْتَهَيْت إلَى الْإِذْخِرِ، فَفَكَكْت عَنْهُ كَبْلَهُ، فَجَعَلْت أَحْمِلَهُ، وَيُعِينُنِي، حَتَّى قَدِمْت الْمَدِينَةَ، فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْكِحُ عَنَاقًا، فَأَمْسَكَ رَسُولُ اللَّهِ فَلَمْ يَرُدَّ شَيْئًا حَتَّى نَزَلَتْ: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3] فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا مَرْثَدُ، الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً، وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ إلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَلَا تَنْكِحْهَا». الثَّالِثُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ، وَكَانُوا قَوْمًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بِالْمَدِينَةِ مَسَاكِنُ وَلَا عَشَائِرُ، فَنَزَلُوا صُفَّةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانُوا أَرْبَعَمِائَةِ رَجُلٍ يَلْتَمِسُونَ الرِّزْقَ بِالنَّهَارِ، وَيَأْوُونَ إلَى الصُّفَّةِ بِاللَّيْلِ، وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ بَغَايَا مُتَعَالِنَاتٌ بِالْفُجُورِ، مَخَاصِيبُ بِالْكِسْوَةِ وَالطَّعَامِ، فَهَمَّ أَهْلُ الصُّفَّةِ أَنْ يَتَزَوَّجُوهُنَّ، فَيَأْوُوا إلَى مَسَاكِنِهِنَّ، وَيَأْكُلُوا مِنْ طَعَامِهِنَّ وَكِسْوَتِهِنَّ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ؛ قَالَهُ ابْنُ أَبِي صَالِحٍ. وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَزَادَ: أَنَّهُنَّ كُنَّ يُدْعَيْنَ الْجَهَنَّمِيَّاتُ، نِسْبَةً إلَى جَهَنَّمَ. الرَّابِعُ: مَعْنَاهُ الزَّانِي لَا يَزْنِي إلَّا بِزَانِيَةٍ، وَالزَّانِيَةُ لَا تَزْنِي إلَّا بِزَانٍ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. الْخَامِسُ: أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ فِي الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً مَحْدُودَةً، وَلَا يَنْكِحُ الزَّانِيَةَ الْمَحْدُودَةَ إلَّا زَانٍ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ وَغَيْرهمَا. السَّادِسُ: أَنَّهُ عَامٌّ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ الزَّانِيَةِ عَلَى الْعَفِيفِ، وَالْعَفِيفِ عَلَى الزَّانِيَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ مُشْكِلَاتِ الْقُرْآنِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ صِيغَةُ الْخَبَرِ، وَهُوَ عَلَى مَعْنَاهُ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَشَرَحْنَاهُ، رَدًّا عَلَى مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْخَبَرَ يَرِدُ بِمَعْنَى الْأَمْرِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ الزَّانِيَ لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً. وَنَحْنُ نَرَى الزَّانِيَ يَنْكِحُ الْعَفِيفَةَ. وَقَالَ أَيْضًا: وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ، وَنَحْنُ نَرَى الزَّانِيَةَ يَنْكِحُهَا الْعَفِيفُ، فَكَيْفَ يُوجَدُ خِلَافُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْهُ؟ وَخَبَرُهُ صِدْقٌ، وَقَوْلُهُ حَقٌّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ مُخْبِرُهُ بِخِلَافِ خَبَرِهِ؛ وَلِهَذَا أَخَذَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا مَآخِذَ مُتَبَايِنَةً، وَلَمْ أَسْمَعْ لِمَالِكٍ فِيهَا كَلَامًا. وَقَدْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَرَى أَنَّ الرَّجُلَ إذَا زَنَى بِالْمَرْأَةِ ثُمَّ نَكَحَهَا أَنَّهُمَا زَانِيَانِ، مَا عَاشَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " أَوَّلُهُ سِفَاحٌ وَآخِرُهُ نِكَاحٌ ". وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ مِثْلَهُ. وَقَالَ: " هَذَا مِثْلُ رَجُلٍ سَرَقَ ثَمَرَةً ثُمَّ اشْتَرَاهَا "، وَأَخَذَ مَالِكٌ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَرَأَى أَنَّهُ لَا يَنْكِحُهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا مِنْ مَائِهِ الْفَاسِدِ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ لَا حُرْمَةَ لَهُ، وَرَأَى مَالِكٌ أَنَّ مَاءَ الزِّنَا وَإِنْ كَانَ لَا حُرْمَةَ لَهُ، فَمَاءُ النِّكَاحِ لَهُ حُرْمَةٌ، وَمِنْ حُرْمَتِهِ أَلَّا يُصَبَّ عَلَى مَاءِ السِّفَاحِ، فَيُخْلَطُ الْحَرَامُ بِالْحَلَالِ، وَيُمْزَجُ مَاءُ الْمَهَانَةِ بِمَاءِ الْعِزَّةِ؛ فَكَانَ نَظَرُ مَالِكٍ أَشَدَّ مِنْ نَظَرِ سَائِرِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي التَّنْقِيحِ: وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْبَغَايَا فَظَاهِرٌ فِي الرِّوَايَةِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ الزَّانِيَ الْمَحْدُودَ وَهُوَ الَّذِي ثَبَتَ زِنَاهُ لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً مَحْدُودَةً، فَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ، وَأَسْنَدَهُ قَوْمٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَذَا مَعْنًى لَا يَصِحُّ نَظَرًا كَمَا لَمْ يَثْبُتْ نَقْلًا. وَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُوقَفَ نِكَاحُ مَنْ حُدَّ مِنْ الرِّجَالِ عَلَى نِكَاحِ مَنْ حُدَّ مِنْ النِّسَاءِ؛ فَبِأَيِّ أَثَرٍ يَكُونُ ذَلِكَ أَوْ عَلَى أَيِّ أَصْلٍ يُقَاسُ مِنْ الشَّرِيعَةِ؟

وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْوَطْءُ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ الْعَقْدُ؟ فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْوَطْءُ فَإِنَّ مَعْنَاهُ لَا يَكُونُ زِنًا إلَّا بِزَانِيَةٍ، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ أَنَّ الْوَطْأَيْنِ مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ زِنًا مِنْ الْجِهَتَيْنِ، وَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ وَطْءَ الزِّنَا لَا يَقَعُ إلَّا مِنْ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٍ، وَهَذَا يُؤْثَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ وَهُوَ مَعْنًى صَحِيحٌ. فَإِنْ قِيلَ: وَأَيُّ فَائِدَةٍ فِيهِ؟ وَكَذَلِكَ هُوَ. قُلْنَا: عَلِمْنَاهُ كَذَلِكَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، فَهُوَ أَحَدُ أَدِلَّتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا بَالِغٌ زَنَى بِصَبِيَّةٍ أَوْ عَاقِلٌ بِمَجْنُونَةٍ، أَوْ مُسْتَيْقِظٌ بِنَائِمَةٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الرَّجُلِ زِنًا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ زِنًا، فَهَذَا زَانٍ يَنْكِحُ غَيْرَ زَانِيَةٍ، فَيَخْرُجُ الْمُرَادُ عَنْ بَابِهِ الَّذِي تَقَدَّمَ. قُلْنَا: هُوَ زِنًا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا سَقَطَ فِيهِ الْحَدُّ، وَالْآخَرُ ثَبَتَ فِيهِ الْحَدُّ، وَإِنْ أَرَدْنَا بِهِ الْعَقْدَ كَانَ مَعْنَاهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الزَّانِيَةَ زَانٍ، أَوْ يَتَزَوَّجَ زَانٍ الزَّانِيَةَ، وَتَزْوِيجُ الزَّانِيَةِ يَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَرَحِمُهَا مَشْغُولٌ بِالْمَاءِ الْفَاسِدِ. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ قَدْ اُسْتُبْرِئَتْ. فَإِنْ كَانَ رَحِمُهَا مَشْغُولًا بِالْمَاءِ فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا، فَإِنْ فَعَلَ فَهُوَ زِنًا، لَكِنْ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ. وَأَمَّا إنْ اُسْتُبْرِئَتْ فَذَلِكَ جَائِزٌ إجْمَاعًا. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: بَيْنَمَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِي الْمَسْجِدِ إذْ جَاءَ رَجُلٌ فَلَاثَ عَلَيْهِ لَوْثًا مِنْ كَلَامٍ وَهُوَ دَهِشٌ، فَقَالَ لِعُمَرَ: " قُمْ فَانْظُرْ فِي شَأْنِهِ، فَإِنَّ لَهُ شَأْنًا ". فَقَامَ إلَيْهِ عُمَرُ، فَقَالَ: " إنَّ ضَيْفًا ضَافَهُ فَزَنَى بِابْنَتِهِ " فَضَرَبَ عُمَرُ فِي صَدْرِهِ. وَقَالَ: " قَبَّحَكَ اللَّهُ، أَلَا سَتَرْتَ عَلَى ابْنَتِكَ "، فَأَمَرَ بِهِمَا أَبُو بَكْرٍ فَضُرِبَا الْحَدَّ، ثُمَّ زَوَّجَ أَحَدَهُمَا الْآخَرَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِمَا أَنْ يُغَرَّبَا حَوْلًا. وَقَدْ رَوَى نَافِعٌ أَنَّ رَجُلًا اسْتَكْرَهَ جَارِيَةً فَافْتَضَّهَا، فَجَلَدَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَلَمْ يَجْلِدْهَا، وَنَفَاهُ سَنَةً، ثُمَّ جَاءَ فَزَوَّجَهُ إيَّاهَا بَعْد ذَلِكَ، وَجَلَدَهُ عُمَرُ وَنَفَى أَحَدَهُمَا إلَى خَيْبَرَ، وَالْآخَرُ إلَى فَدَكَ.

الآية الرابعة قوله تعالى والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء

وَرَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّ رَجُلًا فَجَرَ بِامْرَأَةٍ وَهُمَا بِكْرَانِ، فَجَلَدَهُمَا أَبُو بَكْرٍ، وَنَفَاهُمَا، ثُمَّ زَوَّجَهُ إيَّاهَا مِنْ بَعْدِ الْحَوْلِ. وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ وَأَشْبَهُ بِالنَّظَرِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الزَّوَاجُ بَعْدَ تَمَامِ التَّغْرِيبِ وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً، وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ. قَالَ: نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْآيَةَ الَّتِي بَعْدَهَا: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْصِيصٌ عَامٌّ وَبَيَانٌ لِمُحْتَمَلٍ، كَمَا تَقْتَضِيهِ الْأَلْفَاظُ وَتَوْجِيهٌ لِأُصُولٍ، مَنْ فَسَّرَ النِّكَاحَ بِالْوَطْءِ أَوْ بِالْعَقْدِ وَتَرْكِيبُ الْمَعْنَى عَلَيْهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ] الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4]. فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ} [النور: 4]. يُرِيدُ يَشْتُمُونَ. وَاسْتُعِيرَ لَهُ اسْمُ الرَّمْيِ، لِأَنَّهُ إذَايَةٌ بِالْقَوْلِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لَهُ الْقَذْفُ. ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ السَّحْمَاءِ، وَقَالَ أَبُو كَبْشَةَ: وَجُرْحُ اللِّسَانِ كَجُرْحِ الْيَدِ وَقَالَ: رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْت مِنْهُ وَوَالِدِي ... بَرِيئًا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوَى رَمَانِي الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ} [النور: 4] مُخْتَلَفٌ فِي كَوْنِهِ مَوْضِعَ رَفْعٍ أَوْ نَصْبٍ، كَاخْتِلَافِهِمْ فِي السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ وَالزَّانِيَةِ وَالزَّانِي سَوَاءٌ.

مسألة شروط القذف

[مَسْأَلَة شُرُوطُ الْقَذْفِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] قَدْ بَيَّنَّا الْإِحْصَانَ وَأَقْسَامَهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَقُلْنَا: إنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْعِفَّةِ؛ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْعِفَّةُ هَاهُنَا. وَشُرُوطُ الْقَذْفِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ تِسْعَةٌ: شَرْطَانِ فِي الْقَاذِفِ، وَشَرْطَانِ فِي الْمَقْذُوفِ بِهِ، وَخَمْسَةٌ فِي الْمَقْذُوفِ. فَأَمَّا الشَّرْطَانِ اللَّذَانِ فِي الْقَاذِفِ: فَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ. وَأَمَّا الشَّرْطَانِ فِي الشَّيْءِ الْمَقْذُوفِ مِنْهُ: فَهُوَ أَنْ يَقْذِفَهُ بِوَطْءٍ يَلْزَمُهُ فِيهِ الْحَدُّ، وَهُوَ الزِّنَا أَوْ اللِّوَاطُ، أَوْ يَنْفِيهِ مِنْ أَبِيهِ، دُونَ سَائِرِ الْمَعَاصِي. وَأَمَّا الْخَمْسُ الَّتِي فِي الْمَقْذُوفِ فَهِيَ: الْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْإِسْلَامُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْعِفَّةُ عَنْ الْفَاحِشَةِ الَّتِي رُمِيَ بِهَا كَانَ عَفِيفًا عَنْ غَيْرِهَا أَوْ لَا. فَأَمَّا اشْتِرَاطُ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ فِي الْقَاذِفِ؛ فَلِأَنَّهُمَا أَصْلَا التَّكْلِيفِ؛ إذْ التَّكْلِيفُ سَاقِطٌ دُونَهُمَا، وَإِنَّمَا شَرَطْنَاهُمَا فِي الْمَقْذُوفِ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا فِي مَعَانِي الْإِحْصَانِ لِأَجْلِ أَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا وُضِعَ لِلزَّجْرِ عَنْ الْإِذَايَةِ بِالْمَعَرَّةِ الدَّاخِلَةِ عَلَى الْمَقْذُوفِ، وَلَا مَعَرَّةَ عَلَى مَنْ عَدِمَ الْعَقْلَ وَالْبُلُوغَ؛ إذْ لَا يُوصَفُ الْوَطْءُ فِيهِمَا وَلَا مِنْهُمَا بِأَنَّهُ زِنًا. وَأَمَّا شُرُوطُ الْإِسْلَامِ فِيهِ؛ فَلِأَنَّهُ مِنْ مَعَانِي الْإِحْصَانِ وَأَشْرَفِهَا، كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، وَلِأَنَّ عِرْضَ الْكَافِرَ لَا حُرْمَةَ لَهُ يَهْتِكُهَا الْقَذْفُ، كَالْفَاسِقِ الْمُعْلِنِ لَا حُرْمَةَ لِعِرْضِهِ؛ بَلْ هُوَ أَوْلَى لِزِيَادَةِ الْكُفْرِ عَلَى الْمُعْلِنِ بِالْفِسْقِ. وَأَمَّا شَرَفُ الْعِفَّةِ؛ فَلِأَنَّ الْمَعَرَّةَ لَاحِقَةٌ بِهِ، وَالْحُرْمَةُ ذَاهِبَةٌ، وَهِيَ مُرَادَةٌ هَاهُنَا إجْمَاعًا. وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَإِنَّمَا شَرَطْنَاهَا لِأَجْلِ نُقْصَانِ عِرْضِ الْعَبْدِ عَنْ عِرْضِ الْحُرِّ، بِدَلِيلِ نُقْصَانِ حُرْمَةِ دَمِهِ عَنْ دَمِهِ؛ وَلِذَلِكَ لَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ، وَلَا يُحَدُّ بِقَذْفِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.

مسألة المراد بالرمي هاهنا التعبير بالزنا

[مَسْأَلَة الْمُرَادُ بِالرَّمْيِ هَاهُنَا التَّعْبِيرُ بِالزِّنَا] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمُرَادُ بِالرَّمْيِ هَاهُنَا التَّعْبِيرُ بِالزِّنَا خَاصَّةً؛ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ زَوْجَهُ بِشَرِيكِ بْنِ السَّحْمَاءِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَيِّنَةَ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِك» وَالنُّكْتَةُ الْبَدِيعَةُ فِيهِ أَنَّهُ قَالَ: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4]، وَاَلَّذِي يَفْتَقِرُ إلَى أَرْبَعَةِ شُهَدَاءِ هُوَ الزِّنَا؛ وَهَذَا قَاطِعٌ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {يَرْمُونَ} [النور: 4] اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إذَا صَرَّحَ بِالزِّنَا كَانَ قَذْفًا وَذَنْبًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ؛ فَإِنَّ عَرَّضَ وَلَمْ يُصَرِّحْ، فَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ قَذْفٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ بِقَذْفٍ. وَمَالِكٌ أَسَدُّ طَرِيقَةٍ فِيهِ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيضَ قَوْلٌ يَفْهَمُ مِنْهُ سَامِعُهُ الْحَدَّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا، كَالتَّصْرِيحِ. وَالْمُعَوَّلُ عَلَى الْفَهْمِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ مُخْبِرًا عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ: {إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87] وَقَالَ فِي أَبِي جَهْلٍ: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] وَهَذَا ظَاهِرٌ. [مَسْأَلَة قَالَ لَهُ يَا مَنْ وَطِئَ بَيْنَ الْفَخِذَيْنِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فَإِنْ قَالَ لَهُ: يَا مَنْ وَطِئَ بَيْنَ الْفَخِذَيْنِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فِيهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ تَعْرِيضٌ. وَقَالَ أَشْهَبُ: لَا حَدَّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ نَسَبَهُ إلَى فِعْلٍ لَا يُعَدُّ زِنًا إجْمَاعًا. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: أَصْوَبُ مِنْ جِهَةِ التَّعْرِيضِ. [مَسْأَلَة رَمَى صَبِيَّةً يُمْكِنُ وَطْؤُهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ بِالزِّنَا] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: إذَا رَمَى صَبِيَّةً يُمْكِنُ وَطْؤُهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ بِالزِّنَا كَانَ قَذْفًا عِنْدَ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَيْسَ بِقَذْفٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًا؛ إذْ لَا حَدَّ عَلَيْهَا.

مسألة كيفية الشهادة علي الزنا

وَعَوَّلَ مَالِكٌ عَلَى أَنَّهُ تَعْيِيرٌ تَامٌّ بِوَطْءٍ كَامِلٍ، فَكَانَ قَذْفًا. وَالْمَسْأَلَةُ مُحْتَمِلَةٌ مُشْكِلَةٌ، لَكِنْ مَالِكٌ غَلَّبَ حِمَايَةَ عِرْضِ الْمَقْذُوفِ، وَغَيْرُهُ رَاعَى حِمَايَةَ طُهْرِ الْقَاذِفِ. وَحِمَايَةُ عِرْضِ الْمَقْذُوفِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْقَاذِفَ كَشَفَ سِتْرَهُ بِطَرْفِ لِسَانِهِ فَلَزِمَهُ الْحَدُّ. [مَسْأَلَة كَيْفِيَّةَ الشَّهَادَةِ عَلَيَّ الزِّنَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] كَثَّرَ اللَّهُ عَدَدَ الشُّهُودِ فِي الزِّنَا عَلَى سَائِرِ الْحُقُوقِ رَغْبَةً فِي السَّتْرِ عَلَى الْخَلْقِ، وَحَقَّقَ كَيْفِيَّةَ الشَّهَادَةِ حَتَّى رَبَطَ أَنْ يَقُولَ: رَأَيْت ذَلِكَ مِنْهُ فِي ذَلِكَ مِنْهَا؛ أَيْ الْمِرْوَدَ فِي الْمُكْحُلَةِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ قَبْلُ. فَلَوْ قَالُوا: رَأَيْنَاهُ يَزْنِي بِهَا الزِّنَا الْمُوجِبَ لِلْحَدِّ؟ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَكُونُونَ قَذَفَةً. وَقَالَ غَيْرُهُ: إذَا كَانُوا فُقَهَاءَ وَالْقَاضِي فَقِيهًا كَانَتْ شَهَادَةً. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ عَدَدَ الشُّهُودِ تَعَبُّدٌ، وَلَفْظُ الشَّهَادَةِ تَعَبُّدٌ، وَصِفَتُهَا تَعَبُّدٌ، فَلَا يُبَدَّلَ شَيْءٌ مِنْهَا بِغَيْرِهِ، حَتَّى قَالَ عُلَمَاؤُنَا وَهِيَ: [مَسْأَلَة شَرْطِ أَدَاءِ الشُّهُودِ لِلشَّهَادَةِ فِي الزِّنَا] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إنَّ مِنْ شَرْطِ أَدَاءِ الشُّهُودِ لِلشَّهَادَةِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ افْتَرَقُوا لَمْ تَكُنْ شَهَادَةً. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ مُجْتَمَعِينَ وَمُفْتَرِقِينَ، فَرَأَى مَالِكٌ أَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ تَعَبُّدٌ، وَرَأَى عَبْدُ الْمَلِكِ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ وَاجْتِمَاعِهَا؛ وَهُوَ أَقْوَى. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى الْمُحْصَنَاتِ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْلُهُ: {الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] قِيلَ: هُوَ وَصْفٌ لِلنِّسَاءِ، وَلَحِقَ بِهِنَّ الرِّجَالُ، وَاخْتُلِفَ فِي وَجْهِ إلْحَاقِ الرِّجَالِ بِهِنَّ؛ فَقِيلَ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِنَّ؛ كَمَا أُلْحِقَ ذُكُورُ الْعَبِيدِ بِإِمَائِهِمْ فِي تَشْطِيرِ الْحَدِّ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ شَيْخِ السُّنَّةِ، وَمَذْهَبُ لِسَانِ الْأُمَّةِ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَيْسَ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ؛ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ كَوْنِ الشَّيْءِ فِي مَعْنَى الشَّيْءِ قَبْلَ النَّظَرِ إلَى عِلَّتِهِ، وَجُعِلَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ إلْحَاقُ الْأَمَةِ بِالْعَبْدِ فِي قَوْلِهِ: " مَنْ

مسألة حد القذف

أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ [فَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ قَدْرُ مَا يَبْلُغُ قِيمَتَهُ] قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ ". فَهَذَا إذَا سَمِعَهُ كُلُّ أَحَدٍ عَلِمَ أَنَّ الْأَمَةَ كَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْظُرَ فِي وَجْهِ الْجَامِعِ بَيْنَهُمَا فِي الِاشْتِرَاكِ فِي حُكْمِ السِّرَايَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الْأَنْفُسُ الْمُحْصَنَاتُ. وَهَذَا كَلَامُ مَنْ جَهِلَ الْقِيَاسَ وَفَائِدَتَهُ، وَخَفِيَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَعْلَمْ كَوْنَهُ أَصْلَ الدِّينِ وَقَاعِدَتَهُ. وَالصَّحِيحُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ كَمَا قَدَّمْنَا عَنْهُمَا، مِنْ أَنَّهُ قِيَاسٌ صَرِيحٌ صَحِيحٌ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الَّذِينَ رَمَوْا عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَلَا جَرَمَ جَلَدَ النَّبِيُّ مِنْهُمْ مَنْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي سَائِرِ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. [مَسْأَلَة حَدّ القذف] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَدٌّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ كَالزِّنَا؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ. الثَّانِي: أَنَّهُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْمَقْذُوفِ؛ قَالَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. الثَّالِثُ: قَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ: فِي حَدِّ الْقَذْفِ شَائِبَتَانِ؛ شَائِبَةُ حَقِّ اللَّهِ وَهِيَ الْمُغَلَّبَةُ. وَقَالَ الْآخَرُونَ: شَائِبَةُ حَقِّ الْعَبْدِ هِيَ الْمُغَلَّبَةُ. وَلِهَذَا الشَّوْبِ اضْطَرَبَ فِيهِ رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ حَقُّ الْآدَمِيِّينَ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَقِفُ عَلَى مُطَالَبَتِهِ، وَأَنَّهُ يَصِحُّ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ، أَصْلُهُ الْقِصَاصُ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَعُمْدَتُهُمْ أَنَّهُ يَتَشَطَّرُ بِالرِّقِّ فَكَانَ كَالزِّنَا. قُلْنَا: يَبْطُلُ بِالنِّكَاحِ فَإِنَّهُ يَتَشَطَّرُ بِالرِّقِّ، فَلَا يَنْكِحُ الْعَبْدُ إلَّا اثْنَتَيْنِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْنَا، وَعِنْدَهُمْ هُوَ حَثُّ الْآدَمِيِّ، فَيَبْطُلُ مَا قَالُوهُ.

مسألة حد القذف لا يقيمه الإمام إلا بمطالبة المقذوف

[مَسْأَلَة حَدّ القذف لَا يُقِيمُهُ الْإِمَامُ إلَّا بِمُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: أَنَّهُ لَا يُقِيمُهُ الْإِمَامُ إلَّا بِمُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا يَفْتَقِرُ إلَى مُطَالَبَةِ الْآدَمِيِّ. وَلَعَلَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ ذَلِكَ إذَا سَمِعَهُ الْإِمَامُ بِمَحْضَرِ عُدُولِ الشُّهُودِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَظْهَرَ. وَلَكِنْ بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حُجَّةِ الْإِمَامِ أَنْ يَقُولَ لَا أَحَدُّهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ عِنْدِي إثْبَاتَ مَا نُسِبَ إلَيْهِ، فَإِنْ ادَّعَى سَجَنَهُ، وَلَمْ يُحَدَّ بِحَالٍ. [مَسْأَلَة يُحَدُّ الْعَبْدُ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: يُحَدُّ الْعَبْدُ ثَمَانِينَ بِعُمُومِ الْآيَةِ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّهُ حَدٌّ فَلْيَتَشَطَّرْ بِالرِّقِّ، كَحَدِّ الزِّنَا، وَخَصُّوا الْأَمَةَ بِالْقِيَاسِ. [مَسْأَلَة عَلَّقَ اللَّهُ عَلَى الْقَذْفِ ثَلَاثَةَ أَحْكَامٍ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] عَلَّقَ اللَّهُ عَلَى الْقَذْفِ ثَلَاثَةَ أَحْكَامٍ: الْحَدَّ، وَرَدَّ الشَّهَادَةِ، وَالتَّفْسِيقَ؛ تَغْلِيظًا لِشَأْنِهِ، وَتَعْظِيمًا لِأَمْرِهِ، وَقُوَّةً فِي الرَّدْعِ عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: رَدُّ الشَّهَادَةِ مِنْ جُمْلَةِ الْحَدِّ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: بَلْ رَدُّهَا مِنْ عِلَّةِ الْفِسْقِ، فَإِذَا زَالَ بِالتَّوْبَةِ زَالَ رَدُّ الشَّهَادَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 5]، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ التَّوْبَةَ تُسْقِطُ الْفِسْقَ، وَاخْتَلَفُوا فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا تُقْبَلُ قَبْلَ الْحَدِّ وَبَعْدَ التَّوْبَةِ؛ قَالَهُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَغَيْرُهَا مِنْ جُمْهُورِ النَّاسِ. الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا قَذَفَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَبَدًا، لَا قَبْلَ الْحَدِّ وَلَا بَعْدَهُ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ شُرَيْحٍ.

الثَّالِثُ: أَنَّهَا تُقْبَلُ قَبْلَ الْحَدِّ، وَلَا تُقْبَلُ بَعْدَهُ؛ وَإِنْ تَابَ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ. الرَّابِعُ: أَنَّهَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بَعْدَ الْحَدِّ، وَلَا تُقْبَلُ قَبْلَهُ؛ وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ طَوِيلَةٌ. وَقَدْ حَقَقْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَأَوْضَحْنَا سَبِيلَ النَّحْوِ فِيهَا فِي كِتَابِ الْمُلْجِئَةِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَجْعَلُ رَدَّ الشَّهَادَةِ مِنْ جُمْلَةِ الْحَدِّ، وَيَرَى أَنَّ قَبُولَ الشَّهَادَةِ وِلَايَةٌ قَدْ زَالَتْ بِالْقَذْفِ، وَجُعِلَتْ الْعُقُوبَةُ فِيهَا فِي مَحَلِّ الْجِنَايَةِ، وَهِيَ اللِّسَانُ تَغْلِيظًا لِأَمْرِهَا. وَقُلْنَا نَحْنُ: إنَّهَا حُكْمٌ عِلَّتُهُ الْفِسْقُ، فَإِذَا زَالَتْ الْعِلَّةُ وَهِيَ الْفِسْقُ بِالتَّوْبَةِ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمَعَاصِي. وَقَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ كَاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ؛ فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِأَبِي بَكْرَةَ: تُبْ أَقْبَلْ شَهَادَتَكَ، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ زَنَى بِفُلَانَةَ. وَنَصُّ الْحَادِثَةِ مَا رَوَاهُ أَبُو جَعْفَرٍ قَالَ: كَانَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ يُبَاغِي أَبَا بَكْرَةَ وَيُنَافِرُهُ، وَكَانَا بِالْبَصْرَةِ مُتَجَاوِرَيْنِ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ، وَكَانَا فِي مَشْرُبَتَيْنِ مُتَقَابِلَتَيْنِ فِي دَارَيْهِمَا، فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كُوَّةٌ تُقَابِلُ الْأُخْرَى، فَاجْتَمَعَ إلَى أَبِي بَكْرَةَ نَفَرٌ يَتَحَدَّثُونَ فِي مَشْرُبَتِهِ، فَهَبَّتْ رِيحٌ، فَفَتَحَتْ بَابَ الْكُوَّةِ فَقَامَ أَبُو بَكْرَةَ لِيَصْفِقَهُ، فَبَصَرَ بِالْمُغِيرَةِ وَقَدْ فَتَحَتْ الرِّيحُ بَابَ الْكُوَّةِ فِي مَشْرُبَتِهِ وَهُوَ بَيْنَ رِجْلَيْ امْرَأَةٍ قَدْ تَوَسَّطَهَا، فَقَالَ لِلنَّفَرِ: قُومُوا فَانْظُرُوا، ثُمَّ اشْهَدُوا؛ فَقَامُوا فَنَظَرُوا، فَقَالُوا: وَمَنْ هَذِهِ؟ فَقَالَ هَذِهِ أُمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ الْأَرْقَمِ. وَكَانَتْ أُمُّ جَمِيلٍ غَاشِيَةً لِلْمُغِيرَةِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْأَشْرَافِ، وَكَانَ بَعْضُ النِّسَاءِ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي زَمَانِهَا، فَلَمَّا خَرَجَ الْمُغِيرَةُ إلَى الصَّلَاةِ حَالَ أَبُو بَكْرَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: لَا تُصَلِّ بِنَا، فَكَتَبُوا إلَى عُمَرَ بِذَلِكَ، فَبَعَثَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى

وَاسْتَعْمَلَهُ، وَقَالَ لَهُ: إنِّي أَبْعَثُكَ إلَى أَرْضٍ قَدْ بَاضَ فِيهَا الشَّيْطَانُ وَفَرَّخَ؛ فَالْزَمْ مَا تَعْرِفُ، وَلَا تُبَدَّلْ فَيُبَدِّلُ اللَّهُ بِك. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ أَعِنِّي بِعِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ؛ فَإِنِّي وَجَدْتُهُمْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ كَالْمِلْحِ لَا يَصْلُحُ الطَّعَامُ إلَّا بِهِ. قَالَ: فَاسْتَعِنْ بِمَنْ أَحْبَبْت. فَاسْتَعَانَ بِتِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا، مِنْهُمْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَهِشَامُ بْنُ عَامِرٍ. ثُمَّ خَرَجَ أَبُو مُوسَى، حَتَّى أَنَاخَ بِالْبَصْرَةِ، وَبَلَغَ الْمُغِيرَةَ إقْبَالُهُ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا جَاءَ أَبُو مُوسَى زَائِرًا وَلَا تَاجِرًا، وَلَكِنَّهُ جَاءَ أَمِيرًا. ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو مُوسَى فَدَفَعَ إلَى الْمُغِيرَةِ كِتَابَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَفِيهِ: أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَبَعَثْت أَبَا مُوسَى أَمِيرًا؛ فَسَلِّمْ إلَيْهِ مَا فِي يَدَيْك، وَالْعَجَلَ. فَأَهْدَى الْمُغِيرَةُ لِأَبِي مُوسَى وَلِيدَةً مِنْ وَلِيدَاتِ الطَّائِفِ تُدْعَى عَقِيلَةُ، وَقَالَ لَهُ: إنِّي قَدْ رَضِيتهَا لَك. وَكَانَتْ فَارِهَةً. وَارْتَحَلَ الْمُغِيرَةُ وَأَبُو بَكْرَةَ وَنَافِعُ بْنُ كَلَدَةَ، وَزِيَادٌ، وَشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ، حَتَّى قَدِمُوا عَلَى عُمَرَ، فَجَمَعَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُغِيرَةِ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ لِعُمَرَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ سَلْ هَؤُلَاءِ الْأَعْبُدِ كَيْف رَأَوْنِي مُسْتَقْبِلَهُمْ أَوْ مُسْتَدْبِرَهُمْ، وَكَيْف رَأَوْا الْمَرْأَةَ، وَهَلْ عَرَفُوهَا، فَإِنْ كَانُوا مُسْتَقْبِلِيَّ فَكَيْفَ لَمْ أَسْتَتِرْ، أَوْ مُسْتَدْبِرِيَّ فَبِأَيِّ شَيْءٍ اسْتَحَلُّوا النَّظَرَ إلَيَّ عَلَى امْرَأَتِي، وَاَللَّهِ مَا أَتَيْت إلَّا زَوْجَتِي، وَكَانَتْ تُشْبِهُهَا. فَبَدَأَ بِأَبِي بَكْرَةَ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ رَآهُ بَيْنَ رِجْلَيْ أُمِّ جَمِيلٍ، وَهُوَ يُدْخِلُهُ وَيُخْرِجُهُ كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ. قَالَ: وَكَيْفَ رَأَيْتَهُمَا؟ قَالَ: مُسْتَدْبِرُهُمَا. قَالَ: وَكَيْفَ اسْتَثْبَتَّ رَأْسَهَا؟ قَالَ: تَحَامَلْتُ حَتَّى رَأَيْتُهَا.

ثُمَّ دَعَا بِشِبْلِ بْنِ مَعْبَدٍ، فَشَهِدَ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَشَهِدَ نَافِعٌ بِمِثْلِ شَهَادَةِ أَبِي بَكْرَةَ؛ وَلَمْ يَشْهَدْ زِيَادٌ بِمِثْلِ شَهَادَتِهِمْ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: رَأَيْته جَالِسًا بَيْنَ رِجْلَيْ امْرَأَةٍ. فَرَأَيْت قَدَمَيْنِ مَخْضُوبَتَيْنِ تَخْفِقَانِ، وَاسْتَيْنِ مَكْشُوفَيْنِ، وَسَمِعْت حَفَزَانًا شَدِيدًا. قَالَ: هَلْ رَأَيْت كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفُ الْمَرْأَةَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أُشَبِّهُهَا. قَالَ لَهُ: تَنَحَّ. وَأَمَرَ بِالثَّلَاثَةِ فَجُلِدُوا الْحَدَّ، وَقَرَأَ: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13]. قَالَ الْمُغِيرَةُ: اشْفِنِي مِنْ الْأَعْبُدِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ لَهُ: اُسْكُتْ، أَسْكَتَ اللَّهُ نَأْمَتَك، أَمَا وَاَللَّهِ لَوْ تَمَّتْ الشَّهَادَةُ لَرَجَمْتُكَ بِأَحْجَارِكَ. وَرَدَّ عُمَرُ شَهَادَةَ أَبِي بَكْرَةَ، وَكَانَ يَقُولُ لَهُ: تُبْ أَقْبَلْ شَهَادَتَكَ، فَيَأْبَى حَتَّى كَتَبَ عَهْدَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ: هَذَا مَا عَهِدَ بِهِ أَبُو بَكْرَةَ نُفَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ، وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ زَنَى بِجَارِيَةِ بَنِي فُلَانٍ. وَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ حِينَ لَمْ يَفْضَحْ الْمُغِيرَةَ. وَرُوِيَ أَنَّ الثَّلَاثَةَ لَمَّا أَدَّوْا الشَّهَادَةَ عَلَى الْمُغِيرَةِ، وَتَقَدَّمَ زِيَادٌ آخِرُهُمْ قَالَ لَهُ عُمَرُ قَبْلَ أَنْ يَشْهَدَ: إنِّي لَأَرَاك حَسَنَ الْوَجْهِ. وَإِنِّي لَأَرْجُو أَلَّا يَفْضَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْك رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ مَا قَالَ. وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلُ ظُهُورِ زِيَادٍ، فَلَيْتَهُ وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ، وَمَا زَادَ، وَلَكِنَّهُ اسْتَمَرَّ حَتَّى خَتَمَ الْحَالَ بِغَايَةِ الْفَسَادِ. وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ عُمَرَ قَضَاءً ظَاهِرًا فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْقَذَفَةِ، إذَا لَمْ تَتِمَّ شَهَادَتُهُمْ؛ وَفِي قَبُولِهَا بَعْدَ التَّوْبَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَالْأُصُولِ. وَتَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِهِ: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5]، وَقَالُوا: إنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ رَاجِعٌ إلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ، مَا عَدَا إقَامَةِ الْحَدِّ، فَإِنَّهُ سَقَطَ بِالْإِجْمَاعِ.

الآية الخامسة قوله تعالى والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّهُ يَرْجِعُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ. وَالصَّحِيحُ رُجُوعُهُ إلَى الْجَمِيعِ لُغَةً وَشَرِيعَةً، أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] وَهَذِهِ الْآيَةُ أُخْتُهَا وَنَظِيرَتُهَا فِي الْمَقْصُودِ. وَأَمَّا قَبُولُ الشَّهَادَةِ قَبْلَ الْحَدِّ؛ فَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَحَالُهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْكَذِبِ السَّالِبِ لِلْعَدَالَةِ، وَبَيْنَ الصِّدْقِ الْمُصَحِّحِ لَهَا، فَلَا يَسْقُطُ يَقِينٌ لَهُ بِمُحْتَمَلِ مَقَالِهِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ ضَعْفُ مَقَالَةِ شُرَيْحٍ. وَأَمَّا قَوْلُ إبْرَاهِيمَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِلَّا فَلَا مَعْنَى لَهُ. [الْآيَة الْخَامِسَة قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلَّا أَنْفُسُهُمْ] الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6]. فِيهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ قَوْلَهُ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الْآيَةَ كَانَ ذَلِكَ عَامًّا فِي الزَّوْجَاتِ وَغَيْرِهِنَّ، فَلَمَّا عَلِمَ اللَّهُ مِنْ ضَرُورَةِ الْخَلْقِ فِي التَّكَلُّمِ بِحَالِ الزَّوْجَاتِ جَعَلَ لَهُمْ مَخْلَصًا مِنْ ذَلِكَ بِاللِّعَانِ، عَلَى مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4]. قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: أَهَكَذَا نَزَلَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ لَوْ أَتَيْت لَكَاعِ وَقَدْ تَفَخَّذَهَا رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ لِي أَنْ أُهَيِّجَهُ

وَأُخْرِجَهُ حَتَّى آتِي بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، فَوَاَللَّهِ مَا كُنْت لِآتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ حَاجَتِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؛ أَمَا تَسْمَعُونَ مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ؟ قَالُوا: لَا تَلُمْهُ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ غَيُورٌ، مَا تَزَوَّجَ فِينَا قَطُّ إلَّا عَذْرَاءَ، وَلَا طَلَّقَ امْرَأَةً قَطُّ فَاجْتَرَأَ رَجُلٌ مِنَّا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا. قَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ بِأَبِي وَأُمِّي، وَاَللَّهِ لَأَعْرِفُ أَنَّهَا مِنْ اللَّهِ، وَأَنَّهَا الْحَقُّ. فَوَاَللَّهِ مَا لَبِثُوا إلَّا يَسِيرًا حَتَّى جَاءَ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ مِنْ حَدِيقَةٍ لَهُ، فَرَأَى بِعَيْنِهِ وَسَمِعَ بِأُذُنَيْهِ، فَأَمْسَكَ حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ غَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنِّي جِئْت أَهْلِي عِشَاءً، فَرَأَيْت رَجُلًا مَعَ أَهْلِي، رَأَيْت بِعَيْنِي وَسَمِعْت بِأُذُنِي. فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَتَاهُ، وَثَقُلَ عَلَيْهِ جِدًّا، حَتَّى عُرِفَتْ الْكَرَاهِيَةُ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ هِلَالٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنِّي أَرَى الْكَرَاهِيَةَ فِي وَجْهِك مِمَّا أَتَيْتُك بِهِ، وَاَللَّهُ يَعْلَمُ إنِّي لَصَادِقٌ؛ وَإِنِّي لِأَرْجُوَ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ فَرَجًا. فَقَالُوا: اُبْتُلِينَا بِمَا قَالَ سَعْدٌ، أَيُجْلَدُ هِلَالٌ، وَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ؟ فَهَمَّ رَسُولُ اللَّهِ بِضَرْبِهِ، وَإِنَّهُ لَكَذَلِكَ يُرِيدُ أَنْ يَأْمُرَ بِضَرْبِهِ إذْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] الْآيَاتِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَبْشِرْ يَا هِلَالُ، إنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَك فَرَجًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرْسِلُوا إلَيْهِمَا فَلَمَّا اجْتَمَعَا قِيلَ لَهَا فَكَذَّبَتْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا لَكَاذِبٌ، فَهَلْ فِيكُمَا تَائِبٌ فَقَالَ هِلَالٌ: لَقَدْ صَدَقْت، وَمَا قُلْت إلَّا حَقًّا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَاعِنُوا بَيْنَهُمَا. قِيلَ لِهِلَالٍ: اشْهَدْ، فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ. فَقِيلَ لَهُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ: يَا هِلَالُ؛ اتَّقِ اللَّهَ، فَإِنَّ عَذَابَ اللَّهِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ النَّاسِ

وَإِنَّهَا الْمُوجِبَةُ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْكَ الْعُقُوبَةَ. فَقَالَ هِلَالٌ: وَاَللَّهِ مَا يُعَذِّبُنِي اللَّهُ عَلَيْهَا كَمَا لَمْ يَجْلِدْنِي عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَشَهِدَ الْخَامِسَةَ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ. ثُمَّ قِيلَ لَهَا: تَشْهَدِي، فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ. ثُمَّ قِيلَ لَهَا عِنْدَ الْخَامِسَةِ: اتَّقِي اللَّهَ فَإِنَّ عَذَابَ اللَّهِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ النَّاسِ، وَإِنَّ هَذِهِ الْمُوجِبَةُ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْك الْعَذَابَ، فَتَلَكَّأَتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: وَاَللَّهِ لَا أَفْضَحُ قَوْمِي، فَشَهِدَتْ الْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ. فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا، وَقَضَى أَنَّ الْوَلَدَ لَهَا، وَلَا يُدْعَى لِأَبِيهِ، وَلَا يُرْمَى وَلَدُهَا». وَفِي رِوَايَةٍ: «قِيلَ لِهِلَالٍ: إنْ قَذَفْت امْرَأَتَك جُلِدْت ثَمَانِينَ. قَالَ: اللَّهُ أَعْدَلُ مِنْ ذَلِكَ» وَقَدْ عَلِمَ أَنِّي قَدْ رَأَيْت حَتَّى اسْتَيْقَنْتُ، وَسَمِعْتُ حَتَّى اسْتَثْبَتُّ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمُلَاعَنَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ: «إنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِزَوْجِهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِلَّذِي قِيلَ؛ فَجَاءَتْ بِهِ كَأَنَّهُ جَمَلٌ أَوْرَقُ، فَكَانَ بَعْدُ أَمِيرًا بِمِصْرَ، لَا يُعْرَفُ نَسَبُهُ، وَقِيلَ: لَا يُدْرَى مَنْ أَبُوهُ». وَفِي رِوَايَةٍ: «إنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْحَمَ أَدْعَجَ الْعَيْنَيْنِ عَظِيمَ الْأَلْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ فَلَا أَحْسَبُ عُوَيْمِرًا إلَّا صَدَقَ، وَإِنَّ جَاءَتْ بِهِ أَحْمَرَ كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ لَا أَحْسَبُ عُوَيْمِرًا إلَّا قَدْ كَذَبَ عَلَيْهَا، فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الَّذِي يُصَدِّقُ عُوَيْمِرًا». وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ سَهْلٍ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا، أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ، أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَمَرَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَدْ قَضَى اللَّهُ فِيكَ وَفِي امْرَأَتِك، فَتَلَاعَنَا ثُمَّ فَارَقَهَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -»، فَكَانَتْ السُّنَّةُ بَعْدَهَا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، وَكَانَتْ

مسألة اقتصار اللعان على دعوى الرؤية

حَامِلًا فَأَنْكَرَهُ، فَكَانَ ابْنَهَا يُدْعَى إلَى أُمِّهِ. ثُمَّ جَرَتْ السُّنَّةُ أَنَّ ابْنَهَا يَرِثُهَا وَتَرِثُ مَا فَرَضَ اللَّهُ لَهَا. [مَسْأَلَة اقْتِصَارِ اللِّعَانِ عَلَى دَعْوَى الرُّؤْيَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] عَامٌّ فِي كُلِّ رَمْيٍ سَوَاءٌ قَالَ: زَنَتْ، أَوْ رَأَيْتهَا تَزْنِي، أَوْ هَذَا الْوَلَدُ لَيْسَ مِنِّي؛ فَإِنَّ الْآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُبَيِّنُ الْحُكْمِ فِيهَا. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ مَالِكٍ فِي اقْتِصَارِ اللِّعَانِ عَلَى دَعْوَى الرُّؤْيَةِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، كَمَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، وَإِذَا شَرَطْنَا الرُّؤْيَةَ أَيْضًا فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ؛ هَلْ يَصِفُ الرُّؤْيَةَ صِفَةَ الشُّهُودِ أَمْ يَكْفِي ذِكْرُهَا مُطْلَقًا عَلَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَوَجْهُ الْقَوْلِ بِاشْتِرَاطِ الرُّؤْيَةِ الزَّجْرُ عَنْ دَعْوَاهَا حَتَّى إذَا رَهِبَ ذِكْرَهَا وَخَافَ مِنْ تَحْقِيقِ مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ عِيَانَهُ كَفَّ عَنْ اللِّعَانِ؛ فَوَقَعَتْ السُّتْرَةُ، وَتَخَلَّصَ مِنْهَا بِالطَّلَاقِ إنْ شَاءَ؛ وَلِذَلِكَ شَرَطْنَا عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ كَيْفِيَّةَ الرُّؤْيَةِ، كَمَا يَذْكُرُهَا الشُّهُودُ تَغْلِيظًا. وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَكْفِي لِإِيجَابِ اللِّعَانِ بِمُجَرَّدِ الْقَذْفِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ، فَلْتُعَوِّلُوا عَلَيْهِ، لَا سِيَّمَا وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اذْهَبْ فَأْتِ بِهَا، فَلَاعِنِ بَيْنَهُمَا» وَلَمْ يُكَلِّفْهُ ذِكْرَ رُؤْيَتِهِ. أَمَا إنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي: «رَأَيْت بِعَيْنَيَّ وَسَمِعْتُ بِأُذُنَيَّ»، كَمَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: إذَا أَتَيْت لَكَاعِ وَقَدْ تَفَخَّذَهَا رَجُلٌ، وَكَذَلِكَ إذَا نَفَى الْحَمْلَ فَإِنَّهُ يَلْتَعِنُ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنْ الرُّؤْيَةِ، إذْ قَدْ ظَهَرَتْ ثَمَرَةُ الْفِعْلِ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ عَدَمِ الْوَطْءِ وَالِاسْتِبْرَاءِ بِعِدَّةٍ. وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي الِاسْتِبْرَاءِ، هَلْ يَكُونُ بِحَيْضَةٍ أَوْ بِثَلَاثٍ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْوَاحِدَةَ تَكْفِي؛ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الرَّحِمِ لَهُ مِنْ الشُّغْلِ تَقَعُ بِهَا، كَمَا فِي اسْتِبْرَاءِ الْأَمَةِ، وَإِنَّمَا رَاعَيْنَا الثَّلَاثَ حِيَضٍ فِي الْعِدَّةِ لِحُكْمٍ آخَرَ.

مسألة لا يصح اللعان إلا من زوجين حرين مسلمين

[مَسْأَلَة لَا يَصِحُّ اللِّعَانُ إلَّا مِنْ زَوْجَيْنِ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] عَامٌّ فِي كُلِّ زَوْجَيْنِ حُرَّيْنِ كَانَا أَوْ عَبْدَيْنِ، مُؤْمِنَيْنِ أَوْ كَافِرَيْنِ، فَاسِقَيْنِ أَوْ عَدْلَيْنِ؛ لِعُمُومِ الظَّاهِرِ، وَوُجُودِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ فِي كُلِّ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، وَتَحْصِيلِ الْفَائِدَةِ فِيهِ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ اللِّعَانُ إلَّا مِنْ زَوْجَيْنِ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ، وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَا مُكَلَّفَيْنِ؛ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ، وَعِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَمِينٌ. وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ بِمَا نُكْتَتُهُ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ»، فَسَمَّاهَا أَيْمَانًا. وَمِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ الْفَاسِقَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا يَلْتَعِنَانِ؛ وَهَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّهُ يَمِينٌ. فَإِنْ قِيلَ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ شَهَادَةٌ قَوْلُهُ: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور: 6] فَجَاءَ بِالِاسْمِ الْخَاصِّ بِهَا، وَمِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّهُ رَدَّدَهَا خَمْسًا، وَلَوْ كَانَتْ يَمِينًا مَا رُدِّدَتْ، وَالْحِكْمَةُ فِي تَرْدِيدِهَا قِيَامُهَا فِي الْأَعْدَادِ مَقَامَ عَدَدِ الشُّهُودِ فِي الزِّنَا. قُلْنَا: أَمَّا ذِكْرُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلَفْظِ الشَّهَادَةِ فَلَا يَقْتَضِي لَهَا حُكْمَهَا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَادَةَ فِي الْعَرَبِ جَارِيَةٌ بِأَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ، وَأَحْلِفُ بِاَللَّهِ، فِي مَعْرِضِ الْأَيْمَانِ دُونَ الشَّهَادَةِ. وَأَمَّا تَكْرَارُهَا فَيَبْطُلُ بِيَمِينِ الْقَسَامَةِ فَإِنَّهَا تَكَرَّرَتْ، وَلَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ إجْمَاعًا. وَالْحِكْمَةُ فِي تَكْرَارِهَا التَّغْلِيظُ فِي الْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ عَلَى فَاعِلِهَا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُفَّ عَنْهَا فَيَقَعُ السَّتْرُ فِي الْفُرُوجِ وَالْحَقْنُ فِي الدَّمِ، وَالْفَيْصَلُ فِي أَنَّهُ يَمِينٌ، لَا شَهَادَةٌ أَنَّ الزَّوْجَ يَحْلِفُ لِنَفْسِهِ فِي إثْبَاتِ دَعْوَاهَا، وَتَخْلِيصُهُ عَنْ الْعَذَابِ؛ وَكَيْف يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ شَاهِدًا يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ بِمَا يُوجِبُ حُكْمًا عَلَى غَيْرِهِ؟ هَذَا بَعِيدٌ فِي الْأَصْلِ مَعْدُومٌ فِي النَّظَرِ.

مسألة الرجل إذا قذف زوجته بالزنا قبل أن يتزوجها

[مَسْأَلَة الرَّجُلَ إذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِالزِّنَا قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: رَاعَى أَبُو حَنِيفَةَ عُمُومَ الْآيَةِ، فَقَالَ: إنَّ الرَّجُلَ إذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِالزِّنَا قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَإِنَّهُ يُلَاعِنُ وَنَسِيَ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4]، وَهَذَا رَمَاهَا وَهِيَ مُحْصَنَةٌ غَيْرُ زَوْجَةٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ اللِّعَانُ فِي قَذْفٍ يَلْحَقُ فِيهِ النَّسَبُ، وَهَذَا قَذْفٌ لَا يَلْحَقُ فِيهِ نَسَبٌ، فَلَا يُوجِبُ لِعَانًا، كَمَا لَوْ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً ثُمَّ تَزَوَّجَهَا. [مَسْأَلَة قَذَفَ زَوْجَته بَعْدَ الطَّلَاقِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إذَا قَذَفَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ نُظِرَتْ؛ فَإِنْ كَانَ هُنَالِكَ نَسَبٌ يُرِيدُ أَنْ يَنْفِيَهُ، أَوْ حَمْلٌ مُتَبَرَّأٌ مِنْهُ لَاعَنَ، وَإِلَّا لَمْ يُلَاعِنْ. وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: لَا يُلَاعِنُ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُلَاعِنُ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ. وَهَذَا يُنْتَقَضُ عَلَيْهِ بِالْقَذْفِ قَبْلَ الزَّوْجِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ، بَلْ هَذَا أَوْلَى، لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ تَقَدَّمَ، وَهُوَ يُرِيدُ الِانْتِفَاءَ مِنْ النَّسَبِ، وَتَبْرِئَتَهُ مِنْ وَلَدٍ يَلْحَقُ بِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ اللِّعَانِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ حَمْلٌ يُرْجَى، وَلَا نَسَبٌ يَخَافُ تَعَلُّقَهُ لَمْ يَكُنْ لِلِّعَانِ فَائِدَةٌ؛ فَلَمْ يُحْكَمْ بِهِ، وَكَانَ قَذْفًا مُطْلَقًا دَاخِلًا تَحْتَ قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَبَطَلَ مَا قَالَ الْبَتِّيُّ لِظُهُورِ فَسَادِهِ. [مَسْأَلَة الْمُلَاعَنَة قَبْلَ الْوَضْعِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إذَا انْتَفَى مِنْ الْحَمْلِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَوَقَعَ ذَلِكَ بِشُرُوطِهِ لَاعَنَ قَبْلَ الْوَضْعِ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.

مسألة قذف بالوطء في الدبر لزوجه

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُلَاعِنُ إلَّا بَعْدَ أَنْ تَضَعَ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رِيحًا أَوْ دَاءً مِنْ الْأَدْوَاءِ. وَدَلِيلُنَا النَّصُّ الصَّرِيحُ الصَّحِيحُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَاعَنَ قَبْلَ الْوَضْعِ. وَقَالَ: «إنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا فَهُوَ لِأَبِيهِ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا فَهُوَ لِفُلَانٍ» فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ كُنْت رَاجِمًا أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتهَا». فَإِنْ قِيلَ: عَلِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَمْلَهَا؛ فَذَلِكَ حُكْمٌ بِاللِّعَانِ، وَالْحَاكِمُ مِنَّا لَا يَعْلَمُ أَحَمْلٌ هُوَ أَمْ رِيحٌ؟ قُلْنَا: إذَا جَرَتْ أَحْكَامُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْقَضَايَا لَمْ تُحْمَلْ عَلَى الْإِطْلَاعِ عَلَى الْغَيْبِ؛ فَإِنَّ الْأَحْكَامَ لَمْ تُبْنَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بِهِ عَلِيمًا؛ وَإِنَّمَا الْبِنَاءُ فِيهَا عَلَى الظَّاهِرِ الَّذِي يَشْتَرِكُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ الْقُضَاةُ كُلُّهُمْ. وَقَدْ أَعْرَبَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ». فَأَحَالَ عَلَى الظَّوَاهِرِ؛ وَهَذَا لَا إشْكَالَ فِيهِ. [مَسْأَلَة قَذَفَ بِالْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ لِزَوْجِهِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: إذَا قَذَفَ بِالْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ لِزَوْجِهِ لَاعَنَ: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُلَاعِنُ، وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ اللِّوَاطَ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ. وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الرَّمْيَ بِهِ فِيهِ مَعَرَّةٌ، وَقَدْ دَخَلَ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6]، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْمُتَقَدِّمِ مِنْ قَوْلِنَا وَفِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وُجُوبَ الْحَدِّ فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: مِنْ غَرِيبِ أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ وَأُمَّهَا بِالزِّنَا إنَّهُ إنْ حُدَّ لِلْأُمِّ سَقَطَ حَدُّ الْبِنْتِ، وَإِنْ لَاعَنَ لِلْبِنْتِ لَمْ يَسْقُطْ حَدُّ الْأُمِّ. وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ، وَمَا رَأَيْت لَهُمْ فِيهِ شَيْئًا يُحْكَى؛ وَهَذَا بَاطِلٌ جِدًّا، فَإِنَّهُ خَصَّ عُمُومَ الْآيَةِ فِي الْبَيْتِ وَهِيَ زَوْجَةٌ بِحَدِّ الْأُمِّ مِنْ غَيْرِ أَثَرٍ وَلَا أَصْلٍ قَاسَهُ عَلَيْهِ.

مسألة اللعان في النكاح الفاسد

[مَسْأَلَة اللِّعَانُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: يُلَاعِنُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، كَمَا يُلَاعِنُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ يَتَعَلَّقُ بِالْفَاسِدِ مِنْهُ، كَالنَّسَبِ وَالْعِدَّةِ وَالْمَهْرِ، وَهَذَا الْفِقْهُ صَحِيحٌ، وَذَلِكَ أَنَّ اللِّعَانَ مَوْضُوعٌ لِنَفْيِ النَّسَبِ وَتَطْهِيرِ الْفِرَاشِ، وَالزَّوْجَةُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ قَدْ صَارَتْ فِرَاشًا، وَيُلْحَقُ النَّسَبُ فِيهِ، فَجَرَى اللِّعَانُ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَة فَائِدَةُ لِعَانِ الزَّوْجِ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: فَائِدَةُ لِعَانِ الزَّوْجِ دَرْءُ الْحَدِّ عَنْهُ، وَنَفْيُ النَّسَبِ مِنْهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ». فَلَوْ جَاءَ بِالْبَيِّنَةِ لَدَرَأْت الْحَدَّ عَنْهُ، فَقَدْ قَامَ اللِّعَانُ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ لَمْ يَلْتَعِنْ الزَّوْجُ لَمْ يُحَدَّ، وَلَكِنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يُلَاعِنَ، وَتَارَةً يُجْعَلُ اللِّعَانُ شَهَادَةً، وَتَارَةً يُجْعَلُ حَدًّا. وَلَوْ كَانَ حَدًّا مَا حُبِسَ عَلَى فِعْلِهِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يُؤْخَذُ قَسْرًا مِنْ صَاحِبِهِ؛ فَإِذَا لَاعَنَ فَقَدْ بَرِئَ مِنْ الْحَدِّ، وَتَعَلَّقَ ذَلِكَ بِالْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُمَا خَصْمَانِ يَتَنَازَعَانِ، فَلَوْ كَانَ اللِّعَانُ شَهَادَةً لَكَانَ تَحْقِيقًا لِلزِّنَا عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا هُوَ كَمَا قَدَّمْنَا لِتَبْرِئَةِ نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِك». ثُمَّ يُقَالُ لَهَا: اعْتَرِفِي فَتُحَدِّي أَوْ بَرِّئِي نَفْسَك؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 8]، وَهِيَ: [مَسْأَلَة الْعَذَابُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ فِي قَوْله تَعَالَى وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْعَذَابُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْحَبْسُ. فَيُقَالُ لَهُ: وَلِمَ تُحْبَسُ، وَلِمَ يَجِبُ عَلَيْهَا بِقَوْلِ الزَّوْجِ شَيْءٌ عِنْدَك؟ ثُمَّ قُلْت: اللِّعَانُ حَدٌّ فَكَيْفَ وَجَبَ عَلَيْهَا بِقَوْلِ الزَّوْجِ حَدٌّ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: 8]، وَهُوَ الْحَدُّ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] يَعْنِي الْحَدَّ؛ فَسَمَّاهُ عَذَابًا هَاهُنَا؛ وَهُوَ ذَاكَ بِعَيْنِهِ؛ لِاتِّحَادِ الْمَقْصَدِ فِيهَا. فَإِنْ قِيلَ: اللِّعَانُ يَمِينٌ أَوْ شَهَادَةٌ مِنْ الزَّوْجِ؟ وَأَيُّمَا كَانَ فَلَا يُوجِبُ حَدًّا عَلَى الْمَرْأَةِ.

مسألة البداءة في اللعان

قُلْنَا: أُقِيمَ مَقَامَ الشَّهَادَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَخْلُصُ بِهِ الزَّوْجُ مِنْ الْحَدِّ. [مَسْأَلَة الْبُدَاءَةُ فِي اللِّعَانِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: الْبُدَاءَةُ فِي اللِّعَانِ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ: وَهُوَ الزَّوْجُ، وَلَوْ بَدَأَ بِالْمَرْأَةِ قَبْلَهُ لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّهُ عَكَسَ مَا رَتَّبَهُ اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُجْزِيهِ، وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ خِلَافُ الْقُرْآنِ، وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ يَرُدُّهُ إلَيْهِ، وَلَا مَعْنًى يَقْوَى بِهِ؛ بَلْ الْمَعْنَى لَنَا، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا بَدَأَتْ بِالْيَمِينِ فَتَنْفِي مَا لَمْ يَثْبُتْ، وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ. [مَسْأَلَة إذَا صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ فِي قَذْفِهِ وَهُنَاكَ وَلَدٌ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: إذَا صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ فِي قَذْفِهِ، وَهُنَاكَ وَلَدٌ لَمْ يُلَاعِنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّهُ لَا لِعَانَ عِنْدَهُ عَلَى نَفْيِ الْوَلَدِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. [مَسْأَلَة إذَا قَذَفَهَا بِرَجُلٍ سَمَّاهُ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: إذَا قَذَفَهَا بِرَجُلٍ سَمَّاهُ كَشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ أَسْقَطَ اللِّعَانُ عَنْهُ حَدَّ الْقَذْفِ لِزَوْجَتِهِ وَحُدَّ لِشَرِيكٍ؛ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُحَدُّ لَهُ إذَا لَاعَنَ زَوْجَتَهُ. وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ لَنَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ وَضَعَ الْحَدَّ فِي قَذْفِ الْأَجْنَبِيِّ وَالزَّوْجَةِ مُطْلَقَيْنِ، ثُمَّ خَصَّ الزَّوْجَةَ بِالْخَلَاصِ بِاللِّعَانِ، وَبَقِيَ الْأَجْنَبِيُّ عَلَى مُطْلَقِ الْآيَةِ. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَحُدَّ هِلَالًا لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ. قُلْنَا: لِأَنَّهُ لَمْ يَطْلُبْهُ، وَحَدُّ الْقَذْفِ لَا يُقِيمُهُ الْإِمَامُ إلَّا بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ إجْمَاعًا. وَمِنْ الْعَجَبِ أَنْ قَالَتْ أَحْبَارُ الشَّافِعِيَّةِ: إنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ الزَّانِي بِزَوْجِهِ لِيَعُرَّهُ كَمَا عَرَّهُ، وَأَيُّ مَعَرَّةٍ فِيهِ، وَخَبَرُهُ عَنْهُ لَا يُقْبَلُ، وَحُكْمُهُ فِيهِ لَا يَنْفُذُ، إنَّمَا الْمَعَرَّةُ كُلُّهَا بِالزَّوْجِ؛ فَلَا وَجْهَ لِذِكْرِهِ، فَإِنَّ قَذْفَهُ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمُهُ لِعُمُومِ الْقُرْآنِ.

الآية السادسة قوله تعالى إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم

[الْآيَة السَّادِسَة قَوْله تَعَالَى إنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ] ْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رَوَى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا، فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِمَّا قَالُوا، وَكُلٌّ حَدَّثَنِي بِطَائِفَةٍ مِنْ الْحَدِيثِ، وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ. فَاَلَّذِي حَدَّثَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا فَخَرَجَ سَهْمِي، وَخَرَجْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَمَا نَزَلَ الْحِجَابُ، فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي، وَأُنْزَلُ فِيهِ، فَسِرْنَا حَتَّى إذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ، وَقَفَلَ، وَدَنَوْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ قَافِلِينَ، آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ، فَقُمْت حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ، فَمَشَيْت حَتَّى جَاوَزْت الْجَيْشَ. فَلَمَّا قَضَيْت شَأْنِي أَقْبَلْت إلَى رَحْلِي، فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ ظَفَارِ قَدْ انْقَطَعَ، فَالْتَمَسْت عِقْدِي، وَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ، وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يَرْحَلُونَ بِي، فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي، فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْت رَكِبْت، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنِّي فِيهِ. وَكَانَ النِّسَاءُ إذْ ذَاكَ خِفَافًا، لَمْ يُثْقِلُهُنَّ اللَّحْمُ، إنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِنْ الطَّعَامِ، فَلَمْ يَسْتَنْكِرْ الْقَوْمُ خِفَّةَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَفَعُوهُ، وَكُنْت جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ، فَبَعَثُوا الْجَمَلَ

وَسَارُوا فَوَجَدْت عِقْدِي بَعْدَمَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ، فَجِئْت مَنَازِلَهُمْ، وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ. فَأَمَمْت مَنْزِلِي الَّذِي كُنْت بِهِ، وَظَنَنْت أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونَنِي، فَيَرْجِعُونَ إلَيَّ. فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْت. وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطِّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ، فَادَّلَجَ، فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي؛ فَرَأَى سَوَادَ إنْسَانٍ نَائِمٍ، فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي، وَكَانَ يَرَانِي قَبْلَ الْحِجَابِ، فَاسْتَيْقَظْت بِاسْتِرْجَاعِهِ، حِينَ عَرَفَنِي، فَخَمَّرْت وَجْهِي بِجِلْبَابِي، وَوَاللَّهِ مَا كَلَّمَنِي كَلِمَةً، وَمَا سَمِعْت مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ، حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، فَوَطِئَ عَلَى يَدَيْهَا، فَرَكِبْتهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ، حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَمَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ. وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى الْإِفْكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ. فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَاشْتَكَيْت حِينَ قَدِمْت شَهْرًا، وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِ الْإِفْكِ وَلَا أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَيَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لَا أَرَى مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللُّطْفَ الَّذِي كُنْت أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي. إنَّمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَقُولُ: كَيْفَ تِيكُمْ؟ ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَذَلِكَ الَّذِي يَرِيبُنِي مِنْهُ، وَلَا أَشْعُرُ بِالشَّرِّ، حَتَّى خَرَجْت بَعْدَمَا نَقِهْتُ، فَخَرَجْت مَعَ أُمِّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ، وَهُوَ مُتَبَرَّزُنَا، وَكُنَّا لَا نَخْرُجُ إلَّا لَيْلًا إلَى لَيْلٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا، وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الْأُوَلِ فِي التَّبَرُّزِ قِبَلَ الْغَائِطِ، فَكُنَّا نَتَأَذَّى بِالْكُنُفِ أَنْ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوتِنَا. فَانْطَلَقْت أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ، وَهِيَ ابْنَةُ أَبِي رُهْمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَأُمُّهَا بِنْتُ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ، خَالَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَابْنُهَا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ، فَأَقْبَلْت أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ بَيْتِي، وَقَدْ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا، فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا، فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ،

فَقُلْت لَهَا: بِئْسَ مَا قُلْت، أَتَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا، قَالَتْ: أَيْ هَنْتَاهُ، أَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ، قَالَتْ: قُلْت لَهَا: وَمَا قَالَ؟ قَالَتْ: فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ. قَالَتْ: فَازْدَدْت مَرَضًا عَلَى مَرَضِي. قَالَتْ: فَلَمَّا رَجَعْت إلَى بَيْتِي، وَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ تِيكُمْ، فَقُلْت: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ؟ قَالَتْ: وَأَنَا حِينَئِذٍ أُرِيدُ أَنْ أَسْتَيْقِنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا. قَالَتْ: فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجِئْت أَبَوَيَّ، فَقُلْت لِأُمِّي: يَا أُمَّتَاهُ، مَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟ قَالَتْ: يَا بُنَيَّةُ؛ هَوِّنِي عَلَيْك، فَوَاَللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتْ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا، وَلَهَا ضَرَائِرُ، إلَّا أَكْثَرْنَ عَلَيْهَا. قَالَتْ: فَقُلْت: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَلَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا، فَبَكَيْت تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْت لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، حَتَّى أَصْبَحْت أَبْكِي؛ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ، يَسْتَأْمِرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ. فَأَمَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاَلَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ. وَبِاَلَّذِي يَعْلَمُ لَهُمْ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْوُدِّ؛ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَهْلُك، وَلَا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا. وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ لَمْ يُضَيِّقْ اللَّهُ عَلَيْك وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا، كَثِيرٌ وَاسْأَلْ الْجَارِيَةَ تَصْدُقُك. قَالَتْ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَرِيرَةَ، فَقَالَ: يَا بَرِيرَةُ، هَلْ رَأَيْت مِنْ شَيْءٍ يَرِيبُك؟ قَالَتْ بَرِيرَةُ: لَا وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، إنْ رَأَيْت عَلَيْهَا أَمْرًا قَطُّ أَغْمِصُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ، تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا، فَتَأْتِي الدَّاجِنَ فَتَأْكُلُهُ. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْتَعْذَرَ يَوْمَئِذٍ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ؛ مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي؟ فَوَاَللَّهِ مَا عَلِمْت مِنْ أَهْلِي إلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْت عَلَيْهِ إلَّا خَيْرًا وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إلَّا مَعِي.

فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَنَا أَعْذِرُكُمْ مِنْهُ، إنْ كَانَ مِنْ الْأَوْسِ ضَرَبْت عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إخْوَانِنَا مِنْ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا فِيهِ أَمْرَك. فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ وَكَانَ فِينَا قَبْلَ ذَلِكَ صَالِحًا، وَلَكِنْ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ، فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: كَذَبْت لَعَمْرُ اللَّهِ، وَاَللَّهِ لَا تَقْتُلُهُ، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ. فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمٍّ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: كَذَبْت وَاَللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ؛ فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ، تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ. فَثَارَ الْحَيَّانِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا، وَسَكَتَ. قَالَتْ: فَمَكَثْت يَوْمِي ذَلِكَ، لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ. فَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي، وَقَدْ مَكَثْت لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا لَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ وَلَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي. قَالَتْ: فَبَيْنَمَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي، وَأَنَا أَبْكِي، فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَأَذِنْتُ لَهَا، فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي. قَالَتْ: فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَلَّمَ. ثُمَّ جَلَسَ. قَالَتْ: وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ لِي مَا قِيلَ قَبْلَهَا. وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لَا يُوحَى إلَيْهِ فِي شَأْنِي. قَالَتْ: فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ جَلَسَ. ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْك كَذَا وَكَذَا فَإِنْ كُنْت بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُك اللَّهُ، وَإِنْ كُنْت أَلْمَمْت بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ. قَالَتْ: فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أَحُسُّ مِنْهُ قَطْرَةً. فَقُلْت لِأَبِي: أَجِبْ رَسُولَ اللَّهِ فِيمَا قَالَ. قَالَ: فَوَاَللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَتْ: فَقُلْت لِأُمِّي: أَجِيبِي رَسُولَ اللَّهِ. قَالَتْ: وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

قُلْت، وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لَا أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنْ الْقُرْآنِ: إنِّي وَاَللَّهِ لَقَدْ عَلِمْت أَنَّكُمْ سَمِعْتُمْ هَذَا الْحَدِيثَ حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ. فَلَئِنْ قُلْت لَكُمْ: إنِّي بَرِيئَةٌ، وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لَا تُصَدِّقُونِي؛ وَلَئِنْ اعْتَرَفْت لَكُمْ بِأَمْرٍ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ، لَتُصَدِّقُونَنِي. وَاَللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إلَّا قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]. قَالَتْ: ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْت عَلَى فِرَاشِي. قَالَتْ: وَأَنَا حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ سَيُبَرِّئُنِي بِبَرَاءَتِي. وَلَكِنْ، وَاَللَّهِ مَا كُنْت أَظُنُّ أَنَّهُ يَنْزِلُ فِي قُرْآنٌ يُتْلَى، وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِي بِآيَةٍ تُتْلَى، وَلَكِنِّي كُنْت أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُؤْيَا فِي النَّوْمِ يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا. قَالَتْ: فَوَاَللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ مَكَانَهُ، وَمَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنْ الْبُرَحَاءِ، حَتَّى إنَّهُ لِيَتَحَدَّرَ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنْ الْعَرَقِ، وَهُوَ فِي يَوْمٍ شَاتٍ مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ عَلَيْهِ. فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُرِّيَ عَنْهُ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَكَانَ أَوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا: أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ بَرَّأَكِ. قَالَتْ أُمِّي: قُومِي إلَيْهِ. فَقُلْت: وَاَللَّهِ لَا أَقُومُ إلَيْهِ، وَلَا أَحْمَدُ إلَّا اللَّهَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور: 11] الْعَشْرَ الْآيَاتِ كُلِّهَا. فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِي بَرَاءَتِي قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ: وَاَللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاَللَّهِ؛ إنِّي أُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي؛ فَرَجَعَ إلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُهَا عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا.

مسألة حقيقة الخير وحقيقة الشر

قَالَتْ عَائِشَةُ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَسْأَلُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي؛ قَالَ: يَا زَيْنَبُ، مَاذَا عَلِمْت؟ وَمَاذَا رَأَيْت؟ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي، وَمَا عَلِمْت إلَّا خَيْرًا». قَالَتْ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ، وَطَفِقَتْ أُخْتُهَا حَمْنَةُ تُحَارِبُ لَهَا، فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْإِفْكِ. [مَسْأَلَة حَقِيقَةَ الْخَيْرِ وَحَقِيقَةُ الشَّرِّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور: 11] قَدْ بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ حَقِيقَةَ الْخَيْرِ، وَأَنَّهُ مَا زَادَ نَفْعُهُ عَلَى ضُرِّهِ. وَحَقِيقَةُ الشَّرِّ مَا زَادَ ضُرُّهُ عَلَى نَفْعِهِ، وَأَنَّ خَيْرًا لَا شَرَّ فِيهِ هُوَ الْجَنَّةُ، وَشَرًّا لَا خَيْرَ فِيهِ هُوَ جَهَنَّمُ؛ وَلِهَذَا صَارَ الْبَلَاءُ النَّازِلُ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ خَيْرًا؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ مِنْ الْأَلَمِ قَلِيلٌ فِي الدُّنْيَا، وَخَيْرُهُ وَهُوَ الثَّوَابُ كَثِيرٌ فِي الْآخِرَةِ؛ فَنَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَائِشَةَ وَمَنْ مَاثَلَهَا مِمَّنْ نَالَهُ هَمٌّ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ مَا أَصَابَهُمْ مِنْهُ شَرٌّ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ عَلَى مَا وَضَعَ اللَّهُ الشَّرَّ وَالْخَيْرَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ، وَرُجْحَانِ النَّفْعِ فِي جَانِبِ الْخَيْرِ، وَرُجْحَانِ الضُّرِّ فِي جَانِبِ الشَّرِّ. [مَسْأَلَة لَا تَحْمِلُ كُلُّ نَفْسٍ إلَّا مَا اكْتَسَبَتْ مِنْ الْإِثْمِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ} [النور: 11]: هَذَا حُكْمُ اللَّهِ فِي كُلِّ ذَنْبٍ أَنَّهُ لَا تَحْمِلُ كُلُّ نَفْسٍ إلَّا مَا اكْتَسَبَتْ مِنْ الْإِثْمِ، وَلَا يَكُونُ لَهَا إلَّا مَا اكْتَسَبَتْ، إلَّا أَنَّ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ وَكَانَ يَرْمِيهِ وَيُشِيعُهُ وَيَسْتَوْشِيهِ وَيَجْمَعُهُ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ. فِي صَحِيحِ حَدِيثِ الْإِفْكِ: إنَّ الَّذِي كَانَ يَتَكَلَّمُ فِيهِ مِسْطَحٌ [وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ

مسألة معنى قوله تعالى عذاب عظيم

، وَالْمُنَافِقُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَسْتَوْشِيهِ وَيَجْمَعُهُ، وَهُوَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ هُوَ وَحَمْنَةُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى عَذَابٌ عَظِيمٌ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11] فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْعَمَى. الثَّانِي: أَنَّهُ عَذَابُ جَهَنَّمَ. الثَّالِثُ: الْحَدُّ. فَأَمَّا الْعَمَى فَهُوَ الَّذِي أَصَابَ حَسَّانَ، وَأَمَّا عَذَابُ جَهَنَّمَ فَلِمَنْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَهُ، وَأَمَّا عَذَابُ الْحَدِّ فَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدَّ فِي الْإِفْكِ رَجُلَيْنِ وَامْرَأَةً: مِسْطَحًا، وَحَسَّانَ، وَحَمْنَةَ. [الْآيَة السَّابِعَة قَوْله تَعَالَى لَوْلَا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا] وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور: 12]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَعْنَى ظَنَّ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ خَيْرًا، وَجَعَلَ الْغَيْرَ مَقَامَ النَّفْسِ، لِذِمَامِ الْإِيمَانِ كَمَا بَيَّنَّا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] أَيْ لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذَا أَصْلٌ فِي أَنَّ دَرَجَةَ الْإِيمَانِ الَّتِي حَازَهَا الْإِنْسَانُ، وَمَنْزِلَةَ الصَّلَاحِ الَّتِي حَلَّهَا

الآية الثامنة قوله تعالى لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء

الْمَرْءُ، وَلُبْسَةَ الْعَفَافِ الَّتِي تَسَتَّرَ بِهَا الْمُسْلِمُ لَا يُزِيلُهَا عَنْهُ خَبَرٌ مُحْتَمَلٌ، وَإِنْ شَاعَ، إذَا كَانَ أَصْلُهُ فَاسِدًا أَوْ مَجْهُولًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: {وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور: 12] أَيْ كَذِبٌ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ أَمْرٍ بَاطِنٍ مِمَّنْ لَمْ يُشَاهِدْهُ، وَذَلِكَ أَكْذَبُ الْأَخْبَارِ وَشَرُّ الْأَقْوَالِ حَيْثُ اُسْتُطِيلَ بِهِ الْعِرْضُ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَمَقْرُونٌ فِي تَأْكِيدِ التَّحْرِيمِ بِالْمُهُجَاتِ. [الْآيَة الثَّامِنَة قَوْلُهُ تَعَالَى لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ] َ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا رَدٌّ إلَى الْحُكْمِ الْأَوَّلِ، وَإِحَالَةٌ عَلَى الْآيَةِ السَّابِقَةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ حَكَمَ فِي رَمْيِ الْمُحْصَنَاتِ بِالْكَذِبِ، إلَّا أَنْ يُقِيمَ قَائِلُ ذَلِكَ أَرْبَعَةً مِنْ الشُّهَدَاءِ عَلَى مَا زَعَمَ مِنْ الِافْتِرَاءِ، حَتَّى يُخْرِجَهُ إلَى الظَّاهِرِ مِنْ حَدِّ الْبَاطِنِ، وَإِلَّا لَزِمَهُ حُكْمُ الْمُفْتَرِي فِي الْإِثْمِ وَحَالُهُ فِي الْحَدِّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] وَهَذِهِ آيَةٌ مُشْكِلَةٌ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْقَذْفِ الظَّاهِرِ مَا هُوَ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْبَاطِنِ صِدْقٌ، وَلَكِنَّهُ يُؤْخَذُ فِي الظَّاهِرِ بِحُكْمِ الْكَاذِبِ، وَيُجْلَدُ الْحَدَّ. وَهَذَا الْفِقْهُ صَحِيحٌ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى قَوْله: {عِنْدَ اللَّهِ} [النور: 13] يُرِيدُ فِي حُكْمِهِ، لَا فِي عِلْمِهِ، وَهُوَ إنَّمَا رَتَّبَ الْحُدُودَ عَلَى حُكْمِهِ الَّذِي شَرَعَهُ فِي الدُّنْيَا، لَا مُقْتَضَى عِلْمِهِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِالْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُبْنَى عَلَى ذَلِكَ حُكْمُ الْآخِرَةِ.

الآية التاسعة قوله تعالى يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين

[الْآيَة التَّاسِعَة قَوْله تَعَالَى يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] َ} [النور: 17]. فِيهَا مَسْأَلَةٌ: قَوْله تَعَالَى: (لِمِثْلِهِ) يَعْنِي فِي عَائِشَةَ؛ لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يَكُونُ إلَى نَظِيرِ الْقَوْلِ فِي الْمَقُولِ عَنْهُ بِعَيْنِهِ، أَوْ فِيمَنْ كَانَ فِي مَرْتَبَتِهِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إذَايَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عِرْضِهِ وَأَهْلِهِ، وَذَلِكَ كُفْرٌ مِنْ فَاعِلِهِ. قَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ: سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: مَنْ سَبَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أُدِّبَ، وَمَنْ سَبَّ عَائِشَةَ قُتِلَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور: 17] فَمَنْ سَبَّ عَائِشَةَ فَقَدْ خَالَفَ الْقُرْآنَ، وَمَنْ خَالَفَ الْقُرْآنَ قُتِلَ. قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: مَنْ سَبَّ عَائِشَةَ أُدِّبَ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَ قَوْله تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور: 17] فِي عَائِشَةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ، وَإِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ: «لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ». وَلَوْ كَانَ سَلْبُ الْإِيمَانِ فِي سَبِّ عَائِشَةَ حَقِيقَةً لَكَانَ سَلْبُهُ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» حَقِيقَةً. قُلْنَا: لَيْسَ كَمَا زَعَمْتُمْ؛ إنَّ أَهْلَ الْإِفْكِ رَمَوْا عَائِشَةَ الْمُطَهَّرَةَ بِالْفَاحِشَةِ، فَبَرَّأَهَا اللَّهُ، فَكُلُّ مَنْ سَبَّهَا بِمَا بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ فَهُوَ مُكَذِّبٌ لِلَّهِ، وَمَنْ كَذَّبَ اللَّهَ فَهُوَ كَافِرٌ. فَهَذَا طَرِيقُ قَوْلِ مَالِكٍ. وَهِيَ سَبِيلٌ لَائِحَةٌ لِأَهْلِ الْبَصَائِرِ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا سَبَّ عَائِشَةَ بِغَيْرِ مَا بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ لَكَانَ جَزَاؤُهُ الْأَدَبَ.

الآية العاشرة قوله تعالى إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا

[الْآيَة الْعَاشِرَة قَوْله تَعَالَى إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا] لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور: 19]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} [النور: 19] يَعْنِي يُرِيدُ ذَلِكَ وَيَفْعَلُهُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ فِعْلُ الْقَلْبِ، وَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَظْهَرَهُ، فَإِنْ لَمْ يُظْهِرْ كَانَتْ نِيَّتُهُ فَاسِدَةً يُعَاقَبُ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ، كَمَا بَيَّنَّا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ، وَلَيْسَ لَهُ عُقُوبَةٌ فِي الْحُدُودِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إذَا أَشَاعَهَا فَقَدْ بَيَّنَّا مَا لَهُ مِنْ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا. وَقَدْ رَوَى مَسْرُوقٌ عَنْ عَائِشَةَ قَالَ: جَاءَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا فَدَخَلَ فَشَبَّبَ، وَقَالَ: حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ قَالَتْ لَهُ: لَكِنَّكَ لَسْت كَذَلِكَ قُلْت: تَدَعِينَ مِثْلَ هَذَا يَدْخُلُ عَلَيْك، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11] قَالَتْ، وَأَيُّ عَذَابٍ أَشَدُّ مِنْ الْعَمَى. وَقَدْ كَانَ يَرُدُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَيَّنْت لَهُ أَنَّ الْعَمَى مِنْ الْعَذَابِ الدُّنْيَوِيِّ الَّذِي قُورِضَ بِهِ، وَذَكَرَ ذِمَامَهُ فِي مُنَافَحَتِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّهَا رَعَتْ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ قَالَ فِيهَا. [الْآيَة الْحَادِيَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ] ِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22].

مسألة الحنث إذا رآه خيرا أولى من البر

فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ نَزَلَ فِي أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ عَائِشَةُ فِي حَدِيثِهَا: فَحَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَلَّا يَنْفَعَ مِسْطَحًا بِنَافِعَةٍ أَبَدًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ} [النور: 22] يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ. {أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النور: 22] يَعْنِي مِسْطَحًا إلَى قَوْلِهِ: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22] قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاَللَّهِ يَا رَبَّنَا، إنَّا لَنُحِبُّ أَنْ يُغْفَرَ لَنَا، وَعَادَ لِمَا كَانَ يَصْنَعُ لَهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَذْفَ وَإِنْ كَانَ كَبِيرَةً لَا يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ وَصَفَ مِسْطَحًا بَعْدَ قَوْلِهِ بِالْهِجْرَةِ وَالْإِيمَانِ. [مَسْأَلَة الْحِنْثَ إذَا رَآهُ خَيْرًا أَوْلَى مِنْ الْبِرِّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: عَجِبْت لِقَوْمٍ يَتَكَلَّفُونَ فَيَتَكَلَّمُونَ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ، هَذَا أَبُو بَكْرٍ حَلَفَ أَلَّا يُنْفِقَ عَلَى مِسْطَحٍ، ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ نَفَقَتَهُ؛ فَمَنْ لِلْمُتَكَلِّفِ لَنَا تَكَلَّفَ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى يَتَكَلَّمَ بِهَذَا الْهُزْءِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْيَمِينَ لَا تَحْرُمُ، أَوْ لَا تَحْرُمُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَتَحْقِيقُهُ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ حَسَنَةٌ أَنَّ فِي ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْحِنْثَ إذَا رَآهُ خَيْرًا أَوْلَى مِنْ الْبِرِّ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ». وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ. [الْآيَة الثَّانِيَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا] وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور: 27].

مسألة مد الله التحريم في دخول بيت ليس هو بيتك إلى غاية هي الاستئناس

فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَصَّصَ النَّاسَ بِالْمَنَازِلِ، وَسَتَرَهُمْ فِيهَا عَنْ الْأَبْصَارِ، وَمَلَّكَهُمْ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا عَلَى الِانْفِرَادِ، وَحَجَزَ عَلَى الْخَلْقِ أَنْ يَطَّلِعُوا عَلَى مَا فِيهَا مِنْ خَارِجٍ أَوْ يَلِجُوهَا بِغَيْرِ إذْنِ أَرْبَابِهَا؛ لِئَلَّا يَهْتِكُوا أَسْتَارَهُمْ، وَيَبْلُوَا فِي أَخْبَارِهِمْ. وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: «اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ حُجْرَةٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَ النَّبِيِّ مِدْرًى يَحُكُّ بِهَا رَأْسَهُ، فَقَالَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّك تَنْظُرُ لَطَعَنْت بِهِ فِي عَيْنِك، إنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ». وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ فِيهَا: «فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَيْهِ بِمِشْقَصٍ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَيْهِ يَخْتِلُ الرَّجُلَ لِيَطْعَنَهُ». الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةً فِي كُلِّ بَيْتٍ، وَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} [الأحزاب: 53]- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً فِي أَبْيَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَسَيَأْتِي بَيَانُهَا فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. [مَسْأَلَة مَدَّ اللَّهُ التَّحْرِيمَ فِي دُخُولِ بَيْتٍ لَيْسَ هُوَ بَيْتُك إلَى غَايَةٍ هِيَ الِاسْتِئْنَاسُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] مَدَّ اللَّهُ التَّحْرِيمَ فِي دُخُولِ بَيْتٍ لَيْسَ هُوَ بَيْتُك إلَى غَايَةٍ هِيَ الِاسْتِئْنَاسُ. وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَاهُ حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا، وَكَذَلِكَ كَانَ يَقْرَأهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَيَقُولُ: أَخْطَأَ الْكَاتِبُ.

مسألة كيفية الاستئذان

الثَّانِي: حَتَّى تُؤْنِسُوا أَهْلَ الْبَيْتِ بِالتَّنَحْنُحِ، فَيَعْلَمُوا بِالدُّخُولِ عَلَيْهِمْ؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ. الثَّالِثُ: حَتَّى تَعْلَمُوا أَفِيهَا مِنْ تَسْتَأْذِنُونَ عَلَيْهِ أَمْ لَا؛ قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَمَّا قَوْلُهُ أَنْ تَسْتَأْنِسُوا بِمَعْنَى تَسْتَأْذِنُوا فَلَا مَانِعَ فِي أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ الِاسْتِئْذَانِ بِالِاسْتِئْنَاسِ، وَلَيْسَ فِيهِ خَطَأٌ مِنْ كَاتِبٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ الْخَطَأُ إلَى كِتَابٍ تَوَلَّى اللَّهُ حِفْظَهُ، وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى صِحَّتِهِ؛ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى رَاوِي ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَوَجْهُ التَّعْبِيرِ عَنْ الِاسْتِئْذَانِ بِالِاسْتِئْنَاسِ أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي مَعْنَى الِاسْتِعْلَامِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ التَّنَحْنُحُ فَهِيَ زِيَادَةٌ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا. وَأَشْبَهُ مَا فِيهِ قَوْلُ ابْنِ قُتَيْبَةَ فَإِنَّهُ عَبَّرَ عَنْ اللَّفْظَيْنِ بِمَعْنَيَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ مُقَيَّدَيْنِ. وَهَذَا هُوَ حُكْمُ اللُّغَةِ فِي جَعْلِ مَعْنًى لِكُلِّ لَفْظٍ. [مَسْأَلَة كَيْفِيَّةِ الِاسْتِئْذَانِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي كَيْفِيَّةِ الِاسْتِئْذَانِ: وَهُوَ بِالسَّلَامِ، وَصِفَتُهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كُنْت فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْأَنْصَارِ إذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ قَالَ: اسْتَأْذَنْت عَلَى عُمَرَ ثَلَاثًا، فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، فَرَجَعْت. قَالَ: مَا مَنَعَك؟ قُلْت: اسْتَأْذَنْت ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْت وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ». فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَتُقِيمَنَّ عَلَيْهِ بَيِّنَةً. أَمِنْكُمْ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ: وَاَللَّهِ لَا

مسألة الاستئذان فرض والسلام مستحب

يَقُومُ مَعَك إلَّا أَصْغَرُنَا. فَكُنْت أَصْغَرَهُمْ. فَقُمْت مَعَهُ، فَأَخْبَرْت عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ذَلِكَ. وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ. وَحِكْمَةُ التَّعْدَادِ فِي الِاسْتِئْذَانِ أَنَّ الْأُولَى اسْتِعْلَامٌ، وَالثَّانِيَةُ تَأْكِيدٌ، وَالثَّالِثَةُ إعْذَارٌ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الِاسْتِئْنَاسَ هُوَ الِاسْتِئْذَانُ عَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: {وَتُسَلِّمُوا} [النور: 27] تَفْسِيرًا لِلِاسْتِئْذَانِ. وَقَدْ اخْتَرْنَا قَوْلَ ابْنِ قُتَيْبَةَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة الِاسْتِئْذَانُ فَرْضٌ وَالسَّلَامُ مُسْتَحَبٌّ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ جَمَاعَةٌ: الِاسْتِئْذَانُ فَرْضٌ، وَالسَّلَامُ مُسْتَحَبٌّ. وَبَيَانُهُ أَنَّ التَّسْلِيمَ كَيْفِيَّةٌ فِي الْإِذْنِ. رَوَى مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ ابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ: أَأَلِجُ فَأَذِنَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ. قَالَ زَيْدٌ: فَلَمَّا قَضَيْت حَاجَتِي أَقْبَلَ عَلَيَّ ابْنُ عُمَرَ، فَقَالَ: مَالَكَ وَاسْتِئْذَانِ الْعَرَبِ، إذَا اسْتَأْذَنْت فَقُلْ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَإِذَا رُدَّ عَلَيْك السَّلَامُ فَقُلْ: أَأَدْخُلُ؛ فَإِنْ أَذِنَ لَك فَادْخُلْ. فَعَلَّمَهُ سُنَّةَ السَّلَامِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ سِيرِينَ «أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَدْخُلُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَجُلٍ عِنْدَهُ: قُمْ فَعَلِّمْ هَذَا كَيْفَ يَسْتَأْذِنُ، فَإِنَّهُ لَمْ يُحْسِنْ. فَسَمِعَهَا الرَّجُلُ فَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَ». [مَسْأَلَة كَمَالَ التَّعْدَادِ حَقُّ الَّذِي يَسْتَأْذِنُ إنْ أَرَادَ اسْتِقْصَاءَهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «سَأَلْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَقُلْت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَيْهِ، اللَّتَانِ قَالَ اللَّهُ فِيهِمَا: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] فَقَالَ: حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ. قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ يَسُوقُ الْحَدِيثَ، وَذَكَرَ اعْتِزَالَ النَّبِيِّ فِي الْمَشْرُبَةِ قَالَ: فَأَتَيْت غُلَامًا أَسْوَدَ فَقُلْت: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ. فَدَخَلَ الْغُلَامُ ثُمَّ خَرَجَ إلَيَّ. فَقَالَ: قَدْ

مسألة إن وقعت العين على العين هل يعد إذنا بالدخول

ذَكَرْتُك لَهُ، فَصَمَتَ. فَرَجَعْت فَجَلَسْت إلَى الْمِنْبَرِ ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ، فَرَجَعْت إلَى الْغُلَامِ، فَقُلْت: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ. قَالَ: فَوَلَّيْت مُدْبِرًا فَإِذَا الْغُلَامُ يَدْعُونِي، فَقَالَ: اُدْخُلْ، فَقَدْ أَذِنَ لَك. فَدَخَلْت فَسَلَّمْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِذَا هُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ، قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَطْلَقْت نِسَاءَك؛ فَرَفَعَ إلَيَّ رَأْسَهُ، وَقَالَ: لَا. فَقُلْت: اللَّهُ أَكْبَرُ، لَوْ رَأَيْتنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ؛ فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ فَغَضِبَتْ يَوْمًا عَلَيَّ امْرَأَتِي فَطَفِقَتْ تُرَاجِعُنِي، فَأَنْكَرْت أَنْ تُرَاجِعَنِي فَقَالَتْ: مَا تُنْكِرُ، فَوَاَللَّهِ إنَّ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُرَاجِعْنَهُ، وَتَهْجُرُهُ إحْدَاهُنَّ يَوْمَهَا حَتَّى اللَّيْلِ. فَقُلْت: قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُنَّ، وَخَسِرَ، أَتَأْمَنُ إحْدَاهُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِهِ، فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ. فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَخَلَتْ عَلَيَّ حَفْصَةُ، فَقُلْت: لَا يَغْرُرْك أَنْ كَانَتْ جَارِيَتُك هِيَ أَوْسَمُ وَأَحَبُّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْك. فَتَبَسَّمَ أُخْرَى. فَقُلْت: أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: نَعَمْ فَجَلَسْت فَرَفَعْت رَأْسِي فِي الْبَيْتِ، فَوَاَللَّهِ مَا رَأَيْت شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ إلَّا أَهَبَةً ثَلَاثَةً، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.» قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ عُمَرَ رَجَعَ مِنْ مَرَّتَيْنِ، وَلَمْ يَنْتَظِرْ الثَّالِثَةَ. فَهَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ كَمَالَ التَّعْدَادِ حَقُّ الَّذِي يَسْتَأْذِنُ إنْ أَرَادَ اسْتِقْصَاءَهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ، وَفِيهِ قَوْلُهُ بَعْدَ الدُّخُولِ: أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهَذَا مِنْ الْأُنْسِ وَالتَّبَسُّطِ، لَا مِنْ الْإِعْلَامِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ. [مَسْأَلَة إنْ وَقَعَتْ الْعَيْنُ عَلَى الْعَيْن هَلْ يعد إذْنًا بِالدُّخُولِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنْ وَقَعَتْ الْعَيْنُ عَلَى الْعَيْنِ فَالسَّلَامُ قَدْ تَعَيَّنَ، وَلَا تُعَدُّ رُؤْيَتُك لَهُ إذْنًا لَك فِي دُخُولِك عَلَيْهِ؛ فَإِذَا قَضَيْت حَقَّ السَّلَامِ لِأَنَّك الْوَارِدُ حِينَئِذٍ تَقُولُ: أَدْخُلُ؟ فَإِنْ أَذِنَ لَك فَادْخُلْ وَإِلَّا رَجَعْت. [مَسْأَلَة الْبَيْت الَّذِي تَسْكُنُ فِيهِ أَهْلُهُ هَلْ يَسْتَأْذِن لِدُخُولِهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: هَذَا كُلُّهُ فِي بَيْتٍ لَيْسَ لَك؛ فَإِمَّا بَيْتُك الَّذِي تَسْكُنُهُ فَإِنْ كَانَ فِيهِ أَهْلُك فَلَا إذْنَ

مسألة الإذن في دخوله بيت نفسه

عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ مَعَك أُمُّك أَوْ أُخْتُك فَقَالُوا تَنَحْنَحْ وَاضْرِبْ بِرِجْلَيْك حَتَّى تَنْتَبِهَ لِدُخُولِك، لِأَنَّ الْأَهْلَ لَا حِشْمَةَ بَيْنَك وَبَيْنَهَا. وَأَمَّا الْأُمُّ وَالْأُخْتُ فَقَدْ تَكُونُ عَلَى حَالَةٍ لَا [تُحِبُّ أَنْ] تَرَاهَا فِيهَا. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: قَالَ مَالِكٌ: وَيَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ عَلَى أُمِّهِ وَأُخْتِهِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِمَا. وَقَدْ رَوَى عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ: أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: إنِّي أَخْدُمُهَا. قَالَ: اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا. قَالَ: فَعَاوَدَهُ ثَلَاثًا قَالَ: أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا». وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ «أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: أَسْتَأْذِنُ عَلَى أَخَوَاتِي وَهُنَّ فِي حُجْرَتِي مَعِي فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَرَدَدْت عَلَيْهِ لِيُرَخِّصَ لِي فَأَبَى. قَالَ: أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟ قُلْت: لَا قَالَ: فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا؛ فَرَاجَعَتْهُ، فَقَالَ: أَتُحِبُّ أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ؟ قُلْت: نَعَمْ. قَالَ: فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا». وَقَالَ طَاوُسٌ: مَا مِنْ امْرَأَةٍ أَكْرَهُ إلَيَّ أَنْ أَرَى عَوْرَتَهَا مِنْ ذَاتِ مَحْرَمٍ، ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ الطَّبَرِيُّ. [مَسْأَلَة الْإِذْنُ فِي دُخُولِهِ بَيْتَ نَفْسِهِ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: هَذَا الْإِذْنُ فِي دُخُولِهِ بَيْتًا غَيْرَ بَيْتِهِ، فَإِنْ دَخَلَ بَيْتَ نَفْسِهِ فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: لِيَقُلْ: السَّلَامُ عَلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا التَّحِيَّاتُ الطَّيِّبَاتُ الْمُبَارَكَاتُ لِلَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ. وَالصَّحِيحُ تَرْكُ السَّلَامِ وَالِاسْتِئْذَانِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

الآية الثالثة عشرة قوله تعالى فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم

[الْآيَة الثَّالِثَةُ عَشْرَة قَوْله تَعَالَى فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ] ْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [النور: 28]. فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا تِبْيَانٌ مِنْ اللَّهِ لِإِشْكَالٍ يَلُوحُ فِي الْخَاطِرِ، وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ إلَى مَنْزِلٍ لَا يَجِدُ فِيهِ أَحَدًا، فَيَقُولُ فِي نَفْسِهِ: إذَا كَانَتْ الْمَنَازِلُ خَالِيَةً فَلَا إذْنَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مُحْتَجَبٌ، فَيُقَالُ لَهُ: إنَّ الْإِذْنَ يُفِيدُ مَعْنَيَيْنِ. أَحَدُهُمَا: الدُّخُولُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ. وَالثَّانِي: كَشْفُ الْبَيْتِ وَإِطْلَاعُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ أَحَدٌ مُحْتَجِبٌ فَالْبَيْتُ مَحْجُوبٌ لِمَا فِيهِ، وَبِمَا فِيهِ، إلَّا بِإِذْنٍ مِنْ رَبِّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} [النور: 28]. يَعْنِي حَتَّى يَأْتِيَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ فَيَأْذَنَ، أَوْ يَتَقَدَّمَ لَهُ بِالْإِذْنِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} [النور: 28]. هَذَا مُرْتَبِطٌ بِالْآيَةِ قَبْلَهَا؛ التَّقْدِيرُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا، فَإِنْ أُذِنَ لَكُمْ فَادْخُلُوا، وَإِلَّا فَارْجِعُوا، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو مُوسَى مَعَ عُمَرَ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ تَسْطِيرُهُ وَإِيرَادُهُ. فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا يَأْذَنُ لَكُمْ فَلَا تَدْخُلُوا حَتَّى تَجِدُوا إذْنًا. [مَسْأَلَة الِاسْتِئْذَان قَبْل الدُّخُول سَوَاء كَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا أَوْ مَفْتُوحًا] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا أَوْ مَفْتُوحًا؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ أَغْلَقَهُ بِالتَّحْرِيمِ لِلدُّخُولِ حَتَّى يَفْتَحَهُ الْإِذْنُ مِنْ رَبِّهِ؛ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ الْبَابَ، وَيُحَاوَلَ الْإِذْنَ عَلَى صِفَةٍ لَا يَطَّلِعُ مِنْهُ عَلَى الْبَيْتِ لَا فِي إقْبَالِهِ وَلَا فِي انْقِلَابِهِ.

مسألة إذا استأذن أحد فينبغي للمستأذن عليه أن يقول ادخل أو ما في معناه

فَقَدْ رَوَى عُلَمَاؤُنَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ مَلَأَ عَيْنَيْهِ مِنْ قَاعَةِ بَيْتٍ فَقَدْ فَسَقَ ". وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ». [مَسْأَلَة إذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدٌ فَيَنْبَغِي لِلْمُسْتَأْذَنِ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ اُدْخُلْ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدٌ فَيَنْبَغِي لِلْمُسْتَأْذَنِ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ: اُدْخُلْ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ، لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَسْتَحْقِرُ فِيهِ. رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ جَاءَ دَارًا لَهَا بَابَانِ قَالَ: أَدْخُلْ؟ قَالَ لَهُ إنْسَانٌ: اُدْخُلْ بِسَلَامٍ. قَالَ لَهُ: وَمَا يُدْرِيك أَنِّي أَدْخُلُ بِسَلَامٍ؛ ثُمَّ انْصَرَفَ كَرَاهِيَةَ مَا زَادَ؛ لِأَنَّ الَّذِي قَالَ: اُدْخُلُوهَا بِسَلَامٍ عَالِمٌ بِذَلِكَ قَادِرٌ عَلَيْهِ، وَاَلَّذِي زَادَ فِي الْإِذْنِ بِسَلَامٍ زَادَ مَا لَمْ يَسْمَعْ، وَقَالَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، وَضَمِنَ مَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَة الْإِذْنَ شَرْطٌ فِي دُخُولِ الْمَنْزِلِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِذْنَ شَرْطٌ فِي دُخُولِ الْمَنْزِلِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ مِنْ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرُ. وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الصَّغِيرِ لَغْوًا فِي الْأَحْكَامِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ؛ وَلَكِنَّ الْإِذْنَ فِي الْمَنَازِلِ مُرَخَّصٌ فِيهِ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ دُونَ الْبُلُوغِ يَسْتَأْذِنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَعْمَلُ عَلَى قَوْلِهِ، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ مَعَ أَبْنَائِهِمْ، وَغِلْمَانِهِمْ. [الْآيَة الرَّابِعَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ] ْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [النور: 29]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْبُيُوتِ: أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا الْخَانَاتُ وَالْخَانَكَاتُ. الثَّانِي: أَنَّهَا دَكَاكِينُ التُّجَّارِ؛ قَالَهُ الشَّعْبِيُّ. الثَّالِثُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ مَنَازِلُ الْأَسْفَارِ وَمُنَاجَاةُ الرِّجَالِ. الرَّابِعُ: أَنَّهَا الْخَرَابَاتُ الْعَاطِلَةُ؛ قَالَ قَتَادَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور: 29] فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا أَمْوَالُ التُّجَّارِ. الثَّانِي: أَنَّهَا الْمَنَافِعُ كُلُّهَا. الثَّالِثُ: أَنَّهَا الْخَلَاءُ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَمَّا مَنْ قَالَ إنَّهَا الْخَانَاتُ وَهِيَ الْفَنَادِقُ، وَالْخَانَكَاتُ وَهِيَ الْمَدَارِسُ لِلطَّلَبَةِ، فَإِنَّمَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ السُّكَّانِ فِيهَا وَالْعَامِلِينَ بِهَا فَلَا يَصِحُّ الْمَنْعُ؛ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِذْنُ. وَكَذَلِكَ دَكَاكِينُ التُّجَّارِ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: لَا إذْنَ فِيهَا؛ لِأَنَّ أَصْحَابَهَا جَاءُوا بِبُيُوعِهِمْ، وَجَعَلُوهَا فِيهَا، وَقَالُوا لِلنَّاسِ هَلُمَّ. فَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَلَّا يَدْخُلَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِغَيْرِ إذْنٍ إلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ وَمَنْ خَرَجَ عَنْهُمْ فَلَا دُخُولَ فِيهِ لَهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ الْمَتَاعَ بِأَنَّهُ جَمِيعُ الِانْتِفَاعِ فَقَدْ طَبَّقَ الْمُفَصَّلَ، وَجَاءَ بِالْفَيْصَلِ، وَبَيَّنَ أَنَّ دُخُولَ الدَّاخِلِ فِيهَا إنَّمَا هُوَ لِمَا لَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ، فَالطَّالِبُ يَدْخُلُ فِي الْخَانَكَاتِ لِلْعِلْمِ، وَالسَّاكِنُ يَدْخُلُ فِي الْخَانِ لِلْمَنْزِلِ فِيهِ، أَوْ لِطَلَبِ مَنْ نَزَلَ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ، وَالزَّبُونُ يَدْخُلُ لِدُكَّانِ الِابْتِيَاعِ، وَالْحَاقِنُ يَدْخُلُ الْخَلَاءَ لِلْحَاجَةِ، وَكُلٌّ يُؤْتَى عَلَى وَجْهِهِ مِنْ بَابِهِ، فَإِنْ دَخَلَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ هَذِهِ بِاسْمِهَا الظَّاهِرِ وَلِمَنْفَعَتِهَا الْبَادِيَةِ وَنِيَّتُهُ غَيْرُ ذَلِكَ فَاَللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا أَبْدَى، وَبِمَا كَتَمَ، يُجَازِيهِ عَلَيْهِ وَبِمَا يُظْهِرُهُ مِنْهُ.

الآية الخامسة عشرة قوله تعالى قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم

[الْآيَة الْخَامِسَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ] ْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور: 30]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {يَغُضُّوا} [النور: 30] يَعْنِي يَكُفُّوا عَنْ الِاسْتِرْسَالِ قَالَ الشَّاعِرُ: فَغُضَّ الطَّرْفَ إنَّك مِنْ نُمَيْرٍ ... فَلَا كَعْبًا بَلَغْتَ وَلَا كِلَابًا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] فَأَدْخَلَ حَرْفَ {مِنْ} [النور: 30] الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّبْعِيضِ، وَذَكَرَ {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30] مُطْلَقًا. وَلِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ غَضَّ الْأَبْصَارِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّ غَضَّهَا عَنْ الْحَلَالِ لَا يَلْزَمُ؛ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ غَضُّهَا عَنْ الْحَرَامِ؛ فَلِذَلِكَ أَدْخَلَ حَرْفَ التَّبْعِيضِ فِي غَضِّ الْأَبْصَارِ، فَقَالَ: مِنْ أَبْصَارِهِمْ. الثَّانِي: أَنَّ مِنْ نَظَرِ الْعَيْنِ مَا لَا يَحْرُمُ، وَهُوَ النَّظْرَةُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ، فَمَا زَادَ عَلَيْهَا مُحَرَّمٌ، وَلَيْسَ مِنْ أَمْرِ الْفَرْجِ شَيْءٌ مَا يُحَلَّلُ. الثَّالِثُ: أَنَّ مِنْ النَّظَرِ مَا يَحْرُمُ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَجَانِبِ؛ وَمِنْهُ مَا يُحَلَّلُ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالزَّوْجَاتِ وَذَوِي الْمَحَارِمِ، بِخِلَافِ الْفَرْجِ، فَإِنَّ سَتْرَهُ وَاجِبٌ فِي الْمَلَأِ وَالْخَلْوَةِ؛ لِحَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ الْقُشَيْرِيِّ؛ قَالَ: «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَالَ: احْفَظْ عَوْرَتَك إلَّا مِنْ زَوْجِك، أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُك. فَقَالَ: الرَّجُلُ يَكُونُ مَعَ الرَّجُلِ؟ قَالَ: إنْ اسْتَطَعْت أَلَّا يَرَاهَا أَحَدٌ فَافْعَلْ. قُلْت: فَالرَّجُلُ يَكُونُ خَالِيًا؟ قَالَ: اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ».

«وَقَدْ ذَكَرَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَالَهَا مَعَهُ فَقَالَتْ: مَا رَأَيْت ذَلِكَ مِنْهُ، وَلَا رَأَى ذَلِكَ مِنِّي». الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30] يَعْنِي بِهِ الْعِفَّةَ، وَهُوَ اجْتِنَابُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فِيهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا حِفْظُهَا عَنْ الْأَبْصَارِ، حَتَّى لَا يَرَاهَا أَحَدٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وُجُوبُ سَتْرِهَا وَشَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِهَا فِي الْبَقَرَةِ وَالْأَعْرَافِ، وَإِيضَاحُهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَالْمَسَائِلِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور: 30]: يُرِيدُ أَطْهَرُ عَلَى مَعَانِي الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ إذَا غَضَّ بَصَرَهُ كَانَ أَطْهَرَ لَهُ مِنْ الذُّنُوبِ، وَأَنْمَى لِأَعْمَالِهِ فِي الطَّاعَةِ؛ وَلِذَلِكَ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيٍّ: يَا عَلِيُّ، إنَّ لَك كَنْزًا فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّك ذُو قَرْنَيْهَا، فَلَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ؛ فَإِنَّ الْأُولَى لَك وَالثَّانِيَةَ لَيْسَتْ لَك» وَهُوَ أَيْضًا أَفْرَغُ لِبَالِهِ وَأَصْلَحُ لِأَحْوَالِهِ. وَقَدْ أَنْشَدَ أَرْبَابُ الزُّهْدِ: وَأَنْتَ إذَا أَرْسَلْت طَرْفَكَ رَائِدًا ... لِقَلْبِك يَوْمًا أَتْعَبَتْك الْمَنَاظِرُ رَأَيْت الَّذِي لَا كُلُّهُ أَنْتَ قَادِرٌ ... عَلَيْهِ وَلَا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابِرُ وَقَالُوا: مَنْ أَرْسَلَ طَرْفَهُ أَدْنَى حَتْفَهُ، وَمَنْ غَضَّ الْبَصَرَ كَفَّهُ عَنْ التَّطَلُّعِ إلَى الْمُبَاحَاتِ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا وَجَمَالِهَا، كَمَا قَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131] يُرِيدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

الآية السادسة عشرة قوله تعالى وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن

وَفِي الإسرائليات أَنَّ رَجُلًا كَانَ قَائِمًا يُصَلِّي فَنَظَرَ إلَى امْرَأَةٍ بِإِحْدَى عَيْنَيْهِ، فَتَطَأْطَأَ إلَى الْأَرْضِ، فَأَخَذَ عُودًا فَفَقَأَ بِهِ عَيْنَهُ الَّتِي نَظَرَ بِهَا إلَى الْمَرْأَةِ، وَهِيَ مِنْ خَيْرِ عَيْنٍ تُحْشَرُ. وَتَحْكِي الصُّوفِيَّةُ أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَمْشِي عَلَى طَرِيقٍ، فَاتَّبَعَهَا رَجُلٌ حَتَّى انْتَهَتْ إلَى بَابِ دَارِهَا، فَالْتَفَتَتْ إلَيْهِ فَقَالَتْ لَهُ: يَا هَذَا؛ مَا لَك تَتْبَعُنِي؟ فَقَالَ لَهَا: أَعْجَبَتْنِي عَيْنَاكِ. فَقَالَتْ: الْبَثْ قَلِيلًا، فَدَخَلَتْ دَارَهَا، ثُمَّ فَقَأَتْ عَيْنَيْهَا فِي سُكُرُّجَةٍ، وَأَخْرَجَتْهُمَا إلَيْهِ، وَقَالَتْ لَهُ: خُذْ مَا أَعْجَبَك، فَمَا كُنْت لِأَحْبِسَ عِنْدِي مَا يَفْتِنُ النَّاسَ مِنِّي. [الْآيَة السَّادِسَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ] َّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]. فِيهَا ثَمَانِي مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30] قَوْلٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، حَسَبَ كُلِّ خِطَابٍ عَامٍّ فِي الْقُرْآنِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَخُصُّ الْإِنَاثَ بِالْخِطَابِ عَلَى طَرِيقِ التَّأْكِيدِ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ «أُمِّ عُمَارَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أَرَى كُلَّ شَيْءٍ لِلرِّجَالِ وَمَا أَرَى النِّسَاءَ يُذْكَرْنَ بِشَيْءٍ، فَنَزَلَتْ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35]» خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ.

مسألة النظر إلى ما لا يحل شرعا

فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ غَضِّ الْبَصَرِ وَحِفْظِ الْفَرْجِ أَكَّدَهُ بِالتَّكْرَارِ؛ وَخَصَّ النِّسَاءَ فِيهِ بِالذِّكْرِ عَلَى الرِّجَالِ. [مَسْأَلَة النَّظَرَ إلَى مَا لَا يَحِلُّ شَرْعًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31] وَذَلِكَ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ إلَى مَا لَا يَحِلُّ شَرْعًا يُسَمَّى زِنًا. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنَّ اللَّهَ إذَا كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَالْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ، وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْبَطْشُ؛ وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ، وَزِنَاهُمَا الْمَشْيُ؛ وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي؛ وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ». وَكَمَا لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْمَرْأَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ إلَى الرَّجُلِ، فَإِنَّ عَلَاقَتَهُ بِهَا كَعَلَاقَتِهَا بِهِ، وَقَصْدُهُ مِنْهَا كَقَصْدِهَا مِنْهُ. وَقَدْ رَوَتْ «أُمُّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كُنْت أَنَا وَعَائِشَةُ وَفِي رِوَايَةٍ وَمَيْمُونَةُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَقَالَ لَنَا: احْتَجِبْنَ مِنْهُ؟ فَقُلْنَا: أَوَلَيْسَ أَعْمَى؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا». فَإِنْ قِيلَ: يُعَارِضُهُ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ لَهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ فِي شَأْنِ الْعِدَّةِ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ، فَقَالَ لَهَا: تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي، اعْتَدِّي فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى تَضَعِينَ ثِيَابَك عِنْدَهُ». قُلْنَا: قَدْ أَوْعَبْنَا الْقَوْلَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي الشَّرْحِ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِهِ، وَسَتَرَوْنَهُ فِي

مسألة الزينة الظاهرة

مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاَلَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ هَاهُنَا أَنَّ انْتِقَالَهَا مِنْ بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ إلَى بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ أَوْلَى بِهَا مِنْ بَقَائِهَا فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ، إذْ كَانَتْ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ يَكْثُرُ الدَّاخِلُ فِيهِ وَالرَّائِي لَهَا، وَفِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ لَا يَرَاهَا أَحَدٌ، وَكَانَ إمْسَاكُ بَصَرِهَا عَنْهُ أَقْرَبَ مِنْ ذَلِكَ وَأَوْلَى؛ فَرَخَّصَ لَهَا فِي ذَلِكَ. [مَسْأَلَة الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]: الزِّينَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ: خِلْقِيَّةٌ، وَمُكْتَسَبَةٌ. فَالْخِلْقِيَّةُ وَجْهُهَا فَإِنَّهُ أَصْلُ الزِّينَةِ وَجَمَالُ الْخِلْقَةِ، وَمَعْنَى الْحَيَوَانِيَّةِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنَافِعِ وَطُرُقِ الْعُلُومِ وَحُسْنِ تَرْتِيبِ مَحَالِّهَا فِي الرَّأْسِ، وَوَضْعِهَا وَاحِدًا مَعَ آخَرَ عَلَى التَّدْبِيرِ الْبَدِيعِ. وَأَمَّا الزِّينَةُ الْمُكْتَسَبَةُ فَهِيَ مَا تُحَاوِلُهُ الْمَرْأَةُ فِي تَحْسِينِ خَلْقِهَا بِالتَّصَنُّعِ: كَالثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَالْكُحْلِ وَالْخِضَابِ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] يَعْنِي الثِّيَابَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: يَأْخُذْنَ زِينَتَهُنَّ أَحْسَنَ مَا تَرَى ... وَإِذَا عَطِلْنَ فَهُنَّ خَيْرُ عَوَاطِلِ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] اعْلَمُوا عَرَّفَكُمْ اللَّهُ الْحَقَائِقَ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُتَقَابِلَةِ الَّتِي يَقْتَضِي أَحَدُهَا الْآخَرَ، وَهُوَ الْبَاطِنُ هَاهُنَا، كَالْأَوَّلِ مَعَ الْآخَرِ، وَالْقَدِيمِ مَعَ الْحَدِيثِ، فَلَمَّا وَصَفَ الزِّينَةَ بِأَنَّ مِنْهَا ظَاهِرًا دَلَّ عَلَى أَنَّ هُنَالِكَ بَاطِنًا. وَاخْتُلِفَ فِي الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا الثِّيَابُ يَعْنِي أَنَّهَا يَظْهَرُ مِنْهَا ثِيَابُهَا خَاصَّةً؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ. الثَّانِي: الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ. وَهُوَ وَالْقَوْلُ الثَّانِي بِمَعْنًى، لِأَنَّ الْكُحْلَ وَالْخَاتَمَ فِي الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، إلَّا أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهُ

مسألة معنى قوله تعالى وليضربن بخمرهن على جيوبهن

بِمَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الَّذِي يَرَى الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ هِيَ الزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ يَقُولُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا كُحْلٌ أَوْ خَاتَمٌ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهَا الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ وَجَبَ سَتْرُهَا، وَكَانَتْ مِنْ الْبَاطِنَةِ. فَأَمَّا الزِّينَةُ الْبَاطِنَةُ فَالْقُرْطُ وَالْقِلَادَةُ وَالدُّمْلُجِ وَالْخَلْخَالِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: الْخِضَابُ لَيْسَ مِنْ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي السِّوَارِ؛ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: هِيَ مِنْ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ؛ لِأَنَّهَا فِي الْيَدَيْنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ مِنْ الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ؛ لِأَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْ الْكَفَّيْنِ؛ وَإِنَّمَا تَكُونُ فِي الذِّرَاعِ. وَأَمَّا الْخِضَابُ فَهُوَ مِنْ الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ إذَا كَانَ فِي الْقَدَمَيْنِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ هِيَ الَّتِي فِي الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، فَإِنَّهَا الَّتِي تَظْهَرُ فِي الصَّلَاةِ. وَفِي الْإِحْرَامِ عِبَادَةً، وَهِيَ الَّتِي تَظْهَرُ عَادَةً. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31]: الْجَيْبُ: هُوَ الطَّوْقُ وَالْخِمَارُ: هِيَ الْمِقْنَعَةُ. رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: رَحِمَ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ لَمَّا نَزَلَ: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] شَقَقْنَ مُرُوطَهُنَّ وَفِي رِوَايَةٍ فِيهِ أَيْضًا: شَقَقْنَ أُزُرَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا، كَأَنَّهُ مَنْ كَانَ لَهَا مِرْطٌ شَقَّتْ مِرْطَهَا، وَمَنْ كَانَتْ لَهَا إزَارٌ شَقَّتْ إزَارَهَا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَتْرَ الْعُنُقِ وَالصَّدْرِ بِمَا فِيهِ، وَيُوَضِّحُهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الصُّبْحَ فَيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، مَا يُعْرَفْنَ مِنْ الْغَلَسِ» أَيْ لَا تُعْرَفُ فُلَانَةُ مِنْ فُلَانَةَ. [مَسْأَلَة حَرَّمَ اللَّهُ إظْهَارَ الزِّينَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ اثْنَيْ عَشَرَ مَحِلًّا] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] حَرَّمَ اللَّهُ إظْهَارَ الزِّينَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ اثْنَيْ عَشَرَ مَحِلًّا:

الْمُسْتَثْنَى الْأَوَّلُ: الْبُعُولَةُ: وَالْبَعْلُ: هُوَ الزَّوْجُ وَالسَّيِّدُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ «قَوْلُ النَّبِيِّ حِينَ ذَكَرَ أَشْرَاطَ السَّاعَةِ: حَتَّى تَلِدَ الْأَمَةُ بَعْلَهَا» يَعْنِي سَيِّدَهَا؛ إشَارَةً إلَى كَثْرَةِ السَّرَارِي بِكَثْرَةِ الْفُتُوحَاتِ، فَيَأْتِي الْأَوْلَادُ مِنْ الْإِمَاءِ، فَتَعْتِقُ كُلُّ أُمٍّ بِوَلَدِهَا، فَكَأَنَّهُ سَيِّدُهَا الَّذِي مَنَّ عَلَيْهَا بِالْعِتْقِ؛ إذْ كَانَ الْعِتْقُ حَاصِلًا لَهَا مِنْ سَبَبِهِ، فَالزَّوْجُ وَالسَّيِّدُ مِمَّنْ يَرَى الزِّينَةَ مِنْ الْمَرْأَةِ وَأَكْثَرَ مِنْ الزِّينَةِ؛ إذْ كُلُّ مَحِلٍّ مِنْ بَدَنِهَا حَلَالٌ لَهُ لَذَّةً وَنَظَرًا؛ وَذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي جَوَازِ نَظَرِ الرَّجُلِ إلَى فَرْجِ زَوْجَتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ لَهُ التَّلَذُّذُ فَالنَّظَرُ أَوْلَى. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ «لِقَوْلِ عَائِشَةَ فِي ذِكْرِ حَالِهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا رَأَيْت ذَلِكَ مِنْهُ وَلَا رَأَى ذَلِكَ مِنِّي». وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْأَدَبِ؛ فَقَدْ قَالَ أَصْبَغُ مِنْ عُلَمَائِنَا: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَلْحَسَهُ بِلِسَانِهِ. الْمُسْتَثْنَى الثَّانِي: أَوْ آبَائِهِنَّ: وَلَا خِلَافَ أَنَّ غَيْرَ الزَّوْجِ لَا يَلْحَقُ بِالزَّوْجِ فِي اللَّذَّةِ. وَكَذَلِكَ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَلْحَقُ غَيْرُ الزَّوْجِ بِالزَّوْجِ فِي النَّظَرِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ شُورِكَ بَيْنَهُمْ فِي لَفْظِ الْعَطْفِ الَّذِي يَقْتَضِي التَّشْرِيكَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَكِنْ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمْ السُّنَّةُ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا يَبْدُو لِلْأَبِ مِنْ الزِّينَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الرَّأْسُ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ. الثَّانِي: أَنَّ الَّذِي تُبْدِي الْقُرْطَ وَالْقِلَادَةَ وَالسِّوَارَ، فَأَمَّا خَلْخَالُهَا وَشَعْرُهَا فَلَا؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَنَحْوُهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى رَأْسِهَا خِمَارٌ وَمِقْنَعَةٌ، فَتَكْشِفُ الْمِقْنَعَةَ لَهُ.

وَهِيَ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى؛ إذْ الزِّينَةُ الْبَاطِنَةُ يَجُوزُ لِلْأَبِ النَّظَرُ إلَيْهَا لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى ذَلِكَ فِي الْخُلْطَةِ، وَلِأَجْلِ الْمَحْرَمِيَّةِ الَّتِي مَهَّدَتْ الشَّرِيعَةُ؛ إذْ لَا يَقْتَرِنُ بِهَا النَّظَرُ شَهْوَةً، لِتَعَذُّرِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِالتَّحْرِيمِ الْمُتَعَبَّدِ بِهِ وَالْبَعْضِيَّةِ الْقَائِمَةِ مَعَهُ. الْمُسْتَثْنَى الثَّالِثُ: أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ: قَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: قُلْت لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: الرَّجُلُ يَنْظُرُ إلَى شَعْرِ خَتَنَتِهِ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] إلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَقَالَ: لَا أَرَاهَا مِنْهَا. وَفِي الْحَدِيثِ: «إنَّ الْحَمْوَ هُوَ الْمَوْتُ» يَعْنِي لَا بُدَّ مِنْهُ، كَمَا لَا بُدَّ مِنْ الْمَوْتِ فِي أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ، وَلِأَنَّهَا بِنْتُهُ، فَنَزَلَتْ مِنْهُ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ. وَالْأَخْتَانُ وَالْأَصْهَارُ وَالْأَحْمَاءُ مِمَّا كَثُرَ فِيهِمْ الْقَوْلُ؛ وَجُلُّهُ أَنَّ الْخَتَنَ الصِّهْرُ. وَقِيلَ: مَنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ. الْمُسْتَثْنَى الرَّابِعُ: الْأَبْنَاءُ: قَالَ إبْرَاهِيمُ: لَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ الرَّجُلُ إلَى شَعْرِ أُمِّهِ وَأُخْتِهِ وَعَمَّتِهِ وَكُرِهَ لِلْبَاقِينَ، وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ الِابْنَ وَالْأَبَ أَحَقُّ الْأَجَانِبِ مِنْ جِهَةِ الْمَحْرَمِيَّةِ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ. الْمُسْتَثْنَى الْخَامِسُ: أَبْنَاءُ الْبُعُولَةِ: وَهُمْ يَنْزِلُونَ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ فِي جَوَازِ الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ، لِنُزُولِهِمْ مَنْزِلَةَ الْأَبْنَاءِ فِي الْمَحْرَمِيَّةِ. الْمُسْتَثْنَى السَّادِسُ: الْإِخْوَةُ: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ كَانَا يَدْخُلَانِ عَلَى أُخْتِهِمَا أُمِّ كُلْثُومٍ وَهِيَ تَمْتَشِطُ؛ وَذَلِكَ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي.

الْمُسْتَثْنَى السَّابِعُ: أَبْنَاءُ الْإِخْوَةِ، وَهُمْ مِنْ آبَائِهِمْ: رَوَى عُلَمَاؤُنَا أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ لَا تُغَطِّي رَأْسَهَا مِنْهُ وَلَا مِنْ عَشَرَةٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ: مِنْ حَمْزَةَ أَخِيهَا، وَلَا مِنْ جَعْفَرٍ، وَلَا عَلِيِّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَخِيهَا، وَلَا مِنْ الزُّبَيْرِ ابْنِهَا، وَلَا مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ابْنِ بِنْتِ أُخْتهَا أُمُّهُ أَرْوَى بِنْتُ كُرَيْزٍ، وَأُمُّهَا الْبَيْضَاءُ أُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلَا مِنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ، وَلَا مِنْ أَبِي سَبْرَةَ بْنِ أَبِي رُهْمٍ ابْنَيْ أُخْتِهَا بَرَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلَا مِنْ طُلَيْبِ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ بْنِ قُصَيٍّ، وَأُمُّهُ أَرْوَى بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلَا مِنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبِي أَحْمَدَ الشَّاعِرِ وَاسْمُهُ عُبَيْدُ ابْنَيْ جَحْشٍ، أُمُّهُمَا أُمَيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. الْمُسْتَثْنَى الثَّامِنُ: بَنُو الْأَخَوَاتِ: وَلَمَّا لَحِقُوا فِي الْمَحْرَمِيَّةِ بِمَنْ تَقَدَّمَ لَحِقُوا بِهِمْ فِي جَوَازِ النَّظَرِ. الْمُسْتَثْنَى التَّاسِعُ: قَوْلُهُ: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31]: وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَمِيعُ النِّسَاءِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ نِسَاءُ الْمُؤْمِنِينَ. فَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْمُسْلِمَةُ مُبْدِيَةً لَهُنَّ زِينَتَهَا وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ: أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ نِسَاءَ الْمُسْلِمِينَ يَدْخُلْنَ الْحَمَّامَاتِ مَعَهُنَّ نِسَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَامْنَعْ ذَلِكَ، وَحُلْ دُونَهُ. ثُمَّ إنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَامَ فِي ذَلِكَ الْمَقَامَ مُمْتَثِلًا، فَقَالَ: " أَيُّمَا امْرَأَةٍ دَخَلَتْ الْحَمَّامَ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ وَلَا سَقَمٍ تُرِيدُ الْبَيَاضَ لِزَوْجِهَا فَسَوَّدَ اللَّهُ وَجْهَهَا يَوْمَ تَبْيَضُّ الْوُجُوهُ ". وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِجَمِيعِ النِّسَاءِ، وَإِنَّمَا جَاءَ بِالضَّمِيرِ لِلِاتِّبَاعِ، فَإِنَّهَا آيَةُ الضَّمَائِرِ؛ إذْ فِيهَا خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ضَمِيرًا لَمْ يَرَوْا فِي الْقُرْآنِ لَهَا نَظِيرًا، فَجَاءَ هَذَا لِلِاتِّبَاعِ. الْمُسْتَثْنَى الْعَاشِرُ: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31]: حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى الْمَرْأَةِ عَبْدَهَا؛ وَكَانَتْ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ فِيمَا سَمِعْت مِنْ شَيْخِنَا فَخْرُ الْإِسْلَامِ

بِمَدِينَةِ السَّلَامِ تَنَاقُضَ الْأَحْكَامِ فَإِنَّهَا تَمْلِكُهُ بِالْعُبُودِيَّةِ، فَلَوْ مَلَكَهَا بِالزَّوْجِيَّةِ لَقَالَ لَهَا: اُخْرُجِي وَأَطِيعِي زَوْجَك، وَقَالَتْ هِيَ لَهُ: اُسْكُتْ وَأَطِعْ سَيِّدَتَكَ. وَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَقِمْ، وَقَالَ الْآخَرُ: ارْحَلْ. وَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنْفِقْ بِالرِّقِّ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَنْفِقْ بِالزَّوْجِيَّةِ. فَيَعُودُ الطَّالِبُ مَطْلُوبًا وَالْآخَرُ مَأْمُورًا، فَحَسَمَ اللَّهُ الْعِلَّةَ بِالْمَحْرَمِيَّةِ. وَفِيمَا يُرْوَى فِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَبْدَ كَالْأَجْنَبِيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَذَوِي الْمَحَارِمِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ قَالَ مَالِكٌ: أَكْرَهُ أَنْ يُسَافِرَ الرَّجُلُ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ، وَلِلَّهِ دَرُّهُ، إنَّهَا لَيْسَتْ كَأُمِّهِ وَابْنَتِهِ. قَالَا: قَالَ مَالِكٌ: وَإِذَا كَانَ بَعْضُ الْجَارِيَةِ حُرًّا فَلَا يَجُوزُ لِمَنْ يَمْلِكُ بَقِيَّتَهَا أَنْ يَنْظُرَ إلَى شَيْءٍ مِنْهَا غَيْرَ شَعْرِهَا، كَمَا يَنْظُرُ غَيْرُهُ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى زَوْجَتِهِ وَمَعَهَا الْمَرْأَةُ إذَا كَانَتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا. وَإِذَا كَانَ بَعْضُ الْغُلَامِ حُرًّا فَلَا يَرَى شَعْرَ مَنْ يَمْلِكُ بَقِيَّتَهُ، وَإِنْ كَانَ خَصِيًّا لَا تَمْلِكُهُ لَمْ يَنْظُرْ شَعْرَهَا وَصَدْرَهَا. وَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ خُصْيَانُ الْعَبِيدِ إلَى شُعُورِ النِّسَاءِ، فَأَمَّا الْأَحْرَارَ فَلَا، وَذَلِكَ فِي الْوَغْدِ مِنْهُمْ، فَأَمَّا مَنْ لَهُ الْمَنْظَرَةُ فَلَا. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ لِلْوَغْدِ أَنْ يَأْكُلَ مَعَ سَيِّدَتِهِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِذِي الْمَنْظَرَةِ. وَقَالَ فِي الْخَصِيِّ خَادِمُ الرَّجُلِ فِي مَنْزِلِهِ، يَرَى فَخِذَهُ مُنْكَشِفَةً: إنَّهُ خَفِيفٌ. وَقَالَ فِي جَارِيَةِ الْمَرْأَةِ: لَا يَنْبَغِي أَنْ تَرَى فَخِذَ زَوْجِهَا يَنْكَشِفُ عَنْهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31]، فَامْرَأَتُهُ فِي هَذَا كَغَيْرِهَا. وَنَهَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النِّسَاءَ أَنْ يَلْبَسْنَ الْقَبَاطِيَّ، وَقَالَ: " إنْ كَانَتْ لَا تَشِفُّ فَإِنَّهَا تَصِفُ ". قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُرِيدُ الْخُصُورَ وَالْأَرْدَافَ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: سَمِعْت مَالِكًا يُحَدِّثُ أَنَّ عَائِشَةَ دَخَلَ عَلَيْهَا رَجُلٌ أَعْمَى، وَأَنَّهَا

احْتَجَبَتْ مِنْهُ؛ فَقِيلَ لَهَا يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ؛ إنَّهُ أَعْمَى لَا يَنْظُرُ إلَيْك. قَالَتْ: " وَلَكِنِّي أَنْظُرُ إلَيْهِ ". قَالَ أَشْهَبُ: سُئِلَ مَالِكٌ أَتُلْقِي الْمَرْأَةُ خِمَارَهَا بَيْنَ يَدَيْ الْخَصِيِّ؟ وَهَلْ هُوَ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، إذَا كَانَ مَمْلُوكًا لَهَا أَوْ لِغَيْرِهَا؛ فَأَمَّا الْحُرُّ فَلَا، وَإِنْ كَانَ فَحْلًا كَبِيرًا وَغْدًا، تَمْلِكُهُ لَا هَيْئَةَ لَهُ وَلَا مَنْظَرَةَ فَلْيَنْظُرْ إلَى شَعْرِهَا. قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " لَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ الْمَمْلُوكُ إلَى مَوْلَاتِهِ ". قَالَ أَشْهَبُ: قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ بِوَاسِعٍ أَنْ تَدْخُلَ جَارِيَةُ الزَّوْجَةِ أَوْ الْوَلَدِ عَلَى الرَّجُلِ الْمِرْحَاضَ؛ قَالَ اللَّهُ: {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6]. وَقَالَ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ: يَنْظُرُ الْغُلَامُ الْوَغْدُ إلَى شَعْرِ سَيِّدَتِهِ وَلَا أُحِبُّهُ لِغُلَامِ الزَّوْجِ. وَأَطْلَقَ عُلَمَاؤُنَا الْمُتَأَخِّرُونَ الْقَوْلَ بِأَنَّ غُلَامَ الْمَرْأَةِ فِي ذَوِي مَحَارِمِهَا يَحِلُّ مِنْهَا مَا يَحِلُّ لِذِي الْمَحْرَمِ. وَهُوَ صَحِيحٌ فِي الْقِيَاسِ. وَقَوْلُ مَالِكٍ فِي الِاحْتِيَاطِ أَعْجَبُ إلَيَّ. فَرْعٌ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: لَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ مَعَ عَبْدِهَا وَإِنْ كَانَ ذَا مَحْرَمٍ مِنْهَا؛ إذْ يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَ فِي السَّفَرِ فَيَحِلُّ لَهَا تَزَوُّجُهُ. وَهَذَا عِنْدِي ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ عِتْقَهُ بِيَدِهَا؛ فَلَا يُتَّفَقُ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ بِمَوْضِعٍ يَتَأَتَّى فِيهِ مَا ذَكَرْنَا. الْمُسْتَثْنَى الْحَادِيَ عَشَرَ: قَوْلُهُ: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ} [النور: 31]: فِيهَا ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الصَّغِيرُ؛ قَالَ مُجَاهِدٌ. الثَّانِي: أَنَّهُ الْعِنِّينُ؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ الْأَبْلَهُ الْمَعْتُوهُ لَا يَدْرِي النِّسَاءَ؛ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٌ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ الْمَجْبُوبُ لِفَقْدِ إرْبِهِ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ الْهَرَمُ، لِعَجْزِ إرْبِهِ. السَّادِسُ: أَنَّهُ الْأَحْمَقُ الَّذِي لَا يَشْتَهِي الْمَرْأَةَ، وَلَا يَغَارُ عَلَيْهِ الرَّجُلُ. قَالَهُ قَتَادَةُ.

السَّابِعُ: أَنَّ الَّذِي لَا يَهُمُّهُ إلَّا بَطْنُهُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. الثَّامِنُ: أَنَّهُ خَادِمُ الْقَوْمِ لِلْمَعَاشِ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ. قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ الصَّغِيرُ فَلَا مَعْنَى لَهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ أَفْرَدَهُ اللَّهُ بِالذِّكْرِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31]. وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَهُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ؛ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ آلَةٌ، وَمِنْهُمْ الْمَجْبُوبُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ آلَةٌ، وَاَلَّذِي لَهُ آلَةٌ عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهُمْ الْعِنِّينُ الَّذِي لَا يَقُومُ لَهُ شَيْءٌ، وَمِنْهُمْ الَّذِي لَا قَلْبَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَلَا عَلَاقَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ. فَأَمَّا الْمَجْبُوبُ وَالْعِنِّينُ فَلَا كَلَامَ فِيهِمَا. وَأَمَّا مَنْ عَدَاهُمَا مِمَّنْ لَا قَلْبَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَلَّا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ اجْتِمَاعٌ لِضَرُورَةِ حَالِهِ؛ لَكِنَّ الشَّرِيعَةَ رَخَّصَتْ فِي ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ الْمَاسَّةِ إلَيْهِ، وَلِقَصْدِ نَفْيِ الْحَرَجِ بِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ أُمِّ سَلَمَةَ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا هِيتٌ الْمُخَنَّثُ، فَقَالَ لِأَخِيهَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ وَهُوَ عِنْدَهَا: يَا عَبْدَ اللَّهِ؛ إنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الطَّائِفَ غَدًا فَإِنِّي أَدُلُّكَ عَلَى بَادِنَةَ بِنْتِ غَيْلَانَ يَعْنِي زَوْجَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَإِنَّهَا تُنِيفُ بِالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَتُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ مَعَ ثَغْرٍ كَأَنَّهُ الْأُقْحُوَانُ، وَبَيْنَ رِجْلَيْهَا كَالْإِنَاءِ الْمَكْفُوءِ، إنْ جَلَسَتْ تَبَنَّتْ، وَإِنْ قَامَتْ تَثَنَّتْ، وَإِنْ تَكَلَّمَتْ تَغَنَّتْ: بَيْنَ شُكُولِ النِّسَاءِ خِلْقَتُهَا ... قَصْدٌ فَلَا جَبْلَةٌ وَلَا قَضَفُ تَغْتَرِقُ الطَّرْفَ وَهْيَ لَاهِيَةٌ ... كَأَنَّمَا شَفَّ وَجْهَهَا نُزْفُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَأَرَى هَذَا يَعْرِفُ مَا هَاهُنَا، لَا يَدْخُلْ عَلَيْكُنَّ» فَحَجَبَهُ.

مسألة عورة المرأة مع عبدها

الْمُسْتَثْنَى الثَّانِيَ عَشَرَ: قَوْلُهُ: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31]: وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وُجُوبِ سَتْرِ مَا سِوَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ مِنْهُ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَالْآخَرُ: يَلْزَمُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَشْتَهِي، وَقَدْ تَشْتَهِي هِيَ أَيْضًا؛ فَإِنْ رَاهَقَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْبَالِغِ فِي وُجُوبِ السَّتْرِ وَلُزُومِ الْحَجَبَةِ. وَبَقِيَ هَاهُنَا الْمُسْتَثْنَى الثَّالِثَ عَشَرَ، وَهُوَ الشَّيْخُ الَّذِي سَقَطَتْ شَهْوَتُهُ. وَفِيهِ قَوْلَانِ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الصَّبِيِّ. وَالصَّحِيحُ بَقَاءُ الْحُرْمَةِ. [مَسْأَلَة عَوْرَةُ الْمَرْأَةِ مَعَ عَبْدِهَا] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: عَوْرَةُ الْمَرْأَةِ مَعَ عَبْدِهَا مِنْ السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ، وَكَأَنَّهُمْ ظَنُّوهَا رَجُلًا أَوْ ظَنُّوهُ امْرَأَةً، وَاَللَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ الْمَرْأَةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ نَظَرًا وَلَذَّةً، ثُمَّ اسْتَثْنَى اللَّذَّةَ لِلزَّوْجِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى الزِّينَةَ: ظَاهِرُ الثَّلَاثَةَ عَشَرَ شَخْصًا الْعَبْدُ مِنْهُمْ، فَمَا لَنَا وَلِغَيْرِ ذَلِكَ؟ هَذَا نَظَرٌ فَاسِدٌ، وَاجْتِهَادٌ عَنْ السَّدَادِ مُتَبَاعِدٌ. وَقَدْ أَوَّلَ بَعْضُ النَّاسِ قَوْلَهُ: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31] عَلَى الْإِمَاءِ دُونَ الْعَبِيدِ، مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، فَكَيْفَ يُحْمَلُ عَلَى الْعَبِيدِ، ثُمَّ يُلْحَقُونَ بِالنِّسَاءِ؟ هَذَا بَعِيدٌ جِدًّا. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31]. قَالَ: كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَضْرِبُ بِرِجْلَيْهَا لِيُسْمَعَ قَعْقَعَةَ خَلْخَالَيْهَا؛ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَرَحًا بِحُلِيِّهِنَّ فَهُوَ مَكْرُوهٌ. وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ تَبَرُّجًا وَتَعَرُّضًا لِلرِّجَالِ فَهُوَ حَرَامٌ. وَكَذَلِكَ مَنْ صَرَّ بِنَعْلِهِ مِنْ الرِّجَالِ، إنْ فَعَلَ ذَلِكَ عُجْبًا حَرُمَ، فَإِنَّ الْعُجْبَ كَبِيرَةٌ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ تَبَرُّجًا لَمْ يَجُزْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

الآية السابعة عشرة قوله تعالى وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين

[الْآيَة السَّابِعَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ] َ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور: 32]. فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] وَالْأَيِّمُ فِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الَّتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا. الثَّانِي: أَنَّهَا الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ: «نَهَى عَنْ الْأَيْمَةِ». وَقَالَ الشَّاعِرُ: فَإِنْ تَنْكِحِي أَنْكِحْ وَإِنْ تَتَأَيَّمِي ... وَإِنْ كُنْت أَفْتَى مِنْكُمْ أَتَأَيَّمُ وَفِي الْحَدِيثَ: «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا»؛ وَهِيَ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا بَعْدَ زَوْجِهَا. وَفِي لَفْظٍ: «الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا».

مسألة المراد بالخطاب قوله تعالى وأنكحوا

[مَسْأَلَة الْمُرَادِ بِالْخِطَابِ قَوْله تَعَالَى وَأَنْكِحُوا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْمُرَادِ بِالْخِطَابِ بِقَوْلِهِ: {وَأَنْكِحُوا} [النور: 32] فَقِيلَ: هُمْ الْأَزْوَاجُ. وَقِيلَ: هُمْ الْأَوْلِيَاءُ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ سَيِّدٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ الْأَوْلِيَاءُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: أَنْكِحُوا. بِالْهَمْزَةِ، وَلَوْ أَرَادَ الْأَزْوَاجَ لَقَالَ ذَلِكَ بِغَيْرِ هَمْزَةٍ، وَكَانَتْ الْأَلِفُ لِلْوَصْلِ، وَإِنْ كَانَ بِالْهَمْزَةِ فِي الْأَزْوَاجِ لَهُ وَجْهٌ فَالظَّاهِرُ أَوْلَى، فَلَا يُعْدَلُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَأَنْكِحُوا} [النور: 32]: لَفْظُهُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ أَوْ نَدْبِهِ أَوْ إبَاحَتِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمَرْءِ مِنْ خَوْفِهِ الْعَنَتَ، وَعَدَمِ صَبْرِهِ، وَمِنْ قُوَّتِهِ عَلَى الصَّبْرِ، وَزَوَالِ خَشْيَةِ الْعَنَتِ عَنْهُ. وَإِذَا خَافَ الْهَلَاكَ فِي الدِّينِ أَوْ الدُّنْيَا أَوْ فِيهِمَا فَالنِّكَاحُ حَتْمٌ. وَإِنْ لَمْ يَخْشَ شَيْئًا وَكَانَتْ الْحَالُ مُطْلَقَةً، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: النِّكَاحُ مُبَاحٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: هُوَ مُسْتَحَبٌّ. وَتَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ قَضَاءُ لَذَّةٍ، فَكَانَ مُبَاحًا كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ. وَتَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ، وَلَا فَائِدَةَ فِي التَّعَلُّقِ بِغَيْرِ الصَّحِيحِ. وَفِي ذَلِكَ حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: «جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا أُخْبِرُوهَا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَأُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا. وَقَالَ الْآخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ، وَلَا أُفْطِرُ. وَقَالَ الْآخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ وَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَيْهِمْ، فَقَالَ: أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا وَاَللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ

مسألة تقدير قوله تعالى والصالحين من عبادكم وإمائكم

لِلَّهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، وَلَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ؛ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي». الثَّانِي: قَالَ عُرْوَةُ: سَأَلْت عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِهِ: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] إلَى قَوْلِهِ: {أَلا تَعْدِلُوا} [النساء: 3]. قَالَتْ: يَا بْنَ أُخْتِي، هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا، فَيَرْغَبُ فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا، وَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِأَدْنَى مِنْ سُنَّةِ صَدَاقِهَا، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فَيُكْمِلُوا الصَّدَاقَ، وَأُمِرُوا بِنِكَاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ مِنْ النِّسَاءِ. [مَسْأَلَة تقدير قَوْله تَعَالَى وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] وَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَأَنْكِحُوا إمَاءَكُمْ. وَتَقْرِيرُهَا: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ. الثَّانِي: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ أَمَرَ بِإِنْكَاحِ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ، كَمَا أَمَرَ بِإِنْكَاحِ الْأَيَامَى، وَذَلِكَ بِيَدِ السَّادَةِ فِي الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ، كَمَا هُوَ فِي الْأَحْرَارِ بِيَدِ الْأَوْلِيَاءِ، إلَّا مَنْ مَلَكَ نَفْسَهُ، وَائْتَمَرَ أَمْرَهُ، وَأَبْصَرَ رُشْدَهُ. أَمَّا أَنَّ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ تَعَلَّقُوا بِأَنَّ الْعَبْدَ مُكَلَّفٌ فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ كَامِلٌ مِنْ جِهَةِ الْآدَمِيَّةِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَمْلُوكِيَّةُ فِيمَا كَانَ حَظًّا لِلسَّيِّدِ مِنْ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ، فَلَهُ حَقُّ الْمَمْلُوكِيَّةِ فِي بُضْعِ الْأَمَةِ لِيَسْتَوْفِيَهُ وَيَمْلِكَهُ. فَأَمَّا بُضْعُ الْعَبْدِ فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَا تُبَاحُ السَّيِّدَةُ لِعَبْدِهَا؛ هَذِهِ عُمْدَةُ أَهْلِ خُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ. وَلِعُلَمَائِنَا النُّكْتَةُ الْعُظْمَى فِي أَنَّ مَالِكِيَّةَ الْعَبْدِ اسْتَغْرَقَتْهَا مَالِكِيَّةُ السَّيِّدِ؛ وَلِذَلِكَ لَا يَتَزَوَّجُ إلَّا بِإِذْنِهِ إجْمَاعًا.

مسألة معنى قوله تعالى إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله

وَالنِّكَاحُ وَبَابُهُ إنَّمَا هُوَ مِنْ الْمَصَالِحِ، وَمَصْلَحَةُ الْعَبْدِ مَوْكُولَةٌ إلَى السَّيِّدِ، هُوَ يَرَاهَا وَيُقِيمُهَا لِلْعَبْدِ، وَلِذَلِكَ زَوَّجَ الْأَمَةَ بِمِلْكِهِ لِرَقَبَتِهَا، لَا بِاسْتِيفَائِهِ لِبُضْعِهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا نَقُولُهُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بُضْعَ امْرَأَتِهِ وَإِنْ كَانَ يَمْلِكُهَا، وَيَمْلِكُ بُضْعَ أُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ أَمَةً، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَوْفِيهِ. وَالْمَالِكِيَّةُ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ كَالْمَالِكِيَّةِ فِي رَقَبَةِ الْأَمَةِ. وَالْمَصْلَحَةُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِيَدِ السَّيِّدِ اسْتِيفَاؤُهَا وَإِقَامَتُهَا وَالنَّظَرُ إلَيْهَا، وَمِنْهَا وَمِنْ عَدِّهِمْ الطَّلَاقَ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ بِمِلْكِ عَقْدِهِ. وَهَذَا لَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّ لِلسَّيِّدِ نَظَرًا فِي الْمَصْلَحَةِ، فَإِنْ أَسْقَطَهَا الْعَبْدُ فَقَدْ أَسْقَطَ خَالِصَ حَقِّهِ الَّذِي لَهُ، وَقَدْ نَرَى الثَّيِّبَ لَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ، وَلَا يُمْلَكُ عَلَيْهَا النِّكَاحُ، وَيُمْلَكُ النِّكَاحُ عَلَى السَّفِيهِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، وَلَا يُمْلَكُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ، وَيُمْلَكُ عَلَيْهِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ، وَلَا يَمْلِكُ هُوَ الْإِقَالَةَ وَلَا الْفَسْخَ، وَلَا الْعِتْقَ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَيْنَيْنِ غَيْرُ مَطْلَعِ الْآخَرِ، فَافْتَرَقَا. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ أَرَادَ الْمَمْلُوكَيْنِ لَقَالَ مِنْ عَبِيدِكُمْ. قُلْنَا عَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ: (وَإِمَائِكُمْ)، وَلَوْ أَرَادَ النَّاسَ لَمَا جَاءَ بِالْهَمْزَةِ. كَمَا تَقَدَّمَ، وَلِذَلِكَ قَرَأَهَا الْحَسَنُ مِنْ عَبِيدِكُمْ، وَلِيُبَيَّنَ الْإِشْكَالُ وَيُرْفَعَ اللَّبْسُ. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَوْ قَدَّرْنَاهُ كَمَا زَعَمُوا لَكَانَ عَامًّا، وَكُنَّا نَحْكُمُ بِعُمُومِهِ فِيمَنْ كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، كَمَا حَكَمْنَا بِعُمُومِهِ فِيمَنْ كَانَتْ أَمَةً لِلَّهِ أَوْ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ بِتَمْلِيكِهِ إيَّاهَا لَهُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى إنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32]. وَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُغْنِيهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ بِالنِّكَاحِ، كَقَوْلِهِ: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] يَعْنِي النِّكَاحَ مِنْ غَيْرِهِ. الثَّانِي: يُغْنِيهِمْ بِالْمَالِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ؛ فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ:

عَجِبْت لِمَنْ لَا يَرْغَبُ فِي الْبَاءَةِ، وَاَللَّهُ يَقُولُ: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32]. وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «ثَلَاثَةٌ كُلُّهُمْ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُ: الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالنَّاكِحُ يُرِيدُ الْعَفَافَ، وَالْمُكَاتَبُ يُرِيدُ الْأَدَاءَ». فَإِنْ قُلْنَا: قَدْ نَجِدُ النَّاكِحَ لَا يَسْتَغْنِي. قُلْنَا: عَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُغْنِيهِ بِإِيتَاءِ الْمَالِ، وَقَدْ يُوجَدُ ذَلِكَ. الثَّانِي: يُغْنِيهِ عَنْ الْبَاءَةِ بِالْعِفَّةِ. الثَّالِثُ: يُغْنِيهِ بِغِنَى النَّفْسِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كُلُّهُ عَلَى الدَّوَامِ؛ بَلْ لَوْ كَانَ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ لَصَدَقَ الْوَعْدُ. وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ عُلَمَائِنَا يَقُولُ: إنَّ هَذَا عَلَى الْخُصُوصِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْجَوَابِ الْأَوَّلِ. وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ: " النَّاكِحُ مُعَانٌ، وَالْمُكَاتَبُ مُعَانٌ، وَبَاغِي الرَّجْعَةِ مُعَانٌ ". الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ وَرَدَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهَا قَدْ تَنَاوَلَتْ مُخْتَلِفَاتِ الْأَحْكَامِ؛ مِنْهَا وَاجِبٌ، وَمِنْهَا غَيْرُ وَاجِبٍ، وَمِنْهَا فِي الْبَالِغِ، وَمِنْهَا فِي الصَّغِيرِ، وَمِنْهَا فِي الثَّيِّبِ، وَمِنْهَا فِي الْبِكْرِ. قُلْنَا: هَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْخِطَابِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ؛ وَأَقْرَبُ مِنْهُ الْآيَةُ الَّتِي تَلَوْنَاهَا آنِفًا فِي قَوْلِهِ: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] إلَى آخِرِ الِاثْنَيْ عَشَرَ وَجْهًا، وَكُلُّ وَاحِدٍ يَخْتَلِفُ فِي بَابِهِ، وَالْخِطَابُ مُشْتَرَكٌ فِيهِمْ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ يَخْتَلِفُ فِي التَّعَلُّقِ بِهِمْ.

الآية الثامنة عشرة قوله تعالى وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَزْوِيجِ الْفَقِيرِ، وَلَا يَقُولَنَّ كَيْفَ أَتَزَوَّجُ وَلَيْسَ لِي مَالٌ؟ فَإِنَّ رِزْقَهُ وَرِزْقَ عِيَالِهِ عَلَى اللَّهِ، «وَقَدْ زَوَّجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَوْهُوبَةَ مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، وَلَيْسَ لَهُ إلَّا إزَارٌ وَاحِدٌ»، وَلَيْسَ لَهَا بَعْدَ هَذَا فَسْخُ النِّكَاحِ بِالْإِعْسَارِ؛ لِأَنَّهَا عَلَيْهِ دَخَلَتْ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى الْحُكْمِ إذَا دَخَلَتْ عَلَى الْيَسَارِ، فَخَرَجَ مُعْسِرًا، أَوْ طَرَأَ الْإِعْسَارُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الثَّامِنَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا] حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 33]. فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا خِطَابٌ لِبَعْضِ مَنْ تَنَاوَلَتْهُ الْآيَةُ الْأُولَى مِمَّنْ يَمْلِكُ أَمْرَ نَفْسِهِ، فَيَتَعَفَّفُ، وَيَتَوَقَّفُ، أَوْ يَقْدُمُ عَلَى النِّكَاحِ، وَلَا يَتَخَلَّفُ. وَأَمَّا مَنْ زِمَامُهُ بِيَدِ سِوَاهُ يَقُودُهُ إلَى مَا يَرَاهُ، فَلَيْسَ لَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَدْخَلٌ كَالْمَحْجُورِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَالْأَمَةِ وَالْعَبْدِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إنْ كَانَ النِّكَاحُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مُخْتَلَفًا فِيهِ مَا بَيْنَ وُجُوبٍ وَنَدْبٍ وَإِبَاحَةٍ فَالِاسْتِعْفَافُ لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِهِ لِأَجْلِ أَنَّهُ إمْسَاكٌ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ؛ وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ وَاجِبٌ بِغَيْرِ خِلَافٍ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَمَّا لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ بَيْنَ الْعِفَّةِ وَالنِّكَاحِ دَرَجَةً دَلَّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُمَا مُحَرَّمٌ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مِلْكُ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ بِنَصٍّ آخَرَ مُبَاحٌ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3]، فَجَاءَتْ فِيهِ زِيَادَةُ هَذِهِ الْإِبَاحَةِ بِآيَةٍ فِي آيَةٍ، وَيَبْقَى عَلَى التَّحْرِيمِ الِاسْتِمْنَاءُ رَدًّا عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَكَذَلِكَ يَخْرُجُ عَنْهُ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ لِنَسْخِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {لا يَجِدُونَ نِكَاحًا} [النور: 33] يَعْنِي يَقْدِرُونَ، وَعَبَّرَ عَنْ الْقُدْرَةِ بِالْوُجُودِ، وَعَنْ عَدَمِهَا بِعَدَمِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] حَرْفًا بِحَرْفٍ فَخُذْهُ مِنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33] فِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بِالْقُدْرَةِ عَلَى النِّكَاحِ. الثَّانِي: بِالرَّغْبَةِ عَنْهُ. وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: إنَّهُ يَسْتَعِفُّ بِالصَّوْمِ، لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَبَابًا لَا نَجِدُ شَيْئًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ؛ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ». وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ لِانْتِظَامِ الْقُرْآنِ فِيهِ وَالْحَدِيثِ، وَاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة طلب العبد للمكاتبة

[مَسْأَلَة طَلَبَ الْعَبْدِ لِلْمُكَاتَبَةِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33] يَعْنِي يَطْلُبُونَ الْكِتَابَ، يُرِيدُ الْمُكَاتَبَةَ عَلَى مَالٍ يَدْفَعُونَهُ إلَى سَادَاتِهِمْ، فَافْعَلُوا ذَلِكَ لَهُمْ، فَذَكَرَ اللَّهُ طَلَبَ الْعَبْدِ لِلْمُكَاتَبَةِ، وَأَمَرَ السَّيِّدَ بِهَا حِينَئِذٍ؛ وَهِيَ حَالَتَانِ: الْأُولَى: أَنْ يَطْلُبَهَا الْعَبْدُ، وَيُجِيبَهُ السَّيِّدُ؛ فَهَذَا مُطْلَقُ الْآيَةِ وَظَاهِرُهَا. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَطْلُبَهَا الْعَبْدُ؛ وَيَأْبَاهَا السَّيِّدُ؛ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: لِعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى السَّيِّدِ. وَقَالَ سَائِرُ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَتَعَلَّقَ مَنْ أَوْجَبَهَا بِمُطْلَقِ قَوْله تَعَالَى {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33]. وَافْعَلْ بِمُطْلَقِهِ عَلَى الْوُجُوبِ حَتَّى يَأْتِيَ الدَّلِيلُ بِغَيْرِهِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ أُصُولِيَّةٌ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَلَا نُسَلِّمُهَا لَهُمْ، بَلْ نَقُولُ إنَّ لَفْظَ " افْعَلْ " لِاقْتِضَاءِ الْفِعْلِ، وَالْوُجُوبُ يَكُونُ بِتَعَلُّقِ الذَّمِّ بِتَرْكِهِ، وَالِاقْتِضَاءُ يَسْتَقِلُّ بِهِ الِاسْتِحْبَابُ، فَأَيْنَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ؟ وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي لَا مُزَعْزِعَ لَهُ. أَمَّا إنَّ مِنْ عُلَمَائِنَا الْمُتَمَرِّسِينَ بِالْفِقْهِ سَلَّمُوا أَنَّ مُطْلَقَ " افْعَلْ " عَلَى الْوُجُوبِ، وَادَّعَوْا أَنَّ الدَّلِيلَ هَاهُنَا قَدْ قَامَ عَلَى سُقُوطِ الْوُجُوبِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكِتَابَةَ إذَا طَلَبَهَا الْعَبْدُ فَفِيهَا إخْرَاجُ مِلْكِ السَّيِّدِ مِنْ يَدِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَلَا أَصْلَ لِذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ، بَلْ أُصُولُ الشَّرِيعَةِ كُلُّهَا تَقْتَضِي أَلَّا يَخْرُجَ أَحَدٌ عَنْ يَدِهِ إلَّا بِاخْتِيَارِهِ. وَمَا جَاءَ بِخِلَافِ الْأُصُولِ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ. وَهَذَا لَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ عِنْدَنَا أَوْ الْحَدِيثَ إذَا جَاءَ بِخِلَافِ الْأُصُولِ فَهُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ، وَيُرْجَعُ إلَيْهِ فِي بَابِهِ، وَيَجْرِي عَلَى حُكْمِهِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْمَضَرَّاتِ مِنْ كُتُبِ الْخِلَافِ، وَفِي تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ مِنْ كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ. الثَّانِي: قَالُوا: إنَّمَا يَكُونُ مُطْلَقُ الْأَمْرِ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ إذَا تَعَرَّى عَنْ قَرِينَةٍ، وَهَاهُنَا قَرِينَةٌ تَقْتَضِي صَرْفَهُ عَنْ الْوُجُوبِ، وَهُوَ تَعْلِيقُهُ بِشَرْطِ عِلْمِ الْخَيْرِ فِيهِ، فَتَعَلَّقَ الْوُجُوبُ عَلَى أَمْرٍ بَاطِنٍ، وَهُوَ عِلْمُ السَّيِّدِ بِالْخَيْرِ فِيهِ.

مسألة كاتب عبده على مال قاطعه عليه نجوما

وَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ، كَاتِبْنِي، فَقَالَ السَّيِّدُ: لَمْ أَعْلَمْ فِيك خَيْرًا، وَهُوَ أَمْرٌ بَاطِنٌ؛ فَيُرْجَعُ فِيهِ إلَيْهِ، وَيُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوِيٌّ فِي بَابِهِ. الثَّالِثُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: مَالُ الْعَبْدِ وَأَكْسَابُهُ مِلْكُ السَّيِّدِ، وَرَقَبَتُهُ مِلْكٌ لَهُ؛ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: خُذْ كَسْبِي وَخَلِّصْ رَقَبَتِي فَهُوَ يُطَالِبُهُ بِتَفْوِيتِ مِلْكِهِ عَنْهُ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: أَعْتِقْنِي. وَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ، وَهُوَ كَلَامٌ قَوِيٌّ فِي الْبَابِ عَلَى مُثْبِتِي الِاجْتِهَادِ؛ وَمَنْ رَدَّهُ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْقُدْرَةُ عَلَى السَّعْيِ وَالِاكْتِسَابِ؛ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. الثَّانِي: أَنَّ الْخَيْرَ الْمَالُ؛ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ الْوَفَاءُ وَالصِّدْقُ وَالْأَمَانَةُ؛ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الثَّانِي. فَأَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ الْمَالُ فَلَا إشْكَالَ فِيهِ. وَأَمَّا الْقُدْرَةُ عَلَى الْأَدَاءِ بِحُسْنِ السَّعْيِ وَالِاكْتِسَابِ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ يَلْحَقُ بِهِ لِأَنَّهُ مَالٌ مُنَجَّمٌ يَجْتَمِعُ فِي مُدَّةِ الْأَجَلِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ الصِّدْقُ وَالْأَمَانَةُ فَكَأَنَّهُ نَظَرَ إلَى مَعْنًى هُوَ مَشْرُوطٌ فِي كُلِّ طَاعَةٍ وَفِعْلٍ، فَلَا تَخْتَصُّ هَذِهِ الْكِتَابَةَ بِاشْتِرَاطِهِ وَحْدَهَا. [مَسْأَلَة كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ قَاطَعَهُ عَلَيْهِ نُجُومًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: إذَا كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى مَالِ قَاطَعَهُ عَلَيْهِ نُجُومًا، فَإِنْ جَعَلَهُ حَالًّا فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَفُ وَالْعُلَمَاءُ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا بِاخْتِلَافِهِمْ. وَالصَّحِيحُ فِي النَّظَرِ أَنَّ الْكِتَابَةَ مُؤَجَّلَةٌ، كَمَا وَرَدَ بِهَا الْأَثَرُ فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ حِينَ كَاتَبَتْ أَهْلَهَا عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ. وَكَمَا فَعَلَتْ الصَّحَابَةُ؛ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ

مسألة معنى قوله تعالى وآتوهم من مال الله الذي آتاكم

كِتَابَةً؛ لِأَنَّهَا تُكْتَبُ وَيُشْهَدُ عَلَيْهَا، فَقَدْ اسْتَوْثَقَ الِاسْمُ وَالْأَثَرُ وَعَضَّدَهُ الْمَعْنَى؛ فَإِنَّ الْمَالَ إنْ جَعَلَهُ حَالًّا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْعَبْدِ، أَوْ لَا يَكُونَ عِنْدَهُ شَيْءٌ؛ فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ مَا قَطَعَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ مَالُ مُقَاطَعَةٍ وَعَقْدُ مُقَاطَعَةٍ، لَا عَقْدُ كِتَابَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْعَبْدِ مَالٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْعَلَ مَا يُكَاتِبُهُ عَلَيْهِ حَالًّا؛ لِأَنَّهُ أَجَلٌ مَجْهُولٌ فَيَدْخُلُهُ الْغَرَرُ، وَتَقَعُ الْمُنَازَعَةُ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ؛ وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا مِنْ جِهَةِ الْغَرَرِ، وَمِنْ جِهَةِ الدِّينِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا جُعِلَ الْأَجَلُ رِفْقًا بِالْعَبْدِ؛ فَإِنْ شَاءَ أَنْ يَرْتَفِقَ وَإِلَّا تَرَكَ حَقَّهُ. قُلْنَا: كُلُّ حَقٍّ هُوَ إسْقَاطٌ مَحْضٌ وَتَرْكٌ صِرْفٌ فَهُوَ جَائِزٌ، وَكُلُّ حَقٍّ يُتْرَكُ فِي عَقْدٍ يَعُودُ عَلَيْهِ بِالْغَرَرِ لَا يَجُوزُ إجْمَاعًا. وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْقَوْلَ فِي كُتُبِ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَمَنْ أَرَادَهُ فَلْيَنْظُرْهُ هُنَالِكَ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَالُ الزَّكَاةِ؛ قَالَ إبْرَاهِيمُ، وَالْحَسَنُ، وَمَالِكٌ. الثَّانِي: أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ؛ قَالَهُ عَلِيٌّ وَغَيْرُهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَدَّرَهُ عَلِيٌّ بِرُبُعِ الْكِتَابَةِ، وَقَدَّرَهُ غَيْرُهُ بِنَجْمٍ مِنْ نُجُومِهَا. وَرَأَى الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ مَجْهُولٌ، وَأَنَّ ذَلِكَ مَوْقُوفٌ عَلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ فَإِنَّهُ يُنَفِّذُهُ فِي تَرِكَتِهِ، وَيَقْضِي بِهِ عَلَيْهِ. وَاحْتَجَّ بِمُطْلَقِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33]، وَبِقَوْلِ عَلِيٍّ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عُمَرَ، وَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ عُمْدَةٌ، وَإِنَّمَا هِيَ لِعُلَمَائِنَا. وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَلَوْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ حِينَ قَالَ: إنَّ الْإِيتَاءَ وَاجِبٌ يَقُولُ: إنَّ الْكِتَابَةَ وَاجِبَةٌ لَكَانَ تَرْكِيبًا حَسَنًا، وَلَكِنَّهُ قَالَ: إنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَلْزَمُ وَالْإِيتَاءُ يَجِبُ؛ فَجَعَلَ الْأَصْلَ غَيْرَ وَاجِبٍ، وَالْفَرْعَ وَاجِبًا؛ وَهَذَا لَا نَظِيرَ لَهُ؛ فَصَارَتْ دَعْوَى مَحْضَةً.

فَإِنْ قِيلَ: يَكُونُ ذَلِكَ كَالنِّكَاحِ لَا يَجِبُ، فَإِذَا انْعَقَدَ وَجَبَتْ أَحْكَامُهُ، مِنْهَا الْمُتْعَةُ. قُلْنَا: عِنْدَنَا لَا تَجِبُ الْمُتْعَةُ؛ فَلَا مَعْنَى لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي التَّعَلُّقِ بِهَا. وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى أَنَّ الْإِيتَاءَ غَيْرُ وَاجِبٍ أَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا غَيْرَ مُقَدَّرٍ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ لَكَانَ الْمَالُ فِي أَصْلِ الْكِتَابَةِ مَجْهُولًا، وَالْعَقْدُ بِالْعِوَضِ الْمَجْهُولِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّ اللَّهَ شَرَعَهُ، وَقَدْ عَضَّدَهُ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِ اللَّهِ: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33]. وَمَالُ اللَّهِ هُوَ الزَّكَاةُ، وَالْفَيْءُ، وَلَيْسَ بِمَالٍ أَوْجَبَ حَقًّا فِي عَقْدٍ، وَإِنْ كَانَ الْعِبَادُ وَأَمْوَالُهُمْ لِلَّهِ، وَلَكِنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ إنَّمَا يَنْطَلِقُ عَلَى الزَّكَاةِ وَالْفَيْءِ. فَإِنْ قِيلَ: يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ فِي هَذَا: إنَّهُ مَالُ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ لِحَقِّ اللَّهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ، وَقَصَدَ بِهِ الْقُرْبَةَ إلَيْهِ. قُلْنَا: هَذَا مَجَازٌ، لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا لِضَرُورَةٍ. وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ يُرِيدُونَ أَنْ يَجْعَلُوا الْمَجَازَ حَقِيقَةً، وَيَعْدِلُونَ بِاللَّفْظِ عَنْ طَرِيقِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَفْعَلُونَ بِقَوْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ؟ قُلْنَا: سُبْحَانَ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ الْحُجَّةَ إلَّا فِي قَوْلِ صَاحِبِ الْمُعْجِزَةِ، عَلَى أَنَّ الَّذِي رُوِيَ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ أَنَّ عُمَرَ كَاتَبَ عَبْدًا لَهُ هُوَ جَدُّ مَيْمُونِ بْنِ جَابَانَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: كَمْ تَعْرِضُ؟ فَقَالَ عَبْدُهُ: أَعْرِضُ مِائَتَيْ أُوقِيَّةٍ. قَالَ: فَمَا اسْتَزَادَنِي، وَكَاتَبَنِي عَلَيْهَا، فَأَرَادَ أَنْ يُعَجِّلَ لِي مِنْ مَالِهِ طَائِفَةً، فَأَرْسَلَ إلَى حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: إنِّي كَاتَبْت غُلَامِي، فَأَرَدْت أَنْ أُعَجِّلَ لَهُ طَائِفَةً مِنْ مَالِي، فَأَرْسِلِي إلَيَّ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ إلَى أَنْ يَأْتِيَنَا بِشَيْءٍ، فَأَرْسَلَتْ بِهَا إلَيْهِ، فَأَخَذَهَا عُمَرُ بِيَمِينِهِ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] فَخُذْهَا، فَبَارَكَ اللَّهُ لَك فِيهَا. قَالَ: فَبَارَكَ اللَّهُ لِي فِيهَا؛ عَتَقْت مِنْهَا، وَأَصَبْت خَيْرًا كَثِيرًا. وَقَالَ عَلِيٌّ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] قَالَ: رُبُعُ الْكِتَابَةِ. وَكَاتَبَ عَبْدًا لَهُ عَلَى أَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَوَضَعَ عَنْهُ رُبُعَهَا، وَهَذَا مِنْ فِعْلِ عُمَرَ

مسألة ما يترك للمكاتب من كتابته التي يكاتب عليها متى يترك وكيف يكتب

وَقَوْلُ عَلِيٍّ وَفِعْلُهُ لَا يَقْتَضِي إلَّا النَّدْبَ، وَلَيْسَ فِيهِ عَلَى الْوُجُوبِ دَلِيلٌ لَا سِيَّمَا وَقَدْ خَالَفَهُمَا عُثْمَانُ، فَرُوِيَ أَنَّهُ كَاتَبَ غَيْرَهُ، وَحَلَفَ أَلَّا يَحُطَّهُ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ. [مَسْأَلَة مَا يُتْرَكُ لِلْمُكَاتَبِ مِنْ كِتَابَتِهِ الَّتِي يُكَاتِبُ عَلَيْهَا مَتَى يُتْرَكُ وَكَيْفَ يُكْتَبُ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: فِي أَيِّ وَقْتٍ يُؤْتَى؟ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعَ مَالِكًا يَقُولُ وَسَأَلْته عَمَّا يُتْرَكُ لِلْمُكَاتَبِ مِنْ كِتَابَتِهِ الَّتِي يُكَاتِبُ عَلَيْهَا: مَتَى يُتْرَكُ؛ وَكَيْفَ يُكْتَبُ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: يُكْتَبُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ كَاتَبَ عَلَى كَذَا، وَقَدْ وَضَعَ عَنْهُ مِنْ أَجْرِ كِتَابَتِهِ كَذَا. الثَّانِي: أَنَّهُ يَتْرُكُ لَهُ مِنْ كُلِّ نَجْمٍ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. الثَّالِثُ: يُوضَعُ عَنْهُ مِنْ آخِرِ الْكِتَابَةِ؛ قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. الرَّابِعُ: يُوضَعُ عَنْهُ مِنْ أَوَّلِهَا؛ قَالَهُ عُمَرُ وَفَعَلَهُ. وَالْأَقْوَى عِنْدِي أَنَّهُ يَكُونُ فِي آخِرِهَا، لِيَسْتَفِيدَ بِذَلِكَ بَرَاءَتَهُ مِمَّا عَلَيْهِ، وَحُصُولَ الْعِتْقِ لَهُ، وَالْإِسْقَاطُ أَبَدًا إنَّمَا يَكُونُ فِي أُخْرَيَاتِ الدُّيُونِ. [مَسْأَلَة صِفَةِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: كَاتَبْتُك عَلَى أَلْفَيْنِ فِي عَامَيْنِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ يَقُولُ: فَإِذَا أَدَّيْت فَأَنْتَ حُرٌّ؛ وَهَذَا لَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ لَا يَقْتَضِيهِ وَالْحَالُ يَشْهَدُ لَهُ، فَإِنْ ذَكَرَهُ فَحَسَنٌ، وَإِنْ تَرَكَهُ فَهُوَ مَعْلُومٌ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33] قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: كَانَتْ جَارِيَةٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يُقَالُ لَهَا مُسَيْكَةُ فَأَكْرَههَا عَلَى الْبِغَاءِ، فَقَالَتْ لَهُ: لَئِنْ كَانَ هَذَا خَيْرًا لَقَدْ اسْتَكْثَرْت مِنْهُ وَرُوِيَ لَقَدْ اسْتَنْكَرْت مِنْهُ وَإِنْ كَانَ شَرًّا لَقَدْ بَانَ لِي أَنْ أَدَعَهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ كَانَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ جَارِيَةٌ يُقَالُ لَهَا مُعَاذَةُ، وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَكَانَ عِنْدَهُ، وَكَانَ الْقُرَشِيُّ يُرِيدُ الْجَارِيَةَ عَلَى نَفْسِهَا، وَكَانَتْ

مسألة الإكراه على الزنا

الْجَارِيَةُ تَمْتَنِعُ مِنْهُ لِإِسْلَامِهَا، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ يَضْرِبُهَا عَلَى امْتِنَاعِهَا مِنْ الْقُرَشِيِّ، رَجَاءَ أَنْ تَحْمِلَ مِنْهُ، فَيَطْلُبَ فِدَاءَ وَلَدِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ. وَكَذَا رَوَى مَالِكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ نَحْوَهُ. [مَسْأَلَة الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: وَقَعَ فِي مُطْلَقِ هَذِهِ الْآيَةِ النَّهْيُ عَنْ الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا إنْ أَرَادَتْ الْمُكْرَهَةُ الْإِحْصَانَ، وَلَا يَجُوزُ الْإِكْرَاهُ بِحَالٍ، فَتَعَلَّقَ بَعْضُ الْغَافِلِينَ بِشَيْءٍ مِنْ دَلِيلِ الْخِطَابِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَكَرُوهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ لِغَفْلَتِهِمْ عَنْ الْحَقَائِقِ فِي بَعْضِ الْمَعَانِي، وَهَذَا مِمَّا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ؛ وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ إرَادَةَ التَّحَصُّنِ مِنْ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُ الْإِكْرَاهَ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ رَاغِبَةً فِي الزِّنَا لَمْ يُتَصَوَّرْ إكْرَاهٌ، فَحَصِّلُوهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى الْإِكْرَاهِ فِيمَا سَبَقَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى تَصَوُّرِ الْإِكْرَاهِ فِي الزِّنَا، خِلَافًا لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ عُلَمَائِنَا، وَهُوَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَغَيْرُهُ، وَلَا يَنْهَى اللَّهُ إلَّا عَنْ مُتَصَوَّرٍ، وَلَا يَقَعُ التَّكْلِيفُ إلَّا بِمَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقُدْرَةِ؛ وَلِذَلِكَ قُلْنَا: إنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ يُسْقِطُ حُكْمَ التَّكْلِيفِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الزَّانِيَ يَنْتَشِرُ وَيَشْتَهِي إذَا اتَّصَلَ بِالْمَرْأَةِ طَبْعًا. قُلْنَا: الْإِلْجَاءُ إلَى ذَلِكَ هُوَ الَّذِي أَسْقَطَ حُكْمَهُ. [مَسْأَلَة مَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ»، فَإِنَّ مِنْ الْبَغَايَا مَنْ كَانَ يَأْخُذُ عِوَضًا عَنْ الْبَغْيِ، وَكَذَلِكَ كَانَ جَرَى فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ رَوَى مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} [النور: 33] قَالَ: كَانُوا يَأْمُرُونَ وَلَائِدَهُمْ فَيُبَاغِينَ فَكُنَّ يَفْعَلْنَ ذَلِكَ فَيُصِبْنَ، فَيَأْتِينَهُمْ بِكَسْبِهِنَّ. وَكَانَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ

مسألة معنى قوله تعالى فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم

جَارِيَةً، وَكَانَتْ تُبَاغِي، فَكَرِهَتْ ذَلِكَ، وَحَلَفَتْ أَلَّا تَفْعَلَهُ، فَانْطَلَقَتْ فَبَاغَتَ بِبُرْدٍ أَخْضَرَ، فَأَتَتْهُمْ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ " مَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 33] هَذِهِ الْمَغْفِرَةُ إنَّمَا هِيَ لِلْمُكْرَهِ لَا لِلَّذِي أَكْرَهَ عَلَيْهِ وَأَلْجَأَ الْمُكْرَهَ الْمُضْطَرَّ إلَيْهِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ يَقْرَؤُهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهٍ لَهُنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَالْمَغْفِرَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْمُكْرَهِ الْمُضْطَرِّ إلَيْهِ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ، كَمَا قَالَ فِي الْمَيْتَةِ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173]. [الْآيَة التَّاسِعَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ] الْآيَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35]. هَذِهِ آيَةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ الْمُشْكَلَيْنِ، وَفِي قَانُونِ التَّأْوِيلِ، وَأَوْضَحْنَا الْمُرَادَ مِنْهَا عَلَى أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ؛ وَهَذَا الْحَرْفُ مِنْهَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْأَحْكَامِيِّينَ، فَرَأَيْنَا أَلَّا نُخْلِيَ هَذَا الْمُخْتَصَرَ مِنْهُ. وَاخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الشَّجَرَةِ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ شَجَرِ الشَّرْقِ دُونَ الْغَرْبِ، وَلَا مِنْ شَجَرِ الْغَرْبِ دُونَ الشَّرْقِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَخْتَصُّ بِإِحْدَى الْجِهَتَيْنِ كَانَ أَدْنَى زَيْتًا، وَأَضْعَفَ ضَوْءًا. وَلَكِنَّهَا مَا بَيْنَ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، كَالشَّامِ؛ لِاجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ فِيهِ؛ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ قَالَ: هُوَ الشَّامُ، الشَّرْقُ مِنْ هَاهُنَا وَالْغَرْبُ مِنْ هَاهُنَا، وَرَأَيْتُهُ لِابْنِ شَجَرَةَ أَحَدِ حُذَّاقِ الْمُفَسِّرِينَ. الثَّانِي: أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْقِيَّةٍ تُسْتَرُ عَنْ الشَّمْسِ عِنْدَ الْغُرُوبِ، وَلَا بِغَرْبِيَّةٍ تُسْتَرُ عَنْ الشَّمْسِ وَقْتَ الطُّلُوعِ؛ بَلْ هِيَ بَارِزَةٌ؛ وَذَلِكَ أَحْسَنُ لِزَيْتِهَا أَيْضًا؛ قَالَهُ قَتَادَةُ.

الثَّالِثُ: أَنَّهَا وَسَطُ الشَّجَرِ، لَا تَنَالُهَا الشَّمْسُ إذَا طَلَعَتْ وَلَا إذَا غَرَبَتْ، وَذَلِكَ أَجْوَدُ لِزَيْتِهَا: قَالَهُ عَطِيَّةُ. الرَّابِعُ: أَنَّهَا لَيْسَ فِي شَجَرِ الشَّرْقِ وَلَا فِي شَجَرِ الْغَرْبِ مِثْلُهَا قَالَهُ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ. الْخَامِسُ: أَنَّهَا مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ لَا مِنْ الدُّنْيَا قَالَهُ الْحَسَنُ. السَّادِسُ: أَنَّهَا مُؤْمِنَةٌ، لَيْسَتْ بِنَصْرَانِيَّةٍ تُصَلِّي إلَى الشَّرْقِ، وَلَا يَهُودِيَّةٍ تُصَلِّي إلَى الْغَرْبِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ. قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُحَقِّقِينَ الَّذِينَ يُنْزِلُونَ التَّفْسِيرَ مَنَازِلَهُ، وَيَضَعُونَ التَّأْوِيلَ مَوَاضِعَهُ مِنْ غَيْرِ إفْرَاطٍ وَلَا تَفْرِيطٍ، أَنَّ هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِنُورِهِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَضْرِبَ لِنُورِهِ الْمُعَظَّمَ مَثَلًا تَنْبِيهًا لِخَلْقِهِ إلَّا بِبَعْضِ خَلْقِهِ؛ لِأَنَّ الْخَلْقَ بِقُصُورِهِمْ لَا يَفْهَمُونَ إلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا عَرَفَ اللَّهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، وَأَنْوَرُ الْمَصَابِيحِ فِي الدُّنْيَا مِصْبَاحٌ يُوقَدُ مِنْ دُهْنِ الزَّيْتُونِ، وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ مُفْرَدَةً قَدْ تَبَاعَدَ عَنْهَا الشَّجَرُ فَخَلَصَتْ مِنْ الْكُلِّ، وَأَخَذَتْهَا الشَّمْسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَذَلِكَ أَصْفَى لِنُورِهَا، وَأَطْيَبُ لِزَيْتِهَا، وَأَنْضَرُ لِأَغْصَانِهَا، وَذَلِكَ مَعْنَى بَرَكَةِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الَّتِي فَهِمَهَا النَّاسُ حَتَّى اسْتَعْمَلُوهَا فِي أَشْعَارِهِمْ، فَقَالُوا: بُورِكَ الْمَيْتُ الْغَرِيبُ كَمَا ... بُورِكَ نَضْرُ الرُّمَّانِ وَالزَّيْتُونِ وَقَدْ رَأَيْت فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى زَيْتُونَةً كَانَتْ بَيْنَ مِحْرَابِ زَكَرِيَّا وَبَيْنَ بَابِ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ الَّذِي يَقُولُونَ: إنَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ يَعْنِي الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى، وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ بِشَرْقِيِّهِ دُونَ السُّوَرِ، وَادِي جَهَنَّمَ، وَفَوْقَهُ أَرْضُ الْمَحْشَرِ الَّتِي تُسَمَّى بِالسَّاهِرَةِ، فَكَانُوا يَقُولُونَ: إنَّهَا الشَّجَرَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَرَبُّك أَعْلَمُ. وَمِنْ غَرِيبِ الْأَثَرِ أَنَّ بَعْضَ عُلَمَائِنَا الْفُقَهَاءِ قَالَ: إنَّ هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدٍ، وَلِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَابْنِهِ عَبْدُ اللَّهِ، فَالْمِشْكَاةُ هِيَ الْكُوَّةُ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ، فَشَبَّهَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بِالْكُوَّةِ فِيهَا الْقِنْدِيلُ، وَهُوَ الزُّجَاجَةُ، وَشَبَّهَ عَبْدُ اللَّهِ بِالْقِنْدِيلِ وَهُوَ الزُّجَاجَةُ، وَمُحَمَّدٌ كَالْمِصْبَاحِ يَعْنِي مِنْ أَصْلَابِهِمَا، وَكَأَنَّهُ كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ وَهُوَ الْمُشْتَرَى، يُوقَدُ مِنْ

الآية العشرون قوله تعالى في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه

شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ يَعْنِي إرْثَ النُّبُوَّةِ، مِنْ إبْرَاهِيمَ، وَهُوَ الشَّجَرُ الْمُبَارَكَةُ، يَعْنِي حَنِيفَةً لَا شَرْقِيَّةً وَلَا غَرْبِيَّةً، لَا يَهُودِيَّةً وَلَا نَصْرَانِيَّةً، يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ، وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ. يَقُولُ: يَكَادُ إبْرَاهِيمُ يَتَكَلَّمُ بِالْوَحْيِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُوحَى إلَيْهِ، نُورٌ عَلَى نُورٍ إبْرَاهِيمُ ثُمَّ مُحَمَّدٌ. قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهَذَا كُلُّهُ عُدُولٌ عَنْ الظَّاهِرِ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ فِي التَّمْثِيلِ أَنْ يَتَوَسَّعَ الْمَرْءُ فِيهِ، وَلَكِنْ عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي شَرَّعْنَاهَا فِي قَانُونِ التَّأْوِيلِ لَا عَلَى الِاسْتِرْسَالِ الْمُطْلَقِ الَّذِي يُخْرِجُ الْأَمْرَ عَنْ بَابِهِ، وَيَحْمِلُ عَلَى اللَّفْظِ مَا لَا يُطِيقُهُ، فَمَنْ أَرَادَ الْخِبْرَةَ بِهِ وَالشِّفَاءَ مِنْ دَائِهِ فَلْيَنْظُرْ هُنَالِكَ. [الْآيَة الْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ] الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ قَوْله تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور: 36]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اُخْتُلِفَ فِي الْبُيُوتِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا الْمَسَاجِدُ؛ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَمَاعَةٍ. الثَّانِي: أَنَّهَا بَيْتُ الْمَقْدِسِ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا سَائِرُ الْبُيُوتِ؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: (تُرْفَعُ): فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: تُبْنَى، كَمَا قَالَ: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة: 127]. قَالَهُ مُجَاهِدٌ.

الآية الحادية والعشرون قوله تعالى وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم

الثَّانِي: تُطَهَّرُ مِنْ الْأَنْجَاسِ وَالْأَقْذَارِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج: 26]. الثَّالِثُ: أَنْ تُعَظَّمَ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ. فَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ مَعْنَاهَا تُبْنَى فَهُوَ مُتَمَعِّنٌ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ مِثْلُ مَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ». وَمَنْ قَالَ: إنَّهَا تُطَهَّرُ مِنْ الْأَقْذَارِ وَالْأَنْجَاسِ فَذَلِكَ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ الْمَسْجِدَ لِيَنْزَوِيَ مِنْ النَّجَاسَةِ كَمَا تَنْزَوِي الْجِلْدَةُ مِنْ النَّارِ». وَهَذَا فِي النَّجَاسَةِ الظَّاهِرَةِ، فَمَا ظَنُّك بِغَيْرِهَا؟ وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا تُرْفَعُ فَالرَّفْعُ حِسًّا كَالْبِنَاءِ، وَحُكْمًا كَالتَّطْهِيرِ وَالتَّنْظِيفِ، وَكَمَا تَطْهُرُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهَا مُطَهَّرَةٌ عَنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، لِقَوْلِهِ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا الْمَسَاجِدُ كُلُّهَا، ضَرَبَ اللَّهُ الْمَثَلَ لِنُورِهِ بِالزَّيْتِ الَّذِي يَتَوَقَّدُ مِنْهُ الْمِصْبَاحُ فِي الْبُقْعَةِ الْمُكَرَّمَةِ، وَهِيَ الْمَسَاجِدُ، تَتْمِيمًا لِتَشْرِيفِ الْمَثَلِ بِالْمَثَلِ وَجَلَالِهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ مِنْ ذِكْرِ الْمَسَاجِدِ جُمَلًا عَظِيمَةً تَرْبُو عَلَى الْمَأْمُولِ فِيهِ. [الْآيَة الْحَادِيَة وَالْعُشْرُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ] ْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور: 48].

مسألة إجابة الدعوى إلى الحاكم

فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رَوَى الطَّبَرِيُّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ كَانَ يُقَالُ لَهُ بِشْرٌ، كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ خُصُومَةٌ، وَكَانَ الْيَهُودِيُّ يَدْعُوهُ إلَى [التَّحَاكُمِ عِنْدَ] النَّبِيِّ، وَكَانَ الْمُنَافِقُ يَدْعُوهُ إلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَقَالَ: إنَّ مُحَمَّدًا يَحِيفُ عَلَيْنَا، وَكَانَ الْمُنَافِقُ إذَا تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْحَقُّ دَعَا إلَى غَيْرِ النَّبِيِّ، وَإِذَا كَانَ لَهُ الْحَقُّ دَعَاهُ إلَيْهِ لِيَسْتَوْفِيَهُ لَهُ؛ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إذَا كَانَ الْحُكْمُ بَيْنَ الْمُعَاهِدِ وَالْمُسْلِمِ أَنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ لَا حَقَّ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ ذِمِّيَّيْنِ فَذَلِكَ إلَيْهِمَا، فَإِذَا جَاءَ قَاضِي الْإِسْلَامِ فَإِنْ شَاءَ حَكَمَ وَإِنْ شَاءَ أَعْرَضَ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مُسْتَوْفًى، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. [مَسْأَلَة إجَابَةِ الدَّعْوَى إلَى الْحَاكِمِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ إجَابَةِ الدَّعْوَى إلَى الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَمَّ مَنْ دُعِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ فَلَمْ يُجِبْ بِأَقْبَحَ الْمَذَمَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ حَدَّ الْوَاجِبِ مَا ذُمَّ تَارِكُهُ شَرْعًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى أَبُو الْأَشْعَثِ، عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ دُعِيَ إلَى حَاكِمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يُجِبْ فَهُوَ ظَالِمٌ، وَلَا حَقَّ لَهُ». وَهُوَ حَدِيثٌ بَاطِلٌ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: فَهُوَ ظَالِمٌ فَكَلَامٌ صَحِيحٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَا حَقَّ لَهُ فَلَا يَصِحُّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ.

الآية الثانية والعشرون قوله تعالى وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن

[الْآيَة الثَّانِيَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى وَأَقْسَمُوا بِاَللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ] َّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [النور: 53]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [النور: 53] يَعْنِي غَايَةَ أَيْمَانِهِمْ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا يَتَخَلَّفُونَ عَنْ الْجِهَادِ ثُمَّ يَعْتَذِرُونَ، فَإِذَا عُوتِبُوا قَالُوا: لَوْ أَمَرْتَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَخَرَجْنَا، وَيَحْلِفُونَ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ: لَا تُقْسِمُوا، ثُمَّ قَالَ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [النور: 53] وَفِيهَا ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: الْأَوَّلُ: طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ أَمْثَلُ. الثَّانِي: طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ بَيْنَكُمْ فِيهَا الْكَذِبُ، أَيْ هِيَ طَاعَةُ اللَّهِ مَعْرُوفَةٌ قَوْلًا، بَاطِلَةٌ قَطْعًا؛ لَا يَفْعَلُونَهَا إلَّا إذَا أَمَرْتَهُمْ وَلَوْ لَمْ يُؤْمَرُوا مَا فَعَلُوا. الثَّالِثُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَى قَوْلِهِ: طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ أَنَّكُمْ تَكْذِبُونَ يَعْنِي لَيْسَتْ لَكُمْ طَاعَةٌ. وَقَدْ قُرِئَتْ " طَاعَةً " بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَيَكُونُ قَوْلُ طَاعَةٍ مَنْصُوبَةً ابْتِدَاءَ كَلَامٍ، وَيَرْجِعُ الْمَعْنَى فِيهِ إلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ، إلَّا أَنَّ الْإِعْرَابَ يَخْتَلِفُ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ وَالْعُشْرُونَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ] الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].

فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَكَا إلَيْهِ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ الْعَدُوِّ، وَتَضْيِيقِهِ عَلَيْهِمْ، وَشِدَّةِ الْخَوْفِ، وَمَا يَلْقَوْنَ مِنْ الْأَذَى، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِالْوَعْدِ الْجَمِيلِ لَهُمْ، فَأَنْجَزَهُ اللَّهُ، وَمَلَّكَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ، وَأَظْهَرَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ. وَرَوَى أَبُو الْعَالِيَةِ قَالَ: «مَكَثَ النَّبِيُّ عَشْرَ سِنِينَ خَائِفًا يَدْعُو اللَّهَ سِرًّا وَجَهْرًا، ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِينَةِ، فَمَكَثَ بِهَا وَأَصْحَابُهُ خَائِفِينَ يُصْبِحُونَ فِي السِّلَاحِ وَيُمْسُونَ، فَقَالَ رَجُلٌ: مَا يَأْتِي عَلَيْنَا يَوْمٌ نَأْمَنُ فِيهِ، وَنَضَعُ عَنَّا السِّلَاحَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَلِمَةً مَعْنَاهَا لَا تَعْبُرُونَ إلَّا يَسِيرًا حَتَّى يَجْلِسَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ مِنْ الْمَلَأِ الْعَظِيمِ مُحْتَبِيًا لَيْسَ بِيَدِهِ حَدِيدَةٌ»، وَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ مَالِكٌ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [النور: 55] إلَى آخِرِهَا. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذِهِ الْآيَةُ وَعْدُ حَقٍّ وَقَوْلُ صِدْقٍ، يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ إمَامَةِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهُمْ أَحَدٌ فِي الْفَضِيلَةِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا، فَأُولَئِكَ مَقْطُوعٌ بِإِمَامَتِهِمْ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمْ. وَصَدَقَ وَعْدُ اللَّهِ فِيهِمْ، وَكَانُوا عَلَى الدِّينِ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ؛ وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لَهُمْ، وَقَامُوا بِسِيَاسَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَبُّوا عَنْ حَوْزَةِ الدِّينِ، فَنَفَذَ الْوَعْدُ فِيهِمْ، وَصَدَقَ الْكَلَامُ فِيهِمْ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْوَعْدُ بِهِمْ يُنْجَزُ، وَفِيهِمْ نَفَذَ، وَعَلَيْهِمْ وَرَدَ فَفِيمَنْ يَكُونُ إذَنْ؟ وَلَيْسَ بَعْدَهُمْ مِثْلُهُمْ إلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَلَا يَكُونُ فِيمَا بَعْدَهُ. قَامَ أَبُو بَكْرٍ بِدَعْوَةِ الْحَقِّ، وَاتِّفَاقِ الْخَلْقِ، وَوَاضِحِ الْحُجَّةِ، وَبُرْهَانِ الدِّينِ، وَأَدِلَّةِ الْيَقِينِ، فَبَايَعَهُ

الصَّحَابَةُ، ثُمَّ اُسْتُخْلِفَ عُمَرُ فَلَزِمَتْ الْخِلَافَةُ، وَوَجَبَتْ النِّيَابَةُ، وَتَعَيَّنَ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ، ثُمَّ جَعَلَهَا عُمَرُ شُورَى، فَصَارَتْ لِعُثْمَانَ بِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ، وَالتَّبْجِيلِ الصَّرِيحِ، وَالْمَسَاقِ الْفَسِيحِ؛ جَعَلَ الثَّلَاثَةَ أَمْرَهُمْ إلَى ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ نَفْسَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ إلَى مَنْ اخْتَارَهُ مِنْ الرَّجُلَيْنِ، فَاخْتَارَ عُثْمَانَ، وَمَا عَدَلَ عَنْ الْخِيَارِ، وَقَدَّمَهُ وَحَقُّهُ التَّقْدِيمُ عَلَى عَلِيٍّ. ثُمَّ قُتِلَ عُثْمَانُ مَظْلُومًا فِي نَفْسِهِ، مَظْلُومًا جَمِيعُ الْخَلْقِ فِيهِ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا عَلِيٌّ أَخْذًا بِالْأَفْضَلِ فَالْأَفْضَلِ، وَانْتِقَالًا مِنْ الْأَوَّلِ إلَى الْأَوَّلِ، فَلَا إشْكَالَ لِمَنْ جَنَفَ عَنْ الْمُحَالِ أَنَّ التَّنْزِيلَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَعْدُ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. ثُمَّ كَمُلَتْ لِحَالِ أَبِي بَكْرٍ فَاتِحَةً وَخَاتِمَةً. ثُمَّ كَمُلَتْ لِعُمَرَ، وَكُسِرَ الْبَابُ، فَاخْتَلَطَ الْخُشَارُ بِاللُّبَابِ، وَانْجَرَّتْ الْحَالُ مَعَ عُثْمَانَ وَاضِحَةً لِلْعُقَلَاءِ، مُعْتَرَضًا عَلَيْهَا مِنْ الْحَمْقَى، ثُمَّ نَفَذَ الْقَدَرُ بِقَتْلِهِ إيثَارًا لِلْخَلْقِ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ، ثُمَّ قَامَ عَلِيٌّ أَحْسَنَ قِيَامٍ لَوْ سَاعَدَهُ النَّقْضُ وَالْإِبْرَامُ، وَلَكِنَّهُ وَجَدَ الْأُمُورَ نَشْرًا، وَمَا رَامَ رَتْقَ خَصْمٍ إلَّا انْفَتَقَ عَلَيْهِ خَصْمٌ، وَلَا حَاوَلَ طَيَّ مُنْتَشِرٍ إلَّا عَارَضَهُ عَلَيْهِ أَشِرُ، وَنُسِبَتْ إلَيْهِ أُمُورٌ هُوَ مِنْهَا بَرِيءٌ بَرَاءَةَ الشَّمْسِ مِنْ الدَّنَسِ، وَالْمَاءِ مِنْ الْقَبَسِ، وَطَالَبَهُ الْأَجَلُ حَتَّى غَلَبَهُ، فَانْقَطَعَتْ الْخِلَافَةُ، وَصَارَتْ الدُّنْيَا مِلْكًا تَارَةً لِمَنْ غَلَبَ، وَأُخْرَى لِمَنْ خَلَبَ، حَتَّى انْتَهَى الْوَعْدُ الصَّادِقُ ابْتِدَاؤُهُ وَانْتِهَاؤُهُ. أَمَّا الِابْتِدَاءُ فَهَذِهِ الْآيَةُ، وَأَمَّا الِانْتِهَاءُ فَبِحَدِيثِ سَفِينَةَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ حَمْدَانَ عَنْ سَفِينَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ يُؤْتِي اللَّهَ الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ». قَالَ سَعِيدٌ: قَالَ لِي سَفِينَةُ: أَمْسِكْ عَلَيْك، أَبُو بَكْرٍ سَنَتَيْنِ، وَعُمَرُ عَشْرًا، وَعُثْمَانُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ، وَعَلِيٌّ كَذَا. قَالَ سَعِيدٌ: قُلْت لِسَفِينَةَ: إنَّ هَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَكُنْ خَلِيفَةً. قَالَ: كَذَبْت

اسْتَاءَهُ بَنُو الزَّرْقَاءِ يَعْنِي بَنِي مَرْوَانَ زَادَ فِي رِوَايَةٍ: اُعْدُدْ؛ أَبُو بَكْرٍ كَذَا، وَعُمَرُ كَذَا، وَعُثْمَانُ كَذَا، وَعَلِيٌّ كَذَا، وَالْحَسَنُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثُونَ سَنَةً. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ «أَنَّ رَجُلًا قَامَ إلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ بَعْدَمَا بَايَعَ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ لَهُ: يَا مُسَوِّدَ وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: لَا بَأْسَ، رَحِمَك اللَّهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ أُرِيَ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى مِنْبَرِهِ فَسَاءَهُ ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1]. وَنَزَلَتْ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر: 2] {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3].» يَمْلِكُهَا بَعْدَك بَنُو أُمَيَّةَ يَا مُحَمَّدُ. قَالَ الْقَاسِمُ رَاوِي الْحَدِيثِ: فَعَدَدْنَاهَا فَإِذَا هِيَ أَلْفُ شَهْرٍ، لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ أَجْلَسَ الْحَسَنَ فِي حِجْرِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَقَالَ: إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ». الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْوَعْدُ يَصِحُّ لَكُمْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَحْدَهُ، فَأَمَّا عُمَرُ فَأَيُّ أَمْنٍ مَعَهُ، وَقَدْ قُتِلَ غِيلَةً. وَعُثْمَانُ قَدْ قُتِلَ غَلَبَةً، وَعَلِيٌّ قَدْ نُوزِعَ بِالْجَنْبَةِ وَالْجَلَبَةِ. قُلْنَا: هَذَا كَلَامٌ جَاهِلٍ غَبِيٍّ أَوْ مُتَهَاوِنٍ، يَكِنُّ عَلَى نِفَاقٍ خَفِيٍّ، أَمَّا عُمَرُ وَعُثْمَانُ فَجَاءَهُمَا أَجَلُهُمَا، وَمَاتَا مَيْتَتِهُمَا الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَهُمَا، وَلَيْسَ فِي ضِمْنِ الْأَمْنِ السَّلَامَةُ مِنْ الْمَوْتِ بِأَيِّ وَجْهٍ وَقَعَ. وَأَمَّا عَلِيٌّ فَلَمْ يَكُنْ نِزَالُهُ فِي الْحَرْبِ مُذْهِبًا لِلْأَمْنِ، فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْأَمْنِ رَفْعُ الْحَرْبِ، إنَّمَا مِنْ شَرْطِهِ مِلْكُ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ بِاخْتِيَارِهِ، وَسَلَامَتُهُ عَنْ الْغَلَبَةِ الْمَشْحُونَةِ بِالذِّلَّةِ، كَمَا كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ بِمَكَّةَ، فَأَمَّا بَعْدَمَا صَارُوا إلَى الْمَدِينَةِ فَقَدْ آلُوا إلَى الْأَمْنِ وَالْعِزَّةِ. فِي الصَّحِيحِ عَنْ «خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ شَكَوْنَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ

مسألة معنى قوله تعالى ليستخلفنهم في الأرض

فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا لَهُ: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلَا تَدْعُو اللَّه لَنَا؟ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيَمْشُطُهُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمٍ مِنْ عَظْمٍ وَعَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاَللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إلَى حَضْرَمَوْتَ، لَا يَخَافُ إلَّا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ. وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ». وَحَقِيقَةُ الْحَالِ أَنَّهُمْ كَانُوا مَقْهُورِينَ فَصَارُوا قَاهِرِينَ، وَكَانُوا مَطْلُوبِينَ فَعَادُوا طَالِبِينَ، وَهَذَا نِهَايَةُ الْأَمْنِ وَالْعِزِّ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ قَوْمٌ: إنَّ هَذَا وَعْدٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ فِي مِلْكِ الْأَرْضِ كُلِّهَا تَحْتَ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «زُوِيَتْ لِي الْأَرْضُ، فَأُرِيت مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا». قُلْنَا لَهُمْ: هَذَا وَعْدٌ عَامٌّ فِي النُّبُوَّةِ وَالْخِلَافَةِ، وَإِقَامَةِ الدَّعْوَةِ، وَعُمُومِ الشَّرِيعَةِ، بِنَفَاذِ الْوَعْدِ فِي كُلِّ أَحَدٍ بِقَدْرِهِ وَعَلَى حَالٍ، حَتَّى فِي الْمُفْتِينَ وَالْقُضَاةِ وَالْأَئِمَّةِ؛ وَلَيْسَ لِلْخِلَافِ مَحَلٌّ تَنْفُذُ فِيهِ هَذِهِ الْمَوْعِدَةُ الْكَرِيمَةُ إلَّا مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ} [النور: 55] فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا أَرْضُ مَكَّةَ، وُعِدَتْ الصَّحَابَةُ أَنْ يَسْتَخْلِفُوا فِيهَا الْكُفَّارَ. الثَّانِي: أَنَّهَا بِلَادُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ. وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ أَرْضَ مَكَّةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَكِنْ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ» يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ.

الآية الرابعة والعشرون قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم

وَقَالَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: «يَمْكُثُ الْمُهَاجِرُ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا». مِنْ رِوَايَةِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ. [الْآيَة الرَّابِعَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ] ْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: 58]. فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ آيَةٌ خَاصَّةٌ، وَاَلَّتِي قَبْلَهَا عَامَّةٌ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فَعَمَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27]، ثُمَّ خَصَّ هَاهُنَا فَقَالَ: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور: 58] فَخَصَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْضَ الْمُسْتَأْذِنِينَ، وَهُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ مَسْأَلَةِ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْآيَة قَبْلَهَا، وَكَذَلِكَ أَيْضًا تَنَاوَلَ الْقَوْلُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى جَمِيعَ الْأَوْقَاتِ عُمُومًا، وَخَصَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ، وَهِيَ الْمُفَسَّرَةُ عَلَى مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: {مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور: 58] ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ الذُّكْرَانُ وَالْإِنَاثُ. الثَّانِي: أَنَّهُ الْعَبْدُ دُونَ الْأَمَةِ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُنَّ الْإِنَاثُ؛ قَالَهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ.

مسألة آية يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم هل هي محكمة أم منسوخة

[مَسْأَلَة آيَة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ هَلْ هِيَ محكمة أُمّ مَنْسُوخَة] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَلْ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ أَوْ مَنْسُوخَةٌ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ يَعْنِي فِي الرِّجَالِ خَاصَّةً. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ ذَهَبَ حُكْمُهَا؛ رَوَى عِكْرِمَةُ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ سَأَلُوا ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالُوا: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، كَيْفَ تَرَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي أُمِرْنَا فِيهَا بِمَا أُمِرْنَا، فَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ؛ قَوْلِ اللَّهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور: 58] وَقَرَءُوهَا إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلَى بَعْضٍ} [النور: 58]؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ بِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّ السَّتْرَ. وَكَانَ النَّاسُ لَيْسَ لِبُيُوتِهِمْ سُتُورٌ وَلَا حِجَالٌ، فَرُبَّمَا دَخَلَ الْخَادِمُ أَوْ وَلَدُهُ أَوْ يَتِيمَةُ الرَّجُلِ، وَالرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ؛ فَأَمَرَ اللَّهُ بِالِاسْتِئْذَانِ فِي تِلْكَ الْعَوْرَاتِ، فَجَاءَهُمْ اللَّهُ بِالسُّتُورِ، وَالْخَيْرِ، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَعْمَلُ بِذَلِكَ. وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا بِمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ أَنَّ شُرُوطَ النَّسْخِ لَمْ تَجْتَمِعْ فِيهِ مِنْ الْمُعَارَضَةِ، وَمِنْ التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ لِنَاظِرٍ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ؟ [مَسْأَلَة الْحُجْبَةَ وَاقِعَةٌ مِنْ الْخَلْقِ شَرْعًا وَلِذَلِكَ وَجَبَ الِاسْتِئْذَانُ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي التَّنْقِيحِ: اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ الْحُجْبَةَ وَاقِعَةٌ مِنْ الْخَلْقِ شَرْعًا، وَلِذَلِكَ وَجَبَ الِاسْتِئْذَانُ حَتَّى يَخْلُصَ بِهِ الْمَحْجُورُ مِنْ الْمُطْلَقِ، وَالْمَحْظُورُ مِنْ الْمُبَاحِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27]. ثُمَّ قَالَ: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] عَلَى مَا شَرَحْنَاهُ، فَاسْتَثْنَى مَا مَلَكَتْ الْيَمِينُ مِنْ الْمَحْجُورِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى فِي مِلْكِ الْيَمِينِ هَذِهِ الْأَوْقَاتَ الثَّلَاثَةَ؛ فَالْعَبْدُ إذَا كَانَ وَغْدًا، أَوْ ذَا مَنْظَرَةٍ، وَكَانَ حُكْمُهُ فِي الْحُجْبَةِ عَلَى صِفَةٍ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَوْقَاتَ الثَّلَاثَةَ لَا يَدْخُلُ فِيهَا عَبْدٌ كَيْفَمَا كَانَ وَلَا أَمَةٌ إلَّا بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58]: فَذَكَرَ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَعِنْدَ الظَّهِيرَةِ، وَهِيَ الْقَائِلَةُ، وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَهِيَ أَوْقَاتُ الْخَلْوَةِ الَّتِي يَكُونُ فِيهِ التَّصَرُّفُ بِخِلَافِ اللَّيْلِ كُلِّهِ، فَإِنَّهُ وَقْتُ خَلْوَةٍ، وَلَكِنْ

مسألة معنى قوله تعالى صلاة العشاء

لَا تَصَرُّفَ فِيهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مُسْتَغْرِقٌ بِنَوْمِهِ، وَهَذِهِ الْأَوْقَاتُ الثَّلَاثَةُ أَوْقَاتُ خَلْوَةٍ وَتَصَرُّفٍ، فَنُهُوا عَنْ الدُّخُولِ بِغَيْرِ إذْنِ لِئَلَّا يُصَادِفُوا مَنْظَرَةً مَكْرُوهَةً. وَفِي الصَّحِيحِ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي كَذَا وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَكَانَتْ سَاعَةً لَا يُدْخَلُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: لَا أَدْخُلُ». وَعَنْ عَائِشَةَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ آخِرَهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى فِرَاشِهِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ، فَإِنْ كَانَتْ بِهِ حَاجَةٌ اغْتَسَلَ، وَإِلَّا تَوَضَّأَ وَخَرَجَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. وَفِي الْآثَارِ التَّفْسِيرِيَّةِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْسَلَ إلَى عُمَرَ غُلَامًا مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ مُدْلِجٌ فِي الظَّهِيرَةِ، فَدَخَلَ عَلَى عُمَرَ بِغَيْرِ إذْنٍ، فَأَيْقَظَهُ بِسُرْعَةٍ، فَانْكَشَفَ شَيْءٌ مِنْ جَسَدِهِ؛ فَنَظَرَ إلَيْهِ الْغُلَامُ؛ فَحَزِنَ لَهَا عُمَرُ فَقَالَ: وَدِدْت أَنَّ اللَّهَ بِفَضْلِهِ نَهَى عَنْ الدُّخُولِ عَلَيْنَا فِي هَذِهِ السَّاعَاتِ إلَّا بِإِذْنِنَا. ثُمَّ انْطَلَقَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَجَدَ هَذِهِ الْآيَةَ قَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ». [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى صَلَاةِ الْعِشَاءِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: {صَلاةِ الْعِشَاءِ} [النور: 58] الَّتِي يَدْعُوهَا النَّاسُ الْعَتَمَةَ: وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ الْمُزَنِيّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَغْلِبَنَّكُمْ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ الْمَغْرِبِ». قَالَ: وَالْأَعْرَابُ تَقُولُ الْعِشَاءَ، وَتُسَمَّى أَيْضًا الْعِشَاءَ الْعَتَمَةِ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالْفَجْرِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا».

مسألة معنى قوله تعالى ثلاث عورات

وَفِي الْبُخَارِيِّ أَيْضًا عَنْ أَبِي بَرْزَةَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُؤَخِّرُ الْعِشَاءَ». وَقَالَ أَنَسٌ: «أَخَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ». وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: «أَعْتَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعَتَمَةِ». وَقَوْلُ أَنَسٍ فِي الْبُخَارِيِّ: " الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ يَدُلُّ عَلَى الْعِشَاءِ الْأُولَى ". وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا يَغْلِبَنَّكُمْ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ الْعِشَاءِ يَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ»؛ لِأَنَّهُمْ يُعْتِمُونَ بِحِلَابِ الْإِبِلِ. وَهَذِهِ أَخْبَارٌ مُتَعَارِضَةٌ لَا يُعْلَمُ مِنْهَا الْأَوَّلُ مِنْ الْآخِرِ بِالتَّارِيخِ، لَكِنَّ كُلَّ حَدِيثٍ بِذَاتِهِ يُبَيِّنُ وَقْتَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّهْيَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تَسْمِيَةِ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ عِشَاءً، وَعَنْ تَسْمِيَةِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ عَتَمَةً ثَابِتٌ؛ فَلَا مَرَدَّ لَهُ مِنْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَضْلًا عَمَّنْ عَدَاهُمْ. وَقَدْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: مَنْ قَالَ صَلَاةُ الْعَتَمَةِ فَقَدْ أَثِمَ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: قَالَ مَالِكٌ: {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} [النور: 58] فَاَللَّهُ سَمَّاهَا صَلَاةَ الْعِشَاءِ، فَأَحَبَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تُسَمَّى بِمَا سَمَّاهَا بِهِ اللَّهُ، وَيُعَلِّمُهَا الْإِنْسَانُ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ، وَلَا يَقُلْ عَتَمَةً إلَّا عِنْدَ خِطَابِ مَنْ لَا يَفْهَمُ، وَقَدْ قَالَ حَسَّانُ: وَكَانَ لَا يَزَالُ بِهَا أَنِيسٌ ... خِلَالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ فَدَعْ هَذَا وَلَكِنْ مِنْ لَطِيفٍ ... يُؤَرِّقُنِي إذَا ذَهَبَ الْعِشَاءُ [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {ثَلاثُ عَوْرَاتٍ} [النور: 58]: الْعَوْرَةُ كُلُّ شَيْءٍ لَا مَانِعَ دُونَهُ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب: 13] أَيْ سَهْلَةُ الْمَدْخَلِ، لَا مَانِعَ دُونَهَا، فَبَيَّنَ الْعِلَّةَ الْمُوجِبَةَ لِلْإِذْنِ، وَهِيَ الْخَلْوَةُ فِي حَالِ الْعَوْرَةِ، فَتَعَيَّنَ امْتِثَالُهُ، وَتَعَذَّرَ نَسْخُهُ، ثُمَّ رُفِعَ الْجُنَاحُ بَعْدَهُنَّ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ الْمَيْلُ بِالْعِتَابِ أَوْ الْعِقَابِ عَلَى الْفَاعِلِ، وَهِيَ:

مسألة يجلس الرجل مع أهله وفخذه منكشفة

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: ثُمَّ بَيَّنَ الْعِلَّةَ الْأَصْلِيَّةَ وَالْحَالَةَ الْأَهْلِيَّةَ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} [النور: 58]: أَيْ مُتَرَدِّدُونَ عَلَيْكُمْ فِي الْخِدْمَةِ، وَمَا لَا غِنَى بِكُمْ عَنْهُ مِنْهُمْ؛ فَسَقَطَ الْحَرَجُ عَنْ ذَلِكَ، وَزَالَ الْمَانِعُ، «كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْهِرَّةِ حِينَ أَصْغَى لَهَا الْإِنَاءَ: إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ أَوْ الطَّوَّافَاتِ». وَذَلِكَ مُسْقِطٌ لِحُكْمِ سُؤْرِهَا فِي مُبَاشَرَتِهَا النَّجَاسَةَ وَحَمْلِهَا أَبَدًا عَلَى الطَّهَارَةِ، إلَّا أَنْ يَرَى فِي فَمِهَا أَذًى. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: وَقَوْلُهُ: {بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النور: 58] يُرِيدُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فِي الْمُخَالَطَةِ وَالْمُلَابَسَةِ؛ فَلِذَلِكَ سَقَطَ الِاسْتِئْذَانُ لَهُمْ عَلَيْكُمْ، وَلَكُمْ عَلَيْهِمْ، كَمَا ارْتَفَعَ الْجُنَاحُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ، مِنْهُمْ لَكُمْ، وَمِنْكُمْ لَهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ} [النور: 58] الْمَعْنَى يُبَيِّنُ اللَّهُ الْآيَاتِ الدَّالَّهَ عَلَى الْمُعْجِزَةِ وَالتَّوْحِيدِ، كَمَا يُبَيِّنُ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى الْأَحْكَامِ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ مَا يَدُلُّ الشَّرْعُ عَلَيْهِ، وَمَا يَدُلُّ الْعَقْلُ عَلَيْهِ، وَمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ دَلِيلُ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ بِأَوْضَحِ بَيَانٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة يَجْلِسَ الرَّجُلُ مَعَ أَهْلِهِ وَفَخِذُهُ مُنْكَشِفَةٌ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: لَا بَأْسَ أَنْ يَجْلِسَ الرَّجُلُ مَعَ أَهْلِهِ وَفَخِذُهُ مُنْكَشِفَةٌ وَحَدِيثُ جَرْهَدٍ «وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ أَنَّهُ قَالَ: جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَنَا وَفَخِذِي مُنْكَشِفَةٌ، فَقَالَ: خَمِّرْ عَلَيْك، أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ، وَقَدْ غَطَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ دُخُولِ عُثْمَانَ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُنْكَشِفَةً مِنْ جِهَتِهِ الَّتِي جَلَسَ مِنْهَا».

الآية الخامسة والعشرون قوله تعالى وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا

وَمِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: «إذَا زَوَّجَ أَحَدُكُمْ عَبْدَهُ أَوْ أَجِيرَهُ فَلَا يَنْظُرْ إلَى مَا دُونَ السُّرَّةِ وَفَوْقَ الرُّكْبَةِ فَإِنَّهُ عَوْرَةٌ». وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَرْهَدًا لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ مَرِيضًا، وَلَيْسَ الْفَخِذُ عَوْرَةً. [الْآيَة الْخَامِسَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا] كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: 59]. فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ: هَذِهِ الْآيَةُ مُبَيِّنَةٌ قَوْلَهُ: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31]، فَكَانَ الطِّفْلُ مُسْتَثْنًى مِنْ عُمُومِ الْحُجْبَةِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى إذَا لَمْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَوْرَةِ؛ ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّ الطِّفْلَ إذَا ظَهَرَ عَلَى الْعَوْرَةِ، وَهُوَ بِالْبُلُوغِ، يَسْتَأْذِنُ، وَقَدْ كَانَ قَوْلُهُ: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31] كَافِيًا لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى طِفْلٌ بِصِفَتِهِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ، وَيَبْقَى غَيْرُهُ عَلَى الْحَجْرِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ زِيَادَةَ بَيَانٍ؛ لِإِبَانَةِ اللَّهِ فِي أَحْكَامِهِ وَإِيضَاحِ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ. [الْآيَة السَّادِسَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا] فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 60]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} [النور: 60]: جَمْعُ قَاعِدٍ بِغَيْرِ هَاءٍ فَرْقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقَاعِدَةِ مِنْ الْجُلُوسِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ. وَهُنَّ

مسألة من التبرج أن تلبس المرأة ثوبا رقيقا يصفها

اللَّوَاتِي قَعَدْنَ عَنْ الْحَيْضِ وَعَنْ الْوَلَدِ، فَلَيْسَ فِيهِنَّ رَغْبَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِنَّ الْقَلْبُ فِي نِكَاحٍ، وَيَجُوزُ النَّظَرُ إلَيْهِنَّ بِخِلَافِ الشَّبَابِ مِنْهُنَّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} [النور: 60] فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: جِلْبَابَهُنَّ؛ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ يَعْنِي بِهِ الرِّدَاءَ أَوْ الْمِقْنَعَةَ الَّتِي فَوْقَ الْخِمَارِ تَضَعُهُ عَنْهَا إذَا سَتَرَهَا مَا بَعْدَهُ مِنْ الثِّيَابِ. وَالثَّانِي: تَضَعُ خِمَارَهَا، وَذَلِكَ فِي بَيْتِهَا، وَمِنْ وَرَاءِ سِتْرِهَا مِنْ ثَوْبِ أَوْ جِدَارٍ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ يَعْنِي وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: غَيْرُ مُظْهِرَاتٍ لِمَا يُتَطَلَّعُ إلَيْهِ مِنْهُنَّ، وَلَا مُتَعَرِّضَاتٍ بِالتَّزْيِينِ لِلنَّظَرِ إلَيْهِنَّ، وَإِنْ كُنَّ لَيْسَ بِمَحَلِّ ذَلِكَ مِنْهُنَّ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْقَوَاعِدَ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِنَّ لِانْصِرَافِ النُّفُوسِ عَنْهُنَّ، وَلَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ بِالتَّسَتُّرِ الْكَامِلِ خَيْرٌ مِنْ فِعْلِ الْمُبَاحِ لَهُنَّ مِنْ وَضْعِ الثِّيَابِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة مِنْ التَّبَرُّجِ أَنْ تَلْبَسَ الْمَرْأَةُ ثَوْبًا رَقِيقًا يَصِفُهَا] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مِنْ التَّبَرُّجِ أَنْ تَلْبَسَ الْمَرْأَةُ ثَوْبًا رَقِيقًا يَصِفُهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «رُبَّ نِسَاءٍ كَاسِيَاتٍ عَارِيَّاتٍ، مَائِلَاتٍ مُمِيلَاتٍ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا». وَإِنَّمَا جَعَلَهُنَّ كَاسِيَاتٍ؛ لِأَنَّ الثِّيَابَ عَلَيْهِنَّ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُنَّ بِعَارِيَّاتٍ لِأَنَّ الثَّوْبَ إذَا رَقَّ يَكْشِفُهُنَّ؛ وَذَلِكَ حَرَامٌ. [الْآيَة السَّابِعَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ] ٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [النور: 61].

فِيهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: وَفِي ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ إذَا دُعُوا إلَى طَعَامٍ أَنْ يَأْكُلُوا مَعَ هَؤُلَاءِ مِنْ طَعَامٍ وَاحِدٍ، وَيَقُولُونَ: الْأَعْمَى لَا يُبْصِرُ طَيِّبَ الطَّعَامِ، وَالْأَعْرَجُ لَا يَسْتَطِيعُ الزِّحَامَ عِنْدَ الطَّعَامِ، وَالْمَرِيضُ يَضْعُفُ عَنْ مُشَارَكَةِ الصَّحِيحِ فِي الطَّعَامِ، وَكَانُوا يَعْزِلُونَ طَعَامَهُمْ مُفْرَدًا، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ أَفْضَلُ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ، وَرَفَعَ الْحَرَجَ عَنْهُمْ فِي مُؤَاكَلَتِهِمْ؛ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. الثَّانِي: أَنَّ أَهْلَ الزَّمَانَةِ هَؤُلَاءِ لَيْسَ عَلَيْهِمْ حَرَجٌ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِ مَنْ سَمَّى اللَّهُ بَعْدَ هَذَا مِنْ أَهَالِيِهِمْ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. الثَّالِثُ: رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ كَانُوا إذَا خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنُونَ فِي الْجِهَادِ وَضَعُوا مَفَاتِيحَ بُيُوتِهِمْ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلَّةِ مِمَّنْ يَتَخَلَّفُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عِنْدَ الْأَعْمَى، وَالْأَعْرَجِ، وَالْمَرِيضِ، وَعِنْدَ أَقَارِبِهِمْ، وَكَانُوا يَأْمُرُونَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِهِمْ إذَا احْتَاجُوا إلَى ذَلِكَ، فَكَانُوا يَتَّقُونَهُ وَيَقُولُونَ: نَخْشَى أَلَّا تَكُونَ نُفُوسُهُمْ بِذَلِكَ طَيِّبَةً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ يَحِلُّهُ لَهُمْ. الرَّابِعُ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ رَوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ} [النساء: 29]. فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: إنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَانَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ، وَالطَّعَامُ هُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَمْوَالِ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنَّا أَنْ

مسألة معنى قوله تعالى ولا على أنفسكم

يَأْكُلَ عِنْدَ أَحَدٍ، فَكَفَّ النَّاسَ عَنْ ذَلِكَ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ إلَى قَوْلِهِ {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} [النور: 61] وَهُوَ الرَّجُلُ يُوَكِّلُ الرَّجُلَ بِضَيْعَتِهِ. الْخَامِسُ: مَنْ دُعِيَ إلَى وَلِيمَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الزَّمْنَى فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُ قَائِدُهُ. السَّادِسُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَ كَانَتْ الْبُيُوتُ لَا أَبْوَابَ لَهَا وَالسُّتُورُ مُرْخَاةٌ، وَالْبَيْتُ يُدْخَلُ، فَرُبَّمَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ أَحَدٌ، وَالْبُيُوتُ الْيَوْمَ فِيهَا أَهْلُهَا، فَإِذَا خَرَجُوا أَغْلَقُوهَا. السَّابِعُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي جَوَازِ مُبَايَعَةِ الزَّمْنَى، وَمُعَامَلَتِهِمْ؛ قَالَتْهُ عَائِشَةُ. الثَّامِنُ: قَالَ الْحَسَنُ: قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61]: نَفْيٌ لِوُجُوبِ الْجِهَادِ عَلَيْهِمْ. وقَوْله تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61] كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ خُوطِبَ بِهِ جَمِيعُ النَّاسِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61] يَعْنِي وَلَا عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، وَلَكِنْ لَمَّا اجْتَمَعَ مُخَاطَبٌ وَغَيْرُ مُخَاطَبٍ غَلَبَ الْمُخَاطَبُ لِيَنْتَظِمَ الْكَلَامُ. وَكَانَ الْمَعْنَى يُرَادُ بِهِ جَمِيعُ مَنْ ذُكِرَ: مِنْ الْأَعْمَى، وَالْأَعْرَجِ، وَالْمَرِيضِ، وَأَصْحَابِ الْبُيُوتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور: 61] فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: الْأَوَّلُ: يَعْنِي مِنْ أَمْوَالِ عِيَالِكُمْ وَأَزْوَاجِكُمْ؛ لِأَنَّهُمْ فِي بَيْتِهِ. الثَّانِي: مِنْ بُيُوتِ أَوْلَادِكُمْ، وَنُسِبَتْ أَوْلَادُهُمْ إلَيْهِمْ لِمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ: «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك». وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ بُيُوتَ الْأَبْنَاءِ حِينَ ذَكَرَ بُيُوتَ الْآبَاءِ وَالْأَقَارِبِ، لِدُخُولِهِمْ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ الْأَنْفُسِ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْبُيُوتُ الَّتِي أَهْلُوهَا وَسَاكِنُوهَا خَدَمَةٌ لِأَصْحَابِهَا.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى {أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ} [النور: 61] فَأَبَاحَ الْأَكْلَ لِهَؤُلَاءِ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ فِي الْأَكْلِ إذَا كَانَ الطَّعَامُ مَبْذُولًا. فَإِنْ كَانَ مُحْرَزًا دُونَهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَخْذُهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجَاوِزُوا إلَى الِادِّخَارِ، وَلَا إلَى مَا لَيْسَ بِمَأْكُولٍ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْرَزٍ عَنْهُمْ إلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُمْ، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} [النور: 61]: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَنَى بِهِ وَكِيلَ الرَّجُلِ عَلَى ضَيْعَتِهِ، وَخَازِنَهُ عَلَى مَالِهِ؛ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِمَّا هُوَ قَيِّمٌ عَلَيْهِ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَنْزِلَ الرَّجُلِ نَفْسِهِ، يَأْكُلُ مِمَّا ادَّخَرَهُ فِيهِ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَنَى بِهِ أَكْلَ السَّيِّدِ مِنْ مَنْزِلِ عَبْدِهِ وَمَالِهِ؛ لِأَنَّ مَالَ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ؛ حَكَاهُ ابْنُ عِيسَى. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61]: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَأْكُلَ مِنْ بَيْتِ صَدِيقِهِ فِي وَلِيمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا إذَا كَانَ الطَّعَامُ حَاضِرًا غَيْرَ مُحْرَزٍ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالْأَصْدِقَاءُ أَكْثَرُ مِنْ الْآبَاءِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَهَنَّمِيِّينَ لَمْ يَسْتَغِيثُوا بِالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ، وَإِنَّمَا قَالُوا: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ - وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100 - 101]. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فِي تَنْقِيحِ مَعَانِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَسَائِلِ السَّبْعَةِ: وَذَلِكَ يَكُونُ بِنَظْمِ التَّأْوِيلِ فِي الْأَقْوَالِ عَلَى سَرْدٍ، فَيَتَبَيَّنُ الْمَعْنَى الْمُسْتَقِيمُ مِنْ غَيْرِهِ.

أَمَّا إنْ قُلْنَا بِقَوْلِ الْحَسَنِ مِنْ أَنَّ نَفْيَ الْحَرَجِ عَنْ الثَّلَاثَةِ الْأَصْنَافِ الزَّمْنَى مَقْطُوعٌ عَمَّا قَبْلَهُ، وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61] كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي الْأَوَّلِ: إنَّ الْأَنْصَارَ تَحَرَّجُوا أَنْ يَأْكُلُوا مَعَهُمْ، فَلَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا لَكَانَ الْمَعْنَى: لَيْسَ عَلَى مَنْ أَكَلَ مَعَ هَؤُلَاءِ حَرَجٌ، فَأَمَّا أَنْ يَتَحَرَّجَ غَيْرُهُمْ مِنْهُمْ، وَيَنْفِي الْحَرَجَ عَنْهُمْ فَهُوَ قَلْبٌ لِلْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ قُلْ وَلَا رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ فِي نَقْلٍ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي فَإِنَّهُ كَلَامٌ يَنْتَظِمُ؛ لِأَنَّ نَفْيَ الْحَرَجِ عَنْ أَصْحَابِ الزَّمَانَةِ وَعَمَّنْ سِوَاهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِ مَنْ سَمَّى اللَّهُ فَهُوَ كَلَامٌ مُنْتَظِمٌ، وَلَكِنْ بَقِيَ وَجْهُ الْفَائِدَةِ فِي تَخْصِيصِ أَهْلِ الزَّمَانَةِ بِالذِّكْرِ، مَعَ أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا} [النور: 61] يَكْفِي فِي تَخْصِيصِهِمْ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَجْهُهُ أَنَّهُ بَدَأَ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّهُمْ بِضَرَارَتِهِمْ أَحَقُّ مِنْ الْأَصِحَّاءِ بِالْمُوَاسَاةِ وَالْمُشَارَكَةِ. وَأَمَّا رِوَايَةُ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ فَهُوَ أَيْضًا كَلَامٌ مُنْتَظِمٌ، لِأَجْلِ تَخَلُّفِهِمْ عَنْهُمْ فِي الْجِهَادِ، وَبَقَاءِ أَمْوَالِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ، لَكِنْ قَوْلُهُ: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} [النور: 61] قَدْ اقْتَضَاهُ وَأَفَادَهُ، فَأَيُّ مَعْنَى لِتَكْرَارِهِ، فَكَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ بَعِيدٌ جِدًّا. وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] فَيَنْتَظِمُ مَعْنًى، لَكِنْ ذِكْرُ الزَّمَانَةِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهِ وَلَا مُنْتَظِمٍ مَعَهُ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الْخَامِسُ فِي أَكْلِ الْأَصِحَّاءِ مَعَ الزَّمْنَى فَذَلِكَ مَدْخُولٌ بِمَا دَخَلَ بِهِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، مِنْ أَنَّ نِظَامَ الْكَلَامِ فِي نَفْيِ الْحَرَجِ عَنْ النَّاسِ فِي الزَّمْنَى عَنْ الزَّمْنَى فِيهِمْ. وَأَمَّا السَّادِسُ فَحَسَنٌ جِدًّا، وَكَذَلِكَ السَّابِعُ مِثْلُهُ لَوْ عَضَّدَتْهُ صِحَّةُ النَّقْلِ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: فِي الْمُخْتَارِ: وَذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ اللَّهَ رَفَعَ الْحَرَجَ عَنْ الْأَعْمَى فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكْلِيفِ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِيهِ الْبَصَرُ، وَعَنْ الْأَعْرَجِ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِي التَّكْلِيفِ بِهِ الْمَشْيُ، وَمَا يَتَعَذَّرُ مِنْ الْأَفْعَالِ مَعَ وُجُودِ الْحَرَجِ، وَعَنْ الْمَرِيضِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكْلِيفِ الَّذِي يُؤَثِّرُ الْمَرَضُ فِي إسْقَاطِهِ كَالصَّوْمِ، وَشُرُوطِ الصَّلَاةِ، وَأَرْكَانِهَا، وَالْجِهَادِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ مُبَيِّنًا: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ حَرَجٌ فِي أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ فَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ، وَتَفْسِيرٌ مُفِيدٌ، لَا يُفْتَقَرُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ إلَى نَقْلٍ، وَيُعَضِّدُهُ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ؛ فَأَمَّا الْأَكْلُ مِنْ مَالِ الْأَزْوَاجِ فَذَلِكَ جَائِزٌ لِلزَّوْجَةِ فِيمَا لَيْسَ بِمَحْجُوبٍ عَنْهَا، وَلَا مُحْرَزٍ مِنْهَا. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِلزَّوْجِ مِثْلُ ذَلِكَ». وَأَمَّا مَا كَانَ مُحْرَزًا عَنْهَا فَلَا سَبِيلَ لَهَا إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ يَأْكُلُ مِنْ مَالِ زَوْجِهِ غَيْرَ مُفْسِدٍ، لَكِنْ الزَّوْجَةُ أَبْسَطُ، لِمَا لَهَا مِنْ حَقِّ النَّفَقَةِ، وَلِمَا يَلْزَمُهَا مِنْ خِدْمَةِ الْمَنْفَعَةِ. وَأَمَّا بَيْتُ الِابْنِ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَبَيْتِ الْمَرْءِ نَفْسِهِ، لَكِنْ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا كَانَ غَيْرَ مُحْرَزٍ، فَلَا يَتَبَسَّطُ الْأَبُ عَلَى الِابْنِ فِي هَتْكِ حِرْزٍ وَأَخْذِ مَالٍ؛ وَإِنَّمَا يَأْكُلُهُ مُسْتَرْسِلًا فِيمَا لَمْ يَقَعْ فِيهِ حِيَازَةٌ، وَلَكِنْ بِالْمَعْرُوفِ دُونَ فَسَادٍ وَلَا اسْتِغْنَامٍ وَأَمَّا بَيْتُ الْأَبِ لِلِابْنِ فَمِثْلُهُ، وَلَكِنْ تَبَسُّطُ الِابْنِ أَقَلُّ مِنْ تَبَسُّطِ الْأَبِ، كَمَا كَانَ تَبَسُّطُ الزَّوْجِ أَقَلَّ مِنْ تَبَسُّطِ الزَّوْجَةِ. وَأَمَّا بُيُوتُ سَائِرِ الْقَرَابَةِ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الْآيَةِ فَلَا يَلْحَقُ بِذَلِكَ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ. وَأَمَّا بَيْتٌ مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ فَهُوَ الْوَكِيلُ قَالَ النَّبِيُّ: «الْخَازِنُ الْأَمِينُ الَّذِي يُعْطِي مَا أُمِرَ كَامِلًا مُوَفَّرًا طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ». وَلَا بُدَّ لِلْخَازِنِ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِمَّا يَخْزُنُ إجْمَاعًا، وَهَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ أُجْرَةٌ، فَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى الْخَزْنِ حَرُمَ الْأَكْلُ. وَأَمَّا مَالُ الْعَبْدِ فَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: (بُيُوتِكُمْ) لِأَنَّ الْعَبْدَ وَمَالَهُ مِلْكٌ لِلسَّيِّدِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ مَنْزِلُ الرَّجُلِ نَفْسِهِ فَخَطَأٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ أَفَادَهُ قَوْلُهُ: (بُيُوتِكُمْ)، كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ بَيْتَ الِابْنِ يَدْخُلُ فِيهِ؛ فَبَيْتُ الْعَبْدِ أَوْلَى وَأَحْرَى بِإِجْمَاعٍ.

مسألة معنى قوله تعالى ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا

وَأَمَّا بَيْتُ الصَّدِيقِ، فَإِنَّهُ إذَا اسْتَحْكَمَتْ الْأُخُوَّةُ جَرَى التَّبَسُّطُ عَادَةً، وَفِي الْمَثَلِ: أَيُّهُمْ أَحَبُّ إلَيْك أَخُوكَ أَمْ صَدِيقُكَ؟ قَالَ: أَخِي إذَا كَانَ صَدِيقِي. قَالَ لَنَا الْإِمَامُ الْعَادِلُ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ طَوْقٍ قَالَ لَنَا جَمَالُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ إمَامُ الصُّوفِيَّةِ فِي وَقْتِهِ: عَزِيزٌ مِنْ يَصْدُقُ فِي الصَّدَاقَةِ، فَيَكُونُ فِي الْبَاطِنِ كَمَا هُوَ فِي الظَّاهِرِ، وَلَا يَكُونُ فِي الْوَجْهِ كَالْمِرْآةِ وَمِنْ وَرَائِك كَالْمِقْرَاضِ، وَفِي مَعْنَاهُ مَا قُلْت: مَنْ لِي بِمَنْ يَثِقُ الْفُؤَادُ بِوُدِّهِ ... وَإِذَا تَرَحَّلَ لَمْ يَزِغْ عَنْ عَهْدِهِ يَا بُؤْسَ نَفْسِي مِنْ أَخٍ لِي بَاذِلٍ ... حُسْنَ الْوَفَاءِ بِقُرْبِهِ لَا بُعْدِهِ يُولِي الصَّفَاءَ بِنُطْقِهِ لَا خُلْقِهِ ... وَيَدُسُّ صَابًا فِي حَلَاوَةِ شَهْدِهِ فَلِسَانُهُ يُبْدِي جَوَاهِرَ عِقْدِهِ ... وَجَنَانُهُ تُغْلِي مَرَاجِلَ حِقْدِهِ لَاهُمَّ إنِّي لَا أُطِيقُ فِرَاسَةً ... بِك أَسْتَعِيذُ مِنْ الْحَسُودِ وَكَيْدِهِ [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: فِي تَمَامِ الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} [النور: 61] فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَنِي كِنَانَةَ؛ كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يُحَرِّمُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَأْكُلَ وَحْدَهُ، حَتَّى إنَّ الرَّجُلَ لَيُقِيمُ عَلَى الْجُوعِ حَتَّى يَجِدَ مَنْ يُؤَاكِلُهُ، وَكَانَتْ هَذِهِ السِّيرَةُ مَوْرُوثَةً [عِنْدَهُمْ] عَنْ إبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَأْكُلُ إلَّا مَعَ غَيْرِهِ. الثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ الْعَرَبِ كَانُوا إذَا نَزَلَ بِهِمْ ضَيْفٌ تَحَرَّجُوا عَنْ أَنْ يَأْكُلَ وَحْدَهُ حَتَّى يَأْكُلُوا مَعَهُ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَأْكُلُوا جَمِيعًا، وَيَقُولُ الرَّجُلُ: آكُلُ وَحْدِي.

مسألة معنى قوله تعالى فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم

الرَّابِعُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُسَافِرِينَ يَخْلِطُونَ أَزْوِدَتَهُمْ، فَلَا يَأْكُلُ حَتَّى يَأْتِيَ الْآخَرُ، فَأُبِيحَ ذَلِكَ لَهُمْ. وَهَذَا الْقَوْلُ تَضَمَّنَ جَمِيعَ ذَلِكَ، فَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْكُلَ مَعَ الْآخَرِ، وَلِلْجَمَاعَةِ، وَإِنْ كَانَ أَكْلُهُمْ لَا يَنْضَبِطُ، فَقَدْ يَأْكُلُ الرَّجُلُ قَلِيلًا وَالْآخَرُ كَثِيرًا، وَقَدْ يَأْكُلُ الْبَصِيرُ أَكْثَرَ مِمَّا يَأْكُلُ الْأَعْمَى، فَنَفَى اللَّهُ الْحَرَجَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَبَاحَ لِلْجَمِيعِ الِاشْتِرَاكَ فِي الْأَكْلِ عَلَى الْمَعْهُودِ، مَا لَمْ يَكُنْ قَصْدًا إلَى الزِّيَادَةِ، عَلَى مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ الْقِرَانِ فِي التَّمْرِ إلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ أَخَاهُ». وَهَذَا هُوَ النِّهْدُ الَّذِي يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الْقَوْمُ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُشْتَرًى مِنْهُمْ، أَوْ كَانَ بِخَلْطِهِمْ لَهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَإِنْ كَانَ طَعَامَ ضِيَافَةٍ أَوْ وَلِيمَةٍ فَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِيهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَأْكُلُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ؛ لَا سِيَّمَا وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ طَعَامَ الضِّيَافَةِ وَالْوَلِيمَةِ يَأْكُلُهُ الْحَاضِرُونَ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ؛ وَلِذَلِكَ لَمْ تَجُزْ التَّغْدِيَةُ وَالتَّعْشِيَةُ عِنْدَنَا فِي طَعَامِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي النِّهْدِ حَدِيثَ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي جَمْعِ الْأَزْوَادِ، وَكَانَ يُغَدِّيهِمْ كُلَّ يَوْمٍ تَمْرَةً تَمْرَةً. وَحَدِيثَ عُمَرَ فِي نَحْرِ الْإِبِلِ وَمَنْعِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَجَمَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَزْوَادَ الْجَيْشِ، وَبَرَّكَ عَلَيْهَا، ثُمَّ احْتَثَى كُلُّ أَحَدٍ فِي مِزْوَدِهِ وَوِعَائِهِ مِنْ غَيْرِ تَسْوِيَةٍ، حَتَّى فَرَغُوا، وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ الْخُرُوجِ، يُقَالُ: نَهَدَ ثَدْيُ الْمَرْأَةِ، وَنَهَدَ الْقَوْمُ لِغَزْوِهِمْ، وَنَهَدَ الْجَمَاعَةُ: إذَا أَخْرَجُوا طَعَامًا أَوْ مَالًا، ثُمَّ جَمَعُوهُ، وَأَكَلُوا أَوْ أَنْفَقُوا مِنْهُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61] فِي الْبُيُوتِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الْبُيُوتُ كُلُّهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهَا الْمَسَاجِدُ. وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ، لِعُمُومِ الْقَوْلِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى التَّخْصِيصِ.

مسألة معنى قوله تعالى فسلموا على أنفسكم

[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ] فَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61] وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: سَلِّمُوا عَلَى أَهَالِيكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ. الثَّانِي: إذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتَ غَيْرِكُمْ فَسَلِّمُوا عَلَيْهِمْ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ. [الثَّالِثُ: إذَا دَخَلْتُمْ الْمَسَاجِدَ فَسَلِّمُوا عَلَى مَا فِيهَا مِنْ ضَيْفِكُمْ]. الرَّابِعُ: إذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَارِغَةً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، قُولُوا: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: فِي الْمُخْتَارِ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ: وَبَيَانُهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] فَنَصَّ عَلَى بُيُوتِ الْغَيْرِ، ثُمَّ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61] أَيْ لِيُسَلِّمَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَأَطْلَقَ الْقَوْلَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ الْحُكْمَ فِي بُيُوتِ الْغَيْرِ، لِيَدْخُلَ تَحْتَ هَذَا الْعُمُومِ كُلُّ بَيْتٍ، كَانَ لِلْغَيْرِ أَوْ لِنَفْسِهِ، وَقَالَ: {عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61] لِيَتَنَاوَلَ اللَّفْظُ سَلَامَ الْمَرْءِ عَلَى عَيْنِهِ، وَلِيَأْخُذَ الْمَعْنَى سَلَامَ النَّاسِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَإِذَا دَخَلَ بَيْتًا لِغَيْرِهِ اسْتَأْذَنَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ دَخَلَ بَيْتًا لِنَفْسِهِ سَلَّمَ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ. وَهَذَا إذَا كَانَ فَارِغًا، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِيهِ أَهْلُهُ وَعِيَالُهُ وَخَدَمُهُ فَلْيَقُلْ: " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ " فَإِنَّهُمْ أَهْلٌ لِلتَّحِيَّةِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مَسْجِدًا فَلْيَقُلْ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ». وَعَلَيْهِ حَمَلَ ابْنُ عُمَرَ الْبَيْتَ الْفَارِغَ. وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ إذَا كَانَ الْبَيْتُ فَارِغًا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ السَّلَامُ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْمَلَكَ فَالْمَلَائِكَةُ لَا تُفَارِقُ الْعَبْدَ بِحَالٍ، أَمَّا إنَّهُ إذَا دَخَلْت بَيْتَكَ يُسْتَحَبُّ لَك ذِكْرُ اللَّهِ

مسألة سلام الواحد على الجماعة

بِمَا قَدْ شَرَحْنَاهُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ بِأَنْ يَقُولَ: {مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ} [الكهف: 39]. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة سَلَامَ الْوَاحِدِ عَلَى الْجَمَاعَةِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ كَيْفِيَّةَ السَّلَامِ الَّذِي شَرَعَ اللَّهُ لِعِبَادِهِ، وَأَوْضَحْنَا مَجْرَاهُ، وَمِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ سَلَامَ الْوَاحِدِ عَلَى الْجَمَاعَةِ يَكْفِي فِي الِابْتِدَاءِ وَالرَّدِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ النِّسَاءُ يُسَلِّمْنَ عَلَى الرِّجَالِ، وَلَا يُسَلِّمُ الرِّجَالُ عَلَى النِّسَاءِ. وَهَذَا صَحِيحٌ فَإِنَّهَا خُلْطَةٌ وَتَعَرُّضٌ إلَّا أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً مُتَجَالَّةً؛ إذْ الْخُلْطَةُ لَا تَكُونُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ؛ وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَالْمُنْتَهَى. [الْآيَة الثَّامِنَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ] ِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 62]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ: وَالْمُرَادُ بِمَا فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَمْرَ الْجَامِعَ الْجُمُعَةُ، وَالْعِيدَانِ، وَالِاسْتِسْقَاءُ، وَكُلُّ شَيْءٍ يَكُونُ فِيهِ الْخُلْطَةُ؛ قَالَهُ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ كُلُّ طَاعَةٍ لِلَّهِ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ الْجِهَادُ؛ قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ. وَقَدْ رَوَى أَشْهَبُ، وَيَحْيَى بْنُ بُكَيْر، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إنَّمَا كَانَتْ فِي حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ. وَاَلَّذِي بَيَّنَ ذَلِكَ أَمْرَانِ صَحِيحَانِ:

مسألة الرجل يوم الجمعة إذا رعف أو أحدث

أَمَّا أَحَدُهُمَا: فَهُوَ قَوْله تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} [النور: 63] وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَتَلَوَّذُونَ، وَيَخْرُجُونَ عَنْ الْجَمَاعَةِ، وَيَتْرُكُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَ اللَّهُ جَمِيعَهُمْ بِأَلَّا يَخْرُجَ [أَحَدٌ] حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ إيمَانُهُ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62] فَأَيُّ إذْنٍ فِي الْحَدَثِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ خِيَارٌ فِي مَنْعِهِ وَلَا إبْقَائِهِ، وَقَدْ قَالَ: {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62] فَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ فِي الْحَرْبِ الَّتِي يُؤْثَرُ فِيهَا التَّفَرُّقُ أَمَّا إنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ بِقُوَّةِ مَعْنَاهَا عَلَى أَنَّ مَنْ حَضَرَ جَمَاعَةً لَا يَخْرُجُ إلَّا لِعُذْرٍ بَيِّنٍ أَوْ بِإِذْنٍ قَائِمٍ مِنْ مَالِكِ الْجَمَاعَةِ وَمُقَدِّمِهَا؛ وَبِذَلِكَ أَنَّ الِاجْتِمَاعَ كَانَ لِغَرَضٍ، فَمَا لَمْ يَتِمَّ الْغَرَضُ لَمْ يَكُنْ لِلتَّفَرُّقِ أَصْلٌ، وَإِذَا كَمُلَ الْغَرَضُ جَازَ التَّفَرُّقُ. [مَسْأَلَة الرَّجُلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إذَا رَعَفَ أَوْ أَحْدَثَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62] فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَذِنَ لَهُ إذَا رَأَى ذَلِكَ ضَرُورَةً لِلْمُسْتَأْذِنِ، وَلَمْ يَرَ فِيهِ مَضَرَّةً عَلَى الْجَمَاعَةِ، أَذِنَ بِنَظَرٍ، أَوْ مَنَعَ بِنَظَرٍ. وَقَدْ رَوَى مَكْحُولٌ أَنَّ الرَّجُلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إذَا رَعَفَ أَوْ أَحْدَثَ يَجْعَلُ يَدَهُ عَلَى أَنْفِهِ، وَيُشِيرُ إلَى الْإِمَامِ فَيُشِيرُ لَهُ الْإِمَامُ بِيَدِهِ أَنْ اُخْرُجْ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: كَانُوا يَسْتَأْذِنُونَ الْإِمَامَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمَّا كَثُرَ ذَلِكَ قَالَ زِيَادٌ: مَنْ جَعَلَ يَدَهُ عَلَى أَنْفِهِ فَلْيَخْرُجْ دُونَ إذْنٍ. وَقَدْ كَانَ هَذَا بِالْمَدِينَةِ، حَتَّى إنَّ سُهَيْلَ بْنَ أَبِي صَالِحٍ رَعَفَ يَوْمًا فِي الْجُمُعَةِ فَاسْتَأْذَنَ الْإِمَامَ، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ كَمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، إذْ لَا إذْنَ فِيهِ، وَلَا خِيرَةَ وَلَا مَشِيئَةَ تَتَعَلَّقُ بِهِ؛ وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ صَاحِبُهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهِ، فَيَخْرُجُ إذَا شَاءَ، وَيَجْلِسُ إذَا شَاءَ.

الآية التاسعة والعشرون قوله تعالى لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا

[الْآيَة التَّاسِعَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا] قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ} [النور: 63] فِيهِ مَسْأَلَةٌ بَدِيعَةٌ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ، وَهِيَ أَنَّ الْمَصْدَرَ قَدْ يُضَافُ إلَى الْمَفْعُولِ، كَمَا يُضَافُ إلَى الْفَاعِلِ، تَقُولُ: أَعْجَبَنِي ضَرْبُ زَيْدٍ عَمْرُو، عَلَى الْأَوَّلِ، كَمَا تَقُولُ: كَرِهْت ضَرْبَ زَيْدٍ عَمْرًا، عَلَى الثَّانِي. وَقَدْ جَهِلَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ هَذَا الْمِقْدَارَ، فَعَقَدَ فَصْلًا فِي تَرْغِيبِ النَّاسِ فِي الدُّعَاءِ قَالَ فِيهِ: فَاهْتَبِلُوا بِالدُّعَاءِ، وَابْتَهِلُوا بِرَفْعِ أَيْدِيكُمْ إلَى السَّمَاءِ، وَتَضَرَّعُوا إلَى مَالِكِ أَزِمَّةِ الْقَضَاءِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77] وَأَرَادَ لَوْلَا سُؤَالُكُمْ إيَّاهُ، وَطَلَبُكُمْ مِنْهُ، وَرَأَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ أُضِيفَ إلَى فَاعِلٍ. وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ، وَإِنَّمَا هُوَ مَصْدَرٌ أُضِيفَ إلَى الْمَفْعُولِ. وَالْمَعْنَى قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْكُفَّارِ: مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ بِبَعْثِهِ الرُّسُلَ إلَيْكُمْ، وَتَبْيِينِ الْأَدِلَّةِ لَكُمْ، فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ عَذَابُكُمْ لِزَامًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ النَّاسِ: إنَّ الْمُرَادَ بِالْإِضَافَةِ هَاهُنَا إضَافَةُ الْمَصْدَرِ إلَى الْفَاعِلِ، وَيَكُونُ لِذَلِكَ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ بَيْنَكُمْ، فَإِنَّ إجَابَتَهُ وَاجِبَةٌ، وَلَيْسَتْ إجَابَتُكُمْ وَاجِبَةً. يَعْنِي عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ إجَابَةُ الْخَلْقِ بِقَرَائِنَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ، أَوْ مِنْ حُقُوقِ الدَّاعِي. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ وُجُوبِ إجَابَةِ دُعَاءِ الرَّسُولِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ.

مسألة الأمر صريح في الاقتضاء والوجوب

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ احْذَرُوا أَنْ تَتَفَرَّقُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَدْعُوَ عَلَيْكُمْ، وَلَيْسَ دُعَاؤُهُ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا، فَإِنَّ دَعْوَتَهُ مُجَابَةٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنِّي عَاهَدْت رَبِّي عَهْدًا، قُلْت: اللَّهُمَّ إنِّي بَشَرٌ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ لَعَنْتُهُ أَوْ سَبَبْتُهُ فَاجْعَلْ ذَلِكَ صَلَاةً عَلَيْهِ وَرَحْمَةً إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ». الْمَعْنَى الثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَاهُ لَا تُسَوُّوا بَيْنَ الرَّسُولِ وَبَيْنَكُمْ فِي الدَّعْوَةِ، كُلُّ أَحَدٍ يُدْعَى بِاسْمِهِ إلَّا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُ يُدْعَى بِخُطَّتِهِ وَهِيَ الرِّسَالَةُ. وَكَذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ غَفِيرًا: إنَّ الْخَلِيفَةَ يُدْعَى بِهَا، وَالْأَمِيرَ وَالْمُعَلِّمَ، وَيُوَفَّرُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ حَظُّهُ مِنْ الْخُطَّةِ، فَيُدْعَى بِهَا قَصْدَ الْكَرَامَةِ. [مَسْأَلَة الْأَمْرَ صَرِيحٌ فِي الِاقْتِضَاءِ وَالْوُجُوبُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] بِهَذِهِ الْآيَةِ احْتَجَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْوُجُوبِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْأَمْرَ صَرِيحٌ فِي الِاقْتِضَاءِ، وَالْوُجُوبُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ تَوَجُّهِ اللَّوْمِ وَالذَّمِّ، فَالْأَمْرُ مُقْتَضٍ، وَاللَّوْمُ وَالذَّمُّ خَاتَمٌ، وَذِكْرُ الْعِقَابِ بِالثَّأْرِ مُكَبَّرٌ، يُعَدُّ بِهِ الْفِعْلُ فِي جُمْلَةِ الْكَبَائِرِ، فَلْيُنْظَرْ تَحْقِيقُهُ هُنَالِكَ. وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ: إنَّ الْأَمْرَ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْبَيَانِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَالْمُخَالَفَةُ تَكُونُ بِالْقَوْلِ وَبِالْفِعْلِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَتَرَتَّبُ عَلَى أَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلِهِ، فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا كَانَتْ الْمُخَالَفَةُ حَرَامًا، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ وَالْفِعْلُ نَدْبًا كَانَتْ الْمُخَالَفَةُ مَكْرُوهَةً، وَذَلِكَ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَدِلَّةِ، وَيَنْسَاقُ بِمُقْتَضَى الْأَحْوَالِ وَالْأَسْبَابِ الْقَاضِيَةِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي قَوْلِهِ: {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور: 63] فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: الْكُفْرُ. الثَّانِي: الْعُقُوبَةُ.

الثَّالِثُ: بَلِيَّةٌ يَظْهَرُ بِهَا مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ النِّفَاقِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ صَحِيحَةٌ كُلُّهَا، وَلَكِنَّ مُتَعَلِّقَاتِهَا مُخْتَلِفَةٌ، فَهُنَالِكَ مُخَالَفَةٌ تُوجِبُ الْكُفْرَ، وَذَلِكَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقَائِدِ، وَهُنَالِكَ مُخَالَفَةٌ هِيَ مَعْصِيَةٌ، وَذَلِكَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ أُصُولِ الدِّينِ وَالرَّدِّ عَلَى الْمُخَالِفِينَ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ وَالْمُلْحِدِينَ، وَرَتَّبْنَا مَنَازِلَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَمَسَاقَهُ وَمُتَعَلَّقَهُ بِدَلِيلِهِ. وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ الْأَزْدِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَتِيقِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ حَيْوَةَ، حَدَّثَنَا جُرْهُمِيُّ بْنُ أَبِي الْعَلَاءِ قَالَ: سَمِعْت الزُّبَيْرَ بْنَ بَكَّارٍ يَقُولُ: سَمِعْت سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: سَمِعْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ، وَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مِنْ أَيْنَ أُحْرِمُ؟ قَالَ: مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ مِنْ حَيْثُ أَحْرَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُحْرِمَ مِنْ الْمَسْجِدِ. فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ. قَالَ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُحْرِمَ مِنْ الْمَسْجِدِ مِنْ عِنْدِ الْقَبْرِ. قَالَ: لَا تَفْعَلْ، فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْك الْفِتْنَةَ. قَالَ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ فِي هَذَا؟ إنَّمَا هِيَ أَمْيَالٌ أَزِيدُهَا. قَالَ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَرَى أَنَّك سَبَقْت إلَى فَضِيلَةٍ قَصَّرَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] وَثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ، إلَّا وَاحِدَةً. قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي». وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلْعِصْمَةِ بِالطَّاعَةِ وَالْمُتَابَعَةِ فِي الْأُلْفَةِ، فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

سورة الفرقان فيها إحدى عشرة آية

[سُورَةُ الْفُرْقَانِ فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ آيَةً] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ] ً الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} [الفرقان: 7]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: عَيَّرَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَكْلِهِ الطَّعَامَ؛ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مَلَكًا، وَعَيَّرُوهُ بِالْمَشْيِ فِي السُّوقِ، فَأَجَابَهُمْ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20]، فَلَا تَرْتَبْ بِذَلِكَ وَلَا تَغْتَمَّ بِهِ، فَإِنَّهَا شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْك عَارُهَا، وَحُجَّةٌ قَاهِرٌ لَك خَارُهَا. وَهَذَا إنَّمَا أَوْقَعَهُمْ فِيهِ عِنَادُهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَتْ عَلَيْهِمْ الْمُعْجِزَةُ، وَوَضَحَتْ فِي صِدْقِهِ الدَّلَالَةُ لَمْ يُقْنِعْهُمْ ذَلِكَ، حَتَّى سَأَلُوهُ آيَاتٍ أُخَرَ سِوَاهَا وَأَلْفُ آيَةٍ كَآيَةٍ عِنْدَ الْمُكَذِّبِ بِهَا، وَأَوْقَعَهُمْ أَيْضًا فِي ذَلِكَ جَهْلُهُمْ حِينَ رَأَوْا الْأَكَاسِرَةَ وَالْقَيَاصِرَةَ وَالْمُلُوكَ الْجَبَابِرَةَ يَتَرَفَّعُونَ عَنْ الْأَسْوَاقِ أَنْكَرُوا عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ، وَاعْتَقَدُوهُ مَلِكًا يَتَصَرَّفُ بِالْقَهْرِ وَالْجَبْرِ، وَجَهِلُوا أَنَّهُ نَبِيٌّ يَعْمَلُ بِمُقْتَضَى النَّهْيِ وَالْأَمْرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَهُ فِي سُوقِ عُكَاظٍ وَمَجَنَّةِ الْعَامَّةِ، وَكَانَ أَيْضًا يَدْخُلُ الْخَلَصَةَ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا أَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ قَالُوا: هَذَا مَلِكٌ يَطْلُبُ أَنْ يَتَمَلَّكَ عَلَيْنَا، فَمَا لَهُ يُخَالِفُ سِيرَةَ الْمُلُوكِ فِي دُخُولِ الْأَسْوَاقِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَدْخُلُهَا لِحَاجَتِهِ، أَوْ لِتَذْكِرَةِ الْخَلْقِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَدَعْوَتِهِ، وَيَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى الْقَبَائِلِ فِي مُجْتَمَعِهِمْ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُرْجِعَ إلَى الْحَقِّ بِهِمْ.

مسألة دخول أرباب الفضل والمهتدى بهم في الدين الأسواق

[مَسْأَلَة دُخُول أَرْبَابِ الْفَضْلِ وَالْمُهْتَدَى بِهِمْ فِي الدِّينِ الأسواق] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَمَّا كَثُرَ الْبَاطِلُ فِي الْأَسْوَاقِ، وَظَهَرَتْ فِيهَا الْمَنَاكِرُ، كَرِهَ عُلَمَاؤُنَا دُخُولَهَا لِأَرْبَابِ الْفَضْلِ، وَالْمُهْتَدَى بِهِمْ فِي الدِّينِ، تَنْزِيهًا لَهُمْ عَنْ الْبِقَاعِ الَّتِي يُعْصَى اللَّهُ فِيهَا. وَفِي الْآثَارِ: «مَنْ دَخَلَ السُّوقَ فَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ» إنْبَاءً بِأَنَّهُ وَحْدَهُ عِنْدَ صَخَبِ الْخَلْقِ وَرَغْبِهِمْ فِي الْمَالِ، أَقْبَلَ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ، لَمْ يَقْصِدْ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ سِوَاهُ، لِيَعْمُرَهَا بِالطَّاعَةِ إنْ غُمِرَتْ بِالْمَعْصِيَةِ، وَلِيُحَلِّيَهَا بِالذِّكْرِ إنْ عُطِّلَتْ بِالْغَفْلَةِ، وَلِيُعَلِّمَ الْجَهَلَةَ، وَيُذَكِّرَ النَّاسِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَمَّا أَكْلُ الطَّعَامِ فَضَرُورَةُ الْخَلْقِ، لَا عَارَ وَلَا دَرَكَ فِيهَا. وَأَمَّا الْأَسْوَاقُ فَسَمِعْت مَشْيَخَةَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: لَا يَدْخُلُ إلَّا سُوقَ الْكُتُبِ وَالسِّلَاحِ. وَعِنْدِي أَنَّهُ يَدْخُلُ كُلَّ سُوقٍ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَلَا يَأْكُلُ فِيهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ إسْقَاطٌ لِلْمُرُوءَةِ وَهَدْمٌ لِلْحِشْمَةِ. وَمِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْأَكْلُ فِي السُّوقِ دَنَاءَةٌ». وَهُوَ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ، لَكِنْ رَوَيْنَاهُ مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ، وَلَا أَصْلَ لَهُ فِي الصِّحَّةِ وَلَا وَصْفَ. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا] وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان: 47].

الآية الثالثة قوله تعالى وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته

يَعْنِي سَتْرًا لِلْخَلْقِ، يَقُومُ مَقَامَ اللِّبَاسِ فِي سَتْرِ الْبَدَنِ، وَيُرْبَى عَلَيْهِ بِعُمُومِهِ وَسَعَتِهِ. وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الْغَفَلَةِ أَنَّ مَنْ صَلَّى عُرْيَانًا فِي الظَّلَّامِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ لِبَاسٌ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يُصَلِّيَ عُرْيَانًا فِي بَيْتِهِ إذَا أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ. وَالسِّتْرُ فِي الصَّلَاةِ عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ بِهَا، لَيْسَتْ لِأَجْلِ نَظَرِ النَّاسِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِطْنَابِ فِي هَذَا. [الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ] ِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]. فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ بَيَّنَّا قَوْلَهُ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [الفرقان: 48] فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ {مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] فَوَصَفَ الْمَاءَ بِأَنَّهُ طَهُورٌ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى وَصْفِهِ بِأَنَّهُ طَهُورٌ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى مُطَهِّرٌ لِغَيْرِهِ؟ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَخَلْقٌ كَثِيرٌ سِوَاهُمَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ بِمَعْنَى طَاهِرٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَتَعَلَّقَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21] يَعْنِي طَاهِرًا، إذَا لَا تَكْلِيفَ فِي الْجَنَّةِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: خَلِيلَيَّ هَلْ فِي نَظْرَةٍ بَعْدَ تَوْبَةٍ ... أُدَاوِي بِهَا قَلْبِي عَلَيَّ فُجُورُ إلَى رَجَحِ الْأَكْفَالِ هِيفٍ خُصُورُهَا ... عِذَابِ الثَّنَايَا رِيقُهُنَّ طَهُورُ فَوَصَفَ الرِّيقَ بِأَنَّهُ طَاهِرٌ، وَلَيْسَ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُطَهِّرُ. وَتَقُولُ الْعَرَبُ: رَجُلٌ نَئُومٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُنِيمٌ لِغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]. وَقَالَ:

{لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} [الأنفال: 11]، فَبَيَّنَ أَنَّ وَصْفَ {طَهُورًا} [الفرقان: 48] يُفِيدُ التَّطْهِيرَ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا». وَأَرَادُوا مُطَهَّرَةً بِالتَّيَمُّمِ، وَلَمْ يُرِدْ طَاهِرَةً بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ طَاهِرَةً. وَقَالَ فِي مَاءِ الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ»، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعْنَى الطَّهُورِ الْمُطَهَّرَ لَمَا كَانَ جَوَابًا لِسُؤَالِهِمْ. وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ لُغَةً وَشَرِيعَةً عَلَى أَنَّ وَصْفَ " طَهُورٍ " مُخْتَصٌّ بِالْمَاءِ، وَلَا يَتَعَدَّى إلَى سَائِرِ الْمَائِعَاتِ، وَهِيَ طَاهِرَةٌ، فَكَانَ اقْتِصَارُهُمْ بِذَلِكَ عَلَى الْمَاءِ أَدَلَّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الطَّهُورَ هُوَ الْمُطَهَّرُ. فَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِوَصْفِ اللَّهِ لِشَرَابِ الْجَنَّةِ بِأَنَّهُ طَهُورٌ، وَالْجَنَّةُ لَا تَكْلِيفَ فِيهَا، فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ بِذَلِكَ الْمُبَالَغَةَ فِي الصِّفَةِ، وَضَرَبَ الْمَثَلَ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ التَّطْهِيرُ. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّ وَصْفَ شَرَابِ الْجَنَّةِ بِأَنَّهُ طَهُورٌ يُفِيدُ التَّطْهِيرَ عَنْ أَوْضَارِ الذُّنُوبِ، وَعَنْ خَسَائِسِ الصِّفَاتِ، كَالْغِلِّ وَالْحَسَدِ، فَإِذَا شَرِبُوا هَذَا الشَّرَابَ طَهَّرَهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ رَحْضِ الذُّنُوبِ، وَأَوْضَارِ الِاعْتِقَادَاتِ الذَّمِيمَةِ، فَجَاءُوا اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، وَدَخَلُوا الْجَنَّةَ بِصِفَةِ التَّسْلِيمِ. وَقِيلَ لَهُمْ حِينَئِذٍ: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]، كَمَا حَكَمَ فِي الدُّنْيَا بِزَوَالِ حُكْمِ الْحَدَثِ بِجَرَيَانِ الْمَاءِ عَلَى الْأَعْضَاءِ، وَهَذِهِ حِكْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا، وَتِلْكَ حِكْمَتُهُ وَرَحْمَتُهُ فِي الْأُخْرَى. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّاعِرِ: رِيقُهُنَّ طَهُورُ فَوَصَفَ الرِّيقَ بِأَنَّهُ طَهُورٌ، وَهُوَ لَا يُطَهِّرُ، فَإِنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ الْمُبَالَغَةَ فِي وَصْفِ الرِّيقِ بِالطَّهُورِيَّةِ، أَرَادَ أَنَّهُ لِعُذُوبَتِهِ، وَتَعَلُّقِهِ بِالْقُلُوبِ، وَطِيبِهِ فِي النُّفُوسِ، وَسُكُونِ غَلِيلِ الْحُبِّ بِرَشْفِهِ، كَأَنَّهُ الْمَاءُ الطَّهُورُ.

وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ لَا تَثْبُتُ بِالْمَجَازَاتِ الشِّعْرِيَّةِ، فَإِنَّ الشُّعَرَاءَ يَتَجَاوَزُونَ فِي الِاسْتِغْرَاقِ حَدَّ الصِّدْقِ إلَى الْكَذِبِ، وَيَسْتَرْسِلُونَ فِي الْقَوْلِ حَتَّى يُخْرِجَهُمْ ذَلِكَ إلَى الْبِدْعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَرُبَّمَا وَقَعُوا فِي الْكُفْرِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ: لَوْ لَمْ تُلَامِسْ صَفْحَةُ الْأَرْضِ رِجْلَهَا ... لَمَا كُنْت أَدْرِي عِلَّةً لِلتَّيَمُّمِ وَهَذَا كُفْرٌ صُرَاحٌ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ. قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا مُنْتَهَى لُبَابِ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ بَالِغٌ فِي فَنِّهِ، إلَّا أَنِّي تَأَمَّلْتُهُ مِنْ طَرِيقِ الْعَرَبِيَّةِ فَوَجَدْتُ فِيهَا مَطْلَعًا شَرِيفًا، وَهُوَ أَنَّ بِنَاءَ " فَعُولٍ " لِلْمُبَالَغَةِ، إلَّا أَنَّ الْمُبَالَغَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: ضَرُوبٌ بِنَصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سِمَانِهَا وَقَدْ تَكُونُ فِي الْفِعْلِ الْقَاصِرِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: نَئُومُ الضُّحَى لَمْ تَنْتَطِقْ عَنْ تَفَضُّلِ فَوَصَفَهُ الْأَوَّلُ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الضَّرْبِ، وَهُوَ فِعْلٌ يَتَعَدَّى، وَوَصَفَهَا الثَّانِي بِالْمُبَالَغَةِ فِي النَّوْمِ، وَهُوَ فِعْلٌ لَا يَتَعَدَّى، وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ طَهُورِيَّةُ الْمَاءِ لِغَيْرِهِ مِنْ الْحُسْنِ نَظَافَةً، وَمِنْ الشَّرْعِ طَهَارَةً، كَقَوْلِهِ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ». وَقَدْ يَأْتِي بِنَاءُ " فَعُولٍ " لِوَجْهٍ آخَرَ، لَيْسَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، وَهُوَ الْعِبَارَةُ بِهِ عَنْ آلَةِ الْفِعْلِ لَا عَنْ الْفِعْلِ، كَقَوْلِنَا: وَقُودٌ وَسَحُورٌ بِفَتْحِ الْفَاءِ " فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْحَطَبِ وَعَنْ الطَّعَامِ الْمُتَسَحَّرِ بِهِ، وَكَذَلِكَ وَصْفُ الْمَاءِ بِأَنَّهُ طَهُورٌ يَكُونُ بِفَتْحِ الطَّاءِ أَيْضًا خَبَرًا عَنْ الْآلَةِ الَّتِي يُتَطَهَّرُ بِهَا.

مسألة الماء المستعمل في رفع الحدث لا يجوز الوضوء به مرة أخرى

فَإِذْ ضَمَمْت الْفَاءَ فِي الْوُقُودِ وَالسُّحُورِ وَالطُّهُورِ عَادَ إلَى الْفِعْلِ، وَكَانَ خَبَرًا عَنْهُ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ اسْمَ الْفَعُولِ بِفَتْحِ الْفَاءِ يَكُونُ بِنَاءً لِلْمُبَالَغَةِ، وَيَكُونُ خَبَرًا عَنْ الْآلَةِ، وَهَذَا الَّذِي خَطَرَ بِبَالِ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَكِنْ قَصُرَتْ أَشْدَاقُهَا عَنْ لَوْكِهِ، وَبَعْدَ هَذَا يَقِفُ الْبَيَانُ بِهِ عَنْ الْمُبَالَغَةِ، أَوْ عَنْ الْآلَةِ عَلَى الدَّلِيلِ، مِثَالُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]. وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا». وَيُحْتَمَلُ الْعِبَارَةُ بِهِ عَنْ الْآلَةِ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِعُلَمَائِنَا. [مَسْأَلَة الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ مَرَّةً أُخْرَى] لَكِنْ يَبْقَى قَوْلُهُ {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] نَصًّا فِي أَنَّ فِعْلَهُ مُتَعَدٍّ إلَى غَيْرِهِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ إنَّمَا أَوْجَبَ الْخِلَافَ فِيهَا مَا صَارَ إلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: حِينَ قَالُوا: إنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ مَرَّةً أُخْرَى؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ الَّذِي كَانَ فِي الْأَعْضَاءِ انْتَقَلَ إلَى الْمَاءِ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا حِينَئِذٍ: إنَّ وَصْفَ الْمَاءِ بِأَنَّهُ طَهُورٌ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ عَلَى رَسْمِ بِنَاءِ الْمُبَالَغَةِ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. وَإِنَّمَا تَنْبَنِي مَسْأَلَةُ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْآلَةَ إذَا أُدِّيَ بِهَا فَرْضٌ، هَلْ يُؤَدَّى بِهَا فَرْضٌ آخَرُ أَمْ لَا؟ فَمَنَعَ ذَلِكَ الْمُخَالِفَ قِيَاسًا عَلَى الرَّقَبَةِ، إنَّهُ إذَا أُدِّيَ بِهَا فَرْضُ عِتْقٍ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَتَكَرَّرَ فِي أَدَاءِ فَرْضٍ آخَرَ، وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ الْقَوْلِ، فَإِنَّ الْعِتْقَ إذَا أَتَى عَلَى الرِّقِّ أَتْلَفَهُ، فَلَا يَبْقَى مَحَلٌّ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ بِعِتْقٍ آخَرَ. وَنَظِيرُهُ مِنْ الْمَاءِ مَا تَلِفَ عَلَى الْأَعْضَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُؤَدَّى بِهِ فَرْضٌ آخَرُ لِتَلَفِ عَيْنِهِ حِسًّا، كَمَا تَلِفَ الرِّقُّ فِي الرَّقَبَةِ بِالْعِتْقِ الْأَوَّلِ حُكْمًا، وَهَذَا نَفِيسٌ فَتَأَمَّلُوهُ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا مَرِيضٌ لَا أَعْقِلُ، فَتَوَضَّأَ فَصَبَّ عَلَيَّ مِنْ وُضُوئِهِ، فَأَفَقْت». وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْفَاضِلَ عَنْ الْوُضُوءِ وَالْجَنَابَةِ طَاهِرٌ، لَا عَلَى طَهَارَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، كَمَا تَوَهَّمَهُ عُلَمَاؤُنَا، وَهَذَا خَطَأٌ فَاحِشٌ فَتَأَمَّلُوهُ.

مسألة والمخالط للماء على ثلاثة أضرب

[مَسْأَلَة وَالْمُخَالِطُ لِلْمَاءِ عَلَى ثَلَاثَة أضرب] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] وَكَانَ الْمَاءُ مَعْلُومًا بِصِفَةِ طَعْمِهِ وَرِيحِهِ وَلَوْنِهِ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: إذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا خِلَافَ فِي طَهُورِيَّتِهِ، فَإِذَا انْتَقَلَ عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ إلَى غَيْرِهِ بِتَغَيُّرِ وَصْفٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ خَرَجَ عَنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ وَصْفُ الطَّهُورِيَّةِ. وَالْمُخَالِطُ لِلْمَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: ضَرْبٌ يُوَافِقُهُ فِي صِفَتَيْهِ جَمِيعًا: وَهِيَ الطَّهَارَةُ وَالتَّطْهِيرُ، فَإِذَا خَالَطَهُ فَغَيْرُهُ لَمْ يَسْلُبْهُ وَصْفًا مِنْهُمَا، لِمُوَافَقَتِهِ لَهُ فِيهِمَا، وَهُوَ التُّرَابُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي يُوَافِقُ الْمَاءَ فِي إحْدَى صِفَتَيْهِ، وَهِيَ الطَّهَارَةُ، وَلَا يُوَافِقُهُ فِي صِفَتِهِ الْأُخْرَى، وَهِيَ التَّطْهِيرُ، فَإِذَا خَالَطَهُ فَغَيْرُهُ سَلَبَهُ مَا خَالَفَهُ فِيهِ، وَهُوَ التَّطْهِيرُ، دُونَ مَا وَافَقَهُ، وَهِيَ الطَّهَارَةُ، كَمَاءِ الْوَرْدِ وَسَائِرِ الطِّهَارَاتِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ مُخَالَفَتُهُ فِي الصِّفَتَيْنِ جَمِيعًا: وَهِيَ الطَّهَارَةُ وَالتَّطْهِيرُ، فَإِذَا خَالَطَهُ فَغَيْرُهُ سَلَبَهُ الصِّفَتَيْنِ جَمِيعًا، لِمُخَالَفَتِهِ لَهُ فِيهِمَا، وَهُوَ النَّجَسُ. وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَكُتُبِ الْفُرُوعِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا وَقَعَتْ نَجَاسَةٌ فِي مَاءٍ أَفْسَدَتْهُ كُلَّهُ، كَثِيرًا كَانَ أَوْ قَلِيلًا، إذَا تَحَقَّقَتْ عُمُومُ النَّجَاسَةِ فِيهِ. وَوَجْهُ تَحَقُّقِهَا عِنْدَهُ أَنْ تَقَعَ مَثَلًا نُقْطَةُ بَوْلٍ فِي بِرْكَةِ مَاءٍ، فَإِنْ كَانَتْ الْبِرْكَةُ يَتَحَرَّكُ طَرَفَاهَا بِتَحْرِيكِ أَحَدِهِمَا فَالْكُلُّ نَجِسٌ، وَإِنْ كَانَتْ حَرَكَةُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ لَا تُحَرِّكُ الْآخَرَ لَمْ يُنَجَّسْ وَالْمِصْرِيُّونَ، كَابْنِ الْقَاسِمِ وَغَيْرِهِ، يَقُولُونَ: إنَّ قَلِيلَ الْمَاءِ يُنَجِّسُهُ قَلِيلُ النَّجَاسَةِ. وَفِي الْمَجْمُوعَةِ نَحْوُهُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ بِحَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ، وَرَوَاهُ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، حُسْنَ ظَنٍّ بِهِ، وَهُوَ مَطْعُونٌ فِيهِ. وَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ.

مسألة الماء إذا تغير بقراره

وَقَدْ رَامَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى إمَامَتِهِ أَنْ يُصَحِّحَ حَدِيثَ الْقُلَّتَيْنِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ، وَاغْتَصَّ بِجُرَيْعَةِ الذَّقَنِ فِيهَا، فَلَا تَعْوِيلَ عَلَيْهِ، حَسْبَمَا مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. كَمَا تَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا أَيْضًا فِي مَذْهَبِهِمْ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي بِئْرِ بُضَاعَةَ الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمْ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ وَمَا يُطْرَحُ فِيهَا مِنْ الْجِيَفِ وَالنَّتِنِ، وَمَا يُنْجِي النَّاسُ، فَقَالَ: الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ». وَهَذَا أَيْضًا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا قَدَمَ لَهُ فِي الصِّحَّةِ ، فَلَا تَعْوِيلَ عَلَيْهِ. وَقَدْ فَاوَضْت الطُّوسِيَّ الْأَكْبَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِرَارًا، فَقَالَ: إنَّ أَخْلَصَ الْمَذَاهِبِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبُ مَالِكٍ، فَإِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ أَحَدُ أَوْصَافِهِ، إذْ لَا حَدِيثَ فِي الْبَابِ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْمُعَوَّلُ عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]، وَهُوَ مَا دَامَ بِصِفَاتِهِ، فَإِذَا تَغَيَّرَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا خَرَجَ عَنْ الِاسْمِ بِخُرُوجِهِ عَنْ الصِّفَةِ " وَلِذَلِكَ لَمَّا لَمْ يَجِدْ الْبُخَارِيُّ إمَامُ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ فِي الْبَابِ خَبَرًا صَحِيحًا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ قَالَ: " بَابُ إذَا تَغَيَّرَ وَصْفُ الْمَاءِ " وَأَدْخَلَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ، إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ». فَأَخْبَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الدَّمَ بِحَالِهِ، وَعَلَيْهِ رَائِحَةُ الْمِسْكِ، وَلَمْ تُخْرِجْهُ الرَّائِحَةُ عَنْ صِفَةِ الدَّمَوِيَّةِ. وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إذَا تَغَيَّرَ الْمَاءُ بِرِيحِ جِيفَةٍ عَلَى طَرَفَيْهِ وَسَاحِلِهِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ الْوُضُوءِ بِهِ، وَلَوْ تَغَيَّرَ بِهَا وَقَدْ وَقَعَتْ فِيهِ لَكَانَ ذَلِكَ تَنْجِيسَهُ لَهُ لِلْمُخَالَطَةِ، وَالْأُولَى مُجَاوَرَةٌ لَا تَعْوِيلَ عَلَيْهَا. [مَسْأَلَة الْمَاءُ إذَا تَغَيَّرَ بِقَرَارِهِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: ثُمَّ تَرَكَّبَ عَلَى هَذَا مَسْأَلَةٌ بَدِيعَةٌ، وَهِيَ الْمَاءُ إذَا تَغَيَّرَ بِقَرَارِهِ كَزِرْنِيخٍ أَوْ جِيرٍ يَجْرِي

مسألة لم يلحق غير الماء بالماء لوجهين

عَلَيْهِ، أَوْ تَغَيَّرَ بِطُحْلُبٍ أَوْ بِوَرَقِ شَجَرٍ يَنْبُتُ عَلَيْهِ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، فَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْوُضُوءِ بِهِ، لِعَدَمِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى مِنْهُ يَعْنِي إذَا وَجَدَهُ، فَإِذَا لَمْ يَجِدْ سِوَاهُ اسْتَعْمَلَهُ؛ لِأَنَّ مَا يُغْلَبُ عَلَيْهِ الْمَرْءُ فِي بَابِ التَّكْلِيفِ، وَلَا يُمْكِنُهُ التَّوَقِّي مِنْهُ، فَإِنَّهُ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا. وَلِذَلِكَ لَمَّا كَانَ الْعَبْدُ لَا يَسْتَطِيعُ النُّزُوعَ عَنْ صَغَائِرِ الذُّنُوبِ، وَلَا يُمْكِنُ بَشَرًا الِاحْتِرَازُ مِنْهَا لَمْ تُؤَثِّرْ فِي عَدَالَتِهِ، وَلَمَّا كَانَتْ الْكَبَائِرُ يُمْكِنُ التَّوَقِّي مِنْهَا وَالِاحْتِرَازُ عَنْهَا قَدَحَتْ فِي الْعَدَالَةِ وَالْأَمَانَةِ، وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ الْكَثِيرُ فِي الصَّلَاةِ لَمَّا كَانَ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ مُمْكِنًا بَطَلَتْ الصَّلَاةُ بِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْعَمَلُ الْيَسِيرُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ كَالِالْتِفَاتِ بِالرَّأْسِ وَحْدَهُ وَالْمُرَاوَحَةِ بَيْنَ الْأَقْدَامِ، وَتَحْرِيكِ الْأَجْفَانِ، وَتَقْلِيبِ الْيَدِ، لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ. وَهَذِهِ قَاعِدَةُ الشَّرِيعَةِ فِي بَابِ التَّكْلِيفِ كُلِّهِ، فَعَلَيْهِ خَرَجَ تَغَيُّرُ الْمَاءِ بِمَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ عَنْ تَغَيُّرِهِ بِمَا لَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَة لَمْ يَلْحَقْ غَيْرُ الْمَاءِ بِالْمَاءِ لِوَجْهَيْنِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: لَمَّا وَصَفَ اللَّهُ الْمَاءَ بِأَنَّهُ طَهُورٌ، وَامْتَنَّ بِإِنْزَالِهِ مِنْ السَّمَاءِ لِيُطَهِّرَنَا بِهِ دَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قَالَ لِأَسْمَاءِ بِنْتِ الصِّدِّيقِ فِي دَمِ الْحَيْضِ يُصِيبُ الثَّوْبَ: «حُتِّيهِ ثُمَّ اُقْرُصِيهِ، ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ»، فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْحَقْ غَيْرُ الْمَاءِ بِالْمَاءِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا فِي ذَلِكَ مِنْ إبْطَالِ فَائِدَةِ الِامْتِنَانِ. وَالثَّانِي: لِأَنَّ غَيْرَ الْمَاءِ لَيْسَ بِمُطَهِّرٍ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَالْجَنَابَةَ، فَلَا يُزِيلُ النَّجَسَ. وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ: إنَّ كُلَّ مَائِعٍ طَاهِرٍ يُزِيلُ النَّجَاسَةَ، وَهَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ فَكَيْفَ يَدْفَعُهَا عَنْ غَيْرِهِ.

مسألة الماء إذا فضلت للجنب منه فضلة

وَقَدْ رَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ النَّجَاسَةَ الْقَلِيلَةَ إذَا وَقَعَتْ فِي الزَّيْتِ الْكَثِيرِ لَمْ يُنَجَّسْ إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ. وَهَذِهِ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا " لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحِ «سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ، فَقَالَ: إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ». وَفِي رِوَايَةٍ: «وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَأَرِيقُوهُ». وَقَوْلُهُ: «إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا تُفْسِدُ الْمَائِعَ؛ لِأَنَّهُ عُمُومٌ سُئِلَ عَنْهُ، فَخَصَّ أَحَدَ صِنْفَيْهِ بِالْجَوَازِ، وَبَقِيَ الْآخَرُ عَلَى الْمَنْعِ. وَلَيْسَ هَذَا بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَهَذِهِ نُكْتَةٌ بَدِيعَةٌ تَفْهَمُونَهَا، فَهِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ كِتَابٍ، وَلَيْسَتْ النَّجَاسَةُ مَعْنًى مَحْسُوسًا، حَتَّى يُقَالَ: كُلَّمَا أَزَالَهَا فَقَدْ قَامَ بِهِ الْفَرْضُ، وَإِنَّمَا النَّجَاسَةُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ عَيَّنَ لَهُ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ الْمَاءَ، فَلَا يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ، إذْ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَحِقَ بِهِ لَأَسْقَطَهُ، وَالْفَرْعُ إذَا عَادَ إلْحَاقُهُ بِالْأَصْلِ بِالْإِسْقَاطِ سَقَطَ فِي نَفْسِهِ. وَقَدْ كَانَ تَاجُ السُّنَّةِ ذُو الْعِزِّ بْنُ الْمُرْتَضَى الدَّبُوسِيُّ يُسَمِّيهِ فَرْخَ زِنَا. [مَسْأَلَة الْمَاءَ إذَا فَضَلَتْ لِلْجُنُبِ مِنْهُ فَضْلَةٌ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: تَوَهَّمَ قَوْمٌ أَنَّ الْمَاءَ إذَا فَضَلَتْ لِلْجُنُبِ مِنْهُ فَضْلَةٌ أَنَّهُ لَا يَتَوَضَّأُ بِهَا، وَهَذَا مَذْهَبٌ بَاطِلٌ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ «مَيْمُونَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَجْنَبْت أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاغْتَسَلْت مِنْ جَفْنَةٍ، وَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَغْتَسِلَ مِنْهَا. فَقُلْت: إنِّي قَدْ اغْتَسَلْت مِنْهُ. فَقَالَ: إنَّ الْمَاءَ لَيْسَ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ» أَوْ: «إنَّ الْمَاءَ لَا يُجْنِبُ». وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ.

مسألة كان الماء طاهرا مطهرا على أصله فولغ فيه كلب

[مَسْأَلَة كَانَ الْمَاءُ طَاهِرًا مُطَهَّرًا عَلَى أَصْلِهِ فَوَلَغَ فِيهِ كَلْبٌ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: إذَا كَانَ الْمَاءُ طَاهِرًا مُطَهَّرًا عَلَى أَصْلِهِ فَوَلَغَ فِيهِ كَلْبٌ فَسَدَ عِنْدَ جُمْهُورِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَاغْسِلُوهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ». وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ، وَلَا أَدْرِي مَا حَقِيقَتُهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ حَقِيقَتَهُ، وَأَنَّ الْإِنَاءَ يُغْسَلُ عِبَادَةً، لَا لِنَجَاسَةٍ بِدَلِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْغَسْلَ مَعْدُودٌ بِسَبْعٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ لِلتُّرَابِ فِيهَا مَدْخَلًا، وَلَوْ كَانَ لِنَجَاسَةٍ لَمَا كَانَ لِلتُّرَابِ فِيهَا مَدْخَلٌ، كَالْبَوْلِ، عَكْسُهُ الْوُضُوءُ لَمَّا كَانَ عِبَادَةً دَخَلَ التُّرَابُ مَعَ الْمَاءِ. وَرَأَى مَالِكٌ طَرْحَ الْمَاءِ تَقَذُّرًا لَا تَنَجُّسًا، أَوْ حَسْمًا لِمَادَّةِ الْخِلَافِ؛ أَوْ لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يَأْكُلُ الْأَقْذَارَ، وَلَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ، فَيَكُونُ مِنْ الطَّوَّافِينَ أَوْ الطَّوَّافَاتِ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْقَوْلَ عَلَيْهِ فِي الْفِقْهِ. [مَسْأَلَة إذَا وَلَغَتْ السِّبَاعُ فِي الْمَاءِ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إذَا وَلَغَتْ السِّبَاعُ فِي الْمَاءِ: كُلُّ حَيَوَانٍ عِنْدَ مَالِكٍ طَاهِرُ الْعَيْنِ حَتَّى الْخِنْزِيرِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَلَكِنْ تَحَرَّرَ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ أَسْآرَ السِّبَاعِ مَكْرُوهَةٌ، لِمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلْبِ، مِنْ أَنَّهَا تُصِيبُ النَّجَاسَاتِ، وَلَيْسَتْ مِنْ الطَّوَّافِينَ وَلَا مِنْ الطَّوَّافَاتِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَسْآرُ السِّبَاعِ نَجِسَةٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حِيَاضٍ

تَكُونُ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ تَرِدُهَا السِّبَاعُ وَفِي رِوَايَةٍ: وَالْكِلَابُ فَقَالَ: لَهَا مَا حَمَلَتْ فِي بُطُونِهَا، وَلَنَا مَا بَقِيَ غَيْرَ شَرَابٍ وَطَهُورٍ». وَفِي الْمُوَطَّأِ أَنَّ عُمَرَ وَعَمْرًا وَقَفَا عَلَى حَوْضٍ، فَقَالَ عَمْرٌو: يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ، هَلْ تَرِدُ حَوْضَك السِّبَاعُ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ، لَا تُخْبِرْنَا، فَإِنَّا نَرِدُ عَلَى السِّبَاعِ، وَتَرِدُ عَلَيْنَا. وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ كَانَ كَثِيرًا، وَلَوْ كَانَ قَلِيلًا لَكَانَ لِلْمَسْأَلَةِ حُكْمٌ قَدَّمْنَاهُ قَبْلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ امْرَأَةً دَخَلَتْ عَلَيْهِ مَعَ نِسْوَةٍ، فَقَالَ: لَوْ أَنِّي سَقَيْتُكُنَّ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ لَكَرِهْتُنَّ ذَلِكَ. وَقَدْ وَاَللَّهِ سَقَيْت مِنْهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدَيَّ. وَهَذَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَاءَهَا كَانَ كَثِيرًا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ مَحَائِضُ النِّسَاءِ، وَعَذِرَاتُ النَّاسِ، وَلُحُومُ الْكِلَابِ. وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت قُتَيْبَةَ بْنَ سَعِيدٍ قَالَ: سَأَلْت قَيِّمَ بِئْرِ بُضَاعَةَ عَنْ عُمْقِهَا، قُلْت: مَا أَكْثَرُ مَا يَكُونُ الْمَاءُ فِيهَا؟ قَالَ: إلَى الْعَانَةِ. قُلْت: فَإِذَا نَقَصَ مَاؤُهَا؟ قَالَ: إلَى الْعَوْرَةِ قَالَ أَبُو دَاوُد: فَقَدَّرْتهَا بِرِدَائِي مَدَدْتُهُ عَلَيْهَا ثُمَّ ذَرَعْتُهُ فَإِذَا عَرْضُهَا سِتَّةُ أَذْرُعٍ. وَسَأَلْت الَّذِي فَتَحَ لِي بَابَ الْبُسْتَانِ فَأَدْخَلَنِي إلَيْهَا: هَلْ غُيِّرَ بِنَاؤُهَا عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: لَا. قَالَ أَبُو دَاوُد: وَرَأَيْت مَاءَهَا مُتَغَيِّرَ اللَّوْنِ جِدًّا. قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تَغَيَّرَ مَاؤُهَا؛ لِأَنَّهَا فِي وَسَطِ السَّبَخَةِ، فَمَاؤُهَا يَكُونُ قَرَارَهَا. وَبُضَاعَةُ دُورُ بَنِي سَاعِدَةَ، وَلَهَا يَقُولُ أَبُو أُسَيْدَ مَالِكُ بْنُ رَبِيعَةَ السَّاعِدِيُّ:

مسألة ورود النجاسة على الماء ليس كورود الماء على النجاسة

نَحْنُ حَمَيْنَا عَنْ بُضَاعَةَ كُلِّهَا ... وَنَحْنُ بَنَيْنَا مَعْرِضًا هُوَ مُشْرِفُ فَأَصْبَحَ مَعْمُورًا طَوِيلًا قَذَالُهُ ... وَتَخْرَبُ آطَامٌ بِهَا وَتَقَصَّفُ [مَسْأَلَة وُرُودَ النَّجَاسَةِ عَلَى الْمَاءِ لَيْسَ كَوُرُودِ الْمَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ فِي أَحْكَامِ الْمِيَاهِ أَنَّ وُرُودَ النَّجَاسَةِ عَلَى الْمَاءِ لَيْسَ كَوُرُودِ الْمَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ». فَمَنَعَ مِنْ وُرُودِ الْيَدِ عَلَى الْمَاءِ، وَأَمَرَ بِإِيرَادِ الْمَاءِ عَلَيْهَا، وَهَذَا أَصْلٌ بَدِيعٌ فِي الْبَابِ، وَلَوْلَا وُرُودُهُ عَلَى النَّجَاسَةِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا لَمَا طَهُرَتْ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ فِي الْمَسْجِدِ: «صُبُّوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ». رُوِيَ «أَنَّ أَعْرَابِيًّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ، فَبَايَعَهُ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ قَامَ فَفَشَجَ يَعْنِي فَرَّجَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ، فَبَالَ فِي الْمَسْجِدِ، فَعَجَّلَ النَّاسُ إلَيْهِ؟ فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تُزْرِمُوهُ ثُمَّ دَعَا بِهِ، فَقَالَ أَلَسْت بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَمَا حَمَلَك عَلَى أَنْ بُلْت فِي مَسْجِدِنَا؟ قَالَ: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا ظَنَنْت إلَّا أَنَّهُ صَعِيدٌ مِنْ الصُّعُدَاتِ، فَبُلْت فِيهِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَصُبَّ عَلَى بَوْلِهِ».

مسألة المعول في إزالة النجاسة

وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرِهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِحَفْرِ مَوْضِعِ بَوْلِهِ، وَطَرْحِهِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ». [مَسْأَلَة الْمُعَوَّلُ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: رَأَى جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الدَّلْوَ يَكْفِي لِبَوْلِ الرَّجُلِ فِي إزَالَةِ عَيْنِهِ وَطَهَارَةِ مَوْضِعِهِ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ؛ لِأَنَّ الدَّلْوَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، وَمَا لَمْ يَكُنْ مُقَدَّرًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ تَعَلَّقَ بِحَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ، وَجَعَلَهُ تَقْدِيرًا، وَخَفِيَ عَلَيْهِ أَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْحَدِيثَ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّقَ عَلَيْهِ الْحُكْمَ، وَهُوَ مَجْهُولٌ سَاقِطٌ، إذْ لَوْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّقَ عَلَيْهِ الْحُكْمَ لَعَلَّقَهُ عَلَى مَعْلُومٍ، كَمَا عُلِمَ الصَّاعُ وَالْوَسْقُ، حَتَّى كَانَ الْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ شَرْعًا، الْمُقَدَّرُ بِهِ صَحِيحًا. وَإِنَّمَا الْمُعَوَّلُ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي صَبِّ الْمَاءِ، حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهَا زَالَتْ. [مَسْأَلَة الْوُضُوءِ بِمَاءِ الْبَحْرِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] تَوَقَّفَ جَمَاعَةٌ فِي مَاءِ الْبَحْرِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُنَزَّلٍ مِنْ السَّمَاءِ، حَتَّى رَوَوْا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَمْرٍو مَعًا أَنَّهُ لَا يُتَوَضَّأُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مَاءُ نَارٍ، وَلِأَنَّهُ طَبَقُ جَهَنَّمَ. وَلَكِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ حُكْمَهُ حِينَ قَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ جَوَازِ الْوُضُوءِ بِهِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ». وَهَذَا أَصَحُّ مِمَّا يُنْسَبُ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُمَا قَالَا: لَا يُتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ عَلَى نَارٍ، وَالنَّارَ عَلَى مَاءٍ، وَالْمَاءَ عَلَى نَارٍ حَتَّى عَدَّ سَبْعَةَ أَبْحُرٍ، وَسَبْعَةَ أَنْوَارٍ. وَأَبُو هُرَيْرَةَ هُوَ رَاوِي حَدِيثِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ». وَقَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ فِي الْبَحْرِ: " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ ". وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ الْوُضُوءِ بِمَاءِ الْبَحْرِ، فَقَالَ: إنَّمَا هُمَا بَحْرَانِ، فَلَا يَضُرُّك بِأَيِّهِمَا بَدَأْت.

الآية الرابعة قوله تعالى وهو الذي خلق من الماء بشرا

وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ سَعِيدٍ الْجَارِمِيِّ قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو عَنْ الْحِيتَانِ يَقْتُلُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَعَنْ مَاءِ الْبَحْرِ، فَلَمْ يَرَيَا بِذَلِكَ بَأْسًا. [الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَرًا] فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان: 54]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي النَّسَبِ: وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَرْجِ الْمَاءِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى عَلَى وَجْهِ الشَّرْعِ. فَإِنْ كَانَ بِمَعْصِيَةٍ كَانَ خَلْقًا مُطْلَقًا، وَلَمْ يَكُنْ نَسَبًا مُحَقَّقًا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ قَوْلِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] بِنْتُهُ مِنْ الزِّنَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِبِنْتٍ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ لِعُلَمَائِنَا، وَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ فِي الدِّينِ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {وَصِهْرًا} [الفرقان: 54] أَمَّا النَّسَبُ فَهُوَ مَا بَيْنَ الْوَطْأَيْنِ مَوْجُودًا، وَأَمَّا الصِّهْرُ فَهُوَ مَا بَيْنَ وَشَائِجِ الْوَاطِئَيْنِ مَعًا، الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَهُمْ الْأَحْمَاءُ وَالْأَخْتَانُ. وَالصِّهْرُ يَجْمَعُهُمَا لَفْظًا وَاشْتِقَاقًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ نَسَبٌ شَرْعًا فَلَا صِهْرَ شَرْعًا، فَلَا يُحَرِّمُ الزِّنَا بِبِنْتٍ أُمًّا، وَلَا بِأُمٍّ بِنْتًا، وَمَا يُحَرَّمُ مِنْ الْحَلَالِ لَا يُحَرَّمُ مِنْ الْحَرَامِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ امْتَنَّ بِالنَّسَبِ وَالصِّهْرِ عَلَى عِبَادِهِ، وَرَفَعَ قَدْرَهُمَا، وَعَلَّقَ الْأَحْكَامَ فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ عَلَيْهِمَا، فَلَا يَلْحَقُ الْبَاطِلُ بِهِمَا وَلَا يُسَاوِيهِمَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الزِّنَا يُحَرِّمُ الْمُصَاهَرَةَ، وَهَذَا كِتَابُهُ الْمُوَطَّأُ الَّذِي كَتَبَهُ بِخَطِّهِ، وَأَمْلَاهُ عَلَى طَلَبَتِهِ، وَقَرَأَهُ مِنْ صَبْوَتِهِ إلَى مَشْيَخَتِهِ لَمْ يُغَيِّرْ فِيهِ ذَلِكَ، وَلَا قَالَ فِيهِ قَوْلًا آخَرَ. وَاكْتُبُوا عَنِّي هَكَذَا. وَابْنُ الْقَاسِمِ الَّذِي يُحَرِّمُ الْمُصَاهَرَةَ بِالزِّنَا قُرِئَ ضِدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي الْمُوَطَّأِ، فَلَا يُتْرَكُ الظَّاهِرُ لِلْبَاطِنِ، وَلَا الْقَوْلُ الْمَرْوِيُّ مِنْ أَلْفٍ لِلْمَرْوِيِّ مِنْ وَاحِدٍ، وَآحَادٍ، وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.

الآية الخامسة قوله تعالى وتوكل على الحي الذي لا يموت

[الْآيَة الْخَامِسَة قَوْله تَعَالَى وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ] ُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 58]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي التَّوَكُّلِ: وَهُوَ تَفَعُّلٌ مِنْ الْوَكَالَةِ، أَيْ اتَّخِذْهُ وَكِيلًا. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْأَمَدِ، وَهُوَ إظْهَارُ الْعَجْزِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الْغَيْرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَصْلُ هَذَا عِلْمُ الْعَبْدِ بِأَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ كُلَّهَا مِنْ اللَّهِ، لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى الْإِيجَادِ سِوَاهُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مُرَادٌ، وَعَلِمَ أَنَّهُ بِيَدِ الَّذِي لَا يَكُونُ إلَّا مَا أَرَادَ، جَعَلَ لَهُ أَصْلَ التَّوَكُّلِ، وَهَذَا فَرْضُ عَيْنٍ، وَبِهِ يَصِحُّ الْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ شَرْطُ التَّوَكُّلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يَتَرَكَّبُ عَلَى هَذَا مِنْ سُكُونِ الْقَلْبِ، وَزَوَالِ الِانْزِعَاجِ وَالِاضْطِرَابِ، أَحْوَالٌ تَلْحَقُ بِالتَّوَكُّلِ فِي كَمَالِهِ، وَلِهَذِهِ الْأَحْوَالِ أَقْسَامٌ، وَلِكُلِّ قِسْمٍ اسْمٌ: الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يَكْتَفِيَ بِمَا فِي يَدِهِ، لَا يَطْلُبُ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ، وَاسْمُهُ الْقَنَاعَةُ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكْتَسِبَ زِيَادَةً عَلَى مَا فِي يَدِهِ، وَلَا يَنْفِي ذَلِكَ التَّوَكُّلَ عِنْدَنَا. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ، كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا». فَإِنْ قِيلَ: هَذَا حُجَّةٌ عَلَيْك؛ لِأَنَّ الطَّيْرَ لَا تَزِيدُ عَلَى مَا فِي الْيَدِ وَلَا تَدَّخِرُ لِغَدٍ. قُلْنَا: إنَّمَا الِاحْتِجَاجُ بِالْغُدُوِّ، وَالرَّوَاحُ الِاعْتِمَالُ فِي الطَّلَبِ.

الآية السادسة قوله تعالى وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة

فَإِنْ قِيلَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: تَغْدُو فِي الطَّاعَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132]. قُلْنَا: إنَّمَا أَرَادَ بِالْغُدُوِّ الِاغْتِدَاءَ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، فَأَمَّا الْإِقْبَالُ عَلَى الْعِبَادَةِ وَهِيَ الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ، وَهُوَ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى الْعِبَادَةِ وَيَتْرُكَ طَلَبَ الْعَادَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَفْتَحُ لَهُ. وَعَلَى هَذَا كَانَ أَهْلُ الصُّفَّةِ، وَهَذَا حَالَةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا أَكْثَرُ الْخَلْقِ، وَبَعْدَ هَذَا مَقَامَاتٌ فِي التَّفْوِيضِ وَالِاسْتِسْلَامِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ أَنْوَارِ الْفَجْرِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [الْآيَة السَّادِسَة قَوْله تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً] ً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ الْخِلْفَةِ: وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ جَعَلَ أَحَدَهُمَا مُخَالِفًا لِلْآخَرِ، يَتَضَادَّانِ، وَيَتَعَارَضَانِ وَضْعًا وَوَقْتًا، وَبِذَلِكَ نُمَيِّزُ. الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا مَضَى وَاحِدٌ جَاءَ آخَرُ، وَمِنْهُ قَوْلُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: بِهَا الْعِيسُ وَالْآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً وَأَطْلَاؤُهَا يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَمٍ الثَّالِثُ: مَعْنَى خِلْفَةٍ: مَا فَاتَ فِي هَذَا خَلَفَهُ فِي هَذَا. فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَا مِنْ امْرِئٍ تَكُونُ لَهُ صَلَاةٌ بِلَيْلٍ، فَغَلَبَهُ عَلَيْهَا نَوْمٌ، فَيُصَلِّي مَا بَيْنَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ إلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَجْرَ صَلَاتِهِ، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ».

مسألة قوله تعالى لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا

سَمِعْت ذَا الشَّهِيدَ الْأَكْبَرَ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْعَبْدَ حَيًّا، وَبِذَلِكَ كَمَالُهُ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِ آفَةَ النَّوْمِ، وَضَرُورَةَ الْحَدَثِ، وَنُقْصَانَ الْخِلْقَةِ، إذْ الْكَمَالُ لِلْأَوَّلِ الْخَالِقِ، فَمَا أَمْكَنَ الرَّجُلُ مِنْ دَفْعِ النَّوْمِ بِقِلَّةِ الْأَكْلِ وَالسَّهَرِ فِي الطَّاعَةِ فَلْيَفْعَلْ. وَمِنْ الْغَبْنِ الْعَظِيمِ أَنْ يَعِيشَ الرَّجُلُ سِتِّينَ سَنَةً يَنَامُ لَيْلَهَا، فَيَذْهَبُ النِّصْفُ مِنْ عُمْرِهِ لَغْوًا، وَيَنَامُ نَحْوَ سُدُسِ النَّهَارِ رَاحَةً، فَيَذْهَبُ ثُلُثَاهُ، وَيَبْقَى لَهُ مِنْ الْعُمْرِ عِشْرُونَ سَنَةً. وَمِنْ الْجَهَالَةِ وَالسَّفَاهَةِ أَنْ يُتْلِفَ الرَّجُلُ ثُلُثَيْ عُمْرِهِ فِي لَذَّةٍ فَانِيَةٍ، وَلَا يُتْلِفُ عُمْرَهُ بِسَهَرِهِ فِي لَذَّةٍ بَاقِيَةٍ عِنْدَ الْغَنِيِّ الْوَفِيِّ الَّذِي لَيْسَ بِعَدِيمٍ وَلَا ظَلُومٍ. [مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]: فَيَعْمَلُ وَيَشْكُرُ قَدْرَ النِّعْمَةِ فِي دَلَالَةِ التَّضَادِّ عَلَى الَّذِي لَا ضِدَّ لَهُ، وَفِي دَلَالَةِ الْمُعَاقَبَةِ عَلَى الَّذِي يُعْدَمُ فَيَعْقُبُهُ غَيْرُهُ، وَعَلَى الْفُسْحَةِ فِي قَضَاءِ الْفَائِتِ مِنْ الْعَمَلِ لِتَحْصِيلِ الْمَوْعُودِ مِنْ الثَّوَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ إنَّ الْأَشْيَاءَ لَا تَتَفَاضَلُ بِأَنْفُسِهَا، فَإِنَّ الْجَوَاهِرَ وَالْأَعْرَاضَ مِنْ حَيْثُ الْوُجُودِ مُتَمَاثِلَةٌ، وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّفَاضُلُ بِالصِّفَاتِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ أَيُّ الْوَقْتَيْنِ أَفْضَلُ، اللَّيْلُ أَمْ النَّهَارُ؟ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ أَنْوَارِ الْفَجْرِ فَضِيلَةَ النَّهَارِ عَلَيْهِ، وَفِي الصَّوْمِ غُنْيَةً فِي الدَّلَالَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة السَّابِعَة قَوْله تَعَالَى وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا] وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان: 63]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {هَوْنًا} [الفرقان: 63] الْهَوْنُ: هُوَ الرِّفْقُ وَالسُّكُونُ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْعِلْمِ وَالْحِلْمِ وَالتَّوَاضُعِ، لَا بِالْمَرِحِ وَالْكِبْرِ، وَالرِّيَاءِ وَالْمَكْرِ، وَفِي مَعْنَاهُ قُلْت:

تَوَاضَعْت فِي الْعَلْيَاءِ وَالْأَصْلُ كَابِرٌ ... وَحُزْت نِصَابَ السَّبْقِ بِالْهَوْنِ فِي الْأَمْرِ سُكُونٌ فَلَا خُبْثَ السَّرِيرَةِ أَصْلُهُ ... وَجُلُّ سُكُونِ النَّاسِ مِنْ عِظَمِ الْمَكْرِ وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَإِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ فِي الْإِيضَاعِ». وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُسْرِعُ جِبِلَّةً لَا تَكَلُّفًا. وَالْقَصْدُ وَالتُّؤَدَةُ وَحُسْنُ الصَّمْتِ مِنْ أَخْلَاقِ النُّبُوَّةِ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي قَبَسِ الْمُوَطَّأِ. وَقَدْ قِيلَ: مَعْنَاهُ يَمْشُونَ رِفْقًا مِنْ ضَعْفِ الْبَدَنِ، قَدْ بَرَاهُمْ الْخَوْفُ، وَأَنْحَلَتْهُمْ الْخَشْيَةُ، حَتَّى صَارُوا كَأَنَّهُمْ الْفِرَاخُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان: 63] اُخْتُلِفَ فِي الْجَاهِلِينَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ الْكُفَّارُ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ السُّفَهَاءُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {سَلامًا} [الفرقان: 63] فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى حَسَنٍ وَسَدَادٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَوْلُ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَمْ يُؤْمَرْ الْمُسْلِمُونَ يَوْمئِذٍ أَنْ يُسَلِّمُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنَّهُ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِمْ: [تَسَلُّمُنَا مِنْكُمْ] وَلَا خَيْرَ بَيْنَنَا وَلَا شَرَّ. قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلَا نُهُوا عَنْ ذَلِكَ، بَلْ أُمِرُوا بِالصَّفْحِ وَالْهَجْرِ الْجَمِيلِ، وَقَدْ كَانَ مَنْ سَلَفَ مِنْ الْأُمَمِ فِي دِينِهِمْ التَّسْلِيمُ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ. وَفِي الإسرائليات: إنَّ عِيسَى مَرَّ بِهِ خِنْزِيرٌ فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ بِسَلَامٍ حِينَ لَمْ يَقُلْ وَهُوَ لَا يَعْقِلُ السَّلَامُ.

الآية الثامنة قوله تعالى والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا

فَأَمَّا الْكُفَّارُ فَكَانُوا يَفْعَلُونَهُ وَتَلِينُ جَوَانِبُهُمْ بِهِ؟ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقِفُ عَلَى أَنْدِيَتِهِمْ وَيُحَيِّيهِمْ وَيُدَانِيهِمْ وَلَا يُدَاهِنُهُمْ. فَيُحْتَمَلُ قَوْلُهُ: {قَالُوا سَلامًا} [الفرقان: 63] الْمَصْدَرَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ التَّحِيَّةَ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي سُورَةِ هُودٍ. وَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ السَّفِيهَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ إذَا جَفَاك يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ لَهُ سَلَامٌ عَلَيْك. وَهَلْ وُضِعَ السَّلَامُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إلَّا عَلَى مَعْنَى السَّلَامَةِ وَالتَّوَادِّ؟ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: سَلِمْت مِنِّي، فَأَسْلَمُ مِنْك. [الْآيَة الثَّامِنَة قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ إذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا] وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: {لَمْ يُسْرِفُوا} [الفرقان: 67] فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: لَمْ يُنْفِقُوا فِي مَعْصِيَةٍ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّانِي: لَمْ يُنْفِقُوا كَثِيرًا قَالَهُ إبْرَاهِيمُ. الثَّالِثُ: لَمْ يَتَمَتَّعُوا لِلنَّعِيمِ، إذَا أَكَلُوا لِلْقُوَّةِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَلَبِسُوا لِلسُّتْرَةِ الْوَاجِبَةِ، وَهُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهُ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ صِحَاحٌ، فَالنَّفَقَةُ فِي الْمَعْصِيَةِ حَرَامٌ، فَالْأَكْلُ وَاللُّبْسُ لِلَّذَّةِ جَائِزٌ، وَلِلتَّقْوَى وَالسَّتْرِ أَفْضَلُ، فَمَدَحَ اللَّهُ مَنْ أَتَى الْأَفْضَلَ، وَإِنْ كَانَ مَا تَحْتَهُ مُبَاحًا. وَإِذَا أَكْثَرَ رُبَّمَا افْتَقَرَ، فَالتَّمَسُّكُ بِبَعْضِ الْمَالِ أَوْلَى، كَمَا قَالَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي لُبَابَةَ وَلِكَعْبٍ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.

الآية التاسعة قوله تعالى والذين لا يشهدون الزور

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67] فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: لَمْ يَمْنَعُوا وَاجِبًا. الثَّانِي: لَمْ يَمْنَعُوا عَنْ طَاعَةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {قَوَامًا} [الفرقان: 67] يَعْنِي عَدْلًا؛ وَهُوَ أَنْ يُنْفِقَ الْوَاجِبَ، وَيَتَّسِعَ فِي الْحَلَالِ فِي غَيْرِ دَوَامٍ عَلَى اسْتِيفَاءِ اللَّذَّاتِ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ. [الْآيَة التَّاسِعَةُ قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ] َ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] فِيهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: الشِّرْكُ. الثَّانِي: الْكَذِبُ. الثَّالِثُ: أَعْيَادُ أَهْلِ الذِّمَّةِ. الرَّابِعُ: الْغِنَاءُ. الْخَامِسُ: لَعِبٌ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُسَمَّى بِالزُّورِ؛ قَالَ عِكْرِمَةُ. السَّادِسُ: أَنَّهُ الْمَجْلِسُ الَّذِي يُشْتَمُ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ مَجْلِسٌ يُشْتَمُ فِيهِ النَّبِيُّ فَهُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ الشِّرْكُ؛ لِأَنَّ شَتْمَ النَّبِيِّ شِرْكٌ، وَالْجُلُوسُ مَعَ مَنْ يَشْتُمُهُ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ وَلَا قَتْلٍ لَهُ شِرْكٌ.

مسألة معني اللغو

وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ الْكَذِبُ فَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ إلَى الْكَذِبِ يَرْجِعُ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ أَعْيَادُ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِنَّ فِصْحَ النَّصَارَى وَسَبْتَ الْيَهُودِ يُذْكَرُ فِيهِ الْكُفْرُ؛ فَمُشَاهَدَتُهُ كُفْرٌ، إلَّا لِمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الدِّينِيَّةِ، أَوْ عَلَى جَهْلٍ مِنْ الْمُشَاهِدِ لَهُ. وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ الْغِنَاءُ فَلَيْسَ يَنْتَهِي إلَى هَذَا الْحَدِّ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا أَمْرَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَقُلْنَا: إنَّ مِنْهُ مُبَاحًا وَمِنْهُ مَحْظُورًا. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَعِبٌ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّمَا يَحْرُمُ ذَلِكَ إذَا كَانَ فِيهِ قِمَارٌ أَوْ جَهَالَةٌ أَوْ أَمْرٌ يَعُودُ إلَى الْكُفْرِ. [مَسْأَلَة معني اللَّغْوُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72] قَدْ بَيَّنَّا اللَّغْوَ، وَأَنَّهُ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ؛ فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ مَضَرَّةٌ فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا فَقَدْ تَأَكَّدَ أَمْرُهُ فِي التَّحْرِيمِ؛ وَذَلِكَ بِحَسْبِ تِلْكَ الْمَضَرَّةِ فِي اعْتِقَادٍ أَوْ فِعْلٍ، وَيَتَرَكَّبُ اللَّغْوُ عَلَى الزُّورِ؛ وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعْنَى زَائِدٌ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] فَهَذَا مُحَرَّمٌ بِلَا كَلَامٍ. ثُمَّ قَالَ: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ} [الفرقان: 72] يَعْنِي الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ تَكَرَّمُوا عَنْهُ، حَتَّى قَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: إنَّهُ ذِكْرُ الرَّفَثِ، وَيَكُونُ لَغْوًا مُجَرَّدًا إذَا كَانَ فِي الْحَلَالِ، وَيَكُونُ زُورًا مُحَرَّمًا إذَا كَانَ فِي الْحَرَامِ، وَإِنْ احْتَاجَ أَحَدٌ إلَى ذِكْرِ الْفَرْجِ أَوْ النِّكَاحِ لِأَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ جَازَ ذَلِكَ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلَّذِي اعْتَرَفَ عِنْدَهُ بِالزِّنَا: «نِكْتَهَا»؟ لَا تَكْنِي، لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ فِي تَقْدِيرِ الْفِعْلِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَدُّ. [الْآيَة الْعَاشِرَة قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا] } [الفرقان: 73]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:

الآية الحادية عشرة قوله تعالى والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يَعْنِي الَّذِينَ إذَا قَرَءُوا الْقُرْآنَ قَرَءُوهُ بِقُلُوبِهِمْ قِرَاءَةَ فَهْمٍ وَتَثَبُّتٍ، وَلَمْ يَنْثُرُوهُ نَثْرَ الدَّقَلِ؛ فَإِنَّ الْمُرُورَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ فَهْمٍ وَلَا تَثَبُّتٍ صَمَمٌ وَعَمًى عَنْ مُعَايَنَةِ وَعِيدِهِ وَوَعْدِهِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ مَنْ سَمِعَ رَجُلًا وَهُوَ يُصَلِّي يَقْرَأُ سَجْدَةً فَسَجَدَ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَلْيَسْجُدْ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ سَمِعَ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يَلْزَمُ إلَّا لِلْقَارِئِ وَحْدَهُ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَهَا مَالِكٌ، وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا تَلَا الْقُرْآنَ، وَقَرَأَ السَّجْدَةَ؛ فَإِنْ كَانَ الَّذِي جَلَسَ مَعَهُ جَلَسَ إلَيْهِ لِيَسْمَعَهُ فَلْيَسْجُدْ مَعَهُ، وَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمْ السَّمَاعَ مَعَهُ فَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ إذَا كَانَ فِي صَلَاةٍ فَقَرَأَ السَّجْدَةَ أَنَّهُ لَا يَسْجُدُ الَّذِي لَا يُصَلِّي مَعَهُ. وَهَذَا أَبْعَدُ مِنْهُ. وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ فِي الَّذِينَ لَا يَعْتَبِرُونَ اعْتِبَارَ الْإِيمَانِ، وَلَا يُصَدِّقُونَ بِالْقُرْآنِ، وَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ أَنْ يُرَادَ بِهِ، إلَّا أَنَّهُ تَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُمْ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ اعْتِقَادِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الْحَادِيَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا] قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74] مَعْنَاهُ أَنَّ النُّفُوسَ تَتَمَنَّى، وَالْعُيُونَ تَمْتَدُّ إلَى مَا تَرَى مِنْ الْأَزْوَاجِ وَالذُّرِّيَّةِ، حَتَّى إذَا كَانَتْ عِنْدَهُ زَوْجَةٌ اجْتَمَعَتْ لَهُ فِيهَا أَمَانِيُّهُ مِنْ جَمَالٍ وَعِفَّةٍ وَنَظَرٍ وَحَوْطَةٍ، أَوْ كَانَتْ

عِنْدَهُ ذُرِّيَّتُهُ مُحَافِظِينَ عَلَى الطَّاعَةِ، مُعَاوِنِينَ لَهُ عَلَى وَظَائِفِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى زَوْجِ أَحَدٍ، وَلَا إلَى وَلَدِهِ، فَتَسْكُنُ عَيْنُهُ عَنْ الْمُلَاحَظَةِ، وَتَزُولُ نَفْسُهُ عَنْ التَّعَلُّقِ بِغَيْرِهَا؛ فَذَلِكَ حِينَ قُرَّةِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ النَّفْسِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74] مَعْنَاهُ قُدْوَةٌ. كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: " اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ ". وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: " إنَّكُمْ أَيُّهَا الرَّهْطُ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِكُمْ ". وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ اقْتَدُوا بِمَنْ قَبْلَهُمْ فَاقْتَدَى بِهِمْ مَنْ بَعْدَهُمْ. وَكَانَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ شَيْخُ الصُّوفِيَّةِ يَقُولُ: الْإِمَامَةُ بِالدُّعَاءِ، لَا بِالدَّعْوَى يَعْنِي بِتَوْفِيقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَيْسِيرِهِ وَهِبَتِهِ، لَا بِمَا يَدَّعِيهِ كُلُّ أَحَدٍ لِنَفْسِهِ، وَيَرَى فِيهَا مَا لَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ.

سورة الشعراء فيها ست آيات

[سُورَةُ الشُّعَرَاءِ فِيهَا سِتُّ آيَاتٍ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى فَأَوْحَيْنَا إلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاك الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: قَالَ مَالِكٌ: خَرَجَ مَعَ مُوسَى رَجُلَانِ مِنْ التُّجَّارِ إلَى الْبَحْرِ، فَلَمَّا أَتَيَا إلَيْهِ قَالَا لَهُ: بِمَ أَمَرَك اللَّهُ؟ قَالَ: أَمَرَنِي أَنْ أَضْرِبَ الْبَحْرَ بِعَصَايَ هَذِهِ فَيَجِفُّ. فَقَالَا لَهُ: افْعَلْ مَا أَمَرَك بِهِ رَبُّك، فَلَنْ يُخْلِفَك. ثُمَّ أَلْقَيَا أَنْفُسَهُمَا فِي الْبَحْرِ تَصْدِيقًا لَهُ، فَمَا زَالَ كَذَلِكَ الْبَحْرُ حَتَّى دَخَلَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ ارْتَدَّ كَمَا كَانَ. وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ أَنَّ مُوسَى قَالَ لِلْبَحْرِ: انْفَلِقْ. قَالَ: لَقَدْ اسْتَكْبَرْت يَا مُوسَى، مَا انْفَرَقْت لِأَحَدٍ مِنْ وَلَدِ آدَم، فَأَنْفَلِقَ لَك. فَأَوْحَى اللَّهُ إلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاك الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ. فَصَارَ لِمُوسَى وَأَصْحَابِهِ الْبَحْرُ طَرِيقًا يَابِسًا. فَلَمَّا خَرَجَ أَصْحَابُ مُوسَى، وَتَكَامَلَ آخِرُ أَصْحَابِ فِرْعَوْنَ، انْصَبَّ عَلَيْهِمْ الْبَحْرُ، وَغَرِقَ فِرْعَوْنُ. فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مُوسَى: مَا غَرِقَ فِرْعَوْنُ. فَنُبِذَ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، حَتَّى نَظَرُوا إلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ مَالِكٌ: دَعَا مُوسَى فِرْعَوْنَ أَرْبَعِينَ سَنَةً إلَى الْإِسْلَامِ، وَإِنَّ السَّحَرَةَ آمَنُوا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ.

الآية الثانية قوله تعالى واجعل لي لسان صدق في الآخرين

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَالِكًا كَانَ يَذْكُرُ مِنْ أَخْبَارِ الإسرائليات مَا وَافَقَ الْقُرْآنَ، أَوْ وَافَقَ السُّنَّةَ أَوْ الْحِكْمَةَ، أَوْ قَامَتْ بِهِ الْمَصْلَحَةُ الَّتِي لَمْ تَخْتَلِفْ فِيهَا الشَّرَائِعُ؛ وَعَلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ عَوَّلَ فِي جَامِعِ الْمُوَطَّأِ. [الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ] َ} [الشعراء: 84]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء: 84]: قَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ أَنْ يُحِبَّ الرَّجُلُ أَنْ يُثْنَى عَلَيْهِ صَالِحًا؛ وَيُرَى فِي عَمَلِ الصَّالِحِينَ، إذَا قَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ وَهُوَ الثَّنَاءُ الصَّالِحُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39]. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء: 84] يَعْنِي أَنْ يَجْعَلَ مِنْ وَلَدِهِ مَنْ يَقُومُ بِالْحَقِّ مِنْ بَعْدِهِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ؛ فَقُبِلَتْ الدَّعْوَةُ وَلَمْ تَزَلْ النُّبُوَّةُ فِيهِمْ إلَى مُحَمَّدٍ، ثُمَّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: إنَّ الْمَطْلُوبَ اتِّفَاقُ الْمِلَلِ كُلِّهَا عَلَيْهِ [إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ]، فَلَا أُمَّةٌ إلَّا تَقُولُ بِهِ وَتُعَظِّمُهُ، وَتَدَّعِيهِ، إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَطَعَ وِلَايَةَ الْأُمَمِ كُلِّهَا إلَّا وِلَايَتَنَا، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68]

مسألة الترغيب في العمل الصالح

[مَسْأَلَة التَّرْغِيبِ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ شُيُوخِ الزُّهْدِ: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى التَّرْغِيبِ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي يُكْسِبُ الثَّنَاءَ الْحَسَنَ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا مَاتَ الْمَرْءُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، أَوْ عِلْمٌ عَلَّمَهُ، أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ». وَفِي رِوَايَةٍ: إنَّهُ كَذَلِكَ فِي الْغَرْسِ وَالزَّرْعِ، وَكَذَلِكَ فِيمَنْ مَاتَ مُرَابِطًا يُكْتَبُ لَهُ عَمَلُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالْخَمْسَةُ صَحِيحٌ أَثَرُهَا؛ وَمَسْأَلَةُ الرِّبَاطِ حَسَنٌ سَنَدُهَا. [الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ] ٍ} [الشعراء: 89] فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سَلِيمٌ مِنْ الشِّرْكِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ سَلِيمٌ مِنْ رَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ. فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ: يَا بَنِيَّ؛ لَا تَكُونُوا لَعَّانِينَ، فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ لَمْ يَلْعَنْ شَيْئًا قَطُّ. قَالَ اللَّهُ: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 84] وَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهُ لَدِيغٌ، أَحْرَقَتْهُ الْمَخَاوِفُ، وَلَدَغَتْهُ الْخَشْيَةُ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: إنَّ مَعْنَاهُ إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ مِنْ الشِّرْكِ؛ فَأَمَّا الذُّنُوبُ فَلَا يَسْلَمُ أَحَدٌ مِنْهَا. وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَكُونُ الْقَلْبُ سَلِيمًا إذَا كَانَ حَقُودًا حَسُودًا، مُعْجَبًا مُتَكَبِّرًا، وَقَدْ شَرَطَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْإِيمَانِ أَنْ يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ بِرَحْمَتِهِ.

الآية الرابعة قوله تعالى وإذا بطشتم بطشتم جبارين

[الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ] َ} [الشعراء: 130] فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ: فِي نُزُولِهَا خَبَرٌ عَمَّنْ تَقَدَّمَ مِنْ الْأُمَمِ، وَوَعْظٌ مِنْ اللَّهِ لَنَا فِي مُجَانَبَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ الَّذِي ذَمَّهُمْ بِهِ، وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: قَالَ نَافِعٌ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 130] قَالَ: يَعْنِي بِهِ السَّوْطَ وَقَالَ غَيْرُهُ بِالْقَتْلِ؛ وَيُؤَيِّدُ مَا قَالَ مَالِكٌ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ مُوسَى: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} [القصص: 19]. وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى لَمْ يَسُلَّ عَلَيْهِ سَيْفًا، وَلَا طَعَنَهُ بِرُمْحٍ؛ وَإِنَّمَا وَكَزَهُ، فَكَانَتْ مَيْتَتُهُ فِي وَكْزَتِهِ. وَالْبَطْشُ يَكُونُ بِالْيَدِ، وَأَقَلُّهُ الْوَكْزُ وَالدَّفْعُ، وَيَلِيهِ السَّوْطُ وَالْعَصَا، وَيَلِيهِ الْحَدِيدُ؛ وَالْكُلُّ مَذْمُومٌ إلَّا بِحَقٍّ. [الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَك الْأَقْرَبِينَ] َ} [الشعراء: 214]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي نُزُولِهَا: وَذَاكَ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَحَرٍ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَعِدَ الصَّفَا، ثُمَّ نَادَى: يَا صَبَاحَاهُ وَكَانَتْ دَعْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ إذَا دَعَاهَا الرَّجُلُ اجْتَمَعَتْ إلَيْهِ عَشِيرَتُهُ، فَاجْتَمَعَتْ إلَيْهِ قُرَيْشٌ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهَا، فَعَمَّ وَخَصَّ، فَقَالَ: «أَرَأَيْتُكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ مُصْبِحُكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ قَالُوا: مَا جَرَّبْنَا عَلَيْك كَذِبًا. قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ».

قَالَ: «يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ: يَا بَنِي مُرَّةَ بْنِ لُؤَيٍّ: يَا آلَ قُصَيٍّ، يَا آلَ عَبْدِ شَمْسٍ؛ يَا آلَ عَبْدِ مَنَافٍ، يَا آلَ هَاشِمٍ؛ يَا آلَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا صَفِيَّةُ أُمَّ الزُّبَيْرِ؛ يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ؛ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ؛ إنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا. يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا صَفِيَّةُ، يَا فَاطِمَةُ؛ سَلُونِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَوْلِيَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُتَّقُونَ، فَإِنْ تَكُونُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَرَابَتِكُمْ فَذَلِكَ، وَإِيَّايَ لَا يَأْتِي النَّاسُ بِالْأَعْمَالِ، وَتَأْتُونَ بِالدُّنْيَا تَحْمِلُونَهَا عَلَى أَعْنَاقِكُمْ؛ فَأَصُدُّ بِوَجْهِي عَنْكُمْ، فَتَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ، فَأَقُولُ: هَكَذَا وَصَرَفَ وَجْهَهُ إلَى الشِّقِّ الْآخَرِ؛ غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبِلَالِهَا». فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: أَلِهَذَا جَمَعْتنَا، تَبًّا لَك سَائِرَ الْيَوْمِ. فَنَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] [الْمَسَدُ:]. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنَّ آلَ أَبِي طَالِبٍ لَيْسُوا إلَيَّ بِأَوْلِيَاءٍ، وَإِنَّمَا وَلِيِّي اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ». قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ: وَكَانَ فِي كِتَابِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ بَيَاضٌ يَعْنِي بَعْدَ قَوْلِهِ " إلَيَّ " وَقَدْ بَيَّنَهُ أَبُو دَاوُد فِي جَمْعِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ شُعْبَةَ بِالسَّنَدِ الصَّحِيحِ، فَقَالَ: «آلُ أَبِي طَالِبٍ لَيْسُوا إلَيَّ بِأَوْلِيَاءٍ، إنَّمَا وَلِيِّي اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ». وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: «لَا يَتَّكِلُ النَّاسُ عَلَيَّ بِشَيْءٍ؛ لَا أَحِلُّ إلَّا مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَلَا أُحَرِّمُ إلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ، اعْمَلَا لِمَا عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنِّي لَا أُغْنِي عَنْكُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا».

الآية السادسة قوله تعالى والشعراء يتبعهم الغاوون

[الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ] َ} [الشعراء: 224] {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء: 225] {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 226] {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] فِيهَا ثَمَانِي مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {وَالشُّعَرَاءُ} [الشعراء: 224] الشِّعْرُ نَوْعٌ مِنْ الْكَلَامِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: حَسَنُهُ كَحَسَنِ الْكَلَامِ، وَقَبِيحُهُ كَقَبِيحِهِ يَعْنِي أَنَّ الشِّعْرَ لَيْسَ يُكْرَهُ لِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ لِمُتَضَمَّنَاتِهِ. وَقَدْ كَانَ عِنْدَ الْعَرَبِ عَظِيمَ الْمَوْقِعِ حَتَّى قَالَ الْأَوَّلُ مِنْهُمْ: وَجُرْحُ اللِّسَانِ كَجُرْحِ الْيَدِ وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الشِّعْرِ الَّذِي كَانَ يُرَدُّ بِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ: «إنَّهُ لَأَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ النَّبْلِ». وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، أَنْبَأَنَا الْبَرْمَكِيُّ وَالْقَزْوِينِيُّ الزَّاهِدُ، أَنْبَأَنَا ابْنُ حَيْوَةَ، أَنْبَأَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ السُّكَّرِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الدِّينَوَرِيُّ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَمْرٍو الْغَنَوِيُّ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زَحْرِ بْنِ حِصْنٍ عَنْ جَدِّهِ حُمَيْدِ بْنِ مُنْهِبٍ قَالَ: «سَمِعْت جَدِّي خُرَيْمَ بْنَ أَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ يَقُولُ: هَاجَرْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ مُنْصَرَفِهِ مِنْ تَبُوكَ، فَسَمِعْت الْعَبَّاسَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَمْتَدِحَك. فَقَالَ: قُلْ، لَا يَفْضُضُ اللَّهُ فَاك. فَقَالَ الْعَبَّاسُ مُمْتَدِحًا: مِنْ قَبْلِهَا طِبْت فِي الظِّلَالِ وَفِي ... مُسْتَوْدَعٍ حَيْثُ يُخْصَفُ الْوَرَقُ ثُمَّ هَبَطْت الْبِلَادَ لَا بَشَرٌ ... أَنْتَ وَلَا مُضْغَةٌ وَلَا عَلَقُ

مسألة معنى قوله تعالى يتبعهم الغاوون

بَلْ نُطْفَةٌ تَرْكَبُ السَّفِينَ وَقَدْ ... أَلْجَمَ نَسْرًا وَأَهْلَهُ الْغَرَقُ تُنْقَلُ مِنْ صَالِبٍ إلَى رَحِمٍ ... إذَا مَضَى عَالَمٌ بَدَا طَبَقُ حَتَّى اسْتَوَى بَيْنَك الْمُهَيْمِنُ مِنْ ... خِنْدِفٍ عَلْيَاءَ تَحْتَهَا النُّطْقُ وَأَنْتَ لَمَّا بُعِثْت أَشْرَقَتْ الْأَرْضُ ... وَضَاءَتْ بِنُورِك الْأُفُقُ فَنَحْنُ فِي ذَلِكَ الضِّيَاءِ وَفِي النُّورِ ... وَسُبُلِ الرَّشَادِ نَخْتَرِقُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يَفْضُضُ اللَّهُ فَاك». [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224]: يَعْنِي الْجَاهِلُونَ، مِنْ الْغَيِّ، وَقَدْ يَكُونُ الْجَهْلُ فِي الْعَقِيدَةِ، فَيَكُونُ شِرْكًا، وَيُرَادُ بِهِ الْكُفَّارُ وَالشَّيَاطِينُ. وَقَدْ يَكُونُ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ، فَيَكُونُ سَفَاهَةً. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء: 225]: يَعْنِي يَمْشُونَ بِغَيْرِ قَصْدٍ وَلَا تَحْصِيلٍ، وَضَرَبَ الْأَوْدِيَةَ فِي السَّيْرِ مَثَلًا لِصُنُوفِ الْكَلَامِ فِي الشِّعْرِ، لِجَرَيَانِ تِلْكَ سَيْلًا، وَسَيْرِ هَؤُلَاءِ قَوْلًا، وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَسَارَ مَسِيرَ الشَّمْسِ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ ... وَهَبَّ هُبُوبَ الرِّيحِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 226]: يَعْنِي مَا يَذْكُرُونَهُ فِي شِعْرِهِمْ مِنْ الْكَذِبِ فِي الْمَدْحِ وَالتَّفَاخُرِ، وَالْغَزَلِ وَالشَّجَاعَةِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ فِي صِفَةِ السَّيْفِ: تَظَلُّ تَحْفِرُ عَنْهُ إنْ ضَرَبْت بِهِ ... بَعْدَ الذِّرَاعَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ وَالْهَادِي فَهَذَا تَجَاوُزُ بَارِدٍ وَتَحَامُقُ جَاهِلٍ.

مسألة المذموم في الشعر

[مَسْأَلَة الْمَذْمُومِ فِي الشِّعْرِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: رُوِيَ أَنَّ «عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ، وَكَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، وَحَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ نَزَلَ: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224] وَقَالُوا: هَلَكْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء: 227] يَعْنِي ذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا فِي كَلَامِهِمْ، وَانْتَصَرُوا فِي رَدِّ الْمُشْرِكِينَ عَنْ هِجَائِهِمْ». كَقَوْلِ حَسَّانَ فِي أَبِي سُفْيَانَ: وَإِنَّ سَنَامَ الْمَجْدِ مِنْ آلِ هَاشِمٍ ... بَنُو بِنْتِ مَخْزُومٍ وَوَالِدُك الْعَبْدُ وَمَا وَلَدَتْ أَفْنَاءُ زُهْرَةَ مِنْكُمْ ... كَرِيمًا وَلَا يَقْرُبْ عَجَائِزَك الْمَجْدُ وَلَسْت كَعَبَّاسٍ وَلَا كَابْنِ أُمِّهِ ... وَلَكِنْ هَجِينٌ لَيْسَ يُورَى لَهُ زَنْدٌ وَإِنَّ امْرَأً كَانَتْ سُمَيَّةُ أُمَّهُ ... وَسَمْرَاءُ مَغْلُوبٌ إذَا بَلَغَ الْجَهْدُ وَأَنْتَ امْرُؤٌ قَدْ نِيطَ فِي آلِ هَاشِمٍ ... كَمَا نِيطَ خَلْفَ الرَّاكِبِ الْقَدَحُ الْفَرْدُ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَنَسٍ. «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ يَقُولُ: خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ ... الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ ... وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ فَقَالَ عُمَرُ: يَا بْنَ رَوَاحَةَ؛ فِي حَرَمِ اللَّهِ وَبَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَقُولُ الشِّعْرَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خَلِّ عَنْهُ يَا عُمَرُ، فَإِنَّهُ أَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ نَضْحِ النَّبْلِ»، وَفِي رِوَايَةٍ: نَحْنُ ضَرَبْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ ... كَمَا ضَرَبْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: مِنْ الْمَذْمُومِ فِي الشِّعْرِ التَّكَلُّمُ مِنْ الْبَاطِلِ بِمَا لَمْ يَفْعَلْهُ الْمَرْءُ؛ رَغْبَةً فِي تَسْلِيَةِ النَّفْسِ، وَتَحْسِينِ الْقَوْلِ. رُوِيَ أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ نَضْلَةَ كَانَ عَامِلًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: أَلَا هَلْ أَتَى الْحَسْنَاءَ أَنَّ خَلِيلَهَا ... بِمَيْسَانَ يُسْقَى فِي زُجَاجٍ وَحَنْتَمِ إذَا شِئْت غَنَّتْنِي دَهَاقِينُ قَرْيَةٍ ... وَرَقَّاصَةٌ تَجْذُو عَلَى كُلِّ مَنْسِمِ فَإِنْ كُنْت نَدْمَانِي فَبِالْأَكْبَرِ اسْقِنِي ... وَلَا تَسْقِنِي بِالْأَصْغَرِ الْمُتَثَلِّمِ لَعَلَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَسُوءُهُ ... تَنَادُمُنَا بِالْجَوْسَقِ الْمُتَهَدِّمِ فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ، وَقَالَ: إنِّي وَاَللَّهِ يَسُوءُنِي ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ مَا فَعَلْت شَيْئًا مِمَّا قُلْت، وَإِنَّمَا كَانَتْ فَضْلَةً مِنْ الْقَوْلِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224] {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء: 225] {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 226] فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَمَّا عُذْرُك فَقَدْ دَرَأَ عَنْك الْحَدَّ، وَلَكِنْ لَا تَعْمَلْ لِي عَمَلًا أَبَدًا. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: وَقَدْ كَشَفَ الْخَلِيفَةُ الْعَدْلُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَقِيقَةَ أَحْوَالِ الشُّعَرَاءِ، وَكَشَفَ سَرَائِرَهُمْ، وَانْتَحَى مَعَايِبَهُمْ فِي أَشْعَارِهِمْ، فَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا اُسْتُخْلِفَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفَدَتْ إلَيْهِ الشُّعَرَاءُ، كَمَا كَانَتْ تَفِدُ إلَى الْخُلَفَاءِ قَبْلَهُ، فَأَقَامُوا بِبَابِهِ أَيَّامًا لَا يَأْذَنُ لَهُمْ بِالدُّخُولِ، حَتَّى قَدِمَ عُدَيُّ بْنُ أَرْطَاةَ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَكَانَتْ لَهُ مَكَانَةٌ فَتَعَرَّضَ لَهُ جَرِيرٌ، فَقَالَ: يَأَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُزْجِي مَطِيَّتَهُ ... هَذَا زَمَانُك إنِّي قَدْ خَلَا زَمَنِي أَبْلِغْ خَلِيفَتَنَا إنْ كُنْت لَاقِيَهُ ... أَنِّي لَدَى الْبَابِ كَالْمَصْفُودِ فِي قَرَنِ وَحْشُ الْمَكَانَةِ مِنْ أَهْلِي وَمِنْ وَلَدِي ... نَائِي الْمَحَلَّةِ عَنْ دَارِي وَعَنْ وَطَنِي فَقَالَ: نَعَمْ، أَبَا حَزْرَةَ وَنُعْمَى عَيْنٍ.

فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى عُمَرَ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ إنَّ الشُّعَرَاءَ بِبَابِك، وَأَقْوَالُهُمْ بَاقِيَةٌ، وَسِهَامُهُمْ مَسْمُومَةٌ. فَقَالَ عُمَرُ: مَا لِي وَلِلشُّعَرَاءِ، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ مُدِحَ وَأَعْطَى، وَفِيهِ أُسْوَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. قَالَ: وَمَنْ مَدَحَهُ؟ قَالَ: عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ فَكَسَاهُ حُلَّةً قَطَعَ بِهَا لِسَانَهُ. قَالَ: نَعَمْ، فَأَنْشَدَهُ: رَأَيْتُك يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ كُلِّهَا ... نَشَرْت كِتَابًا جَاءَ بِالْحَقِّ مُعْلِمَا سَنَنْت لَنَا فِيهِ الْهُدَى بَعْدَ جَوْرِنَا ... عَنْ الْحَقِّ لَمَّا أَصْبَحَ الْحَقُّ مُظْلِمَا فَمَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي النَّبِيَّ مُحَمَّدًا ... وَكُلُّ امْرِئٍ يُجْزَى بِمَا قَدْ تَكَلَّمَا تَعَالَى عُلُوًّا فَوْقَ عَرْشِ إلَهِنَا ... وَكَانَ مَكَانُ اللَّهِ أَعْلَى وَأَعْظَمَا قَالَ: صَدَقْت، فَمَنْ بِالْبَابِ مِنْهُمْ؟ قَالَ: ابْنُ عَمِّك عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الْقُرَشِيُّ. قَالَ: لَا قَرَّبَ اللَّهُ قَرَابَتَهُ، وَلَا حَيَّا وَجْهَهُ، أَلَيْسَ هُوَ الْقَائِلُ: أَلَا لَيْتَ أَنِّي يَوْمَ بَانُوا بِمَيْتَتِي ... شَمَمْت الَّذِي مَا بَيْنَ عَيْنَيْك وَالْفَمِ وَلَيْتَ طَهُورِي كَانَ رِيقَك كُلَّهُ ... وَلَيْتَ حَنُوطِي مِنْ مُشَاشِك وَالدَّمِ وَيَا لَيْتَ سَلْمَى فِي الْقُبُورِ ضَجِيعَتِي ... هُنَالِكَ أَوْ فِي جَنَّةٍ أَوْ جَهَنَّمِ فَلَيْتَ عَدُوَّ اللَّهِ تَمَنَّى لِقَاءَهَا فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يَعْمَلُ عَمَلًا صَالِحًا؛ وَاَللَّهِ لَا دَخَلَ عَلَيَّ أَبَدًا. فَمَنْ بِالْبَابِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْت؟ قَالَ: جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ الْعُذْرِيُّ. قَالَ: هُوَ الَّذِي يَقُولُ: أَلَا لَيْتَنَا نَحْيَا جَمِيعًا وَإِنْ نَمُتْ ... يُوَافِي لَدَى الْمَوْتَى ضَرِيحِي ضَرِيحُهَا فَمَا أَنَا فِي طُولِ الْحَيَاةِ بِرَاغِبٍ ... إذَا قِيلَ قَدْ سَوِّي عَلَيْهَا صَفِيحُهَا أَظَلُّ نَهَارِي لَا أَرَاهَا وَيَلْتَقِي ... مَعَ اللَّيْلِ رُوحِي فِي الْمَنَامِ وَرُوحُهَا اُعْزُبْ بِهِ، فَلَا يَدْخُلُ عَلَيَّ أَبَدًا. فَمَنْ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْت؟ قَالَ: كُثَيِّرُ عَزَّةَ. قَالَ: هُوَ الَّذِي يَقُولُ:

رُهْبَانُ مَدْيَنَ وَاَلَّذِينَ عَهِدْتهمْ ... يَبْكُونَ مِنْ حَذَرِ الْعَذَابِ قُعُودَا لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْت كَلَامَهَا ... خَرُّوا لِعَزَّةِ رُكَّعًا وَسُجُودَا اُعْزُبْ بِهِ. فَمَنْ بِالْبَابِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْت؟ قَالَ: الْأَحْوَصُ الْأَنْصَارِيُّ. قَالَ: أَبْعَدَهُ اللَّهُ وَأَسْحَقَهُ، أَلَيْسَ هُوَ الْقَائِلَ وَقَدْ أَفْسَدَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ جَارِيَةً لَهُ حَتَّى هَرَبَتْ مِنْهُ قَالَ: اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَ سَيِّدِهَا ... يَفِرُّ مِنِّي بِهَا وَأَتَّبِعُ اُعْزُبْ بِهِ. فَمَنْ بِالْبَابِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْت؟ قَالَ: هَمَّامُ بْنُ غَالِبٍ الْفَرَزْدَقُ. قَالَ: أَلَيْسَ هُوَ الْقَائِلَ يَفْخَرُ بِالزِّنَا: هُمَا دَلَّيَانِي مِنْ ثَمَانِينَ قَامَةً ... كَمَا انْقَضَّ بَازٍ أَقْتَمُ الرِّيشِ كَاسِرُهْ فَلَمَّا اسْتَوَتْ رِجْلَايَ فِي الْأَرْضِ قَالَتَا ... أَحَيٌّ يُرَجَّى أَمْ قَتِيلٌ نُحَاذِرُهْ فَقُلْت ارْفَعُوا الْأَمْرَاسَ لَا يَشْعُرُوا بِنَا ... وَوَلَّيْت فِي أَعْقَابِ لَيْلٍ أُبَادِرُهْ اُعْزُبْ بِهِ. فَوَاَللَّهِ لَا يَدْخُلُ عَلَيَّ أَبَدًا. فَمَنْ بِالْبَابِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْت؟ قُلْت: الْأَخْطَلُ التَّغْلِبِيُّ. قَالَ: هُوَ الْقَائِلُ: فَلَسْت بِصَائِمٍ رَمَضَانَ عُمْرِي ... وَلَسْت بِآكِلٍ لَحْمَ الْأَضَاحِيّ وَلَسْت بِزَاجِرٍ عِيسًا رَكُوبًا ... إلَى بَطْحَاءِ مَكَّةَ لِلنَّجَاحِ وَلَسْت بِقَائِمٍ كَالْعِيرِ يَدْعُو ... قُبَيْلَ الصُّبْحِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ وَلَكِنِّي سَأَشْرَبُهَا شَمُولًا ... وَأَسْجُدُ عِنْدَ مُنْبَلَجِ الصَّبَاحِ اُعْزُبْ بِهِ، فَوَاَللَّهِ لَا وَطِئَ بِسَاطِي. فَمَنْ بِالْبَابِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْت؟ قُلْت: جَرِيرُ بْنُ عَطِيَّةَ الْخَطَفِيُّ قَالَ: أَلَيْسَ هُوَ الْقَائِلَ:

لَوْلَا مُرَاقَبَةُ الْعُيُونِ أَرَيْتنَا ... مُقَلَ الْمَهَا وَسَوَالِفَ الْآرَامِ ذُمَّ الْمَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى ... وَالْعَيْشَ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَيَّامِ طَرَقَتْك صَائِدَةُ الْقُلُوبِ وَلَيْسَ ذَا ... حِينَ الزِّيَارَةِ فَارْجِعِي بِسَلَامِ فَإِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ فَهَذَا، فَأْذَنْ لَهُ فَخَرَجْت إلَيْهِ، فَقُلْت: اُدْخُلْ أَبَا حَزْرَةَ، فَدَخَلَ وَهُوَ يَقُولُ: إنَّ الَّذِي بَعَثَ النَّبِيَّ مُحَمَّدًا ... جَعَلَ الْخِلَافَةَ لِلْإِمَامِ الْعَادِلِ وَسِعَ الْبَرِيَّةَ عَدْلُهُ وَوَفَاؤُهُ ... حَتَّى ارْعَوى وَأَقَامَ مَيْلَ الْمَائِلِ إنِّي لَأَرْجُو مِنْك خَيْرًا عَاجِلًا ... وَالنَّفْسُ مُولَعَةٌ بِحُبِّ الْعَاجِلِ فَلَمَّا مَثَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ يَا جَرِيرُ، وَلَا تَقُلْ إلَّا حَقًّا، فَأَنْشَأَ يَقُولُ: كَمْ بِالْيَمَامَةِ مِنْ شَعْثَاءَ أَرْمَلَةٍ ... وَمِنْ يَتِيمٍ ضَعِيفِ الصَّوْتِ وَالنَّظَرِ مِمَّنْ يَعُدُّك تَكْفِي فَقْدَ وَالِدِهِ ... كَالْفَرْخِ فِي الْعُشِّ لَمْ يَدْرُجْ وَلَمْ يَطِرْ إنَّا لَنَرْجُو إذَا مَا الْغَيْثُ أَخْلَفَنَا ... مِنْ الْخَلِيفَةِ مَا نَرْجُو مِنْ الْمَطَرِ أَتَى الْخِلَافَةَ إذْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا ... كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ النَّطْرُونِيُّ الْأَرَامِلُ قَدْ قَضَّيْت حَاجَتَهَا ... فَمَنْ لِحَاجَةِ هَذَا الْأَرْمَلِ الذَّكَرِ فَقَالَ: يَا جَرِيرُ لَقَدْ وُلِّيت هَذَا الْأَمْرَ، وَمَا أَمْلِكُ إلَّا ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَمِائَةٌ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ، وَمِائَةٌ أَخَذَتْهَا أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ، يَا غُلَامُ، أَعْطِهِ الْمِائَةَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: وَاَللَّهِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنَّهَا لَأَحَبُّ مَالٍ كَسَبْتُهُ إلَيَّ. ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ لَهُ الشُّعَرَاءُ: مَا وَرَاءَك؟ قَالَ: مَا يَسُوءُكُمْ، خَرَجْت مِنْ عِنْدِ أَمِيرٍ يُعْطِي الْفُقَرَاءَ، وَيَمْنَعُ الشُّعَرَاءَ، وَإِنِّي عَنْهُ لَرَاضٍ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ: رَأَيْت رُقَى الشَّيْطَانِ لَا تَسْتَفِزُّهُ ... وَقَدْ كَانَ شَيْطَانِي مِنْ الْجِنِّ رَاقِيَا وَلَمَّا وَلِيَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَفَدَ إلَيْهِ نَابِغَةُ بَنِي جَعْدَةَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، ثُمَّ أَنْشَدَهُ:

حَكَيْت لَنَا الْفَارُوقَ لَمَّا وَلِيتَنَا ... وَعُثْمَانَ وَالصِّدِّيقَ فَارْتَاحَ مُعْدِمُ وَسَوَّيْت بَيْنَ النَّاسِ فِي الْحَقِّ فَاسْتَوَوْا ... فَعَادَ صَبَاحًا حَالِكُ اللَّوْنِ مُظْلِمُ أَتَاك أَبُو لَيْلَى يَجُوبُ بِهِ الدُّجَى ... دُجَى اللَّيْلِ جَوَّابُ الْفَلَاةِ عَثَمْثَمُ لِتَجْبُرَ مِنَّا جَانِبًا دَعْدَعَتْ بِهِ ... صُرُوفُ اللَّيَالِيِ وَالزَّمَانُ الْمُصَمِّمُ فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: هَوِّنْ عَلَيْك أَبَا لَيْلَى، فَالشِّعْرُ أَدْنَى وَسَائِلُكَ عِنْدَنَا، أَمَّا صَفْوَةُ مَالِنَا فَلِآلِ الزُّبَيْرِ، وَأَمَّا عَفْوَتُهُ فَإِنَّ بَنِي أَسَدٍ وَتَمِيمًا شَغَلَاهَا عَنْك، وَلَكِنْ لَك فِي مَالِ اللَّهِ سَهْمَانِ: سَهْمٌ بِرُؤْيَتِك رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَهْمٌ بِشَرِكَتِك أَهْلَ الْإِسْلَامِ فِي فَيْئِهِمْ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ، وَدَخَلَ دَارَ الْمَغْنَمِ فَأَعْطَاهُ قَلَائِصَ سَبْعًا، وَجَمَلًا رَحِيلًا، وَأَوْقَرَ لَهُ الرِّكَابَ بُرًّا وَتَمْرًا، فَجَعَلَ النَّابِغَةُ يَسْتَعْجِلُ، وَيَأْكُلُ الْحَبَّ صِرْفًا. فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: وَيْحَ أَبِي لَيْلَى، لَقَدْ بَلَغَ بِهِ الْجَهْدُ، فَقَالَ النَّابِغَةُ: أَشْهَدُ، لَسَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَا وَلِيَتْ؟؟ قُرَيْشٌ فَعَدَلَتْ، وَلَا اُسْتُرْحِمَتْ فَرُحِمَتْ، وَحَدَّثَتْ فَصَدَقَتْ، وَوَعَدَتْ فَأَنْجَزَتْ، فَأَنَا وَالنَّبِيُّونَ فُرَّاطُ الْقَاصِفِينَ». قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: فَكَأَنَّ الْفَارِطَ الَّذِي يَتَقَدَّمُ إلَى الْمَاءِ يُصْلِحُ الرِّشَاءَ وَالدِّلَاءَ. وَالْقَاصِفُ: الَّذِي يَتَقَدَّمُ لِشِرَاءِ الطَّعَامِ الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فِي تَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِيهِ: أَمَّا الِاسْتِعَارَاتُ وَالتَّشْبِيهَاتُ فَمَأْذُونٌ فِيهَا وَإِنْ اسْتَغْرَقَتْ الْحَدَّ، وَتَجَاوَزَتْ الْمُعْتَادَ، فَبِذَلِكَ يَضْرِبُ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِالرُّؤْيَا الْمَثَلَ، وَقَدْ أَنْشَدَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ ... مُتَيَّمٌ إثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ وَمَا سُعَادُ غَدَاةَ الْبَيْنِ إذْ رَحَلُوا ... إلَّا أَغَنُّ غَضِيضُ الطَّرْفِ مَكْحُولُ تَجْلُو عَوَارِضَ ذِي ظَلْمٍ إذَا ابْتَسَمَتْ ... كَأَنَّهُ مُنْهَلٌ بِالرَّاحِ مَعْلُولُ فَجَاءَ فِي هَذِهِ الْقَصِيدَةِ مِنْ الِاسْتِعَارَاتِ وَالتَّشْبِيهَاتِ بِكُلِّ بَدِيعٍ. وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْمَعُ وَلَا يُنْكِرُ، حَتَّى فِي تَشْبِيهِ رِيقَهَا بِالرَّاحِ.

وَقَدْ كَانَتْ حَرُمَتْ قَبْلَ إنْشَادِهِ لِهَذِهِ الْقَصِيدَةِ، وَلَكِنَّ تَحْرِيمَهَا لَمْ يَمْنَعْ عِنْدَهُمْ طِيبَهَا؛ بَلْ تَرَكُوهَا عَلَى الرَّغْبَةِ فِيهَا وَالِاسْتِحْسَانِ لَهَا؛ فَكَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ لِأُجُورِهِمْ، وَمِنْ النَّاسِ قَلِيلٌ مَنْ يَتْرُكُهَا اسْتِقْذَارًا لَهَا، وَإِنَّهَا لَأَهْلٌ لِذَلِكَ عِنْدِي، وَإِنِّي لَأَعْجَبُ مِنْ النَّاسِ فِي تَلَذُّذِهِمْ بِهَا وَاسْتِطَابَتِهِمْ لَهَا، ووَاَللَّهِ مَا هِيَ إلَّا قَذِرَةٌ بَشِعَةٌ كَرِيهَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَاَللَّهُ يَعْصِمُ مِنْ الْمَعَاصِي بِعِزَّتِهِ. وَبِالْجُمْلَةِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ عَلَى الْعَبْدِ الشِّعْرُ حَتَّى يَسْتَغْرِقَ قَوْلَهُ وَزَمَانَهُ، فَذَلِكَ مَذْمُومٌ شَرْعًا. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا حَتَّى يَرِيَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا». وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ وَلَا مَعْبُودَ إلَّا إيَّاهُ.

سورة النمل فيها ست عشرة آية

[سُورَةُ النَّمْلِ فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ آيَةً] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُد] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [النمل: 16]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ». وَأَنَّهُ قَالَ: «إنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إنَّمَا وَرَّثُوا عِلْمًا». وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} [النمل: 16] قُلْنَا، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَرَادَ بِالْإِرْثِ هَاهُنَا نُزُولَهُ مَنْزِلَتَهُ فِي النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ، وَكَانَ لِدَاوُدَ تِسْعَةَ عَشَرَ وَلَدًا ذَكَرًا وَأُنْثَى، فَخَصَّ سُلَيْمَانَ بِالذِّكْرِ، وَلَوْ كَانَتْ وِرَاثَةَ مَالٍ لَانْقَسَمَتْ عَلَى الْعَدَدِ، فَخَصَّهُ بِمَا كَانَ لِدَاوُدَ، وَزَادَهُ مِنْ فَضْلِهِ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ.

الآية الثانية قوله تعالى علمنا منطق الطير

[الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ] ِ} [النمل: 16]: فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقَوْلُ فِي مَنْطِقِ الطَّيْرِ، وَهُوَ صَوْتٌ تَتَفَاهَمُ بِهِ فِي مَعَانِيهَا عَلَى صِيغَةٍ وَاحِدَةٍ، بِخِلَافِ مَنْطِقِنَا، فَإِنَّهُ عَلَى صِيَغٍ مُخْتَلِفَةٍ، نَفْهَمُ بِهِ مَعَانِيَهَا. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَفِي الْمُوَاضَعَاتِ غَرَائِبُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ صَوْتَ الْبُوقِ تُفْهَمُ مِنْهُ أَفْعَالٌ مُخْتَلِفَةٌ مِنْ حَلٍّ وَتَرْحَالٍ، وَنُزُولٍ وَانْتِقَالٍ، وَبَسْطٍ وَرَبْطٍ، وَتَفْرِيقٍ وَجَمْعٍ، وَإِقْبَالٍ وَإِدْبَارٍ، بِحَسْبِ الْمُوَاضَعَةِ وَالِاصْطِلَاحِ. وَقَدْ كَانَ صَاحِبُنَا مُمَوَّسٌ الدُّرَيْدِيُّ يَقْرَأُ مَعَنَا بِبَغْدَادَ، وَكَانَ مِنْ قَوْمٍ كَلَامُهُمْ حُرُوفُ الشَّفَتَيْنِ، لَيْسَ لِحُرُوفِ الْحَلْقِ عِنْدَهُمْ أَصْلٌ. فَجَعَلَ اللَّهُ لِسُلَيْمَانَ مُعْجِزَةَ فَهْمِ كَلَامِ الطَّيْرِ وَالْبَهَائِمِ وَالْحَشَرَاتِ؛ وَإِنَّمَا خَصَّ الطَّيْرَ لِأَجْلِ سَوْقِ قِصَّةِ الْهُدْهُدِ بَعْدَهَا. أَلَا تَرَاهُ كَيْفَ ذَكَرَ قِصَّةَ النَّمْلِ مَعَهَا، وَلَيْسَتْ مِنْ الطَّيْرِ. وَلَا خِلَافَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ كُلَّهَا لَهَا أَفْهَامٌ وَعُقُولٌ. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْحَمَامُ أَعْقَلُ الطَّيْرِ. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِيِّينَ: اُنْظُرُوا إلَى النَّمْلَةِ كَيْفَ تُقَسِّمُ كُلَّ حَبَّةٍ تَدَّخِرُهَا نِصْفَيْنِ لِئَلَّا يَنْبُتَ الْحَبُّ، إلَّا حَبَّ الْكُزْبَرَةِ فَإِنَّهَا تُقَسِّمُ الْحَبَّةَ مِنْهُ عَلَى أَرْبَعٍ؛ لِأَنَّهَا إذَا قُسِّمَتْ بِنِصْفَيْنِ تَنْبُتُ، وَإِذَا قُسِّمَتْ بِأَرْبَعَةِ أَنْصَافٍ لَمْ تَنْبُتْ. وَهَذِهِ مِنْ غَوَامِضِ الْعُلُومِ عِنْدَنَا، وَأَدْرَكَتْهَا النَّمْلُ بِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ لَهَا. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْمُظَفَّرِ شَاهْ نُورٍ الْإسْفَرايِينِيّ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تُدْرِكَ الْبَهَائِمُ حُدُوثَ

الْعَالَمِ، وَخَلْقَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَوَحْدَانِيَّةَ الْإِلَهِ، وَلَكِنَّا لَا نَفْهَمُ عَنْهُمْ، وَلَا تَفْهَمُ عَنَّا، أَمَّا أَنَّا نَطْلُبُهَا وَهِيَ تَفِرُّ مِنَّا فَبِحُكْمِ الْجِنْسِيَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ سُلَيْمَانَ النَّبِيَّ مَرَّ عَلَى قَصْرٍ بِالْعِرَاقِ، فَإِذَا فِيهِ كِتَابٌ: خَرَجْنَا مِنْ قُرَى إصْطَخْرِ ... إلَى الْقَصْرِ فَقُلْنَاهُ فَمَنْ سَالَ عَنْ الْقَصْرِ ... فَمَبْنِيًّا وَجَدْنَاهُ وَعَلَى الْقَصْرِ نَسْرٌ، فَنَادَاهُ سُلَيْمَانُ، فَأَقْبَلَ إلَيْهِ، فَقَالَ: مُذْ كَمْ أَنْتَ هَاهُنَا؟ قَالَ: مُذْ تِسْعِمِائَةِ سَنَةٍ. وَوَجَدْت الْقَصْرَ عَلَى هَيْئَتِهِ. قَالَ الْقَاضِي: قَرَأْت بِمَدِينَةِ السَّلَامِ عَلَى أَبِي بَكْرِ النَّجِيبِ بْنِ الْأَسْعَدِ قَالَ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فَتُّوحٍ الرُّصَافِيُّ، أَنْبَأَنَا الْخَطِيبُ أَبُو بَكْرٍ الْحَافِظُ، حَدَّثَنِي أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرِّفَاعِيُّ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ بِأَصْبَهَانَ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أُسَيْدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْغَلَّابِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى الْإِفْرِيقِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد يَرْكَبُ الرِّيحَ مِنْ إصْطَخْرَ فَيَتَغَدَّى بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَتَعَشَّى بِإِصْطَخْرِ. فَقَالَ: إنَّ ابْنَ حَبِيبٍ أَدْرَكَ مَالِكًا، وَمَا أَرَاهُ وَلَا هَذَا الْحَدِيثَ إلَّا مَقْطُوعًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى مَالِكٌ وَغَيْرُهُ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «نَزَلَ نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَلَدَغَتْهُ نَمْلَةٌ، فَأَمَرَ بِجِهَازِهِ فَأُخْرِجَ مِنْ تَحْتِهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِبَيْتِهَا فَأُحْرِقَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ فَهَلَّا نَمْلَةً وَاحِدَةً».

الآية الثالثة قوله تعالى وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون

[الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ] َ} [النمل: 17] فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {يُوزَعُونَ} [النمل: 17] يَعْنِي يَمْنَعُونَ وَيَدْفَعُونَ، وَيَرُدُّ أَوَّلُهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى يُلْهَمُونَ مِنْ قَوْلِهِ: {أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} [النمل: 19] أَيْ أَلْهِمْنِي. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْأُولَى، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ رُدَّنِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى أَشْهَبُ قَالَ: قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: قَالَ عُثْمَانُ: مَا يَزَعُ النَّاسَ السُّلْطَانُ أَكْثَرَ مِمَّا يَزَعُهُمْ الْقُرْآنُ. قَالَ مَالِكٌ: يَعْنِي يَكُفُّهُمْ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ مِثْلُهُ، وَزَادَ ثُمَّ تَلَا مَالِكٌ: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: 17] أَيْ يُكَفُّونَ. وَقَدْ جَهِلَ قَوْمٌ الْمُرَادَ بِهَذَا الْكَلَامِ، فَظَنُّوا أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ قُدْرَةَ السُّلْطَانِ تَرْدَعُ النَّاسَ أَكْثَرَ مِمَّا تَرْدَعُهُمْ حُدُودُ الْقُرْآنِ. وَهَذَا جَهْلٌ بِاَللَّهِ وَحُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَوَضْعِهِ لِخَلْقِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ مَا وَضَعَ الْحُدُودَ إلَّا مَصْلَحَةً عَامَّةً كَافَّةً قَائِمَةً بِقِوَامِ الْحَقِّ، لَا زِيَادَةَ عَلَيْهَا وَلَا نُقْصَانَ مَعَهَا، وَلَا يَصْلُحُ سِوَاهَا، وَلَكِنَّ الظَّلَمَةَ خَاسُوا بِهَا، وَقَصَّرُوا عَنْهَا، وَأَتَوْا مَا أَتَوْا بِغَيْرِ نِيَّةٍ مِنْهَا، وَلَمْ يَقْصِدُوا وَجْهَ اللَّهِ فِي الْقَضَاءِ بِهَا؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يَرْتَدِعْ الْخَلْقُ بِهَا. وَلَوْ حَكَمُوا بِالْعَدْلِ؛ وَأَخْلِصُوا النِّيَّةَ، لَاسْتَقَامَتْ الْأُمُورُ، وَصَلُحَ الْجُمْهُورُ؛ وَقَدْ شَاهَدْتُمْ مِنَّا إقَامَةَ الْعَدْلِ وَالْقَضَاءَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ بِالْحَقِّ، وَالْكَفَّ لِلنَّاسِ بِالْقِسْطِ، وَانْتَشَرَتْ الْأَمَنَةُ، وَعَظُمَتْ الْمَنَعَةُ، وَاتَّصَلَتْ فِي الْبَيْضَةِ الْهُدْنَةُ، حَتَّى غَلَبَ قَضَاءُ اللَّهِ بِفَسَادِ الْحَسَدَةِ، وَاسْتِيلَاءِ الظَّلَمَةِ.

الآية الرابعة قوله تعالى حتى إذا أتوا على واد النمل

[الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى حَتَّى إذَا أَتَوْا عَلَى وَادٍ النَّمْلِ] ِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18] فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رَأَيْت بَعْضَ الْبَصْرِيِّينَ قَدْ قَالَ: إنَّ النَّمْلَةَ كَانَ لَهَا جَنَاحَانِ، فَصَارَتْ فِي جُمْلَةِ الطَّيْرِ، وَلِذَلِكَ فَهِمَ مَنْطِقَهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ إلَّا مَنْطِقَ الطَّيْرِ؛ وَهَذَا نُقْصَانٌ عَظِيمٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا الْحِكْمَةَ فِي ذِكْرِ الطَّيْرِ خُصُوصًا دُونَ سَائِرِ الْبَهَائِمِ وَالْحَشَرَاتِ، وَمَا لَا يَعْقِلُ. وَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَفْهَمُ كَلَامَ مَنْ لَا يَتَكَلَّمُ، وَيُخْلَقُ لَهُ فِيهِ الْقَوْلُ مِنْ النَّبَاتِ؛ فَكَانَ كُلُّ نَبَاتٍ يَقُولُ لَهُ: أَنَا شَجَرَةُ كَذَا، أَنْفَعُ مِنْ كَذَا، وَأَضُرُّ مِنْ كَذَا، وَفَائِدَتِي كَذَا، فَمَا ظَنُّك بِالْحَيَوَانِ، الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18] فَانْظُرْ إلَى فَهْمِهَا بِأَنَّ جُنْدَ سُلَيْمَانَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يُؤْذِي نَمْلَةً مَعَ الْقَصْدِ إلَى ذَلِكَ، وَالْعِلْمِ بِهِ، تَقِيَّةً لِسُلَيْمَانَ؛ لِأَنَّ مِنْهُمْ التَّقِيَّ وَالْفَاجِرَ، وَالْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ؛ إذْ كَانَ فِيهِمْ الشَّيَاطِينُ. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ جَيْشِ مُحَمَّدٍ بِمِثْلِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الفتح: 25]. وَهَذَا مِنْ فَضَائِلِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ، وَفِي مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ مِنْ كِتَابِ " أَنْوَارِ الْفَجْرِ ". وَقَدْ انْتَهَى الْجَهْلُ بِقَوْمٍ إلَى أَنْ يَقُولُوا: إنَّ مَعْنَاهُ: وَالنَّمْلُ لَا يَشْعُرُونَ، فَخَرَجَ مِنْ خِطَابِ الْمُوَاجَهَةِ إلَى خِطَابِ الْغَائِبِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا فَائِدَةٍ إلَّا إبْطَالَ الْمُعْجِزَةِ لِهَذَا النَّبِيِّ

الآية الخامسة قوله تعالى فتبسم ضاحكا من قولها

الْكَرِيمِ، وَاَللَّهُ وَلِيُّ التَّقْوِيمِ. كَمَا انْتَهَى الْإِفْرَاطُ بِقَوْمٍ إلَى أَنْ يَقُولُوا: إنَّهُ كَانَ مِنْ كَلَامِ النَّمْلَةِ لَهُ أَنْ قَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ؛ أَرَى لَك مُلْكًا عَظِيمًا، فَمَا أَعْظَمُ جُنْدِك؟ قَالَ لَهَا: تَسْخِيرُ الرِّيحِ. قَالَتْ لَهُ: إنَّ اللَّهَ أَعْلَمَك أَنَّ كُلَّ مَا أَنْتَ فِيهِ فِي الدُّنْيَا رِيحٌ. وَمَا أَحْسَنُ الِاقْتِصَادَ، وَأَضْبَطُ السَّدَادَ لِلْأُمُورِ وَالِانْتِقَادَ، [الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا] وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقَوْلُ فِي التَّبَسُّمِ: وَهُوَ أَوَّلُ الضَّحِكِ، وَآخِرُهُ بُدُوُّ النَّوَاجِذِ؛ وَذَلِكَ يَكُونُ مَعَ الْقَهْقَهَةِ، وَجُلُّ ضَحِكِ الْأَنْبِيَاءِ التَّبَسُّمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْ الضَّحِكِ مَكْرُوهٌ، لِقَوْلِهِ: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة: 82]. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ كَانَ لَا يَضْحَكُ؛ اهْتِمَامًا بِنَفْسِهِ وَفَسَادِ حَالِهِ فِي اعْتِقَادِهِ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا طَائِعًا. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَضْحَكُ، وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ فِي الْكُفَّارِ: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} [التوبة: 82] لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ النِّفَاقِ يَعْنِي ضَحِكَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ تَهْدِيدٌ لَا أَمْرٌ بِالضَّحِكِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: «جَاءَتْ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ رِفَاعَةُ طَلَّقَهَا فَبَتَّ طَلَاقَهَا، فَتَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ وَاَللَّهِ مَا مَعَهُ إلَّا مِثْلُ هَذِهِ الْهُدْبَةِ الْهُدْبَةُ أَخَذَتْهَا مِنْ جِلْبَابِهَا، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَخَالِدٌ جَالِسَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ جَالِسٌ بِبَابِ الْحُجْرَةِ لِيُؤْذَنَ لَهُ، فَطَفِقَ خَالِدٌ يُنَادِي:

يَا أَبَا بَكْرٍ، اُنْظُرْ مَا تَجْهَرُ بِهِ هَذِهِ الْمَرْأَةُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا يَزِيدُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى التَّبَسُّمِ. ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّك تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ.» الْحَدِيثَ. «وَاسْتَأْذَنَ عُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِنْدَهُ نِسْوَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَسْأَلْنَهُ وَيَسْتَكْثِرْنَهُ عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ عَلَى صَوْتِهِ؛ فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ تَبَادَرْنَ الْحِجَابَ، فَأَذِنَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَخَلَ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَضْحَكُ. فَقَالَ: أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّك يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، فَقَالَ: عَجِبْت مِنْ هَؤُلَاءِ اللَّاتِي كُنَّ عِنْدِي، فَلَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَك تَبَادَرْنَ الْحِجَابَ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا كَانَ بِالطَّائِفِ قَالَ: إنَّا قَافِلُونَ غَدًا إنْ شَاءَ اللَّهُ. فَقَالَ أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا نَبْرَحُ حَتَّى نَفْتَحَهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَاغْدُوَا عَلَى الْقِتَالِ. قَالَ: فَغَدَوْا، فَقَاتَلُوهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، وَكَثُرَتْ الْجِرَاحَاتُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّا قَافِلُونَ غَدًا إنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ: فَسَكَتُوا. قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: هَلَكْت، وَأَهْلَكْت، وَقَعْت عَلَى أَهْلِي فِي رَمَضَانَ. قَالَ: اعْتِقْ رَقَبَةً. قَالَ: لَيْسَ لِي مَالٌ. قَالَ: فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ. قَالَ: فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا. قَالَ: لَا أَجِدُ. قَالَ: فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ بِعَرَقِ تَمْرٍ. وَالْعَرَقُ: الْمِكْتَلُ. فَقَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ؟ تَصَدَّقْ بِهَذَا

الآية السادسة قوله تعالى وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد

قَالَ: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّي، وَاَللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنَّا. فَضَحِكَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ. قَالَ: فَأَنْتُمْ إذًا». وَلَمَّا سَأَلَهُ النَّاسُ الْمَطَرَ فَأُمْطِرُوا، ثُمَّ سَأَلُوهُ الصَّحْوَ ضَحِكَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنْ قِيلَ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكَ سُلَيْمَانُ؟ قُلْنَا: فِيهِ أَقْوَالٌ: أَصَحُّهَا أَنَّهُ ضَحِكَ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي تَسْخِيرِ الْجَيْشِ وَعَظِيمِ الطَّاعَةِ، حَتَّى لَا يَكُونَ اعْتِدَاءً. وَلِذَلِكَ قَالَ: {أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} [النمل: 19] وَهُوَ حَقِيقَةُ الشُّكْرِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِي لَا أَرَى الْهُدْهُدَ] َ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل: 20]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ تَفَقُّدِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الطَّيْرَ كَانَتْ تُظِلُّ سُلَيْمَانُ مِنْ الشَّمْسِ حَتَّى تَصِيرَ عَلَيْهِ صَافَّاتٍ، كَالْغَمَامَةِ، فَطَارَ الْهُدْهُدُ عَنْ مَوْضِعِهِ، فَأَصَابَتْ الشَّمْسُ سُلَيْمَانَ، فَتَفَقَّدَهُ حِينَئِذٍ. الثَّانِي: أَنَّ الْهُدْهُدَ كَانَ يَرَى تَحْتَ الْأَرْضِ الْمَاءَ، فَكَانَ يَنْزِلُ بِجَيْشِهِ، ثُمَّ يَقُولُ لِلْهُدْهُدِ: اُنْظُرْ بُعْدَ الْمَاءِ مِنْ قُرْبِهِ، فَيُشِيرُ لَهُ إلَى بِقْعَةٍ، فَيَأْمُرُ الْجِنَّ فَتَسْلُخُ الْأَرْضَ سَلْخَ الْأَدِيمِ، حَتَّى تَبْلُغَ الْمَاءَ، فَيَسْتَقِي وَيَسْقِي.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ سُلَيْمَانُ: مَا لِي لَا أَرَى الْهُدْهُدَ. وَلَمْ يَقُلْ: مَا لِلْهُدْهُدِ لَا أَرَاهُ، قَالَ لَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ الشَّهِيدُ: قَالَ لَنَا جَمَالُ الْإِسْلَامِ وَشَيْخُ الصُّوفِيَّةِ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ هَوَازِنَ: إنَّمَا قَالَ: [مَالِي لَا أَرَى الْهُدْهُدَ]؛ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ حَالَ نَفْسِهِ؟ إذْ عَلِمَ أَنَّهُ أُوتِيَ الْمُلْكَ الْعَظِيمَ، وَسُخِّرَ لَهُ الْخَلْقُ، فَقَدْ لَزِمَهُ حَقُّ الشُّكْرِ بِإِقَامَةِ الطَّاعَةِ وَإِدَامَةِ الْعَمَلِ. فَلَمَّا فَقَدَ نِعْمَةَ الْهُدْهُدِ تَوَقَّعَ أَنْ يَكُونَ قَصَّرَ فِي حَقِّ الشُّكْرِ، فَلِأَجْلِهِ سُلِبَهَا، فَجَعَلَ يَتَفَقَّدُ نَفْسَهُ، فَقَالَ: مَالِي، وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ شُيُوخُ الصُّوفِيَّةِ إذَا فَقَدُوا آمَالَهُمْ تَفَقَّدُوا أَعْمَالَهُمْ. هَذَا فِي الْآدَابِ، فَكَيْفَ بِنَا الْيَوْمَ، وَنَحْنُ نُقَصِّرُ فِي الْفَرَائِضِ، الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا يَدُلُّ مِنْ سَلِيمَانِ عَلَى تَفَقُّدِهِ أَحْوَالَ الرَّعِيَّةِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِمْ، فَانْظُرُوا إلَى الْهُدْهُدِ وَإِلَى صِغَرِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِبْ عَنْهُ حَالُهُ، فَكَيْفَ بِعَظَائِمِ الْمُلْكِ؟ وَيَرْحَمُ اللَّهُ عُمَرَ، فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى سِيرَتِهِ قَالَ: " لَوْ أَنَّ سَخْلَةً بِشَاطِئِ الْفُرَاتِ أَخَذَهَا الذِّئْبُ لَيُسْأَلُ عَنْهَا عُمَرُ، فَمَا ظَنُّك بِوَالٍ تَذْهَبُ عَلَى يَدَيْهِ الْبُلْدَانُ، وَتَضِيعُ الرَّعِيَّةُ، وَتَضِيعُ الرُّعْيَانُ، الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ ابْنُ الْأَزْرَقِ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ سَمِعَهُ يَذْكُرُ شَأْنَ الْهُدْهُدِ هَذَا: قِفْ يَا وَقَّافٍ. كَيْفَ يَرَى الْمَاءَ تَحْتَ الْأَرْضِ، وَلَا يَرَى الْحَبَّةَ فِي الْفَخِّ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بَدِيهَةً: إذَا نَزَلَ الْقَدَرُ عَشِيَ الْبَصَرُ. وَلَا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ إلَّا عَالِمُ الْقُرْآنِ وَقَدْ أَنْشَدَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ التِّنِّيسِيُّ الْوَاعِظُ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْفَضْلِ الْجَوْهَرِيِّ فِي هَذَا الْمَعْنَى:

الآية السابعة قوله تعالى لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه

إذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا بِامْرِئٍ ... وَكَانَ ذَا عَقْلٍ وَسَمْعٍ وَبَصَرْ وَحِيلَةٍ يَعْمَلُهَا فِي دَفْعِ مَا ... يَأْتِي بِهِ مَكْرُوهُ أَسْبَابِ الْقَدَرْ غَطَّى عَلَيْهِ سَمْعَهُ وَعَقْلَهُ ... وَسَلَّهُ مِنْ ذِهْنِهِ سَلَّ الشَّعَرْ حَتَّى إذَا أَنْفَذَ فِيهِ حُكْمَهُ ... رَدَّ عَلَيْهِ عَقْلَهُ لِيَعْتَبِرْ [الْآيَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ] ُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل: 21]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الطَّيْرَ كَانُوا مُكَلَّفِينَ؛ إذْ لَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ فِعْلٍ إلَّا مَنْ كُلِّفَ ذَلِكَ الْفِعْلَ، وَبِهَذَا يُسْتَدَلُّ عَلَى جَهْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ مِنْ سُلَيْمَانَ اسْتِدْلَالًا بِالْأَمَارَاتِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلطَّيْرِ عَقْلٌ، وَلَا كَانَ لِلْبَهَائِمِ عِلْمٌ، وَلَا أُوتِيَ سُلَيْمَانُ عِلْمَ مَنْطِقِ الطَّيْرِ. وَقَاتَلَهُمْ اللَّهُ، مَا أَجْرَأَهُمْ عَلَى الْخَلْقِ فَضْلًا عَنْ الْخَالِقِ، الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَانَ الْهُدْهُدُ صَغِيرَ الْجُرْمِ، وَوُعِدَ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ لِعَظِيمِ الْجُرْمِ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَدَّ عَلَى قَدْرِ الذَّنْبِ، لَا عَلَى قَدْرِ الْجَسَدِ، أَمَّا إنَّهُ يُرْفَقُ بِالْمَحْدُودِ فِي الزَّمَانِ وَالصِّفَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي أَحْكَامِ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ. [الْآيَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ] ٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22].

الآية التاسعة قوله تعالى إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم

وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَ يَقُولُ لِلْكَبِيرِ، وَالْمُتَعَلِّمُ لِلْعَالِمِ: عِنْدِي مَا لَيْسَ عِنْدَك، إذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ وَتَيَقَّنَهُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي آدَابِ الْعِلْمِ. [الْآيَة التَّاسِعَة قَوْله تَعَالَى إنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ] ٌ} [النمل: 23]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هِيَ بِلْقِيسُ بِنْتُ شُرَحْبِيلَ مَلِكَةُ سَبَأٍ، وَأُمُّهَا جِنِّيَّةٌ بِنْتُ أَرْبَعِينَ مَلِكًا. وَهَذَا أَمْرٌ تُنْكِرُهُ الْمُلْحِدَةُ. وَيَقُولُونَ: إنَّ الْجِنَّ لَا يَأْكُلُونَ، وَلَا يَلِدُونَ وَكَذَبُوا لَعَنَهُمْ اللَّهُ أَجْمَعِينَ. ذَلِكَ صَحِيحٌ وَنِكَاحُهُمْ مَعَ الْإِنْسِ جَائِزٌ عَقْلًا. فَإِنْ صَحَّ نَقْلًا فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَإِلَّا بَقَيْنَا عَلَى أَصْلِ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ. . [مَسْأَلَة سَبَأ رَجُلٌ وُلِدَ لَهُ عَشْرَةُ أَوْلَادٍ وَكَانَ لَهُمْ خَبَرٌ فَسَمَّى الْبَلَد بِاسْمِ الْقَبِيلَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ فِي سَبَأٍ: هُوَ رَجُلٌ وُلِدَ لَهُ عَشْرَةُ أَوْلَادٍ، وَكَانَ لَهُمْ خَبَرٌ فَسَمَّى الْبَلَدَ بِاسْمِ الْقَبِيلَةِ»، أَوْ ذَكَرَ أَنَّهُ جَاءَ مِنْ الْقَبِيلَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَمَّى الْبَلَدَ بِاسْمِ الْقَبِيلَةِ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ الْمُرَادِيِّ، قَالَ: «أَتَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَلَا أُقَاتِلُ مَنْ أَدْبَرَ مِنْ قَوْمِي بِمَنْ أَقْبَلَ مِنْهُمْ، فَأَذِنَ لِي فِي قِتَالِهِمْ وَأَمَرَنِي. فَلَمَّا خَرَجْت مِنْ عِنْدِهِ سَأَلَ عَنِّي مَا فَعَلَ الْقَطِيفِيُّ؟ فَأَخْبَرَ بِأَنِّي قَدْ سِرْت. قَالَ: فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِي فَرَدَّنِي، فَأَتَيْته، وَهُوَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اُدْعُ الْقَوْمَ، فَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ فَاقْبَلْ مِنْهُ، وَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ فَلَا تَعْجَلْ حَتَّى أُحْدِثَ لَك.

مسألة المرأة لا تكون خليفة

وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي سَبَأٍ مَا أَنْزَلَ. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ مَا سَبَأٌ؟ أَرْضٌ أَوْ امْرَأَةٌ؟ فَقَالَ: لَيْسَ بِأَرْضٍ وَلَا امْرَأَةٍ، وَلَكِنَّهُ رَجُلٌ وَلَدَ عَشَرَةً مِنْ الْعَرَبِ فَتَيَامَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ، وَتَشَاءَمَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ؟ فَأَمَّا الَّذِينَ تَشَاءَمُوا فَلَخْمُ وَجُذَامُ وَغَسَّانُ وَعَامِلَةُ. وَأَمَّا الَّذِينَ تَيَامَنُوا فَالْأَزْدُ، وَالْأَشْعَرِيُّونَ، وَحِمْيَرُ، وَكِنْدَةُ، وَمِذْحَجُ، وَأَنْمَارٌ. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ وَمَا أَنْمَارُ؟ قَالَ: الَّذِينَ مِنْهُمْ خَثْعَمُ وَبُجَيْلَةُ». وَرُوِيَ فِي هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثٌ آخَرُ. [مَسْأَلَة الْمَرْأَةَ لَا تَكُونُ خَلِيفَةً] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ كِسْرَى لَمَّا مَاتَ وَلَّى قَوْمُهُ بِنْتَهُ: لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً». وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَكُونُ خَلِيفَةً، وَلَا خِلَافَ فِيهِ. وَنُقِلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ إمَامِ الدِّينِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ قَاضِيَةً؛ وَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ عَنْهُ؛ وَلَعَلَّهُ كَمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا [إنَّمَا] تَقْضِي فِيمَا تَشْهَدُ فِيهِ، وَلَيْسَ بِأَنْ تَكُونَ قَاضِيَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَا بِأَنْ يُكْتَبَ لَهَا مَنْشُورٌ بِأَنَّ فُلَانَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْحُكْمِ، إلَّا فِي الدِّمَاءِ وَالنِّكَاحِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كَسَبِيلِ التَّحْكِيمِ أَوْ الِاسْتِبَانَةِ فِي الْقَضِيَّةِ الْوَاحِدَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً». وَهَذَا هُوَ الظَّنُّ بِأَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ جَرِيرٍ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَدَّمَ امْرَأَةً عَلَى حِسْبَةِ السُّوقِ، وَلَمْ يَصِحَّ؛ فَلَا تَلْتَفِتُوا إلَيْهِ؛ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ دَسَائِسِ الْمُبْتَدِعَةِ فِي الْأَحَادِيثِ.

وَقَدْ تَنَاظَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ الْمَالِكِيُّ الْأَشْعَرِي مَعَ أَبِي الْفَرَجِ بْنِ طَرَارٍ شَيْخِ الشَّافِعِيَّةِ بِبَغْدَادَ فِي مَجْلِسِ السُّلْطَانِ الْأَعْظَمِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، فَمَاحَلَ وَنَصَرَ ابْنُ طَرَارٍ لِمَا يُنْسَبُ إلَى ابْنِ جَرِيرٍ، عَلَى عَادَةِ الْقَوْمِ التَّجَادُلُ عَلَى الْمَذَاهِبِ، وَإِنْ لَمْ يَقُولُوا بِهَا اسْتِخْرَاجًا لِلْأَدِلَّةِ وَتَمَرُّنًا فِي الِاسْتِنْبَاطِ لِلْمَعَانِي؛ فَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ طَرَارٍ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ يَجُوزُ أَنْ تَحْكُمَ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ الْأَحْكَامِ تَنْفِيذُ الْقَاضِي لَهَا، وَسَمَاعُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهَا، وَالْفَصْلُ بَيْنَ الْخُصُومِ فِيهَا، وَذَلِكَ يُمْكِنُ مِنْ الْمَرْأَةِ، كَإِمْكَانِهِ مِنْ الرَّجُلِ. فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَنَقَضَ كَلَامَهُ بِالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى؛ فَإِنَّ الْغَرَضَ مِنْهَا حِفْظُ الثُّغُورِ، وَتَدْبِيرُ الْأُمُورِ، وَحِمَايَةُ الْبَيْضَةِ، وَقَبْضُ الْخَرَاجِ، وَرَدُّهُ عَلَى مُسْتَحِقِّيهِ، وَذَلِكَ يَتَأَتَّى مِنْ الْمَرْأَةِ كَتَأَتِّيه مِنْ الرَّجُلِ. فَقَالَ لَهُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ طَرَارٍ: هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الشَّرْعِ، إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِهِ. فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ أَصْلُ الشَّرْعِ. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: هَذَا تَعْلِيلٌ لِلنَّقْضِ، يُرِيدُ: وَالنَّقْضُ لَا يُعَلَّلُ. وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ قَوْلِ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَيْسَ كَلَامُ الشَّيْخَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَا يَتَأَتَّى مِنْهَا أَنْ تَبْرُزَ إلَى الْمَجَالِسِ، وَلَا تُخَالِطَ الرِّجَالَ، وَلَا تُفَاوِضَهُمْ مُفَاوَضَةَ النَّظِيرِ لِلنَّظِيرِ، لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ فَتَاةً حَرُمَ النَّظَرُ إلَيْهَا وَكَلَامُهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُتَجَالَّةً بَرْزَةً لَمْ يَجْمَعْهَا وَالرِّجَالَ مَجْلِسٌ تَزْدَحِمُ فِيهِ مَعَهُمْ، وَتَكُونُ مَنْظَرَةً لَهُمْ، وَلَمْ يُفْلِحْ قَطُّ مَنْ تَصَوَّرَ هَذَا، وَلَا مَنْ اعْتَقَدَهُ.

الآية العاشرة قوله تعالى قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين

[الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ قَوْله تَعَالَى قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنْ الْكَاذِبِينَ] َ} [النمل: 27]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ} [النمل: 27] لَمْ يُعَاقِبْهُ؛ لِأَنَّهُ اعْتَذَرَ لَهُ، وَلَا أَحَدٌ أَحَبُّ إلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ بَعَثَ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ. وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الْوَالِي أَنْ يَقْبَلَ عُذْرَ رَعِيَّتِهِ، وَيَدْرَأَ الْعُقُوبَةَ عَنْهُمْ فِي ظَاهِرِ أَحْوَالِهِمْ بِبَاطِنِ أَعْذَارِهِمْ، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَمْتَحِنَ ذَلِكَ إذَا تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، كَمَا فَعَلَ سُلَيْمَانُ؟ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُ [الْهُدْهُدُ]: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23] لَمْ يَسْتَفِزَّهُ الطَّمَعُ، وَلَا اسْتَجَرَّهُ حُبُّ الزِّيَادَةِ فِي الْمِلْكِ إلَى أَنْ يَعْرِضَ لَهُ، حَتَّى قَالَ: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل: 24]، حِينَئِذٍ غَاظَهُ مَا سَمِعَ، وَطَلَبَ الِانْتِهَاءَ إلَى مَا أَخْبَرَ، وَتَحْصِيلَ عِلْمِ مَا غَابَ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى يُغَيِّرَهُ بِالْحَقِّ، وَيَرُدَّهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَنَحْوٌ مِنْهُ مَا يُرْوَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ عَنْ إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ، وَهِيَ الَّتِي يُضْرَبُ بَطْنُهَا فَتُلْقِي جَنِينَهَا، فَقَالَ: أَيُّكُمْ سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ شَيْئًا؟ قُلْت: أَنَا يَعْنِي الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ فَقَالَ: مَا هُوَ؟ قُلْت: سَمِعْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «فِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ». فَقَالَ: " لَا تَبْرَحْ حَتَّى تَجِيءَ بِالْمَخْرَجِ مِنْ ذَلِكَ " فَخَرَجْت، فَوَجَدْت مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ، فَجِئْت بِهِ، فَشَهِدَ. وَكَانَ هَذَا تَثَبُّتًا مِنْ عُمَرَ احْتَجَّ بِهِ لِنَفْسِهِ. وَأَمَّا الْمُغِيرَةُ فَتَوَقَّفَ فِيمَا قَالَ لِأَجْلِ قِصَّةِ أَبِي بَكْرَةَ، وَهَذَا كُلُّهُ مُبَيَّنٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.

الآية الحادية عشرة قوله تعالى اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَوْ قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: سَنَنْظُرُ فِي أَمْرِك لَاجْتَزَأَ بِهِ، وَلَكِنَّ الْهُدْهُدَ لَمَّا صَرَّحَ لَهُ بِفَخْرِ الْعِلْمِ، {فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل: 22] صَرَّحَ لَهُ سُلَيْمَانُ بِأَنَّهُ سَيَنْظُرُ، أَصَدَقَ أَمْ كَذَبَ فَكَانَ ذَلِكَ كُفُؤًا لِمَا قَالَهُ. [الْآيَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إلَيْهِمْ] ْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل: 28] {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29] {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29] فِيهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: لِخَتْمِهِ، وَكَرَامَةُ الْكِتَابِ خَتْمُهُ. الثَّانِي: لِحُسْنِ مَا فِيهِ مِنْ بَلَاغَةٍ وَإِصَابَةِ مَعْنًى. الثَّالِثُ: كَرَامَةُ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكٌ. الرَّابِعُ: كَرَامَةُ رَسُولِهِ؛ لِأَنَّهُ طَائِرٌ؛ وَمَا عُهِدَتْ الرُّسُلُ مِنْهَا. الْخَامِسُ: لِأَنَّهُ بَدَأَ فِيهِ بِبَسْمِ اللَّهِ. السَّادِسُ: لِأَنَّهُ بَدَأَ فِيهِ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا الْجُلَّةُ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يُبَايِعُهُ: لِعَبْدِ اللَّهِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؛ إنِّي أَقِرُّ لَك بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ مَا اسْتَطَعْت، وَإِنَّ بَنِيَّ قَدْ أَقَرُّوا لَك بِذَلِكَ. وَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَحَدٌ قَبْلَ سُلَيْمَانَ.

مسألة من قال إن بسم الله الرحمن الرحيم ليست آية من القرآن

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْوَصْفُ الْكَرِيمُ فِي الْكِتَابِ غَايَةُ الْوَصْفِ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77]. وَأَهْلُ الزَّمَانِ يَصِفُونَ الْكِتَابَ بِالْخَطِيرِ، وَبِالْأَثِيرِ، وَبِالْمَبْرُورِ؛ فَإِنْ كَانَ لِمَلِكٍ قَالُوا: الْعَزِيزَ؛ وَأَسْقَطُوا الْكَرِيمَ غَفْلَةً، وَهُوَ أَفْضَلُهَا خَصْلَةً. فَأَمَّا الْوَصْفُ بِالْعَزِيزِ فَقَدْ اتَّصَفَ بِهِ الْقُرْآنُ أَيْضًا؛ فَقَالَ: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت: 41] {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42]. فَهَذِهِ عِزَّتُهُ، وَلَيْسَتْ لِأَحَدٍ إلَّا لَهُ؛ فَاجْتَنِبُوهَا فِي كُتُبِكُمْ، وَاجْعَلُوا بَدَلَهَا الْعَالِيَ، تَوْقِيَةً لِحَقِّ الْوِلَايَةِ، وَحِيَاطَةً لِلدِّيَانَةِ. [مَسْأَلَة مَنْ قَالَ إنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَيْسَتْ آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْبَسْمَلَةُ آيَةٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِإِجْمَاعٍ؛ وَلِذَلِكَ إنَّ مَنْ قَالَ: إنَّ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30] لَيْسَتْ آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ كُفْرٌ، وَمَنْ قَالَ: إنَّهَا لَيْسَتْ بِآيَةٍ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ لَمْ يَكْفُرْ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا. وَلَا يَكْفُرُ إلَّا بِالنَّصِّ أَوْ مَا يُجْمِعُ عَلَيْهِ. [الْآيَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ قَوْلُهُ تَعَالَى قَالَتْ يَأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي] الْآيَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} [النمل: 32]. فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْمُشَاوَرَةِ إمَّا اسْتِعَانَةً بِالْآرَاءِ، وَإِمَّا مُدَارَاةً لِلْأَوْلِيَاءِ. وَيُقَالُ: إنَّهَا أَوَّلُ مَنْ جَاءَ أَنَّهُ شَاوَرَ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَشُورَةَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ بِمَا أَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ، وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ الْفُضَلَاءَ بِقَوْلِهِ: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38].

الآية الثالثة عشرة قوله تعالى وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون

[الْآيَة الثَّالِثَةُ عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ] َ} [النمل: 35]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُرْوَى أَنَّهَا قَالَتْ: إنْ كَانَ نَبِيًّا لَمْ يَقْبَلْ الْهَدِيَّةَ، وَإِنْ كَانَ مَلِكًا قَبِلَهَا. وَفِي صِفَةِ النَّبِيِّ أَنَّهُ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ، وَلَا يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ. وَكَذَلِكَ كَانَ سُلَيْمَانُ، وَجَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ يَقْبَلُونَ الْهَدِيَّةَ. وَإِنَّمَا جَعَلَتْ بِلْقِيسُ قَبُولَ الْهَدِيَّةِ أَوْ رَدَّهَا عَلَامَةً عَلَى مَا فِي نَفْسِهَا؛ لِأَنَّهُ قَالَ لَهَا فِي كِتَابِهِ: {أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 31]. وَهَذَا لَا تُقْبَلُ فِيهِ فِدْيَةٌ، وَلَا تُؤْخَذُ عَنْهُ هَدِيَّةٌ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْبَابِ الَّذِي تَقَرَّرَ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ قَبُولِ الْهَدِيَّةِ بِسَبِيلٍ؛ وَإِنَّمَا هِيَ رِشْوَةٌ، وَبَيْعُ الْحَقِّ بِالْمَالِ هُوَ الرِّشْوَةُ الَّتِي لَا تَحِلُّ. وَأَمَّا الْهَدِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ لِلتَّحَبُّبِ وَالتَّوَاصُلِ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهَذَا مَا لَمْ تَكُنْ مِنْ مُشْرِكٍ؛ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ مُشْرِكٍ، فَفِي الْحَدِيثِ: «نُهِيت عَنْ زَبْدِ الْمُشْرِكِينَ». وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «لَقَدْ هَمَمْت أَلَّا أَقْبَلَ هَدِيَّةً إلَّا مِنْ ثَقَفِيٍّ أَوْ دَوْسِيٍّ». وَالصَّحِيحُ مَا ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا».

الآية الرابعة عشرة قوله تعالى قال يأيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها

وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «لَوْ دُعِيت إلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْت، وَلَوْ أُهْدِيَ إلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْت». وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَصْحَابِهِ فِي الصَّيْدِ: هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ؟ قُلْت: نَعَمْ. فَنَاوَلْته الْعَضُدَ». «وَقَدْ اسْتَسْقَى فِي دَارِ أَنَسٍ فَحُلِبَتْ لَهُ شَاةٌ وَشِيبٌ وَشَرِبَهُ». «وَأَهْدَى أَبُو طَلْحَةَ لَهُ وَرِكَ أَرْنَبٍ وَفَخِذَيْهَا فَقَبِلَهُ». «وَأَهْدَتْ أُمُّ حَفِيدٍ إلَيْهِ أَقِطًا وَسَمْنًا وَضَبًّا، فَأَكَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْأَقِطِ وَالسَّمْنِ، وَتَرَكَ الضَّبَّ». وَقَالَ فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ: «هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ». وَكَانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ. [الْآيَة الرَّابِعَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى قَالَ يَأَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا] الْآيَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى: {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ - قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [النمل: 38 - 39] {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 40]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْفَائِدَةُ فِي طَلَبِ عَرْشِهَا؟: قِيلَ: فِيهِ أَرْبَعُ فَوَائِدَ: الْفَائِدَةُ الْأُولَى: أَحَبَّ أَنْ يَخْتَبِرَ صِدْقَ الْهُدْهُدِ.

مسألة قوله تعالى قال الذي عنده علم من الكتاب

الثَّانِيَةُ: أَرَادَ أَخْذَهُ قَبْلَ أَنْ تُسْلِمَ، فَيَحْرُمَ عَلَيْهِ مَالُهَا. الثَّالِثَةُ: أَرَادَ أَنْ يَخْتَبِرَ عَقْلَهَا فِي مَعْرِفَتِهَا بِهِ. الرَّابِعَةُ: أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ دَلِيلًا عَلَى نُبُوَّتِهِ؛ لِأَخْذِهِ مِنْ ثِقَاتِهَا دُونَ جَيْشٍ وَلَا حَرْبٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْغَنِيمَةَ وَهِيَ أَمْوَالُ الْكُفَّارِ لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَإِنَّمَا قَصَدَ بِالْإِرْسَالِ إلَيْهَا إظْهَارَ نُبُوَّتِهِ، وَيَرْجِعُ إلَيْهَا مُلْكُهَا بَعْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى النُّبُوَّةِ بِهِ عِنْدَهَا. [مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 40] فِي تَسْمِيَتِهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ لَا تُسَاوِي سَمَاعَهَا، وَلَيْسَ عَلَى الْأَرْضِ مَنْ يَعْلَمُهُ. وَلَقَدْ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 40] قَالَ: كَانَتْ بِالْيَمَنِ، وَسُلَيْمَانُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالشَّامِ، أَرَادَ مَالِكٌ أَنَّ هَذِهِ مُعْجِزَةٌ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ بِالْعَرْشِ فِي الْمُدَّةِ الْقَصِيرَةِ لَا يَكُونُ إلَّا بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ تُعْدَمَ الْمَسَافَةُ بَيْنَ الشَّامِ وَالْيَمَنِ. وَإِمَّا أَنْ يُعْدَمَ الْعَرْشُ بِالْيَمَنِ، وَيُوجَدُ بِالشَّامِ، وَالْكُلُّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ هَيِّنٌ، وَهُوَ عِنْدَنَا غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ. [الْآيَة الْخَامِسَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاَللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ] ُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل: 49]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:

الآية السادسة عشرة قوله تعالى إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَمَّا صَانَ اللَّهُ بِالْقِصَاصِ فِي أُهُبِهَا الدِّمَاءَ، وَعَلَيْهَا تَسَلَّطَ عَلَمُ الْأَعْدَاءِ، شَرَعَ الْقَسَامَةَ بِالتُّهْمَةِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَاعْتَبَرَ فِيهَا التُّهْمَةَ، وَقَدْ حَبَسَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا فِي الدِّمَاءِ وَالِاعْتِدَاءِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي حُقُوقِ الْمُعَامَلَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْتَبَرَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ قَتِيلَ الْمَحَلَّةِ فِي الْقَسَامَةِ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ لِأَجْلِ طَلَبِ الْيَهُودِ، وَلِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ نَفَرًا مِنْ قَوْمِهِ أَتَوْا خَيْبَرَ فَتَفَرَّقُوا فِيهَا فَوَجَدُوا أَحَدَهُمْ قَتِيلًا، فَقَالُوا لِلَّذِي وُجِدَ فِيهِمْ: قَدْ قَتَلْتُمْ صَاحِبَنَا. قَالُوا: مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا قَاتِلَهُ. وَقَالَ عُمَرُ حِينَ قَدَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْيَهُودَ: أَنْتُمْ عَدُوُّنَا وَتُهْمَتُنَا. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْيَهُودِ وَبَدَأَ بِهِمْ: أَيَحْلِفُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ رَجُلًا. فَأَبَوْا، فَقَالَ لِلْأَنْصَارِ: أَتَحْلِفُونَ قَالُوا: نَحْلِفُ عَلَى الْغَيْبِ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَجَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى يَهُودَ»؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [الْآيَة السَّادِسَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى إنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا] الْآيَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [النمل: 91]. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.

سورة القصص فيها ثمان آيات

[سُورَةُ الْقَصَصِ فِيهَا ثَمَانِ آيَاتٍ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ] الْآيَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 10]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {فَارِغًا} [القصص: 10] فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: فَارِغًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، إلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. الثَّانِي: فَارِغًا مِنْ وَحْيِنَا يَعْنِي بِسَبَبِهِ. الثَّالِثُ: فَارِغًا مِنْ الْعَقْلِ؛ قَالَهُ مَالِكٌ؛ يُرِيدُ امْتَلَأَ وَلَهًا، يُرْوَى أَنَّهَا لَمَّا رَمَتْهُ فِي الْبَحْرِ جَاءَهَا الشَّيْطَانُ فَقَالَ لَهَا: لَوْ حَبَسْتِهِ فَذُبِحَ فَتَوَلَّيْت دَفْنَهُ، وَعَرَفْت مَوْضِعَهُ، وَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ قَتَلْتِهِ أَنْتِ. وَسَمِعَتْ ذَلِكَ، فَفَرَغَ فُؤَادُهَا مِمَّا كَانَ فِيهِ مِنْ الْوَحْيِ، إلَّا أَنَّ اللَّهَ رَبَطَ عَلَى قَلْبِهَا بِالصَّبْرِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَعْظَمِ آيِ الْقُرْآنِ فَصَاحَةً؛ إذْ فِيهَا أَمْرَانِ وَنَهْيَانِ وَخَبَرَانِ وَبِشَارَتَانِ.

الآية الثانية قوله تعالى فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا

[الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا] الْآيَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص: 8]. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِي اللَّقِيطِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهَذِهِ اللَّامُ لَامُ الْعَاقِبَةِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَلِلْمَنَايَا تُرَبِّي كُلُّ مُرْضِعَةٍ ... وَدُورُنَا لِخَرَابِ الدَّهْرِ نَبْنِيهَا [الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا] فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص: 15]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {فَاسْتَغَاثَهُ} [القصص: 15] طَلَبَ غَوْثَهُ وَنُصْرَتَهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا: {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} [القصص: 18] وَإِنَّمَا أَغَاثَهُ؛ لِأَنَّ نَصْرَ الْمَظْلُومِ دَيْنٌ فِي الْمِلَلِ كُلِّهَا، وَفَرْضٌ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ نَصْرُ الْمَظْلُومِ». وَفِيهِ أَيْضًا: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اُنْصُرْ أَخَاك ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا». فَنَصْرُهُ ظَالِمًا كَفُّهُ عَنْ الظُّلْمِ.

مسألة معنى قوله تعالى فوكزه موسى فقضى عليه

[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15] لَمْ يَقْصِدْ قَتْلَهُ؛ وَإِنَّمَا دَفْعَهُ فَكَانَتْ فِيهِ نَفْسُهُ، وَذَلِكَ قَتْلُ خَطَأٍ، وَلَكِنَّهُ فِي وَقْتٍ لَا يُؤْمَرُ فِيهِ بِقَتْلٍ وَلَا قِتَالٍ، فَلِذَلِكَ عَدَّهُ ذَنْبًا. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْمُشْكَلِينَ فِي بَابِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْهُ. [الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ] َ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص: 23]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {مَا خَطْبُكُمَا} [القصص: 23] إنَّمَا سَأَلَهُمَا شَفَقَةً مِنْهُ عَلَيْهِمَا وَرِقَّةً؛ وَلَمْ تَكُنْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَوْ فِي ذَلِكَ الشَّرْعِ حَجَبَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص: 23] يَعْنِي لِضَعْفِنَا لَا نَسْقِي إلَّا مَا فَضَلَ عَنْ الرِّعَاءِ مِنْ الْمَاءِ فِي الْحَوْضِ. وَقِيلَ: كَانَ الْمَاءُ يَخْرُجُ مِنْ الْبِئْرِ، فَإِذَا كَمُلَ سَقْيُ الرِّعَاءِ رَدُّوا عَلَى الْبِئْرِ حَجَرَهَا، فَإِنْ وُجِدَ فِي الْحَوْضِ بَقِيَّةٌ كَانَ ذَلِكَ سَقْيَهُمَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ بَقِيَّةٌ عَطِشَتْ غَنَمُهُمَا؛ فَرَقَّ لَهُمَا مُوسَى، وَرَفَعَ الْحَجَرَ، وَكَانَ لَا يَرْفَعُهُ عَشَرَةٌ، وَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ رَدَّهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُمَا لِأَبِيهِمَا: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26] وَهِيَ: [الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى فَجَاءَتْهُ إحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ] الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 25] {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26].

مسألة مشروعية الإجارة

فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ: يَا بُنَيَّةُ، هَذِهِ قُوَّتُهُ، فَمَا أَمَانَتُهُ؟ قَالَتْ: إنَّكَ لَمَّا أَرْسَلْتنِي إلَيْهِ قَالَ لِي: كُونِي وَرَائِي لِئَلَّا يَصِفَك الثَّوْبُ مِنْ الرِّيحِ، وَأَنَا عِبْرَانِيٌّ، لَا أَنْظُرُ إلَى أَدْبَارِ النِّسَاءِ، وَدُلِّينِي عَلَى الطَّرِيقِ يَمِينًا وَيَسَارًا. [مَسْأَلَة مَشْرُوعِيَّة الْإِجَارَة] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {اسْتَأْجِرْهُ} [القصص: 26] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْنَهُمْ وَعِنْدَهُمْ مَشْرُوعَةٌ مَعْلُومَةٌ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ فِي كُلِّ مِلَّةٍ، وَهِيَ مِنْ ضَرُورَةِ الْخَلِيقَةِ، وَمَصْلَحَةِ الْخُلْطَةِ بَيْنَ النَّاسِ خِلَافًا لِلْأَصَمِّ؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ حَيْثُ وَرَدَ فِي مَوَاضِعِهِ. [الْآيَة السَّادِسَة قَوْلُهُ تَعَالَى قَالَ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ] ِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص: 27] {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 28]. اعْلَمُوا، عَلَّمَكُمْ اللَّهُ الِاجْتِهَادَ، وَحِفْظَ سَبِيلَ الِاعْتِقَادِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمْ يَذْكُرْهَا الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، مَعَ أَنَّ مَالِكًا قَدْ ذَكَرَهَا، وَهَذِهِ غَفْلَةٌ لَا تَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ، وَفِيهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، وَآثَارٌ مِنْ جِنْسِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِهَا، وَنَحْنُ نَحْلُبُ دَرَّهَا، وَنَنْظِمُ دُرَرَهَا، وَنَشُدُّ مِئْزَرَهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَفِيهَا ثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ} [القصص: 27] فِيهِ عَرْضُ الْمَوْلَى وَلِيَّتَهُ عَلَى الزَّوْجِ، وَهَذِهِ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ: عَرَضَ صَالِحُ مَدْيَنَ ابْنَتَهُ عَلَى

صَالِحِ بَنِي إسْرَائِيلَ، وَعَرَضَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ابْنَتَهُ حَفْصَةَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَعَرَضَتْ الْمَوْهُوبَةُ نَفْسَهَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ حِينَ «تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَتُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ قَالَ: فَلَقِيت عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، فَعَرَضْت عَلَيْهِ حَفْصَةَ، فَقُلْت: إنْ شِئْت أَنْكَحْتُك حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ. فَقَالَ: سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي، فَلَبِثْت لَيَالِيَ، ثُمَّ لَقِيَنِي، فَقَالَ: قَدْ بَدَا لِي أَلَّا أَتَزَوَّجَ يَوْمِي هَذَا. قَالَ عُمَرُ: فَلَقِيت أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، فَقُلْت: إنْ شِئْت أَنْكَحْتُك حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ. فَصَمَتَ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمْ يُرْجِعْ إلَيَّ شَيْئًا، فَكُنْت عَلَيْهِ أَوْجَدُ مِنِّي عَلَى عُثْمَانَ، فَلَبِثْت لَيَالِيَ، ثُمَّ خَطَبَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنْكَحْتهَا إيَّاهُ، فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: لَعَلَّك وَجَدْت عَلِيَّ حِينَ عَرَضْت عَلَيَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أُرْجِعْ إلَيْك شَيْئًا، فَقُلْت: نَعَمْ. فَقَالَ: إنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أُرْجِعَ إلَيْك فِيمَا عَرَضْت عَلَيَّ إلَّا أَنِّي كُنْت عَلِمْت أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ ذَكَرَهَا، فَلَمْ أَكُنْ لَأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَوْ تَرَكَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَبِلْتهَا». وَأَمَّا حَدِيثُ الْمَوْهُوبَةِ فَرَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ قَالَ: «إنِّي لَفِي الْقَوْمِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ جَاءَتْ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ جِئْت أَهَبُ لَك نَفْسِي، فَرَأْيَك. فَنَظَرَ إلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَعَّدَ النَّظَرَ فِيهَا وَصَوَّبَهُ، ثُمَّ طَأْطَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَأَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا جَلَسَتْ وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنْ لَمْ تَكُنْ لَك بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا. فَقَالَ: هَلْ عِنْدَك مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: اذْهَبْ إلَى أَهْلِك فَانْظُرْ لَعَلَّك تَجِدُ شَيْئًا. فَذَهَبَ وَرَجَعَ فَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ مَا وَجَدْت شَيْئًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اُنْظُرْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ. فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ. وَلَكِنَّ هَذَا إزَارِي قَالَ سَهْلٌ: مَا لَهُ رِدَاءٌ فَلَهَا نِصْفُهُ.

مسألة ينعقد النكاح بكل لفظ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِك؟ إنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ لَبِسْته لَمْ يَكُنْ عَلَيْك مِنْهُ شَيْءٌ فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى طَالَ مَجْلِسُهُ، ثُمَّ قَامَ فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُوَلِّيًا، فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: مَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا، لِسُوَرٍ عَدَّدَهَا. قَالَ: تَقْرَأُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِك؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ». وَفِي رِوَايَةٍ: " زَوَّجْتُكهَا ". وَفِي أُخْرَى: " أَنْكَحْتُكهَا ". وَفِي رِوَايَةٍ: " أَمْكَنَّاكَهَا ". وَفِي رِوَايَةٍ: " وَلَكِنْ اُشْقُقْ بُرْدَتِي هَذِهِ، أَعْطِهَا النِّصْفَ وَخُذْ النِّصْفَ ". فَمِنْ الْحُسْنِ عَرْضُ الرَّجُلِ وَلِيَّتَهُ وَالْمَرْأَةِ نَفْسَهَا عَلَى الرَّجُلِ الصَّالِحِ اقْتِدَاءً بِهَذَا السَّلَفِ الصَّالِحِ. [مَسْأَلَة يَنْعَقِد النِّكَاح بِكُلِّ لَفْظٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اسْتَدَلَّ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ} [القصص: 27] عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ مَوْقُوفٌ عَلَى لَفْظِ التَّزْوِيجِ وَالْإِنْكَاحِ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِكُلِّ لَفْظٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَنْعَقِدُ بِكُلِّ لَفْظٍ يَقْتَضِي التَّمْلِيكَ عَلَى التَّأْبِيدِ. وَلَا حُجَّةَ لِلشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، وَهُمْ لَا يَرَوْنَهُ حُجَّةً فِي شَيْءٍ، وَنَحْنُ وَإِنْ كُنَّا نَرَاهُ حُجَّةً فَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا أَنَّ النِّكَاحَ بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَقَعَ، وَامْتِنَاعُهُ بِغَيْرِ لَفْظِ النِّكَاحِ لَا يُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَا يَقْتَضِيهِ بِظَاهِرِهَا، وَلَا يُنْظَرُ مِنْهَا؛ وَلَكِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ: «قَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ». وَرُوِيَ «أَمْكَنَّاكَهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ»، وَكُلٌّ مِنْهُمَا فِي الْبُخَارِيِّ. وَهَذَا نَصٌّ.

مسألة معنى قوله تعالى إحدى ابنتي هاتين

وَقَدْ رَامَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بِأَنْ يَجْعَلُوا انْعِقَادَ النِّكَاحِ بِلَفْظِهِ تَعَبُّدًا، كَانْعِقَادِ الصَّلَاةِ بِلَفْظِ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَيَأْبَوْنَ مَا بَيْنَ الْعُقُودِ وَالْعِبَادَاتِ. وَقَدْ حَقَّقْنَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ الْأَمْرَ وَسَنُبَيِّنُهُ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ابْتِدَاؤُهُ بِالرَّجُلِ قَبْلَ الْمَرْأَةِ فِي قَوْلِهِ: {أُنْكِحَكَ} [القصص: 27] وَذَلِكَ لِأَنَّهُ الْمُقَدَّمُ فِي الْعَقْدِ، الْمُلْتَزِمُ لِلصَّدَاقِ وَالنَّفَقَةِ، الْقَيِّمُ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَصَاحِبُ الدَّرَجَةِ عَلَيْهَا فِي حَقِّ النِّكَاحِ. وَأَبْيَنُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37]. فَبَدَأَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ زَيْنَبَ؛ وَهُوَ شَرْعُنَا الَّذِي لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى {إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص: 27] هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَرْضٌ لَا عَقْدٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَقْدًا لَعَيَّنَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا لَهُ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ وَإِنْ كَانُوا قَدْ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الْبَيْعِ إذَا قَالَ لَهُ: بِعْتُك أَحَدَ عَبْدِي هَذَيْنِ بِثَمَنِ كَذَا فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ خِيَارٌ، وَلَا شَيْءَ مِنْ الْخِيَارِ يَلْصَقُ بِالنِّكَاحِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: أَيَّتَهُمَا تُرِيدُ؟ قَالَ: الصُّغْرَى. ثُمَّ قَالَ مُوسَى: لَا، حَتَّى تُبْرِئَهَا مِمَّا فِي نَفْسِك، يُرِيدُ حِينَ قَالَتْ: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26]، فَامْتَلَأَتْ نَفْسُ صَالِحَ مَدْيَنَ غَيْرَةً، وَظَنَّ أَنَّهُ قَدْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا مُرَاجَعَةٌ فِي الْقَوْلِ وَمُؤَانَسَةٌ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ عَلِمْتِ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أَمَّا قُوَّتُهُ فَرَفْعُهُ الْحَجَرَ مِنْ فَمِ الْبِئْرِ وَحْدَهُ، وَكَانَ لَا يَرْفَعُهُ إلَّا عَشْرَةُ رِجَالٍ، وَأَمَّا أَمَانَتُهُ فَحِينَ مَشَيْت قَالَ لِي: كُونِي وَرَائِي، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَحِينَئِذٍ سَكَنَتْ نَفْسُهُ، وَتَمَكَّنَ أُنْسُهُ. [مَسْأَلَة إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَك هَلْ يَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ إيجَابًا أَمْ لَا] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ} [القصص: 27] هَلْ يَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ إيجَابًا أَمْ لَا؟ وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الِاسْتِدْعَاءِ، هَلْ يَكُونُ قَبُولًا؟ كَمَا إذَا قَالَ: بِعْنِي ثَوْبَك هَذَا. فَقَالَ: بِعْتُك، هَلْ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ أَمْ لَا؟ حَتَّى يَقُولَ الْآخَرُ قَبِلْت، عَلَى قَوْلَيْنِ:

مسألة تزويج الكبرى قبل الصغرى

فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: يَنْعَقِدُ، وَإِنْ تَقَدَّمَ الْقَبُولُ عَلَى الْإِيجَابِ بِلَفْظِ الِاسْتِدْعَاءِ لِحُصُولِ الْغَرَضِ مِنْ الرِّضَا بِهِ، عَلَى أَصْلِنَا؛ فَإِنَّ الرِّضَا بِالْقَلْبِ هُوَ الَّذِي يُعْتَبَرُ كَمَا وَقَعَ اللَّفْظُ، فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: أُرِيدُ أَنْ تُنْكِحَنِي، أَوْ أُنْكِحَك، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا إيجَابًا حَاصِلًا؛ فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ، وَقَالَ الْآخَرُ: نَعَمْ، انْعَقَدَ الْبَيْعُ وَالنِّكَاحُ. وَعَلَيْهِ يَدُلُّ ظَاهِرُ الْآيَةِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ} [القصص: 27] فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ: {ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} [القصص: 28] وَهَذَا انْعِقَادُ عَزْمٍ، وَتَمَامُ قَوْلٍ، وَحُصُولُ مَطْلُوبٍ، وَنُفُوذُ عَقْدٍ. وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا بَنِي النَّجَّارِ؛ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ فَقَالُوا: لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ، إلَّا إلَى اللَّهِ». فَانْعَقَدَ الْعَقْدُ، وَحَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْمِلْكِ. [مَسْأَلَة تَزْوِيجُ الْكُبْرَى قَبْلَ الصُّغْرَى] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُمْ: إنَّهُ زَوَّجَ الصُّغْرَى. يُرْوَى عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنْ سُئِلْت أَيُّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى فَقُلْ: خَيْرَهُمَا وَأَوْفَاهُمَا. وَإِنْ سُئِلْت أَيُّ الْمَرْأَتَيْنِ تَزَوَّجَ فَقُلْ الصُّغْرَى وَهِيَ الَّتِي جَاءَتْ خَلْفَهُ، وَهِيَ الَّتِي قَالَتْ: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26]». الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: عَادَةُ النَّاسِ تَزْوِيجُ الْكُبْرَى قَبْلَ الصُّغْرَى؛ لِأَنَّهَا سَبَقَتْهَا إلَى الْحَاجَةِ إلَى الرِّجَالِ، وَمِنْ الْبِرِّ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهَا. وَاَلَّذِي أَوْجَبَ تَقْدِيمَ الصُّغْرَى فِي قِصَّةِ صَالِحِ مَدْيَنَ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَعَلَّهُ آنَسَ مِنْ الْكُبْرَى رِفْقًا بِهِ، وَلِينَ عَرِيكَةٍ فِي خِدْمَتِهِ. الثَّانِي: أَنَّهَا سَبَقَتْ الصُّغْرَى إلَى خِدْمَتِهِ، فَلَعَلَّهَا كَانَتْ أَحَنَّ عَلَيْهِ.

مسألة جعل المنافع صداقا

الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَوَقَّعَ أَنْ يَمِيلَ إلَيْهَا، لِأَنَّهُ رَآهَا فِي رِسَالَتِهِ، وَمَاشَاهَا فِي إقْبَالِهِ إلَى أَبِيهَا مَعَهَا، فَلَوْ عَرَضَ عَلَيْهِ الْكُبْرَى رُبَّمَا أَظْهَرَ لَهُ الِاخْتِيَارَ، وَهُوَ يُضْمِرُ غَيْرَهُ، لَكِنْ عَرَضَ عَلَيْهِ شَرْطَهُ لِيُبْرِئَهَا مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَتَطَرَّقَ الْوَهْمُ إلَيْهِ. [مَسْأَلَة جَعْلِ الْمَنَافِعِ صَدَاقًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27]. فَذَكَرَ لَهُ لَفْظَ الْإِجَارَةِ وَمَعْنَاهَا. وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي جَعْلِ الْمَنَافِعِ صَدَاقًا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ، وَمَنَعَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَجَازَهُ غَيْرُهُمَا. وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُفْسَخُ قَبْلَ الْبِنَاءِ، وَيَثْبُتُ بَعْدَهُ. وَقَالَ أَصْبَغُ: إنْ نُقِدَ مَعَهُ شَيْءٌ فَفِيهِ اخْتِلَافٌ، وَإِنْ لَمْ يُنْقَدْ فَهُوَ أَشَدُّ، فَإِنْ تَرَكَ مَضَى عَلَى كُلِّ حَالٍ، بِدَلِيلِ قِصَّةِ شُعَيْبٍ؛ قَالَهُ مَالِكٌ وَابْن الْمَوَّازِ وَأَشْهَبُ، وَعَوَّلَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ. قَالَ الْقَاضِي: صَالِحُ مَدْيَنَ زَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنْ صَالِحِ بَنِي إسْرَائِيلَ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ خِدْمَتَهُ فِي غَنَمِهِ؛ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقُ فُلَانَةَ خِدْمَةَ فُلَانٍ، وَلَكِنَّ الْخِدْمَةَ لَهَا عِوَضٌ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ اسْتَقَرَّ فِي ذِمَّةِ صَالِحِ مَدْيَنَ لِصَالِحِ بَنِي إسْرَائِيلَ، وَجَعَلَهُ صَدَاقًا لِابْنَتِهِ. وَهَذَا ظَاهِرٌ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: فَإِنْ وَقَعَ النِّكَاحُ بِجُعْلٍ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي سَمَاعِ يَحْيَى: لَا يَجُوزُ، وَلَا كِرَاءَ لَهُ، وَلَا أُجْرَةَ مِثْلِهِ، وَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي قِصَّةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَالْإِسْلَامُ بِخِلَافِهِ. قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَيْسَ فِي قِصَّةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جُعْلٌ، إنَّمَا فِيهِ إجَارَةٌ، وَلَيْسَ فِي الْإِسْلَامِ خِلَافُهُ؛ بَلْ فِيهِ جَوَازُهُ فِي قِصَّةِ الْمَوْهُوبَةِ، وَهُوَ يُجَوِّزُ النِّكَاحَ بِعَدَدٍ مُطْلَقٍ، وَهُوَ مَجْهُولٌ؛ فَكَيْفَ لَا يَجُوزُ عَلَى تَعْلِيمِ عِشْرِينَ سُورَةٍ. وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى التَّحْصِيلِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي حَدِيثِ الْمَوْهُوبَةِ: «عَلِّمْهَا عِشْرِينَ سُورَةً، وَهِيَ امْرَأَتُك».

مسألة منافع الأحرار ومنافع العبيد هل يصحان في الصداق

[مَسْأَلَة مَنَافِعُ الْأَحْرَارِ وَمَنَافِعُ الْعَبِيد هَلْ يَصِحَّانِ فِي الصَّدَاق] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنَافِعُ الْحُرِّ صَدَاقًا. وَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي مَنَافِعِ الْعَبْدِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ ذَلِكَ كُلُّهُ. وَنَزَعَ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّ مَنَافِعَ الْحُرِّ لَيْسَتْ بِمَالٍ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهَا، بِخِلَافِ الْعَبْدِ، فَإِنَّهُ مَالٌ كُلُّهُ. وَهَذَا بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ مَنَافِعَ الْحُرِّ مَالٌ، بِدَلِيلِ جَوَازِ بَيْعِهَا بِالْمَالِ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مَالًا مَا جَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ مَالًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ فِي أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ بِغَيْرِ عِوَضٍ. وَالصَّدَاقُ بِالْمَنَافِعِ إنَّمَا جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ؛ فَمَنَافِعُ الْأَحْرَارِ وَمَنَافِعُ الْعَبِيدِ مَحْمُولَةٌ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ يَسْقُطُ الْأَصْلُ، وَيُحْمَلُ الْفَرْعُ عَلَى أَصْلٍ سَاقِطٍ؟ وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [مَسْأَلَة هَلْ يَصِحّ الصَّدَاقِ إجَارَةً] جَوَازُ الصَّدَاقِ إجَارَةً الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: إذَا ثَبَتَ جَوَازُ الصَّدَاقِ إجَارَةً فَفِي قَوْلِهِ: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي} [القصص: 27] ذِكْرٌ لِلْخِدْمَةِ مُطْلَقًا. وَقَالَ مَالِكٌ: إنَّهُ جَائِزٌ، وَيُحْمَلُ عَلَى الْمَعْرُوفِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ. وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ مَعْلُومٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتِحْقَاقٌ لِمَنَافِعِهِ فِيمَا يُصْرَفُ فِيهِ مِثْلُهُ، وَالْعُرْفُ يَشْهَدُ لِذَلِكَ، وَيَقْضِي بِهِ؛ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ. وَيُعْضَدُ هَذَا بِظَاهِرِ قِصَّةِ مُوسَى فَإِنَّهُ ذِكْرُ إجَارَةٍ مُطْلَقَةٍ، عَلَى أَنَّ أَهْلَ التَّفْسِيرِ ذَكَرُوا أَنَّهُ عَيَّنَ لَهُ رَعِيَّةَ الْغَنَمِ، وَلَمْ يَرْوُوا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ، وَلَكِنْ قَالُوا: إنَّ صَالِحَ مَدْيَنَ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَمَلٌ إلَّا رَعِيَّةَ الْغَنَمِ، فَكَانَ مَا عُلِمَ مِنْ حَالِهِ قَائِمًا مَقَامَ تَعْيِينِ الْخِدْمَةِ فِيهِ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَنَا؛ فَإِنَّ الْمُخَالِفَ يَرَى أَنَّ مَا عُلِمَ مِنْ الْحَالِ لَا يَكْفِي فِي صِحَّةِ الْإِجَارَةِ حَتَّى يُسَمَّى. وَعِنْدَنَا أَنَّهُ يَكْفِي مَا عُلِمَ مِنْ الْحَالِ، وَمَا قَامَ مِنْ دَلِيلِ الْعُرْفِ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى التَّسْمِيَةِ فِي الْخِدْمَةِ، وَالْعُرْفُ عِنْدَنَا أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْمِلَّةِ وَدَلِيلٌ مِنْ جُمْلَةِ الْأَدِلَّةِ. وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ قَبْلُ، وَفِي مَوْضِعِهِ مِنْ الْأُصُولِ.

مسألة تشترط صداق بناتها وتقول لي كذا في خاصة نفسي

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنْ كَانَ آجَرَهُ عَلَى رِعَايَةِ الْغَنَمِ فَالْإِجَارَةُ عَلَى رِعَايَةِ الْغَنَمِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إمَّا أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً، أَوْ مُسَمَّاةً بِعِدَّةٍ، أَوْ مُعَيَّنَةً. فَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً جَازَتْ عِنْدَ عُلَمَائِنَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: إنَّهَا لَا تَجُوزُ لِجَهَالَتِهَا. وَعَوَّلَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى الْعُرْفِ، وَأَنَّهُ يُعْطِي عَلَى قَدْرِ مَا تَحْتَمِلُ قُوَّتُهُ. وَزَادَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَتَّى يَعْلَمَ الْمُسْتَأْجِرُ قَدْرَ قُوَّتِهِ. وَهَذَا صَحِيحٌ؛ فَإِنَّ صَالِحَ مَدْيَنَ قَدْ عَلِمَ قَدْرَ قُوَّةِ مُوسَى بِرَفْعِ الْحَجَرِ. وَأَمَّا إنْ كَانَتْ مَعْدُودَةً فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ اتِّفَاقًا. وَإِنْ كَانَتْ مَعْدُودَةً مُعَيَّنَةً فَفِيهَا تَفْصِيلٌ لِعُلَمَائِنَا. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يَجُوزُ حَتَّى يَشْتَرِطَ الْخَلْفَ إنْ مَاتَتْ، وَهِيَ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ جِدًّا، قَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَقَدْ اسْتَأْجَرَ صَالِحُ مَدْيَنَ مُوسَى عَلَى غَنَمِهِ، وَقَدْ رَآهَا وَلَمْ يَشْرِطْ خَلْفًا. [مَسْأَلَة تَشْتَرِطُ صَدَاقَ بَنَاتِهَا وَتَقُولُ لِي كَذَا فِي خَاصَّةِ نَفْسِي] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا الَّذِي [كَانَ] جَرَى مِنْ صَالِحِ مَدْيَنَ لَمْ يَكُنْ ذِكْرًا لِصَدَاقِ الْمَرْأَةِ؛ وَإِنَّمَا كَانَ اشْتِرَاطًا لِنَفْسِهِ عَلَى مَا تَفْعَلُهُ الْأَعْرَابُ فَإِنَّهَا تَشْتَرِطُ صَدَاقَ بَنَاتِهَا، وَتَقُولُ: لِي كَذَا فِي خَاصَّةِ نَفْسِي قُلْنَا: هَذَا الَّذِي تَفْعَلُهُ الْأَعْرَابُ هُوَ حُلْوَانُ وَزِيَادَةٌ عَلَى الْمَهْرِ، وَهُوَ حَرَامٌ لَا يَلِيقُ بِالْأَنْبِيَاءِ. فَأَمَّا إذَا شَرَطَ الْوَلِيُّ شَيْئًا لِنَفْسِهِ، فَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيمَا يُخْرِجُهُ الزَّوْجُ مِنْ يَدِهِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي يَدِ الْمَرْأَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

مسألة أجرة موسى

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَائِزٌ. وَالْآخَرُ: لَا يَجُوزُ. وَاَلَّذِي يَصِحُّ عِنْدِي فِيهِ التَّقْسِيمُ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَخْلُو أَنْ تَكُونَ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا، فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا جَازَ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهَا بِيَدِهَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ لِلْوَلِيِّ مُبَاشَرَةُ الْعَقْدِ، وَلَا يَمْتَنِعُ الْعِوَضُ عَنْهُ، كَمَا يَأْخُذُهُ الْوَكِيلُ عَلَى عَقْدِ الْبَيْعِ. وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا كَانَ الْعَقْدُ بِيَدِهِ، فَكَأَنَّهُ عِوَضٌ فِي النِّكَاحِ لِغَيْرِ الزَّوْجَةِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ؛ فَإِنْ وَقَعَ فَسْخٌ قَبْلَ الْبِنَاءِ، وَثَبَتَ بَعْدَهُ عَلَى مَشْهُورِ الرِّوَايَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَمْ يَكُنْ اشْتِرَاطُ صَالِحِ مَدْيَنَ عَلَى مُوسَى مَهْرًا، وَإِنَّمَا كَانَ كُلَّهُ لِنَفْسِهِ، وَتَرَكَ الْمَهْرَ مُفَوَّضًا. وَنِكَاحُ التَّفْوِيضِ جَائِزٌ. قُلْنَا: كَانَتْ بِكْرًا، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَلَا يُظَنُّ بِالْفُضَلَاءِ، فَكَيْفَ بِالْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -. [مَسْأَلَة أُجْرَةُ مُوسَى] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: لَمْ يُنْقَلْ مَا كَانَتْ أُجْرَةُ مُوسَى، وَلَكِنْ رَوَى يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ أَنَّ صَالِحَ مَدْيَنَ جَعَلَ لِمُوسَى كُلَّ سَخْلَةٍ تُوضَعُ خِلَافَ لَوْنِ أُمِّهَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَى مُوسَى: أَلْقِ عَصَاك بَيْنَهُنَّ يَلِدْنَ خِلَافَ شَبَهِهِنَّ كُلِّهِنَّ. وَاَلَّذِي رَوَى عُتْبَةُ بْنُ الْمُنْذِرِ السُّلَمِيُّ وَهُوَ عُتْبَةُ بْنُ عُبَيْدٍ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الْأَجَلَيْنِ أَوْفَى مُوسَى؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَوْفَاهُمَا وَأَبَرُّهُمَا». ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ مُوسَى لَمَّا أَرَادَ فِرَاقَ شُعَيْبٍ أَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ تَسْأَلَ أَبَاهَا عَنْ نِتَاجِ غَنَمِهِ مَا يَعِيشُونَ بِهِ. ". فَأَعْطَاهَا مَا وَلَدَتْ غَنَمُهُ مِنْ قَالِبِ لَوْنِ ذَلِكَ الْعَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَمَّا وَرَدَتْ الْحَوْضَ وَقَفَ مُوسَى بِإِزَاءِ الْحَوْضِ فَلَمْ تَمُرَّ بِهِ شَاةٌ

مسألة الإجارة بالعوض المجهول

إلَّا ضَرَبَ جَنْبَهَا بِعَصَا، فَوَضَعَتْ قَوَالِبَ أَلْوَانٍ كُلِّهَا اثْنَيْنِ وَثَلَاثَةٍ، كُلُّ شَاةٍ لَيْسَ مِنْهُنَّ فَشُوشٌ وَلَا ضَبُوبٌ وَلَا كَمِيشَةٌ وَلَا ثَعُولٌ ". الْفَشُوشُ: الَّتِي إذَا مَشَتْ سَالَ لَبَنُهَا. وَالضَّبُوبُ الَّتِي ضَرْعُهَا مِثْلُ الْمَوْزَتَيْنِ. وَالْكَمِيشَةُ: الصَّغِيرَةُ الضَّرْعِ الَّتِي لَا يَضْبِطُهَا الْحَالِبُ. وَالْقَالِبُ لَوْنُ صِنْفٍ وَاحِدٌ كُلُّهُ. وَلَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ لَكَانَ فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: إحْدَاهُمَا: الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: وَهِيَ الْوَحْيُ لِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَبْلَ الْكَلَامِ، وَذَلِكَ بِالْإِلْهَامِ، أَوْ بِأَنْ يُكَلِّمَهُ الْمَلَكُ كَهَيْئَةِ الرَّجُلِ، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ هَدَاهُ فِي طَرِيقِهِ لِمَدْيَنَ حِينَ ضَلَّ وَخَافَ، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ بِذَلِكَ نَبِيًّا، فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ يُكَلِّمُهُ الْمَلَكُ وَيُخْبِرُهُ بِأَمْرٍ مُشْكِلٍ يَكُونُ نَبِيًّا وَقَدْ وَرَدَتْ بِذَلِكَ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ. [مَسْأَلَة الْإِجَارَةُ بِالْعِوَضِ الْمَجْهُولِ] الثَّانِيَةُ: وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الْإِجَارَة بِالْعِوَضِ الْمَجْهُولِ، فَإِنَّ وِلَادَةَ الْغَنَمِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، وَإِنَّ مِنْ الْبِلَادِ الْخِصْبَةِ مَا يُعْلَمُ وِلَادَةُ الْغَنَمِ فِيهَا قَطْعًا، وَعِدَّتُهَا، وَسَلَامَةُ سِخَالِهَا؛ مِنْهَا دِيَارُ مِصْرَ وَغَيْرُهَا، بَيْدَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي شَرْعِنَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ الْغَرَرِ»، وَرُبَّمَا ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا فِي بِلَادِ الْخِصْبِ لَيْسَ بِغَرَرٍ، لِاطِّرَادِ ذَلِكَ فِي الْعَادَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: لَيْسَ كَمَا ظَنَنْت؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا نَهَى عَنْ الْغَرَرِ نَهَى عَنْ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ. وَالْمَضَامِينُ: مَا فِي بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ وَالْمَلَاقِيحُ: مَا فِي أَصْلَابِ الْفُحُولِ، أَوْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: مَلْقُوحَةٌ فِي بَطْنِ نَابٍ حَامِلٍ

مسألة جمع سلعتين في عقد واحد لغير عاقد واحد

عَلَى أَنَّ مَعْمَرَ بْنَ الْأَشَدِّ أَجَازَ الْإِجَارَةَ عَلَى الْغَنَمِ بِالثُّلُثِ وَالرُّبْعِ وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَالزُّهْرِيُّ وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ: يَنْسِجُ الثَّوْبَ بِنَصِيبٍ مِنْهُ. وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ. وَقَرَأْت بِبَابِ جَيْرُونَ عَلَى الشَّيْخِ الْأَجَلِّ الرَّئِيسِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بْنِ فُضَيْلٍ الدِّمَشْقِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبُو عُمَرَ الْمَالِكِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَمَّادِ بْنِ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْحَاقَ الْأَنْصَارِيُّ، أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ عِيسَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ الْحَضْرَمِيُّ عَنْ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: آجَرَ مُوسَى نَفْسَهُ بِشِبَعِ بَطْنِهِ وَعِفَّةِ فَرْجِهِ. فَقَالَ لَهُ شُعَيْبٌ: لَك مِنْهَا يَعْنِي مِنْ نِتَاجِ غَنَمِهِ مَا جَاءَتْ بِهِ قَالِبُ لَوْنٍ وَاحِدٌ غَيْرُ وَاحِدٍ أَوْ اثْنَيْنِ، لَيْسَ فِيهَا عَزُورٌ، وَلَا فَشُوشٌ، وَلَا كَمُوشٌ، وَلَا ضَبُوبٌ، وَلَا ثَعُولٌ». الْعَزَوَّرُ: الَّتِي يَعْسُرُ حَلْبُهَا. وَالثَّعُولُ: الَّتِي لَهَا زِيَادَةُ حَلَمَةٍ، وَهُوَ عَيْبٌ فِيهَا. وَقَدْ كَانَ مَعَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ غُلَامٌ يَخْدِمُهُ، بِشِبَعِ بَطْنِهِ. وَجَوَّزَ ذَلِكَ مَالِكٌ، وَأَبَاهُ غَيْرُهُ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [مَسْأَلَة جَمَعَ سِلْعَتَيْنِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ لِغَيْرِ عَاقِدٍ وَاحِدٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ قَالَ لِبِنْتِ صَالِحِ مَدْيَنَ فِي الْغَنَمِ حِصَّةٌ، فَلِذَلِكَ صَحَّتْ الْإِجَارَةُ، صَدَاقًا لَهَا بِمَا كَانَ لَهَا مِنْ الْحِصَّةِ فِيهَا. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا احْتِرَازٌ مِنْ مَعْنَى بِوُقُوعٍ فِي آخَرَ؛ فَإِنَّ الْغَنَمَ إذَا كَانَتْ بَيْنَ صَالِحِ مَدْيَنَ وَبَيْنَ ابْنَتِهِ، وَأَخَذَهَا مُوسَى مُسْتَأْجِرًا عَلَيْهَا، فَفِي ذَلِكَ جَمَعَ سِلْعَتَيْنِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ لِغَيْرِ عَاقِدٍ وَاحِدٍ وَقَدْ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ، وَمَشْهُورُ الْمَذْهَبِ مَنْعُهُ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَهْلِ بِالثَّمَنِ فِي

مسألة اجتماع إجارة ونكاح

حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ إلَى جَمْعِ السِّلْعَتَيْنِ، لَا سِيَّمَا وَيُمْكِنُ التَّوَقِّي مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ يَذْكُرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِيمَةَ سِلْعَتِهِ، وَيَقَعَ الثَّمَنُ مَقْسُومًا عَلَى الْقِيمَةِ، فَيَكُونَ مَعْرُوفًا لَا غَرَرَ فِيهِ، فَلَا يُمْنَعُ الْعَقْدُ حِينَئِذٍ عَلَيْهِمَا. [مَسْأَلَة اجْتِمَاعُ إجَارَةٍ وَنِكَاحٍ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: فِي هَذَا اجْتِمَاعُ إجَارَةٍ وَنِكَاحٍ: وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ فِي ثَمَانِيَةِ أَبِي زَيْدٍ: يُكْرَهُ ابْتِدَاءً؛ فَإِنْ وَقَعَ مَضَى. الثَّانِي: قَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَشْهُورِ: لَا يَجُوزُ، وَيُفْسَخُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَبَعْدَهُ. الثَّالِثُ: أَجَازَهُ أَشْهَبُ وَأَصْبَغُ. الرَّابِعُ: قَالَ مُحَمَّدٌ: قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: إنْ بَقِيَ بَعْدَ الْمَبِيعِ، يَعْنِي مِنْ الْقِيمَةِ، رُبْعُ دِينَارٍ يُقَابِلُ الْبُضْعَ جَازَ النِّكَاحُ، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ. وَقَدْ بَيَّنَّا تَوْجِيهَاتِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ، وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ الْآيَةُ وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: النِّكَاحُ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالْبُيُوعِ، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ بَيْعٍ وَإِجَارَةٍ، أَوْ بَيْنَ بَيْعٍ وَنِكَاحٍ، وَهُوَ شَبَهُهُ إلَّا مِنْ جِهَةِ الرَّجُلَيْنِ يَجْمَعَانِ سِلْعَتَهُمَا، وَإِذَا كَانَتَا لِرَجُلٍ وَاحِدٍ جَازَ، وَالْعَاقِدُ هُنَا وَاحِدٌ، وَهُوَ الْوَلِيُّ. [مَسْأَلَة نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا] الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ إلَى الْوَلِيِّ، لَا حَظَّ لِلْمَرْأَةِ فِيهِ، لِأَنَّ صَالِحَ مَدْيَنَ تَوَلَّاهُ. وَبِهِ قَالَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَفْتَقِرُ النِّكَاحُ إلَى وَلِيٍّ، وَعَجَبًا لَهُ، مَتَى رَأَى امْرَأَةً قَطُّ عَقَدَتْ نِكَاحَ نَفْسِهَا، وَمِنْ الْمَشْهُورِ فِي الْآثَارِ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ». وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ

مسألة الأب يزوج ابنته البكر من غير استئمار

نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ مَسَّهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، فَإِنْ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ». وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ. [مَسْأَلَة الْأَبَ يُزَوِّجُ ابْنَتَهُ الْبِكْرَ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْمَارٍ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَبَ يُزَوِّجُ ابْنَتَهُ الْبِكْرَ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْمَارٍ؛ قَالَ مَالِكٌ. وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ؛ وَهُوَ ظَاهِرٌ قَوِيٌّ فِي الْبَابِ. وَقَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا بَلَغَتْ الصَّغِيرَةُ فَلَا يُزَوِّجُهَا أَحَدٌ إلَّا بِرِضَاهَا؛ لِأَنَّهَا بَلَغَتْ حَدَّ التَّكْلِيفِ؛ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً فَإِنَّهُ يُزَوِّجُهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا؛ لِأَنَّهُ لَا إذْنَ لَهَا، وَلَا رِضَاءَ، بِغَيْرِ خِلَافٍ. وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا» وَفِي رِوَايَةٍ: «الْأَيِّمُ وَالْيَتِيمَةُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا». فَقَوْلُهُ: " الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا " دَلِيلٌ قَوِيٌّ فِي الْبَابِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْعِلَّةَ فِي كَوْنِ الْمَرْأَةِ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا كَوْنَهَا أَيِّمًا؛ وَذَلِكَ لِاخْتِيَارِهَا مَقَاصِدَ فِي النِّكَاحِ. وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَتَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بِكُلِّ فَائِدَةٍ وَلَطِيفَةٍ. وَاحْتِجَاجُ مَالِكٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُعَوِّلُ عَلَى الإسرائليات، وَفِيهَا أَنَّهُمَا كَانَتَا بِكْرَيْنِ، وَبَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ. وَرُبَّمَا ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبَنَاتِ تَرْكُ النِّكَاحِ، حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُنَّ مُتَزَوِّجَاتٌ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ النِّسَاءِ النِّكَاحُ، وَمَتَى اجْتَمَعَ أَصْلٌ وَظَاهِرٌ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ أُصُولِيَّةٌ وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ. وَكَذَلِكَ يُقَالُ: إنَّ أَبَاهَا لَمَّا

مسألة الكفاءة معتبرة في النكاح

قَالَ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَك إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ، فَأَشَارَ إلَيْهِمَا، كَانَ هَذَا أَكْثَرَ مِنْ الِاسْتِئْمَارِ أَوْ مِثْلَهُ؛ فَإِنَّ الْكَلَامَ مَعَ الْإِشَارَةِ إلَيْهَا بِضَمِيرِ الْحَاضِرِ إسْمَاعٌ لَهَا. وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ الْآيَةِ مَسْأَلَةٌ، وَهِيَ الِاكْتِفَاءُ بِصَمْتِ الْبِكْرِ، وَهُوَ فِي حَدِيثِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظَاهِرٌ، وَفِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ أَبْيَنُ مِنْهُ فِي شَرْعِ مُوسَى، وَبِهَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ يَتَبَيَّنُ لَك وَجْهُ اسْتِخْرَاجِ الْأَحْكَامِ، وَمَا يَعْرِضُ عَلَى الْأَدِلَّةِ مِنْ الشَّبَهِ، فَيُقَابَلُ كُلُّ فَنٍّ بِمَا يَصْلُحُ لَهُ، وَيُرَجَّحُ الْأَظْهَرُ وَيُقْضَى بِهِ. [مَسْأَلَة الْكَفَاءَةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي النِّكَاحِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَدْ بَيَّنَّا فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ أَنَّ الْكَفَاءَةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي النِّكَاحِ. وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيهَا؛ هَلْ هِيَ فِي الدِّينِ وَالْمَالِ وَالْحَسَبِ، أَوْ فِي بَعْضِهَا؟ وَحَقَّقْنَا جَوَازَ نِكَاحِ الْمَوَالِي لِلْعَرَبِيَّاتِ وَلِلْقُرَشِيَّاتِ، وَأَنَّ الْمُعَوِّلَ عَلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. وَقَدْ جَاءَ مُوسَى إلَى صَالِحِ مَدْيَنَ غَرِيبًا طَرِيدًا، وَحِيدًا جَائِعًا عُرْيَانًا، فَأَنْكَحَهُ ابْنَتَهُ لَمَّا تَحَقَّقَ مِنْ دِينِهِ، وَرَأَى مِنْ حَالِهِ، وَأَعْرَضَ عَمَّا سِوَى ذَلِكَ. وَلَا خِلَافَ فِي إنْكَاحِ الْأَبِ؛ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي اعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ فِي إنْكَاحِ غَيْرِ الْأَبِ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ، إلَّا أَنْ يَطْرَحَهَا الْأَبُ فِي عَارٍ يَلْحَقُ الْقَبِيلَ، فَفِيهِ خِلَافٌ، وَتَفْصِيلٌ عَرِيضٌ طَوِيلٌ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَالْفُرُوعِ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ. [مَسْأَلَة هَلْ دَخَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام حِينَ عَقَدَ أَمْ حِينَ سَافَرَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: اخْتَلَفَ النَّاسُ؛ هَلْ دَخَلَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حِينَ عَقَدَ؟ أَمْ حِينَ سَافَرَ؟ فَإِنْ كَانَ دَخَلَ حِينَ عَقَدَ فَمَاذَا نَقَدَ؟ وَقَدْ مَنَعَ عُلَمَاؤُنَا مِنْ الدُّخُولِ حَتَّى يَنْقُدَ وَلَوْ رُبْعَ دِينَارٍ؛ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ. فَإِنْ دَخَلَ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَ مَضَى، لِأَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا قَالُوا: تَعْجِيلُ الصَّدَاقِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ مُسْتَحَبٌّ، عَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ الصَّدَاقُ رَعْيَهُ الْغَنَمَ فَقَدْ نَقَدَ الشُّرُوعَ فِي الْخِدْمَةِ. وَإِنْ كَانَ دَخَلَ حِينَ سَافَرَ أَوْ أَكْمَلَ الْمُدَّةَ، وَهِيَ:

مسألة معنى قوله تعالى ثماني حجج

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: وَطُولُ الِانْتِظَارِ فِي النِّكَاحِ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ مَدَى الْعُمْرِ، بِغَيْرِ شَرْطٍ. وَأَمَّا إنْ كَانَ بِشَرْطٍ فَلَا يَجُوزُ إلَّا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، مِثْلِ التَّأَهُّبِ لِلْبِنَاءِ، أَوْ انْتِظَارِ صَلَاحِيَّةِ الزَّوْجَةِ لِلدُّخُولِ إنْ كَانَتْ صَغِيرَةً. نَصَّ عَلَيْهَا عُلَمَاؤُنَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ دَخَلَ فِي الْحَالِ. وَمَا كَانَ صَالِحُ مَدْيَنَ يَحْبِسُهُ عَنْ الدُّخُولِ يَوْمًا، وَقَدْ عَقَدَهُ عَلَيْهَا حَالًا. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى ثَمَانِيَ حِجَجٍ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْلُهُ: {ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] فَنَصَّ عَلَى عَقْدِ الْإِجَارَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُوسَى مُدَّةً مِنْ ثَمَانِيَةِ أَعْوَامٍ عَلَى رَعْيِهِ الْغَنَمَ وَالْحَيَوَانَ، فَتَغَيَّرَ فِي الْآمَادِ الطَّوِيلَةِ، وَلَمْ يَرَ ابْنُ الْمَوَّازِ الْعِشْرِينَ سَنَةً فِي الْعَقْدِ طُولًا، وَلَا رَأَى فِي الْمُدَوَّنَةِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ طُولًا. وَمَنَعَهَا بَعْضُهُمْ فِي الْعَشْرِ سِنِينَ، وَهُوَ أَصَحُّ لِسُرْعَةِ التَّغَيُّرِ فِي الْغَالِبِ إلَى الْأَبَدَانِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي ثَمَانِيَ سِنِينَ، وَبَلَغَهَا بِالطَّوْعِ الَّذِي لَا يُلْزَمُ عَشْرًا، وَهُوَ الْعَدْلُ. [مَسْأَلَة التَّطَوُّع بَعْدَ كَمَالِ الْعَقْدِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: لَمَّا ذَكَرَ الشَّرْطَ، وَأَعْقَبَهُ بِالتَّطَوُّعِ فِي الْعَشْرِ؛ خَرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حُكْمِهِ، وَلَمْ يَلْحَقْ الْآخَرُ بِالْأَوَّلِ، وَلَا اشْتَرَكَ الْفَرْضُ وَالتَّطَوُّعُ؛ وَلِذَلِكَ يُكْتَبُ فِي الْعُقُودِ الشُّرُوطُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا، ثُمَّ يُقَالُ: وَتَطَوَّعَ بِكَذَا، فَيَجْرِي الشَّرْطُ عَلَى سَبِيلِهِ، وَالتَّطَوُّعُ عَلَى حُكْمِهِ. وَقَدْ أَفْرَطَ بَعْضُهُمْ بِأَنْ قَالَ: يُقَالُ فِي الْعَقْدِ: وَتَطَوَّعَ بَعْدَ كَمَالِ الْعَقْدِ. وَهَذَا إفْرَاطٌ يَخْرُجُ بِقَائِلِهِ إلَى التَّفْرِيطِ فَإِنَّهُ قَصَرَ نَظَرَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِيهِ، وَهِيَ أَنَّهُ إذَا قَالَ: عَقَدَ مَعَهُ كَذَا، وَشَرَطَ كَذَا، وَتَطَوَّعَ بِكَذَا، فَقَدْ انْفَصَلَ الْوَاجِبُ مِنْ التَّطَوُّعِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ التَّطَوُّعَ أَخْرَجَهُ عَنْ لَوَازِمِ الْعَقْدِ، وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَذَلِكَ بَعْدَ كَمَالِ الْعَقْدِ حَشْوٌ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ، وَتَكْرَارٌ لَا مَعْنَى لَهُ.

مسألة استأجر على عمل حائط مثلا

[مَسْأَلَة اسْتَأْجَرَ عَلَى عَمَلِ حَائِطٍ مَثَلًا] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْلُهُ: {أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} [القصص: 28] الْمَعْنَى لَيْسَ لَك إنْ وَفَّيْت أَحَدَ الْأَجَلَيْنِ أَنْ تَتَعَدَّى عَلَيَّ بِالْمُطَالَبَةِ بِالزَّائِدِ عَلَيْهِ. فَلَوْ قَصَّرَ فِي الْعَامَيْنِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِنْ قَصَّرَ فِي الثَّمَانِي لَكَانَ عَلَيْهِ عُدْوَانٌ، وَهُوَ أَنْ يُعْدِيَ عَلَيْهِ. وَكَيْفِيَّةُ الْعُدْوَانِ نُبَيِّنُهُ بِأَنْ نَقُولَ: اخْتَلَفَ إذَا اسْتَأْجَرَ عَلَى عَمَلِ حَائِطٍ مَثَلًا يُتِمُّهُ فَلَهُ مِنْ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا عَمِلَ، إلَّا أَنْ تَكُونَ مُقَاطَعَةً، فَلَا شَيْءَ لَهُ إلَّا أَنْ يُتِمَّهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعُرْفُ بِالنَّقْدِ فَيَنْقُدَهُ، وَيَلْزَمَهُ تَمَامُهُ. وَأَكْثَرُ بِنَاءِ النَّاسِ عَلَى الْمُقَاطَعَةِ، إذَا سَمَّى لَهُ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: اسْتَأْجَرْتُك عَلَى بُنْيَانِ هَذِهِ الدَّارِ شَهْرًا، أَوْ نِصْفًا، أَوْ شَهْرَيْنِ، وَإِنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ وَقَالَ: تَبْنِي هَذِهِ الدَّارَ كُلَّ يَوْمٍ بِدِرْهَمٍ، فَكُلَّمَا بَنَى أَخَذَ، أَوْ تَبْنِي هَذَا الْبَابَ، أَوْ هَذَا الْحَائِطَ، فَهُوَ مِثْلُهُ. وَكَذَلِكَ كَانَتْ إجَارَةُ مُوسَى مُقَاطَعَةً، فَلَهَا حُكْمُ الْمُقَاطَعَةِ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ طَوِيلٌ يَأْتِي فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ. تَحْرِيرُهُ أَنَّ الْعَمَلَ فِي الْإِجَارَةِ إمَّا يَتَقَدَّرُ بِالزَّمَانِ، أَوْ بِصِفَةِ الْعَمَلِ الَّذِي يَضْبِطُ؛ فَإِنْ كَانَ بِالزَّمَانِ فَهُوَ مُقَدَّرٌ بِهِ، لَازِمٌ فِي مُدَّتِهِ. وَإِنْ كَانَ بِالْعَمَلِ فَإِنَّهُ يُضْبَطُ بِصِفَتِهِ، وَيَلْزَمُ الْأَجِيرَ تَمَامُ الْمُدَّةِ، أَوْ تَمَامُ الصِّفَةِ. وَلَيْسَ لَهُ تَرْكُ ذَلِكَ، وَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ الْأُجْرَةِ إذَا كَانَ هَكَذَا إلَّا بِتَمَامِ الْعَمَلِ. [مَسْأَلَة الْإِشْهَادِ فِي النِّكَاحِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 28] اكْتَفَى الصَّالِحَانِ بِاَللَّهِ فِي الْإِشْهَادِ، وَلَمْ يُشْهِدَا أَحَدًا مِنْ الْخَلْقِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ فِي النِّكَاحِ عَلَى قَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ؛ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنَّهُ يَنْعَقِدُ دُونَ شُهُودٍ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِعْلَانُ وَالتَّصْرِيحُ. وَقَدْ مَهَّدْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كُتُبِ الْخِلَافِ، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَلَا يُشْتَرَطُ

لِانْعِقَادِهِ الْإِشْهَادُ كَالْبَيْعِ، وَإِنَّمَا شَرَطْنَا الْإِعْلَانَ لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ الصَّحِيحِ: «فَرْقُ مَا بَيْنَ النِّكَاحِ وَالسِّفَاحِ الدُّفُّ». وَرُبَّمَا نَزَعَ نَازِعٌ بِأَنَّ الْإِشْهَادَ فِي الْبَيْعِ لَازِمٌ وَاجِبٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَدْ أَخْبَرْنَا أَبُو الْمَعَالِي ثَابِتُ بْنُ بُنْدَارٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا الرَّفَّاءُ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمَرْوَزِيِّ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، وَأَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ الْعَبَّاسِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا آدَم، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إسْرَائِيلَ أَنْ يُسَلِّفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ. قَالَ: أَتَيْتنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ، قَالَ: كَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا. قَالَ: أَتَيْتنِي بِالْكَفِيلِ، قَالَ: كَفَى بِاَللَّهِ كَفِيلًا. قَالَ: صَدَقْت. فَدَفَعَهَا إلَيْهِ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى. فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ، فَقَضَى حَاجَتَهُ، وَالْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهُ، لِئَلَّا يَقْدَمَ عَلَيْهِ الْأَجَلُ الَّذِي أَجَّلَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا، وَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ، وَصَحِيفَةً مِنْهُ إلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا. ثُمَّ جَاءَ بِهَا إلَى الْبَحْرِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنَّك تَعْلَمُ أَنِّي تَسَلَّفْت مِنْ فُلَانٍ أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَأَلَنِي كَفِيلًا، فَقُلْت لَهُ: كَفَى بِاَللَّهِ كَفِيلًا فَسَأَلَنِي شَهِيدًا، فَقُلْت لَهُ: كَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا. فَرَضِيَ بِذَلِكَ، وَإِنِّي جَهَدْت أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إلَيْهِ بِاَلَّذِي لَهُ، فَلَمْ أَقْدِرْ؛ وَإِنِّي قَدْ اسْتَوْدَعْتُكَهَا. وَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إلَى بَلَدِهِ. فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ، فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ، وَأَتَى بِالْأَلْفِ دِينَارٍ، وَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا زِلْت أَجْهَدُ فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَك بِمَالِك، فَمَا وَجَدْت مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْت فِيهِ. قَالَ: هَلْ كُنْت بَعَثْت إلَيَّ بِشَيْءِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَأَخْبَرْتُك، أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُك فِيهِ. قَالَ: بَلَى، وَاَللَّهِ، قَدْ أَدَّى اللَّهُ عَنْك الَّذِي بَعَثْت بِهِ، فَانْصَرَفَ بِالْأَلْفِ دِينَارٍ رَاشِدًا».

مسألة للرجل أن يذهب بأهله حيث شاء

[مَسْأَلَة لِلرَّجُلِ أَنْ يَذْهَبَ بِأَهْلِهِ حَيْثُ شَاءَ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص: 29]. دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَذْهَبَ بِأَهْلِهِ حَيْثُ شَاءَ، لِمَا لَهُ عَلَيْهَا مِنْ فَضْلِ الْقَوَامِيَّةِ، وَزِيَادَةِ الدَّرَجَةِ، إلَّا أَنْ يَلْتَزِمَ لَهَا أَمْرًا فَالْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ، وَأَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ يُوَفَّى بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ. الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ ثَلَاثِينَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ طَلَبَ الرُّجُوعَ إلَى أَهْلِهِ، وَحَنَّ إلَى وَطَنِهِ، وَفِي الرُّجُوعِ إلَى الْأَوْطَانِ تُقْتَحَمُ الْأَغْرَارُ، وَتُرْكَبُ الْأَخْطَارُ، وَتُعَلَّلُ الْخَوَاطِرُ، وَيَقُولُ: لَمَّا طَالَتْ الْمُدَّةُ لَعَلَّهُ قَدْ نُسِيَتْ التُّهْمَةُ، وَبَلِيَتْ الْقِصَّةُ. [الْآيَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ] ُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْمُرَادِ بِذَلِكَ: أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ قَوْمٌ مِنْ الْيَهُودِ أَسْلَمُوا، فَكَانَ الْيَهُودُ يَلْقَوْنَهُمْ بِالسَّبِّ وَالشَّتْمِ، فَيُعْرِضُونَ عَنْهُمْ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. الثَّانِي: قَوْمٌ مِنْ الْيَهُودِ أَسْلَمُوا، فَكَانُوا إذَا سَمِعُوا مَا غَيَّرَهُ الْيَهُودُ مِنْ التَّوْرَاةِ وَبَدَّلُوهُ مِنْ نَعْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصِفَتِهِ أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَذَكَرُوا الْحَقَّ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ الْمُسْلِمُونَ إذَا سَمِعُوا الْبَاطِلَ لَمْ يَلْتَفِتُوا إلَيْهِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُمْ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمْ يَكُونُوا يَهُودًا وَلَا نَصَارَى، وَكَانُوا عَلَى دِينِ

الآية الثامنة قوله تعالى وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة

اللَّهِ، وَكَانُوا يَنْتَظِرُونَ بَعْثَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا سَمِعُوا بِهِ بِمَكَّةَ قَصَدُوهُ، فَعُرِضَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ، فَأَسْلَمُوا؛ فَكَانَ الْكُفَّارُ مِنْ قُرَيْشٍ يَقُولُونَ لَهُمْ: أُفٍّ لَكُمْ مِنْ قَوْمٍ اتَّبَعْتُمْ غُلَامًا كَرِهَهُ قَوْمُهُ، وَهُمْ أَعْلَمُ بِهِ مِنْكُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: {وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [القصص: 55] يُرِيدُ لَنَا حَقُّنَا، وَلَكُمْ بَاطِلُكُمْ، سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَيْسَ هَذَا بِسَلَامِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ اذْهَبْ بِسَلَامٍ أَيْ تَارِكْنِي وَأُتَارِكُك. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ تِبْيَانِ الْحَالِ لِلتَّحِيَّةِ بِالسَّلَامِ، وَاخْتِصَاصِهَا بِالْمُسْلِمِينَ، وَخُرُوجِ الْكُفَّارِ عَنْهَا، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ. [الْآيَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى وَابْتَغِ فِيمَا آتَاك اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ] َ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي مَعْنَى النَّصِيبِ: وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: لَا تَنْسَ حَظَّك مِنْ الدُّنْيَا أَيْ لَا تَغْفُلْ أَنْ تَعْمَلَ فِي الدُّنْيَا لِلْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ: " اُحْرُثْ لِدُنْيَاك كَأَنَّك تَعِيشُ أَبَدًا، وَاعْمَلْ لِآخِرَتِك كَأَنَّك تَمُوتُ غَدًا ". الثَّانِي: أَمْسِكْ مَا يَبْلُغُك، فَذَلِكَ حَظُّ الدُّنْيَا. وَأَنْفِقْ الْفَضْلَ، فَذَلِكَ حَظُّ الْآخِرَةِ. الثَّالِثُ: لَا تَغْفُلْ شُكْرَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْك. [مَسْأَلَة اسْتِعْمَالُ نِعَم اللَّهِ فِي طَاعَتِهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77] ذُكِرَ فِيهِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ، جِمَاعُهَا اسْتَعْمِلْ نِعَمَ اللَّهِ فِي طَاعَتِهِ

وَقَالَ مَالِكٌ: مَعْنَاهَا تَعِيشُ وَتَأْكُلُ وَتَشْرَبُ غَيْرَ مُضَيَّقٍ عَلَيْك فِي رَأْيٍ. قَالَ الْقَاضِي: أَرَى مَالِكًا أَرَادَ الرَّدَّ عَلَى مَنْ يَرَى مِنْ الْغَالِينَ فِي الْعِبَادَةِ التَّقَشُّفَ وَالتَّقَصُّفَ وَالْبَأْسَاءَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْكُلُ الْحَلْوَى، وَيَشْرَبُ الْعَسَلَ، وَيَسْتَعْمِلُ الشِّوَاءَ، وَيَشْرَبُ الْمَاءَ الْبَارِدَ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ: أُمِرَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ قَدْرَ عَيْشِهِ، وَيُقَدِّمَ مَا سِوَى ذَلِكَ لِآخِرَتِهِ. وَأَبْدَعُ مَا فِيهِ عِنْدِي قَوْلُ قَتَادَةَ: وَلَا تَنْسَ الْحَلَالَ، فَهُوَ نَصِيبُك مِنْ الدُّنْيَا، وَيَا مَا أَحْسَنَ هَذَا،

سورة العنكبوت فيها أربع آيات

[سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ فِيهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا] ٍ الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 8]. تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ ذِكْرُ ذَلِكَ. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى وَلُوطًا إذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ] الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 28]. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا، وَيَحِقُّ أَنْ نُعِيدَهُ لِعِظَمِهِ، وَقَدْ نَادَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ أَوَّلُ مَنْ اقْتَحَمَ هَذَا، وَلَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِينَا مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: «وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، حَتَّى لَوْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَأْتِي أُمَّهُ عَلَانِيَةً، كَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ». وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِيهِ: «اُقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ». وَلَقَدْ كَتَبَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي ذَلِكَ إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَكَتَبَ إلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ: عَلَيْهِ الرَّجْمُ.

وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: إنَّ الْعَرَبَ تَأْنَفُ مِنْ الْعَارِ وَشُهْرَتِهِ أَنَفًا لَا تَأْنَفُهُ مِنْ الْحُدُودِ الَّتِي تَمْضِي فِي الْأَحْكَامِ، فَأَرَى أَنْ تُحَرِّقَهُ بِالنَّارِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ أَبُو الْحَسَنِ. فَكَتَبَ إلَى خَالِدٍ أَنْ أَحْرِقْهُ بِالنَّارِ، فَفَعَلَ. فَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: لَا أَرَى خَالِدًا أَحْرَقَهُ إلَّا بَعْدَ قَتْلِهِ؛ لِأَنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إلَّا اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الْقَاضِي: لَيْسَ كَمَا زَعَمَ ابْنُ وَهْبٍ، كَانَ عَلِيٌّ يَرَى الْحَرْقَ بِالنَّارِ عُقُوبَةً، وَلِذَلِكَ كَانَ مَا أَخْبَرَنَا أَبُو الْمَعَالِي ثَابِتُ بْنُ بُنْدَارٍ الْبَرْقَانِيُّ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ هَاشِمٍ الْبَغَوِيّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ قَالَ: رَأَيْت عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ، وَأَيُّوبَ، وَعَمَّارًا الرَّهِينِيُّ، اجْتَمَعُوا فَتَنَاكَرُوا الَّذِينَ حَرَقَهُمْ عَلِيٌّ، فَحَدَّثَ أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ قَالَ: لَوْ كُنْت أَنَا مَا أَحْرَقْتُهُمْ؟ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ»، وَلَقَتَلْتُهُمْ "؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَرَكَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ». فَقَالَ عَمَّارٌ: لَمْ يَكُنْ حَرَقَهُمْ، وَلَكِنَّهُ حَفَرَ لَهُمْ حَفَائِرَ، وَخَرَقَ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ، ثُمَّ دَخَنَ عَلَيْهِمْ حَتَّى مَاتُوا. فَقَالَ عَمَّارٌ: قَالَ الشَّاعِرُ: لِتَرْمِ بِي الْمَنَايَا حَيْثُ شَاءَتْ ... إذَا لَمْ تَرْمِ بِي فِي الْحُفْرَتَيْنِ إذَا مَا أَجَّجُوا حَطَبًا وَنَارًا ... هُنَاكَ الْمَوْتُ نَقْدًا غَيْرَ دَيْنِ وَمِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ بُكَيْر مَا يُصَدِّقُ ذَلِكَ: عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ وَجَدَ فِي ضَوَاحِي الْعَرَبِ رَجُلًا يُنْكَحُ كَمَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ كَانَ اسْمُهُ الْفُجَاءَةُ، فَاسْتَشَارَ أَبُو بَكْرٍ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ أَشَدَّ فِيهِمْ قَوْلًا، فَقَالَ عَلَيَّ: إنَّ هَذَا الذَّنْبَ لَمْ تَعْصِ بِهِ أُمَّةٌ مِنْ الْأُمَمِ، إلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً، صَنَعَ اللَّهُ بِهَا مَا عَلِمْتُمْ؛ أَرَى أَنْ يُحْرَقَ بِالنَّارِ. فَاجْتَمَعَ رَأْيُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُحْرَقَ بِالنَّارِ، فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إلَى خَالِدِ بْن الْوَلِيدِ

الآية الثالثة قوله تعالى اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة

أَنْ يَحْرِقَهُمْ بِالنَّارِ، فَأَحْرَقَهُمْ بِالنَّارِ، ثُمَّ أَحْرَقَهُمْ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي زَمَانِهِ، ثُمَّ أَحْرَقَهُمْ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ أَحْرَقَهُمْ خَالِدُ الْقَسْرِيُّ بِالْعِرَاقِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أُتِيَ بِسَبْعَةٍ أُخِذُوا فِي لِوَاطٍ، فَسَأَلَ عَنْهُمْ، فَوُجِدُوا أَرْبَعَةً قَدْ أُحْصِنُوا، فَأَمَرَ بِهِمْ فَخَرَجَ بِهِمْ مِنْ الْحَرَمِ، ثُمَّ رُجِمُوا بِالْحِجَارَةِ، حَتَّى مَاتُوا، وَجَلَدَ الثَّلَاثَةَ حَتَّى مَاتُوا بِالْحَدِّ. قَالَ: وَعِنْدَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، فَلَمْ يُنْكِرَا عَلَيْهِ. وَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى هَذَا، وَاَلَّذِي صَارَ إلَيْهِ مَالِكٌ أَحَقُّ، وَهُوَ أَصَحُّ سَنَدًا، وَأَقْوَى مُعْتَمَدًا، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ قَبْلَ هَذَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَدِّ اللِّوَاطِ، فَقَالَ: يُصْعَدُ بِهِ فِي الْجَبَلِ، ثُمَّ يُرْدَى مِنْهُ، ثُمَّ يُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ. [الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى اُتْلُ مَا أُوحِيَ إلَيْك مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلَاةَ] َ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا دَامَ فِيهَا. وَالثَّانِي: مَا دَامَ فِيهَا وَفِيمَا بَعْدَهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ مِنْ اللَّهِ إلَّا بُعْدًا». قَالَ الْقَاضِي: قَالَ شُيُوخُ الصُّوفِيَّةِ: الْمَعْنَى فِيهَا أَيْضًا أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُصَلِّي أَنْ يَنْهَى

مسألة ذكر الله لكم أفضل من ذكركم له

عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، كَمَا مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ، كَمَا قَالَ: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]. وَكَمَا لَا يَخْرُجُ الْمُؤْمِنُ بِتَرْكِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ عَنْ الْإِيمَانِ كَذَلِكَ لَا يُخْرِجُ الْمُصَلِّي عَنْ الصَّلَاةِ بِأَنَّ صَلَاتَهُ قَصَرَتْ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ. وَقَالَ مَشْيَخَةُ الصُّوفِيَّةِ: الصَّلَاةُ الْحَقِيقِيَّةُ مَا كَانَتْ نَاهِيَةً، فَإِنْ لَمْ تَنْهَهُ فَهِيَ صُورَةُ صَلَاةٍ لَا مَعْنَاهَا، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ وُقُوفَهُ بَيْنَ يَدِي مَوْلَاهُ وَمُنَاجَاتَهُ لَهُ إنْ لَمْ تَدُمْ عَلَيْهِ بَرَكَتُهَا، وَتَظْهَرْ عَلَى جَوَارِحِهِ رَهْبَتُهَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيْهِ صَلَاةٌ أُخْرَى، وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَإِلَّا فَهُوَ عَنْ رَبِّهِ مُعْرِضٌ، وَفِي حَالِ مُنَاجَاتِهِ غَافِلٌ عَنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْفَحْشَاءُ: الدُّنْيَا، فَتَنْهَاهُ الصَّلَاةُ عَنْهَا، حَتَّى لَا يَكُونَ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ حَظٌّ فِي قَلْبِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ». وَقِيلَ: الْفَحْشَاءُ الْمَعَاصِي، وَهُوَ أَقَلُّ الدَّرَجَاتِ، فَمَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنْ الْمَعَاصِي وَلَمْ تَتَمَرَّنْ جَوَارِحُهُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، حَتَّى يَأْنَسَ بِالصَّلَاةِ وَأَفْعَالِهَا أُنْسًا يَبْعُدُ بِهِ عَنْ اقْتِرَافِ الْخَطَايَا، وَإِلَّا فَهِيَ قَاصِرَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُنْكَرُ: وَهُوَ كُلُّ مَا أَنْكَرَهُ الشَّرْعُ وَغَيْرُهُ، وَنَهَى عَنْهُ. [مَسْأَلَة ذِكْرُ اللَّهِ لَكُمْ أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرِكُمْ لَهُ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: ذِكْرُ اللَّهِ لَكُمْ أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرِكُمْ لَهُ، أَضَافَ الْمَصْدَرَ إلَى الْفَاعِلِ. الثَّانِي: ذِكْرُ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. الثَّالِثُ: ذِكْرُ اللَّهِ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرِهِ فِي غَيْرِهَا، يَعْنِي لِأَنَّهَا عِبَادَتَانِ.

الآية الرابعة قوله تعالى ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن

الرَّابِعُ: ذِكْرُ اللَّهِ فِي الصَّلَاةِ أَكْبَرُ مِنْ الصَّلَاةِ. وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَى الْمَفْعُولِ. وَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ بَرَكَةٌ عَظِيمَةٌ. [الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ قَتَادَةُ: وَهِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ، فَإِنَّهُ رَفَعَ الْجِدَالَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ بَيَّنَّا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي أَنَّهَا لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً، وَإِنَّمَا هِيَ مَخْصُوصَةٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بُعِثَ بِاللِّسَانِ يُقَاتِلُ بِهِ فِي اللَّهِ، ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ بِالسَّيْفِ وَاللِّسَانِ، حَتَّى قَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَى الْخَلْقِ لِلَّهِ، وَتَبَيَّنَ الْعِنَادُ، وَبَلَغَتْ الْقُدْرَةُ غَايَتَهَا عَشْرَةَ أَعْوَامٍ مُتَّصِلَةٍ، فَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ قَتَلَ، وَمَنْ امْتَنَعَ بَقِيَ الْجِدَالُ فِي حَقِّهِ؛ وَلَكِنْ بِمَا يَحْسُنُ مِنْ الْأَدِلَّةِ، وَيَجْمُلُ مِنْ الْكَلَامِ، بِأَنْ يَكُونَ مِنْك لِلْخَصْمِ تَمْكِينٌ، وَفِي خِطَابِك لَهُ لِينٌ، وَأَنْ تَسْتَعْمِلَ مِنْ الْأَدِلَّةِ أَظْهَرَهَا، وَأَنْوَرَهَا، وَإِذَا لَمْ يَفْهَمْ الْمُجَادِلُ أَعَادَ عَلَيْهِ الْحُجَّةَ وَكَرَّرَهَا، كَمَا فَعَلَ الْخَلِيلُ مَعَ الْكَافِرِ حِينَ قَالَ لَهُ إبْرَاهِيمُ: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258]. فَقَالَ لَهُ الْكَافِرُ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، فَحَسُنَ الْجِدَالُ، وَنَقَلَ إلَى أَبَيْنَ مِنْهُ بِالِاسْتِدْلَالِ. وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ. وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنْ حَقٍّ إلَى حَقٍّ أَظْهَرَ مِنْهُ، وَمِنْ دَلِيلٍ إلَى دَلِيلٍ أَبْيَنَ مِنْهُ وَأَنْوَرَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا} [العنكبوت: 46] فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: أَهْلُ الْحَرْبِ. الثَّانِي: مَانِعُو الْجِزْيَةِ. الثَّالِثُ: مَنْ بَقِيَ عَلَى الْمُعَانَدَةِ بَعْدَ ظُهُورِ الْحُجَّةِ. الرَّابِعُ: الَّذِينَ ظَلَمُوا فِي جِدَالِهِمْ، بِأَنْ خَلَطُوا فِي إبْطَالِهِمْ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ مُرَدَّدَةٌ، وَقَدْ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُجَادَلَاتٌ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَمَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَآيَاتُ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَهِيَ أَثْبَتُ فِي الْمَعْنَى. وَقَدْ قَالَ لِلْيَهُودِ: {إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 94] {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 95]. فَمَا أَجَابُوا جَوَابًا. وَقَالَ لَهُمْ: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} [آل عمران: 59]. أَيْ: إنْ كُنْتُمْ أَبْعَدْتُمْ وَلَدًا بِغَيْرِ أَبٍ فَخُذُوا وَلَدًا دُونَ أَبٍ وَلَا أُمٍّ. وَقَالَ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران: 64]. وَقَالَ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة: 18]. وَقَالَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي حُصَيْنٍ: «يَا حُصَيْنُ؛ كَمْ إلَهًا تَعْبُدُ الْيَوْمَ، قَالَ: إنِّي أَعْبُدُ سَبْعَةً، وَاحِدًا فِي السَّمَاءِ، وَسِتًّا فِي الْأَرْضِ: قَالَ: فَأَيُّهُمْ تُعِدُّ لِرَغْبَتِك وَرَهْبَتِك، قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ. قَالَ: يَا حُصَيْنُ، أَمَا إنَّك إنْ أَسْلَمْت عَلَّمْتُك». وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

سورة الروم فيها ثلاث آيات

[سُورَةُ الرُّومِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [الروم: 4]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ ظَهَرَتْ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِينَ، فَنَزَلَتْ: {الم} [الروم: 1] {غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 2] {فِي أَدْنَى الأَرْضِ} [الروم: 3] إلَى قَوْلِهِ: {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [الروم: 4] {بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم: 5]. قَالَ: فَفَرِحَ الْمُؤْمِنُونَ بِظُهُورِ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ. وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: غُلِبَتْ الرُّومُ وَغَلَبَتْ، كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ فَارِسُ عَلَى الرُّومِ؛ لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ أَهْلُ أَوْثَانٍ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ؛ لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ، فَذَكَرُوهُ لِأَبِي بَكْرٍ، فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «أَمَا إنَّهُمْ سَيَغْلِبُونَ». فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لَهُمْ، فَقَالُوا: اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَك أَجَلًا؛ فَإِنْ ظَهَرْنَا كَانَ لَنَا كَذَا وَكَذَا، وَإِنْ ظَهَرْتُمْ كَانَ لَكُمْ كَذَا وَكَذَا. فَجَعَلَ أَجَلًا خَمْسَ سِنِينَ، فَلَمْ يَظْهَرُوا فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ: «أَلَا أَخْفَضْت». وَفِي رِوَايَةٍ: «أَلَا أَحْبَطْت». وَفِي رِوَايَةٍ: «أَلَا جَعَلْته إلَى دُونٍ، أَرَاهُ الْعَشَرَةَ».

قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَالْبِضْعُ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ؛ ثُمَّ ظَهَرَتْ الرُّومُ؛ فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {الم} [الروم: 1] {غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 2] إلَى قَوْلِهِ: {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [الروم: 4] {بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم: 5] قَالَ سُفْيَانُ: سَمِعْت أَنَّهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ نِيَارِ بْنِ مَكْرَمٍ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {الم} [الروم: 1] {غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 2] {فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 3] {فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 4] وَكَانَتْ فَارِسُ يَوْمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. قَاهِرِينَ لِلرُّومِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ ظُهُورَ الرُّومِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [الروم: 4] {بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم: 5] فَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُحِبُّ ظُهُورَ فَارِسَ؛ لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلِ كِتَابٍ، وَلَا إيمَانٍ بِبَعْثٍ فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَصِيحُ فِي نَوَاحِي مَكَّةَ: {الم} [الروم: 1] {غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 2] {فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 3] {فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 4]. قَالَ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ لِأَبِي بَكْرٍ: فَذَلِكَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، زَعَمَ صَاحِبُك أَنَّ الرُّومَ سَتَغْلِبُ فَارِسَ فِي بِضْعِ سِنِينَ؛ أَفَلَا نُرَاهِنُك عَلَى ذَلِكَ، قَالَ: بَلَى. وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّهَانِ. فَارْتَهَنَ أَبُو بَكْرٍ وَالْمُشْرِكُونَ، وَتَوَاضَعُوا الرِّهَانَ، وَقَالُوا لِأَبِي بَكْرٍ: كَمْ تَجْعَلُ؟ الْبِضْعُ ثَلَاثُ سِنِينَ إلَى تِسْعِ سِنِينَ. فَسَمِّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ وَسَطًا قَالَ: فَسَمَّوْا بَيْنَهُمْ سِتَّ سِنِينَ قَالَ: فَمَضَتْ السِّتُّ سِنِينَ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرُوا؛ فَأَخَذَ الْمُشْرِكُونَ رَهْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا دَخَلَتْ السَّنَةُ السَّابِعَةُ ظَهَرَتْ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، فَعَابَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ تَسْمِيَةَ سِتِّ سِنِينَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فِي بِضْعِ سِنِينَ. قَالَ: وَأَسْلَمَ عِنْدَ ذَلِكَ نَاسٌ كَثِيرٌ؛ فَهَذِهِ أَحَادِيثُ صِحَاحٌ حِسَانٌ غُرَابٌ

مسألة المراهنة

[مَسْأَلَة الْمُرَاهَنَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ الْمُرَاهَنَةِ: وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ الْغَرَرِ وَالْقِمَارِ؛ وَذَلِكَ نَوْعٌ مِنْهُ، وَلَمْ يَبْقَ لِلرِّهَانِ جَوَازٌ إلَّا فِي الْخَيْلِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ. [مَسْأَلَة الْبِضْعُ فِيهِ لِأَهْلِ اللُّغَةِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 4] الْبِضْعُ فِيهِ لِأَهْلِ اللُّغَةِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَا بَيْنَ اثْنَيْنِ إلَى عَشْرَةٍ، أَوْ اثْنَيْ عَشَرَ إلَى عِشْرِينَ، فَيُقَالُ: بِضْعَ عَشْرَةَ فِي جَمْعِ الْمُذَكَّرِ، وَبِضْعَةَ عَشَرَ فِي جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ. الثَّانِي: الْبِضْعُ سَبْعَةٌ؛ قَالَهُ الْخَلِيلُ. الثَّالِثُ: الْبِضْعُ مِنْ الثَّلَاثِ إلَى التِّسْعِ. الرَّابِعُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ مَا بَيْنَ نِصْفِ الْعِقْدَيْنِ، يُرِيدُ مَا بَيْنَ الْوَاحِدِ إلَى الْأَرْبَعَةِ. الْخَامِسُ: هُوَ مَا بَيْنَ خَمْسٍ إلَى سَبْعٍ؛ قَالَهُ يَعْقُوبُ عَنْ أَبِي زَيْدٍ. وَيُقَالُ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَفَتْحِهَا قَالَ أَكْثَرُهُمْ: وَلَا يُقَالُ بِضْعٌ وَمِائَةٌ، وَإِنَّمَا هُوَ إلَى التِّسْعِينَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إلَى الْعَشْرِ، وَبِذَلِكَ يَقْضِي فِي الْإِقْرَارِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي فُرُوعِ الْأَحْكَامِ. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ] َ} [الروم: 17]. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا مَعَ نُظَرَائِهَا مِنْ آيَاتِ الصَّلَاةِ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ] ِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39].

مسألة طلب الواهب في هبته زائدا على مكافأته

فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: بَيَّنَّا الرِّبَا وَمَعْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَشَرَحْنَا حَقِيقَتَهُ وَحُكْمَهُ، وَهُوَ هُنَاكَ مُحَرَّمٌ وَهُنَا مُحَلَّلٌ، وَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّهُ قِسْمَانِ؛ مِنْهُ حَلَالٌ وَمِنْهُ حَرَامٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْآيَةِ: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الرَّجُلُ يَهَبُ هِبَةً يَطْلُبُ أَفْضَلَ مِنْهَا؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ الرَّجُلُ فِي السَّفَرِ يَصْحَبُهُ رَجُلٌ يَخْدُمُهُ وَيُعِينُهُ، فَيَجْعَلُ الْمَخْدُومُ لَهُ بَعْضَ الرِّبْحِ جَزَاءَ خِدْمَتِهِ، لَا لِوَجْهِ اللَّهِ؛ قَالَ الشَّعْبِيُّ. الثَّالِثُ: الرَّجُلُ يَصِلُ قَرَابَتَهُ، يَطْلُبُ بِذَلِكَ كَوْنَهُ غَنِيًّا، لَا صِلَةً لِوَجْهِ اللَّهِ؛ قَالَهُ إبْرَاهِيمُ. [مَسْأَلَة طَلَبَ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ زَائِدًا عَلَى مُكَافَأَتِهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَمَّا مَنْ يَصِلُ قَرَابَتَهُ لِيَكُونَ غَنِيًّا فَالنِّيَّةُ فِي ذَلِكَ مُتَنَوِّعَةٌ، فَإِنْ كَانَ لِيَتَظَاهَرَ بِهِ دُنْيَا فَلَيْسَ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِمَا لَهُ مِنْ حَقِّ الْقَرَابَةِ وَبَيْنَهُمَا مِنْ وَشِيجَةِ الرَّحِمِ، فَإِنَّهُ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا مَنْ يُعِينُ الرَّجُلَ بِخِدْمَتِهِ فِي سَفَرِهِ بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ فَإِنَّهُ لِلدُّنْيَا لَا لِوَجْهِ اللَّهِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْمُرْبِي لَيْسَ لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِيَرْبُوَ فِي مَالِ نَفْسِهِ، وَصَرِيحُ الْآيَةِ فِيمَنْ يَهَبُ يَطْلُبُ الزِّيَادَةَ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ فِي الْمُكَافَأَةِ، وَذَلِكَ لَهُ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: " أَيُّمَا رَجُلٍ وَهَبَ هِبَةً يَرَى أَنَّهَا لِلثَّوَابِ فَهُوَ عَلَى هِبَتِهِ حَتَّى يَرْضَى مِنْهَا ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْهِبَةُ إنَّمَا تَكُونُ لِلَّهِ أَوْ لِجَلْبِ الْمَوَدَّةِ، كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ: «تَهَادَوْا تَحَابُّوا».

وَهَذَا بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِأَنْ يَهَبَ الرَّجُلُ الْهِبَةَ لَا يَطْلُبُ إلَّا الْمُكَافَأَةَ عَلَيْهَا، وَتَحْصُلُ فِي ذَلِكَ الْمَوَدَّةُ تَبَعًا لِلْهِبَةِ. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَثَابَ عَلَى لَقْحَةٍ»، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَى صَاحِبِهَا حِينَ طَلَبَ الثَّوَابَ، إنَّمَا أَنْكَرَ سَخَطَهُ لِلثَّوَابِ، وَكَانَ زَائِدًا عَلَى الْقِيمَةِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيمَا إذَا طَلَبَ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ زَائِدًا عَلَى مُكَافَأَتِهِ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فَإِنْ كَانَتْ الْهِبَةُ قَائِمَةً لَمْ تَتَغَيَّرْ، فَيَأْخُذُ مَا شَاءَ، أَوْ يَرُدُّهَا عَلَيْهِ. وَقِيلَ: تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ، كَنِكَاحِ التَّفْوِيضِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ بَعْدَ فَوَاتِ الْهِبَةِ فَلَيْسَ لَهُ إلَّا الْقِيمَةُ اتِّفَاقًا. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] أَيْ لَا تُعْطِ مُسْتَكْثِرًا عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ، وَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

سورة لقمان فيها خمس آيات

[سُورَةُ لُقْمَانَ فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ] سُورَةُ لُقْمَانَ فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان: 6]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: {لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] هُوَ الْغِنَاءُ وَمَا اتَّصَلَ بِهِ: فَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَحِلُّ بَيْعُ الْمُغَنِّيَاتِ، وَلَا شِرَاؤُهُنَّ، وَلَا التِّجَارَةُ فِيهِنَّ، وَلَا أَثْمَانُهُنَّ؛ وَفِيهِنَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [لقمان: 6]» الْآيَةَ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ جَلَسَ إلَى قَيْنَةٍ يَسْمَعُ مِنْهَا صُبَّ فِي أُذُنَيْهِ الْآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ الَّذِينَ كَانُوا يُنَزِّهُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَسْمَاعَهُمْ عَنْ اللَّهْوِ وَمَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ؟

مسألة طبل الحرب

أَدْخِلُوهُمْ فِي رِيَاضِ الْمِسْكِ. ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ: أَسْمِعُوهُمْ حَمْدِي وَشُكْرِي، وَثَنَائِي عَلَيْهِمْ، وَأَخْبِرُوهُمْ أَنْ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَمِنْ رِوَايَةِ مَكْحُولٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ مَاتَ وَعِنْدَهُ جَارِيَةٌ مُغَنِّيَةٌ فَلَا تُصَلُّوا عَلَيْهِ». الثَّانِي: أَنَّهُ الْبَاطِلُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ الطَّبْلُ؛ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ يَجْلِسُ بِمَكَّةَ، فَإِذَا قَالَتْ قُرَيْشٌ: إنَّ مُحَمَّدًا قَالَ كَذَا وَكَذَا ضَحِكَ مِنْهُ، وَحَدَّثَهُمْ بِأَحَادِيثَ مُلُوكِ الْفُرْسِ، وَيَقُولُ: حَدِيثِي هَذَا أَحْسَنُ مِنْ قُرْآنِ مُحَمَّدٍ. الثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ اشْتَرَى جَارِيَةً مُغَنِّيَةً، فَشُغِلَ النَّاسُ بِلَهْوِهَا عَنْ اسْتِمَاعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [مَسْأَلَة طَبْلُ الْحَرْبِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا لَا يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ بِحَالٍ، لِعَدَمِ ثِقَةِ نَاقِلِيهَا إلَى مَنْ ذُكِرَ مِنْ الْأَعْيَانِ فِيهَا. وَأَصَحُّ مَا فِيهِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ الْبَاطِلُ. فَأَمَّا قَوْلُ الطَّبَرِيِّ: إنَّهُ الطَّبْلُ فَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ: طَبْلُ حَرْبٍ، وَطَبْلُ لَهْوٍ، فَأَمَّا طَبْلُ الْحَرْبِ فَلَا حَرَجَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يُقِيمُ النُّفُوسَ، وَيُرْهِبُ عَلَى الْعَدُوِّ. وَأَمَّا طَبْلُ اللَّهْوِ فَهُوَ كَالدُّفِّ. وَكَذَلِكَ آلَاتُ اللَّهْوِ الْمُشْهِرَةُ لِلنِّكَاحِ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا فِيهِ، لِمَا يَحْسُنُ مِنْ الْكَلَامِ، وَيَسْلَمُ مِنْ الرَّفَثِ.

مسألة سماع القينات

[مَسْأَلَة سَمَاعُ الْقَيْنَاتِ] وَأَمَّا سَمَاعُ الْقَيْنَاتِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَسْمَعَ غِنَاءَ جَارِيَتِهِ، إذْ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَيْهِ حَرَامًا، لَا مِنْ ظَاهِرِهَا وَلَا مِنْ بَاطِنِهَا، فَكَيْفَ يُمْنَعُ مِنْ التَّلَذُّذِ بِصَوْتِهَا. [مَسْأَلَة الدُّفُّ فِي الْعُرْسِ] وَلَمْ يَجُزْ الدُّفُّ فِي الْعُرْسِ لِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ يُشْهِرُهُ، فَكُلُّ مَا أَشْهَرَهُ جَازَ. وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ الزَّمْرِ فِي الْعُرْسِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ: «أَمِزْمَارُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَ: دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ»، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ انْكِشَافُ النِّسَاءِ لِلرِّجَالِ وَلَا هَتْكُ الْأَسْتَارِ، وَلَا سَمَاعُ الرَّفَثِ، فَإِذَا خَرَجَ ذَلِكَ إلَى مَا لَا يَجُوزُ مُنِعَ مِنْ أَوَّلِهِ، وَاجْتُنِبَ مِنْ أَصْلِهِ. [الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ] َ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان: 12]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي ذِكْرِ لُقْمَانَ: وَفِيهِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: كَانَ لُقْمَانُ أَسْوَدَ مِنْ سُودَانِ مِصْرَ، حَكِيمًا، ذَا مَشَافِرَ، وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا. الثَّانِي: قَالَ قَتَادَةُ: خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ، فَاخْتَارَ الْحِكْمَةَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ نَائِمٌ، فَقَذَفَ عَلَيْهِ الْحِكْمَةَ، فَأَصْبَحَ يَنْطِقُ بِهَا، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إنَّهُ لَوْ أَرْسَلَ إلَيَّ النُّبُوَّةَ عَزْمَةً لَرَجَوْت الْفَوْزَ بِهَا، وَلَكِنَّهُ خَيَّرَنِي؛ فَخِفْت أَنْ أَضْعُفَ عَنْ النُّبُوَّةِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ مِنْ النُّوبَةِ قَصِيرًا أَفْطَسَ.

مسألة ما قاله لقمان لابنه

الرَّابِعُ: أَنَّهُ كَانَ حَبَشِيًّا. الْخَامِسُ: أَنَّهُ كَانَ خَيَّاطًا. السَّادِسُ: أَنَّهُ كَانَ رَاعِيًا، فَرَآهُ رَجُلٌ كَانَ يَعْرِفُهُ قَبْلَ ذَلِكَ قَالَ: أَلَسْت عَبْدَ بَنِي فُلَانٍ الَّذِي كُنْت تَرْعَى بِالْأَمْسِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَمَا بَلَغَ بِك مَا أَرَى؟ قَالَ: قَدَرُ اللَّهِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ، وَصِدْقُ الْحَدِيثِ، وَتَرْكُ مَا لَا يَعْنِينِي. السَّابِعُ: أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا نَجَّارًا قَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: اذْبَحْ شَاةً، وَأْتِنِي بِأَطْيَبِهَا بِضْعَتَيْنِ فَأَتَاهُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ. ثُمَّ أَمَرَهُ بِذَبْحِ شَاةٍ، وَقَالَ لَهُ: أَلْقِ أَخْبَثَهَا بِضْعَتَيْنِ، فَأَلْقَى اللِّسَانَ وَالْقَلْبَ، فَقَالَ: أَمَرْتُك أَنْ تَأْتِيَنِي بِأَطْيَبِهَا بِضْعَتَيْنِ فَأَتَيْتنِي بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ، وَأَمَرْتُك أَنْ تُلْقِي أَخْبَثَهَا بِضْعَتَيْنِ، فَأَلْقَيْت اللِّسَانَ وَالْقَلْبَ، فَقَالَ: لَيْسَ شَيْءٌ أَطْيَبَ مِنْهُمَا إذَا طَابَا، وَلَا شَيْءَ أَخْبَثُ مِنْهَا إذَا خَبُثَا. [مَسْأَلَة مَا قَالَهُ لُقْمَان لِابْنِهِ] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى عُلَمَاؤُنَا عَنْ مَالِكٍ أَنَّ لُقْمَانَ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ؛ إنَّ النَّاسَ قَدْ تَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ مَا يُوعَدُونَ، وَهُمْ إلَى الْآخِرَةِ سِرَاعًا يَذْهَبُونَ، وَإِنَّك قَدْ اسْتَدْبَرْت الدُّنْيَا مُنْذُ كُنْت، وَاسْتَقْبَلْت الْآخِرَةَ، وَإِنَّ دَارًا تَسِيرُ إلَيْهَا أَقْرَبُ إلَيْك مِنْ دَارٍ تَخْرُجُ عَنْهَا. وَقَالَ لُقْمَانُ، يَا بُنَيَّ؛ لَيْسَ غِنًى كَصِحَّةٍ، وَلَا نِعْمَةٌ كَطِيبِ نَفْسٍ. وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ لَا تُجَالِسْ الْفُجَّارَ، وَلَا تُمَاشِهِمْ، اتَّقِ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ عَذَابٌ مِنْ السَّمَاءِ، فَيُصِيبَك مَعَهُمْ. وَقَالَ: يَا بُنَيَّ؛ جَالِسِ الْعُلَمَاءَ وَمَاشِهِمْ، عَسَى أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْهِمْ رَحْمَةٌ فَتُصِيبَك مَعَهُمْ. وَقَالَ: يَا بُنَيَّ؛ جَالِسِ الْعُلَمَاءَ وَزَاحِمْهُمْ بِرُكْبَتَيْك؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْقُلُوبَ الْمَيِّتَةَ بِالْعِلْمِ، كَمَا يُحْيِي الْأَرْضَ بِوَابِلِ الْمَطَرِ. [مَسْأَلَة ذَكَرَ الْمُؤَرِّخُونَ أَنَّهُ كَانَ لُقْمَانَ بْنَ عَادٍ الْأَكْبَرَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ الْمُؤَرِّخُونَ أَنَّهُ كَانَ لُقْمَانُ بْنَ عَادٍ الْأَكْبَرَ، وَكَانَ لُقْمَانُ الْأَصْغَرَ، وَلَيْسَ بِلُقْمَانَ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ. وَكَانَ لُقْمَانُ هَذَا الَّذِي تَذْكُرُهُ الْعَرَبُ حَكِيمًا.

الآية الثالثة قوله تعالى ولا تصعر خدك للناس

وَفِي أَخْبَارِهَا أَنَّ أُخْتَ لُقْمَانَ كَانَتْ امْرَأَةً مُحَمَّقَةً، وَكَانَ لُقْمَانُ حَكِيمًا نَجِيًّا، فَقَالَتْ أُخْتُهُ لِامْرَأَتِهِ: هَذِهِ لَيْلَةُ طُهْرِي فَهَبِي لِي لَيْلَتَك، طَمَعًا فِي أَنْ تَعْلَقَ مِنْ أَخِيهَا بِنَجِيبٍ، فَفَعَلَتْ، فَحَمَلَتْ مِنْ أَخِيهَا، فَوَلَدَتْ لُقَيْمَ بْنَ لُقْمَانَ، وَفِيهِ يَقُولُ النَّمِرُ بْنُ تَوْلَبٍ: لُقَيْمُ بْنُ لُقْمَانَ مِنْ أُخْتِهِ ... فَكَانَ ابْنَ أُخْتٍ لَهَا وَابْنَا لَيَالِي حُمْقٌ فَاسْتَحْصَنَتْ ... عَلَيْهِ فَغُرَّ بِهَا مُظْلِمًا فَقَرَّ بِهِ رَجُلٌ مُحْكِمٌ ... فَجَاءَتْ بِهِ رَجُلًا مُحْكَمًا الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ذَكَرَ مَالِكٌ كَلَامًا كَثِيرًا مِنْ الْحِكْمَةِ عَنْ لُقْمَانَ، وَأَدْخَلَ مِنْ حِكْمَتِهِ فَصْلًا فِي كِتَابِ الْجَامِعِ مِنْ مُوَطَّئِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ، وَذَكَرَ مِنْ حِكْمَتِهِ فَصْلًا يَعْضُدُهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، لِيُنَبِّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ تُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا أَيْ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ، وَهِيَ الْعَمَلُ بِالْعِلْمِ. [الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّك لِلنَّاسِ] ِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ} [لقمان: 18] يَعْنِي لَا تُمِلْهُ عَنْهُمْ تَكَبُّرًا، يُرِيدُ أَقْبِلْ عَلَيْهِمْ مُتَوَاضِعًا، مُؤْنِسًا مُسْتَأْنِسًا، وَإِذَا حَدَّثَك أَحَدُهُمْ فَأَصْغِ إلَيْهِ، حَتَّى يُكْمِلَ حَدِيثَهُ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَكُنَّا إذَا الْجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ ... أَقَمْنَا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ فَتَقَوَّمَ يُرِيدُ: فَتَقَوَّمْ أَنْتَ، أَمْرٌ، ثُمَّ كُسِرَتْ لِلْقَافِيَةِ.

مسألة ولا تمش في الأرض مرحا

[مَسْأَلَة وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} [لقمان: 18] قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ فِي بُرْدَيْهِ أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ، وَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ». وَعَنْهُ، صَحِيحًا: «الَّذِي يَجُرُّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». وَعَنْهُ مِثْلُهُ: «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى مَنْ جَرَّ إزَارَهُ بَطَرًا». وَعَنْهُ مِثْلُهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْإِزَارِ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَنَا أُخْبِرُكُمْ بِعِلْمٍ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إزْرَةُ الْمُؤْمِنِ إلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَيْنِ، وَمَا أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَفِي النَّارِ». قَالَ الْقَاضِي: رُوِيَ أَنَّ الْمُخْتَالَ هُوَ قَارُونُ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ مَعْصُومَةٌ مِنْ الْخَسْفِ. وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ، وَفِي صَحِيحِ الْأَخْبَارِ «أَنَّهُ سَيُخْسَفُ بِجَيْشٍ فِي الْبَيْدَاءِ يَقْصِدُ الْبَيْتَ». وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ، أَمَا إنَّهُ يَتَبَخْتَرُ فَلَمْ تُخْسَفْ بِهِ الْأَرْضُ حَقِيقَةً خُسِفَ بِهِ فِي الْعَمَلِ مَجَازًا، فَلَمْ يَرْقَ لَهُ عَمَلٌ إلَى السَّمَاءِ، وَهُوَ أَشَدُّ الْخَسْفِ.

الآية الرابعة قوله تعالى واقصد في مشيك واغضض من صوتك

[الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ] َ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقَصْدُ فِي الْمَشْيِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ السُّرْعَةَ، وَيَحْتَمِلُ التُّؤَدَةَ؛ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَشْيَ بِقَصْدٍ، لَا يَكُونُ عَادَةً، بَلْ يَجْرِي عَلَى حُكْمِ النِّيَّةِ، وَلَا يَسْتَرْسِلُ اسْتِرْسَالَ الْبَهِيمَةِ؛ وَالْكُلُّ صَحِيحٌ مُرَادٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة رَفْعَ الصَّوْتِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان: 19] يَعْنِي لَا تَتَكَلَّفْ رَفْعَ الصَّوْتِ، وَخُذْ مِنْهُ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْجَهْرَ بِأَكْثَرَ مِنْ الْحَاجَةِ تَكَلُّفٌ يُؤْذِي. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ لِمُؤَذِّنٍ تَكَلَّفَ رَفْعَ الْأَذَانِ بِأَكْثَرَ مِنْ طَاقَتِهِ: لَقَدْ خَشِيت أَنْ تَنْشَقَّ مُرَيْطَاؤُك. وَالْمُؤَذِّنُ هُوَ أَبُو مَحْذُورَةَ سَمُرَةَ بْنُ مِعْيَرٍ. وَالْمُرَيْطَاءُ: مَا بَيْنَ السُّرَّةِ إلَى الْعَانَةِ. [الْآيَة الْخَامِسَة قَوْله تَعَالَى وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ] الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14]. يَأْتِي فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ إنْ شَاءَ اللَّهُ.

سورة السجدة فيها ثلاث آيات

[سُورَةُ السَّجْدَةِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا] ٍ الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة: 16]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَضَاجِعُ جَمْعُ مَضْجَعٍ، وَهِيَ مَوَاضِعُ النَّوْمِ. وَيُحْتَمَلُ وَقْتُ الِاضْطِجَاعِ، وَلَكِنَّهُ مَجَازٌ. وَالْحَقِيقَةُ أَوْلَى، وَذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ السَّهَرِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إلَى أَيِّ طَاعَةِ اللَّهِ تَتَجَافَى؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: ذِكْرُ اللَّهِ. وَالْآخَرُ الصَّلَاةُ. وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ، إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا عَامٌّ، وَالْآخَرَ خَاصٌّ. فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ، فَأَيُّ صَلَاةٍ هِيَ؟ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا النَّفَلُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ؛ قَالَ قَتَادَةُ. الثَّانِي: أَنَّهَا الْعَتَمَةُ؛ قَالَهُ أَنَسٌ وَعَطَاءٌ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا صَلَاةُ الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ فِي جَمَاعَةٍ؛ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ.

الآية الثانية قوله تعالى قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم

الرَّابِعُ: أَنَّهُ قِيَامُ اللَّيْلِ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: هُوَ قِيَامُ اللَّيْلِ بَعْدَ النَّوْمِ، وَذَلِكَ أَثْقَلُهُ عَلَى النَّاسِ، وَمَتَى كَانَ النَّوْمُ حِينَئِذٍ أَحَبَّ فَالصَّلَاةُ حِينَئِذٍ أَحَبُّ وَأَوْلَى. وَالْقَوْلُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ مَضَى، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الزُّمَرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ] ْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 11]. قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةُ لَمْ يَذْكُرْهَا مَنْ طَالَعْت كَلَامَهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَذَكَرَهَا الْقُرْطُبِيُّ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ خَاصَّةً مُنْتَزِعًا بِهَا لِجَوَازِ الْوَكَالَةِ مِنْ قَوْلِهِ: {الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] وَهَذَا أَخْذٌ مِنْ لَفْظِهِ، لَا مِنْ مَعْنَاهُ؛ فَإِنَّ كُلَّ فَاعِلٍ غَيْرِ اللَّهِ إنَّمَا يَفْعَلُ بِمَا خَلَقَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ الْفِعْلِ، لَا بِمَا جَعَلَ إلَيْهِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ. وَلَوْ اطَّرَدَ ذَلِكَ لَقُلْنَا فِي قَوْلِهِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] أَنَّهَا نِيَابَةٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَوَكَالَةٌ فِي تَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ، وَلَقُلْنَا أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [الحج: 78] إنَّهُ وَكَالَةٌ فِي أَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ الرِّزْقَ لِكُلِّ دَابَّةٍ، وَخَصَّ الْأَغْنِيَاءَ بِالْأَغْذِيَةِ، وَأَوْعَزَ إلَيْهِمْ بِأَنَّ رِزْقَ الْفُقَرَاءِ عِنْدَهُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِتَسْلِيمِهِ إلَيْهِمْ، مُقَدَّرًا مَعْلُومًا فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ، وَدَبَّرَهُ بِعِلْمِهِ، وَأَنْفَذَهُ مِنْ حُكْمِهِ، وَقَدَّرَهُ بِحِكْمَتِهِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَلَا تَتَعَلَّقُ الْأَحْكَامُ بِالْأَلْفَاظِ، إلَّا أَنْ تُرَدَّ عَلَى مَوْضُوعَاتِهَا الْأَصْلِيَّةِ فِي مَقَاصِدِهَا الْمَطْلُوبَةِ، فَإِنْ ظَهَرَتْ فِي غَيْرِ مَقْصِدِهَا لَمْ تُعَلَّقْ عَلَيْهَا مَقَاصِدُهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ مَعْلُومُ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111]. وَلَا يُقَالُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ مُبَايَعَةِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَيْنِ مُخْتَلِفَانِ.

وَهَذَا غَرَضٌ شَبَّ طَوْقُ أَصْحَابِنَا عَنْهُ، فَإِذَا أَرَادُوا لُبْسَهُ لَمْ يَسْتَطِيعُوا جَوْبَهُ، وَلَا وُجِدَ امْرُؤٌ مِنْهُمْ جَيْبَهُ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْمُشْكَلَيْنِ، وَأَحْسَنُ مَا قَيَّدْنَا فِيهَا عَنْ الْإسْفَرايِينِيّ، مِنْ طَرِيقِ الشَّهِيدِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْدِسِيِّ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ لِكُلِّ شَيْءٍ، الْفَاعِلُ حَقِيقَةً لِكُلِّ فِعْلٍ، فِي أَيِّ مَحَلٍّ كَانَ، وَمَتَى تَرَتَّبَ الْمُحَالُ، وَتَنَاسَقَتْ الْأَفْعَالُ فَالْكُلُّ إلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَعَلَى قُدْرَتِهِ مُحَالُونَ، وَمَنْ فَعَلَهُ مَحْسُوبٌ، وَفِي كِتَابِهِ مَكْتُوبٌ؛ وَقَدْ خَلَقَ مَلَكَ الْمَوْتِ، وَخَلَقَ عَلَى يَدَيْهِ قَبْضَ الْأَرْوَاحِ، وَاسْتِلَالَهَا مِنْ الْأَجْسَامِ، وَإِخْرَاجَهَا مِنْهَا عَلَى كَيْفِيَّةٍ بَيَّنَّاهَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَخَلَقَ جُنْدًا يَكُونُونَ مَعَهُ، يَعْمَلُونَ عَمَلَهُ بِأَمْرِهِ مَثْنَى وَفُرَادَى. وَالْبَارِي تَعَالَى خَالِقُ الْكُلِّ، فَأَخْبَرَ عَنْ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ بِثَلَاثِ عِبَارَاتٍ، فَقَالَ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42]، إخْبَارًا عَنْ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْحَقِيقَةُ. وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] خَبَرًا عَنْ الْمَحَلِّ الْأَوَّلِ الَّذِي نِيطَ بِهِ، وَخَلَقَ فِعْلَهُ فِيهِ. وَقَالَ: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ} [الأنفال: 50]، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ خَبَرًا عَنْ الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي تُبَاشِرُ فِيهَا ذَلِكَ. فَالْأُولَى حَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ إلَهِيَّةٌ، وَالثَّانِيَةُ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ بِحُكْمِ الْمُبَاشَرَةِ. وَقَالَ: مَلَكُ الْمَوْتِ إنْ بَاشَرَ مِثْلَهَا وَإِنْ أُمِرَ فَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: حَدَّ الْأَمِيرُ الزَّانِيَ وَعَاقَبَ الْجَانِيَ. وَهَذِهِ نِهَايَةٌ فِي تَحْقِيقِ الْقَوْلِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَمَا إنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ التَّسَوُّرِ عَلَى الْمَعَانِي، وَدَفْعِ الْجَهْلِ عَنْهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الْمَقَاصِدِ فِي ذَلِكَ، فَيُقَالُ: إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَأْخُذُ الْحَقَّ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ قَسْرًا دُونَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي ذَلِكَ فِعْلٌ أَوْ يَرْتَبِطَ بِهِ رِضًا إذَا وُجِدَ ذَلِكَ.

الآية الثالثة قوله تعالى أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون

وَهُوَ التَّحْقِيقُ الْحَاضِرُ الْآنَ، وَتَمَامُهُ فِي الْكِتَابِ الْكَبِيرِ. . [الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ] َ} [السجدة: 18]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِيمَنْ نَزَلَتْ؟ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْمُؤْمِنِ، وَفِي عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ الْكَافِرِ، فَاخَرَ عُقْبَةُ عَلِيًّا، فَقَالَ: أَنَا أَبْسَطُ مِنْك لِسَانًا، وَأَحَدُّ سِنَانًا، وَأَمْلَأُ فِي الْكَتِيبَةِ مِنْك حَشْوًا. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: لَيْسَ كَمَا قُلْت يَا فَاسِقُ. قَالَ قَتَادَةُ: وَاَللَّهِ مَا اسْتَوَيَا فِي الدُّنْيَا، وَلَا عِنْدَ الْمَوْتِ، وَلَا فِي الْآخِرَةِ. [مَسْأَلَة الْمُسَاوَاة بَيْنَ الْمُؤْمِنِ والكافر فِي الْقِصَاص] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي هَذَا الْقَوْلِ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَبِهَذَا مُنِعَ الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا؛ إذْ مِنْ شُرُوطِ وُجُودِ الْقِصَاصِ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ، وَبِذَلِكَ احْتَجَّ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَتْلِهِ الْمُسْلِمَ بِالذِّمِّيِّ. وَقَالَ: أَرَادَ نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ هَاهُنَا فِي الْآخِرَةِ فِي الثَّوَابِ، وَفِي الدُّنْيَا فِي الْعَدَالَةِ، وَنَحْنُ حَمَلْنَاهُ عَلَى عُمُومِهِ؛ وَهُوَ أَصَحُّ؛ إذْ لَا دَلِيلَ يَخُصُّهُ حَسْبَمَا قَرَرْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.

سورة الأحزاب فيها أربع وعشرون آية

[سُورَةُ الْأَحْزَابِ فِيهَا أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ آيَةً] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ] ً الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَلِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَيْسَ ابْنُ رَجُلٍ آخَرَ ابْنَك. الثَّانِي: قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ رَجُلٌ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا إلَّا وَعَاهُ، فَقَالَ النَّاسُ: مَا يَعِي هَذَا إلَّا لِأَنَّ لَهُ قَلْبَيْنِ، فَسُمِّيَ ذَا الْقَلْبَيْنِ؛ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4] [فَكَانَ مَا قَالَ]. الثَّالِثُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: إنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي فِهْرٍ قَالَ: إنَّ فِي جَوْفِي قَلْبَيْنِ، أَعْمَلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمَلًا أَفْضَلَ مِنْ عَمَلِ مُحَمَّدٍ. الرَّابِعُ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَرَأَيْت قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4] مَا عَنَى بِذَلِكَ؟

مسألة لا يجتمع في القلب الكفر والإيمان

قَالَ: قَامَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَطَرَ خَطْرَةً، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ مَعَهُ: أَلَا تَرَوْنَ لَهُ قَلْبَيْنِ: قَلْبًا مَعَكُمْ، وَقَلْبًا مَعَهُمْ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ. [مَسْأَلَة لَا يَجْتَمِعُ فِي الْقَلْبِ الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مِنْ قَلْبَيْنِ} [الأحزاب: 4] الْقَلْبُ: بِضْعَةٌ صَغِيرَةُ الْجُرْمِ عَلَى هَيْئَةِ الصَّنَوْبَرَةِ، خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآدَمِيِّ وَجَعَلَهَا مَحَلًّا لِلْعِلْمِ، وَالرُّوحِ أَيْضًا، فِي قَوْلٍ، يُحْصِي بِهِ الْعَبْدُ مِنْ الْعُلُومِ مَا لَا يَسَعُ فِي أَسْفَارٍ، يَكْتُبُهُ اللَّهُ لَهُ فِيهِ بِالْخَطِّ الْإِلَهِيِّ، وَيَضْبُطُهُ فِيهِ بِالْحِفْظِ الرَّبَّانِيِّ حَتَّى يُحْصِيَهُ وَلَا يَنْسَى مِنْهُ شَيْئًا. وَهُوَ بَيْنَ لَمَّتَيْنِ: لَمَّةٌ مِنْ الْمَلَكِ، وَلَمَّةٌ مِنْ الشَّيْطَانِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْحَدِيثِ. وَهُوَ مَحَلُّ الْخَطِرَاتِ وَالْوَسَاوِسِ، وَمَكَانُ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَمَوْضِعُ الْإِصْرَارِ وَالْإِنَابَةِ، وَمَجْرَى الِانْزِعَاجِ وَالطُّمَأْنِينَةِ. وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ فِي الْقَلْبِ الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالُ، وَالْإِنَابَةُ وَالْإِصْرَارُ، وَهَذَا نَفْيٌ لِكُلِّ مَا تَوَهَّمَهُ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ مِنْ حَقِيقَةٍ أَوْ مَجَازٍ. [مَسْأَلَة تَكُونَ الزَّوْجَةُ أُمًّا بِقَوْلِ الرَّجُلِ هِيَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} [الأحزاب: 4] نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ أُمًّا بِقَوْلِ الرَّجُلِ: هِيَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. وَلَكِنَّهُ حَرَّمَهَا عَلَيْهِ، وَجَعَلَ تَحْرِيمَ الْقَوْلِ يَمْتَدُّ إلَى غَايَةٍ، وَهِيَ الْكَفَّارَةُ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ. [مَسْأَلَة الرَّجُلُ يَدْعُو الرَّجُلَ ابْنًا إذَا رَبَّاهُ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب: 4] كَانَ الرَّجُلُ يَدْعُو الرَّجُلَ ابْنًا إذَا رَبَّيْهِ، كَأَنَّهُ تَبَنَّاهُ أَيْ يُقِيمُهُ مَقَامَ الِابْنِ؛ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ تَعَدَّوْا بِهِ إلَى أَنْ قَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ: وَإِلَى أَنْ يَقُولُوا: زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَمَسَخَ اللَّهُ هَذِهِ الذَّرِيعَةَ، وَبَتَّ حَبْلَهَا، وَقَطَعَ وَصْلَهَا بِمَا أَخْبَرَ مِنْ إبْطَالِ ذَلِكَ.

الآية الثانية قوله تعالى ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله

[الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ] ِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 5]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] رَوَى الْأَئِمَّةُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: مَا كُنَّا نَدْعُو زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ إلَّا زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، حَتَّى نَزَلَتْ: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5]. وَكَانَ مِنْ قِصَّةِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ جَبَلَةُ فِي الْحَيِّ، فَقَالُوا: أَنْتَ أَكْبَرُ أَمْ زَيْدٌ؟ فَقَالَ: زَيْدٌ أَكْبَرُ مِنِّي، وَأَنَا وُلِدْت قَبْلَهُ، وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ: كَانَتْ أُمُّنَا امْرَأَةً مِنْ طَيِّئٍ، فَمَاتَ أَبُونَا، وَبَقِينَا فِي حِجْرِ جَدِّي، فَجَاءَ عَمَّايَ، فَقَالَا لِجَدِّي: نَحْنُ أَحَقُّ بِابْنِ أَخِينَا مِنْك. فَقَالَ: مَا عِنْدَنَا خَيْرٌ لَهُمَا، فَأَبَيَا. فَقَالَ: خُذَا جَبَلَةَ وَدَعَا زَيْدًا. فَانْطَلَقَا بِي، فَجَاءَتْ خَيْلٌ مِنْ تِهَامَةَ، فَأَصَابَتْ زَيْدًا، فَتَرَاقَى بِهِ الْأَمْرُ إلَى خَدِيجَةَ، فَوَهَبَتْهُ خَدِيجَةَ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا لَمْ يَغْزُ وَغَزَا زَيْدٌ أَعْطَاهُ سِلَاحَهُ. وَأُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا مِرْجَلَانِ، فَأَعْطَاهُ أَحَدَهُمَا، وَأَعْطَى عَلِيًّا الْآخَرَ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ ابْتَاعَهُ، وَكَانَ مَسْبِيًّا مِنْ الشَّامِ، فَوَهَبَهُ لِعَمَّتِهِ خَدِيجَةَ، فَوَهَبَتْهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَبَنَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ أَبُوهُ يَدُورُ بِالشَّامِ وَيَقُولُ: بَكَيْت عَلَى زَيْدٍ وَلَمْ أَدْرِ مَا فَعَلٌ ... أَحَيٌّ فَيُرْجَى أَمْ أَتَى دُونَهُ الْأَجَلْ فَوَاَللَّهِ مَا أَدْرِي وَإِنِّي لَسَائِلٌ ... أَغَالَك بَعْدِي السَّهْلُ أَمْ غَالَك الْجَبَلْ فَيَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ لَك الدَّهْرُ أَوْبَةً ... فَحَسْبِي مِنْ الدُّنْيَا رُجُوعُك لِي أَمَلْ

مسألة من لا أب له من ولد دعي أو لعان

تُذَكِّرُنِيهِ الشَّمْسُ عِنْدَ طُلُوعِهَا ... وَتُعْرِضُ ذِكْرَاهُ إذَا غَرْبُهَا أَفَلْ فَإِنْ هَبَّتْ الْأَرْوَاحُ هَيَّجْنَ ذِكْرَهُ ... فَيَا طُولُ مَا حُزْنِي عَلَيْهِ وَيَا وَجَلْ سَأُعْمِلُ نَصَّ الْعِيسِ فِي الْأَرْضِ جَاهِدًا ... وَلَا أَسْأَمُ التَّطْوَافَ أَوْ تَسْأَمُ الْإِبِلْ حَيَاتِي أَوْ تَأْتِي عَلَيَّ مَنِيَّتِي ... فَكُلُّ امْرِئٍ فَانٍ وَإِنْ غَرَّهُ الْأَمَلْ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ بِمَكَّةَ، فَجَاءَ إلَيْهِ، فَهَلَكَ عِنْدَهُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ جَاءَ إلَيْهِ، فَخَيَّرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاخْتَارَ الْمَقَامَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسَعَادَتِهِ، وَتَبَنَّاهُ وَرَبَّاهُ، وَدُعِيَ لَهُ عَلَى رَسْمِ الْعَرَبِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4] {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 5] {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب: 6]. فَدَعَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحَارِثَةَ، وَعَرَفَتْ كَلْبٌ نَسَبَهُ، فَأَقَرُّوا بِهِ، وَأَثْبَتُوا نِسْبَتَهُ. وَهُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ؛ أَيْ أَعْدَلُ عِنْدَ اللَّهِ قَوْلًا وَحُكْمًا. [مَسْأَلَة مَنْ لَا أَبَ لَهُ مِنْ وَلَدٍ دُعِيَ أَوْ لِعَانٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5] دَلِيلٌ قَوِيٌّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَا أَبَ لَهُ مِنْ وَلَدٍ دُعِيَ أَوْ لِعَانٍ لَا يَنْتَسِبُ إلَى أُمِّهِ، وَلَكِنَّهُ يُقَالُ أَخُو مُعْتِقِهِ وَوَلَدُهُ إنْ كَانَ حُرًّا، أَوْ عَبْدُهُ إنْ كَانَ رِقًّا. فَأَمَّا وَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ إنْ كَانَ حُرًّا فَإِنَّهُ يُدْعَى إلَى أُمِّهِ، فَيُقَالُ: فُلَانٌ ابْنُ فُلَانَةَ، لِأَنَّ أَسْبَابَهُ فِي انْتِسَابِهِ مُنْقَطِعَةٌ، فَرَجَعَتْ إلَى أُمِّهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِيهِ إطْلَاقُ اسْمِ الْأُخُوَّةِ دُونَ إطْلَاقِ اسْمِ الْأُبُوَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إخْوَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].

مسألة إطلاق المولى على المنعم عليه بالعتق وعلى المعتق

وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَدِدْت أَنِّي رَأَيْت إخْوَانَنَا. قَالُوا: أَلَسْنَا بِإِخْوَانِك، قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ». [مَسْأَلَة إطْلَاقُ الْمَوْلَى عَلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ وَعَلَى الْمُعْتِقِ] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5] يَجُوزُ إطْلَاقُ الْمَوْلَى عَلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ، وَعَلَى الْمُعْتِقِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَالْمَعْنَى مُخْتَلِفٌ، وَيَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى الْوِلَايَةِ، وَهِيَ الْقُرْبُ، كَمَا تَرْجِعُ الْأُخُوَّةُ إلَى أَصْلٍ هُوَ مَقَامُ الْأُبُوَّةِ مِنْ الدِّينِ وَالصَّدَاقَةِ. وَلِلْمَوْلَى ثَمَانِيَةُ مَعَانٍ، مِنْهَا مَا يَجْتَمِعُ أَكْثَرُهَا فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ فِيهِ مِنْ مُعَايَنَةِ اثْنَيْنِ بِحَسَبِ مَا يُعَضِّدُهُ الِاشْتِقَاقُ، وَيَقْتَضِيهِ الْحَالُ وَتَوْجِيهُ الْأَحْكَامِ. [مَسْأَلَة نَسْخ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ جَمَاعَةٌ: هَذَا نَاسِخٌ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ التَّبَنِّي وَالتَّوَارُثِ، وَيَكُونُ نَسْخًا لِلسُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ نَسْخًا؛ لِعَدَمِ شُرُوطِ النَّسْخِ فِيهِ؛ وَلِأَنَّ مَا جَاءَ مِنْ الشَّرِيعَةِ لَا يُقَالُ إنَّهُ نَسْخٌ لِبَاطِلِ الْخَلْقِ، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْمُحَالِ وَالضَّلَالِ، وَقَبِيحِ الْأَفْعَالِ، وَمُسْتَرْسَلِ الْأَعْمَالِ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ نَسْخَ الِاشْتِقَاقِ، بِمَعْنَى الرَّفْعِ الْمُطْلَقِ، وَالْإِزَالَةِ الْمُبْهَمَةِ. [الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ] ْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب: 6]. فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ:

مسألة حرم الله أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على الخلق من بعده

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا [قَوْلُهُ {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6]]: رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَرَادَ غَزْوَةَ تَبُوكَ أَمَرَ النَّاسَ بِالْخُرُوجِ، فَقَالَ قَوْمٌ: نَسْتَأْذِنُ آبَاءَنَا وَأُمَّهَاتِنَا؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6]». وَفِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ: وَهُوَ أَبُوهُمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ. وَالْحَدِيثُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ مَوْضُوعٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلَّا وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مَالًا فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا، فَإِنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضِيَاعًا فَلْيَأْتِنِي، فَأَنَا مَوْلَاهُ». فَانْقَلَبَتْ الْآنَ الْحَالُ بِالذُّنُوبِ، فَإِنْ تَرَكُوا مَالًا ضُويِقَ الْعَصَبَةُ فِيهِ، وَإِنْ تَرَكُوا ضِيَاعًا أَسْلَمُوا إلَيْهِ، فَهَذَا تَفْسِيرُ الْوِلَايَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِتَفْسِيرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَعْيِينِهِ، وَلَا عِطْرَ بَعْدَ عَرُوسٍ. [مَسْأَلَة حَرَّمَ اللَّه أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخَلْقِ مِنْ بَعْدِهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] وَلَسْنَ لَهُمْ بِأُمَّهَاتٍ، وَلَكِنْ أُنْزِلْنَ مَنْزِلَتَهُنَّ فِي الْحُرْمَةِ، كَمَا يُقَالُ: زَيْدُ الشَّمْسِ، أَيْ أُنْزِلَ فِي حُسْنِهِ مَنْزِلَةَ الشَّمْسِ، وَحَاتِمُ الْبَحْرِ أَيْ أُنْزِلَ فِي عُمُومِ جُودِهِ بِمَنْزِلَةِ الْبَحْرِ؛ كُلُّ ذَلِكَ تَكْرِمَةً لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحِفْظًا لِقَلْبِهِ مِنْ التَّأَذِّي بِالْغَيْرَةِ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأَنْصَارِ: «تَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاَللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي». وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53].

مسألة زوجات النبي هل هن أمهات الرجال والنساء أم هن أمهات الرجال خاصة

وَلَمْ يُنَزَّلْ فِي هَذِهِ الْحُرْمَةِ أَحَدٌ مَنْزِلَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا رُوعِيَتْ فِيهِ هَذِهِ الْخِصِّيصَةُ، وَإِنْ غَارَ وَتَأَذَّى؛ وَلَكِنَّهُ مُحْتَمَلٌ مَعَ حَظِّ الْمَنْزِلَةِ مِنْ خَفِيفِ الْأَذَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: حَرَّمَ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْخَلْقِ مِنْ بَعْدِهِ، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ: {وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53] فَكُلُّ مَنْ طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَخَلَّى عَنْهَا فِي حَيَاتِهِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ثُبُوتِ هَذِهِ الْحُرْمَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ، فَقِيلَ: هِيَ لِمَنْ دَخَلَ بِهَا دُونَ مَنْ فَارَقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ. وَقَدْ هَمَّ عُمَرُ بِرَجْمِ امْرَأَةٍ فَارَقَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَكَحَتْ بَعْدَهُ، فَقَالَتْ لَهُ: وَلِمَ؟ وَمَا ضَرَبَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِجَابًا وَلَا دُعِيت أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ. فَكَفَّ عَنْهَا. [مَسْأَلَة زَوْجَات النَّبِيّ هَلْ هُنَّ أُمَّهَاتُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ أَمْ هُنَّ أُمَّهَاتُ الرِّجَالِ خَاصَّةً] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] اخْتَلَفَ النَّاسُ، هَلْ هُنَّ أُمَّهَاتُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، أَمْ هُنَّ أُمَّهَاتُ الرِّجَالِ خَاصَّةً، عَلَى قَوْلَيْنِ: فَقِيلَ: ذَلِكَ عَامٌّ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَقِيلَ: هُوَ خَاصٌّ لِلرِّجَالِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِذَلِكَ إنْزَالُهُنَّ مَنْزِلَةَ أُمَّهَاتِهِمْ فِي الْحُرْمَةِ، حَيْثُ يُتَوَقَّعُ الْحِلُّ، وَالْحِلُّ غَيْرُ مُتَوَقَّعٍ بَيْنَ النِّسَاءِ، فَلَا يُحْجَبُ بَيْنَهُنَّ بِحُرْمَةٍ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِعَائِشَةَ: يَا أُمَّاهُ. فَقَالَتْ: لَسْت لَك بِأُمٍّ، إنَّمَا أَنَا أُمُّ رِجَالِكُمْ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. [مَسْأَلَة قَوْلُهُ تَعَالَى وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6] وَقَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ. وَثَبَتَ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخَى بَيْنَ الزُّبَيْرِ وَبَيْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، فَارْتَثَّ كَعْبٌ يَوْمَ أُحُدٍ، فَجَاءَ بِهِ الزُّبَيْرُ يَقُودُهُ بِزِمَامِ رَاحِلَتِهِ، فَلَوْ مَاتَ يَوْمَئِذٍ كَعْبٌ عَنْ الضِّحِّ

الآية الرابعة قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم

وَالرِّيحِ لَوَرِثَهُ الزُّبَيْرُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75]. فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْقَرَابَةَ أَوْلَى مِنْ الْحَلِفِ، فَتُرِكَتْ الْمُوَارَثَةُ بِالْحَلِفِ، وَوَرِثُوا بِالْقَرَابَةِ، وَقَوْلُهُ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} [الأحزاب: 6] يَتَعَلَّقُ حَرْفُ الْجَرِّ بِأَوْلَى، وَمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ، لَا بِقَوْلِهِ: {وَأُولُو الأَرْحَامِ} [الأحزاب: 6] بِإِجْمَاعٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يُوجِبُ تَخْصِيصَهَا بِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا خِلَافَ فِي عُمُومِهَا، وَهَذَا حَلُّ إشْكَالِهَا. [الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ] ْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب: 9]. فِيهَا أَحْكَامٌ وَسِيَرٌ، وَقَدْ ذَكَرَهَا مَالِكٌ، وَتَكَلَّمَ عَلَيْهَا، وَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ غَزْوَةَ الْخَنْدَقِ، وَالْأَحْزَابِ، وَبَنِي قُرَيْظَةَ، وَكَانَتْ حَالَ شِدَّةٍ، مُعَقَّبَةٌ بِنِعْمَةٍ، وَرَخَاءٍ وَغِبْطَةٍ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي تِسْعَ عَشْرَةَ آيَةً، وَيَقْتَضِي مَسَائِلَ ثَلَاثًا: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقِتَالِ مِنْ الْمَدِينَةِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10] قَالَ: ذَلِكَ يَوْمُ الْخَنْدَقِ»، جَاءَتْ قُرَيْشٌ مِنْ هَاهُنَا، وَالْيَهُودُ مِنْ هَاهُنَا، وَالنَّجْدِيَّةُ مِنْ هَاهُنَا، يُرِيدُ مَالِكٌ أَنَّ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ فَوْقِهِمْ بَنُو قُرَيْظَةَ، وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ: كَانَتْ وَقْعَةُ الْخَنْدَقِ سَنَةَ أَرْبَعٍ، وَهِيَ وَبَنُو قُرَيْظَةَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَبَيْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ أَرْبَعُ سِنِينَ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَتْ غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ سَنَةَ خَمْسٍ.

قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: بَلَغَنِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ قَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ حِينَ نَزَلَتْ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ، وَجَاءَ لِيَحْكُمَ فِيهِمْ، وَهُوَ عَلَى أَتَانٍ، فَمَرَّ بِهِ حَتَّى لَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ الْمُنَافِقُ قَالَ: أَنْشَدْتُك اللَّهَ يَا سَعْدُ فِي إخْوَانِي وَأَنْصَارِي، ثَلَاثُمِائَةِ فَارِسٍ وَسِتُّمِائَةِ رَاجِلٍ، فَإِنَّهُمْ جَنَاحِي، وَهُمْ مَوَالِيك وَحُلَفَاؤُك. فَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ آنَ لِسَعْدٍ أَلَّا تَأْخُذَهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، فَحَكَمَ فِيهِمْ سَعْدٌ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ، وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَقَدْ حَكَمَ فِيهِمْ سَعْدٌ بِحُكْمِ الْمَلِكِ». زَادَ غَيْرُهُ: مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ. «فَأَتَى ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ إلَى ابْنِ بَاطَا، وَكَانَتْ لَهُ عِنْدَهُ يَدٌ، وَقَالَ: قَدْ اسْتَوْهَبْتُك مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَدِك الَّتِي لَك عِنْدِي. قَالَ: كَذَلِكَ يَفْعَلُ الْكَرِيمُ بِالْكَرِيمِ. ثُمَّ قَالَ: وَكَيْفَ يَعِيشُ رَجُلٌ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا أَهْلَ؟ قَالَ: فَأَتَى ثَابِتٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَأَعْطَاهُ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ. فَأَتَاهُ فَأَعْلَمَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: وَكَيْفَ يَعِيشُ رَجُلٌ لَا مَالَ لَهُ، فَأَتَى ثَابِتٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَطَلَبَهُ، فَأَعْطَاهُ مَالَهُ. فَرَجَعَ إلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ ابْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ الَّذِي كَأَنَّ وَجْهَهُ مِرْآةٌ صِينِيَّةٌ؟ قَالَ: قُتِلَ. فَمَا فَعَلَ الْمَجْلِسَانِ يَعْنِي بَنِي كَعْبِ بْنِ قُرَيْظَةَ، وَبَنِي عَمْرِو بْنِ قُرَيْظَةَ؟ قَالَ: قُتِلُوا. قَالَ: فَمَا فَعَلَتْ الْقَيْنَتَانِ؟ قَالَ: قُتِلَتَا. قَالَ: بَرِئَتْ ذِمَّتُك، وَلَنْ أَصُبَّ فِيهَا دَلْوًا أَبَدًا يَعْنِي النَّخْلَ فَأَلْحِقْنِي بِهِمْ، فَأَبَى أَنْ يَقْتُلَهُ وَقَتَلَهُ غَيْرُهُ». وَالْيَدُ الَّتِي كَانَتْ لِابْنِ بَاطَا عِنْدَ ثَابِتٍ أَنَّهُ أَسَرَهُ يَوْمَ بُعَاثٍ فَجَزَّ نَاصِيَتَهُ وَأَطْلَقَهُ. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ حِينَ تُوُفِّيَ سَعْدٌ: نَخْشَى أَنْ نُغْلَبَ عَلَيْك، كَمَا غُلِبْنَا عَلَى حَنْظَلَةَ. قَالَ: وَكَانَ قَدْ أُصِيبَ فِي أَكْحَلِهِ، فَانْتَقَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَيْهِ». «وَكَانَتْ عَائِشَةُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَذَكَرَتْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَعَاهَدُ ثَغْرَةً مِنْ الْجَبَلِ يُحَافِظُ عَلَيْهَا، ثُمَّ يُزْلِفُهُ الْبَرْدُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَيَأْتِي فَيَضْطَجِعُ فِي حِجْرِي، ثُمَّ

يَقُومُ، فَسَمِعْت حِسَّ رَجُلٍ عَلَيْهِ حَدِيدٌ وَقَدْ أَسْنَدَ فِي الْجَبَلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، جِئْتُك لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِك. فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبِيتُ فِي تِلْكَ الثَّغْرَةِ قَالَتْ عَائِشَةُ: وَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حِجْرِي حَتَّى سَمِعْت غَطِيطَهُ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ لَا تَنْسَاهَا لِسَعْدٍ قَالَ مَالِكٌ: وَانْصَرَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ آخِرِ النَّهَارِ، فَاغْتَسَلَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: أَوَضَعْت اللَّأْمَةَ أَوْ لَمْ تَضَعْهَا؟ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُك أَنْ تَخْرُجَ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ: وَقَسَمَ قُرَيْظَةَ سُهْمَانًا، فَأَمَّا النَّضِيرُ فَقَسَمَهَا لِلْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ، وَلِثَلَاثَةِ نَفَرٍ مِنْ الْأَنْصَارِ؛ وَهُمْ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَأَبُو دُجَانَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ الصِّمَّةِ قَالَ مَالِكٌ: وَكَانَتْ النَّضِيرُ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهَا بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: وَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ: اللَّهُمَّ إلَّا خَيْرُ الْآخِرَةِ ... فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا خَيْرَ إلَّا خَيْرُ الْآخِرَةِ، فَاغْفِرْ لِلْمُهَاجِرَةِ وَالْأَنْصَارِ». قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَشْهَدُ أَنَّك رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]. وَعَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ مِثْلُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَمْ يُسْتَشْهَدْ يَوْمَ الْخَنْدَقِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَرْبَعَةٌ أَوْ خَمْسَةٌ. قَالَ الْقَاضِي: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: اسْتَشْهَدَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ سِتَّةُ نَفَرٍ: سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَأَنَسُ بْنُ أَوْسِ بْنِ عَتِيكِ بْنِ عَمْرٍو، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ. وَمِنْ بَنِي جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ ثُمَّ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ: الطُّفَيْلُ بْنُ النُّعْمَانِ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ غَنْمَةَ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ، وَكَعْبُ بْنُ زَيْدٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ.

وَقُتِلَ مِنْ الْكُفَّارِ ثَلَاثَةٌ: مُنَبِّهَ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ، وَنَوْفَلَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّ وَكَانَ اقْتَحَمَ الْخَنْدَقَ فَتَوَرَّطَ فِيهِ، فَقُتِلَ. فَغَلَبَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَسَدِهِ، فَرُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُمْ أَعْطَوْا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَسَدِهِ عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لَنَا بِجَسَدِهِ وَلَا بِثَمَنِهِ. فَخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ. وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ قَتَلَهُ عَلِيٌّ فِي الْمُبَارَزَةِ، اقْتَحَمَ عَنْ فَرَسِهِ فَعَقَرَهُ، وَضَرَبَ وَجْهَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ فَتَنَازَلَا، فَغَلَبَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي ذَلِكَ: نَصَرَ الْحِجَارَةَ مِنْ سَفَاهَةِ رَأْيِهِ ... وَنَصَرْت رَبَّ مُحَمَّدٍ بِصَوَابِ فَصَدَدْت حِينَ تَرَكْته مُتَجَدِّلًا ... كَالْجِذْعِ بَيْنَ دَكَادِكَ وَرَوَابِي وَعَفَفْت عَنْ أَثْوَابِهِ وَلَوْ أَنَّنِي ... كُنْت الْمُقَطِّرَ بَزَّنِي أَثْوَابِي لَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ خَاذِلَ دِينِهِ ... وَنَبِيَّهُ يَا مَعْشَرَ الْأَحْزَابِ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَسَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيَّ، وَعَبَّادَ بْنَ بَشِيرٍ، وَأَبَا عَبَّاسٍ الْحَارِثِيَّ، وَرَجُلَيْنِ آخَرَيْنِ إلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ الْيَهُودِيِّ لِيَقْتُلُوهُ، فَبَلَغَنِي أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَتَأْذَنُ لَنَا أَنْ نَنَالَ مِنْك إذَا جِئْنَاهُ. فَأَذِنَ لَهُمْ فَخَرَجُوا نَحْوَهُ لَيْلًا، فَلَمَّا جَاءُوا وَنَادَوْهُ لِيَطْلُعَ إلَيْهِمْ، وَكَانَ بَيْنَ عَبَّادِ بْنِ بَشِيرٍ وَبَيْنَ ابْنِ الْأَشْرَفِ رَضَاعٌ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: لَا تَخْرُجْ إلَيْهِمْ، فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْك. فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَوْ كُنْت نَائِمًا مَا أَيْقَظُونِي فَخَرَجَ إلَيْهِمْ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ فَقَالُوا: جِئْنَا لِتُسْلِفَنَا شَطْرَ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ، وَوَقَعُوا فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَمَا وَاَللَّهِ لَقَدْ كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّا لَنَجِدُ مِنْك رِيحَ عَبِيرٍ قَالَ: فَأَدْنَى إلَيْهِمْ رَأْسَهُ، وَقَالَ: شُمُّوا، فَذَلِكَ حِينَ ابْتَدَرُوهُ فَقَتَلُوهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تِلْكَ اللَّيْلَةَ: إنِّي لَأَجِدُ رِيحَ دَمِ كَافِرٍ».

مسألة أول مشهد شهده رسول الله

[مَسْأَلَة أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: سَمَّيْت بِهِ، لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَبَّرَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غِبْت عَنْهُ، أَمَا وَاَللَّهِ لَئِنْ أَرَانِي اللَّهُ مَشْهَدًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا بَعْدَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ. قَالَ وَهَابَ أَنْ يَقُولَ غَيْرَهَا. فَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ مِنْ الْعَامِ الْقَابِلِ، فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَمْرٍو، أَيْنَ؟ قَالَ: وَاهَا لِرِيحِ الْجَنَّةِ، إنِّي أَجِدُهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَوُجِدَ فِي جَسَدِهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ جِرَاحَةً بَيْنَ ضَرْبَةٍ وَطَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ. قَالَتْ عَمَّتِي الرُّبَيِّعُ بِنْتُ النَّضْرِ: فَمَا عَرَفْت أَخِي إلَّا بِبَنَانِهِ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا} [الأحزاب: 23]. وَكَذَلِكَ رَوَى طَلْحَةُ أَنَّ «أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا لِأَعْرَابِيٍّ جَاهِلٍ: سَلْهُ عَمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ مِنْهُمْ، وَكَانُوا لَا يَجْتَرِئُونَ عَلَى مَسْأَلَتِهِ؛ يُوَقِّرُونَهُ وَيَهَابُونَهُ فَسَأَلَهُ الْأَعْرَابِيُّ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ إنِّي اطَّلَعْت مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ، وَعَلَيَّ ثِيَابٌ خُضْرٌ، فَلَمَّا رَآنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ عَمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ؟ قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: هَا أَنَا ذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: هَذَا مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ» النَّحْبُ: النَّذْرُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: سَمِعْت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ انْتَقَلَ إلَيْهِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ حِينَ أَصَابَتْهُ الْجِرَاحُ فِي خُصٍّ عِنْدَهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَكَانَ فِيهِ، وَكَانَ جُرْحُهُ يَنْفَجِرُ، ثُمَّ يُفِيقُ مِنْهُ، فَخَرَجَ مِنْهُ دَمٌ كَثِيرٌ حَتَّى سَالَ فِي الْمَسْجِدِ، فَمَاتَ مِنْهُ. وَبَلَغَنِي أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ مَرَّ بِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَنِسَاءٌ مَعَهَا فِي الْأُطُمِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ فَارِعٌ، وَعَلَيْهِ دِرْعٌ مُقَلَّصَةٌ، مُشَمِّرَ الْكُمَّيْنِ، وَبِهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ وَهُوَ يَرْتَجِزُ: لَبِّثْ قَلِيلًا يَشْهَدُ الْهَيْجَا حَمَلْ ... لَا بَأْسَ بِالْمَوْتِ إذَا حَانَ الْأَجَلْ

فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إنِّي لَسْت أَخَافُ أَنْ يُصَابَ سَعْدٌ الْيَوْمَ إلَّا مِنْ أَطْرَافِهِ، فَأُصِيبَ فِي أَكْحَلِهِ. قَالَ الْقَاضِي: فَرُوِيَ أَنَّ الَّذِي أَصَابَهُ عَاصِمُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الْعَرْقَةِ، فَلَمَّا أَصَابَهُ قَالَ: خُذْهَا مِنِّي وَأَنَا ابْنُ الْعَرْقَةِ. فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: عَرَّقَ اللَّهُ وَجْهَك فِي النَّارِ، اللَّهُمَّ إنْ كُنْت أَبْقَيْت مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْئًا فَأَبْقِنِي لَهَا، فَإِنَّهُ لَا قَوْمَ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ أُجَاهِدَ مِنْ قَوْمٍ آذَوْا رَسُولَك وَكَذَّبُوهُ وَأَخْرَجُوهُ، اللَّهُمَّ إنْ كُنْت وَضَعْت الْحَرْبَ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَاجْعَلْهُ شَهَادَةً لِي، وَلَا تُمِيتنِي حَتَّى تُقِرَّ عَيْنِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الَّذِي أَصَابَهُ أَبُو أُسَامَةَ يَعْنِي الْجُشَمِيَّ؛ قَالَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا لِعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ: أَعَكْرِمُ هَلَّا لُمْتنِي إذْ تَقُولُ لِي ... فِدَاك بِآطَامِ الْمَدِينَةِ خَالِدُ أَلَسْت الَّذِي أَلْزَمْت سَعْدًا مَنِيَّةً ... لَهَا بَيْنَ أَثْنَاءِ الْمَرَافِقِ عَاقِدُ قَضَى نَحْبَهُ مِنْهَا سَعِيدٌ فَأَعْوَلَتْ ... عَلَيْهِ مَعَ الشَّمَطِ الْعَذَارَى النَّوَاهِدُ وَأَنْتَ الَّذِي دَافَعْت عَنْهُ وَقَدْ دَعَا ... عُبَيْدَةَ جَمْعًا مِنْهُمْ إذْ يُكَايِدُ عَلَى حِينِ مَا هُوَ جَائِرٌ عَنْ طَرِيقِهِ ... وَآخَرُ مَدْعُوٌّ عَلَى الْقَصْدِ قَاصِدُ وَقَدْ رُوِيَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ، قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا رَأَيْت رَجُلًا أَجْمَلَ مِنْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، حَاشَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأُصِيبَ فِي أَكْحَلِهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إنْ كَانَ حَرْبُ قُرَيْظَةَ لَمْ يَبْقَ مِنْهَا شَيْءٌ فَاقْبِضْنِي إلَيْك، وَإِنْ كَانَ قَدْ بَقِيَتْ مِنْهَا بَقِيَّةٌ فَأَبْقِنِي حَتَّى أُجَاهِدَ مَعَ رَسُولِك أَعْدَاءَهُ. فَلَمَّا حَكَمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ تُوُفِّيَ، فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَقَالُوا: نَرْجُو أَنْ تَكُونَ قَدْ اُسْتُجِيبَتْ دَعْوَتُهُ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: وَقَالَ سَعْدٌ: اللَّهُمَّ إنَّك تَعْلَمُ أَنِّي كُنْت أُحِبُّ أَنْ يَقْتُلَنِي قَوْمٌ بَعَثْت فِيهِمْ نَبِيَّك فَكَذَّبُوهُ وَأَخْرَجُوهُ، فَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ الْحَرْبَ قَدْ بَقِيَتْ بَيْنَنَا

قوله تعالى إن بيوتنا عورة

وَبَيْنَهُمْ فَأَبْقِنِي، وَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهَا شَيْءٌ فَاقْبِضْنِي إلَيْك. فَلَمَّا تُوُفِّيَ سَعْدٌ تَبَاشَرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: لَقَدْ نَزَلَ بِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ مَا نَزَلُوا الْأَرْضَ قَبْلَهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: قَوْلُهُ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] يَعْنِي فِي رُجُوعِهِ مِنْ الْخَنْدَقِ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ: «كَانَتْ وَقْعَةُ الْخَنْدَقِ فِي بَرْدٍ شَدِيدٍ، وَمَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ إلَى حِينِ غَابَتْ الشَّمْسُ». وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ: لَمَّا انْصَرَفَ عَنْ الْخَنْدَقِ وَضَعَ السِّلَاحَ وَلَا أَدْرِي اغْتَسَلَ أَمْ لَا، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ؛ أَتَضَعُونَ اللَّأْمَةَ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجُوا إلَى قُرَيْظَةَ؛ لَا تَضَعُوا السِّلَاحَ حَتَّى تَخْرُجُوا إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ. فَصَاحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَّا يُصَلِّيَ أَحَدٌ صَلَاةَ الْعَصْرِ إلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ». فَصَلَّى بَعْضُ النَّاسِ لِفَوَاتِ الْوَقْتِ، وَلَمْ يُصَلِّ بَعْضٌ، حَتَّى لَحِقُوا بَنِي قُرَيْظَةَ؛ اتِّبَاعًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَهَذِهِ الْآيَاتُ التِّسْعَ عَشْرَةَ نَزَلْنَ فِي شَأْنِ الْأَحْزَابِ بِمَا انْدَرَجَ فِيهَا مِنْ الْأَحْكَامِ مِمَّا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَشَرَحْنَاهُ عِنْدَ وُرُودِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِتَكْرَارِهِ مَعْنًى، وَمَا خَرَجَ عَنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مِنْ الْحَدِيثِ يُشْرَحُ فِي مَوْضِعِهِ. [قَوْلُهُ تَعَالَى إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ] وَقَدْ بَقِيَتْ آيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ تَتِمَّةُ عِشْرِينَ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْأَحْزَابِ وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62]. وَقَدْ بَيَّنَّاهَا هُنَالِكَ. وَاَلَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِالِاسْتِئْذَانِ وَقَوْلُهُ: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب: 13]، أَوْسُ بْنُ قَيْظِيٍّ. وَاَلَّذِينَ {عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ} [الأحزاب: 15]: هُمْ بَنُو حَارِثَةَ، وَبَنُو سَلَمَةَ، عَلَى مَا جَرَى عَلَيْهِمْ فِي أُحُدٍ، وَنَدِمُوا، ثُمَّ عَادُوا فِي الْخَنْدَقِ. وَقَدْ

الآية الخامسة قوله تعالى يا أيها النبي قل لأزواجك

أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ بِقَوْلِهِ: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} [آل عمران: 122]. قَالَ جَابِرٌ: وَمَا وَدِدْت أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ لِقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} [آل عمران: 122]. [الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّبِيّ قُلْ لِأَزْوَاجِك] َ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 28] {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 29]. فِيهَا ثَمَانِ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: وَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ صَانَ خَلْوَةَ نَبِيِّهِ، وَخَيَّرَهُنَّ أَلَّا يَتَزَوَّجْنَ بَعْدَهُ، فَلَمَّا اخْتَرْنَهُ أَمْسَكَهُنَّ؛ قَالَهُ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ. الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَيَّرَ نَبِيَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِخَزَائِنِ الْأَرْضِ بِمَفَاتِحِهَا، وَقَالَ لَهُ: إنَّ اللَّهَ خَيَّرَك بَيْنَ أَنْ تَكُونَ نَبِيًّا مَلَكًا، وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَبْدًا نَبِيًّا. فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى جِبْرِيلَ كَالْمُسْتَشِيرِ، فَأَشَارَ إلَيْهِ أَنْ تَوَاضَعْ فَقُلْت: بَلْ نَبِيًّا عَبْدًا، أَجُوعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ يَوْمًا. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ». فَلَمَّا اخْتَارَ ذَلِكَ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِتَخْيِيرِ أَزْوَاجِهِ لِيَكُنَّ عَلَى مِثَالِهِ؛ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ. الثَّالِثُ: أَنَّ أَزْوَاجَهُ طَالَبْنَهُ بِمَا لَا يَسْتَطِيعُ، فَكَانَتْ أُولَاهُنَّ أُمُّ سَلَمَةَ؛ سَأَلَتْهُ سَتْرًا مُعْلَمًا، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ. وَسَأَلَتْهُ مَيْمُونَةُ حُلَّةً يَمَانِيَّةً. وَسَأَلَتْهُ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ ثَوْبًا مُخَطَّطًا. وَسَأَلَتْهُ أُمُّ حَبِيبَةَ ثَوْبًا سُحُولِيًّا. وَسَأَلَتْهُ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ قَطِيفَةً خَيْبَرِيَّةً. وَكُلُّ

وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ طَلَبَتْ مِنْهُ شَيْئًا، إلَّا عَائِشَةَ؛ فَأَمَرَ بِتَخْيِيرِهِنَّ حَكَاهُ النَّقَّاشُ، وَهَذَا بِهَذَا اللَّفْظِ بَاطِلٌ. وَالصَّحِيحُ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «جَاءَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَجَدَ النَّاسَ جُلُوسًا عِنْدَ بَابِهِ لَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ قَالَ: فَأَذِنَ لِأَبِي بَكْرٍ، فَدَخَلَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ بِالدُّخُولِ، فَوَجَدَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسًا وَحَوْلَهُ نِسَاؤُهُ، وَاجِمًا سَاكِتًا قَالَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَأَقُولَنَّ شَيْئًا يُضْحِكُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ: أَرَأَيْت يَا رَسُولَ اللَّهِ بِنْتُ خَارِجَةَ، سَأَلَتْنِي النَّفَقَةَ فَقُمْت إلَيْهَا فَوَجَأْت عُنُقَهَا، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: هُنَّ حَوْلِي كَمَا تَرَى يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ. فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ إلَى عَائِشَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا، وَقَامَ عُمَرُ إلَى حَفْصَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا، كِلَاهُمَا يَقُولُ: تَسْأَلْنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَيْسَ عِنْدَهُ. ثُمَّ اعْتَزَلَهُنَّ شَهْرًا، ثُمَّ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ آيَةُ التَّخْيِيرِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 28]». فَقَدْ خَرَجَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ عَائِشَةَ طَلَبَتْهُ أَيْضًا. فَتَبَيَّنَ بُطْلَانُ قَوْلِ النَّقَّاشِ. الرَّابِعُ: أَنَّ أَزْوَاجَهُ اجْتَمَعْنَ يَوْمًا فَقُلْنَ: نُرِيدُ مَا تُرِيدُ النِّسَاءُ مِنْ الْحُلِيِّ وَالثِّيَابِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُنَّ: لَوْ كُنَّا عِنْدَ غَيْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكَانَ لَنَا حُلِيٌّ وَثِيَابٌ وَشَأْنٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَخْيِيرَهُنَّ؛ قَالَهُ النَّقَّاشُ. الْخَامِسُ: أَنَّ أَزْوَاجَهُ اجْتَمَعْنَ فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ، فَحَلَفَ أَلَّا يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا، وَنَصُّهُ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّتَيْنِ فِيهِمَا قَالَ اللَّهُ

تَعَالَى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] فَمَكَثْت سَنَةً مَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْأَلَهُ هَيْبَةً لَهُ، حَتَّى حَجَّ عُمَرُ، وَحَجَجْت مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ عَدَلَ عُمَرُ إلَى الْأَرَاك، فَقَالَ: أَدْرِكْنِي بِإِدَاوَةٍ مِنْ مَاءٍ، فَأَتَيْته بِهَا وَعَدَلْت مَعَهُ بِالْإِدَاوَةِ، فَتَبَرَّزَ عُمَرُ، ثُمَّ أَتَانِي، فَسَكَبْت عَلَى يَدِهِ الْمَاءَ فَتَوَضَّأَ، فَقُلْت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ مَنْ الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّتَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَك عَنْ هَذَا مُنْذُ سَنَةٍ فَمَا أَسْتَطِيعُ هَيْبَةً لَك. فَقَالَ عُمَرُ: وَاعْجَبَا لَك يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، لَا تَفْعَلْ، مَا ظَنَنْت أَنَّ عِنْدِي فِيهِ عِلْمًا، فَسَلْنِي عَنْهُ، فَإِنْ كُنْت أَعْلَمُهُ أَخْبَرْتُك. قَالَ الزُّهْرِيُّ: كَرِهَ وَاَللَّهِ مَا سَأَلَهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَكْتُمْهُ. قَالَ: هُمَا وَاَللَّهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ، ثُمَّ أَخَذَ يَسُوقُ الْحَدِيثَ. قَالَ: «كُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَوَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ. قَالَ: وَكَانَ مَنْزِلِي فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ بِالْعَوَالِي فَتَغَيَّظْتُ يَوْمًا عَلَى امْرَأَتِي، وَذَلِكَ أَنِّي كُنْت فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ قَالَتْ لِي: لَوْ صَنَعْت كَذَا. فَقُلْت لَهَا: مَالَك أَنْتِ وَلِهَذَا وَتَكَلُّفُك فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ، فَإِذَا هِيَ تُرَاجِعُنِي، فَقَالَتْ: مَا تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَك، فَوَاَللَّهِ إنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُرَاجِعْنَهُ، وَتَهْجُرُهُ إحْدَاهُنَّ يَوْمَهَا إلَى اللَّيْلِ. فَأَخَذْت رِدَائِي، وَشَدَدْت عَلَيَّ ثِيَابِي، فَانْطَلَقْت، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْحِجَابُ، فَدَخَلْت عَلَى عَائِشَةَ، فَقُلْت لَهَا: يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، قَدْ بَلَغَ مِنْ شَأْنِك أَنْ تُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَتْ: مَالِي وَلَك يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، عَلَيْك بِعَيْبَتِك. فَدَخَلْت عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْت: قَدْ بَلَغَ مِنْ شَأْنِك أَنْ تُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَتْ: نَعَمْ. فَقُلْت: أَتَهْجُرُهُ إحْدَاكُنَّ الْيَوْمَ إلَى اللَّيْلِ، فَقَالَتْ: نَعَمْ. قُلْت: قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْكُنَّ وَخَسِرَتْ، أَفَتَأْمَنُ إحْدَاكُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِ اللَّهِ، فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ، لَا تُرَاجِعِي رَسُولَ اللَّهِ وَلَا تَسْأَلِيهِ شَيْئًا، وَاسْأَلِينِي مَا بَدَا لَك، وَلَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُك هَذِهِ الَّتِي أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا وَحُبُّ رَسُولِ اللَّهِ

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إيَّاهَا؛ هِيَ أَوْسَمُ مِنْك، وَأَحَبُّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْك يُرِيدُ عَائِشَةَ. لَقَدْ عَلِمْت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُحِبُّك، وَلَوْلَا أَنَا لَطَلَّقَك؛ فَبَكَتْ أَشَدَّ الْبُكَاءِ. وَدَخَلْت عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ لِقَرَابَتِي مِنْهَا فَكَلَّمْتهَا، فَقَالَتْ لِي: وَاعْجَبَا لَك يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، قَدْ دَخَلْت فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَبْغِي أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِ؛ وَإِنَّهُ كَسَرَنِي ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ مَا كُنْت أَجِدُ. وَكَانَ لِي جَارٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَكُنَّا نَتَنَاوَبُ فِي النُّزُولِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، وَيَأْتِينِي بِخَبَرِ الْوَحْيِ، وَآتِيهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَكُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ الْخَيْلَ تَغْزُونَا، فَنَزَلَ صَاحِبِي ثُمَّ أَتَانِي عَشِيًّا، فَضَرَبَ بَابِي، وَنَادَانِي، فَخَرَجْت إلَيْهِ، فَقَالَ: حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ. فَقُلْت: مَاذَا؟ أَجَاءَتْ غَسَّانُ؟ فَقَالَ: بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ. فَقُلْت: مَا تَقُولُ، طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِسَاءَهُ؟ فَقُلْت: قَدْ خَابَتْ حَفْصَةُ، وَخَسِرَتْ، قَدْ كُنْت أَظُنُّ هَذَا يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ؛ حَتَّى إذَا صَلَّيْت الصُّبْحَ شَدَدْت عَلَيَّ ثِيَابِي، ثُمَّ نَزَلْت، فَدَخَلْت عَلَى حَفْصَةَ، وَهِيَ تَبْكِي. فَقُلْت: طَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَتْ: لَا أَدْرِي، هُوَ هَذَا مُعْتَزِلٌ فِي هَذِهِ الْمَشْرُبَةِ. فَأَتَيْت غُلَامًا أَسْوَدَ قَاعِدًا عَلَى أُسْكُفَّةِ الْبَابِ مُدْلِيًا رِجْلَيْهِ عَلَى نَقِيرٍ مِنْ خَشَبٍ وَهُوَ جَذَعٌ يَرْقَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَنْحَدِرُ. فَقُلْت: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُك لَهُ فَصَمَتَ. فَانْطَلَقْت، حَتَّى أَتَيْت الْمِنْبَرَ، فَإِذَا عِنْدَهُ رَهْطٌ جُلُوسٌ يَبْكِي بَعْضُهُمْ، فَجَلَسْت قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ، فَأَتَيْت الْغُلَامَ، فَقُلْت: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ. فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ إلَيَّ فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُك لَهُ فَصَمَتَ، فَخَرَجْت فَجَلَسْت إلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ، فَأَتَيْت الْغُلَامَ، فَقُلْت: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظَنَّ أَنِّي جِئْت مِنْ أَجْلِ حَفْصَةَ، وَاَللَّهِ لَئِنْ أَمَرَنِي أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهَا لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهَا. قَالَ: وَرَفَعْت صَوْتِي، فَدَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُك لَهُ فَصَمَتَ، فَوَلَّيْت مُدْبِرًا، فَإِذَا الْغُلَامُ يَدْعُونِي قَالَ: اُدْخُلْ فَقَدْ أَذِنَ لَك. فَدَخَلْت، فَسَلَّمْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا هُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ، قَدْ أَثَّرَ

فِي جَنْبِهِ، مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ، حَشْوُهَا لِيفٌ. فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَطَلَّقْت نِسَاءَك؟ مَا يَشُقُّ عَلَيْك مِنْ أَمْرِ النِّسَاءِ؟ فَإِنْ كُنْت طَلَّقْتهنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَك وَمَلَائِكَتَهُ وَجِبْرِيلَ، وَأَنَا وَأَبَا بَكْرٍ وَالْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: وَقَلَّمَا تَكَلَّمْت وَأَحْمَدُ اللَّهَ بِكَلَامٍ إلَّا رَجَوْت أَنَّ اللَّهَ يُصَدِّقُ قَوْلِي الَّذِي أَقُولُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ آيَةُ التَّخْيِيرِ: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ} [التحريم: 5]. فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأْسَهُ إلَيَّ فَقَالَ: لَا. فَقُلْت: اللَّهُ أَكْبَرُ، لَوْ رَأَيْتنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَوَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ فَتَغَضَّبْتُ عَلَى امْرَأَتِي يَوْمًا، فَإِذَا هِيَ تُرَاجِعُنِي، فَأَنْكَرْت أَنْ تُرَاجِعَنِي. قَالَتْ: مَا تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَك. فَوَاَللَّهِ إنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيُرَاجِعْنَهُ وَتَهْجُرُهُ إحْدَاهُنَّ الْيَوْمَ إلَى اللَّيْلِ. فَقُلْت: قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُنَّ وَخَسِرَ، أَفَتَأْمَنُ إحْدَاهُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ. فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ دَخَلْت عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْت: لَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُك هِيَ أَوْسَمُ وَأَحَبُّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْك فَتَبَسَّمَ أُخْرَى؛ وَإِنِّي لَمَّا قَصَصْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ تَبَسَّمَ، وَلَمْ أَزَلْ أُحَدِّثُهُ حَتَّى انْحَسَرَ الْغَضَبُ عَنْ وَجْهِهِ وَكَشَّرَ، وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ ثَغْرًا. فَقُلْت: أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْك، قَالَ: نَعَمْ. فَجَلَسْت فَرَفَعْت بَصَرِي فِي الْبَيْتِ، فَوَاَللَّهِ مَا رَأَيْت فِيهِ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ، إلَّا أُهُبًا ثَلَاثَةً، وَإِلَّا قَبْضَةً مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ، وَقَرَظٌ مَصْبُورٌ فِي نَاحِيَةِ الْغُرْفَةِ وَإِذَا أَفِيقٌ مُعَلَّقٌ؛ فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيك يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ فَقُلْت: وَمَا لِي لَا أَبْكِي، وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِك، وَهَذِهِ خَزَائِنُك لَا أَرَى فِيهَا شَيْئًا إلَّا مَا أَرَى، وَذَلِكَ كِسْرَى وَقَيْصَرُ فِي الْأَنْهَارِ وَالثِّمَارِ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَصَفْوَتُهُ؟ وَقُلْت: اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُوَسِّعَ لِأُمَّتِك، فَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ، وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ.

فَاسْتَوَى جَالِسًا، وَقَالَ: أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. فَقُلْت: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَإِنَّ عُمَرَ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ أَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْ نِسَاءَهُ، فَأَذِنَ لَهُ، فَقَامَ عُمَرُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ يُنَادِي: لَمْ يُطَلِّقْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِسَاءَهُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] فَكُنْت أَنَا الَّذِي اسْتَنْبَطْت ذَلِكَ الْأَمْرَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ التَّخْيِيرِ». وَكَانَ أَقْسَمَ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا، يَعْنِي مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ يَعْنِي قِصَّةَ شُرْبِ الْعَسَلِ فِي بَيْتِ زَيْنَبَ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ. هَذَا نَصُّ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ جَمِيعًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى سِوَاهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذَا الْحَدِيثُ بِطُولِهِ الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَيْهِ كِتَابُ الصَّحِيحِ يَجْمَعُ لَك جُمْلَةَ الْأَقْوَالِ؛ فَإِنَّ فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَضِبَ عَلَى أَزْوَاجِهِ مِنْ أَجْلِ سُؤَالِهِنَّ لَهُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ وَلِقَوْلِ عُمَرَ لِحَفْصَةَ، لَا تَسْأَلِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا، وَسَلِينِي مَا بَدَا لَك. وَسَبَبُ غَيْرَتِهِنَّ عَلَيْهِ فِي أَمْرِ شُرْبِ الْعَسَلِ فِي بَيْتِ زَيْنَبَ، لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِعُمَرَ: مَنْ الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَيْهِ؟ وَقَوْلُهُ: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم: 5]. وَذَلِكَ إنَّمَا كَانَ فِي شُرْبِ الْعَسَلِ فِي بَيْتِ زَيْنَبَ؛ فَهَذَانِ قَوْلَانِ وَقَعَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ نَصًّا. وَفِيهِ الْإِشَارَةُ لِمَا فِيهَا بِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ مِنْ عَدَمِ قُدْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى النَّفَقَةِ، حَتَّى تَجَمَّعْنَ حَوْلَهُ بِمَا ظَهَرَ لِعُمَرَ مِنْ ضِيقِ حَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا سِيَّمَا لَمَا اطَّلَعَ فِي مَشْرُبَتِهِ مِنْ عَدَمِ الْمِهَادِ، وَقِلَّةِ الْوِسَادِ. وَفِيهِ إبْطَالُ مَا ذَكَرَهُ النَّقَّاشُ مِنْ أَنَّ

مسألة المراد بقوله تعالى لأزواجك

عَائِشَةَ لَمْ تَسْأَلْهُ شَيْئًا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هُنَّ حَوْلِي، كَمَا تَرَى، وَقِيَامِ أَبِي بَكْرٍ لِعَائِشَةَ يَجَأُ فِي عُنُقِهَا، وَلَوْلَا سُؤَالُهَا مَا أَدَّبَهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: (قُلْ) قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ، وَاحْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي سَرَدْنَاهُ آنِفًا، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ أَمَّا أَنَّ قَوْلَهُ: (قُلْ) يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ وَالْإِبَاحَةَ، فَإِنْ كَانَ الْمُوجِبُ لِنُزُولِ الْآيَةِ تَخْيِيرَ اللَّهِ لَهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَاخْتَارَ الْآخِرَةَ، فَأَمَرَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِأَزْوَاجِهِ لِيَكُنَّ مَعَهُ فِي مَنْزِلَتِهِ، وَلِيَتَخَلَّقْنَ بِأَخْلَاقِهِ الشَّرِيفَةِ، وَلِيَصُنَّ خَلَوَاتِهِ الْكَرِيمَةَ مِنْ أَنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ. وَإِنْ كَانَ لِسُؤَالِهِنَّ الْإِنْفَاقَ فَهُوَ لَفْظُ إبَاحَةٍ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إنْ ضَاقَ صَدْرُك بِسُؤَالِهِنَّ لَك مَا لَا تُطِيقُ فَإِنْ شِئْت فَخَيِّرْهُنَّ، وَإِنْ شِئْت فَاصْبِرْ مَعَهُنَّ، وَهَذَا بَيِّنٌ لَا يَفْتَقِرُ إلَى إطْنَابٍ. [مَسْأَلَة الْمُرَاد بِقَوْلِهِ تَعَالَى لِأَزْوَاجِك] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {لأَزْوَاجِكَ} [الأحزاب: 28] اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْأَزْوَاجِ الْمَذْكُورَاتِ؛ فَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: كَانَ تَحْتَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ نِسْوَةٍ سِوَى الْخَيْبَرِيَّةِ؛ خَمْسٌ مِنْ قُرَيْشٍ: عَائِشَةُ، وَحَفْصَةُ، وَأَمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَسَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ بْنِ قَيْسٍ. وَكَانَتْ تَحْتَهُ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ الْخَيْبَرِيّةُ، وَمَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّةُ، وَجُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْمُصْطَلِقِيَّةُ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَامْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا، فَذَهَبَتْ، وَكَانَتْ بَدَوِيَّةً. قَالَ رَبِيعَةُ: فَكَانَتْ أَلْبَتَّةَ، وَاسْمُهَا عَمْرَةُ بِنْتُ يَزِيدَ الْكِلَابِيَّةُ؛ اخْتَارَتْ الْفِرَاقَ، فَذَهَبَتْ، فَابْتَلَاهَا اللَّهُ بِالْجُنُونِ. وَيُقَالُ: إنَّ أَبَاهَا تَرَكَهَا تَرْعَى غَنَمًا لَهُ، فَصَارَتْ فِي طَلَبِ إحْدَاهُنَّ، فَلَمْ يُعْلَمْ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهَا إلَى الْيَوْمِ. وَقِيلَ: إنَّهَا كِنْدِيَّةٌ. وَقِيلَ: لَمْ يُخَيِّرْهَا، وَإِنَّمَا اسْتَعَاذَتْ مِنْهُ فَرَدَّهَا، وَقَالَ: لَقَدْ اسْتَعَذْتِ بِمَعَاذٍ.

هَذَا مُنْتَهَى قَوْلِهِمْ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُهُ بَيَانًا شَافِيًا، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فَنَقُولُ: كَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَزْوَاجٌ كَثِيرَةٌ بَيَّنَّاهَا فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ، وَالْحَاضِرُ الْآنَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ سَبْعَ عَشْرَةَ زَوْجَةً، عَقَدَ عَلَى خَمْسٍ، وَبَنَى بِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ، وَمَاتَ عَنْ تِسْعٍ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الْمُخَيَّرُ مِنْهُنَّ أَرْبَعٌ: الْأُولَى: سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، تَجْتَمِعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لُؤَيٍّ. الثَّانِيَةُ: عَائِشَةُ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، تَجْتَمِعُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَبِ الثَّامِنِ. الثَّالِثُ: حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، تَجْتَمِعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَبِ التَّاسِعِ. الرَّابِعَةُ: أُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَخْزُومٍ، تَجْتَمِعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَبِ السَّابِعِ. وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ [مِنْ الْمُفَسِّرِينَ] أَنَّ الْمُخَيَّرَاتِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تِسْعٌ، وَذَكَرَ النَّقَّاشُ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَزَيْنَبَ مِمَّنْ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّفَقَةَ، وَنَزَلَ لِأَجْلِهِنَّ آيَةُ التَّخْيِيرِ. وَهَذَا كُلُّهُ خَطَأٌ عَظِيمٌ؛ فَإِنَّ فِي الصَّحِيحِ كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّ عُمَرَ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ: فَدَخَلْت عَلَى عَائِشَةَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْحِجَابُ؛ وَإِنَّمَا نَزَلَ الْحِجَابُ فِي وَلِيمَةِ زَيْنَبَ، وَكَذَلِكَ إنَّمَا زَوَّجَ أُمَّ حَبِيبَةَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّجَاشِيُّ بِالْيَمَنِ، وَهُوَ أَصْدَقَ عَنْهُ، فَأَرْسَلَ بِهَا إلَيْهِ مِنْ الْيَمَنِ، وَذَلِكَ سَنَةَ سِتٍّ. وَأَمَّا الْكِلَابِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ فَلَمْ يَبْنِ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَيُقَالُ: إنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا مِنْهُ، وَقَالَ لَهُ: إنَّهَا لَمْ تَمْرَضْ قَطُّ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا لِهَذِهِ قَدْرٌ عِنْدَ اللَّهِ، فَطَلَّقَهَا وَلَمْ يَبْنِ بِهَا، وَقَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ: إنَّهَا كَانَتْ بَدَوِيَّةً، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا لَمْ يَصِحَّ. وَقَوْلُ رَبِيعَةَ: إنَّهَا كَانَتْ أَلْبَتَّةَ لَمْ يَثْبُتْ وَإِنَّمَا بَنَاهُ مَنْ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ رَبِيعَةَ فِي التَّخْيِيرِ بَتَاتٌ، وَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.

مسألة معنى قوله تعالى إن كنتن تردن الحياة الدنيا

[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأحزاب: 28] وَهُوَ شَرْطٌ جَوَابُهُ {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} [الأحزاب: 28]، فَعَلَّقَ التَّخْيِيرَ عَلَى شَرْطٍ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّخْيِيرَ وَالطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَيْنِ عَلَى شَرْطٍ صَحِيحَانِ، يَنْفُذَانِ وَيَمْضِيَانِ، خِلَافًا لِلْجُهَّالِ الْمُبْتَدِعَةِ، الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الشَّرْعِيَّ هُوَ الْمُنْجَزُ لَا غَيْرَ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [الأحزاب: 28] مَعْنَاهُ إنْ كُنْتُنَّ تَقْصِدْنَ الْحَالَةَ الْقَرِيبَةَ مِنْكُنَّ؛ فَإِنَّ لِلْإِنْسَانِ حَالَتَيْنِ: حَالَةٌ هُوَ فِيهَا تُسَمَّى الدُّنْيَا، وَحَالَةٌ لَا بُدَّ أَنْ يَصِيرَ إلَيْهَا وَهِيَ الْأُخْرَى، وَتَقْصِدْنَ التَّمَتُّعَ بِمَا فِيهَا، وَالتَّزَيُّنَ بِمَحَاسِنِهَا، سَرَحْتُكُنَّ لِطَلَبِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20]. وَلَا بُدَّ لِلْمَرْءِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلَى صِفَتَيْنِ: إمَّا أَنْ يَلْتَفِتَ إلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الْقَرِيبَةِ، وَيَجْمَعَ لَهَا، وَيَنْظُرَ فِيهَا [وَمِنْهَا]. وَإِمَّا أَنْ يَلْتَفِتَ إلَى حَالَتِهِ الْأُخْرَى، فَإِيَّاهَا يَقْصِدُ، وَلَهَا يَسْعَى وَيَطْلُبُ؛ وَلِذَلِكَ اخْتَارَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ الْحَالَةَ الْأُخْرَى، فَقَالَ لَهُ: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131] يَعْنِي رِزْقَهُ فِي الْآخِرَةِ؛ إذْ الْمَرْءُ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ رِزْقُهُ فِي الدُّنْيَا طَلَبَهُ أَوْ تَرَكَهُ فَإِنَّهُ طَالِبٌ لَهُ طَلَبَ الْأَجَلِ. وَأَمَّا رِزْقُهُ فِي الْآخِرَةِ فَلَا يَأْتِيهِ إلَّا وَيَطْلُبُهُ، فَخَيَّرَ اللَّهُ أَزْوَاجَ نَبِيِّهِ فِي هَذَا لِيَكُونَ لَهُنَّ الْمَنْزِلَةُ الْعُلْيَا، كَمَا كَانَتْ لِزَوْجِهِنَّ. وَهَذَا مَعْنَى مَا رَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: «لَمْ يُخَيِّرْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

مسألة لو اختارت إحدي نساء النبي الدنيا

نِسَاءَهُ إلَّا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»، وَلِذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ: خَيَّرَهُنَّ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَبَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. [مَسْأَلَة لَوْ اخْتَارَتْ إحدي نِسَاء النَّبِيّ الدنيا] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ لَوْ اخْتَارَتْ مِنْهُنَّ الدُّنْيَا مَثَلًا، هَلْ كَانَتْ تَبِينُ بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ أَمْ لَا؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهَا تَبِينُ، لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اخْتِيَارَ الدُّنْيَا سَبَبُ الِافْتِرَاقِ؛ فَإِنَّ الْفِرَاقَ إذَا وَقَعَ لَا يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِهِ إمْضَاؤُهُ؛ أَصْلُهُ يَمِينُ اللِّعَانِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ؛ هَلْ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِاللِّعَانِ بِنَفْسِ الْيَمِينِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْفِرَاقِ، أَمْ لَا بُدَّ مِنْ حُكْمِ الْحَاكِمِ؟ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. الثَّانِي: أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: اخْتَارِي نَفْسَك وَنَوَى الْفِرَاقَ وَاخْتَارَتْ، وَقَعَ الطَّلَاقُ. وَالدُّنْيَا كِنَايَةٌ عَنْ ذَلِكَ، وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} [الأحزاب: 28]: هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَهُوَ فِعْلُ جَمَاعَةِ النِّسَاءِ، مِنْ قَوْلِك " تَعَالَى " وَهُوَ دُعَاءٌ إلَى الْإِقْبَالِ إلَيْهِ، تَقُولُ: تَعَالَى بِمَعْنَى " أَقْبِلْ " وُضِعَ لِمَنْ لَهُ جَلَالَةٌ وَرِفْعَةٌ، ثُمَّ صَارَ فِي الِاسْتِعْمَالِ مَوْضُوعًا لِكُلِّ دَاعٍ إلَى الْإِقْبَالِ. وَأَمَّا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ؛ فَإِنَّ الدَّاعِيَ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَرْفَعِ رُتْبَةٍ. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أُمَتِّعْكُنَّ} [الأحزاب: 28] وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَأُسَرِّحْكُنَّ} [الأحزاب: 28]: مَعْنَاهُ أُطَلِّقُكُنَّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي السَّرَاحِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

مسألة كيفية تخيير النبي لأزواجه

[مَسْأَلَة كَيْفِيَّةِ تَخْيِيرِ النَّبِيِّ لِأَزْوَاجِهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: وَهِيَ مَقْصُودُ الْبَابِ وَتَحْقِيقُهُ فِي بَيَانِ الْكِتَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ تَخْيِيرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَزْوَاجِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيَّرَ أَزْوَاجَهُ بِإِذْنِ اللَّهِ فِي الْبَقَاءِ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ، أَوْ الطَّلَاقِ. فَاخْتَرْنَ الْبَقَاءَ مَعَهُ، قَالَتْهُ عَائِشَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ شِهَابٍ، وَرَبِيعَةُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ كَانَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الدُّنْيَا فَيُفَارِقُهُنَّ، وَبَيْنَ الْآخِرَةِ فَيُمْسِكُهُنَّ، وَلَمْ يُخَيِّرْهُنَّ فِي الطَّلَاقِ، ذَكَرَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، وَمِنْ الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: مَعْنَى خَيَّرَهُنَّ قَرَأَ عَلَيْهِنَّ الْآيَةَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ بِلَفْظِ التَّخْيِيرِ؛ فَإِنَّ التَّخْيِيرَ إذًا قَبْلَ ثَلَاثٍ، وَاَللَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُطَلِّقَ النِّسَاءَ لِعِدَّتِهِنَّ، وَقَدْ قَالَ: {سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 28] وَالثَّلَاثُ لَيْسَ مِمَّا يَجْمُلُ؛ وَإِنَّمَا السَّرَاحُ الْجَمِيلُ وَاحِدَةٌ لَيْسَ الثَّلَاثُ الَّتِي يُوجِبُهُنَّ قَبُولُ التَّخْيِيرِ. قَالَ الْقَاضِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَمَّا عَائِشَةُ فَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عَنْهَا قَطُّ، إنَّمَا الْمَرْوِيُّ عَنْهَا أَنَّ مَسْرُوقًا سَأَلَهَا عَنْ الرَّجُلِ يُخَيِّرُ زَوْجَتَهُ فَتَخْتَارُهُ، أَيَكُونُ طَلَاقًا؟ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِيهِ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: خَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِسَاءَهُ فَاخْتَرْنَهُ، أَكَانَ ذَلِكَ طَلَاقًا؟ خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ وَرُوِيَ، فَلَمْ يَكُنْ شَيْئًا، فَلَا وَجَدُوا لَفْظَ (خَيَّرَ) فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَقَوْلُهَا: لَمَّا أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَخْيِيرِ نِسَائِهِ بَدَأَ بِي، فَقَالَ: إنِّي ذَاكِرٌ لَك أَمْرًا: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ} [الأحزاب: 28]. وَلَيْسَ فِي هَذَا تَخْيِيرٌ بِطَلَاقٍ كَمَا زَعَمُوا، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ الْأَوَّلُ إلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: التَّخْيِيرُ بَيْنَ الدُّنْيَا، فَيُوقَعُ الطَّلَاقُ؛ وَبَيْنَ الْآخِرَةِ فَيَكُونُ الْإِمْسَاكُ، وَلِهَذَا يَرْجِعُ قَوْلُهُمْ إلَى آيَةِ التَّخْيِيرِ، وَقَوْلُهَا، خَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِسَاءَهُ، أَوْ أُمِرَ بِتَخْيِيرِ نِسَائِهِ، فَإِنَّمَا يَعُودُ ذَلِكَ كُلُّهُ إلَى هَذَا التَّفْسِيرِ مِنْ التَّخْيِيرِ. وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ سَمَّى كَمَا تَقَدَّمَ آيَةَ التَّخْيِيرِ: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم: 5].

وَلَيْسَ لِلتَّخْيِيرِ فِيهَا ذِكْرٌ لَفْظِيٌّ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ فِيهَا مَعْنَى التَّخْيِيرِ نَسَبَهَا إلَى الْمَعْنَى. الثَّانِي: أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ قَدْ قَالَ: إنَّ مَعْنَى خَيَّرَهُنَّ قَرَأَ عَلَيْهِنَّ آيَةَ التَّخْيِيرِ؛ وَقَوْلُهُ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَيِّرَهُنَّ بِلَفْظِ التَّخْيِيرِ صَحِيحٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ نَصُّ الْآيَةِ؛ فَإِنَّ التَّخْيِيرَ فِيهَا إنَّمَا وَقَعَ بَيْنَ الْآخِرَةِ، فَيَكُونُ التَّمَسُّكُ؛ وَبَيْنَ الدُّنْيَا، فَيَكُونُ الْفِرَاقُ؛ وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ نَصِّ الْآيَةِ، وَلَيْسَ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَالَ مِنْ أَنَّ التَّخْيِيرَ ثَلَاثٌ، وَاَللَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يُطَلِّقَ النِّسَاءَ لِعِدَّتِهِنَّ؛ فَإِنَّ كَوْنَ قَبُولِ الْخِيَارِ ثَلَاثًا إنَّمَا هُوَ مَذْهَبُهُ، وَلَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى حُكْمٍ بِمَذْهَبٍ بِقَوْلٍ يُخَالِفُ فِيهِ؛ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ يَقُولَانِ: إنَّهَا وَاحِدَةٌ فِي تَفْصِيلٍ، وَقَوْلُهُ: إنَّ اللَّهَ قَالَ: سَرَاحًا جَمِيلًا. وَالثَّلَاثُ مِمَّا لَا يَجْمُلُ خَطَأً؛ بَلْ هِيَ مِمَّا يَجْمُلُ وَيَحْسُنُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] فَسَمَّى الثَّلَاثَ تَسْرِيحًا بِإِحْسَانٍ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا تُوصَفُ بِالْإِحْسَانِ إذَا فُرِّقَتْ؛ فَأَمَّا إذَا وَقَعَتْ جُمْلَةً فَلَا. قُلْنَا: لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا؛ فَإِنَّ الثَّلَاثَ فُرْقَةُ انْقِطَاعٍ، كَمَا أَنَّ التَّخْيِيرَ عِنْدَك فُرْقَةُ انْقِطَاعٍ. وَإِنَّمَا الْمَعْنَى السَّرَاحُ الْجَمِيلُ، وَالسَّرَاحُ الْحَسَنُ فُرْقَةٌ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، كَانَتْ وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثًا، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِمَّا ظَنَّهُ هَذَا الْعَالِمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ: ابْعَثِي إلَى أَبَوَيْك. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ؟ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُخَيِّرَكُنَّ. فَقَالَتْ: إنِّي أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَسَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ. فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنَّ لِي إلَيْك حَاجَةً؛ لَا تُخَيِّرْ مِنْ نِسَائِك مَنْ تُحِبُّ أَنْ تُفَارِقَنِي، فَخَيَّرَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمِيعًا، فَكُلُّهُنَّ اخْتَرْنَهُ». «قَالَتْ عَائِشَةُ: خَيَّرَنَا فَاخْتَرْنَاهُ، فَلَمْ يَكُنْ طَلَاقًا».

مسألة خير الرجل امرأته فاختارته

وَفِي الصَّحِيحِ «عَنْ عَائِشَةَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 29] الْآيَةَ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَدَأَ بِي، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ؛ إنِّي ذَاكِرٌ لَك أَمْرًا فَلَا عَلَيْك أَلَّا تُعَجِّلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْك. قَالَتْ: وَقَدْ عَلِمَ وَاَللَّهِ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ، فَقَرَأَ عَلَيَّ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 28] {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 29]. فَقُلْت: أَوَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ، فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ». هَذِهِ رِوَايَةُ مَعْمَرٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ. قَالَ مَعْمَرٌ: وَقَالَ أَيُّوبُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا تُخْبِرْ أَزْوَاجَك أَنِّي اخْتَرْتُك؛ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُتَعَنِّتًا، إنَّمَا بَعَثَنِي مُبَلِّغًا». وَفِي رِوَايَةٍ: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ عَلَى أَزْوَاجِهِ الْآيَةَ وَيَقُولُ: قَدْ اخْتَارَتْنِي عَائِشَةُ، فَاخْتَرْنَهُ كُلُّهُنَّ». الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا خَيَّرَهُنَّ اخْتَرْنَهُ، فَقَصَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِنَّ، وَنَزَلَتْ: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52]. وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ. [مَسْأَلَةُ خَيَّرَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَاخْتَارَتْهُ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: قَدْ بَيَّنَّا كَيْفَ وَقَعَ التَّخْيِيرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَسْأَلَةُ التَّخْيِيرِ طَوِيلَةٌ عَرِيضَةٌ، لَا يَسْتَوْفِيهَا إلَّا الْإِطْنَابُ بِالتَّطْوِيلِ مَعَ اسْتِيفَاءِ التَّفْصِيلِ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ فِي هَذِهِ الْعُجَالَةِ، وَبَيَانُهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، فَنُشِيرُ مِنْهُ الْآنَ إلَى طَرَفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إذَا خَيَّرَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَاخْتَارَتْهُ.

الثَّانِي: إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا. أَمَّا الطَّرَفُ الْأَوَّلُ إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ؛ فَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَعَائِشَةُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَإِحْدَى رِوَايَتَيْ زَيْدٍ، وَعَلِيٍّ، إلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ. وَذَهَبَ إلَى أَنَّهَا طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ عَلِيٌّ وَزَيْدٌ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَالْحَسَنُ، وَرَبِيعَةُ، وَتَعَلَّقُوا بِأَنَّ قَوْلَهُ: " اخْتَارِي " كِنَايَةٌ عَنْ إيقَاعِ الطَّلَاقِ؛ فَإِذَا أَضَافَهُ إلَيْهَا وَقَعَتْ طَلْقَةٌ، كَقَوْلِهِ، أَنْتِ بَائِنٌ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ عَائِشَةَ: خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاخْتَرْنَاهُ. أَفَكَانَ ذَلِكَ طَلَاقًا، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قُلْتُمْ: إنَّ تَخْيِيرَ عَائِشَةَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الزَّوْجِيَّةِ وَالْفِرَاقِ، وَإِنَّمَا كَانَ بَيْنَ الْبَقَاءِ فَيُمْسِكُ، وَبَيْنَ الْفِرَاقِ فَيَسْتَأْنِفُ إيقَاعَهُ، وَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا عِنْدَكُمْ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَيْنَا مِنْكُمْ. قُلْنَا: كَذَلِكَ قُلْنَا، وَكَذَلِكَ كَانَ. وَقَوْلُكُمْ: لَا حُجَّةَ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ حُجَّتُهُ ظَاهِرَةٌ؛ لِأَنَّكُمْ قَدْ قُلْتُمْ: إنَّهَا كِنَايَةٌ، فَكَانَ مِنْ حَقِّكُمْ أَنْ تَقُولُوا: إنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهَذَا أَيْضًا. فَإِذَا قُلْتُمْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ: إنَّهُ لَا يَقَعُ، كَانَتْ الْأُخْرَى مِثْلَهَا؛ لِأَنَّهُمَا كِنَايَتَانِ، فَلَوْ لَزِمَ الطَّلَاقُ بِإِحْدَاهُمَا لَزِمَ بِالْأُخْرَى؛ لِأَنَّ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. وَبِهَذَا احْتَجَّتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لِسِعَةِ عِلْمِهَا، وَعَظِيمِ فِقْهِهَا. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهَا إيقَاعٌ بَاطِلٌ، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْيِيرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فِرَاقِهِ، وَهُمَا ضِدَّانِ، لَيْسَ اخْتِيَارُ أَحَدِهِمَا اخْتِيَارًا لِلثَّانِي بِحَالٍ. وَأَمَّا الطَّرَفُ الثَّانِي: وَهُوَ إذَا اخْتَارَتْ الْفِرَاقَ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا ثَلَاثٌ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ وَلَا بَيْنُونَةٍ. فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهُ مَا نَوَى. هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ. الثَّانِي: رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ وَلَا مَبْتُوتَةٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ.

مسألة معنى قوله تعالى وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة

الثَّالِثُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إلَّا إذَا نَوَيَاهُ جَمِيعًا، وَلَا يَقَعُ مِنْهُ إلَّا مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ جَمِيعًا، فَإِنْ اخْتَلَفَا وَقَعَ الْأَقَلُّ، وَبَطَلَ الْأَكْثَرُ. وَدَلِيلُنَا أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِقَوْلِهِ: " اخْتَارِي " أَلَّا يَكُونَ لَهُ عَلَيْهِ سَبِيلٌ، وَلَا يَمْلِكَ مِنْهَا شَيْئًا؛ إذْ قَدْ جَعَلَ إلَيْهَا أَنْ تُخْرِجَ مَا يَمْلِكُهُ مِنْهَا عَنْهُ أَوْ تُقِيمَ مَعَهُ، فَإِذَا أَخْرَجَتْ الْبَعْضَ لَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ خُيِّرَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَاخْتَارَ غَيْرَهُمَا. وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّ الزَّوْجَ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِخَبَرٍ مِنْ جِهَتِهَا، وَذَلِكَ لَا يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّتِهَا، كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّهُ إذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ لَمْ يَقَعْ إلَّا وَاحِدَةٌ كَخِيَارِ الْمُعْتَقَةِ. الْجَوَابُ: إنَّا نَقُولُ: أَمَّا اعْتِبَارُ نِيَّتِهَا فَلَا بُدَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا مُوقِعَةٌ لِلطَّلَاقِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَوْكِيلٌ وَنِيَابَةٌ، وَأَمَّا خِيَارُ الْمُعْتِقَةِ فَلَا نُسَلِّمُهُ، بَلْ هُوَ ثَلَاثٌ. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ لَفْظُ الثَّلَاثِ وَلَا نِيَّتُهَا. الْجَوَابُ: إمَّا نَقُولُ: قَدْ اقْتَرَنَ بِهِ لَفْظُهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ} [الأحزاب: 29] اعْلَمُوا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ عِلْمَهُ وَأَفَاضَ عَلَيْكُمْ حُكْمَهُ أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى قِسْمَيْنِ: قَدِيمٌ وَمُحْدَثٌ، وَخَالِقٌ وَمَخْلُوقٌ، وَالْمَخْلُوقُ وَالْمُحْدَثُ عَلَى قِسْمَيْنِ: حَيَوَانٌ وَجَمَادٌ. وَالْحَيَوَانُ عَلَى قِسْمَيْنِ: مُكَلَّفٌ، وَغَيْرُ مُكَلَّفٍ. وَالْمُكَلَّفُ حَالَتَانِ: حَالَةٌ هُوَ فِيهَا، وَحَالَةٌ هُوَ مَنْقُولٌ إلَيْهَا، كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَالْحَالَةُ الْمُنْتَقَلُ إلَيْهَا هِيَ الْحَبِيبَةُ إلَى اللَّهِ الْمَمْدُوحَةُ مِنْهُ، وَالْحَالَةُ الَّتِي هُوَ فِيهَا هِيَ الْمُبْغَضَةُ إلَى اللَّهِ الْمَذْمُومَةُ عِنْدَهُ؛ فَإِنْ رَكَنَ إلَيْهَا، وَعَمِلَ بِمُقْتَضَاهَا مِنْ الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ، وَأَهْمَلَ الْحَالَةَ الَّتِي يَنْتَقِلُ إلَيْهَا، وَهِيَ الْمَحْمُودَةُ، هَلَكَ. وَإِنْ كَانَ مَقْصِدُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الْقَرِيبَةِ تِلْكَ الْآخِرَةَ، وَكَانَ لَهَا يَعْمَلُ، وَإِيَّاهَا يَطْلُبُ، وَاعْتَقَدَ نَفْسَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُسَافِرِ إلَى مَقْصِدٍ، فَهُوَ فِي طَرِيقِهِ يَعْبُرُ، وَعَلَى مَسَافَتِهِ يَرْتَحِلُ؛ وَقَلْبُ الْأَوَّلِ مَعْمُورٌ بِذِكْرِ الدُّنْيَا، مَغْمُورٌ بِحُبِّهَا، وَقَلْبُ الثَّانِي مَغْمُورٌ بِذِكْرِ

مسألة معنى قوله تعالى للمحسنات منكن

اللَّهِ، مَعْمُورٌ بِحُبِّهِ، وَجَوَارِحُهُ مُسْتَعْمَلَةٌ بِطَاعَتِهِ، فَقِيلَ لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَتَقْصِدْنَ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَثَوَابَهُ فِيهَا، فَقَدْ أَعَدَّ اللَّهُ ثَوَابَكُنَّ وَثَوَابَ أَمْثَالِكُنَّ فِي أَصْلِ الْقَصْدِ لَا فِي مِقْدَارِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَعْمَلُ مَحَبَّةً فِي اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِذَاتَيْهِمَا، وَفِي الدَّارِ الْآخِرَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ مَنْفَعَةِ الثَّوَابِ. قَالَ قَوْمٌ: لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُحَبَّ اللَّهُ لِذَاتِهِ وَلَا رَسُولُهُ لِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا الْمَحْبُوبُ الثَّوَابُ مِنْهُمَا، الْعَائِدُ عَلَيْهِ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ الْعَبْدَ يُحِبُّ نَفْسَهُ، وَأَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَغَنِيَّانِ عَنْ الْعَالَمِينَ فِي ذَلِكَ الْغَرَضِ الْمَسْطُورِ فِيهَا. . [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ} [الأحزاب: 29] الْإِحْسَانُ فِي الْفِعْلِ يَكُونُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْإِتْيَانُ بِهِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ. وَالثَّانِي: التَّمَادِي عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: قُلْ لَهُنَّ مَنْ جَاءَ بِهَذَا الْفِعْلِ الْمَطْلُوبِ مِنْكُنَّ كَمَا أُمِرَ بِهِ، وَتَمَادَى عَلَيْهِ إلَى حَالَةِ الِاحْتِرَامِ بِالْمُنْيَةِ، فَعِنْدَنَا لَهُ أَفْضَلُ الْجَلَالَةِ وَالْإِكْرَامِ. وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [الأحزاب: 31] إلَى آخِرِ الْمَعْنَى. فَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَهُوَ الْإِحْسَانُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى أَجْرًا عَظِيمًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] الْمَعْنَى أَعْطَاهُنَّ اللَّهُ بِذَلِكَ ثَوَابًا مُتَكَاثِرَ الْكَيْفِيَّةِ وَالْكَمِّيَّةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْلِهِ: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31]، وَزِيَادَةُ رِزْقٍ كَرِيمٍ مُعَدٍّ لَهُنَّ. أَمَّا ثَوَابُهُنَّ فِي الْآخِرَةِ فَكَوْنُهُنَّ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دَرَجَتِهِ فِي الْجَنَّةِ، وَلَا غَايَةَ بَعْدَهَا، وَلَا مَزِيَّةَ فَوْقَهَا، وَفِي ذَلِكَ مِنْ زِيَادَةِ النَّعِيمِ وَالثَّوَابِ عَلَى غَيْرِهِنَّ؛ فَإِنَّ الثَّوَابَ وَالنَّعِيمَ عَلَى قَدْرِ الْمَنْزِلَةِ.

الآية السادسة قوله تعالى يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة

وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَبِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ جَعَلَهُنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، تَعْظِيمًا لِحَقِّهِنَّ، وَتَأْكِيدًا لِحُرْمَتِهِنَّ، وَتَشْرِيفًا لِمَنْزِلَتِهِنَّ. الثَّانِي: أَنَّهُ حَظَرَ عَلَيْهِ طَلَاقَهُنَّ، وَمَنَعَهُ مِنْ الِاسْتِبْدَالِ بِهِنَّ، فَقَالَ: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب: 52]. وَالْحِكْمَةُ أَنَّهُنَّ لَمَّا لَمْ يَخْتَرْنَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ أَمَرَ بِمُكَافَأَتِهِنَّ فِي التَّمَسُّكِ بِنِكَاحِهِنَّ. فَأَمَّا مَنْعُ الِاسْتِبْدَالِ بِهِنَّ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ؛ هَلْ بَقِيَ ذَلِكَ مُسْتَدَامًا أَمْ رَفَعَهُ اللَّهُ عَنْهُ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُثِيبُ الْعَبْدَ فِي الدُّنْيَا بِوُجُوهٍ مِنْ رَحْمَتِهِ وَخَيْرَاتِهِ، وَلَا يَنْقِصُ ذَلِكَ مِنْ ثَوَابِهِ فِي الْآخِرَةِ. وَقَدْ يُثِيبُهُ فِي الدُّنْيَا، وَيَنْقَصُهُ بِذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ مَنْ قَذَفَهُنَّ حُدَّ حَدَّيْنِ، كَمَا قَالَ مَسْرُوقٌ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ حَدٌّ وَاحِدٌ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ النُّورِ، مِنْ أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]. يَتَنَاوَلُ كُلَّ مُحْصَنَةٍ، وَلَا يَقْتَضِي شَرَفُهُنَّ زِيَادَةً فِي الْحَدِّ لَهُنَّ؛ لِأَنَّ شَرَفَ الْمَنْزِلَةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْحُدُودِ بِزِيَادَةٍ، وَلَا نَقْصُهَا يُؤَثِّرُ فِي الْحَدِّ بِنَقْصٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة السَّادِسَة قَوْله تَعَالَى يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ] الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب: 30].

الآية السابعة قوله تعالى ومن يقنت منكن لله ورسوله

فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْفَاحِشَةِ وَتِبْيَانِهَا بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ، وَأَنَّهَا تَنْطَبِقُ عَلَى الزِّنَا، وَعَلَى سَائِرِ الْمَعَاصِي. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَنْ جَاءَ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفَاحِشَةٍ يُضَاعَفُ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ، لِشَرَفِ مَنْزِلَتِهِنَّ، وَفَضْلِ دَرَجَتِهِنَّ، وَتَقَدُّمِهِنَّ عَلَى سَائِرِ النِّسَاءِ أَجْمَعَ؛ وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّهُ كُلَّمَا تَضَاعَفَتْ الْحُرُمَاتُ فَهُتِكَتْ تَضَاعَفَتْ الْعُقُوبَاتُ؛ وَلِذَلِكَ ضُوعِفَ حَدُّ الْحُرِّ عَلَى حَدِّ الْعَبْدِ، وَالثَّيِّبِ عَلَى الْبِكْرِ؛ لِزِيَادَةِ الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ فِيهِمَا عَلَى قَرِينِهِمَا؛ وَذَلِكَ مَشْرُوحٌ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَدْ قَالَ مَسْرُوقٌ: إنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحْدَدْنَ حَدَّيْنِ. وَيَا مَسْرُوقُ، لَقَدْ كُنْت فِي غِنًى عَنْ هَذَا؛ فَإِنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ لَا يَأْتِينَ أَبَدًا بِفَاحِشَةٍ تُوجِبُ حَدًّا؛ وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا بَغَتْ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ؛ وَإِنَّمَا خَانَتْ فِي الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، وَلَوْ أَمْسَكَ النَّاسُ عَمَّا لَا يَنْبَغِي بَلْ عَمَّا لَا يَعْنِي لَكَثُرَ الصَّوَابُ، وَظَهَرَ الْحَقُّ. [الْآيَة السَّابِعَة قَوْلُهُ تَعَالَى وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ] الْآيَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب: 31]. بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَمَا يُضَاعَفُ، بِهَتْكِ الْحُرُمَاتِ، الْعَذَابُ، كَذَلِكَ يُضَاعَفُ بِصِيَانَتِهَا الثَّوَابُ.

الآية الثامنة قوله تعالى يا نساء النبي لستن كأحد من النساء

[الْآيَة الثَّامِنَة قَوْلُهُ تَعَالَى يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ] الْآيَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 32] {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]. فِيهَا ثَمَانِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32] يَعْنِي فِي الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ فَإِنَّهُنَّ وَإِنْ كُنَّ مِنْ الْآدَمِيَّاتِ فَلَسْنَ كَإِحْدَاهُنَّ، كَمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانَ مِنْ الْبَشَرِ جِبِلَّةً، فَلَيْسَ مِنْهُمْ فَضِيلَةً وَمَنْزِلَةً، وَشَرَفُ الْمَنْزِلَةِ لَا يَحْتَمِلُ الْعَثَرَاتِ، فَإِنَّ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ، وَتُرْفَعُ مَنْزِلَتُهُ عَلَى الْمَنَازِلِ جَدِيرٌ بِأَنْ يَرْتَفِعَ فِعْلُهُ عَلَى الْأَفْعَالِ، وَيَرْبُوَ حَالُهُ عَلَى الْأَحْوَالِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب: 32] أَمَرَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُنَّ جَزْلًا، وَكَلَامُهُنَّ فَصْلًا، وَلَا يَكُونُ عَلَى وَجْهٍ يُحْدِثُ فِي الْقَلْبِ عَلَاقَةً بِمَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنْ اللِّينِ الْمُطْمِعِ لِلسَّامِعِ، وَأَخَذَ عَلَيْهِنَّ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُنَّ مَعْرُوفًا، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قِيلَ: الْمَعْرُوفُ هُوَ السِّرُّ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ مَأْمُورَةٌ بِخَفْضِ الْكَلَامِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَعُودُ إلَى الشَّرْعِ بِمَا أُمِرْنَ فِيهِ بِالتَّبْلِيغِ، أَوْ بِالْحَاجَةِ الَّتِي لَا بُدَّ لِلْبَشَرِ مِنْهَا. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] يَعْنِي اُسْكُنَّ فِيهَا وَلَا تَتَحَرَّكْنَ، وَلَا تَبْرَحْنَ مِنْهَا، حَتَّى إنَّهُ رُوِيَ وَلَمْ يَصِحَّ أَنَّ

مسألة تعلق الرافضة بآية وقرن في بيوتكن

النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا انْصَرَفَ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَ لِأَزْوَاجِهِ هَذِهِ؛ ثُمَّ ظُهُورُ الْحُصْرِ؛ إشَارَةً إلَى مَا يَلْزَمُ الْمَرْأَةَ مِنْ لُزُومِ بَيْتِهَا، وَالِانْكِفَافِ عَنْ الْخُرُوجِ مِنْهُ، إلَّا لِضَرُورَةٍ. وَلَقَدْ دَخَلْتَ نَيِّفًا عَلَى أَلْفِ قَرْيَةٍ مِنْ بَرِيَّةٍ، فَمَا رَأَيْت [نِسَاءً] أَصْوَنَ عِيَالًا، وَلَا أَعَفَّ نِسَاءً مِنْ نِسَاءِ نَابُلُسَ الَّتِي رُمِيَ فِيهَا الْخَلِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالنَّارِ، فَإِنِّي أَقَمْت فِيهَا أَشْهُرًا، فَمَا رَأَيْت امْرَأَةً فِي طَرِيقٍ، نَهَارًا، إلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُنَّ يَخْرُجْنَ إلَيْهَا حَتَّى يَمْتَلِئَ الْمَسْجِدُ مِنْهُنَّ، فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ، وَانْقَلَبْنَ إلَى مَنَازِلِهِنَّ لَمْ تَقَعْ عَيْنِي عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمْ إلَى الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى. وَسَائِرُ الْقُرَى تُرَى نِسَاؤُهَا مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَعُطْلَةٍ، مُتَفَرِّقَاتٍ فِي كُلِّ فِتْنَةٍ وَعُضْلَةٍ. وَقَدْ رَأَيْت بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى عَفَائِفَ مَا خَرَجْنَ مِنْ مُعْتَكَفِهِنَّ حَتَّى اسْتَشْهَدْنَ فِيهِ. [مَسْأَلَة تَعَلَّقَ الرَّافِضَةُ بِآيَةِ وَقَرْن فِي بُيُوتكُنَّ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ تَعَلَّقَ الرَّافِضَةُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إذْ قَالُوا: إنَّهَا خَالَفَتْ أَمْرَ اللَّهِ وَأَمْرَ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَرَجَتْ تَقُودُ الْجُيُوشَ، وَتُبَاشِرُ الْحُرُوبَ، وَتَقْتَحِمُ مَآزِقَ الْحَرْبِ وَالضَّرْبِ، فِيمَا لَمْ يُفْرَضْ عَلَيْهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهَا. وَلَقَدْ حُصِرَ عُثْمَانُ، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ أَمَرَتْ بِرَوَاحِلِهَا فَقُرِّبَتْ، لِتَخْرُجَ إلَى مَكَّةَ، فَقَالَ لَهَا مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ؛ أَقِيمِي هَاهُنَا، وَرُدِّي هَؤُلَاءِ الرَّعَاعَ عَنْ عُثْمَانَ؛ فَإِنَّ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ النَّاسِ خَيْرٌ مِنْ حَجِّك. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: إنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ نَذَرَتْ الْحَجَّ قَبْلَ الْفِتْنَةِ، فَلَمْ تَرَ التَّخَلُّفَ عَنْ نَذْرِهَا؛ وَلَوْ خَرَجَتْ عَنْ تِلْكَ الثَّائِرَةِ لَكَانَ ذَلِكَ صَوَابًا لَهَا. وَأَمَّا خُرُوجُهَا إلَى حَرْبِ الْجَمَلِ فَمَا خَرَجَتْ لِحَرْبٍ، وَلَكِنْ تَعَلَّقَ النَّاسُ بِهَا، وَشَكَوْا إلَيْهَا مَا صَارُوا إلَيْهِ مِنْ عَظِيمِ الْفِتْنَةِ، وَتَهَارَجَ النَّاسِ، وَرَجَوْا بَرَكَتَهَا فِي

مسألة معنى قوله تعالى ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى

الْإِصْلَاحِ، وَطَمِعُوا فِي الِاسْتِحْيَاءِ مِنْهَا إذَا وَقَفَتْ إلَى الْخَلْقِ وَظَنَّتْ هِيَ ذَلِكَ، فَخَرَجَتْ مُقْتَدِيَةً بِاَللَّهِ فِي قَوْلِهِ: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114]. وَبِقَوْلِهِ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]. وَالْأَمْرُ بِالْإِصْلَاحِ مُخَاطَبٌ بِهِ جَمِيعُ النَّاسِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، فَلَمْ يُرِدْ اللَّهُ بِسَابِقِ قَضَائِهِ، وَنَافِذِ حُكْمِهِ، أَنْ يَقَعَ إصْلَاحٌ، وَلَكِنْ جَرَتْ مُطَاعَنَاتٌ وَجِرَاحَاتٌ، حَتَّى كَادَ يَفْنَى الْفَرِيقَانِ، فَعَمَدَ بَعْضُهُمْ إلَى الْجَمَلِ فَعَرْقَبَهُ، فَلَمَّا سَقَطَ الْجَمَلُ لِجَنْبِهِ أَدْرَكَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَائِشَةَ، فَاحْتَمَلَهَا إلَى الْبَصْرَةِ، وَخَرَجَتْ فِي ثَلَاثِينَ امْرَأَةٍ قَرَنَهُنَّ عَلِيٌّ بِهَا، حَتَّى أَوْصَلُوهَا إلَى الْمَدِينَةِ بَرَّةً تَقِيَّةً مُجْتَهِدَةً، مُصِيبَةً ثَابِتَةً فِيمَا تَأَوَّلَتْ، مَأْجُورَةً فِيمَا تَأَوَّلَتْ وَفَعَلَتْ؛ إذْ كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْأَحْكَامِ مُصِيبٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ تَصْوِيبَ الصَّحَابَةِ فِي الْحُرُوبِ، وَحَمْلَ أَفْعَالِهِمْ عَلَى أَجْمَلِ تَأْوِيلٍ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب: 33] وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى التَّبَرُّجِ. وَقَوْلُهُ: {الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب: 33] رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: أَفَرَأَيْت قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب: 33]؟ لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ كَانَتْ جَاهِلِيَّةً غَيْرَ وَاحِدَةٍ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ هَلْ سَمِعْت بِأُولَى إلَّا لَهَا آخِرَةٌ، قَالَ: فَأْتِنَا بِمَا يُصَدِّقُ ذَلِكَ فِي كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] جَاهَدُوا كَمَا جَاهَدْتُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ. فَقَالَ عُمَرُ: فَمَنْ أَمَرَ بِأَنْ نُجَاهِدَ؟ قَالَ: مَخْزُومٌ وَعَبْدُ شَمْسٍ.

مسألة معنى قوله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهَا تَكُونُ جَاهِلِيَّةً أُخْرَى. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ الْأُولَى مَا بَيْنَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ الْقَاضِي: الَّذِي عِنْدِي أَنَّهَا جَاهِلِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ؛ وَإِنَّمَا وُصِفَتْ بِالْأُولَى؛ لِأَنَّهَا صِفَتُهَا الَّتِي لَيْسَ لَهَا نَعْتُ غَيْرِهَا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء: 112] وَهَذِهِ حَقِيقَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَحْكُمُ إلَّا بِالْحَقِّ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]: فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: الْإِثْمُ. الثَّانِي: الشِّرْكُ. الثَّالِثُ: الشَّيْطَانُ. الرَّابِعُ: الْأَفْعَالُ الْخَبِيثَةُ وَالْأَخْلَاقُ الذَّمِيمَةُ؛ فَالْأَفْعَالُ الْخَبِيثَةُ كَالْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ؛ وَالْأَخْلَاقُ الذَّمِيمَةُ كَالشُّحِّ، وَالْبُخْلِ، وَالْحَسَدِ، وَقَطْعِ الرَّحِمِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: {أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33] رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ دَعَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا، وَجَعَلَ عَلِيًّا خَلْفَ ظَهْرِهِ، وَجَلَّلَهُمْ بِكِسَاءٍ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ أَهْلَ بَيْتِي، فَأَذْهِبْ عَنْهُمْ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: وَأَنَا مَعَهُمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ. قَالَ: أَنْتِ عَلَى مَكَانِك وَأَنْتِ عَلَى خَيْرٍ». وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَمُرُّ بِبَابِ فَاطِمَةَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ إذَا

الآية التاسعة قوله تعالى واذكرن ما يتلى في بيوتكن

خَرَجَ إلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ يَقُولُ: الصَّلَاةَ يَا أَهْلَ الْبَيْتِ، إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا». خَرَّجَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ. [الْآيَة التَّاسِعَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ] الْآيَةُ التَّاسِعَةُ قَوْله تَعَالَى {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب: 34]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: آيَاتُ اللَّهِ الْقُرْآنُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: آيَاتُ اللَّهِ الْحِكْمَةُ: وَقَدْ بَيَّنَّا الْحِكْمَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَآيَاتُ اللَّهِ حِكْمَتُهُ، وَسُنَّةُ رَسُولِهِ حِكْمَتُهُ، وَالْحَلَالُ وَالْحَرَامُ حِكْمَتُهُ، وَالشَّرْعُ كُلُّهُ حِكْمَتُهُ. [مَسْأَلَة أَمَرَ اللَّهُ أَزْوَاجَ رَسُولِهِ بِأَنْ يُخْبِرْنَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ فِي بُيُوتِهِنَّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَمَرَ اللَّهُ أَزْوَاجَ رَسُولِهِ بِأَنْ يُخْبِرْنَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ فِي بُيُوتِهِنَّ، وَمَا يَرَيْنَ مِنْ أَفْعَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَقْوَالِهِ فِيهِنَّ، حَتَّى يَبْلُغَ ذَلِكَ إلَى النَّاسِ، فَيَعْمَلُوا بِمَا فِيهِ، وَيَقْتَدُوا بِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الدِّينِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي هَذَا مَسْأَلَةٌ بَدِيعَةٌ؛ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَبْلِيغِ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنْ الْقُرْآنِ، وَتَعْلِيمِ مَا عَلِمَهُ مِنْ الدِّينِ؛ فَكَانَ إذَا قَرَأَهُ عَلَى وَاحِدٍ، أَوْ مَا اتَّفَقَ، سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ، وَعَلَى مَنْ سَمِعَهُ أَنْ يُبَلِّغَهُ إلَى غَيْرِهِ، وَلَيْسَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَذْكُرَهُ لِجَمِيعِ الصَّحَابَةِ

الآية العاشرة قوله تعالى وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة

وَلَا كَانَ عَلَيْهِ إذَا عَلِمَ ذَلِكَ أَزْوَاجُهُ أَنْ يَخْرُجَ إلَى النَّاسِ فَيَقُولَ لَهُمْ: نَزَلَ كَذَا، وَكَانَ كَذَا. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْأُصُولِ، وَشَرْحِ الْحَدِيثِ، وَلَوْ كَانَ الرَّسُولُ لَا يَعْتَدُّ بِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ ذَلِكَ أَزْوَاجُهُ مَا أُمِرْنَ بِالْإِعْلَامِ بِذَلِكَ، وَلَا فَرَضَ عَلَيْهِنَّ تَبْلِيغَهُ؛ وَلِذَلِكَ قُلْنَا بِجَوَازِ قَبُولِ خَبَرِ بُسْرَةَ فِي إيجَابِ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ؛ لِأَنَّهَا رَوَتْ مَا سَمِعَتْ، وَبَلَّغَتْ مَا وَعَتْ. وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ الرِّجَالَ، كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَحَقَّقْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ؛ عَلَى أَنَّهُ قَدْ نُقِلَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَهَذَا كَانَ هَاهُنَا. [الْآيَة الْعَاشِرَة قَوْله تَعَالَى وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيرَةُ] الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَكَانَتْ أَوَّلَ امْرَأَةٍ هَاجَرَتْ مِنْ النِّسَاءِ، وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: قَدْ قَبِلْت، فَزَوَّجَهَا مِنْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فَسَخِطَتْهُ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. الثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فَامْتَنَعَتْ، وَامْتَنَعَ أَخُوهَا عَبْدُ اللَّهِ لِنَسَبِهَا فِي قُرَيْشٍ، وَأَنَّهَا كَانَتْ بِنْتَ عَمَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمُّهَا أُمَيْمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَإِنَّ زَيْدًا كَانَ عَبْدًا بِالْأَمْسِ إلَى أَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَقَالَ لَهُ أَخُوهَا: مُرْنِي بِمَا شِئْت، فَزَوَّجَهَا مِنْ زَيْدٍ. وَاَلَّذِي رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ

مسألة الكفاءة في الأحساب

مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ، زَادَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ سَاقَ إلَيْهَا عَشْرَةَ دَنَانِيرَ وَسِتِّينَ دِرْهَمًا، وَمِلْحَفَةً، وَدِرْعًا، وَخَمْسِينَ مُدًّا مِنْ طَعَامٍ، وَعَشْرَةَ أَمْدَادٍ مِنْ تَمْرٍ. [مَسْأَلَة الْكَفَاءَةُ فِي الْأَحْسَابِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي هَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ الْكَفَاءَةُ فِي الْأَحْسَابِ، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ فِي الْأَدْيَانِ، خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْمُغِيرَةِ وَسَحْنُونٍ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَوَالِيَ تَزَوَّجَتْ فِي قُرَيْشٍ وَتَزَوَّجَ زَيْدٌ بِزَيْنَبِ، وَتَزَوَّجَ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ ضُبَاعَةَ بِنْتَ الزُّبَيْرِ، وَزَوَّجَ أَبُو حَنِيفَةَ سَالِمًا مِنْ هِنْدَ بِنْتِ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَهُوَ مَوْلًى لِامْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ. وَفِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ؛ لِمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا؛ فَعَلَيْك بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاك». وَفِيهِ قَالَ سَهْلٌ: «مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْمَعَ قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمَسَاكِينِ، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟ قَالُوا: حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أَلَّا يُنْكَحَ، وَإِنْ قَالَ لَا يُسْمَعَ، وَإِنْ شَفَعَ لَا يُشَفَّعَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا».

الآية الحادية عشرة قوله تعالى وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك

[الْآيَة الْحَادِيَة عَشْرَة قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذْ تَقُول لِلَّذِي أنعم اللَّه عَلَيْهِ وَأَنْعَمَتْ عَلَيْهِ أمسك عَلَيْك زَوْجك] الْآيَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا} [الأحزاب: 37]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رَوَى الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ مَنْزِلَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فَأَبْصَرَ امْرَأَتَهُ قَائِمَةً، فَأَعْجَبَتْهُ؛ فَقَالَ: سُبْحَانَ مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ، فَلَمَّا سَمِعَتْ زَيْنَبُ ذَلِكَ جَلَسَتْ، وَجَاءَ زَيْدٌ إلَى مَنْزِلِهِ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ زَيْنَبَ؛ فَعَلِمَ أَنَّهَا وَقَعَتْ فِي نَفْسِهِ؛ فَأَتَى زَيْدٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي فِي طَلَاقِهَا، فَإِنَّ بِهَا غَيْرَةً وَإِذَايَةً بِلِسَانِهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَمْسِكْ أَهْلَك وَفِي قَلْبِهِ غَيْرُ ذَلِكَ، فَطَلَّقَهَا زَيْدٌ. فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِزَيْدٍ: اُذْكُرْنِي لَهَا فَانْطَلَقَ زَيْدٌ إلَى زَيْنَبَ، فَقَالَ لَهَا: أَبْشِرِي، أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَذْكُرُك. فَقَالَتْ: مَا أَنَا بِصَانِعَةٍ شَيْئًا، حَتَّى أَسْتَأْمِرَ رَبِّي، وَقَامَتْ إلَى مُصَلَّاهَا فَنَزَلَتْ الْآيَةُ». الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] أَيْ بِالْإِسْلَامِ. {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37]، أَيْ بِالْعِتْقِ، هُوَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ. وَقِيلَ: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِأَنْ سَاقَهُ إلَيْك، وَأَنْعَمْت عَلَيْهِ بِأَنْ تَبَنَّيْته؛ وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ اللَّهِ إلَيْهِ أَوْ مِنْ مُحَمَّدٍ إلَيْهِ فَهُوَ نِعْمَةٌ عَلَيْهِ.

مسألة عصمة الأنبياء

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب: 37] يَعْنِي مِنْ نِكَاحِك لَهَا. فَقَدْ كَانَ اللَّهُ أَعْلَمَهُ بِأَنَّهَا تَكُونُ مِنْ أَزْوَاجِهِ. وَقِيلَ: تُخْفِي فِي نَفْسِك مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ مِنْ مَيْلِك إلَيْهَا وَحُبِّك لَهَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَتَخْشَى النَّاسَ} [الأحزاب: 37] فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: تَسْتَحِي مِنْهُمْ، وَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ، وَتَسْتَحِي مِنْهُ. وَالْخَشْيَةُ بِمَعْنَى الِاسْتِحْيَاءِ كَثِيرَةٌ فِي اللُّغَةِ. الثَّانِي: تَخْشَى النَّاسَ أَنْ يُعَاتِبُوك، وَعِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ. الثَّالِثُ: وَتَخْشَى النَّاسَ أَنْ يَتَكَلَّمُوا فِيك. وَقِيلَ: أَنْ يُفْتَتَنُوا مِنْ أَجْلِك، وَيَنْسُبُوك إلَى مَا لَا يَنْبَغِي. وَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَإِنَّهُ مَالِكُ الْقُلُوبِ، وَبِيَدِهِ النَّوَاصِي وَالْأَلْسِنَةُ. [مَسْأَلَة عِصْمَةَ الْأَنْبِيَاءِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي تَنْقِيحِ الْأَقْوَالِ وَتَصْحِيحِ الْحَالِ: قَدْ بَيَّنَّا فِي السَّالِفِ فِي كِتَابِنَا هَذَا وَفِي غَيْرِ مَوْضِعٍ عِصْمَةَ الْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - مِنْ الذُّنُوبِ، وَحَقَّقْنَا الْقَوْلَ فِيمَا نُسِبَ إلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ، وَعَهِدْنَا إلَيْكُمْ عَهْدًا لَنْ تَجِدُوا لَهُ رَدًّا أَنَّ أَحَدًا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ نَبِيًّا إلَّا بِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ، لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ أَخْبَارَهُمْ مَرْوِيَّةٌ، وَأَحَادِيثَهُمْ مَنْقُولَةٌ بِزِيَادَاتٍ تَوَلَّاهَا أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إمَّا غَبِيٌّ عَنْ مِقْدَارِهِمْ، وَإِمَّا بِدْعِيٌّ لَا رَأْيَ لَهُ فِي بِرِّهِمْ وَوَقَارِهِمْ، فَيَدُسُّ تَحْتَ الْمَقَالِ الْمُطْلَقِ الدَّوَاهِي، وَلَا يُرَاعِي الْأَدِلَّةَ وَلَا النَّوَاهِيَ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3]، أَيْ أَصْدَقُهُ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ بَيَّنَّاهَا فِي أَمَالِي أَنْوَارِ الْفَجْرِ. فَهَذَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا عَصَى قَطُّ رَبَّهُ، لَا فِي حَالِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا بَعْدَهَا، تَكْرِمَةً مِنْ اللَّهِ وَتَفَضُّلًا وَجَلَالًا، أَحَلَّهُ بِهِ الْمَحَلَّ الْجَلِيلَ الرَّفِيعَ، لِيَصْلُحَ أَنْ يَقْعُدَ مَعَهُ عَلَى كُرْسِيِّهِ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْخَلْقِ فِي الْقَضَاءِ يَوْمَ الْحَقِّ. وَمَا زَالَتْ الْأَسْبَابُ الْكَرِيمَةُ، وَالْوَسَائِلُ السَّلِيمَةُ تُحِيطُ بِهِ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ

وَالطَّرَائِفُ النَّجِيبَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى جُمْلَةِ ضَرَائِبِهِ، وَالْقُرَنَاءُ الْأَفْرَادُ يَحْيَوْنَ لَهُ، وَالْأَصْحَابُ الْأَمْجَادُ يَنْتَقُونَ لَهُ مِنْ كُلِّ طَاهِرِ الْجَيْبِ، سَالِمٍ عَنْ الْعَيْبِ، بَرِيءٍ مِنْ الرَّيْبِ، يَأْخُذُونَهُ عَنْ الْعُزْلَةِ، وَيَنْقُلُونَهُ عَنْ الْوَحْدَةِ، فَلَا يَنْتَقِلُ إلَّا مِنْ كَرَامَةٍ إلَى كَرَامَةٍ، وَلَا يَتَنَزَّلُ إلَّا مَنَازِلَ السَّلَامَةِ حَتَّى تَجِيءَ بِالْحَيِيِّ نِقَابًا، أَكْرَمَ الْخَلْقِ سَلِيقَةً وَأَصْحَابًا، وَكَانَتْ عِصْمَتُهُ مِنْ اللَّهِ فَضْلًا لَا اسْتِحْقَاقًا؛ إذْ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ شَيْئًا رَحْمَةً لَا مَصْلَحَةً، كَمَا تَقُولُهُ الْقَدَرِيَّةُ لِلْخَلْقِ، بَلْ مُجَرَّدُ كَرَامَةٍ لَهُ وَرَحْمَةٍ بِهِ، وَتَفَضُّلٍ عَلَيْهِ، وَاصْطِفَاءٍ لَهُ، فَلَمْ يَقَعْ قَطُّ لَا فِي ذَنْبٍ صَغِيرٍ حَاشَا لِلَّهِ وَلَا كَبِيرٍ، وَلَا وَقَعَ فِي أَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ لِأَجْلِهِ نَقْصٌ، وَلَا تَعْيِيرٌ. وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا سَاقِطَةُ الْأَسَانِيدِ؛ إنَّمَا الصَّحِيحُ مِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: لَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَاتِمًا مِنْ الْوَحْيِ شَيْئًا لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] يَعْنِي بِالْإِسْلَامِ، {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] يَعْنِي بِالْعِتْقِ، فَأَعْتَقْته: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37] إلَى قَوْلِهِ: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا} [الأحزاب: 37] وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا تَزَوَّجَهَا قَالُوا: تَزَوَّجَ حَلِيلَةَ ابْنِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَبَنَّاهُ وَهُوَ صَغِيرٌ، فَلَبِثَ حَتَّى صَارَ رَجُلًا، يُقَالُ لَهُ زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5]. فُلَانٌ مَوْلَى فُلَانٍ، وَفُلَانٌ أَخُو فُلَانٍ، هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ يَعْنِي أَنَّهُ أَعْدَلُ عِنْدَ اللَّهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَمَا وَرَاءَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، فَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَآهَا فَوَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ فَبَاطِلٌ فَإِنَّهُ كَانَ مَعَهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ وَمَوْضِعٍ، وَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ حِجَابٌ، فَكَيْفَ تَنْشَأُ مَعَهُ وَيَنْشَأُ مَعَهَا وَيَلْحَظُهَا فِي كُلِّ سَاعَةٍ، وَلَا تَقَعُ فِي قَلْبِهِ إلَّا إذَا كَانَ لَهَا زَوْجٌ، وَقَدْ وَهَبَتْهُ نَفْسَهَا، وَكَرِهَتْ غَيْرَهُ، فَلَمْ تَخْطِرْ بِبَالِهِ، فَكَيْفَ يَتَجَدَّدُ لَهُ هَوًى لَمْ يَكُنْ، حَاشَا لِذَلِكَ الْقَلْبِ الْمُطَهَّرِ مِنْ هَذِهِ الْعَلَاقَةِ الْفَاسِدَةِ.

وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لَهُ: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه: 131]. وَالنِّسَاءُ أَفْتَنُ الزَّهَرَاتِ وَأَنْشَرُ الرَّيَاحِينِ، فَيُخَالِفُ هَذَا فِي الْمُطَلَّقَاتِ، فَكَيْفَ فِي الْمَنْكُوحَاتِ الْمَحْبُوسَاتِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْحَدِيثُ أَنَّهَا لَمَّا اسْتَقَرَّتْ عِنْدَ زَيْدٍ جَاءَهُ جِبْرِيلُ: إنَّ زَيْنَبَ زَوْجُك، وَلَمْ يَكُنْ بِأَسْرَعَ أَنْ جَاءَهُ زَيْدٌ يَتَبَرَّأُ مِنْهَا، فَقَالَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ، وَأَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك، فَأَبَى زَيْدٌ إلَّا الْفِرَاقَ، وَطَلَّقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَخَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى يَدَيْ مَوْلَاهُ زَوْجِهَا، وَأَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ الْمَذْكُورَ فِيهِ خَبَرُهُمَا، هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي تَلَوْنَاهَا وَفَسَّرْنَاهَا، فَقَالَ: وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ إذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْت عَلَيْهِ: أَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك، وَاتَّقِ اللَّهَ فِي فِرَاقِهَا، وَتُخْفِي فِي نَفْسِك مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ يَعْنِي مِنْ نِكَاحِك لَهَا، وَهُوَ الَّذِي أَبْدَاهُ لَا سِوَاهُ. وَقَدْ عَلِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذْ أَوْحَى إلَيْهِ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ هَذَا الْخَبَرِ وَظُهُورِهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يُخْبِرُ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَائِنٌ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِوُجُوبِ صِدْقِهِ فِي خَبَرِهِ، هَذَا يَدُلُّك عَلَى بَرَاءَتِهِ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرَهُ مُتَسَوِّرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ، مَقْصُورٌ عَلَى عُلُومِ الدِّينِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِأَيِّ مَعْنًى قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك، وَقَدْ أَخْبَرَهُ اللَّهُ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ لَا زَوْجُ زَيْدٍ؟ قُلْنَا: هَذَا لَا يَلْزَمُ؛ وَلَكِنْ لِطِيبِ نُفُوسِكُمْ نُفَسِّرُ مَا خَطَرَ مِنْ الْإِشْكَالِ فِيهِ: إنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَخْتَبِرَ مِنْهُ مَا لَمْ يُعْلِمْهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ رَغْبَتِهِ فِيهَا أَوْ رَغْبَتِهِ عَنْهَا، فَأَبْدَى لَهُ زَيْدٌ مِنْ النُّفْرَةِ عَنْهَا وَالْكَرَاهِيَةِ فِيهَا مَا لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ مِنْهُ فِي أَمْرِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَأْمُرُهُ بِالتَّمَسُّكِ بِهَا، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الْفِرَاقَ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ؟ قُلْنَا: بَلْ هُوَ صَحِيحٌ لِلْمَقَاصِدِ الصَّحِيحَةِ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ، وَمَعْرِفَةِ الْعَاقِبَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ الْعَبْدَ بِالْإِيمَانِ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، فَلَيْسَ فِي مُخَالَفَةِ مُتَعَلِّقِ الْأَمْرِ لِمُتَعَلِّقِ الْعِلْمِ مَا يَمْنَعُ مِنْ الْأَمْرِ بِهِ عَقْلًا وَحُكْمًا، وَهَذَا مِنْ نَفِيسِ الْعِلْمِ؛ فَتَيَقَّنُوهُ وَتَقَبَّلُوهُ.

الآية الثانية عشرة قوله تعالى فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها

[الْآيَة الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكهَا] } [الأحزاب: 37] فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْوَطَرُ: الْأَرَبُ، وَهُوَ الْحَاجَةُ، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «أَيُّكُمْ يَمْلِكُ أَرَبَهُ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْلِكُ أَرَبَهُ» عَلَى أَحَدِ الضَّبْطَيْنِ يَعْنِي شَهْوَتَهُ ". الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] فَذَكَرَ عَقْدَهُ عَلَيْهَا بِلَفْظِ التَّزْوِيجِ، وَهَذَا اللَّفْظُ يَدُلُّ عِنْدَ جَمَاعَةٍ عَلَى أَنَّهُ الْقَوْلُ الْمَخْصُوصُ بِهِ الَّذِي لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ فِيهِ، وَعِنْدَنَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا فَضْلَ فِيهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رَوَى يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ وَغَيْرُهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا زَيْدًا فَقَالَ: ائْتِ زَيْنَبَ فَاذْكُرْنِي لَهَا»، كَمَا تَقَدَّمَ وَقَالَ يَحْيَى: «فَأَخْبِرْهَا أَنَّ اللَّهَ قَدْ زَوَّجَنِيهَا، فَاسْتَفْتَحَ زَيْدٌ الْبَابَ، فَقَالَتْ: مَنْ؟ قَالَ: زَيْدٌ. قَالَتْ: مَا حَاجَتُك؟ قَالَ: أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَتْ: مَرْحَبًا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَفَتَحَتْ لَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا وَهِيَ تَبْكِي، فَقَالَ زَيْدٌ: لَا أَبْكَى اللَّهُ لَك عَيْنًا قَدْ كُنْت نِعْمَتْ الْمَرْأَةُ تَبَرِّينَ قَسَمِي، وَتُطِيعِينَ أَمْرِي، وَتَبْغِينَ مَسَرَّتِي، وَقَدْ أَبْدَلَك اللَّهُ خَيْرًا مِنِّي. قَالَتْ مَنْ؟ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَخَرَّتْ سَاجِدَةً». وَفِي رِوَايَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ «قَالَتْ: حَتَّى أَوَامِرَ رَبِّي، وَقَامَتْ إلَى مُصَلَّاهَا، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِغَيْرِ إذْنٍ، فَكَانَتْ تَفْتَخِرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَقُولُ: أَمَّا أَنْتُنَّ فَزَوَّجَكُنَّ آبَاؤُكُنَّ، وَأَمَّا أَنَا فَزَوَّجَنِي اللَّهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ».

مسألة معنى قوله تعالى لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا

وَفِي رِوَايَةٍ: «إنَّ زَيْدًا لَمَّا جَاءَهَا بِرِسَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَدَهَا تُخَمِّرُ عَجِينَهَا قَالَ: فَمَا اسْتَطَعْت أَنْ أَنْظُرَ إلَيْهَا مِنْ عِظَمِهَا فِي صَدْرِي، فَوَلَّيْت لَهَا ظَهْرِي، وَنَكَصْت عَلَى عَقِبِي، وَقُلْت: يَا زَيْنَبُ، أَبْشِرِي، أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَذْكُرُك الْحَدِيثُ». وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: «قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنِّي أُدِلُّ عَلَيْك بِثَلَاثٍ، مَا مِنْ أَزْوَاجِك امْرَأَةٌ تُدِلُّ بِهِنَّ عَلَيْك: جَدِّي وَجَدُّك وَاحِدٌ، وَإِنِّي أَنْكَحَنِيكَ اللَّهُ مِنْ السَّمَوَاتِ، وَإِنَّ السَّفِيرَ جِبْرِيلُ». [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37] يَعْنِي دَخَلُوا بِهِنَّ، وَإِنَّمَا الْحَرَجُ فِي أَزْوَاجِ الْأَبْنَاءِ مِنْ الْأَصْلَابِ، أَوْ مَا يَكُونُ فِي حُكْمِ الْأَبْنَاءِ مِنْ الْأَصْلَابِ بِالْبَعْضِيَّةِ، وَهُوَ فِي الرَّضَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ تَحْرِيرُهُ. الْآيَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ [الْآيَة الثَّالِثَةُ عَشْر قَوْلُهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] } [الأحزاب: 45] {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 46]. إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَطَّطَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخُطَطِهِ، وَعَدَّدَ لَهُ أَسْمَاءَهُ، وَالشَّيْءُ إذَا عَظُمَ قَدْرُهُ عَظُمَتْ أَسْمَاؤُهُ قَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ: لِلَّهِ تَعَالَى أَلْفُ اسْمٍ، وَلِلنَّبِيِّ أَلْفُ اسْمٍ. فَأَمَّا أَسْمَاءُ اللَّهِ فَهَذَا الْعَدَدُ حَقِيرٌ فِيهَا، {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109]. وَأَمَّا أَسْمَاءُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ أُحْصِهَا إلَّا مِنْ جِهَةِ الْوُرُودِ الظَّاهِرِ لِصِيغَةِ الْأَسْمَاءِ الْبَيِّنَةِ، فَوَعَيْتُ مِنْهَا جُمْلَةً، الْحَاضِرُ الْآنَ مِنْهَا سَبْعَةٌ وَسِتُّونَ اسْمًا: أَوَّلُهَا الرَّسُولُ، الْمُرْسَلُ، النَّبِيُّ، الْأُمِّيُّ، الشَّهِيدُ، الْمُصَدِّقُ، النُّورُ، الْمُسْلِمُ، الْبَشِيرُ، الْمُبَشِّرُ، النَّذِيرُ، الْمُنْذِرُ، الْمُبَيِّنُ، الْعَبْدُ، الدَّاعِي، السِّرَاجُ، الْمُنِيرُ، الْإِمَامُ، الذِّكْرُ

الْمُذَكِّرُ، الْهَادِي، الْمُهَاجِرُ، الْعَامِلُ، الْمُبَارَكُ، الرَّحْمَةُ، الْآمِرُ، النَّاهِي، الطَّيِّبُ، الْكَرِيمُ، الْمُحَلِّلُ، الْمُحَرِّمُ، الْوَاضِعُ، الرَّافِعُ، الْمُخْبِرُ، خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، ثَانِي اثْنَيْنِ، مَنْصُورٌ، أُذُنُ خَيْرٍ، مُصْطَفًى، أَمِينٌ، مَأْمُونٌ، قَاسِمٌ، نَقِيبٌ، مُزَّمِّلٌ، مُدَّثِّرٌ، الْعَلِيُّ، الْحَكِيمُ، الْمُؤْمِنُ، الرَّءُوفُ، الرَّحِيمُ، الصَّاحِبُ، الشَّفِيعُ، الْمُشَفَّعُ، الْمُتَوَكِّلُ، مُحَمَّدٌ، أَحْمَدُ، الْمَاحِي، الْحَاشِرُ، الْمُقَفِّي، الْعَاقِبُ، نَبِيُّ التَّوْبَةِ، نَبِيُّ الرَّحْمَةِ، نَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ، عَبْدُ اللَّهِ، نَبِيُّ الْحَرَمَيْنِ، فِيمَا ذَكَرَ أَهْلُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ. وَلَهُ وَرَاءَ هَذِهِ فِيمَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ مَا لَا يُصِيبُهُ إلَّا صَمَيَانٌ. فَأَمَّا الرَّسُولُ: فَهُوَ الَّذِي تَتَابَعَ خَبَرُهُ عَنْ اللَّهِ، وَهُوَ الْمُرْسَلُ بِفَتْحِ السِّينِ، وَلَا يَقْتَضِي التَّتَابُعَ. وَهُوَ الْمُرْسِلُ: بِكَسْرِ السِّينِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعُمُّ بِالتَّبْلِيغِ مُشَافَهَةً، فَلَمْ يَكُ بُدٌّ مِنْ الرُّسُلِ يَنُوبُونَ عَنْهُ، وَيَتَلَقَّوْنَ مِنْهُ، كَمَا بَلَّغَ عَنْ رَبِّهِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَصْحَابِهِ: «تَسْمَعُونَ، وَيَسْمَعُ مِنْكُمْ، وَيَسْمَعُ مِمَّنْ يَسْمَعُ مِنْكُمْ». وَأَمَّا النَّبِيءُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَهُوَ مَهْمُوزٌ مِنْ النَّبَأِ، وَغَيْرُ مَهْمُوزٍ مِنْ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ الْمُرْتَفِعُ مِنْ الْأَرْضِ، فَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُخْبِرٌ عَنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، رَفِيعُ الْقَدْرِ عِنْدَهُ، فَاجْتَمَعَ لَهُ الْوَصْفَانِ، وَتَمَّ لَهُ الشَّرَفَانِ. وَأَمَّا الْأُمِّيُّ: فَفِيهِ أَقْوَالٌ؛ أَصَحُّهَا أَنَّهُ الَّذِي لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ، كَمَا خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]، ثُمَّ عَلَّمَهُمْ مَا شَاءَ. وَأَمَّا الشَّهِيدُ: فَهُوَ لِشَهَادَتِهِ عَلَى الْخَلْقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].

وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى أَنَّهُ تَشْهَدُ لَهُ الْمُعْجِزَةُ بِالصِّدْقِ، وَالْخَلْقُ بِظُهُورِ الْحَقِّ. وَأَمَّا الْمُصَدِّقُ: فَهُوَ بِمَا صَدَّقَ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} [آل عمران: 50]. وَأَمَّا النُّورُ: فَإِنَّمَا هُوَ نُورٌ بِمَا كَانَ فِيهِ الْخَلْقُ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ، فَنَوَّرَ اللَّهُ الْأَفْئِدَةَ بِالْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ. وَأَمَّا الْمُسْلِمُ: فَهُوَ خَيْرُهُمْ وَأَوَّلُهُمْ، كَمَا قَالَ: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 163]. وَتَقَدَّمَ فِي ذَلِكَ بِشَرَفِ انْقِيَادِهِ بِكُلِّ وَجْهٍ، وَبِكُلِّ حَالٍ إلَى اللَّهِ وَبِسَلَامَةٍ عَنْ الْجَهْلِ وَالْمَعَاصِي. وَأَمَّا الْبَشِيرُ: فَإِنَّهُ أَخْبَرَ الْخَلْقَ بِثَوَابِهِمْ إنْ أَطَاعُوا، وَبِعِقَابِهِمْ إنْ عَصَوْا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ} [التوبة: 21]. وَقَالَ تَعَالَى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] وَكَذَلِكَ الْمُبَشِّرُ. وَأَمَّا النَّذِيرُ وَالْمُنْذِرُ: فَهُوَ الْمُخْبِرُ عَمَّا يُخَافُ وَيُحْذَرُ، وَيَكُفُّ عَمَّا يَؤُولُ إلَيْهِ وَيُعْمَلُ بِمَا يُدْفَعُ فِيهِ. وَأَمَّا الْمُبَيِّنُ: فَمَا أَبَانَ عَنْ رَبِّهِ مِنْ الْوَحْيِ وَالدِّينِ، وَأَظْهَرَ مِنْ الْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ. وَأَمَّا الْأَمِينُ: فَبِأَنَّهُ حَفِظَ مَا أُوحِيَ إلَيْهِ وَمَا وُظِّفَ إلَيْهِ، وَمَنْ أَجَابَهُ إلَى أَدَاءِ مَا دَعَاهُ. وَأَمَّا الْعَبْدُ: فَإِنَّهُ ذَلَّ لِلَّهِ خُلُقًا وَعِبَادَةً، فَرَفَعَهُ اللَّهُ عِزًّا وَقَدْرًا عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، فَقَالَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ». وَأَمَّا الدَّاعِي: فَبِدُعَائِهِ الْخَلْقَ لِيَرْجِعُوا مِنْ الضَّلَالِ إلَى الْحَقِّ. وَأَمَّا السِّرَاجُ: فَبِمَعْنَى النُّورِ، إذْ أَبْصَرَ بِهِ الْخَلْقُ الرُّشْدَ. وَأَمَّا الْمُنِيرُ: فَهُوَ مُفْعِلٌ مِنْ النُّورِ.

وَأَمَّا الْإِمَامُ: فَلِاقْتِدَاءِ الْخَلْقِ بِهِ وَرُجُوعِهِمْ إلَى قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ. وَأَمَّا الذِّكْرُ: فَإِنَّهُ شَرِيفٌ فِي نَفْسِهِ، مُشَرِّفٌ غَيْرَهُ، مُخْبِرٌ عَنْ رَبِّهِ، وَاجْتَمَعَتْ لَهُ وُجُوهُ الذِّكْرِ الثَّلَاثَةُ. وَأَمَّا الْمُذَكِّرُ: فَهُوَ الَّذِي يَخْلُقُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ الذِّكْرَ، وَهُوَ الْعِلْمُ الثَّانِي فِي الْحَقِيقَةِ، وَيَنْطَلِقُ عَلَى الْأَوَّلِ أَيْضًا، وَلَقَدْ اعْتَرَفَ الْخَلْقُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ الرَّبُّ، ثُمَّ ذَهَلُوا، فَذَكَّرَهُمْ اللَّهُ بِأَنْبِيَائِهِ، وَخَتَمَ الذِّكْرَ بِأَفْضَلِ أَصْفِيَائِهِ، وَقَالَ: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية: 21] {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية: 22]. ثُمَّ مَكَّنَهُ مِنْ السَّيْطَرَةِ، وَآتَاهُ السَّلْطَنَةَ، وَمَكَّنَ لَهُ دِينَهُ فِي الْأَرْضِ. وَأَمَّا الْهَادِي: فَإِنَّهُ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِهِ النَّجْدَيْنِ. وَأَمَّا الْمُهَاجِرُ: فَهَذِهِ الصِّفَةُ لَهُ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَهَجَرَ أَهْلَهُ وَوَطَنَهُ، وَهَجَرَ الْخَلْقَ؛ أُنْسًا بِاَللَّهِ وَطَاعَتِهِ، فَخَلَا عَنْهُمْ، وَاعْتَزَلَهُمْ، وَاعْتَزَلَ مِنْهُمْ. وَأَمَّا الْعَامِلُ: فَلِأَنَّهُ قَامَ بِطَاعَةِ رَبِّهِ، وَوَافَقَ فِعْلُهُ وَاعْتِقَادُهُ. وَأَمَّا الْمُبَارَكُ: فَبِمَا جَعَلَ اللَّهُ فِي حَالِهِ مِنْ نَمَاءِ الثَّوَابِ، وَفِي حَالِ أَصْحَابِهِ مِنْ فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، وَفِي أُمَّتِهِ مِنْ زِيَادَةِ الْعَدَدِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ. وَأَمَّا الرَّحْمَةُ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] فَرَحِمَهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْعَذَابِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِتَعْجِيلِ الْحِسَابِ، وَتَضْعِيفِ الثَّوَابِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]. وَأَمَّا الْآمِرُ وَالنَّاهِي: فَذَلِكَ الْوَصْفُ فِي الْحَقِيقَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْوَاسِطَةَ أُضِيفَ إلَيْهِ؛ إذْ هُوَ الَّذِي يُشَاهَدُ آمِرًا نَاهِيًا، وَيُعْلَمُ بِالدَّلِيلِ أَنَّ ذَلِكَ وَاسِطَةٌ، وَنَقْلٌ عَنْ الَّذِي لَهُ ذَلِكَ الْوَصْفُ حَقِيقَةً.

وَأَمَّا الطَّيِّبُ فَلَا أَطْيَبَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ سَلِمَ عَنْ خَبَثِ الْقَلْبِ حِينَ رُمِيَتْ مِنْهُ الْعَلَقَةُ السَّوْدَاءُ. وَسَلِمَ عَنْ خَبَثِ الْقَوْلِ، فَهُوَ الصَّادِقُ الْمُصَدِّقُ. وَسَلِمَ عَنْ خَبَثِ الْفِعْلِ، فَهُوَ كُلُّهُ طَاعَةٌ. وَأَمَّا الْكَرِيمُ: فَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْكَرَمِ، وَهُوَ لَهُ عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ. وَأَمَّا الْمُحَلِّلُ وَالْمُحَرِّمُ: فَذَلِكَ مُبَيِّنُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَذَلِكَ بِالْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، كَمَا تَقَدَّمَ، وَالنَّبِيُّ مُتَوَلِّي ذَلِكَ بِالْوَسَاطَةِ وَالرِّسَالَةِ. وَأَمَّا الْوَاضِعُ وَالرَّافِعُ: فَهُوَ الَّذِي وَضَعَ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا، بِبَيَانِهِ، وَرَفَعَ قَوْمًا، وَوَضَعَ آخَرِينَ، وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّاعِرُ يَوْمَ حُنَيْنٍ حِينَ فُضِّلَ عَلَيْهِ بِالْعَطَاءِ غَيْرُهُ: أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعَبِيدِ ... بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ وَمَا كَانَ بَدْرٌ وَلَا حَابِسٌ ... يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي مَجْمَعِ وَمَا كُنْت دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا ... وَمَنْ تَضَعُ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعْ فَأَلْحَقَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعَطَاءِ بِمَنْ فَضَّلَ عَنْهُ. وَأَمَّا الْمُخْبِرُ: فَهُوَ النَّبِيءُ مَهْمُوزًا. وَأَمَّا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ: فَهُوَ آخِرُهُمْ: وَهِيَ عِبَارَةٌ مَلِيحَةٌ شَرِيفَةٌ، تَشْرِيفًا فِي الْإِخْبَارِ بِالْمَجَازِ عَنْ الْآخِرِيَّةِ؛ إذْ الْخَتْمُ آخِرُ الْكِتَابِ، وَذَلِكَ بِمَا فُضِّلَ بِهِ، فَشَرِيعَتُهُ بَاقِيَةٌ وَفَضِيلَتُهُ دَائِمَةٌ إلَى يَوْمِ الدِّينِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ثَانِيَ اثْنَيْنِ فَاقْتِرَانُهُ فِي الْخَبَرِ بِاَللَّهِ. وَأَمَّا مَنْصُورٌ: فَهُوَ الْمُعَانُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ بِالْعِزَّةِ وَالظُّهُورِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَهَذَا عَامٌّ فِي الرُّسُلِ، وَلَهُ أَكْثَرُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ - إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} [الصافات: 171 - 172] {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 173]. وَقَالَ لَهُ: اُغْزُهُمْ نَمُدَّك، وَقَاتِلْهُمْ نَعُدُّك، وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثْ عَشْرَةَ أَمْثَالِهِ.

وَأَمَّا أُذُنُ خَيْرٍ: فَهُوَ بِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ فَضِيلَةِ الْإِدْرَاكِ لِقِيلِ الْأَصْوَاتِ لَا يَعِي مِنْ ذَلِكَ إلَّا خَيْرًا، وَلَا يَسْمَعُ إلَّا أَحْسَنَهُ. وَأَمَّا الْمُصْطَفَى: فَهُوَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ صَفْوَةُ الْخَلْقِ، كَمَا رَوَاهُ عَنْهُ وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إبْرَاهِيمَ إسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ بَنِي كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ». وَأَمَّا الْأَمِينُ: فَهُوَ الَّذِي تُلْقَى إلَيْهِ مَقَالِيدُ الْمَعَانِي ثِقَةً بِقِيَامِهِ عَلَيْهَا وَحِفْظًا مِنْهُ. وَأَمَّا الْمَأْمُونُ: فَهُوَ الَّذِي لَا يُخَافُ مِنْ جِهَتِهِ شَرٌّ. وَأَمَّا قَاسِمٌ: فَبِمَا مَيَّزَهُ بِهِ مِنْ حُقُوقِ الْخَلْقِ فِي الزَّكَوَاتِ وَالْأَخْمَاسِ وَسَائِرِ الْأَمْوَالِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُ يُعْطِي، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ». وَأَمَّا نَقِيبٌ: فَإِنَّهُ فَخَرَ بِالْأَنْصَارِ عَلَى سَائِرِ الْأَصْحَابِ مِنْ الصَّحَابَةِ، بِأَنْ قَالَ لَهَا: «أَنَا نَقِيبُكُمْ». إذْ كُلُّ طَائِفَةٍ لَهَا نَقِيبٌ يَتَوَلَّى أُمُورَهَا، وَيَحْفَظُ أَخْبَارَهَا، وَيَجْمَعُ نَشْرَهَا، «وَالْتَزَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ لِلْأَنْصَارِ»، تَشْرِيفًا لَهُمْ. وَأَمَّا كَوْنُهُ مُرْسَلًا فَبِبَعْثِهِ الرُّسُلَ بِالشَّرَائِعِ إلَى النَّاسِ فِي الْآفَاقِ مِمَّنْ نَأَى عَنْهُ. وَأَمَّا الْعَلِيُّ: فَبِمَا رَفَعَ اللَّهُ مِنْ مَكَانِهِ وَشَرَّفَ مِنْ شَأْنِهِ، وَأَوْضَحَ عَلَى الدَّعَاوَى مِنْ بُرْهَانِهِ. وَأَمَّا الْحَكِيمُ: فَإِنَّهُ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ، وَأَدَّى عَنْ رَبِّهِ قَانُونَ الْمَعْرِفَةِ وَالْعَمَلِ. وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ: فَهُوَ الْمُصَدِّقُ لِرَبِّهِ، الْعَامِلُ اعْتِقَادًا وَفِعْلًا بِمَا أَوْجَبَ الْأَمْنَ لَهُ. وَأَمَّا الْمُصَدِّقُ: فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، فَإِنَّهُ صَدَّقَ رَبَّهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى، وَصَدَّقَ قَوْلَهُ بِفِعْلِهِ، فَتَمَّ لَهُ الْوَصْفُ عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنْ ذَلِكَ.

وَأَمَّا الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ: فَبِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ الشَّفَقَةِ عَلَى النَّاسِ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ». وَقَالَ كَمَا قَالَ مَنْ قَبْلَهُ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ". وَأَمَّا الصَّاحِبُ: فَبِمَا كَانَ مَعَ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وَعَظِيمِ الْوَفَاءِ، وَالْمُرُوءَةِ وَالْبِرِّ وَالْكَرَامَةِ. وَأَمَّا الشَّفِيعُ الْمُشَفَّعُ: فَإِنَّهُ يَرْغَبُ إلَى اللَّهِ فِي أَمْرِ الْخَلْقِ بِتَعْجِيلِ الْحِسَابِ، وَإِسْقَاطِ الْعَذَابِ وَتَخْفِيفِهِ، فَيَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَيُخَصُّ بِهِ دُونَ الْخَلْقِ، وَيُكَرَّمُ بِسَبَبِهِ غَايَةَ الْكَرَامَةِ. وَأَمَّا الْمُتَوَكِّلُ: فَهُوَ الْمُلْقِي مَقَالِيدَ الْأُمُورِ إلَى اللَّهِ عِلْمًا، كَمَا قَالَ: «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك»، وَعَمَلًا، كَمَا قَالَ: «إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي، أَوْ إلَى عَدُوٍّ مَلَّكْته أَمْرِي»؟ وَأَمَّا الْمُقَفَّى: فِي التَّفْسِيرِ فَكَالْعَابِدِ. وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ: لِأَنَّهُ تَابَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِهِ بِالْقَوْلِ وَالِاعْتِقَادِ دُونَ تَكْلِيفِ قَتْلٍ أَوْ إصْرٍ. وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ: تَقَدَّمَ فِي اسْمِ الرَّحِيمِ. وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ: لِأَنَّهُ الْمَبْعُوثُ بِحَرْبِ الْأَعْدَاءِ وَالنَّصْرِ عَلَيْهِمْ، حَتَّى يَعُودُوا جَزْرًا عَلَى وَضَمٍ وَلَحْمًا عَلَى وَضَمٍ.

الآية الرابعة عشر قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن

[الْآيَة الرَّابِعَة عَشْر قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ] [مَسْأَلَة لَا عِدَّةَ عَلَى مُطَلَّقَةٍ قَبْلَ الدُّخُولِ] الْآيَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 49]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَى مُطَلَّقَةٍ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَهُوَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَإِذَا دَخَلَ بِهَا فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ إجْمَاعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق: 1] إلَى قَوْله تَعَالَى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]، وَهِيَ الرَّجْعَةُ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي آيَتِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَة الدُّخُولُ بِالْمَرْأَةِ وَعَدَمُ الدُّخُولِ بِهَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الدُّخُولُ بِالْمَرْأَةِ وَعَدَمُ الدُّخُولِ بِهَا إنَّمَا يُعْرَفُ مُشَاهَدَةً بِإِغْلَاقِ الْأَبْوَابِ عَلَى خَلْوَةٍ، أَوْ بِإِقْرَارِ الزَّوْجَيْنِ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دُخُولٌ وَقَالَتْ الزَّوْجَةُ: وَطِئَنِي، وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ، حَلَفَ وَلَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ، وَسَقَطَ عَنْهُ نِصْفُ الْمَهْرِ. وَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ: وَطِئْتهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ كُلُّهُ، وَلَمْ تَكُنْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ. وَإِنْ كَانَ دُخُولٌ فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: لَمْ يَطَأْنِي لَمْ تُصَدَّقْ فِي الْعِدَّةِ، وَلَا حَقَّ لَهَا فِي الْمَهْرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْخَلْوَةِ، هَلْ تُقَرِّرُ الْمَهْرَ؟ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. فَإِنْ قَالَ: وَطِئْتهَا، وَأَنْكَرَتْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَأُخِذَ مِنْهُ الصَّدَاقُ، وَوَقَفَ حَتَّى يَفِيءَ أَوْ يَطُولَ الْمَدَى، فَيُرَدُّ إلَى صَاحِبِهِ أَوْ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي فُرُوعِ الْفِقْهِ بِخِلَافِهِ وَأَدِلَّتِهِ

الآية الخامسة عشرة قوله تعالى يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: {وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِهِ وَأَدِلَّتِهِ، وَفِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ بِفُرُوعِهِ. [الْآيَة الْخَامِسَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُك] َ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 50] فِيهَا ثَمَانٍ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ «قَالَتْ: خَطَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاعْتَذَرْت إلَيْهِ، فَعَذَرَنِي، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50] [قَالَتْ: فَلَمْ أَكُنْ أَحِلُّ لَهُ؛ لِأَنِّي لَمْ أُهَاجِرْ، كُنْت مِنْ الطُّلَقَاءِ»] قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ [حَسَنٌ صَحِيحٌ] لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ السُّدِّيِّ. قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَلَمْ يَأْتِ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ يُحْتَجُّ فِي مَوَاضِعِهِ بِهَا.

مسألة معنى الزوجية في حق النبي

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأحزاب: 50] قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أَحْلَلْنَا لَكَ} [الأحزاب: 50] وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِ الْإِحْلَالِ وَالتَّحْرِيمِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَغَيْرِهَا. [مَسْأَلَة مَعْنَى الزَّوْجِيَّةِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب: 50] وَالنِّكَاحُ وَالزَّوْجِيَّةُ مَعْرُوفَةٌ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الزَّوْجِيَّةِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ هَلْ هُنَّ كَالسَّرَائِرِ عِنْدَنَا، أَوْ حُكْمُهُنَّ حُكْمُ الْأَزْوَاجِ الْمُطَلَّقَةِ؟ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: فِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ؛ وَسَنُبَيِّنُهُ فِي قَوْلِهِ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} [الأحزاب: 51] وَالصَّحِيحُ أَنَّ لَهُنَّ حُكْمَ الْأَزْوَاجِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَهَلْ الْمُرَادُ بِذَلِكَ كُلُّ زَوْجَةٍ أَمْ مَنْ تَحْتَهُ مِنْهُنَّ؟ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ: قِيلَ: إنَّ الْمَعْنَى أَحْلَلْنَا أَزْوَاجَك اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ أَيْ كُلَّ زَوْجَةٍ آتَيْتهَا مَهْرَهَا، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ عُمُومًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأُمَّتِهِ. الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك الْكَائِنَاتِ عِنْدَك، وَهُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {آتَيْتَ} [الأحزاب: 50] خَبَرٌ عَنْ أَمْرٍ مَاضٍ؛ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ بِظَاهِرِهِ، وَلَا يَكُونُ الْفِعْلُ الْمَاضِي بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ إلَّا بِشُرُوطٍ لَيْسَتْ هَاهُنَا، يَطُولُ الْكِتَابُ بِذِكْرِهَا، وَلَيْسَتْ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ. «وَقَدْ عَقَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عِدَّةٍ مِنْ النِّسَاءِ نِكَاحَهُ»، فَذَكَرْنَا عِدَّتَهُنَّ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا هَاهُنَا وَفِي غَيْرِهِ؛ وَهُنَّ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَعَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ

مسألة أزواج النبي على ثلاثة أقسام

وَسَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، وَحَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ، وَأَمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ، فَهَؤُلَاءِ سِتُّ قُرَشِيَّاتٍ. وَزَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ الْعَامِرِيَّةُ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّةُ أَسَدُ خُزَيْمَةَ، وَمَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ، وَصَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ الْهَارُونِيَّةُ، وَجُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْمُصْطَلِقِيَّةُ، وَمَاتَ عَنْ تِسْعٍ، وَسَائِرُهُنَّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ مَذْكُورَاتٌ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أَحَلَّ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْأَزْوَاجَ اللَّاتِي كُنَّ مَعَهُ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَأَمَّا إحْلَالُ غَيْرِهِنَّ فَلَا؛ لِقَوْلِهِ: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52]، وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ الْآيَةَ نَصٌّ فِي إحْلَالِ غَيْرِهِنَّ مِنْ بَنَاتِ الْعَمِّ وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالِ وَالْخَالَاتِ، وَقَوْلُهُ: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَة أَزْوَاجُ النَّبِيِّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب: 50] يَعْنِي اللَّوَاتِي تَزَوَّجْت بِصَدَاقٍ، وَكَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مِنْهُنَّ مَنْ ذَكَرَ لَهَا صَدَاقًا، وَمِنْهُنَّ مَنْ كَانَ ذَكَرَ لَهَا الصَّدَاقَ بَعْدَ النِّكَاحِ، كَزَيْنَبِ بِنْتِ جَحْشٍ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْأَقْوَالِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ نِكَاحَهَا مِنْ السَّمَاءِ، وَكَانَ فَرْضُ الصَّدَاقِ بَعْدَ ذَلِكَ لَهَا، وَمِنْهُنَّ مَنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا وَحَلَّتْ لَهُ؛ وَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَة حِلُّ السَّرَارِي لِلنَّبِيِّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} [الأحزاب: 50] يَعْنِي السَّرَارِيَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ السَّرَارِي لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأُمَّتِهِ بِغَيْرِ عَدَدٍ، وَأَحَلَّ الْأَزْوَاجَ لِنَبِيِّهِ مُطْلَقًا، وَأَحَلَّهُنَّ لِلْخَلْقِ بِعَدَدٍ؛ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ رُوِيَ عَمَّنْ كَانَ قَبْلَهُ فِي أَحَادِيثِهِمْ أَنَّ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَتْ لَهُ مِائَةُ امْرَأَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَكَانَ لِسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ثَلَثُمِائَةِ حُرَّةٍ وَسَبْعُمِائَةِ سُرِّيَّةٍ، وَالْحَقُّ مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ سُلَيْمَانَ قَالَ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً كُلُّ امْرَأَةٍ تَلِدُ

مسألة معنى قوله تعالى مما أفاء الله عليك

غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَنَسِيَ أَنْ يَقُولَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ». [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْك] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} [الأحزاب: 50] وَالْمُرَادُ بِهِ الْفَيْءُ الْمَأْخُوذُ عَلَى وَجْهِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَطَأُ مِنْ مَلْكِ يَمِينِهِ، بِأَشْرَفِ وُجُوهِ الْكَسْبِ، وَأَعْلَى أَنْوَاعِ الْمِلْكِ، وَهُوَ الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ، لَا مِنْ الصَّفْقِ بِالْأَسْوَاقِ. وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «جُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي». [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَبَنَاتِ عَمِّك وَبَنَاتِ عَمَّاتِك] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} [الأحزاب: 50] الْمَعْنَى أَحْلَلْنَا لَك ذَلِكَ زَائِدًا إلَى مَا عِنْدَك مِنْ الْأَزْوَاجِ اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ؛ قَالَهُ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ. فَأَمَّا مَنْ عَدَاهُنَّ مِنْ الصِّنْفَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمَاتِ فَلَا ذِكْرَ لِإِحْلَالِهِنَّ هَاهُنَا؛ بَلْ هَذَا الْقَوْلُ بِظَاهِرِهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ غَيْرُ هَذَا؛ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك اللَّاتِي عِنْدَك؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَحْلَلْنَا لَك كُلَّ امْرَأَةٍ تَزَوَّجْت وَآتَيْت أَجْرَهَا لِمَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَبَنَاتِ عَمِّك وَبَنَاتِ عَمَّاتِك؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِيمَا تَقَدَّمَ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا كَرَّرَهُ لِأَجْلِ شَرْطِ الْهِجْرَةِ فَإِنَّهُ قَالَ: اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك. قُلْنَا: وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَا يَصِحُّ هَذَا مَعَ هَذَا الْقَوْلِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْهِجْرَةِ لَوْ كَانَ كَمَا قُلْتُمْ لَكَانَ شَرْطًا فِي كُلِّ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا. فَأَمَّا أَنْ يَجْعَلَ شَرْطًا فِي الْقَرَابَةِ الْمَذْكُورَةِ فَلَا يَتَزَوَّجُ مِنْهُنَّ إلَّا مَنْ هَاجَرَ وَلَا يَكُونُ شَرْطًا فِي سَائِرِ النِّسَاءِ، فَيَتَزَوَّجُ مِنْهُنَّ مَنْ هَاجَرَ وَمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ، فَهَذَا كَلَامٌ رَكِيكٌ مِنْ قَائِلِهِ بَيِّنٌ خَطَؤُهُ لِمُتَأَمِّلِهِ، حَسْبَمَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ، مِنْ أَنَّ الْهِجْرَةَ لَوْ كَانَتْ شَرْطًا فِي كُلِّ زَوْجَةٍ لَمَا كَانَ لِذِكْرِ الْقَرَابَةِ فَائِدَةٌ بِحَالٍ.

مسألة معنى قوله تعالى اللاتي هاجرن معك

[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} [الأحزاب: 50] وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَنْكِحَ مِنْ بَنَاتِ عَمِّك وَبَنَاتِ عَمَّاتِك إلَّا مَنْ أَسْلَمَ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ». الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى لَا يَحِلُّ لَك مِنْهُنَّ إلَّا مَنْ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ لَيْسَ مِنْ أَوْلِيَائِك لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]. وَمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ لَمْ يَكْمُلْ، وَمَنْ لَمْ يَكْمُلْ لَمْ يَصْلُحْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي كَمُلَ وَشَرُفَ وَعَظُمَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ مَخْصُوصَةٌ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَتْ بِعَامَّةٍ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ تَخْتَصُّ بِهِ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي أُمِّ هَانِئٍ بِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ هَاجَرَتْ، فَمُنِعَ مِنْهَا لِنَقْصِهَا بِالْهِجْرَةِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {هَاجَرْنَ} [الأحزاب: 50] خَرَجْنَ إلَى الْمَدِينَةِ، وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْهِجْرَةَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ هِيَ الْخُرُوجُ مِنْ بَلَدِ الْكُفْرِ إلَى دَارِ الْإِيمَانِ، وَالْأَسْمَاءُ إنَّمَا تُحْمَلُ عَلَى عُرْفِهَا، وَالْهِجْرَةُ فِي الشَّرِيعَةِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ تَحْتَاجَ إلَى بَيَانٍ، أَوْ تَخْتَصَّ بِدَلِيلٍ؛ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لِمَنْ ادَّعَى غَيْرَهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {مَعَكَ} [الأحزاب: 50] صُحْبَتِهِ إذْ هَاجَرَ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ يُقَالُ: دَخَلَ فُلَانٌ مَعِي، أَيْ فِي صُحْبَتِي، فَكُنَّا مَعًا، وَتَقُولُ: دَخَلَ فُلَانٌ مَعِي وَخَرَجَ مَعِي، أَيْ كَانَ عَمَلُهُ كَعَمَلِي، وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ فِيهِ عَمَلُكُمَا

مسألة معنى قوله تعالى وبنات عمك

وَلَوْ قُلْت: خَرَجْنَا مَعًا لَاقْتَضَى ذَلِكَ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا: الْمُشَارَكَةُ فِي الْفِعْلِ، وَالِاقْتِرَانُ فِيهِ؛ فَصَارَ قَوْلُك: " مَعِي " لِلْمُشَارَكَةِ، وَقَوْلُك: " مَعًا " لِلْمُشَارَكَةِ وَالِاقْتِرَانِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى وَبَنَاتِ عَمِّك] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ} [الأحزاب: 50] فَذَكَرَهُ مُفْرَدًا. وَقَالَ: {وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ} [الأحزاب: 50] فَذَكَرَهُنَّ جَمِيعًا. وَكَذَلِكَ قَالَ: وَبَنَاتِ خَالِك فَرْدًا وَبَنَاتِ خَالَاتِك جَمْعًا. وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعَمَّ وَالْخَالَ فِي الْإِطْلَاقِ اسْمُ جِنْسٍ كَالشَّاعِرِ وَالرَّاجِزِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ. وَهَذَا عُرْفٌ لُغَوِيٌّ؛ فَجَاءَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ بِغَايَةِ الْبَيَانِ لِرَفْعِ الْإِشْكَالِ؛ وَهَذَا دَقِيقٌ فَتَأَمَّلُوهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: فِي فَائِدَةِ الْآيَةِ وَلِأَجْلِ مَا سِيقَتْ لَهُ: وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ: الْأُولَى: نَسْخُ الْحُكْمِ الَّذِي كَانَ اللَّهُ قَدْ أَلْزَمَهُ بِقَوْلِهِ: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَدْ أَحَلَّ لَهُ أَزْوَاجَهُ اللَّوَاتِي عِنْدَهُ، وَغَيْرَهُنَّ مِمَّنْ سَمَّاهُ مَعَهُنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. الثَّانِيَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمَهُ أَنَّ الْإِبَاحَةَ لَيْسَتْ مُطْلَقَةً فِي جُمْلَةِ النِّسَاءِ؛ وَإِنَّمَا هِيَ فِي الْمُعَيَّنَاتِ الْمَذْكُورَاتِ مِنْ بَنَاتِ الْعَمِّ وَالْعَمَّاتِ، وَبَنَاتِ الْخَالِ وَالْخَالَاتِ الْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُهَاجِرَاتِ وَالْمُؤْمِنَاتِ. الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ إنَّمَا أَبَاحَ لَهُ نِكَاحَ الْمُسْلِمَةِ؛ فَأَمَّا الْكَافِرَةُ فَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَيْهَا عَلَى مَا يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ لَمْ يُبِحْ لَهُ نِكَاحَ الْإِمَاءِ أَيْضًا صِيَانَةً لَهُ، وَتَكْرِمَةً لِقَدْرِهِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ قَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50] وَقَدْ بَيَّنَّا سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ وَغَيْرِهَا: «أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى

النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَقَفَتْ عَلَيْهِ، وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنِّي وَهَبْت لَك نَفْسِي. الْحَدِيثُ إلَى آخِرِهِ». وَوَرَدَ فِي ذَلِكَ لِلْمُفَسِّرِينَ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: نَزَلَتْ فِي مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، خَطَبَهَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَجَعَلَتْ أَمْرَهَا إلَى الْعَبَّاسِ عَمِّهِ. وَقِيلَ: وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَهُ؛ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَقَتَادَةُ. الثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أُمِّ شَرِيكٍ الْأَزْدِيَّةِ، وَقِيلَ الْعَامِرِيَّةِ، وَاسْمُهَا غَزِيَّةُ؛ قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَعُرْوَةُ، وَالشَّعْبِيُّ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ أُمُّ الْمَسَاكِينِ. الرَّابِعُ: أَنَّهَا أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ. الْخَامِسُ: أَنَّهَا خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ السُّلَمِيَّةُ. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَمَّا سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَلَمْ يَرِدْ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ، وَإِنَّمَا هَذِهِ الْأَقْوَالُ وَارِدَةٌ بِطُرُقٍ مِنْ غَيْرِ خُطُمٍ وَلَا أَزِمَّةٍ، بِيدَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُمَا قَالَا: لَمْ يَكُنْ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةٌ مَوْهُوبَةٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ فِي مَجِيءِ الْمَرْأَةِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوُقُوفِهَا عَلَيْهِ، وَهِبَتِهَا نَفْسَهَا لَهُ مِنْ طَرِيقٍ سَهْلٍ وَغَيْرِهِ فِي الصِّحَاحِ، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي ثَبَتَ سَنَدُهُ، وَصَحَّ نَقْلُهُ. وَاَلَّذِي يَتَحَقَّقُ أَنَّهَا لَمَّا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَهَبْت نَفْسِي لَك؛ فَسَكَتَ عَنْهَا، حَتَّى قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: زَوِّجْنِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ لَمْ تَكُنْ لَك بِهَا حَاجَةٌ. وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْهِبَةُ غَيْرَ جَائِزَةٍ لَمَا سَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى الْبَاطِلِ إذَا سَمِعَهُ، حَسْبَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ قَدْ كَانَتْ بِالْإِحْلَالِ

مسألة تحريم الحرة الكافرة

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَكَتَ مُنْتَظِرًا بَيَانًا؛ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّخْيِيرِ؛ فَاخْتَارَ تَرْكَهَا وَزَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَكَتَ نَاظِرًا فِي ذَلِكَ حَتَّى قَامَ الرَّجُلُ لَهَا طَالِبًا. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْت أَغَارُ مِنْ اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَالَتْ: أَمَا تَسْتَحِي امْرَأَةٌ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51] فَقُلْت: مَا أَرَى رَبَّك إلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاك. فَاقْتَضَى هَذَا اللَّفْظُ أَنَّ مَنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ عِدَّةٌ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا أَنَّهُ تَزَوَّجَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً أَمْ لَا. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {وَامْرَأَةً} [الأحزاب: 50] الْمَعْنَى أَحْلَلْنَا لَك امْرَأَةً تَهَبُ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ صَدَاقٍ فَإِنَّهُ أَحَلَّ لَهُ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا أَزْوَاجَهُ اللَّاتِي آتَى أُجُورَهُنَّ. وَهَذَا مَعْنًى يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ؛ فَزَادَهُ فَضْلًا عَلَى أُمَّتِهِ أَنْ أَحَلَّ لَهُ الْمَوْهُوبَةَ، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ غَيْرِهِ. [مَسْأَلَة تَحْرِيمِ الْحُرَّةِ الْكَافِرَةِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {مُؤْمِنَةً} [الأحزاب: 50] وَهَذَا تَقْيِيدٌ مِنْ طَرِيقِ التَّخْصِيصِ بِالتَّعْلِيلِ وَالتَّشْرِيفِ، لَا مِنْ طَرِيقِ دَلِيلِ الْخِطَابِ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَفِي هَذَا الْكِتَابِ فِي أَمْثَالِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْكَافِرَةَ لَا تَحِلُّ لَهُ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَحْرِيمِ الْحُرَّةِ الْكَافِرَةِ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالصَّحِيحُ عِنْدِي تَحْرِيمُهَا عَلَيْهِ، وَبِهَذَا يَتَمَيَّزُ عَلَيْنَا فَإِنَّهُ مَا كَانَ مِنْ جَانِبِ الْفَضَائِلِ وَالْكَرَامَةِ فَحَظُّهُ فِيهِ أَكْثَرُ، وَمَا كَانَ مِنْ جَانِبِ النَّقَائِصِ فَجَانِبُهُ عَنْهَا أَظْهَرُ، فَجَوَّزَ لَنَا نِكَاحَ الْحَرَائِرِ مِنْ الْكِتَابِيَّاتِ، وَقُصِرَ هُوَ لِجَلَالَتِهِ عَلَى الْمُؤْمِنَاتِ، وَإِذَا كَانَ لَا يَحِلُّ لَهُ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ لِنُقْصَانِ فَضْلِ الْهِجْرَةِ فَأَحْرَى أَلَّا تَحِلَّ لَهُ الْكِتَابِيَّةُ الْحُرَّةُ لِنُقْصَانِ الْكُفْرِ.

مسألة قراءة قوله تعالى إن وهبت

[مَسْأَلَة قِرَاءَة قَوْلُهُ تَعَالَى إنْ وَهَبَتْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {إِنْ وَهَبَتْ} [الأحزاب: 50]: قُرِئَتْ بِالْفَتْحِ فِي الْأَلِفِ وَكَسْرِهَا، وَقَرَأَتْ الْجَمَاعَةُ فِيهَا بِالْكَسْرِ، عَلَى مَعْنَى الشَّرْطِ. تَقْدِيرُهُ وَأَحْلَلْنَا لَك امْرَأَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَك، لَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ سِوَى ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ إنْ مَحْذُوفًا، وَتَقْدِيرُهُ إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ حَلَّتْ لَهُ وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى وَالْعَرَبِيَّةِ، وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَيُعْزَى إلَى الْحَسَنِ أَنَّهُ قَرَأَهَا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً وَاحِدَةً حَلَّتْ لَهُ، لِأَجْلِ أَنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ، وَهِيَ لَا تَجُوزُ تِلَاوَةً، وَلَا تُوجِبُ حُكْمًا. الثَّانِي: أَنْ تُوجِبَ أَنْ يَكُونَ إحْلَالًا لِأَجْلِ هِبَتِهَا لِنَفْسِهَا، وَهَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّهَا حَلَالٌ لَهُ قَبْلَ الْهِبَةِ بِالصَّدَاقِ. وَقَدْ نُسِبَ لِابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُسْقِطُ فِي قِرَاءَتِهِ " أَنْ " فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَإِنَّمَا كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُبَيِّنَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَوْهُوبَةِ ثَابِتٌ قَبْلَ الْهِبَةِ، وَسُقُوطُ الصَّدَاقِ مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهِ: {خَالِصَةً لَكَ} [الأحزاب: 50] لَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْطِ. وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ هَذَا الشَّرْطِ وَأَمْثَالِهِ فِي سُورَةِ النُّورِ. [مَسْأَلَةُ النِّكَاحَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {وَهَبَتْ نَفْسَهَا} [الأحزاب: 50] وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، وَلَكِنَّهُ عَلَى صِفَاتٍ مَخْصُوصَةٍ مِنْ جُمْلَةِ الْمُعَاوَضَاتِ وَإِجَارَةٌ مُبَايِنَةٌ لِلْإِجَارَاتِ، وَلِهَذَا سُمِّيَ الصَّدَاقُ أُجْرَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، فَأَبَاحَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ الصَّدَاقِ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. [مَسْأَلَةُ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى إِن أَرَادَ النَّبِيّ أَنْ يَسْتَنْكِحهَا] الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ: قَوْلُهُ: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} [الأحزاب: 50] مَعْنَاهُ أَنَّهَا إذَا وَهَبَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُخَيَّرٌ بَعْدَ

مسألة النكاح بغير صداق

ذَلِكَ إنْ شَاءَ نَكَحَهَا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا؛ وَإِنَّمَا بَيَّنَ ذَلِكَ، وَجَعَلَهُ قُرْآنًا يُتْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ؛ لِأَنَّ مِنْ مَكَارِمِ أَخْلَاقِ نَبِيِّنَا أَنْ يَقْبَلَ مِنْ الْوَاهِبِ هِبَتَهُ، وَيَرَى الْأَكَارِمُ أَنَّ رَدَّهَا هُجْنَةٌ فِي الْعَادَةِ، وَوَصْمَةٌ عَلَى الْوَاهِبِ، وَإِذَايَةٌ لِقَلْبِهِ؛ فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ فِي حَقِّ رَسُولِهِ لِرَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُ، وَلِيُبْطِلَ ظَنَّ النَّاسِ فِي عَادَتِهِمْ وَقَوْلِهِمْ. [مَسْأَلَةُ النِّكَاح بِغَيْرِ صَدَاق] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْلُهُ: {خَالِصَةً لَكَ} [الأحزاب: 50] وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: خَالِصَةً لَك: إذَا وَهَبَتْ لَك نَفْسَهَا أَنْ تَنْكِحَهَا بِغَيْرِ صَدَاقٍ وَلَا وَلِيٍّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَدْ أَنْفَذَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ نِكَاحَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فِي السَّمَاءِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ مِنْ الْخَلْقِ، وَلَا بَذْلِ صَدَاقٍ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَلِكَ بِحُكْمِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ وَمَالِك الْعَالَمِينَ. الثَّانِي: نِكَاحُهُ بِغَيْرِ صَدَاقٍ؛ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ. الثَّالِثُ: أَنَّ عَقْدَ نِكَاحِهَا بِلَفْظِ الْهِبَةِ خَالِصًا لَك، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِك [مِنْ الْمُؤْمِنِينَ]؛ قَالَهُ الشَّعْبِيُّ. قَالَ الْقَاضِي: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي رَاجِعَانِ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، إلَّا أَنَّ الْقَوْلَ الثَّانِي أَصَحُّ مِنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الصَّدَاقِ مَذْكُورٌ فِي الْآيَةِ، وَلِذَلِكَ جَاءَتْ وَهُوَ قَوْلُهُ: {إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50] فَأَمَّا سُقُوطُ الْوَلِيِّ فَلَيْسَ لَهُ فِيهَا ذِكْرٌ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ لِلْوَلِيِّ النِّكَاحَ؛ وَإِنَّمَا شُرِعَ لِقِلَّةِ الثِّقَةِ بِالْمَرْأَةِ فِي اخْتِيَارِ أَعْيَانِ الْأَزْوَاجِ، وَخَوْفِ غَلَبَةِ الشَّهْوَةِ فِي نِكَاحِ غَيْرِ الْكُفْءِ، وَإِلْحَاقِ الْعَارِ بِالْأَوْلِيَاءِ، وَهَذَا مَعْدُومٌ فِي حَقِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [مَسْأَلَة خَصَّصَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ بِمَعَانٍ لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهَا أَحَدٌ] وَقَدْ خَصَّصَ اللَّهُ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ بِمَعَانٍ لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهَا أَحَدٌ فِي بَابِ الْفَرْضِ وَالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ، مَزِيَّةً عَلَى الْأُمَّةِ، وَهَيْبَةً لَهُ، وَمَرْتَبَةً خُصَّ بِهَا؛ فَفُرِضَتْ عَلَيْهِ أَشْيَاءُ، وَمَا فُرِضَتْ عَلَى غَيْرِهِ، وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ أَشْيَاءُ وَأَفْعَالٌ لَمْ تُحَرَّمْ عَلَيْهِمْ؛ وَحُلِّلَتْ

لَهُ أَشْيَاءُ لَمْ تُحَلَّلْ لَهُمْ، مِنْهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَمِنْهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، أَفَادَنِيهَا الشَّهِيدُ الْأَكْبَرُ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْدَ أَنَّا نُشِيرُ هَاهُنَا إلَى جُمْلَةِ الْأَمْرِ لِمَكَانِ الْفَائِدَةِ فِيهِ، وَتَعَلُّقِ الْمَعْنَى فِيهِ إشَارَةً مُوجِزَةً، تَبِينُ لِلَّبِيبِ وَتُبْصِرُ الْمُرِيبَ، فَنَقُولُ: أَمَّا قِسْمُ الْفَرِيضَةِ فَجُمْلَتُهُ تِسْعَةٌ: الْأَوَّلُ: التَّهَجُّدُ بِاللَّيْلِ. الثَّانِي: الضُّحَى. الثَّالِثُ: الْأَضْحَى. الرَّابِعُ: الْوِتْرُ، وَهُوَ يَدْخُلُ فِي قِسْمِ التَّهَجُّدِ. الْخَامِسُ: السِّوَاكُ. السَّادِسُ: قَضَاءُ دَيْنِ مَنْ مَاتَ مُعْسِرًا. السَّابِعُ: مُشَاوِرَةُ ذَوِي الْأَحْلَامِ فِي غَيْرِ الشَّرَائِعِ. الثَّامِنُ: تَخْيِيرُ النِّسَاءِ. التَّاسِعُ: كَانَ إذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ. وَأَمَّا قِسْمُ التَّحْرِيمِ فَجُمْلَتُهُ عَشْرَةٌ: الْأَوَّلُ: تَحْرِيمُ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ. الثَّانِي: صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ عَلَيْهِ، وَفِي آلِهِ تَفْصِيلٌ بِاخْتِلَافٍ. الثَّالِثُ: خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ، وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ خِلَافَ مَا يُضْمِرُ، أَوْ يَنْخَدِعَ عَمَّا يُحِبُّ، وَقَدْ ذَمَّ بَعْضَ الْكُفَّارِ عِنْدَ إذْنِهِ؛ ثُمَّ أَلَانَ لَهُ الْقَوْلَ عِنْدَ دُخُولِهِ. الرَّابِعُ: حَرَّمَ عَلَيْهِ إذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يَخْلَعَهَا عَنْهُ، أَوْ يَحْكُمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحَارِبِهِ، وَيَدْخُلُ مَعَهُ غَيْرُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْخَيْرِ. الْخَامِسُ: الْأَكْلُ مُتَّكِئًا.

السَّادِسُ: أَكْلُ الْأَطْعِمَةِ الْكَرِيهَةِ الرَّائِحَةِ. السَّابِعُ: التَّبَدُّلُ بِأَزْوَاجِهِ. الثَّامِنُ: نِكَاحُ امْرَأَةٍ تَكْرَهُ صُحْبَتَهُ. التَّاسِعُ: نِكَاحُ الْحُرَّةِ الْكِتَابِيَّةِ. الْعَاشِرُ: نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا قِسْمُ التَّحْلِيلِ فَصَفِيُّ الْمَغْنَمِ. الثَّانِي: الِاسْتِبْدَادُ بِخُمْسِ الْخُمْسِ أَوْ الْخُمْسِ. الثَّالِثُ: الْوِصَالُ. الرَّابِعُ: الزِّيَادَةُ عَلَى أَرْبَعِ نِسْوَةٍ. الْخَامِسُ: النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ. السَّادِسُ: النِّكَاحُ بِغَيْرِ وَلِيٍّ. السَّابِعُ: النِّكَاحُ بِغَيْرِ صَدَاقٍ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي نِكَاحِهِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْأَصَحَّ عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْوَلِيِّ فِي حَقِّهِ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي نِكَاحِهِ بِغَيْرِ مَهْرٍ، فَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّامِنُ: نِكَاحُهُ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ، فَفِي الصَّحِيحِ «أَنَّهُ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ»، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. التَّاسِعُ: سُقُوطُ الْقَسَمِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ عَنْهُ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51]. الْعَاشِرُ: إذَا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى امْرَأَةٍ وَجَبَ عَلَى زَوْجِهَا طَلَاقُهَا، وَحَلَّ لَهُ نِكَاحُهَا. قَالَ الْقَاضِي: هَكَذَا قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْأَمْرَ فِي قِصَّةِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ كَيْفَ وَقَعَ. الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّهُ أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا؛ وَفِي هَذَا اخْتِلَافٌ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْإِنْصَافِ، وَيَتَعَلَّقُ بِنِكَاحِهِ بِغَيْرِ مَهْرٍ أَيْضًا. الثَّانِيَ عَشَرَ: دُخُولُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، وَفِي حَقِّنَا فِيهِ اخْتِلَافٌ.

مسألة إعراب قوله تعالى خالصة لك

الثَّالِثَ عَشَرَ: الْقِتَالُ بِمَكَّةَ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ». الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّهُ لَا يُورَثُ. قَالَ الْقَاضِي: إنَّمَا ذَكَرْته فِي قِسْمِ التَّحْلِيلِ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَارَبَ الْمَوْتَ بِالْمَرَضِ زَالَ عَنْهُ أَكْثَرُ مِلْكِهِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ إلَّا الثُّلُثُ خَالِصًا، وَبَقِيَ مِلْكُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ مَوْتِهِ مَا تَقَدَّمَ فِي آيَةِ الْمِيرَاثِ. الْخَامِسَ عَشَرَ: بَقَاءُ زَوْجِيَّتِهِ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ. السَّادِسَ عَشَرَ: إذَا طَلَّقَ امْرَأَةً، هَلْ تَبْقَى حُرْمَتُهُ عَلَيْهَا فَلَا تُنْكَحُ؟. وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ سَتَأْتِيَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ فِي الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى اخْتِلَافِهَا مَشْرُوحَةٌ فِي تَفَارِيقِهَا، حَيْثُ وَقَعَتْ مَجْمُوعَةٌ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْمَوْسُومِ بِالنَّيِّرَيْنِ فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ. [مَسْأَلَة إعْرَاب قَوْلِهِ تَعَالَى خَالِصَةً لَك] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي إعْرَابِ قَوْلِهِ: {خَالِصَةً لَكَ} [الأحزاب: 50]، وَغَلَبَ عَلَيْهِمْ الْوَهْمُ فِيهِ، وَقَدْ شَرَحْنَاهُ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ. وَحَقِيقَتُهُ عِنْدِي أَنَّهُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرٍ مُتَّصِلٍ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمُظْهَرُ، تَقْدِيرُهُ أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك، وَأَحْلَلْنَا لَك امْرَأَةً مُؤْمِنَةً، أَحْلَلْنَاهَا خَالِصَةً بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَبِغَيْرِ صَدَاقٍ، وَعَلَيْهِ انْبَنَى مَعْنَى الْخُلُوصِ هَاهُنَا. [مَسْأَلَة كَيْفِيَّة نِكَاح النَّبِيّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: قِيلَ: هُوَ خُلُوصُ النِّكَاحِ لَهُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ دُونَ غَيْرِهِ، وَعَلَيْهِ انْبَنَى مَعْنَى الْخُلُوصِ هَاهُنَا.

وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّا إنْ قُلْنَا: إنَّ نِكَاحَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْوَلِيِّ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ «قَوْلُهُ لِعَمْرِو بْنِ أَبِي سَلَمَةَ رَبِيبِهِ، حِينَ زَوَّجَ أُمَّهُ: قُمْ يَا غُلَامُ فَزَوِّجْ أُمَّك». وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ هَذَا؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمَوْهُوبَةِ: وَهَبْت نَفْسِي لَك لَا يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ، وَلَا بُدَّ بَعْدَهُ مِنْ عَقْدٍ مَعَ الْوَلِيِّ، فَهَلْ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِهِ وَصِفَتِهِ أَمْ لَا؟ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى لَا ذِكْرَ لِلْآيَةِ فِيهَا. الثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْآيَةِ خُلُوُّ النِّكَاحِ مِنْ الصَّدَاقِ، وَلَهُ جَاءَ الْبَيَانُ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ الْخُلُوصُ الْمَخْصُوصُ بِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا، فَذَكَرَهُ فِي جَنْبَتِهِ بِلَفْظِ النِّكَاحِ الْمَخْصُوصِ بِهَذَا الْعَقْدِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ وَهَبَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ صَدَاقٍ، فَإِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتَزَوَّجَ، فَيَكُونُ النِّكَاحُ حُكْمًا مُسْتَأْنَفًا، لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ، إلَّا فِي الْمَقْصُودِ مِنْ الْهِبَةِ، وَهُوَ سُقُوطُ الْعِوَضِ وَهُوَ الصَّدَاقُ. الرَّابِعُ: إنَّا لَا نَقُولُ: إنَّ النِّكَاحَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ جَائِزٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ؛ فَإِنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك، وَأَحْلَلْنَا لَك الْمَرْأَةَ الْوَاهِبَةَ نَفْسَهَا خَالِصَةً، فَلَوْ جَعَلْنَا قَوْلَهُ: {خَالِصَةً} [الأحزاب: 50] حَالًا مِنْ الصِّفَةِ الَّتِي هِيَ ذِكْرُ الْهِبَةِ دُونَ الْمَوْصُوفِ الَّذِي هُوَ الْمَرْأَةُ وَسُقُوطُ الصَّدَاقِ، لَكَانَ إخْلَالًا مِنْ الْقَوْلِ، وَعُدُولًا عَنْ الْمَقْصُودِ فِي اللَّفْظِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَرَبِيَّةً، وَلَا مَعْنًى. أَلَا تَرَى أَنَّك لَوْ قُلْت: أُحَدِّثُك بِالْحَدِيثِ الرُّبَاعِيِّ خَالِصًا لَك دُونَ أَصْحَابِك لَمَا كَانَ رُجُوعُ الْحَالِ إلَّا إلَى الْمَقْصُودِ الْمَوْصُوفِ، وَهُوَ الْحَدِيثُ؛ هَذَا عَلَى نِظَامِ التَّقْدِيرِ، فَلَوْ قُلْت عَلَى لَفْظِ أُحَدِّثُك بِحَدِيثٍ إنْ وَجَدْته بِأَرْبَعِ رِوَايَاتٍ خَالِصًا ذَلِكَ دُونَ أَصْحَابِك لَرَجَعَتْ الْحَالُ إلَى الْمَقْصُودِ الْمَوْصُوفِ أَيْضًا، دُونَ الصِّفَةِ؛ وَهَذَا لَا يَفْهَمُهُ إلَّا الْمُتَحَقِّقُونَ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَمَا أَرَى مَنْ عَزَا إلَى الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: {خَالِصَةً} [الأحزاب: 50] يَرْجِعُ إلَى النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ إلَّا قَدْ وَهَمَ، لِأَجْلِ مَكَانَتِهِ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ. وَالنِّكَاحُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ جَائِزٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا، مَعْرُوفٌ بِدَلِيلِهِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.

مسألة قوله تعالى قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 28] فَائِدَتُهُ أَنَّ الْكُفَّارَ وَإِنْ كَانُوا مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ عِنْدَنَا فَلَيْسَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ دُخُولٌ؛ لِأَنَّ تَصْرِيفَ الْأَحْكَامِ إنَّمَا تَكُونُ بَيْنَهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِسْلَامِ. [مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50] قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي بَيَانِ عِلْمِ اللَّهِ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ وَكِتَابِ الْأُصُولِ. وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: وَهِيَ قَوْلُهُ: (مَا فَرَضْنَا) وَبَيَّنَّا مَعْنَى الْفَرْضِ، وَالْقَدْرُ الْمُخْتَصُّ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ عِلْمَهُ سَابِقٌ بِكُلِّ مَا حَكَمَ بِهِ، وَقَرَّرَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُمَّتِهِ فِي النِّكَاحِ وَأَعْدَادِهِ وَصِفَاتِهِ، وَمِلْكِ الْيَمِينِ وَشُرُوطِهِ، بِخِلَافِهِ، فَهُوَ حُكْمٌ سَبَقَ بِهِ الْعِلْمُ، وَقَضَاءٌ حَقَّ بِهِ الْقَوْلُ لِلنَّبِيِّ فِي تَشْرِيعِهِ وَلِلْمُنْبَأِ الْمُرْسَلِ إلَيْهِ بِتَكْلِيفِهِ. [مَسْأَلَةُ قَوْله تَعَالَى لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْك حَرَجٌ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} [الأحزاب: 50] أَيْ ضِيقٌ فِي أَمْرٍ أَنْتَ فِيهِ مُحْتَاجٌ إلَى السَّعَةِ، كَمَا أَنَّهُ ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ فِي أَمْرٍ لَا يَسْتَطِيعُونَ فِيهِ شَرْطَ السَّعَةِ عَلَيْهِمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 5] قَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ " الْأَمَدِ الْأَقْصَى " بَيَانًا شَافِيًا. وَالْمِقْدَارُ الَّذِي يَنْتَظِمُ بِهِ الْكَلَامُ هَاهُنَا أَنَّهُ لَمْ يُؤَاخِذْ النَّاسَ بِذُنُوبِهِمْ، بَلْ بِقَوْلِهِمْ، وَرَحِمَهُمْ وَشَرَّفَ رُسُلَهُ الْكِرَامَ، فَجَعَلَهُمْ فَوْقَهُمْ، وَلَمْ يُعْطِ عَلَى مِقْدَارِ مَا يَسْتَحِقُّونَ، إذْ لَا يَسْتَحِقُّونَ عَلَيْهِ شَيْئًا؛ بَلْ زَادَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، وَعَمَّهُمْ بِرِفْقِهِ وَلُطْفِهِ، وَلَوْ أَخَذَهُمْ

الآية السادسة عشرة قوله تعالى ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء

بِذُنُوبِهِمْ، وَأَعْطَاهُمْ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ فِيهِمْ، لَمَا وَجَبَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْءٌ، وَلَا غُفِرَ لِلْخَلْقِ ذَنْبٌ؛ وَلَكِنَّهُ أَنْعَمَ عَلَى الْكُلِّ، وَقَدَّمَ مَنَازِلَ الْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -، وَأَعْطَى كُلًّا عَلَى قَدْرِ عِلْمِهِ وَحُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ. [الْآيَة السَّادِسَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إلَيْك مَنْ تَشَاءُ] [سَبَبِ نُزُولِهَا] الْآيَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} [الأحزاب: 51]. فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: وَفِي ذَلِكَ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ رَوَى أَبُو رَزِينٍ الْعُقَيْلِيُّ «أَنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَشْفَقْنَ أَنْ يُطَلِّقَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْنَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ اجْعَلْ لَنَا مِنْ نَفْسِك وَمَالِك مَا شِئْت، فَكَانَتْ مِنْهُنَّ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، وَجُوَيْرِيَةُ، وَصَفِيَّةُ، وَمَيْمُونَةُ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ، غَيْرُ مَقْسُومٍ لَهُنَّ وَكَانَ مِمَّنْ آوَى عَائِشَةُ، وَأُمُّ سَلَمَةَ، وَزَيْنَبُ، وَأُمُّ سَلَمَةَ، يَضُمُّهُنَّ، وَيَقْسِمُ لَهُنَّ» قَالَهُ الضَّحَّاكُ. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَادَ مَنْ شِئْت أَمْسَكْت، وَمَنْ شِئْت طَلَّقْت. الثَّالِثُ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا خَطَبَ امْرَأَةً لَمْ يَكُنْ لِرَجُلٍ أَنْ يَخْطِبَهَا حَتَّى يَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ يَتْرُكَهَا. وَالْمَعْنَى اُتْرُكْ نِكَاحَ مَنْ شِئْت، وَانْكِحْ مَنْ شِئْت؛ قَالَهُ الْحَسَنُ. الرَّابِعُ: تَعْزِلُ مَنْ شِئْت، وَتَضُمُّ مَنْ شِئْت؛ قَالَهُ قَتَادَةُ. الْخَامِسُ: قَالَ أَبُو رَزِينٍ: تَعْزِلُ مَنْ شِئْت عَنْ الْقَسْمِ، وَتَضُمُّ مَنْ شِئْت إلَى الْقَسْمِ.

مسألة معنى قوله تعالى ترجي من تشاء منهن

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَصْحِيحِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ: أَمَّا قَوْلُ أَبِي رَزِينٍ فَلَمْ يَرِدْ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ؛ وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَرُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ «سَوْدَةَ لَمَّا كَبِرَتْ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ اجْعَلْ يَوْمِي مِنْك لِعَائِشَةَ، فَكَانَ يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَيْنِ: يَوْمَهَا، وَيَوْمَ سَوْدَةَ». وَأَمَّا قَوْلُ الْحَسَنِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ وَلَا حَسَنٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ امْتِنَاعَ خِطْبَةِ مَنْ يَخْطُبُهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ لَهُ ذِكْرٌ وَلَا دَلِيلٌ فِي شَيْءٍ مِنْ مَعَانِي الْآيَةِ وَلَا أَلْفَاظِهَا. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51] يَعْنِي تُؤَخِّرُ وَتَضُمُّ، وَيُقَالُ: أَرْجَأْته إذَا أَخَّرْته، وَآوَيْت فُلَانًا إذَا ضَمَمْته وَجَعَلْته فِي ذُرَاك وَفِي جُمْلَتِك، فَقِيلَ فِيهِ أَقْوَالٌ سِتَّةٌ: الْأَوَّلُ: تُطَلِّقُ مَنْ شِئْت، وَتُمْسِكُ مَنْ شِئْت؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّانِي: تَتْرُكُ مَنْ شِئْت، وَتَنْكِحُ مَنْ شِئْت؛ قَالَهُ قَتَادَةُ. الثَّالِثُ: مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ. الرَّابِعُ: تَقْسِمُ لِمَنْ شِئْت، وَتَتْرُكُ قَسْمَ مَنْ شِئْت. الْخَامِسُ: مَا فِي الصَّحِيحِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْت أَغَارُ مِنْ اللَّائِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَقُولُ: أَتَهَبُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا؟ فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51]. قُلْت: مَا أَرَى رَبَّك إلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاك. السَّادِسُ: ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْتَأْذِنُ فِي يَوْمِ الْمَرْأَةِ مِنَّا بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} [الأحزاب: 51]، فَقِيلَ لَهَا: مَا كُنْت تَقُولِينَ؟ قَالَتْ: كُنْت أَقُولُ: إنْ كَانَ الْأَمْرُ إلَيَّ فَإِنِّي لَا أُرِيدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ أُوثِرَ عَلَيْك أَحَدًا».

وَبَعْضُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَتَدَاخَلُ مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا، وَهَذَا الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى الْمُرَادُ هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُخَيَّرًا فِي أَزْوَاجِهِ إنْ شَاءَ أَنْ يَقْسِمَ قَسَمَ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَتْرُكَ الْقَسْمَ تَرَكَ، لَكِنَّهُ كَانَ يَقْسِمُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ دُونَ فَرْضِ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ إنَّهُ قِيلَ لَهُ: انْكِحْ مَنْ شِئْت، وَاتْرُكْ مَنْ شِئْت، فَقَدْ أَفَادَهُ قَوْلُهُ: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]. حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ الِابْتِدَاءِ فِي ذَلِكَ وَالِانْتِهَاءِ إلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَهَذَا الْقَوْلُ يُحْمَلُ عَلَى فَائِدَةٍ مُجَرَّدَةٍ، فَأَمَّا وُجُوبُ الْقَسْمِ فَإِنَّ النِّكَاحَ يَقْتَضِيهِ، وَيَلْزَمُ الزَّوْجَ؛ فَخُصَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ بِأَنْ جُعِلَ الْأَمْرُ فِيهِ إلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يُقَالُ: إنَّ الْقَسْمَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَعْدِلُ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ فِي الْقَسْمِ، وَيَقُولُ: «هَذِهِ قُدْرَتِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ يَعْنِي قَلْبَهُ» لِإِيثَارِ عَائِشَةَ دُونَ أَنْ يَكُونَ يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ فِعْلِهِ. قُلْنَا: ذَلِكَ مِنْ خِلَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفَضْلِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَعْطَاهُ سُقُوطَهُ؛ وَكَانَ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْتَزِمُهُ تَطَيُّبًا لِنُفُوسِهِنَّ، وَصَوْنًا لَهُنَّ عَنْ أَقْوَالِ الْغَيْرَةِ الَّتِي رُبَّمَا تَرَقَّتْ إلَى مَا لَا يَنْبَغِي. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ} [الأحزاب: 51] يَعْنِي طَلَبْت، وَالِابْتِغَاءُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الطَّلَبُ، وَلَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْإِرَادَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} [الكهف: 64].

مسألة معنى قوله تعالى ذلك أدنى أن تقر أعينهن

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {مِمَّنْ عَزَلْتَ} [الأحزاب: 51] يَعْنِي أَزَلْت، وَالْعُزْلَةُ الْإِزَالَةُ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ فِي اللَّفْظَيْنِ مَفْهُومٌ. وَالْمَعْنَى: وَمَنْ أَرَدْت أَنْ تَضُمَّهُ وَتُؤْوِيَهُ بَعْدَ أَنْ أَزَلْته فَقَدْ نِلْت ذَلِكَ عِنْدَنَا، وَوَجَدْته تَحْقِيقًا لِقَوْلِ عَائِشَةَ: لَا أَرَى رَبُّك إلَّا وَهُوَ يُسَارِعُ فِي هَوَاك؛ فَإِنْ شَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُؤَخِّرَ أَخَّرَ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُقَدِّمَ اسْتَقْدَمَ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَقْلِبَ الْمُؤَخَّرَ مُقَدَّمًا وَالْمُقَدَّمَ مُؤَخَّرًا فَعَلَ، لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا حَرَجَ فِيهِ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: وَقَدْ بَيَّنَّا الْجُنَاحَ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَأَوْضَحْنَا حَقِيقَتَهُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} [الأحزاب: 51]: الْمَعْنَى أَنَّ الْأَمْرَ إذَا كَانَ الْإِدْنَاءُ وَالْإِقْصَاءُ لَهُنَّ، وَالتَّقْرِيبُ وَالتَّبْعِيدُ إلَيْك، تَفْعَلُ مِنْ ذَلِكَ مَا شِئْت، كَانَ أَقْرَبَ إلَى قُرَّةِ أَعْيُنِهِنَّ، وَرَاحَةِ قُلُوبِهِنَّ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي شَيْءٍ كَانَ رَاضِيًا بِمَا أُوتِيَ مِنْهُ وَإِنْ قَلَّ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ لَهُ حَقًّا لَمْ يُقْنِعْهُ مَا أُوتِيَ مِنْهُ، وَاشْتَدَّتْ غَيْرَتُهُ عَلَيْهِ، وَعَظُمَ حِرْصُهُ فِيهِ، فَكَانَ مَا فَعَلَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ مِنْ تَفْوِيضِ الْأَمْرِ إلَيْهِ فِي أَحْوَالِ أَزْوَاجِهِ أَقْرَبَ إلَى رِضَاهُنَّ مَعَهُ، وَاسْتِقْرَارِ أَعْيُنِهِنَّ عَلَى مَا يُسْمَحُ بِهِ مِنْهُ لَهُنَّ، دُونَ أَنْ تَتَعَلَّقَ قُلُوبُهُنَّ بِأَكْثَرَ مِنْهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي: الْمَسْأَلَةِ الثَّامِنَةِ: {وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} [الأحزاب: 51] الْمَعْنَى: وَتَرْضَى كُلُّ وَاحِدَةٍ بِمَا أُوتِيَتْ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، لِعِلْمِهَا بِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ حَقٍّ لَهَا، وَإِنَّمَا هُوَ فَضْلٌ تَفَضَّلَ بِهِ عَلَيْهَا، وَقَلِيلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَثِيرٌ، وَاسْمُ زَوْجَتِهِ، وَالْكَوْنُ فِي عِصْمَتِهِ، وَمَعَهُ فِي الْآخِرَةِ فِي دَرَجَتِهِ، فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ كَبِيرٌ.

مسألة معنى قوله تعالى والله يعلم ما في قلوبكم

[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى وَاَللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [الأحزاب: 51] وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَهُوَ بَيِّنٌ عِنْدَ الْأُمَّةِ أَنَّ الْبَارِئَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ. يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، وَيَطَّلِعُ عَلَى الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. وَوَجْهُ تَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ هَاهُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِنَا مِنْ مَيْلٍ إلَى بَعْضِ مَا عِنْدَنَا مِنْ النِّسَاءِ دُونَ بَعْضٍ، وَهُوَ يَسْمَحُ فِي ذَلِكَ؛ إذْ لَا يَسْتَطِيعُ الْعَبْدُ أَنْ يَصْرِفَ قَلْبَهُ عَنْ ذَلِكَ الْمِيلِ إنْ كَانَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَصْرِفَ فَعَلَهُ، وَلَا يُؤَاخِذُ الْبَارِئُ سُبْحَانَهُ بِمَا فِي الْقَلْبِ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُؤَاخِذُ بِمَا يَكُونُ مِنْ فِعْلٍ فِيهِ، وَإِلَى ذَلِكَ يَعُودُ قَوْلُهُ: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} [الأحزاب: 51] وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: [الْآيَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ] ُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} [الأحزاب: 52]. فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رُوِيَ «أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ، لَمَّا تُوُفِّيَ زَوْجُهَا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَعْجَبَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُسْنُهَا، فَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ». وَهَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ. [مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ كَلِمَةَ " بَعْدُ " ظَرْفٌ بُنِيَ عَلَى الضَّمِّ هَاهُنَا، لِمَا اُقْتُرِنَ بِهِ مِنْ الْحَذْفِ، فَصَارَ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ كَأَنَّهُ بَعْضُ كَلِمَةٍ، فَرُبِطَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ لِيَتَبَيَّنَ ذَلِكَ.

مسألة معنى قوله تعالى ولا أن تبدل بهن من أزواج

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعْيِينِ الْمَحْذُوفِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدِ مَنْ عِنْدَك، مِنْهُنَّ اللَّوَاتِي اخْتَرْنَك عَلَى الدُّنْيَا فَقُصِرَ عَلَيْهِنَّ مِنْ أَجْلِ اخْتِيَارِهِنَّ لَهُ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّانِي: مِنْ بَعْدِ مَا أَحْلَلْنَا لَك، وَهِيَ الْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ؛ قَالَهُ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ. الثَّالِثُ: لَا يَحِلُّ لَك نِكَاحُ غَيْرِ الْمُسْلِمَاتِ؛ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي التَّنْقِيحِ: أَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ بِأَنَّ الْمَعْنَى لَا يَحِلُّ لَك نِكَاحُ غَيْرِ الْمُسْلِمَاتِ فَدَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ لَا تَحْتَمِلُ إلَّا قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالثَّانِي قَوْلُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. فَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِ أُبَيٍّ، وَحَكَمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدِ مَا أَحْلَلْنَا لَك مِنْ أَزْوَاجِك اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ قَرَابَتَك الْمُؤْمِنَاتِ الْمُهَاجِرَاتِ، وَالْوَاهِبَةَ نَفْسَهَا بَقِيَ عَلَى التَّحْرِيمِ مَنْ عَدَاهُنَّ. وَالْآيَةُ مُحْتَمِلَةٌ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأُبَيٍّ، وَيَقْوَى فِي النَّفْسِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ كَيْفَ وَقَعَ الْأَمْرُ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ؛ فَقَالَتْ عَائِشَةُ، وَأُمُّ سَلَمَةَ: لَمْ يَمُتْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أُحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ، وَكَأَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَحَلَّ لَهُ النِّسَاءَ حَتَّى الْمَوْتِ قُصِرَ عَلَيْهِنَّ كَمَا قُصِرْنَ عَلَيْهِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَتِهِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَجَمَاعَةٌ وَجَعَلُوا حَدِيثَ عَائِشَةَ سُنَّةً نَاسِخَةً، وَهُوَ حَدِيثٌ وَاهٍ، وَمُتَعَلَّقٌ ضَعِيفٌ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ؛ فَتَمَّ تَمَامُ الْقَوْلِ وَبَيَانُهُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52] فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: لَا يَحِلُّ لَك أَنْ تُطَلِّقَ امْرَأَةً مِنْ أَزْوَاجِك، وَتَنْكِحَ غَيْرَهَا؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّانِي: لَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَبَدَّلَ الْمُسْلِمَةَ الَّتِي عِنْدَك بِمُشْرِكَةٍ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.

مسألة نكاح الأمة الكافرة ووطؤها بملك اليمين

الثَّالِثُ: لَا تُعْطِي زَوْجَك فِي زَوْجَةٍ أُخْرَى، كَمَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ؛ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَصَحُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، لَهُ يَشْهَدُ النَّصُّ، وَعَلَيْهِ يَقُومُ الدَّلِيلُ. وَأَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ فَمَبْنِيٌّ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا، وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ، وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِمَا يُبْطِلُ فَائِدَتَهُ وَيُسْقِطُ عُمُومَهُ، وَيُبْطِلُ حُكْمَهُ، وَيَذْهَبُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ فَضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَخْتَصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ ذَلِكَ حُكْمٌ ثَابِتٌ فِي الشَّرْعِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ؛ إذْ التَّعَاوُضُ فِي الزَّوْجَاتِ لَا يَجُوزُ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: {بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52]، وَهَذَا الْحُكْمُ لَا يَجُوزُ لَا بِهِنَّ وَلَا بِغَيْرِهِنَّ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ اسْتِبْدَالَ الْجَاهِلِيَّةِ لَقَالَ: أَزْوَاجَك بِأَزْوَاجٍ، وَمَتَى جَاءَ اللَّفْظُ خَاصًّا فِي حُكْمٍ لَا يَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ لِضَرُورَةٍ. [مَسْأَلَة نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ وَوَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} [الأحزاب: 52] الْمَعْنَى فَإِنَّهُ حَلَالٌ لَك عَلَى الْإِطْلَاقِ الْمَعْلُومِ فِي الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي إحْلَالِ الْكَافِرَةِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ وَوَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} [الأحزاب: 52] وَهَذَا عُمُومٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ خَوْفِ الْعَنَتِ؛ وَهَذَا الشَّرْطُ مَعْدُومٌ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ؛ فَأَمَّا وَطْؤُهَا بِمَلْكِ الْيَمِينِ فَيَتَرَدَّدُ فِيهِ. وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْكَافِرَةِ، وَلَا وَطْؤُهَا بِمَلْكِ الْيَمِينِ، تَنْزِيهًا لِقَدْرِهِ

مسألة معنى قوله تعالى وكان الله على كل شيء رقيبا

عَنْ مُبَاشَرَةِ الْكَافِرَةِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، فَكَيْفَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَالَ: {اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} [الأحزاب: 50]، فَشَرَطَ فِي الْإِحْلَالِ لَهُ الْهِجْرَةَ بَعْدَ الْإِيمَانِ، فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّ الْكَافِرَةَ تَحِلُّ لَهُ، [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} [الأحزاب: 52] وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الرَّقِيبِ فِي أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالْمَعْنَى الْمُخْتَصُّ بِهِ هَاهُنَا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ عِلْمًا مُسْتَمِرًّا، وَيَحْكُمُ فِيهَا حُكْمًا مُسْتَقِرًّا، وَيَرْبِطُ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ رَبْطًا يَنْتَظِمُ بِهِ الْوُجُودُ، وَيَصِحُّ بِهِ التَّكْلِيفُ. [الْآيَة الثَّامِنَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ] [سَبَبِ نُزُولِهَا] الْآيَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53]. فِيهَا ثَمَانِ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا [قَوْلُهُ {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ} [الأحزاب: 53]]: وَفِي ذَلِكَ سِتَّةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ: كِتَابِ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ، وَالتِّرْمِذِيِّ وَاللَّفْظُ لَهُ قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: «تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَخَلَ بِأَهْلِهِ، فَصَنَعَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ أُمِّي حَيْسًا، فَجَعَلَتْهُ فِي تَوْرٍ، وَقَالَتْ لِي: يَا أَنَسُ اذْهَبْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْ: بَعَثَتْ بِهِ إلَيْك أُمِّي، وَهِيَ تُقْرِئُك السَّلَامَ، وَتَقُولُ لَك: إنَّ هَذَا لَك مِنَّا قَلِيلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ

قَالَ: فَذَهَبْت بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقُلْت: إنَّ أُمِّي تُقْرِئُك السَّلَامَ وَتَقُولُ لَك: إنَّ هَذَا لَك مِنَّا قَلِيلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: ضَعْهُ ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَادْعُ لِي فُلَانًا وَفُلَانًا، وَمَنْ لَقِيت وَسَمَّى رِجَالًا فَدَعَوْت مَنْ سَمَّى، وَمَنْ لَقِيت. قَالَ: قُلْت لِأَنَسٍ: عَدَدُكُمْ كَمْ كَانُوا؟ قَالَ: زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةٍ. فَقَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا أَنَسُ هَاتِ التَّوْرَ قَالَ: فَدَخَلُوا حَتَّى امْتَلَأَتْ الصُّفَّةُ وَالْحُجْرَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لِيَتَحَلَّقْ عَشْرَةٌ عَشْرَةٌ، وَلْيَأْكُلْ كُلُّ إنْسَانٍ مِمَّا يَلِيهِ قَالَ: فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا قَالَ: فَخَرَجَتْ طَائِفَةٌ وَدَخَلَتْ طَائِفَةٌ، حَتَّى أَكَلُوا كُلُّهُمْ قَالَ: قَالَ لِي: يَا أَنَسُ، ارْفَعْ قَالَ: فَرَفَعْت، فَمَا أَدْرِي حِينَ وَضَعْت كَانَ أَكْثَرَ أَمْ حِينَ رَفَعْت قَالَ: وَجَلَسَ مِنْهُمْ طَوَائِفُ يَتَحَدَّثُونَ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ وَزَوْجَتُهُ مُوَلِّيَةٌ وَجْهَهَا إلَى الْحَائِطِ، فَثَقُلُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَلَّمَ عَلَى نِسَائِهِ، ثُمَّ رَجَعَ فَلَمَّا رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ رَجَعَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ ثَقُلُوا عَلَيْهِ، فَابْتَدَرُوا الْبَابَ، وَخَرَجُوا كُلُّهُمْ، وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَرْخَى السِّتْرَ، وَدَخَلَ، وَأَنَا جَالِسٌ فِي الْحُجْرَةِ، فَلَمْ يَلْبَثْ إلَّا يَسِيرًا حَتَّى خَرَجَ عَلَيَّ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَرَأَهَا عَلَى النَّاسِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب: 53] إلَى آخِرِ الْآيَةِ. قَالَ أَنَسٌ: أَنَا أَحْدَثُ النَّاسِ عَهْدًا بِهَذِهِ الْآيَاتِ، وَحُجِبَ نِسَاءُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». الثَّانِي: رَوَى مُجَاهِدٌ عَنْ «عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْت آكُلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْسًا، فَمَرَّ عُمَرُ فَدَعَاهُ، فَأَكَلَ، فَأَصَابَ أُصْبُعُهُ أُصْبُعِي، فَقَالَ حِينَئِذٍ: لَوْ أُطَاعُ فِيكُنَّ مَا رَأَتْكُنَّ عَيْنٌ؛ فَنَزَلَ الْحِجَابُ».

مسألة بيوت النبي إذ كن يسكن فيها هل هن ملك لهن أم لا

الثَّالِثُ: مَا رَوَى عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُنَّ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ إلَى الْمَنَاصِعِ وَهُوَ صَعِيدٌ أَفْيَحُ، يَتَبَرَّزْنَ فِيهِ، فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اُحْجُبْ نِسَاءَك، فَلَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ، فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ لَيْلَةً مِنْ اللَّيَالِي، وَكَانَتْ امْرَأَةً طَوِيلَةً، فَنَادَاهَا عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَاك يَا سَوْدَةُ، حِرْصًا عَلَى أَنْ يَنْزِلَ الْحِجَابُ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأُنْزِلَ الْحِجَابُ. الرَّابِعُ: رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: أُمِرَ نِسَاءُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحِجَابِ، فَقَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؛ إنَّك تَغَارُ عَلَيْنَا وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53]. الْخَامِسُ: رَوَى قَتَادَةُ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، أَكَلُوا وَأَطَالُوا الْحَدِيثَ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْخُلُ وَيَخْرُجُ، وَيَسْتَحْيِي مِنْهُمْ، وَاَللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ. السَّادِسُ: رَوَى أَنَسٌ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنَّ نِسَاءَك يَدْخُلُ عَلَيْهِنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، فَلَوْ أَمَرْتَهُنَّ أَنْ يَحْتَجِبْنَ؛ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الرِّوَايَاتُ ضَعِيفَةٌ إلَّا الْأُولَى وَالسَّادِسَةَ، وَأَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَبَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْحِجَابَ نَزَلَ يَوْمَ الْبِنَاءِ بِزَيْنَبِ، وَلَا يَصِحُّ مَا ذُكِرَ فِيهِ. [مَسْأَلَةُ بُيُوتِ النَّبِيِّ إذْ كُنَّ يَسْكُنَّ فِيهَا هَلْ هُنَّ مِلْكٌ لَهُنَّ أَمْ لَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {بُيُوتَ النَّبِيِّ} [الأحزاب: 53]- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْبَيْتَ بَيْتُ الرَّجُلِ إذْ جَعَلَهُ مُضَافًا إلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34]. قُلْنَا: إضَافَةُ الْبُيُوتِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إضَافَةُ مِلْكٍ، وَإِضَافَةُ الْبُيُوتِ إلَى الْأَزْوَاجِ إضَافَةُ مَحَلٍّ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ جَعَلَ فِيهَا الْإِذْنَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْإِذْنُ إنَّمَا يَكُونُ لِلْمَالِكِ، وَبِدَلِيلِ

مسألة معنى قوله تعالى إلى طعام

قَوْلِهِ: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} [الأحزاب: 53]- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَلِكَ يُؤْذِي أَزْوَاجَهُ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْبَيْتُ بَيْتَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْحَقُّ حَقَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَضَافَهُ إلَيْهِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي بُيُوتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ كُنَّ يَسْكُنَّ فِيهَا، هَلْ هُنَّ مِلْكٌ لَهُنَّ أَمْ لَا؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: كَانَتْ مِلْكًا لَهُنَّ بِدَلِيلِ أَنَّهُنَّ سَكَنَّ فِيهَا بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى وَفَاتِهِنَّ؛ وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَبَ لَهُنَّ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُنَّ هِبَةً، وَإِنَّمَا كَانَ إسْكَانًا، كَمَا يُسْكِنُ الرَّجُلُ أَهْلَهُ، وَتَمَادَى سُكْنَاهُنَّ بِهَا إلَى الْمَوْتِ لِأَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا لِأَنَّ عِدَّتَهُنَّ لَمْ تَنْقَضِ إلَّا بِمَوْتِهِنَّ، وَإِمَّا لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَثْنَى ذَلِكَ لَهُنَّ مُدَّةَ حَيَاتِهِنَّ، كَمَا اسْتَثْنَى نَفَقَاتِهِنَّ بِقَوْلِهِ: «مَا تَرَكْت بَعْدَ نَفَقَةِ عِيَالِي وَمُؤْنَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ». فَجَعَلَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدَقَةً بَعْدَ نَفَقَةِ الْعِيَالِ؛ وَالسُّكْنَى مِنْ جُمْلَةِ النَّفَقَاتِ، فَإِذَا مُتْنَ رَجَعَتْ مَسَاكِنُهُنَّ إلَى أَصْلِهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، كَرُجُوعِ نَفَقَاتِهِنَّ. وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ لِذَلِكَ أَنَّ وَرَثَتَهُنَّ لَمْ يَرِثُوا عَنْهُنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَتْ الْمَسَاكِنُ مِلْكًا لَهُنَّ لَوَرِثَ ذَلِكَ وَرَثَتُهُنَّ عَنْهُنَّ، فَلَمَّا رُدَّتْ مَنَازِلُهُنَّ بَعْدَ مَوْتِهِنَّ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي تَعُمُّ مَنْفَعَتُهُ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ سُكْنَاهُنَّ إنَّمَا كَانَتْ مَتَاعًا لَهُنَّ إلَى الْمَمَاتِ، ثُمَّ رَجَعَتْ إلَى أَصْلِهَا فِي مَنَافِعِ الْمُسْلِمِينَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب: 53] وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْإِذْنِ وَأَحْكَامِهِ فِي سُورَةِ النُّورِ. [مَسْأَلَةُ مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى إلَى طَعَامٍ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {إِلَى طَعَامٍ} [الأحزاب: 53] يَعْنِي بِهِ هَاهُنَا طَعَامَ الْوَلِيمَةِ، وَالْأَطْعِمَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ عَشْرَةٌ: الْمَأْدُبَةُ، وَهِيَ طَعَامُ الدَّعْوَةِ كَيْفَمَا وَقَعَتْ. طَعَامُ الزَّائِرِ التُّحْفَةُ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ غَيْرُهُ فَهُوَ النُّزُلُ.

مسألة معنى قوله تعالى غير ناظرين إناه

وَطَعَامُ الْإِمْلَاكِ الشَّدْخِيَّةُ، وَمَا رَأَيْته فِي أَثَرٍ، إلَّا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّجَاشِيَّ لَمَّا عُقِدَ نِكَاحُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أُمِّ حَبِيبَةَ عِنْدَهُ قَالَ لَهُمْ: لَا تُفَرِّقُوا الْأَطْعِمَةَ. وَكَذَلِكَ كَانَتْ الْأَنْبِيَاءُ تَفْعَلُ، وَبَعَثَ بِهَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَدِينَةِ. طَعَامُ الْعُرْسِ: الْوَلِيمَةُ. طَعَامُ الْبِنَاءِ: الْوَكِيرَةُ. طَعَامُ الْوِلَادَةِ: الْخُرْسُ. طَعَامُ سَابِعِهَا: الْعَقِيقَةُ. طَعَامُ الْخِتَانِ: الْإِعْذَارُ: وَيُقَالُ: الْعَذِيرَةُ. طَعَامُ الْقَادِمِ مِنْ السَّفَرِ: النَّقِيعَةُ. طَعَامُ الْجِنَازَةِ: الْوَضِيمَةُ. وَهُنَاكَ أَسْمَاءٌ تُعَدُّ هَذِهِ أُصُولُهَا الْمَعْلُومَةُ. وَالْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: إلَى طَعَامٍ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكَرِيمَ إذَا دَعَا إلَى مَنْزِلِهِ أَحَدًا لِأَمْرٍ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَنْ يُقَدِّمَ إلَيْهِ مَا حَضَرَ مِنْ طَعَامٍ وَلَوْ تَمْرَةً أَوْ كِسْرَةً، فَإِذَا تَنَاوَلَ مَعَهُ مَا حَضَرَ كَلَّمَهُ فِيمَا عَرَضَ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى غَيْرَ نَاظِرِينَ إنَاهُ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب: 53] مَعْنَاهُ غَيْرَ مُنْتَظِرِينَ وَقْتَهُ، وَالنَّاظِرُ هُوَ الْمُسْتَنْظِرُ، وَالْإِنَى هُوَ الْوَقْتُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. الْمَعْنَى لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ فِي الدُّخُولِ، أَوْ يُطْعِمَكُمْ طَعَامًا حَاضِرًا، لَا تَنْتَظِرُونَ نُضْجَهُ، وَلَا تَرْتَقِبُونَ حُضُورَهُ، فَيَطُولُ لِذَلِكَ مُقَامُكُمْ، وَتَحْصُلُونَ فِيمَا كَرِهَ مِنْكُمْ.

مسألة معنى قوله تعالى ولكن إذا دعيتم فادخلوا

[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَكِنْ إذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا} [الأحزاب: 53] الْمَعْنَى اُدْخُلُوا عَلَى وَجْهِ الْأَدَبِ، وَحِفْظِ الْحَضْرَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ الْمُبَاسَطَةِ الْمَكْرُوهَةِ. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: إذَا دُعِيتُمْ فَأُذِنَ لَكُمْ فَادْخُلُوا، وَإِلَّا فَنَفْسُ الدَّعْوَةِ لَا تَكُونُ إذْنًا كَافِيًا فِي الدُّخُولِ. [مَسْأَلَةُ الضَّيْفَ يَأْكُلُ عَلَى مِلْكِ الْمُضِيفِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ} [الأحزاب: 53] هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الضَّيْفَ يَأْكُلُ عَلَى مِلْكِ الْمُضِيفِ، لَا عَلَى مِلْكِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ} [الأحزاب: 53] فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ الْأَكْلِ، وَلَا أَضَافَ لَهُ سِوَاهُ، وَبَقِيَ الْمِلْكُ عَلَى أَصْلِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ. [مَسْأَلَة الْمُرَاد مِنْ قَوْله تَعَالَى فَانْتَشِرُوا] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ: {فَانْتَشِرُوا} [الأحزاب: 53]: الْمُرَادُ: تَفَرَّقُوا. مِنْ النَّشْرِ، وَهُوَ الشَّيْءُ الْمُفْتَرَقُ. وَالْمُرَادُ إلْزَامُ الْخُرُوجِ مِنْ الْمَنْزِلِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمَقْصُودِ مِنْ الْأَكْلِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الدُّخُولَ حَرَامٌ، وَإِنَّمَا جَازَ لِأَجْلِ الْأَكْلِ، فَإِذَا انْقَضَى الْأَكْلُ زَالَ السَّبَبُ الْمُبِيحُ، وَعَادَ التَّحْرِيمُ إلَى أَصْلِهِ. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْلُهُ: {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} [الأحزاب: 53]: الْمَعْنَى: لَا تَمْكُثُوا مُسْتَأْنِسِينَ بِالْحَدِيثِ، كَمَا فَعَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَلِيمَةِ زَيْنَبَ، وَلَكِنَّ الْفَائِدَةَ فِي عَطْفِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ اسْتِدَامَةَ الدُّخُولِ دُخُولٌ فَعَطَفَهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} [الأحزاب: 53]: وَالْإِذَايَةُ كُلُّ مَا تَكْرَهُهُ النَّفْسُ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَى النَّاسِ، لَا سِيَّمَا إذَايَةٌ يَكْرَهُهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ بَلْ أَلْزَمَ الْخَلْقَ أَنْ يَفْعَلُوا مَا يَكْرَهُونَ، إرْضَاءً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَالْمَعْنَى: مَنَعْنَاكُمْ مِنْهُ لِإذَايَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَعَلَ الْمَنْعَ مِنْ الدُّخُولِ بِغَيْرِ إذْنٍ وَالْمُقَامَ بَعْدَ كَمَالِ الْمَقْصُودِ مُحَرَّمًا فِعْلُهُ، لِإذَايَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَالْمُحَرَّمَاتُ فِي الشَّرْعِ عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهَا مُعَلَّلٌ، وَمِنْهَا غَيْرُ مُعَلَّلٍ؛ فَهَذَا مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُعَلَّلَةِ بِالْعِلَّةِ، وَهِيَ إذَايَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

مسألة معنى قوله تعالى وإذا سألتموهن متاعا

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب: 53]: وَقَدْ بَيَّنَّا الْحَيَاءَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَمَعْنَاهُ هَاهُنَا فَيُمْسِكُ عَنْ كَشْفِ مُرَادِهِ لَكُمْ، فَيَتَأَذَّى بِإِقَامَتِكُمْ، عَلَى مَعْنَى التَّعْبِيرِ عَنْ الشَّيْءِ بِمُقَدِّمَتِهِ، وَهُوَ أَحَدُ وُجُوهِ الْمَجَازِ، أَوْ بِفَائِدَتِهِ وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي، أَوْ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ وَهُوَ الثَّالِثُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53] وَفِي الْمَتَاعِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: عَارِيَّةٌ. الثَّانِي: حَاجَةٌ. الثَّالِثُ: فَتْوَى. الرَّابِعُ: صُحُفُ الْقُرْآنِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَذِنَ فِي مُسَاءَلَتِهِنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ فِي حَاجَةٍ تَعْرِضُ أَوْ مَسْأَلَةٍ يُسْتَفْتَى فِيهَا؛ وَالْمَرْأَةُ كُلُّهَا عَوْرَةٌ؛ بَدَنُهَا وَصَوْتُهَا، فَلَا يَجُوزُ كَشْفُ ذَلِكَ إلَّا لِضَرُورَةٍ أَوْ لِحَاجَةٍ، كَالشَّهَادَةِ عَلَيْهَا، أَوْ دَاءٍ يَكُونُ بِبَدَنِهَا، أَوْ سُؤَالِهَا عَمَّا يَعِنُّ وَيَعْرِضُ عِنْدَهَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53] الْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ أَنْفَى لِلرِّيبَةِ، وَأَبْعَدُ لِلتُّهْمَةِ، وَأَقْوَى فِي الْحِمَايَةِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَثِقَ بِنَفْسِهِ فِي الْخَلْوَةِ مَعَ مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ؛ فَإِنَّ مُجَانَبَةَ ذَلِكَ أَحْسَنُ لِحَالِهِ، وَأَحْصَنُ لِنَفْسِهِ، وَأَتَمُّ لِعِصْمَتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب: 53] وَهَذَا تَكْرَارٌ لِلْعِلَّةِ، وَتَأْكِيدٌ لِحُكْمِهَا؛ وَتَأْكِيدُ الْعِلَلِ أَقْوَى فِي الْأَحْكَامِ.

مسألة معنى قوله تعالى ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا

[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب: 53]: وَهِيَ مِنْ خَصَائِصِهِ؛ فَقَدْ خُصَّ بِأَحْكَامٍ، وَشَرُفَ بِمَعَالِمَ وَمَعَانٍ لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهَا أَحَدٌ، تَمْيِيزًا لِشَرَفِهِ، وَتَنْبِيهًا عَلَى مَرْتَبَتِهِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَنَّ آيَةَ الْحِجَابِ لَمَّا نَزَلَتْ قَالُوا: يَمْنَعُنَا مِنْ بَنَاتِ عَمِّنَا؛ لَئِنْ حَدَثَ بِهِ الْمَوْتُ لَنَتَزَوَّجَنَّ نِسَاءَهُ مِنْ بَعْدِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: لَئِنْ مَاتَ لَأَتَزَوَّجَنَّ عَائِشَةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَصَانَ خَلْوَةَ نَبِيِّهِ، وَحَقَّقَ غَيْرَتَهُ، فَقَصَرَهُنَّ عَلَيْهِ، وَحَرَّمَهُنَّ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي حَالِهِنَّ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: هَلْ بَقِينَ أَزْوَاجًا أَوْ زَالَ النِّكَاحُ بِالْمَوْتِ؛ وَإِذَا قُلْنَا: إنَّ حُكْمَ النِّكَاحِ زَالَ بِالْمَوْتِ، فَهَلْ عَلَيْهِنَّ عِدَّةٌ أَمْ لَا؟ فَقِيلَ: عَلَيْهِنَّ الْعِدَّةُ؛ لِأَنَّهُنَّ زَوْجَاتٌ تُوُفِّيَ عَنْهُنَّ زَوْجُهُنَّ، وَهِيَ عِبَادَةٌ. وَقِيلَ: لَا عِدَّةَ عَلَيْهِنَّ؛ لِأَنَّهَا مُدَّةُ تَرَبُّصٍ لَا يُنْتَظَرُ بِهَا الْإِبَاحَةُ. وَبِبَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ أَقُولُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا تَرَكْت بَعْدَ نَفَقَةِ عِيَالِي وَمُؤْنَةِ عَامِلِي صَدَقَةٌ». وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ: «مَا تَرَكْت بَعْدَ نَفَقَةِ أَهْلِي» وَهَذَا اسْمٌ خَاصٌّ بِالزَّوْجِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ أَبْقَى عَلَيْهِنَّ النَّفَقَةَ مُدَّةَ حَيَاتِهِنَّ، لِكَوْنِهِنَّ نِسَاءَهُ. وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ: «كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ يَنْقَطِعُ إلَّا سَبَبِي وَنَسَبِي». وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَعَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ.

مسألة إذاية الرسول صلى الله عليه وسلم أو نكاح أزواجه

وَمَعْنَى إبْقَاءِ النِّكَاحِ بَقَاءُ أَحْكَامِهِ مِنْ تَحْرِيمِ الزَّوْجِيَّةِ، وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى؛ إذْ جُعِلَ الْمَوْتُ فِي حَقِّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِمَنْزِلَةِ الْمَغِيبِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، لِكَوْنِهِنَّ أَزْوَاجًا لَهُ قَطْعًا، بِخِلَافِ سَائِرِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ مَعَ أَهْلِهِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ، فَرُبَّمَا كَانَ أَحَدُهُمْ فِي الْجَنَّةِ وَالْآخَرُ فِي النَّارِ، فَبِهَذَا الْوَجْهِ انْقَطَعَ السَّبَبُ فِي حَقِّ الْخَلْقِ، وَبَقِيَ فِي حَقِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [مَسْأَلَة إذَايَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ نِكَاحَ أَزْوَاجِهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53] يَعْنِي إذَايَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ نِكَاحَ أَزْوَاجِهِ، فَجُعِلَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْكَبَائِرِ، وَلَا ذَنْبَ أَعْظَمُ مِنْهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَحْوَالَ عَظَائِمِ الذُّنُوبِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَالْمُشْكِلَيْنِ فِي أَبْوَابِ الْكَبَائِرِ. [الْآيَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى إنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ] ُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 54]: الْبَارِئُ تَعَالَى عَالِمٌ مَا بَدَا وَمَا خَفِيَ وَمَا ظَهَرَ، وَمَا كَانَ وَمَا لَمْ يَكُنْ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَاضٍ يَمْضِي، وَلَا مُسْتَقْبَلٌ يَأْتِي، وَهَذَا عَلَى الْعُمُومِ تَمَدَّحَ اللَّهُ بِهِ، وَهُوَ أَصْلُ الْحَمْدِ وَالْمَدْحِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا فِي قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ مَا أَكَنُّوهُ مِنْ نِكَاحِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَهُ، فَحَرَّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ حِينَ أَضْمَرُوهُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَأَكَنُّوهُ فِي أَنْفُسِهِمْ؛ فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُنْقَطِعَةً عَمَّا قَبْلَهَا مُبَيِّنَةً لَهَا. [الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ قَوْلُهُ تَعَالَى لَا جناح عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ] َّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [الأحزاب: 55]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:

مسألة حكم الرجل مع النساء ينقسم على ثلاثة أقسام

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُوِيَ أَنَّ نُزُولَ الْحِجَابِ لَمَّا نَزَلَ، وَسِتْرَهُ لَمَّا انْسَدَلَ قَالَ الْآبَاءُ: كَيْفَ بِنَا مَعَ بَنَاتِنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَنْفِيِّ عَنْهُ الْجُنَاحَ: فَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي رَفْعِ الْحِجَابِ؛ قَالَ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي سَدْلِ الْحِجَابِ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَالْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمُ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُنَّ بِالسَّتْرِ عَنْ الْخَلْقِ، وَضَرَبَ الْحِجَابَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ أَسْقَطَ ذَلِكَ بَيْنَ مَنْ ذَكَرَ هَاهُنَا مِنْ الْقَرَابَاتِ. [مَسْأَلَةُ حُكْمَ الرَّجُلِ مَعَ النِّسَاءِ يَنْقَسِمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ الْعَمَّ فِيهَا وَلَا الْخَالَ؛ لِأَنَّهَا تَحِلُّ لِأَبْنَائِهِمَا. وَقِيلَ: لَمْ يَذْكُرْهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا قَائِمَانِ مَقَامَ الْأَبَوَيْنِ، بِدَلِيلِ نُزُولِهِمَا مَنْزِلَتَهُمَا فِي حُرْمَةِ النِّكَاحِ. فَأَمَّا مَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَقَالَ: إنَّ حُكْمَ الرَّجُلِ مَعَ النِّسَاءِ يَنْقَسِمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: مَنْ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا. وَالثَّانِي: مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا، لِابْنِهِ، كَالْأَخِ وَالْجَدِّ وَالْحَفِيدِ. وَالثَّالِثُ: مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا، وَيَجُوزُ لِوَلَدِهِ، كَالْعَمِّ وَالْخَالِ، بِحَسْبِ مَنْزِلَتِهِمْ مِنْهَا فِي الْحُرْمَةِ. فَمَنْ كَانَ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ رُؤْيَةُ شَيْءٍ مِنْهَا. وَمَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا وَيَجُوزُ لِوَلَدِهِ جَازَ رُؤْيَةُ وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا خَاصَّةً، وَلَمْ يَحِلَّ لَهُ رُؤْيَةُ زِينَتِهَا. وَمَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ وَلَا لِوَلَدِهِ جَازَ الْوَضْعُ لِجِلْبَابِهَا وَرُؤْيَةُ زِينَتِهَا.

مسألة قوله تعالى واتقين الله

وَهَذَا التَّقْسِيمُ إنَّمَا هُوَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ رَفْعَ الْجُنَاحِ فِي الْآيَةِ هُوَ فِي وَضْعِ الْجِلْبَابِ. فَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ فِي رَفْعِ الْحِجَابِ لَمْ يَصِحَّ هَذَا التَّرْتِيبُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ وَضْعِ الْجِلْبَابِ فِي سُورَةِ النُّورِ، وَحُكْمَ الْعَمِّ مِنْ الرَّضَاعِ وَالنَّسَبِ بِمَا يُغْنِي بَيَانُهُ عَنْ إعَادَتِهِ. [مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى وَاتَّقِينَ اللَّهَ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّقِينَ اللَّهَ} [الأحزاب: 55] فَخَصَّ بِهِ النِّسَاءَ، وَعَيَّنَهُنَّ فِي هَذَا الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، لِقِلَّةِ تَحَفُّظِهِنَّ وَكَثْرَةِ اسْتِرْسَالِهِنَّ. [الْآيَة الْحَادِيَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ] الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]. فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي ذِكْرِ صَلَاةِ اللَّهِ: قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْأَمَدِ الْأَقْصَى وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِنَا، وَالْأَمْرُ خُصَّ بِهِ مَعْنَى صَلَاةِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ بِمَعْنَى دُعَائِهِمْ لَهُ، وَذِكْرِهِ الْجَمِيلِ؛ وَتَكُونُ حَقِيقَةً وَقَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى رَحْمَتِهِ لَهُ؛ إذْ هُوَ فَائِدَةُ ذَلِكَ مَجَازًا عَلَى مَعْنَى التَّعْبِيرِ عَنْ الشَّيْءِ بِفَائِدَتِهِ. [مَسْأَلَة فِي ذِكْرِ صَلَاةِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى النَّبِيِّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي ذِكْرِ صَلَاةِ الْمَلَائِكَةِ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: هُوَ دُعَاؤُهُمْ، وَاسْتِغْفَارُهُمْ، وَتَبْرِيكُهُمْ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى: 5]، وَكَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ». [مَسْأَلَة فِي ذِكْرِ صَلَاةِ الْخَلْقِ عَلَيَّ النَّبِيّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي ذِكْرِ صَلَاةِ الْخَلْقِ عَلَيْهِ: وَفِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَوْرَدْنَاهَا فِي كِتَابِ مُخْتَصَرِ النَّيِّرَيْنِ فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ؛ فَمِنْ ذَلِكَ ثَمَانِ رِوَايَاتٍ:

الْأُولَى: رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ «أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْك؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ». الثَّانِيَةُ: رَوَى مَالِكٌ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَجْلِسِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ: «أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْك؟ قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى تَمَنَّيْنَا أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ، ثُمَّ قَالَ: قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَالسَّلَامُ كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ». الثَّالِثَةُ: رَوَى النَّسَائِيّ عَنْ طَلْحَةَ مِثْلَهُ بِإِسْقَاطِ قَوْلِهِ: فِي الْعَالَمِينَ، وَقَوْلِهِ: وَالسَّلَامُ كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ. الرَّابِعَةُ: عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى: تَلَقَّانِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، فَقَالَ: أَلَا أُهْدِي لَك هَدِيَّةً؟ قُلْت: بَلَى. قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ هَذَا السَّلَامُ عَلَيْك قَدْ عَلِمْنَاهُ، فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْك؟ قَالَ: قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ». الْخَامِسَةُ: عَنْ بُرَيْدَةَ الْخُزَاعِيِّ قَالَ: «قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ قَدْ عِلْمنَا كَيْفَ السَّلَامُ

عَلَيْك، فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْك؟ قَالَ قُولُوا: اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَوَاتِك وَرَحْمَتَك عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا جَعَلْتهَا عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ». السَّادِسَةُ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَلِمْنَا هَذَا السَّلَامَ عَلَيْك، فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْك؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِك وَرَسُولِك، كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ». السَّابِعَةُ: رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكْتَالَ بِالْمِكْيَالِ الْأَوْفَى إذَا صَلَّى عَلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَأَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَذُرِّيَّتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، كَمَا صَلَّيْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ». الثَّامِنَةُ: مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ تَرَحَّمْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا تَرَحَّمْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ وَتَحَنَّنْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا تَحَنَّنْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ سَلِّمْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا سَلَّمْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ؛ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ». الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ صَحِيحٌ، وَمِنْهَا سَقِيمٌ، وَأَصَحُّهَا مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ فَاعْتَمِدُوهُ. وَرِوَايَةُ مَنْ رَوَى غَيْرَ مَالِكٍ مِنْ زِيَادَةِ الرَّحْمَةِ مَعَ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا لَا يَقْوَى؛ وَإِنَّمَا عَلَى النَّاسِ أَنْ يَنْظُرُوا فِي أَدْيَانِهِمْ نَظَرَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَهُمْ لَا يَأْخُذُونَ فِي الْبَيْعِ دِينَارًا مَعِيبًا، وَإِنَّمَا يَخْتَارُونَ السَّالِمَ الطَّيِّبَ؛ كَذَلِكَ فِي الدِّينِ لَا يُؤْخَذُ مِنْ الرِّوَايَاتِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

مسألة الصلاة على النبي

إلَّا مَا صَحَّ سَنَدُهُ لِئَلَّا يَدْخُلَ فِي خَبَرِ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَيْنَمَا هُوَ يَطْلُبُ الْفَضْلَ إذَا بِهِ قَدْ أَصَابَ النَّقْصَ، بَلْ رُبَّمَا أَصَابَ الْخُسْرَانَ الْمُبِينَ. [مَسْأَلَة الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرْضٌ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً بِلَا خِلَافٍ؛ فَأَمَّا فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ وَالشَّافِعِيُّ: إنَّهَا فَرْضٌ، فَمَنْ تَرَكَهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَقَالَ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ: هِيَ سُنَّةٌ فِي الصَّلَاةِ. وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: إنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْك، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْك؟ فَعَلَّمَ الصَّلَاةَ وَوَقْتَهَا، فَتَعَيَّنَا كَيْفِيَّةً وَوَقْتًا. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [مَسْأَلَة مَنْ آلِ مُحَمَّدٍ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: مَنْ آلِ مُحَمَّدٍ؟ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَجُمْلَتُهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَتْبَاعُهُ الْمُتَّقُونَ، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: وَهُمْ الْأَكْثَرُونَ هُمْ أَهْلُهُ؛ وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثٍ: «صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ». وَقَالَ فِي آخَرَ: «وَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ». فَتَارَةً فَسَّرَهُ بِالذُّرِّيَّةِ وَالْأَزْوَاجِ، وَتَارَةً أَطْلَقَهُ. [مَسْأَلَة قَوْلُهُ كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ: وَهِيَ مُشْكِلَةٌ جِدًّا، لِأَنَّ مُحَمَّدًا أَفْضَلُ مِنْ إبْرَاهِيمَ، فَكَيْفَ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْهُ، ثُمَّ يَطْلُبُ لَهُ أَنْ يَبْلُغَ رُتْبَتَهُ؟ وَفِي ذَلِكَ تَأْوِيلَاتٌ كَثِيرَةٌ أُمَّهَاتُهَا عَشْرَةٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ قِيلَ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ بِمَرْتَبَتِهِ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ ذَلِكَ فِيهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ سَأَلَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَأَزْوَاجِهِ، لِتَتِمَّ عَلَيْهِمْ النِّعْمَةُ، كَمَا تَمَّتْ عَلَيْهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ سَأَلَ ذَلِكَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ آلَ مُحَمَّدٍ كُلُّ مَنْ اتَّبَعَهُ.

الآية الثانية والعشرون قوله تعالى يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين

الرَّابِعُ: أَنَّهُ سَأَلَ ذَلِكَ مُضَاعَفًا لَهُ، حَتَّى يَكُونَ لِإِبْرَاهِيمَ بِالْأَصْلِ، وَلَهُ بِالْمُضَاعَفَةِ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ سَأَلَ ذَلِكَ لِتَدُومَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. السَّادِسُ: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ ذَلِكَ لَهُ بِدُعَاءِ أُمَّتِهِ، تَكْرِمَةً لَهُمْ وَنِعْمَةً عَلَيْهِمْ بِأَنْ يُكَرَّمَ رَسُولُهُمْ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ. السَّابِعُ: أَنَّ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ لَهُمْ لِيُثَابُوا عَلَيْهِ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا». الثَّامِنُ: أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَبْقَى لَهُ ذَلِكَ لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخَرِينَ. التَّاسِعُ: أَنَّ مَعْنَاهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ رَحْمَةً فِي الْعَالَمِينَ يَبْقَى بِهَا دِينُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. الْعَاشِرُ: أَنَّ مَعْنَاهُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ صَلَاةً تَتَّخِذُهُ بِهَا خَلِيلًا، كَمَا اتَّخَذْت إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا. قَالَ الْقَاضِي: وَعِنْدِي أَيْضًا أَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِصَلَاتِهِ وَصَلَاةِ أُمَّتِهِ كَمَا غُفِرَ لَهُمْ بِشَرْطِ اسْتِغْفَارِهِ، فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ، ثُمَّ كَانَ يُدِيمُ الِاسْتِغْفَارَ، لِيَأْتِيَ بِالشَّرْطِ الَّذِي غُفِرَ لَهُ. وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِمَا سَبَقَ مِنْ الْأَقْوَالِ، وَتَحْقِيقٌ فِيهَا لِمَا يَقْوَى مِنْ الِاحْتِمَالِ. [الْآيَة الثَّانِيَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِك وَبَنَاتِك وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ] َ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 59]. فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُوِيَ «أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَيْنَمَا هُوَ يَمْشِي بِسُوقِ الْمَدِينَةِ مَرَّ عَلَى امْرَأَةٍ مُخْتَرِمَةٍ بَيْنَ أَعْلَاجٍ قَائِمَةٍ بِسُوقِ بَعْضِ السِّلَعِ، فَجَلَدَهَا، فَانْطَلَقَتْ حَتَّى أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَلَدَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ رَآهُ مِنِّي، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَا حَمَلَك عَلَى جَلْدِ ابْنَةِ عَمِّك؟ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهَا، فَقَالَ: وَابْنَةُ عَمِّي هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْكَرْتهَا إذْ لَمْ أَرَ عَلَيْهَا جِلْبَابًا فَظَنَنْتهَا وَلِيدَةً فَقَالَ النَّاسُ: الْآنَ يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا. قَالَ عُمَرُ: وَمَا نَجِدُ لِنِسَائِنَا جَلَابِيبَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59]». الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْجِلْبَابِ عَلَى أَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ، عِمَادُهَا أَنَّهُ الثَّوْبُ الَّذِي يُسْتَرُ بِهِ الْبَدَنُ، لَكِنَّهُمْ نَوَّعُوهُ هَاهُنَا، فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ الرِّدَاءُ. وَقِيلَ: إنَّهُ الْقِنَاعُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ} [الأحزاب: 59] قِيلَ: مَعْنَاهُ تُغَطِّي بِهِ رَأْسَهَا فَوْقَ خِمَارِهَا. وَقِيلَ: تُغَطِّي بِهِ وَجْهَهَا حَتَّى لَا يَظْهَرَ مِنْهَا إلَّا عَيْنُهَا الْيُسْرَى. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَاَلَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي تَنْوِيعِهِ أَنَّهُمْ رَأَوْا السِّتْرَ وَالْحِجَابَ مِمَّا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَاسْتَقَرَّتْ مَعْرِفَتُهُ، وَجَاءَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَاقْتَرَنَتْ بِهِ الْقَرِينَةُ الَّتِي بَعْدَهُ، وَهِيَ مِمَّا تُبَيِّنُهُ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59]. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ يَسْلُبُ الْمَعْرِفَةَ عِنْدَ كَثْرَةِ الِاسْتِتَارِ، فَدَلَّ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ تَمْيِيزَهُنَّ عَلَى الْإِمَاءِ اللَّاتِي يَمْشِينَ حَاسِرَاتٍ، أَوْ بِقِنَاعٍ مُفْرَدٍ، يَعْتَرِضُهُنَّ

الآية الثالثة والعشرون قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى

الرِّجَالُ فَيَتَكَشَّفْنَ، وَيُكَلِّمْنَهُنَّ؛ فَإِذَا تَجَلْبَبَتْ وَتَسَتَّرَتْ كَانَ ذَلِكَ حِجَابًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُتَعَرِّضِ بِالْكَلَامِ، وَالِاعْتِمَادُ بِالْإِذَايَةِ، وَقَدْ قِيلَ: وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ. قَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ الْأَمَةُ إذَا مَرَّتْ تَنَاوَلَهَا الْمُنَافِقُونَ بِالْإِذَايَةِ، فَنَهَى اللَّهُ الْحَرَائِرَ أَنْ يَتَشَبَّهْنَ بِالْإِمَاءِ؛ لِئَلَّا يَلْحَقَهُنَّ مِثْلُ تِلْكَ الْإِذَايَةِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَضْرِبُ الْإِمَاءَ عَلَى التَّسَتُّرِ وَكَثْرَةِ التَّحَجُّبِ، وَيَقُولُ: أَتَتَشَبَّهْنَ بِالْحَرَائِرِ؟ وَذَلِكَ مِنْ تَرْتِيبِ أَوْضَاعِ الشَّرِيعَةِ بَيِّنٌ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَاَلَّذِينَ آذَوْا مُوسَى] فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحِ الثَّابِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا سَتِيرًا حَيِيًّا مَا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ، فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ، وَقَالُوا: مَا يَسْتَتِرُ هَذَا التَّسَتُّرَ إلَّا مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ، إمَّا بَرَصٌ، وَإِمَّا أُدْرَةٌ، وَإِمَّا آفَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالُوا، وَإِنَّ مُوسَى خَلَا يَوْمًا وَحْدَهُ، وَخَلَعَ ثِيَابَهُ، وَوَضَعَهَا عَلَى حَجَرٍ، ثُمَّ اغْتَسَلَ. فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ إلَى ثِيَابِهِ لِيَأْخُذَهَا، وَإِنَّ الْحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ، فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ، فَطَلَبَ الْحَجَرَ؛ فَجَعَلَ يَقُولُ: ثَوْبِي، حَجَرٌ؛ ثَوْبِي، حَجَرٌ، حَتَّى انْتَهَى إلَى مَلَإٍ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ، فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ النَّاسِ خَلْقًا، وَأَبْرَأَهُمْ مِمَّا كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ.

الآية الرابعة والعشرون قوله تعالى إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال

قَالَ: وَقَامَ إلَى الْحَجَرِ، وَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَلَبِسَهُ، وَطَفِقَ مُوسَى بِالْحَجَرِ ضَرْبًا بِعَصَاهُ، فَوَاَللَّهِ إنَّ بِالْحَجَرِ لَنَدَبًا مِنْ أَثَرِ عَصَاهُ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا؛ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} [الأحزاب: 69]. فَهَذِهِ إذَايَةٌ فِي بَدَنِهِ». وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي الْمَنْثُورِ: أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ صَعِدَا الْجَبَلَ فَمَاتَ هَارُونُ، فَقَالَ بَنُو إسْرَائِيلَ لِمُوسَى: أَنْتَ قَتَلْته، وَكَانَ أَلْيَنَ لَنَا مِنْك، وَأَشَدَّ حُبًّا؛ فَآذَوْهُ فِي ذَلِكَ، فَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَحَمَلْته، فَمَرُّوا بِهِ عَلَى مَجَالِسِ بَنِي إسْرَائِيلَ، فَتَكَلَّمَتْ الْمَلَائِكَةُ بِمَوْتِهِ، فَمَا عَرَفَ مَوْضِعَ قَبْرِهِ إلَّا الرَّخَمُ، وَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ أَصَمَّ أَبْكَمَ، وَهَذِهِ إذَايَةٌ فِي الْعِرْضِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي هَذَا النَّهْيِ عَنْ التَّشَبُّهِ بِبَنِي إسْرَائِيلَ فِي إذَايَةِ نَبِيِّهِمْ مُوسَى: وَفِيهِ تَحْقِيقُ الْوَعْدِ بِقَوْلِهِ: «لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ». وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَوَقَعَ النَّهْيُ، تَكْلِيفًا لِلْخَلْقِ، وَتَعْظِيمًا لِقَدْرِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَقَعَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ تَحْقِيقًا لِلْمُعْجِزَةِ، وَتَصْدِيقًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَنْفِيذًا لِحُكْمِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَرَدًّا عَلَى الْمُبْتَدِعَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعَانِيَ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ مُخْتَصَرِ النَّيِّرَيْنِ. [الْآيَة الرَّابِعَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ] الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} [الأحزاب: 72]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي حَقِيقَةِ الْعَرْضِ: وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُشْكِلَيْنِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي ذِكْرِ الْأَمَانَةِ: وَفِيهَا اخْتِلَاطُ كَثِيرٍ مِنْ الْقَوْلِ، لُبَابُهُ فِي عَشْرَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ؛ قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ. الثَّانِي: أَنَّهَا الْفَرَائِضُ؛ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا أَمَانَةُ الْفَرْجِ عِنْدَ الْمَرْأَةِ؛ قَالَهُ أُبَيٌّ. الرَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ وَضَعَ الرَّحِمَ عِنْدَ آدَمَ أَمَانَةً. الْخَامِسُ: أَنَّهَا الْخِلَافَةُ. السَّادِسُ: أَنَّهَا الْجَنَابَةُ وَالصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ؛ قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ. السَّابِعُ: أَنَّهَا أَمَانَةُ آدَمَ قَابِيلَ عَلَى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، فَقَتَلَ قَابِيلُ هَابِيلَ. الثَّامِنُ: أَنَّهَا وَدَائِعُ النَّاسِ. التَّاسِعُ: أَنَّهَا الطَّاعَةُ. الْعَاشِرُ: أَنَّهَا التَّوْحِيدُ. فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ، تَرْجِعُ إلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: التَّوْحِيدُ: فَإِنَّهُ أَمَانَةٌ عِنْدَ الْعَبْدِ، وَخَفِيَ فِي الْقَلْبِ، لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ». ثَانِيهِمَا: قِسْمُ الْعَمَلِ: وَهُوَ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الشَّرِيعَةِ، وَكُلُّهَا أَمَانَةٌ تَخْتَصُّ بِتَأْكِيدِ الِاسْمِ فِيهَا. وَالْمَعْنَى مَا كَانَ خَفِيًّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَأَخْفَاهُ أَحَقُّهُ بِالْحِفْظِ، وَأَخْفَاهُ أَلْزَمُهُ بِالرِّعَايَةِ وَأَوْلَاهُ.

مسألة من الأمانات الوضوء والغسل

[مَسْأَلَة مِنْ الْأَمَانَات الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَخْتَصُّ بِالْأَحْكَامِ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: الْوَدَائِعُ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا، وَأَوْضَحْنَا وَجْهَ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِيهَا، وَهَلْ تُقَابَلُ بِخِيَانَةٍ أَمْ لَا؟ الثَّانِي: أَمَانَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى حَيْضِهَا وَحَمْلِهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. الثَّالِثُ: الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ، وَهُمَا أَمَانَتَانِ عَظِيمَتَانِ لَا يَعْلَمُهُمَا إلَّا اللَّهُ، وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ؛ وَلِأَجْلِ ذَلِكَ جُعِلَ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَهُوَ يَجْزِي بِهِ حَسْبَمَا وَرَدَ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّ الطَّهَارَةَ لَمَّا كَانَتْ خَفِيَّةً لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ كَانَ الْحُكْمُ فِيهَا إذَا صَلَّى إمَامٌ بِقَوْمٍ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ مُحْدِثٌ، فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَحْدَهُ، وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ حَدَثَهُ أَوْ طَهَارَتَهُ لَا تُعْلَمُ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا تُعْلَمُ بِظَاهِرٍ مِنْ الْقَوْلِ، وَاجْتِهَادٍ فِي النَّظَرِ؛ لَيْسَ بِنَصٍّ وَلَا يَقِينٍ، وَقَدْ أُدِّيَتْ الصَّلَاةُ وَرَاءَهُ بِاجْتِهَادٍ؛ وَلَا يُنْقَضُ بِاجْتِهَادٍ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُهُ لِلْحَدَثِ غَيْرَ صَحِيحٍ، وَهُوَ أَيْضًا نَاسٍ فِيهِ؛ إذْ هُوَ غَيْرُ مُحَقِّقٍ لَهُ حَتَّى بَالَغُوا فِي ذَلِكَ النَّظَرِ، وَاسْتَوْفَوْا فِيهِ الْحَقَّ، فَقَالُوا: إنَّ الْإِمَامَ إذَا قَالَ: صَلَّيْت بِكُمْ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا سَنَةً مُتَعَمِّدًا لِتَرْكِ الطَّهَارَةِ مَا اسْتَقْبَلْت فِيهَا قِبْلَةً بِوُضُوءٍ، وَلَا اغْتَسَلْت عَنْ جَنَابَةٍ، ذَنْبًا ارْتَكَبْته؛ وَسَيِّئَةً اجْتَرَمَتْهَا، وَأَنَا مِنْهَا تَائِبٌ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَاحِدٍ مِمَّنْ صَلَّى وَرَاءَهُ إعَادَةٌ؛ وَاَللَّهُ حَسِيبُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ غَيْرُ مُتَحَقَّقٍ مِنْ قَوْلِهِ، وَلَعَلَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ، وَهَذَا كَذِبٌ لِعِلَّةٍ أَوْ حِيلَةٍ أَوْ لِتَهَوُّرٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ.

[سورة سبأ فيها ثلاث آيات]

[سُورَةُ سَبَأٍ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُد مِنَّا فَضْلًا] سُورَةُ سَبَأٍ [مَكِّيَّةٌ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ: 10]. [فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ: {فَضْلا} [سبأ: 10]: فِيهِ] أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَوْلًا: الْأَوَّلُ: النُّبُوَّةُ. الثَّانِي: الزَّبُورُ. الثَّالِثُ: حُسْنُ الصَّوْتِ. الرَّابِعُ: تَسْخِيرُ الْجِبَالِ وَالنَّاسِ. الْخَامِسُ: التَّوْبَةُ. السَّادِسُ: الزِّيَادَةُ فِي الْعُمْرِ. السَّابِعُ: الطَّيْرُ. الثَّامِنُ: الْوَفَاءُ بِمَا وُعِدَ. التَّاسِعُ: حُسْنُ الْخُلُقِ. الْعَاشِرُ: الْحُكْمُ بِالْعَدْلِ. الْحَادِيَ عَشَرَ: تَيْسِيرُ الْعِبَادَةِ.

[مسألة الإعجاب بحسن الصوت]

الثَّانِيَ عَشَرَ: الْعِلْمُ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} [النمل: 15]. الثَّالِثَ عَشَرَ: الْقُوَّةُ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 17]. الرَّابِعَ عَشَرَ: قَوْلُهُ: {وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 16]. وَالْمُرَادُ هَاهُنَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَقْوَالِ حُسْنُ الصَّوْتِ؛ فَإِنَّ سَائِرَهَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ فِي كِتَابِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الْمُشْكِلَيْنِ. وَكَانَ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذَا صَوْتٍ حَسَنٍ وَوَجْهٍ حَسَنٍ، وَلَهُ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: لَقَدْ أُوتِيت مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُد»، وَهِيَ: [مَسْأَلَة الْإِعْجَابِ بِحُسْنِ الصَّوْتِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَفِيهِ دَلِيلُ الْإِعْجَابِ بِحُسْنِ الصَّوْتِ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ قَالَ: «رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ أَوْ جَمَلِهِ وَهِيَ تَسِيرُ بِهِ، وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ أَوْ مِنْ سُورَةِ الْفَتْحِ قِرَاءَةً لَيِّنَةً وَهُوَ يُرَجِّعُ، وَيَقُولُ آهٍ»، وَاسْتَحْسَنَ كَثِيرٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ الْقِرَاءَةَ بِالْأَلْحَانِ وَالتَّرْجِيعِ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ. وَهُوَ جَائِزٌ «لِقَوْلِ أَبِي مُوسَى لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَوْ عَلِمْت أَنَّك تَسْمَعُ لَحَبَّرْته لَك تَحْبِيرًا»؛ يُرِيدُ لَجَعَلْته لَك أَنْوَاعًا حِسَانًا، وَهُوَ التَّلْحِينُ، مَأْخُوذٌ مِنْ الثَّوْبِ الْمُحَبَّرِ، وَهُوَ الْمُخَطَّطُ بِالْأَلْوَانِ. وَقَدْ سَمِعْت تَاجَ الْقُرَّاءِ ابْنَ لُفْتَةَ بِجَامِعِ عَمْرٍو يَقْرَأُ: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79]. فَكَأَنِّي مَا سَمِعْت الْآيَةَ قَطُّ. وَسَمِعْت ابْنَ الرَّفَّاءِ وَكَانَ مِنْ الْقُرَّاءِ الْعِظَامِ يَقْرَأُ، وَأَنَا حَاضِرٌ بِالْقَرَافَةِ: فَكَأَنِّي مَا سَمِعْتهَا قَطُّ.

وَسَمِعْت بِمَدِينَةِ السَّلَامِ شَيْخَ الْقُرَّاءِ الْبَصْرِيِّينَ يَقْرَأُ فِي دَارٍ بِهَا الْمَلِكُ: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1] فَكَأَنِّي مَا سَمِعْتهَا قَطُّ حَتَّى بَلَغَ إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 16] فَكَأَنَّ الْإِيوَانَ قَدْ سَقَطَ عَلَيْنَا. وَالْقُلُوبُ تَخْشَعُ بِالصَّوْتِ الْحَسَنِ كَمَا تَخْضَعُ لِلْوَجْهِ الْحَسَنِ، وَمَا تَتَأَثَّرُ بِهِ الْقُلُوبُ فِي التَّقْوَى فَهُوَ أَعْظَمُ فِي الْأَجْرِ وَأَقْرَبُ إلَى لِينِ الْقُلُوبِ وَذَهَابِ الْقَسْوَةِ مِنْهَا. وَكَانَ ابْنُ الْكَازَرُونِيِّ يَأْوِي إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، ثُمَّ تَمَتَّعْنَا بِهِ ثَلَاثَ سَنَوَاتٍ، وَلَقَدْ كَانَ يَقْرَأُ فِي مَهْدِ عِيسَى فَيُسْمَعُ مِنْ الطُّورِ، فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَصْنَعَ شَيْئًا طُولَ قِرَاءَتِهِ إلَّا الِاسْتِمَاعَ إلَيْهِ. وَكَانَ صَاحِبُ مِصْرَ الْمُلَقَّبُ بِالْأَفْضَلِ قَدْ دَخَلَهَا فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَحَوَّلَهَا عَنْ أَيْدِي الْعَبَّاسِيَّةِ، وَهُوَ حَنَقَ عَلَيْهَا وَعَلَى أَهْلِهَا بِحِصَارِهِ لَهُمْ وَقِتَالِهِمْ لَهُ، فَلَمَّا صَارَ فِيهَا، وَتَدَانَى بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى مِنْهَا، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ تَصَدَّى لَهُ ابْنُ الْكَازَرُونِيِّ، وَقَرَأَ: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26] فَمَا مَلَكَ نَفْسَهُ حِينَ سَمِعَهُ أَنْ قَالَ لِلنَّاسِ عَلَى عِظَمِ ذَنْبِهِمْ عِنْدَهُ، وَكَثْرَةِ حِقْدِهِ عَلَيْهِمْ: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92]. وَالْأَصْوَاتُ الْحَسَنَةُ نِعْمَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَزِيَادَةٌ فِي الْخَلْقِ وَمِنَّةٌ. وَأَحَقُّ مَا لُبِّسَتْ هَذِهِ الْحُلَّةُ النَّفِيسَةُ وَالْمَوْهِبَةُ الْكَرِيمَةُ كِتَابُ اللَّهِ؛ فَنِعَمُ اللَّهِ إذَا صُرِفَتْ فِي الطَّاعَةِ فَقَدْ قُضِيَ بِهَا حَقُّ النِّعْمَةِ.

[الآية الثانية قوله تعالى يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل]

[الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ] َ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]. فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْمِحْرَابُ: هُوَ الْبِنَاءُ الْمُرْتَفِعُ الْمُمْتَنِعُ، وَمِنْهُ يُسَمَّى الْمِحْرَابُ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ أَرْفَعُهُ، أَنْشَدَ فَقِيهُ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى عَطَاءٌ الصُّوفِيُّ: جَمَعَ الشَّجَاعَةَ وَالْخُضُوعَ لِرَبِّهِ ... مَا أَحْسَنَ الْمِحْرَابَ فِي الْمِحْرَابِ وَالْجِفَانُ أَكْبَرُ الصِّحَافِ قَالَ الشَّاعِرُ: يَا جَفْنَةً بِإِزَاءِ الْحَوْضِ قَدْ كُفِئَتْ ... وَمَنْطِقًا مِثْلَ وَشْيِ الْبُرْدَةِ الْخَضِرِ وَالْجَوَابِي جَمْعُ جَابِيَةٍ، وَهِيَ الْحَوْضُ الْعَظِيمُ الْمَصْنُوعُ قَالَ الشَّاعِرُ يَصِفُ جَفْنَةً: كَجَابِيَةِ الشَّيْخِ الْعِرَاقِيِّ تَفْهَقُ {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13] يَعْنِي ثَابِتَاتٍ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات: 32]. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ شَاهَدْت مِحْرَابَ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِنَاءً عَظِيمًا مِنْ حِجَارَةٍ صَلْدَةٍ لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ، طُولُ الْحَجَرِ خَمْسُونَ ذِرَاعًا، وَعَرْضُهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، وَكُلَّمَا قَامَ بِنَاؤُهُ صَغُرَتْ حِجَارَتُهُ، وَيُرَى لَهُ ثَلَاثَةُ أَسْوَارٍ؛ لِأَنَّهُ فِي السَّحَابِ أَيَّامَ الشِّتَاءِ كُلَّهَا لَا يَظْهَرُ لِارْتِفَاعِ مَوْضِعِهِ وَارْتِفَاعُهُ فِي نَفْسِهِ، لَهُ بَابٌ صَغِيرٌ وَمَدْرَجَةٌ عَرِيضَةٌ، وَفِيهِ الدُّورُ وَالْمَسَاكِنُ، وَفِي أَعْلَاهُ الْمَسْجِدُ، وَفِيهِ كُوَّةٌ شَرْقِيَّةٌ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فِي قَدْرِ الْبَابِ، وَيَقُولُ النَّاسُ: إنَّهُ تَطَلَّعَ مِنْهَا عَلَى الْمَرْأَةِ حِينَ دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْحَمَامَةُ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِي هَدْمِهِ حِيلَةٌ، وَفِيهِ نَجَا مَنْ نَجَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ حِينَ دَخَلَهَا الرُّومُ حَتَّى صَالَحُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنْ أَسْلَمُوهُ إلَيْهِمْ، عَلَى أَنْ يَسْلَمُوا فِي رِقَابِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ، وَتَخَلَّوْا لَهُمْ عَنْهُ.

[مسألة معنى قوله تعالى وتماثيل]

وَرَأَيْت فِيهِ غَرِيبَةَ الدَّهْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ ثَائِرًا ثَارَ بِهِ عَلَى وَالِيهِ، وَامْتَنَعَ فِيهِ بِالْقُوتِ، فَحَصَرَهُ، وَحَاوَلَ قِتَالَهُ بِالنُّشَّابِ مُدَّةً، وَالْبَلَدُ عَلَى صِغَرِهِ مُسْتَمِرٌّ عَلَى حَالِهِ، مَا أُغْلِقَتْ لِهَذِهِ الْفِتْنَةِ سُوقٌ، وَلَا سَارَ إلَيْهَا مِنْ الْعَامَّةِ بَشَرٌ، وَلَا بَرَزَ لِلْحَالِ مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى مُعْتَكِفٌ، وَلَا انْقَطَعَتْ مُنَاظَرَةٌ، وَلَا بَطَلَ التَّدْرِيسُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الْعَسْكَرِيَّةُ قَدْ تَفَرَّقَتْ فِرْقَتَيْنِ يَقْتَتِلُونَ، وَلَيْسَ عِنْدَ سَائِرِ النَّاسِ لِذَلِكَ حَرَكَةٌ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُ هَذَا فِي بِلَادِنَا لَاضْطَرَمَتْ نَارُ الْحَرْبِ فِي الْبَعِيدِ وَالْقَرِيبِ، وَلَانْقَطَعَتْ الْمَعَايِشُ. وَغُلِّقَتْ الدَّكَاكِينُ، وَبَطَلَ التَّعَامُلُ لِكَثْرَةِ فُضُولِنَا وَقِلَّةِ فُضُولِهِمْ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى وَتَمَاثِيلَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَتَمَاثِيلَ} [سبأ: 13]، وَاحِدَتُهَا تِمْثَالٌ، وَهُوَ بِنَاءٌ غَرِيبٌ؛ فَإِنَّ الْأَسْمَاءَ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى " تِفْعَالٍ " قَلِيلَةٌ مُنْحَصِرَةٌ؛ جِمَاعُهَا مَا أَخْبَرَنَا أَبُو الْمَعَالِي ثَابِتُ بْنُ بُنْدَارٍ، أَخْبَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ رَزِيَّةَ، أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو سَعِيدٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ دُرَيْدٍ قَالَ: رَجُلٌ تِكْلَامٌ: كَثِيرُ الْكَلَامِ وَتِلْقَامٌ: كَثِيرُ اللُّقَمِ، وَرَجُلٌ تِمْسَاحٌ: كَذَّابٌ، وَنَاقَةٌ تِضْرَابٌ: قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالضِّرَابِ، وَالتِّمْرَادُ: بَيْتٌ صَغِيرٌ لِلْحَمَامِ. وَتِلْفَاقٌ. ثَوْبَانِ يُخَاطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ. وَالتِّجْفَافُ: مَعْرُوفٌ. وَتِمْثَالٌ: مَعْرُوفٌ. وَتِبْيَانٌ: مِنْ الْبَيَانِ وَتِلْقَاءَ: قُبَالَتَك وَتِهْوَاءَ مِنْ اللَّيْلِ: قِطْعَةٌ. وَتِعْشَارٌ: مَوْضِعٌ. وَرَجُلٌ تِنْبَالٌ: قَصِيرٌ. وَتِلْعَابٌ: كَثِيرُ اللَّعِبِ. وَتِقْصَارٌ: قِلَادَةٌ. فَهَذِهِ سِتَّةَ عَشَرَ مِثَالًا. فَلَمَّا قَرَأْت إصْلَاحَ الْمَنْطِقِ بِبَغْدَادَ عَلَى الشَّيْخِ الْأَجَلِّ الْخَطِيبِ رَئِيسِ اللُّغَةِ وَخَازِنِ دَارِ الْعِلْمِ أَبِي زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنِ عَلِيٍّ التَّبْرِيزِيِّ قَالَ لِي: كُنْت أَقْرَأُ خُطَبَ ابْنِ نَبَاتَةَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْعَرَبِيِّ اللُّغَوِيِّ الْفَرَائِضِيِّ فَوَصَلْت إلَى قَوْلِهِ: وَتِذْكَارُهُمْ تُوَاصِلُ مَسِيلَ الْعَبَرَاتِ، وَقَرَأْته بِخَفْضِ التَّاءِ فَرَدَّ عَلَيَّ، وَقَالَ وَتَذْكَارُهُمْ بِفَتْحِهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تِفْعَالٌ إلَّا التِّلْقَاءَ وَإِلَّا التِّبْيَانَ، وَتِعْشَارٌ وَتِنْزَالٌ مَوْضِعَانِ، وَتِقْصَارٌ: قِلَادَةٌ. قَالَ لِي التَّبْرِيزِيُّ: ثُمَّ قَرَأْت خُطَبَ ابْنِ نَبَاتَةَ عَلَى بَعْضِ أَشْيَاخِي، فَلَمَّا وَصَلْت إلَى

[مسألة التمثال على قسمين]

اللَّفْظِ وَذَكَرْت لَهُ كَلَامَ ابْنِ الْعَرَبِيِّ قَالَ لِي: اُكْتُبْ مَا أَمَلِي عَلَيْك. فَأَمْلَى عَلَيَّ: الْأَشْيَاءُ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى تِفْعَالٍ ضَرْبَانِ: مَصَادِرُ وَأَسْمَاءٌ؛ فَأَمَّا الْمَصَادِرُ فَالتِّلْقَاءُ وَالتِّبْيَانُ؛ وَهُمَا فِي الْقُرْآنِ. وَالْأَسْمَاءُ: رَجُلٌ تِنْبَالٌ: أَيْ قَصِيرٌ. وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ التَّاءَ فِي تِنْبَالٍ أَصْلِيَّةٌ فَيَكُونُ وَزْنُهُ فِعْلَالًا. وَذَكَرَ مَا قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ وَزَادَ التِّنْضَالُ مِنْ الْمُنَاضَلَةِ والتِّيغَارُ حَبٌّ مَقْطُوعٌ يَزِيدُ فِي الْخَابِيَةِ، وَتِرْيَاعٌ: مَوْضِعٌ، وَالتِّرْبَانُ وَتِرْغَامٌ اسْمُ شَاعِرٍ، وَيُقَالُ جَاءَ لِتِنْفَاقِ الْهِلَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، وَالتِّمْتَانُ وَاحِدُ التِّمْتَانَيْنِ، وَهِيَ خُيُوطٌ تُضْرَبُ بِهَا الْفُسْطَاطُ. وَرَجُلٌ تِمْزَاحٌ كَثِيرُ الْمُزَاحِ، وَالتِّمْسَاحُ الدَّابَّةُ الْمَعْرُوفَةُ. [مَسْأَلَة التِّمْثَالُ عَلَى قِسْمَيْنِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ التِّمْثَالُ عَلَى قِسْمَيْنِ حَيَوَانٌ وَمَوَاتٌ، وَالْمَوَاتُ عَلَى قِسْمَيْنِ: جَمَادٌ وَنَامٍ، وَقَدْ كَانَتْ الْجِنُّ تَصْنَعُ لِسُلَيْمَانَ جَمِيعَهُ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا عُمُومُ قَوْلِهِ: {وَتَمَاثِيلَ} [سبأ: 13]. وَالثَّانِي مَا رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ عَدِيدَةٍ، أَصْلُهَا الإسرائليات؛ لِأَنَّ التَّمَاثِيلَ مِنْ الطَّيْرِ كَانَتْ عَلَى كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ. فَإِنْ قِيلَ: لَا عُمُومَ لِقَوْلِهِ: {وَتَمَاثِيلَ} [سبأ: 13] فَإِنَّهُ إثْبَاتٌ فِي نَكِرَةٍ، وَالْإِثْبَاتُ فِي النَّكِرَةِ لَا عُمُومَ لَهُ؛ إنَّمَا الْعُمُومُ فِي النَّفْيِ فِي النَّكِرَةِ حَسْبَمَا قَرَرْتُمُوهُ فِي الْأُصُولِ. قُلْنَا: كَذَلِكَ نَقُولُ، بَيْدَ أَنَّهُ قَدْ اُقْتُرِنَ بِهَذَا الْإِثْبَاتِ فِي النَّكِرَةِ مَا يَقْتَضِي حَمْلَهُ عَلَى الْعُمُومِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {مَا يَشَاءُ} [سبأ: 13] فَاقْتِرَانُ الْمَشِيئَةِ بِهِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ شَاءَ عَمَلَ الصُّوَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا؟ قُلْنَا: لَمْ يَرِدْ أَنَّهُ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهَا فِي شَرْعِهِ، بَلْ وَرَدَ عَلَى أَلْسِنَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ

كَانَ أَمْرًا مَأْذُونًا فِيهِ، وَاَلَّذِي أُوجِبَ النَّهْيَ عَنْهُ فِي شَرْعِنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا كَانَتْ الْعَرَبُ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ، فَكَانُوا يُصَوِّرُونَ وَيَعْبُدُونَ، فَقَطَعَ اللَّهُ الذَّرِيعَةَ وَحَمَى الْبَابَ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ حِينَ ذَمَّ الصُّوَرَ وَعَمَلَهَا مِنْ الصَّحِيحِ قَوْلَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ صَوَّرَ صُورَةً عَذَّبَهُ اللَّهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ». وَفِي رِوَايَةٍ: «الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ»؛ فَعَلَّلَ بِغَيْرِ مَا زَعَمْتُمْ. قُلْنَا: نُهِيَ عَنْ الصُّورَةِ، وَذَكَرَ عِلَّةَ التَّشْبِيهِ بِخَلْقِ اللَّهِ، وَفِيهَا زِيَادَةُ عِلَّةِ عِبَادَتِهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ نَفْسَ عَمَلِهَا مَعْصِيَةٌ، فَمَا ظَنُّك بِعِبَادَتِهَا، وَقَدْ وَرَدَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ شَأْنُ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا، وَأَنَّهُمْ كَانُوا أُنَاسًا، ثُمَّ صُوِّرُوا بَعْدَ مَوْتِهِمْ وَعُبِدُوا. وَقَدْ شَاهَدْت بِثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة إذَا مَاتَ مِنْهُمْ مَيِّتٌ صَوَّرُوهُ مِنْ خَشَبٍ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، وَأَجْلَسُوهُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ بَيْتِهِ وَكَسَوْهُ بِزَّتَهُ إنْ كَانَ رَجُلًا وَحِلْيَتَهَا إنْ كَانَتْ امْرَأَةً، وَأَغْلَقُوا عَلَيْهِ الْبَابَ. فَإِذَا أَصَابَ أَحَدًا مِنْهُمْ كَرْبٌ أَوْ تَجَدَّدَ لَهُ مَكْرُوهٌ فَتَحَ الْبَابَ [عَلَيْهِ] وَجَلَسَ عِنْدَهُ يَبْكِي وَيُنَاجِيهِ بِكَانَ وَكَانَ حَتَّى يَكْسِرَ سَوْرَةَ حُزْنِهِ بِإِهْرَاقِ دُمُوعِهِ، ثُمَّ يُغْلِقُ الْبَابَ عَلَيْهِ وَيَنْصَرِفُ عَنْهُ، وَإِنْ تَمَادَى بِهِمْ الزَّمَانُ يَعْبُدُوهَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ

إنْ قُلْنَا: إنَّ شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا لَا تَلْزَمُنَا فَلَيْسَ يُنْقَلُ عَنْ ذَلِكَ حُكْمٌ. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا فَيَكُونُ نَهْيُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصُّوَرِ نَسْخًا، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي قِسْمِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ قَبْلَ هَذَا. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الَّذِي كَانَ يُصْنَعُ لَهُ الصُّوَرُ الْمُبَاحَةُ مِنْ غَيْرِ الْحَيَوَانِ وَصُورَتِهِ فَشَرْعُنَا وَشَرْعُهُ وَاحِدٌ. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْهِ مَا كَانَ شَخْصًا لَا مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ، لُبَابُهُ أَنَّ أُمَّهَاتِ الْأَحَادِيثِ خَمْسُ أُمَّهَاتٍ: الْأُمُّ الْأُولَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَصْحَابَ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ، أَوْ هُمْ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا. وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ صُورَةٍ. الْأُمُّ الثَّانِيَةُ رُوِيَ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ» زَادَ زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ: «إلَّا مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ» وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ نَحْوُهُ، فَقُلْت لِعَائِشَةَ: هَلْ سَمِعْت هَذَا؟ فَقَالَتْ: لَا؛ وَسَأُحَدِّثُكُمْ؛ «خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزَاةٍ فَأَخَذْت نَمَطًا فَنَشَرْته عَلَى الْبَابِ، فَلَمَّا قَدِمَ وَرَأَى النَّمَطَ عَرَفْت الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِهِ، فَجَذَبَهُ حَتَّى هَتَكَهُ، وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْسُوَ الْحِجَارَةَ وَالطِّينَ. قَالَتْ: فَقَطَعْت مِنْهُ وِسَادَتَيْنِ وَحَشَوْتهمَا لِيفًا فَلَمْ يَعِبْ ذَلِكَ عَلَيَّ».

الْأُمُّ الثَّالِثَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ: «كَانَ لَنَا سِتْرٌ فِيهِ تِمْثَالٌ طَائِرٌ، وَكَانَ الدَّاخِلُ إذَا دَخَلَ اسْتَقْبَلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حَوِّلِي هَذَا فَإِنِّي كُلَّمَا رَأَيْته ذَكَرْت الدُّنْيَا». الْأُمُّ الرَّابِعَةُ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا مُتَسَتِّرَةٌ بِقِرَامٍ فِيهِ صُورَةٌ فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ ثُمَّ تَنَاوَلَ السِّتْرَ فَهَتَكَهُ، ثُمَّ قَالَ: إنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ خَلْقَ اللَّهِ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَطَّعْته، فَجَعَلْت مِنْهُ وِسَادَتَيْنِ». الْأُمُّ الْخَامِسَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ: «كَانَ لَنَا ثَوْبٌ مَمْدُودٌ عَلَى سَهْوَةٍ فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي إلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَخِّرِيهِ عَنِّي، فَجَعَلْت مِنْهُ وِسَادَتَيْنِ؛ فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْتَفِقُ بِهِمَا». وَفِي رِوَايَةٍ فِي حَدِيثِ النُّمْرُقَةِ قَالَتْ: «اشْتَرَيْتهَا لَك لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَتَوَسَّدَهَا؛ فَقَالَ: إنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَدْخُلُونَ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ». قَالَ الْقَاضِي: فَتَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الصُّوَرَ مَمْنُوعَةٌ عَلَى الْعُمُومِ، ثُمَّ جَاءَ: إلَّا مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ، فَخُصَّ مِنْ جُمْلَةِ الصُّوَرِ، ثُمَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ فِي الثَّوْبِ الْمُصَوَّرِ: أَخِّرِيهِ عَنِّي؛ فَإِنِّي كُلَّمَا رَأَيْته ذَكَرْت الدُّنْيَا فَثَبَتَتْ الْكَرَاهَةُ فِيهِ. ثُمَّ بِهَتْكِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثَّوْبَ الْمُصَوَّرَ عَلَى عَائِشَةَ مَنَعَ مِنْهُ، ثُمَّ بِقَطْعِهَا لَهَا وِسَادَتَيْنِ حَتَّى تَغَيَّرَتْ الصُّورَةُ وَخَرَجَتْ عَنْ هَيْئَتِهَا بِأَنَّ جَوَازَ ذَلِكَ إذَا لَمْ تَكُنْ الصُّورَةُ فِيهِ مُتَّصِلَةَ الْهَيْئَةِ،

[مسألة معنى قوله تعالى وجفان كالجواب]

وَلَوْ كَانَتْ مُتَّصِلَةَ الْهَيْئَةِ لَمْ يَجُزْ لِقَوْلِهَا فِي النُّمْرُقَةِ الْمُصَوَّرَةِ: اشْتَرَيْتهَا لَك لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَتَوَسَّدَهَا، فَمَنَعَ مِنْهُ وَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ، وَتَبَيَّنَ بِحَدِيثِ الصَّلَاةِ إلَى الصُّورَةِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ جَائِزًا [فِي الرَّقْمِ] فِي الثَّوْبِ، ثُمَّ نَسَخَهُ الْمَنْعُ، فَهَكَذَا اسْتَقَرَّ فِيهِ الْأَمْرُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} [سبأ: 13]: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: كَالْجَوْبَةِ مِنْ الْأَرْضِ. {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13] يَعْنِي لَا تُحْمَلُ وَلَا تُحَرَّكُ لِعِظَمِهَا، وَكَذَلِكَ كَانَتْ قُدُورُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ يُصْعَدُ إلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِسُلَّمٍ، وَرَأَيْت بِرِبَاطِ أَبِي سَعِيدٍ قُدُورَ الصُّوفِيَّةِ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ يَطْبُخُونَ جَمِيعًا، وَيَأْكُلُونَ جَمِيعًا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْثَارِ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَنْ أَحَدٍ، وَعَنْهَا عَبَّرَ طَرَفَةُ بْنُ الْعَبْدِ بِقَوْلِهِ: كَالْجَوَابِي لَا تَنِي مُتْرَعَةً ... لِقِرَى الْأَضْيَافِ أَوْ لَلْمُحْتَضَرِ وَقَالَ أَيْضًا: يُجْبَرُ الْمَحْرُوبُ فِيهَا مَالَهُ بِجِفَانٍ وَقِبَابٍ وَخَدَمٍ. [مَسْأَلَة حَقِيقَةُ الشُّكْرِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ: 13]: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]. ثُمَّ قَالَ: ثَلَاثٌ مَنْ أُوتِيَهُنَّ فَقَدْ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ آلُ دَاوُد. قَالَ: فَقُلْنَا: مَا هُنَّ؟ قَالَ: الْعَدْلُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَالْقَصْدُ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَخَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ».

[الآية الثالثة قوله تعالى قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له]

الثَّانِي: قَوْلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. الثَّالِثُ: الصَّلَاةُ شُكْرٌ، وَالصِّيَامُ شُكْرٌ، وَكُلُّ خَيْرٍ يُفْعَلُ لِلَّهِ شُكْرٌ. قَالَ الْقَاضِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: حَقِيقَةُ الشُّكْرِ اسْتِعْمَالُ النِّعْمَةِ فِي الطَّاعَةِ، وَالْكُفْرَانُ: اسْتِعْمَالُهَا فِي الْمَعْصِيَةِ. وَقَلِيلٌ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْخَيْرَ أَقَلُّ مِنْ الشَّرِّ، وَالطَّاعَةَ أَقَلُّ مِنْ الْمَعْصِيَةِ بِحَسْبِ سَابِقِ التَّقْدِيرِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى قُلْ إنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ] ُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39] يَعْنِي يَأْتِي بِثَانٍ بَعْدَ الْأَوَّلِ، وَمِنْهُ الْخِلْفَةُ فِي النَّبَاتِ. وَقَالَ أَعْرَابِيٌّ لِأَبِي بَكْرٍ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ. فَقَالَ: لَا. بَلْ أَنَا الْخَالِفَةُ بَعْدَهُ. [قَالَ ثَعْلَبٌ: يُرِيدُ بِالْقَاعِدِ بَعْدَهُ]، وَالْخَالِفَةُ الَّذِي يَسْتَخْلِفُهُ الرَّئِيسُ عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي مَعْنَى الْخَلَفِ هَاهُنَا أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: يُخْلِفُهُ إذَا رَأَى ذَلِكَ صَلَاحًا، كَمَا يُجِيبُ الدُّعَاءَ إذَا شَاءَ. الثَّانِي يُخْلِفُهُ بِالثَّوَابِ. الثَّالِثُ: مَعْنَى يُخْلِفُهُ، فَهُوَ أَخْلَفَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا عِنْدَ الْعَبْدِ مِنْ خَلَفِ اللَّهِ وَرِزْقِهِ.

رَوَى أَشْهَبُ وَابْنُ نَافِعٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْك». وَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْخَلَفَ فِي الدُّنْيَا بِمِثْلِ الْمُنْفِقِ بِهَا إذَا كَانَتْ النَّفَقَةُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَهُوَ كَالدُّعَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ سَوَاءٌ؛ إمَّا أَنْ تُقْضَى حَاجَتُهُ، وَكَذَلِكَ فِي النَّفَقَةِ يُعَوَّضُ مِثْلَهُ وَأَزْيَدَ، وَإِمَّا أَنْ يُعَوَّضَ، وَالتَّعْوِيضُ هَاهُنَا بِالثَّوَابِ، وَإِمَّا أَنْ يُدَّخَرَ لَهُ، وَالِادِّخَارُ هَاهُنَا مِثْلُهُ فِي الْآخِرَةِ.

[سورة فاطر فيها آيتان]

[سُورَةُ فَاطِرٍ فِيهَا آيَتَانِ] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا] ِ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر: 10]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: {يَصْعَدُ} [فاطر: 10]؛ وَالصُّعُودُ هُوَ الْحَرَكَةُ إلَى فَوْقَ، وَهُوَ الْعُرُوجُ أَيْضًا. وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ عَرْضٌ، وَلَكِنْ ضَرَبَ صُعُودَهُ مَثَلًا لِقَبُولِهِ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الثَّوَابِ فَوْقَ، وَمَوْضِعَ الْعَذَابِ أَسْفَلَ. وَالصُّعُودُ رِفْعَةٌ وَالنُّزُولُ هَوَانٌ. [مَسْأَلَة فِي الْكَلِمِ الطَّيِّبِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْكَلِمِ الطَّيِّبِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ التَّوْحِيدُ الصَّادِرُ عَنْ عَقِيدَةٍ طَيِّبَةٍ. الثَّانِي: مَا يَكُونُ مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ. الثَّالِثُ: مَا لَا يَكُونُ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَظٌّ، وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. [مَسْأَلَة كَلَامَ الْمَرْءِ بِذِكْرِ اللَّهِ إنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ} [فاطر: 10]: هُوَ الْمُوَافِقُ لِلسُّنَّةِ

[مسألة يقطع الصلاة الكلب]

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ: {يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]: قِيلَ الْفَاعِلُ فِي يَرْفَعُهُ مُضْمَرٌ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ أَيْ هُوَ الَّذِي يَرْفَعُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ، كَمَا أَنَّهُ إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ. وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ الَّذِي يُصْعِدُ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ، وَقَدْ قَالَ السَّلَفُ بِالْوَجْهَيْنِ، وَهُمَا صَحِيحَانِ. فَالْأَوَّلُ حَقِيقَةٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّافِعُ الْخَافِضُ. وَالثَّانِي مَجَازٌ؛ وَلَكِنَّهُ جَائِزٌ سَائِغٌ. وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ كَلَامَ الْمَرْءِ بِذِكْرِ اللَّهِ إنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ لَمْ يَنْفَعْ؛ لِأَنَّ مَنْ خَالَفَ قَوْلُهُ فِعْلَهُ فَهُوَ وَبَالٌ عَلَيْهِ. وَتَحْقِيقُ هَذَا أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ إذَا وَقَعَ شَرْطًا فِي الْقَوْلِ أَوْ مُرْتَبِطًا بِهِ فَإِنَّهُ لَا قَبُولَ لَهُ إلَّا بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِيهِ وَلَا مُرْتَبِطًا بِهِ فَإِنَّ كَلِمَهُ الطَّيِّبَ يُكْتَبُ لَهُ، وَعَمَلُهُ الصَّالِحُ يُكْتَبُ عَلَيْهِ، وَتَقَعُ الْمُوَازَنَةُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ يُحْكَمُ لَهُ بِالْفَوْزِ وَالرِّبْحِ وَالْخُسْرَانِ. [مَسْأَلَة يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْكَلْبُ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ ذَكَرُوا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْكَلْبُ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِعُمُومٍ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ. وَقَدْ دَخَلَ هَذَا فِي الصَّلَاةِ بِشُرُوطِهَا، فَلَا يَقْطَعُهَا عَلَيْهِ شَيْءٌ إلَّا بِثُبُوتِ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ مِنْ مِثْلِ مَا انْعَقَدَتْ بِهِ مِنْ قُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ. وَقَدْ تَعَلَّقَ مَنْ رَأَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ.

[الآية الثانية قوله تعالى وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج]

وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْآثَارَ فِي ذَلِكَ بَيِّنَةٌ مُتَعَارِضَةٌ فَتَبْقَى الصَّلَاةُ عَلَى صِحَّتِهَا. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ] ٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [فاطر: 12]. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِي طَعَامِ الْبَحْرِ وَحِلْيَتِهِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَالنَّحْلِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ هَاهُنَا.

[سورة يس فيها أربع آيات]

[سُورَةُ يس فِيهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى يس] ٍ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {يس} [يس: 1]: فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى هَكَذَا كُتِبَ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي سَطَّرْنَاهَا الْآنَ، وَهِيَ فِي الْمُصْحَفِ كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ ثَبَتَ قَوْلُهُ: {ق} [ق: 1] وَثَبَتَ قَوْلُهُ: {ن وَالْقَلَمِ} [القلم: 1]؛ وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَى التَّهَجِّي، فَيُقَالُ فِيهِ يَاسِين، وَلَا قِيلَ قَافْ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَلَا نُونْ وَالْقَلَمِ، وَلَوْ ثَبَتَ بِهَذِهِ الصُّورَةِ لَقُلْت فِيهَا قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ قَافَ جَبَلٌ، وَإِنَّ نُونَ الْحُوتُ أَوْ الدَّوَاةُ؛ فَكَانَتْ فِي ذَلِكَ حِكْمَةٌ بَدِيعَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْخُلَفَاءَ وَالصَّحَابَةَ الَّذِينَ تَوَلَّوْا كَتْبَ الْقُرْآنِ كَتَبُوهَا مُطْلَقَةً لِتَبْقَى تَحْتَ حِجَابِ الْإِخْفَاءِ، وَلَا يُقْطَعُ عَلَيْهَا بِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي الْمُحْتَمَلَةِ؛ فَإِنَّ الْقَطْعَ عَلَيْهَا إنَّمَا يَكُونُ بِدَلِيلِ خَبَرٍ؛ إذْ لَيْسَ لِلنَّظَرِ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَاهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى؛ قَالَهُ مَالِكٌ، رَوَى عَنْهُ أَشْهَبُ قَالَ: سَأَلْت

[مسألة العبد يجوز له أن يتسمى باسم الله إذا كان فيه معنى منه]

مَالِكًا هَلْ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُسَمِّيَ يس؟ قَالَ: مَا أَرَاهُ يَنْبَغِي، لِقَوْلِ اللَّهِ: {يس} [يس: 1] {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس: 2] يَقُولُ: هَذَا اسْمِي يس. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يس يَا إنْسَانُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ، وَقَوْلُك يَا طَهَ: يَا رَجُلُ. وَعَنْهُ رِوَايَةُ أَنَّهُ اسْمُ اللَّهِ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ كُنِيَ بِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ لَهُ يَا يس أَيْ يَا سَيِّدُ. الرَّابِعُ أَنَّهُ مِنْ فَوَاتِحِ السُّوَرِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سَمَّانِي اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ سَبْعَةَ أَسْمَاءٍ: مُحَمَّدًا، وَأَحْمَدَ، وَطَه، وَيس، وَالْمُزَّمِّلَ وَالْمُدَّثِّرَ، وَعَبْدَ اللَّهِ». وَهَذَا حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ، وَقَدْ جَمَعْنَا أَسْمَاءَهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ. [مَسْأَلَة الْعَبْدَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَسَمَّى بِاسْمِ اللَّهِ إذَا كَانَ فِيهِ مَعْنًى مِنْهُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ رِوَايَةُ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ: لَا يُسَمَّى أَحَدٌ يس؛ لِأَنَّهُ اسْمُ اللَّهِ كَلَامٌ بَدِيعٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَسَمَّى بِاسْمِ اللَّهِ إذَا كَانَ فِيهِ مَعْنًى مِنْهُ، كَقَوْلِهِ: عَالِمٌ، وَقَادِرٌ، وَمُرِيدٌ، وَمُتَكَلِّمٌ؛ وَإِنَّمَا مَنَعَ مَالِكٌ مِنْ التَّسْمِيَةِ بِهَذَا، لِأَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ لَا يُدْرَى مَعْنَاهُ، فَرُبَّمَا كَانَ مَعْنَاهُ يَنْفَرِدُ بِهِ الرَّبُّ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ إذَا كَانَ لَا يَعْرِفُ هَلْ هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْبَارِي فَيُقَدَّمُ عَلَى خَطَرٍ مِنْهُ، فَاقْتَضَى النَّظَرُ رَفْعَهُ عَنْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الصافات: 130]. قُلْنَا: ذَلِكَ مَكْتُوبٌ بِهِجَاءٍ فَيَجُوزُ التَّسْمِيَةُ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي لَيْسَ بِمُتَهَجًّى هُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ مَالِكٌ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِشْكَالِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[الآية الثانية فوله تعالى إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم]

[الْآيَة الثَّانِيَة فوله تَعَالَى إنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ] الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12]. فِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ مَنَازِلُ الْأَنْصَارِ بَعِيدَةً مِنْ الْمَسْجِدِ، فَأَرَادُوا أَنْ يَنْتَقِلُوا إلَى الْمَسْجِدِ، فَنَزَلَتْ: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12] فَقَالُوا: نَثْبُتُ مَكَانَنَا. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا بَنِي سَلِمَةَ، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ. وَفِي الصَّحِيحِ «أَنَّ بَنِي سَلِمَةَ أَرَادُوا أَنْ يَنْتَقِلُوا قَرِيبًا مِنْ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا بَنِي سَلِمَةَ؛ دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ؛ يَعْنِي الْزَمُوا دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ لَكُمْ آثَارُكُمْ»، أَيْ خُطَاكُمْ إلَى الْمَسْجِدِ، فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تَزِيدُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ سَبْعًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ لَا يُخْرِجُهُ إلَّا الصَّلَاةُ لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ بِهَا عَنْهُ خَطِيئَةً، فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، وَلَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلَاةَ».

[الآية الثالثة قوله تعالى وما علمناه الشعر وما ينبغي له]

[الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ] ُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس: 69]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى كَلَامُ الْعَرَبِ عَلَى أَوْضَاعٍ: مِنْهَا الْخُطَبُ، وَالسَّجْعُ، وَالْأَرَاجِيزُ، وَالْأَمْثَالُ، وَالْأَشْعَارُ «وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْصَحَ بَنِي آدَمَ»، وَلَكِنَّهُ حُجِبَ عَنْهُ الشِّعْرُ؛ لَمَّا كَانَ اللَّهُ قَدْ ادَّخَرَ مَنْ جَعَلَ فَصَاحَةَ الْقُرْآنِ مُعْجِزَةً لَهُ، وَدَلَالَةً عَلَى صِدْقِهِ، لِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ أُسْلُوبِ الْبَلَاغَةِ وَعَجِيبِ الْفَصَاحَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ أَنْوَاعِ كَلَامِ الْعَرَبِ اللُّسْنِ الْبُلَغَاءِ الْفُصْحِ الْمُتَشَدِّقِينَ اللُّدِّ، كَمَا سَلَبَ عَنْهُ الْكِتَابَةَ وَأَبْقَاهُ عَلَى حُكْمِ الْأُمِّيَّةِ، تَحْقِيقًا لِهَذِهِ الْحَالَةِ، وَتَأْكِيدًا؛ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]؛ لِأَجْلِ مُعْجِزَتِهِ الَّتِي بَيَّنَّا أَنَّ صِفَتَهَا مِنْ صِفَتِهِ، ثُمَّ هِيَ زِيَادَةٌ عُظْمَى عَلَى رُتْبَتِهِ. [مَسْأَلَة إعْجَازِ الْقُرْآنِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ مِنْ أَوْضَاعِنَا فِي الْأُصُولِ وَجْهَ إعْجَازِ الْقُرْآنِ وَخُرُوجِهِ عَنْ أَنْوَاعِ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَخُصُوصًا عَنْ وَزْنِ الشِّعْرِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ أَخُو أَبِي ذَرٍّ لِأَبِي ذَرٍّ: لَقَدْ وَضَعْت قَوْلَهُ عَلَى أَقْوَالِ الشُّعَرَاءِ فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا، وَلَا دَخَلَ فِي بُحُورِ الْعَرُوضِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ، وَلَا فِي زِيَادَاتِ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْبُحُورَ تَخْرُجُ مِنْ خَمْسِ دَوَائِرَ: إحْدَاهَا دَائِرَةُ الْمُخْتَلَفِ يَنْفَكُّ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَبْحُرٍ: وَهِيَ الطَّوِيلُ، وَالْمَدِيدُ، وَالْبَسِيطُ؛ ثُمَّ تَتَشَعَّبُ عَلَيْهَا زِيَادَاتٌ كُلُّهَا مُنْفَكَّةٌ.

[مسألة اعترض جماعة من فصحاء الملحدة علينا في نظم القرآن والسنة بأشياء]

الدَّائِرَةُ الثَّانِيَةُ دَائِرَةُ الْمُؤْتَلَفِ يَنْفَكُّ مِنْهَا بَحْرُ الْوَافِرِ، وَالْكَامِلِ، ثُمَّ يَزِيدُ عَلَيْهَا زِيَادَاتٌ لَا تَخْرُجُ عَنْهَا. الدَّائِرَةُ الثَّالِثَةُ دَائِرَةُ الْمُتَّفَقِ، وَيَنْفَكُّ مِنْهَا فِي الْأَصْلِ الْهَزَجُ، وَالرَّجَزُ، وَالرَّمَلُ، ثُمَّ يَزِيدُ عَلَيْهَا مَا يَرْجِعُ إلَيْهَا. الدَّائِرَةُ الرَّابِعَةُ دَائِرَةُ الْمُجْتَثِّ يَجْرِي عَلَيْهَا سِتَّةُ أَبْحُرٍ: وَهِيَ السَّرِيعُ، وَالْمُنْسَرِحُ، وَالْخَفِيفُ، وَالْمُضَارَعُ، وَالْمُقْتَضَبُ، وَالْمُجْتَثُّ، وَيَزِيدُ عَلَيْهَا مَا يَجْرِي مَعَهَا فِي أَفَاعِيلِهَا. الدَّائِرَةُ الْخَامِسَةُ دَائِرَةُ الْمُنْفَرِدِ، وَيَنْفَكُّ مِنْهَا عِنْدَ الْخَلِيلِ وَالْأَخْفَشِ بَحْرٌ وَاحِدٌ: وَهُوَ الْمُتَقَارَبُ، وَعِنْدَ الزَّجَّاجِ بَحْرٌ آخَرُ سَمَّوْهُ الْمُجْتَثُّ وَالْمُتَدَارَكُ وَرَكْضُ الْخَيْلِ. وَلَقَدْ اجْتَهَدَ الْمُجْتَهِدُونَ فِي أَنْ يُجْرُوا الْقُرْآنَ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ عَلَى وَزْنٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْزَانِ فَلَمْ يَقْدِرُوا، فَظَهَرَ عِنْدَ الْوَلِيِّ وَالْعَدُوِّ أَنَّهُ لَيْسَ بِشِعْرٍ؛ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس: 69]. وَقَالَ: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 41]. [مَسْأَلَة اعْتَرَضَ جَمَاعَةٌ مِنْ فُصَحَاءِ الْمُلْحِدَةِ عَلَيْنَا فِي نَظْمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِأَشْيَاءَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] تَحْقِيقٌ فِي نَفْيِ ذَلِكَ عَنْهُ. وَقَدْ اعْتَرَضَ جَمَاعَةٌ مِنْ فُصَحَاءِ الْمُلْحِدَةِ عَلَيْنَا فِي نَظْمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِأَشْيَاءَ أَرَادُوا بِهَا التَّلْبِيسَ عَلَى الضَّعَفَةِ، مِنْهَا قَوْلُهُ {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117] وَقَالُوا: إنَّ هَذَا مِنْ بَحْرِ الْمُتَقَارَبِ، عَلَى مِيزَانِ قَوْلِهِ: فَأَمَّا تَمِيمٌ تَمِيمُ بْنُ مُرٍّ ... فَأَلْفَاهُمْ الْقَوْمُ رُءُوسًا نِيَامًا وَهَذَا إنَّمَا اعْتَرَضَ بِهِ الْجَاهِلُونَ بِالصِّنَاعَةِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يُلَائِمُ هَذَا الْبَيْتَ مِنْ الْآيَةِ

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا) إلَى قَوْلِهِ (كُلِّ) وَإِذَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ لَمْ يَتِمَّ الْكَلَامُ. وَإِذَا أَتْمَمْنَاهُ بِقَوْلِهِ: {شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117] خَرَجَ عَنْ وَزْنِ الشِّعْرِ، وَزَادَ فِيهِ مَا يَصِيرُ بِهِ عَشْرَةَ أَجْزَاءٍ كُلَّهَا عَلَى وَزْنِ فَعُولُنْ، وَلَيْسَ فِي بُحُورِ الشِّعْرِ مَا يَخْرُجُ الْبَيْتُ مِنْهُ مِنْ عَشْرَةِ أَجْزَاءٍ، وَإِنَّمَا أَكْثَرُهُ ثَمَانِيَةٌ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 14] ادَّعَوْا أَنَّهُ مِنْ بَحْرِ الْوَافِرِ، وَقَطَّعُوهُ: مَفَاعِيلٌ مَفَاعِيلٌ فَعُولُنْ مَفَاعِيلٌ مَفَاعِيلٌ فَعُولُنْ؛ وَهُوَ عَلَى وَزْنِ قَوْلِ الْأَوَّلِ: لَنَا غَنَمٌ نَسُوقُهَا غِزَارٌ ... كَأَنَّ قُرُونَ جَلَّتِهَا الْعِصِيُّ وَعَلَى وَزْنِ قَوْلِ الْآخَرِ: طَوَالُ قَنَا يُطَاعِنُهَا قِصَارُ ... وَقَطْرُك فِي نَدًى وَوَغًى بِحَارُ وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ إنَّمَا كَانَتْ تَكُونُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَوْ زِدْت فِيهَا أَلِفًا بِتَمْكِينِ حَرَكَةِ النُّونِ مِنْ قَوْلِهِ مُؤْمِنِينَ فَتَقُولُ مُؤْمِنِينَا. الثَّانِي: أَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ عَلَى الرَّوِيِّ بِإِشْبَاعِ حَرَكَةِ الْمِيمِ فِي قَوْلِهِ: {وَيُخْزِهِمْ} [التوبة: 14] وَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ التَّغْيِيرُ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا، وَإِذَا قُرِئَ عَلَى وَجْهِهِ لَمْ يَكُنْ شِعْرًا. وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} [الشعراء: 35]؛ زَعَمُوا أَنَّهُ مُوَافِقٌ بَحْرَ الرَّجَزِ فِي الْوَزْنِ، وَهَذَا غَيْرُ لَازِمٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ تَامٍّ، فَإِنْ ضَمَمْت إلَيْهِ مَا يَتِمُّ بِهِ الْكَلَامُ خَرَجَ عَنْ وَزْنِ الشِّعْرِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13]؛ زَعَمُوا أَنَّهُ مِنْ بَحْرِ الرَّجَزِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ امْرِئِ الْقَيْسِ: رَهِينٌ مُعْجَبٌ بِالْقَيْنَاتِ وَهَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا إنَّمَا يَجْرِي عَلَى هَذَا الرَّوِيِّ إذَا زِدْت يَاءً بَعْدَ الْبَاءِ فِي قَوْلِك: كَالْجَوَابِي، فَإِذَا حَذَفْت الْيَاءَ فَلَيْسَ بِكَلَامٍ تَامٍّ، فَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى وَزْنِ شَيْءٍ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ} [سبأ: 30]؛ فَقَالُوا: هَذِهِ آيَةٌ تَامَّةٌ، وَهِيَ عَلَى وَزْنِ بَيْتٍ مِنْ الرَّمَلِ؛ وَهَذِهِ مُغَالَطَةٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ بِأَنْ تُحْذَفَ مِنْ قَوْلِك لَا تَسْتَأْخِرُونَ قَوْلُهُ: " لَا تَسْ " وَتُوصِلُ قَوْلَك يَوْمٍ بِقَوْلِك تَأْخِرُونَ، وَتَقِفُ مَعَ ذَلِكَ عَلَى النُّونِ مِنْ قَوْلِك تَأْخِرُونَ، فَتَقُولُ تَأْخِرُونَا بِالْأَلِفِ، وَيَكُونُ حِينَئِذٍ مِصْرَاعًا ثَانِيًا، وَيُتِمُّ الْمِصْرَاعَانِ بَيْتًا مِنْ الرَّمَلِ حِينَئِذٍ، وَلَوْ قُرِئَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا، وَمَتَى قُرِئَتْ الْآيَةُ عَلَى مَا جَاءَتْ لَمْ تَكُنْ عَلَى وَزْنِ الشِّعْرِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا} [الإنسان: 14]. وَهَذَا مَوْضُوعٌ عَلَى وَزْنِ الْكَامِلِ مِنْ وَجْهٍ، وَعَلَى رَوِيِّ الرَّجَزِ مِنْ وَزْنٍ آخَرَ؛ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ مَنْ قَرَأَ عَلَيْهِمْ بِإِسْكَانِ الْمِيمِ يَكُونُ عَلَى وَزْنِ فَعُولٌ، وَلَيْسَ فِي بَحْرِ الْكَامِلِ وَلَا فِي بَحْرِ الرَّجَزِ فَعُولُنْ بِحَالٍ، وَمَنْ أَشْبَعَ حَرَكَةَ الْمِيمِ فَلَا يَكُونُ بَيْتًا إلَّا بِإِسْقَاطِ الْوَاوِ مِنْ دَانِيَةً، وَإِذَا حُذِفَتْ الْوَاوُ بَطَلَ نَظْمُ الْقُرْآنِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ - الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح: 2 - 3] {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] زَعَمُوا أَرْغَمَهُمْ اللَّهُ أَنَّهَا مِنْ بَحْرِ الرَّمَلِ، وَأَنَّهَا ثَلَاثَةُ أَبْيَاتٍ كُلُّ بَيْتٍ مِنْهَا عَلَى مِصْرَاعٍ، وَهُوَ مِنْ مَجْزُوِّهِ عَلَى فَاعِلَاتٍ فَاعِلَاتٍ، وَيَقُومُ فِيهَا فَعِلَاتٌ مَقَامَهُ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا جَاءَ فِي دِيوَانِ الْعَرَبِ بَيْتٌ مِنْ الرَّمَلِ عَلَى جُزْأَيْنِ، وَإِنَّمَا جَاءَ عَلَى سِتَّةِ أَجْزَاءٍ تَامَّةٍ كُلُّهَا فَاعِلَاتٌ أَوْ فِعْلَاتٌ، أَوْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَجْزَاءٍ كُلُّهَا فَاعِلَاتٌ أَوْ فِعْلَاتٌ؛ فَأَمَّا عَلَى جُزْأَيْنِ كِلَاهُمَا فَاعِلَاتٌ فَاعِلَاتٌ فَلَمْ يَرِدْ قَطُّ فِيهَا؛ وَكَلَامُهُمْ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى وَزْنِ بَعْضِ بَيْتٍ، وَهَذَا مِمَّا لَا نُنْكِرُهُ وَإِنَّمَا نُنْكِرُ أَنْ تَكُونَ آيَةٌ تَامَّةٌ، أَوْ كَلَامٌ تَامٌّ مِنْ الْقُرْآنِ عَلَى وَزْنِ بَيْتٍ تَامٍّ مِنْ الشِّعْرِ.

فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ يَكُونُ الْمَجْزُوءُ وَالْمُرَبَّعُ مِنْ الرَّمَلِ تَارَةً مُصَرَّعًا وَتَارَةً غَيْرَ مُصَرَّعٍ، فَمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ مِنْ الْمَجْزُوءِ وَالْمُرَبَّعِ الْمُصَرَّعِ مِنْ الرَّمَلِ. قُلْنَا: إنَّ الْبَيْتَ مِنْ الْقَصِيدَةِ إنَّمَا يَكُونُ مُصَرَّعًا إذَا كَانَ فِيهِ أَبْيَاتٌ أَوْ بَيْتٌ غَيْرُ مُصَرَّعٍ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ أَنْصَافُ أَبْيَاتِهِ كُلُّهَا عَلَى سَجْعٍ وَاحِدٍ وَكُلُّ نِصْفٍ مِنْهَا بَيْتٌ بِرَأْسِهِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الرَّمَلِ مَا يَكُونُ عَلَى جُزْأَيْنِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ جُزْآنِ، فَلَمْ يَرِدْ عَلَى شَرْطِ الرَّمَلِ. وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} [الماعون: 1] {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون: 2] وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ لَا تَقَعُ فِي أَقْوَالِ الشُّعَرَاءِ إلَّا بِحَذْفِ اللَّامِ مِنْ قَوْلِهِ: {فَذَلِكَ} [الماعون: 2] وَبِتَمْكِينِ حَرَكَةِ الْمِيمِ مِنْ الْيَتِيمِ، فَيَكُونُ الْيَتِيمَا. وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23]. فَقَوْلُهُ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا} [النمل: 23] بَيْتٌ تَامٌّ، فَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ هَذَا، وَأَنَّ بَعْضَ آيَةٍ وَجُزْءًا مِنْ كَلَامٍ لَا يَكُونُ شِعْرًا. فَإِنْ قِيلَ: يَقَعُ بَعْدَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23] إتْمَامًا لِلْكَلَامِ عَلَى مَعْنَى النَّظْمَيْنِ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِهِمْ قَالَ النَّابِغَةُ: وَهُمْ وَرَدُوا الْجِفَارَ عَلَى تَمِيمٍ ... وَهُمْ أَصْحَابُ يَوْمِ عُكَاظٍ إنِّي شَهِدْت لَهُمْ مَوَاطِنَ صَالِحَاتٍ ... أَنَرْتُهُمُ بِنُصْحِ الْقَوْلِ مِنِّي قُلْنَا: التَّضْمِينُ عَلَى عَيْبِهِ إنَّمَا يَكُونُ فِي بَيْتٍ عَلَى تَأْسِيسِ بَيْتٍ قَبْلَهُ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ التَّأْسِيسُ بَيْتًا وَالتَّضْمِينُ أَقَلَّ مِنْ بَيْتٍ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِشِعْرٍ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْعَرَبِ، وَلَا يُنْكِرُ أَحَدٌ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ آيَةٍ عَلَى مِثَالِ قَوْلِ الشِّعْرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] فَهَذَا عَلَى نِصْفِ بَيْتٍ مِنْ الرَّجَزِ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى} [النجم: 34] عَلَى نِصْفِ بَيْتٍ مِنْ الْمُتَقَارَبِ الْمُسْتَمِرِّ، وَهَذَا كَثِيرٌ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَقَدْ ادَّعَوْهُ فِي كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالُوا: إنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ فِي كَلَامِ الَّذِي نُفِيَتْ عَنْهُ مَعْرِفَةُ الشِّعْرِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ. أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ». قُلْنَا: قَدْ قَالَ الْأَخْفَشُ: إنَّ هَذَا لَيْسَ بِشِعْرٍ، وَرَوَى ابْنُ الْمُظَفَّرِ عَنْ الْخَلِيلِ فِي كِتَابِ الْعَيْنِ: إنَّ مَا جَاءَ مِنْ السَّجْعِ عَلَى جُزْأَيْنِ لَا يَكُونُ شِعْرًا. وَرَوَى غَيْرُهُ عَنْهُ أَنَّهُ مِنْ مَنْهُوكِ الرَّجَزِ. فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لَا يَكُونُ شِعْرًا، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ لَا يَكُونُ مَنْهُوكَ رَجَزٍ إلَّا بِالْوَقْفِ عَلَى الْبَاءِ مِنْ قَوْلِك: لَا كَذِبْ، وَمِنْ قَوْلِهِ: " عَبْدُ الْمُطَّلِبِ " وَلَمْ يُعْلَمْ كَيْفَ قَالَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْأَظْهَرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ قَالَ: لَا كَذِبٌ بِتَنْوِينِ الْبَاءِ مَرْفُوعَةً وَبِخَفْضِ الْبَاءِ مِنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يُؤْثَرُ عَنْهُ مُتَمَثِّلًا بِقَوْلِ طَرَفَةَ: سَتُبْدِي لَك الْأَيَّامُ مَا كُنْت جَاهِلًا ... وَيَأْتِيك مَنْ لَمْ تَزَوَّدْ بِالْأَخْبَارِ وَقَالَ: أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعُبَيْ ... دِ بَيْنَ الْأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةَ وَقَالَ: كَفَى الْإِسْلَامُ وَالشَّيْبُ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي ذَلِكَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، وَقَبَّلَ رَأْسَهُ قَالَ اللَّهُ: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69].

[مسألة إنشاد الشعر]

قَالُوا: وَمِنْهَا قَوْلُهُ: هَلْ أَنْتَ إلَّا إصْبَعٌ دَمِيَتْ ... وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيت وَأَلْزَمُونَا أَنَّ هَذَا شِعْرٌ مَوْزُونٌ مِنْ بَحْرِ السَّرِيعِ. قُلْنَا: إنَّمَا يَكُونُ هَذَا شِعْرًا مَوْزُونًا إذَا كُسِرَتْ التَّاءُ مِنْ دَمِيَتْ وَلَقِيت، فَإِنْ سُكِّنَتْ لَمْ يَكُنْ شِعْرًا بِحَالٍ؛ لِأَنَّ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ تَكُونُ فَعُولٌ، وَلَا مَدْخَلَ لِفَعُولٍ فِي بَحْرِ السَّرِيعِ. وَلَعَلَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهَا سَاكِنَةَ التَّاءِ أَوْ مُتَحَرِّكَةَ التَّاءِ مِنْ غَيْرِ إشْبَاعٍ. قَالُوا: وَمِنْهَا قَوْلُهُ: «اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ»؛ فَادَّعَوْا أَنَّهُ عَلَى وَزْنِ مَشْطُورِ الرَّجَزِ. قُلْنَا: إنَّمَا يَكُونُ شِعْرًا إذَا تَكَلَّمَ بِهِ الْمُتَكَلِّمُ مَوْصُولًا، فَإِنْ وَقَفَ عَلَى قَوْلِهِ: اللَّهُ مَوْلَانَا، أَوْ وَصَلَ وَحَرَّكَ الْمِيمَ مِنْ قَوْلِهِ لَكُمْ لَمْ يَكُنْ شِعْرًا. وَقَدْ نَقَلَهُ وَوَصَلَهُ بِكَلَامٍ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ». وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لَا يَكُونُ شِعْرًا إلَّا بَعْدَ تَفْسِيرِ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتُسَكَّنُ اللَّامُ مِنْ قَوْلِك الْوَلَدُ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ. وَقَدْ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا بِأَنَّ مَا يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ مِنْ مَوْزُونِ الْكَلَامِ لَا يُعَدُّ شِعْرًا، وَإِنَّمَا يُعَدُّ مِنْهُ مَا يَجْرِي عَلَى وَزْنِ الشِّعْرِ وَمَعَ الْقَصْدِ إلَيْهِ. فَقَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: حَدَّثَنَا شَيْخٌ لَنَا، وَيُنَادَى يَا صَاحِبَ الْكِسَاءِ، وَلَا يُعَدُّ هَذَا شِعْرًا. وَقَدْ كَانَ رَجُلٌ يُنَادِي فِي مَرَضِهِ وَهُوَ مِنْ عُرْضِ الْعَامَّةِ الْعُقَلَاءِ: اذْهَبُوا بِي إلَى الطَّبِيبِ، وَقُولُوا قَدْ اكْتَوَى، وَبِهَذَا وَسِوَاهُ يَتَبَيَّنُ صِحَّةُ الْآيَةِ مَعْنًى، وَبُطْلَانُ مَا مَوَّهُوا بِهِ قَطْعًا. [مَسْأَلَة إنْشَادِ الشِّعْرِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ إنْشَادِ الشِّعْرِ قَالَ: لَا تُكْثِرْ مِنْهُ، فَمِنْ عَيْبِهِ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]. قَالَ: وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ

[الآية الرابعة قوله تعالى وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم]

الْخَطَّابِ كَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنْ اجْمَعْ الشُّعَرَاءَ قِبَلَك وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الشِّعْرِ، وَهَلْ بَقِيَ مَعَهُمْ مَعْرِفَةٌ بِهِ، وَأَحْضَرَ لَبِيدًا ذَلِكَ. قَالَ: فَجَمَعَهُمْ وَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا: إنَّا لَنَعْرِفُهُ وَنَقُولُهُ. وَسَأَلَ لَبِيدًا فَقَالَ: مَا قُلْت شِعْرًا مُنْذُ سَمِعْت اللَّهَ يَقُولُ: {الم} [البقرة: 1] {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2]. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذِهِ الْآيَةُ لَيْسَتْ مِنْ عَيْبِ الشِّعْرِ، كَمَا لَمْ يَكُنْ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48] مِنْ عَيْبِ الْخَطِّ. فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ الْأُمِّيَّةُ مِنْ عَيْبِ الْخَطِّ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ نَفْيُ النَّظْمِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عَيْبِ الشِّعْرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا حَالَ الشِّعْرِ فِي سُورَةِ الظُّلَّةِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. [الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ] ٌ} [يس: 78] فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: يُرْوَى أَنَّ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ أَوْ الْعَاصِيَ بْنَ وَائِلٍ مَرَّ بِرِمَّةٍ بَالِيَةٍ فَأَخَذَهَا، وَقَالَ: الْيَوْمَ أَغْلِبُ مُحَمَّدًا، وَجَاءَ إلَيْهِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ يُعِيدُ هَذَا كَمَا بَدَأَهُ، وَفَتَّتَهُ بِيَدِهِ، حَتَّى عَادَ رَمِيمًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] إلَى آخِرِ السُّورَةِ. [مَسْأَلَة الْعِظَامِ فِيهَا حَيَاةٌ وَتُنَجَّسُ بِالْمَوْتِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِي الْعِظَامِ حَيَاةً، وَأَنَّهُ يُنَجَّسُ بِالْمَوْتِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَحَلٍّ تَحِلُّ الْحَيَاةُ بِهِ فَيَخْلُفُهَا الْمَوْتُ يُنَجَّسُ وَيُحَرَّمُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]

وَسَاعَدَنَا أَبُو حَنِيفَةَ فِيهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا حَيَاةَ فِيهِ وَلَا يُنَجَّسُ بِالْمَوْتِ. وَقَدْ اضْطَرَبَ أَرْبَابُ الْمَذَاهِبِ فِيهِ، وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ. فَإِنْ قِيلَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ} [يس: 78] يَعْنِي أَصْحَابَ الْعِظَامِ، وَإِقَامَةُ الْمُضَافِ مَقَامَ الْمُضَافِ إلَيْهِ كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ مَوْجُودٌ فِي الشَّرِيعَةِ. قُلْنَا: إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ لِضَرُورَةٍ، وَلَيْسَ هَاهُنَا ضَرُورَةٌ تَدْعُو إلَى هَذَا الْإِضْمَارِ، وَلَا يُفْتَقَرُ إلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ الْكَلَامُ عَلَى الظَّاهِرِ؛ إذْ الْبَارِي سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ بِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ، وَالْحَقِيقَةُ تَشْهَدُ لَهُ؛ فَإِنَّ الْإِحْسَاسَ الَّذِي هُوَ عَلَامَةُ الْحَيَاةِ مَوْجُودٌ فِيهِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.

[سورة الصافات فيها آيتان]

[سُورَةُ الصَّافَّاتِ فِيهَا آيَتَانِ] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُك] سُورَةُ الصَّافَّاتِ [مَكِّيَّةٌ، فِيهَا آيَتَانِ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى اُخْتُلِفَ فِي الذَّبِيحِ، هَلْ هُوَ إِسْحَاقُ أَوْ إسْمَاعِيلُ؟ وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسْأَلَةِ تَبْيِينِ الصَّحِيحِ فِي تَعْيِينِ الذَّبِيحِ، وَلَيْسَتْ الْمَسْأَلَةُ مِنْ الْأَحْكَامِ وَلَا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ؛ وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَتَوَابِعِهَا وَمُتَمِّمَاتِهَا لَا أُمَّهَاتِهَا. [مَسْأَلَة رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102] وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ فِي التَّخْيِيلِ سَبِيلٌ، وَلَا لِلِاخْتِلَاطِ عَلَيْهِمْ دَلِيلٌ؛ وَإِنَّمَا قُلُوبُهُمْ صَافِيَةٌ، وَأَفْكَارُهُمْ صَقِيلَةٌ، فَمَا أُلْقِيَ إلَيْهِمْ، وَنَفَثَ بِهِ الْمَلِكُ فِي رَوْعِهِمْ، وَضَرَبَ الْمَثَلَ لَهُ عَلَيْهِمْ فَهُوَ حَقٌّ؛ وَلِذَلِكَ قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: وَمَا كُنْت أَظُنُّ أَنَّهُ يَنْزِلُ فِي قُرْآنٍ يُتْلَى، وَلَكِنْ رَجَوْت أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا. . [مَسْأَلَة حَقِيقَةَ الرُّؤْيَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ

[مسألة النسخ قبل الفعل]

قَدْ بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ وَالْحَدِيثِ حَقِيقَةَ الرُّؤْيَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ نُبْذَةً مِنْهَا، وَأَنَّ الْبَارِيَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ، وَلَهَا أَسْمَاءٌ وَكُنَى، فَمِنْهَا رُؤْيَا تَخْرُجُ بِصِفَتِهَا، وَمِنْهَا رُؤْيَا تَخْرُجُ بِتَأْوِيلِهَا وَهُوَ كُنْيَتُهَا. وَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَائِشَةَ: أُرِيتُك فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ. فَقَالَ الْمَلَكُ: هَذِهِ زَوْجُك، فَاكْشِفْ عَنْهَا، فَإِذَا هِيَ أَنْتِ. فَقُلْت: إنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ». وَلَمْ يَشُكَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ لِقَوْلِهِ: فَقَالَ لِي الْمَلَكُ، وَلَا يَقُولُ الْمَلَكُ إلَّا حَقًّا، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ احْتَمَلَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَا بِاسْمِهَا أَوْ تَكُونَ بِكُنْيَتِهَا، فَإِنْ كَانَتْ بِاسْمِهَا فَتَكُونُ هِيَ الزَّوْجَةُ، وَإِنْ كَانَتْ الرُّؤْيَا مُكَنَّاةً فَتَكُونُ فِي أُخْتِهَا أَوْ قَرَابَتِهَا أَوْ جَارَتِهَا، أَوْ مَنْ يُسَمَّى بِاسْمِهَا، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّشْبِيهَاتِ فِيهَا؛ وَهَذَا أَصْلٌ تَقَرَّرَ فِي الْبَابِ فَلْيُحْفَظْ وَلْيُحَصَّلْ، فَإِنَّهُ أَصْلُهُ. . [مَسْأَلَة النَّسْخِ قَبْلَ الْفِعْلِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَدْ جَرَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَرِيبَةٌ قَدْ بَيَّنَّاهَا حَيْثُ وَقَعَتْ مِنْ كَلَامِنَا، ذَكَرَهَا جَمِيعُ عُلَمَائِنَا مَعَ أَحْزَابِ الطَّوَائِفِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ النَّسْخِ قَبْلَ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ رَفَعَ الْأَمْرَ بِالذَّبْحِ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ الذَّبْحُ، وَلَوْ لَمْ يُتَصَوَّرْ رَفْعُهُ. وَقَالَ الْمُخَالِفُونَ: إنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ، وَلَكِنَّهُ نُفِّذَ الذَّبْحُ، وَكَانَ كُلَّمَا قَطَعَ جُزْءًا الْتَأَمَ، فَاجْتَمَعَ الذَّبْحُ وَالْإِعَادَةُ لِمَوْضِعِهَا حَسْبَمَا كَانَتْ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: وَجَدَ حَلْقَهُ نُحَاسًا أَوْ مُغَشًّى بِنُحَاسٍ، فَكَانَ كُلَّمَا أَرَادَ قَطْعًا وَجَدَ مَنْعًا؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ جَائِزٌ فِي الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ؛ وَلَكِنْ يَفْتَقِرُ إلَى نَقْلٍ صَحِيحٍ، فَإِنَّهُ لَا يُدْرَكُ بِالنَّظَرِ؛ وَإِنَّمَا طَرِيقُهُ الْخَبَرُ، وَكَانَ الذَّبْحُ وَالْتِئَامُ الْأَجْزَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْقَعَ فِي مَطْلُوبِهِمْ مِنْ وَضْعِ النُّحَاسِ مَوْضِعَ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ، وَكُلُّهُ أَمْرٌ بَعِيدٌ مِنْ الْعِلْمِ؛ وَبَابُ التَّحْقِيقِ فِيهَا وَمَسْلَكُهُ مَا بَيَّنَّاهُ وَاخْتَرْنَاهُ، فَأَوْضَحْنَا لِبَابِهِ الَّذِي لَمْ نُسْبَقْ إلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ

تَعَالَى: قَالَ مُخْبِرًا عَنْ إبْرَاهِيمَ: إنَّهُ قَالَ لِوَلَدِهِ: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102] {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} [الصافات: 104] {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 105] وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ؛ لِأَنَّ الرُّؤْيَا إمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ غَلَبَةِ الْأَخْلَاطِ كَمَا تَقُولُ الْفَلَاسِفَةُ وَتِلْكَ أَخْلَاطٌ، وَأَيُّهَا فَلَيْسَ لَهَا بِالْأَنْبِيَاءِ أَخْلَاطٌ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ وَلَمْ يُحَدِّثْ إبْرَاهِيمُ قَطُّ نَفْسَهُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ تَلَاعُبِ الشَّيْطَانِ، فَلَيْسَ لِلشَّيْطَانِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ سَبِيلٌ فِي تَخْيِيلٍ وَلَا تَلَاعُبٍ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ وَقَرَّرْنَاهُ وَمَهَّدْنَاهُ وَبَسَّطْنَاهُ. فَقَالَ إبْرَاهِيمُ لِابْنِهِ: رَأَيْت أَنِّي أَذْبَحُك فِي الْمَنَامِ، فَأَخَذَ الْوَالِدُ وَالْوَلَدُ الرُّؤْيَا بِظَاهِرِهَا وَاسْمِهَا، وَقَالَ لَهُ: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102]؛ إذْ هُوَ أَمْرٌ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُمَا عَلِمَا أَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيُ اللَّهِ، وَاسْتَسْلَمَا لِقَضَاءِ اللَّهِ؛ هَذَا فِي قُرَّةِ عَيْنِهِ، وَهَذَا فِي نَفْسِهِ أُعْطِيَ ذِبْحًا فِدَاءً وَقِيلَ لَهُ: هَذَا فِدَاؤُك، فَامْتَثِلْ فِيهِ مَا رَأَيْت فَإِنَّهُ حَقِيقَةُ مَا خَاطَبْنَاك فِيهِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ لَا اسْمٌ، وَجَعَلَهُ مُصَدِّقًا لِلرُّؤْيَا بِمُبَادَرَتِهِ الِامْتِثَالَ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ وَالتَّهَيُّؤِ لِلْعَمَلِ. فَلَمَّا اعْتَقَدَا الْوُجُوبَ، وَتَهَيَّآ لِلْعَمَلِ، هَذَا بِصُورَةِ الذَّابِحِ، وَهَذَا بِصُورَةِ الْمَذْبُوحِ، أُعْطِيَ مَحَلًّا لِلذَّبْحِ فِدَاءً عَنْ ذَلِكَ الْمَرْئِيِّ فِي الْمَنَامِ، يَقَعُ مَوْضِعَهُ بِرَسْمِ الْكِنَايَةِ وَإِظْهَارِ الْحَقِّ الْمَوْعُودِ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَالَ لَهُ الْوَلَدُ: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102] فَأَيْنَ الْأَمْرُ؟ قُلْنَا: هُمَا كَلِمَتَانِ إحْدَاهُمَا مِنْ الْوَالِدِ إبْرَاهِيمَ، وَالثَّانِيَةُ مِنْ الْوَلَدِ إسْمَاعِيلَ. فَأَمَّا كَلِمَةُ إبْرَاهِيمَ فَهِيَ قَوْلُهُ أَذْبَحُك، وَهُوَ خَبَرٌ لَا أَمْرٌ، وَأَمَّا كَلِمَةُ إسْمَاعِيلَ: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102] وَهُوَ أَمْرٌ، وَقَوْلُ إبْرَاهِيمَ: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102] وَإِنْ كَانَتْ [صِيغَتُهُ]

[مسألة نذر الرجل ذبح ولده]

صِيغَةَ الْخَبَرِ فَإِنَّ مَعْنَاهَا الْأَمْرُ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّ لَوْ كَانَ عِبَارَةً عَنْ خَبَرٍ وَاقِعٍ لَمَا كَانَ لَهُ تَأْوِيلٌ يُنْتَظَرُ، وَإِنَّمَا هُوَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ، وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ ضَرُورَةً. فَقَالَ إسْمَاعِيلُ لِأَبِيهِ إبْرَاهِيمَ: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102]؛ فَعَبَّرَ عَنْ نَفْسِهِ بِالِانْقِيَادِ إلَى مَعْنَى خَبَرِ أَبِيهِ، وَهُوَ الْأَمْرُ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 105] حِينَ تَيَسَّرَا لِلْعَمَلِ، وَأَقْبَلَا عَلَى الْفِعْلِ؛ فَكَانَ صَدَقَهَا ذِبْحُهَا مَكَانَهَا، وَهُوَ الْفِدَاءُ، وَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا فِي الْمَعْنَى ضَرُورَةً، فَكَانَ مَا كَانَ مِنْ إبْرَاهِيمَ امْتِثَالًا، وَمِنْ إسْمَاعِيلَ انْقِيَادًا، وَوُضِّحَتْ الْمَعَانِي بِحَقِيقَتِهَا، وَجَرَتْ الْأَلْفَاظُ عَلَى نِصَابِهَا لِصَوَابِهَا، وَلَمْ يُحْتَجْ إلَى تَأْوِيلٍ فَاسِدٍ يَقْلِبُ الْجِلْدَ نُحَاسًا أَوْ غَيْرَهُ. [مَسْأَلَة نَذَرَ الرَّجُلُ ذَبْحَ وَلَدِهِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ لَمَّا قَرَّرْنَا حَظَّ التَّفْسِيرِ وَالْأُصُولِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَرَكَّبَتْ عَلَيْهَا مَسْأَلَةٌ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَهُوَ إذَا نَذَرَ الرَّجُلُ ذَبْحَ وَلَدِهِ. فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هِيَ مَعْصِيَةٌ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ كَلِمَةٌ يَلْزَمُهُ بِهَا ذَبْحُ شَاةٍ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إمَامُ دَارِ الْهِجْرَةِ: يَلْزَمُهُ ذَبْحُ شَاةٍ فِي تَفْصِيلٍ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ. وَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ الَّذِي نَنْظُرُهُ الْآنَ. وَدَلِيلُنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ ذَبْحَ الْوَلَدِ عِبَارَةً عَنْ ذَبْحِ الشَّاةِ شَرْعًا، فَأَلْزَمَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ ذَبْحَ الْوَلَدِ، وَأَخْرَجَهُ عَنْهُ بِذَبْحِ الشَّاةِ، وَكَذَلِكَ إذَا نَذَرَ الْعَبْدُ ذَبْحَ وَلَدِهِ يَجِبُ أَنْ يَلْزَمَهُ ذَبْحُ شَاةٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78]. وَالْإِيمَانُ إلْزَامٌ أَصْلِيٌّ. وَالنَّذْرُ إلْزَامٌ فَرْعِيٌّ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مَحْمُولًا.

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُؤْمَرُ إبْرَاهِيمُ بِذَبْحِ الْوَلَدِ وَهِيَ مَعْصِيَةٌ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْصِيَةِ لَا يَجُوزُ؟ قُلْنَا: هَذَا اعْتِرَاضٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ الْإِسْلَامَ، فَكَيْفَ مِمَّنْ يُفْتِي فِي الْحَلَالِ مِنْهُ وَالْحَرَامِ؟ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102]. وَاَلَّذِي يَجْلُو الِالْتِبَاسَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَعَاصِيَ وَالطَّاعَاتِ لَيْسَتْ بِأَوْصَافٍ ذَاتِيَّةٍ لِلْأَعْيَانِ؛ وَإِنَّمَا الطَّاعَةُ عِبَارَةٌ عَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ الْأَمْرُ مِنْ الْأَفْعَالِ، وَالْمَعْصِيَةُ عِبَارَةٌ عَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ النَّهْيُ مِنْ الْأَفْعَالِ، فَلَمَّا تَعَلَّقَ الْأَمْرُ بِذَبْحِ الْوَلَدِ إسْمَاعِيلَ مِنْ إبْرَاهِيمَ صَارَ طَاعَةً وَابْتِلَاءً، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 106]؛ أَيْ الصَّبْرُ عَلَى ذَبْحِ الْوَلَدِ وَالنَّفْسِ. وَلَمَّا تَعَلَّقَ النَّهْيُ بِنَا فِي ذَبْحِ أَبْنَائِنَا صَارَ مَعْصِيَةً. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِيرُ نَذْرًا وَهُوَ مَعْصِيَةٌ؟ قُلْنَا: إنَّمَا يَصِيرُ مَعْصِيَةً لَوْ كَانَ هُوَ يَقْصِدُ ذَبْحَ وَلَدِهِ بِنَذْرِهِ وَلَا يَنْوِي الْفِدَاءَ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ وَقَصَدَ الْمَعْصِيَةَ وَلَمْ يَنْوِ الْفِدَاءَ؟ قُلْنَا: لَوْ قَصَدَ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ فِي قَصْدِهِ، وَلَا أَثَرَ فِي نَذْرِهِ، لِأَنَّ ذَبْحَ الْوَلَدِ صَارَ عِبَارَةً عَنْ ذَبْحِ الشَّاةِ شَرْعًا. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْهُ وَكِنَايَةً فِيهِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ كِنَايَةً عَنْ الشَّيْءِ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ؛ إمَّا بِاشْتِبَاهِهِمَا فِي الْمَعْنَى الْخَاصِّ، وَإِمَّا بِنِسْبَةٍ تَكُونُ بَيْنَهُمَا، وَهَا هُنَا لَا نِسْبَةَ بَيْنَ الطَّاعَةِ وَهُوَ النَّذْرُ، وَلَا بَيْنَ الْمَعْصِيَةِ وَهِيَ ذَبْحُ الْوَلَدِ، وَلَا تَشَابُهَ أَيْضًا بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ ذَبْحَ الْوَلَدِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِذَبْحِ الشَّاةِ. قُلْنَا: هُوَ سَبَبٌ لَهُ شَرْعًا لِأَنَّهُ جُعِلَ كِنَايَةً عَنْهُ فِي الشَّرْعِ. وَالْأَسْبَابُ إنَّمَا تُعْرَفُ عَادَةً أَوْ شَرْعًا، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا بَاقِيَ الْكَلَامِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ.

[الآية الثانية قوله تعالى فساهم فكان من المدحضين]

[الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ] َ} [الصافات: 141]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى يُونُسُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ يُونُسُ بْنُ مَتَّى قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى». وَنَسَبُهُ إلَى أَبِيهِ، أَخْبَرَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَبِي الْمَعَالِي عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ الْجُوَيْنِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ: هَلْ الْبَارِي تَعَالَى فِي جِهَةٍ؟ فَقَالَ: لَا، هُوَ يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ. قِيلَ لَهُ: مَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى». فَقِيلَ لَهُ: مَا وَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ؟ قَالَ: لَا أَقُولُهُ حَتَّى يَأْخُذَ ضَيْفِي هَذَا أَلْفَ دِينَارٍ يَقْضِي بِهَا دَيْنَهُ. فَقَامَ رَجُلَانِ فَقَالَا: هِيَ عَلَيْنَا. فَقَالَ: لَا يَتْبَعُ بِهَا اثْنَيْنِ، لِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ. فَقَالَ وَاحِدٌ: هِيَ عَلَيَّ. فَقَالَ: إنَّ يُونُسَ بْنَ مَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ فِي الْبَحْرِ، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ، وَصَارَ فِي قَعْرِ الْبَحْرِ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ، وَنَادَى: {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَقْرَبَ مِنْ اللَّهِ مِنْ يُونُسَ حِينَ جَلَسَ عَلَى الرَّفْرَفِ الْأَخْضَرِ، وَارْتَقَى بِهِ، وَصَعِدَ حَتَّى انْتَهَى بِهِ إلَى مَوْضِعٍ يَسْمَعُ مِنْهُ صَرِيرُ الْأَقْلَامِ، وَنَاجَاهُ رَبُّهُ بِمَا نَاجَاهُ، وَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى بِأَقْرَبَ مِنْ اللَّهِ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى فِي بَطْنِ الْحُوتِ وَظُلْمَةِ الْبَحْرِ. قَصَدْت قَبْرَهُ مِرَارًا لَا أُحْصِيهَا بِقَرْيَةِ جُلْجُونَ فِي مَسِيرِي مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إلَى

قَبْرِ الْخَلِيلِ، وَبِتُّ بِهِ، وَتَقَرَّبْت إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَحَبَّتِهِ، وَدَرَسْنَا كَثِيرًا مِنْ الْعِلْمِ عِنْدَهُ، وَاَللَّهُ يَنْفَعُنَا بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ بَعَثَهُ اللَّهُ إلَى أَهْلِ نِينَوَى مِنْ قُرَى الْمَوْصِلِ عَلَى دِجْلَةَ وَمَنْ دَانَاهُمْ، فَكَذَّبُوهُ عَلَى عَادَةِ الْأُمَمِ مَعَ الرُّسُلِ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى يُونُسَ، فَقَالَ لَهُ: إنَّ الْعَذَابَ يَأْتِي قَوْمَك يَوْمَ كَذَا وَكَذَا. فَلَمَّا كَانَ يَوْمَئِذٍ جَاءَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ لَهُ: إنَّهُمْ قَدْ حَضَرَهُمْ الْعَذَابُ. قَالَ لَهُ يُونُسُ: أَلْتَمِسُ دَابَّةً. قَالَ: الْأَمْرُ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: فَأَلْتَمِسُ حِذَاءً. قَالَ: الْأَمْرُ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: فَغَضِبَ يُونُسُ وَخَرَجَ، وَكَانَتْ الْعَلَامَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ فِي نُزُولِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ خُرُوجَهُ عَنْهُمْ. فَلَمَّا فَقَدُوهُ خَرَجُوا بِالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالشَّاةِ وَالسَّخْلَةِ، وَالنَّاقَةِ وَالْهُبَعِ وَالْفَحْلِ، وَكُلِّ شَيْءٍ عِنْدَهُمْ، وَعَزَلُوا الْوَالِدَةَ عَنْ وَلَدِهَا وَالْمَرْأَةَ عَنْ خَلِيلِهَا، وَتَابُوا إلَى اللَّهِ، وَصَاحُوا حَتَّى سُمِعَ لَهُمْ عَجِيجٌ، فَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ حَتَّى نَظَرُوا إلَيْهِ، ثُمَّ صَرَفَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَغَضِبَ يُونُسُ، وَرَكِبَ الْبَحْرَ فِي سَفِينَةٍ، حَتَّى إذَا كَانُوا حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ رَكَدَتْ السَّفِينَةُ، وَقِيلَ: هَاجَ الْبَحْرُ بِأَمْوَاجِهِ، وَقِيلَ: عَرَضَ لَهُمْ حُوتٌ حَبَسَ جَرْيَتَهَا، فَقَالُوا: إنَّ فِينَا مَشْئُومًا أَوْ مُذْنِبًا، فَلْنَقْتَرِعْ عَلَيْهِ؛ فَاقْتَرَعُوا فَطَارَ السَّهْمُ عَلَى يُونُسَ، فَقَالُوا: عَلَى مِثْلِ هَذَا يَقَعُ السَّهْمُ، قَدْ أَخْطَأْنَا فَأَعِيدُوهَا، فَأَعَادُوا الْقُرْعَةَ فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ، فَقَالُوا مِثْلُهُ، وَأَعَادُوهَا، فَوَقَعَتْ الْقُرْعَةُ عَلَيْهِ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ يُونُسُ رَمَى بِنَفْسِهِ فِي الْبَحْرِ، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ: إنَّا لَمْ نَجْعَلْ يُونُسَ لَك رِزْقًا، وَإِنَّمَا جَعَلْنَا بَطْنَك لَهُ سِجْنًا، فَنَادَى {أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، وَأَمَرَ الْحُوتَ فَرَمَاهُ عَلَى السَّاحِلِ قَدْ ذَهَبَ شَعْرُهُ، فَأَنْبَتَ اللَّهُ عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ، فَلَمَّا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ تَحَاتَّ وَرَقُهَا، فَبَكَى؛ فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ أَتَبْكِي عَلَى شَجَرَةٍ أَنْبَتُّهَا فِي يَوْمٍ وَأَهْلَكْتهَا فِي يَوْمٍ، وَلَا تَبْكِي عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ آمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إلَى حِينٍ. .

[مسألة وردت القرعة في الشرع في ثلاثة مواطن]

[مَسْأَلَة وَرَدَتْ الْقُرْعَةُ فِي الشَّرْعِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141] نَصٌّ عَلَى الْقُرْعَةِ. وَكَانَتْ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا جَائِزَةً فِي كُلِّ شَيْءٍ عَلَى الْعُمُومِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ مَوَارِدُ أَخْبَارِهَا فِي الْإِسْرَائِيلِيَّات، وَجَاءَتْ الْقُرْعَةُ فِي شَرْعِنَا عَلَى الْخُصُوصِ عَلَى مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ؛ فَإِنَّ الْقَوْمَ اقْتَرَعُوا عَلَى مَرْيَمَ أَيُّهُمْ يَكْفُلُهَا، وَجَرَتْ سِهَامُهُمْ عَلَيْهَا وَالْقَوْلُ فِي جَرْيَةِ الْمَاءِ بِهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي شَرْعِنَا، وَإِنَّمَا تَجْرِي الْكَفَالَةُ عَلَى مَرَاتِبِ الْقَرَابَةِ، وَقَدْ وَرَدَتْ الْقُرْعَةُ فِي الشَّرْعِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ: الْأَوَّلُ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ». الثَّانِي: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُفِعَ إلَيْهِ أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ سِتَّةَ أَعْبُدٍ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً». الثَّالِثُ: «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَيْهِ فِي مَوَارِيثَ دَرَسَتْ، فَقَالَ: اذْهَبَا وَتَوَخَّيَا الْحَقَّ وَاسْتَهِمَا، وَلْيُحْلِلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ» فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مَوَاطِنَ، وَهِيَ الْقَسَمُ فِي النِّكَاحِ، وَالْعِتْقُ، وَالْقِسْمَةُ، وَجَرَيَانُ الْقُرْعَةِ فِيهَا لِرَفْعِ الْإِشْكَالِ وَحَسْمِ دَاءِ التَّشَهِّي. وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي الْقُرْعَةِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ عِنْدَ الْغَزْوِ عَلَى قَوْلَيْنِ؛ الصَّحِيحُ مِنْهُمَا الِاقْتِرَاعُ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّفَرَ بِجَمِيعِهِنَّ لَا يُمْكِنُ، وَاخْتِيَارُ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ إيثَارٌ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْقُرْعَةُ. وَكَذَلِكَ مَسْأَلَةُ الْأَعْبُدِ السِّتَّةِ فَإِنَّ كُلَّ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ ثُلُثٌ، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ فِيهِ الْعِتْقُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، وَتَعْيِينُهُمَا بِالتَّشَهِّي لَا يَجُوزُ شَرْعًا، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْقُرْعَةُ. وَكَذَلِكَ التَّشَاجُرُ إذَا وَقَعَ فِي أَعْيَانِ الْمَوَارِيثِ لَمْ يُمَيِّزْ الْحَقَّ إلَّا الْقُرْعَةُ، فَصَارَتْ أَصْلًا فِي تَعْيِينِ الْمُسْتَحَقِّ إذَا أَشْكَلَ.

[مسألة الاقتراع على إلقاء الآدمي في البحر]

وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنْ تَجْرِيَ فِي كُلِّ مُشْكِلٍ، فَذَلِكَ أَبْيَنُ لَهَا، وَأَقْوَى لِفَصْلِ الْحُكْمِ فِيهَا، وَأَجْلَى لِرَفْعِ الْإِشْكَالِ عَنْهَا؛ وَلِذَلِكَ قُلْنَا: إنَّ الْقُرْعَةَ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي الطَّلَاقِ كَالْقُرْعَةِ بَيْنَ الْإِمَاءِ فِي الْعِتْقِ؛ وَتَفْصِيلُ الِاقْتِرَاعِ فِي بَابِ الْقِسْمَةِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. [مَسْأَلَة الِاقْتِرَاعُ عَلَى إلْقَاءِ الْآدَمِيِّ فِي الْبَحْرِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ الِاقْتِرَاعُ عَلَى إلْقَاءِ الْآدَمِيِّ فِي الْبَحْرِ لَا يَجُوزُ، فَكَيْفَ الْمُسْلِمُ؟ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي يُونُسَ وَفِي زَمَانِهِ مُقَدِّمَةً لِتَحْقِيقِ بُرْهَانِهِ وَزِيَادَةٍ فِي إيمَانِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ كَانَ عَاصِيًا أَنْ يُقْتَلَ وَلَا يُرْمَى بِهِ فِي النَّارِ وَالْبَحْرِ؛ وَإِنَّمَا تَجْرِي عَلَيْهِ الْحُدُودُ وَالتَّعْزِيرُ عَلَى مِقْدَارِ جِنَايَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا رُمِيَ فِي الْبَحْرِ، لِأَنَّ السَّفِينَةَ وَقَفَتْ وَأَشْرَفَتْ عَلَى الْهَلَاكِ، فَقَالُوا: هَذَا مِنْ حَادِثٍ فِينَا فَانْظُرُوا مَنْ بَيْنَكُمْ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ، فَسَلَّطُوا عَلَيْهِ مِسْبَارَ الْإِشْكَالِ وَهِيَ الْقُرْعَةُ، فَلَمَّا خَرَجُوا بِالْقُرْعَةِ إلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى عَلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رَمْيِهِمْ لَهُ، فَرَمَى هُوَ بِنَفْسِهِ، وَأَيْقَنَ أَنَّهُ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّهِ وَرَجَا حُسْنَ الْعَاقِبَةِ، وَلِهَذَا ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْبَحْرَ إذَا هَالَ عَلَى الْقَوْمِ فَاضْطُرُّوا إلَى تَخْفِيفِ السَّفِينَةِ أَنَّ الْقُرْعَةَ تُضْرَبُ عَلَيْهِمْ، فَيُطْرَحُ بَعْضُهُمْ تَخْفِيفًا. وَهَذَا فَاسِدٌ، فَإِنَّهَا لَا تَخِفُّ بِرَمْيِ بَعْضِ الرِّجَالِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ، وَإِنَّمَا يَصْبِرُونَ عَلَى قَضَاءِ اللَّهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مُسْتَوْفًى عِنْدَ ذِكْرِ الْمَسَائِلِ الْفَرْعِيَّةِ.

[سورة ص فيها إحدى عشرة آية]

[سُورَةُ ص فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ آيَةً] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى إنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ] ً] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} [ص: 18] {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص: 19]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي سُورَةِ سَبَأٍ: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ: 10]؛ فَأَذِنَ اللَّهُ لِلْجِبَالِ، وَخَلَقَ فِيهَا، وَيَسَّرَ لَهَا أَنْ تُسَبِّحَ مَعَ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذَا سَبَّحَ وَكَذَلِكَ الطَّيْرُ؛ وَكَانَ تَسْبِيحُ دَاوُد إثْرَ صَلَاتِهِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَعِنْدَ غُرُوبِهَا، وَهِيَ صَلَاةُ الْأُمَمِ قَبْلَنَا فِيمَا يَرْوِي أَهْلُ التَّفْسِيرِ، ثُمَّ قَالَ: {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً} [ص: 19] وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ {كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص: 19] أَيْ رَاجِعٌ إلَيْهِ، تَرْجِعُ مَعَهُ، وَتُسَبِّحُ بِتَسْبِيحِهِ، وَتَحِنُّ إلَى صَوْتِهِ لِحُسْنِهِ، وَتُمَثِّلُ مِثْلَ عِبَادَتِهِ لِرَبِّهِ. فَإِنْ قِيلَ: وَهَلْ لِلطَّيْرِ عِبَادَةٌ أَوْ تَكْلِيفٌ؟ قُلْنَا: كُلٌّ لَهُ عِبَادَةٌ، وَكُلٌّ لَهُ تَسْبِيحٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْكُلُّ مُكَلَّفٌ بِتَكْلِيفِ التَّسْخِيرِ، وَلَيْسَ بِتَكْلِيفِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ؛ وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ آيَةً لِدَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَكَرَامَةً مِنْ تَسْخِيرِ الْكُلِّ لَهُ تَسْخِيرَ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَآمَنَ الْجِنُّ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إيمَانَ

[مسألة صلاة الضحى]

الِاخْتِيَارِ وَالطَّاعَةِ، فَقَالُوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن: 1] {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} [الجن: 2] {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ} [الأحقاف: 31]. . [مَسْأَلَة صَلَاةَ الضُّحَى] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا كُنْت أَعْلَمُ صَلَاةَ الضُّحَى فِي الْقُرْآنِ حَتَّى سَمِعْت اللَّهَ يَقُولُ {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} [ص: 18] وَعَلَى هَذَا جَاءَ قَوْلُهُ أَيْضًا فِي أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ، {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور: 36] {رِجَالٌ} [النور: 37] وَالْأَصَحُّ هَاهُنَا أَنَّهَا صَلَاةُ الضُّحَى وَالْعَصْرِ، فَأَمَّا صَلَاةُ الضُّحَى فَهِيَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَافِلَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ، وَهِيَ فِي الْغَدَاةِ بِإِزَاءِ الْعَصْرِ فِي الْعَشِيِّ، لَا يَنْبَغِي أَنْ تُصَلَّى حَتَّى تَبْيَضَّ الشَّمْسُ طَالِعَةً، وَيَرْتَفِعَ كَدَرُهَا، وَتُشْرِقَ بِنُورِهَا، كَمَا لَا تُصَلَّى الْعَصْرُ إذَا اصْفَرَّتْ الشَّمْسُ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُبَادِرُ بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ اسْتِعْجَالًا لِأَجْلِ شُغْلِهِ، فَيَخْسَرُ عَمَلَهُ؛ لِأَنَّهُ يُصَلِّيهَا فِي الْوَقْتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَيَأْتِي بِعَمَلٍ هُوَ عَلَيْهِ لَا لَهُ. [مَسْأَلَة لَيْسَ لِصَلَاةِ الضُّحَى تَقْدِيرٌ مُعَيَّنٌ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ لَيْسَ لِصَلَاةِ الضُّحَى تَقْدِيرٌ مُعَيَّنٌ إلَّا أَنَّهَا صَلَاةُ تَطَوُّعٍ، وَأَقَلُّ التَّطَوُّعِ عِنْدَنَا رَكْعَتَانِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَكْعَةٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. وَفِي صَلَاةِ الضُّحَى أَحَادِيثُ أُصُولُهَا ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ، «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ ابْنِ آدَمَ صَدَقَةٌ: تَسْلِيمُهُ عَلَى مَنْ لَقِيَهُ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُهُ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيُهُ عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُهُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ، وَنَفَقَتُهُ عَلَى أَهْلِهِ صَدَقَةٌ، وَيَكْفِي عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ رَكْعَتَانِ مِنْ الضُّحَى». الثَّانِي: حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ

[الآية الثانية قوله تعالى وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة]

قَعَدَ فِي مُصَلَّاهُ حِينَ يَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى يُسَبِّحَ صَلَاةَ الضُّحَى لَا يَقُولُ إلَّا خَيْرًا غُفِرَتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ». الثَّالِثُ: حَدِيثُ أُمِّ هَانِئٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْفَتْحِ ضَحَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ»، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: «مَا سَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ، وَإِنِّي لَأَسْتَحِبُّهَا». وَعَنْهَا أَيْضًا أَنَّهَا قَالَتْ: «لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الضُّحَى إلَّا أَنْ يَجِيءَ مِنْ مَغِيبِهِ». وَتَمَامُ ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ. [الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ] َ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} [ص: 20]: قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْأَمَدِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الشَّدَّ عِبَارَةٌ عَنْ كَثْرَةِ الْقَدْرِ؛ وَفِي تَعْيِينِ ذَلِكَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا الْهَيْبَةُ. وَالثَّانِي: بِكَثْرَةِ الْجُنُودِ. وَعِنْدِي أَنَّ مَعْنَاهُ شَدَدْنَاهُ بِالْعَوْنِ وَالنُّصْرَةِ، وَلَا يَنْفَعُ الْجَيْشُ الْكَثِيرُ الْتِفَافُهُ عَلَى غَيْرِ مَنْصُورٍ وَغَيْرِ مُعَانٍ. [مَسْأَلَة حَقِيقَة الْملك] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: {مُلْكَهُ} [ص: 20]: قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْأَمَدِ وَغَيْرِهِ الْمُلْكَ وَالْمَعْنَى فِيهِ، وَفِي تَفْسِيرِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26].

[مسألة حال النبي يجوز أن يسمى ملكا]

وَحَقِيقَةُ الْمُلْكِ كَثْرَةُ الْمُلْكِ، فَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ مَلِكًا وَلَكِنْ لَا يَكُونُ مَلِكًا ذَا مُلْكٍ حَتَّى يَكْثُرَ ذَلِكَ، فَلَوْ مَلَكَ الرَّجُلُ دَارًا وَقُوتًا لَمْ يَكُنْ مُلْكًا حَتَّى يَكُونَ لَهُ خَادِمٌ يَكْفِيهِ مُؤْنَةَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَنَافِعِ الَّتِي يَفْتَقِرُ إلَيْهَا لِضَرُورَةِ الْآدَمِيَّةِ حَسْبَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ. [مَسْأَلَة حَالَ النَّبِيِّ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى مُلْكًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَالَ النَّبِيِّ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى مُلْكًا، وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ الْعَبَّاسَ أَنْ يَحْبِسَ أَبَا سُفْيَانَ عِنْدَ خَطْمِ الْجَبَلِ، حَتَّى يَمُرَّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ؛ فَحَبَسَهُ الْعَبَّاسُ فَجَعَلَتْ الْقَبَائِلُ تَمُرُّ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتِيبَةً كَتِيبَةً عَلَى أَبِي سُفْيَانَ، فَمَرَّتْ كَتِيبَةٌ، فَقَالَ: يَا عَبَّاسُ؛ مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ لَهُ: غَفَّارٌ. قَالَ: مَا لِي وَلِغَفَّارٍ، ثُمَّ مَرَّتْ جُهَيْنَةُ فَقَالَ مِثْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ مَرَّتْ سَعْدُ بْنُ هُذَيْمٍ، فَقَالَ مِثْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ مَرَّتْ سُلَيْمٌ فَقَالَ مِثْلُ ذَلِكَ، حَتَّى أَقْبَلَتْ كَتِيبَةٌ لَمْ يَرَ مِثْلَهَا، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْأَنْصَارُ، عَلَيْهِمْ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِلْعَبَّاسِ: لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابْنِ أَخِيك الْيَوْمَ عَظِيمًا. فَقَالَ: إنَّهُ لَيْسَ بِمُلْكٍ، وَلَكِنَّهَا النُّبُوَّةُ». وَلَمْ يُرِدْ الْعَبَّاسُ نَفْيَ الْمُلْكِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَرُدَّ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ فِي نِسْبَةِ حَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى مُجَرَّدِ الْمُلْكِ، وَتَرْكِ الْأَصْلِ الْأَكْبَرِ وَهُوَ النُّبُوَّةُ الَّتِي تَتَرَكَّبُ عَلَى الْمُلْكِ وَالْعُبُودِيَّةِ. عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ «جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ: إنَّ اللَّهَ خَيَّرَك بَيْنَ أَنْ تَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا أَوْ نَبِيًّا عَبْدًا، فَنَظَرَ إلَى جِبْرِيلَ كَالْمُسْتَشِيرِ لَهُ، فَأَشَارَ إلَيْهِ جِبْرِيلُ: أَنْ تَوَاضَعْ، فَقَالَ: بَلْ نَبِيًّا عَبْدًا أَجُوعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ يَوْمًا». الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ} [ص: 20]. قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. [مَسْأَلَة معني قَوْله تَعَالَى وَفَصْلَ الْخِطَابِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20] قِيلَ: هُوَ عِلْمُ الْقَضَاءِ، وَقِيلَ: هُوَ الْإِيجَازُ بِجَعْلِ الْمَعْنَى الْكَثِيرِ فِي اللَّفْظِ الْقَلِيلِ.

وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُهُ: أَمَّا بَعْدُ. وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا، فَأَمَّا عِلْمُ الْقَضَاءِ فَلَعَمْرُ إلَهِك إنَّهُ لَنَوْعٌ مِنْ الْعِلْمِ مُجَرَّدٌ، وَفَضْلٌ مِنْهُ مُؤَكَّدٌ غَيْرُ مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ وَالْبَصَرِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَفِي الْحَدِيثِ: «أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ، وَأَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ». وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ بَصِيرًا بِأَحْكَامِ الْأَفْعَالِ عَارِفًا بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَلَا يَقُومُ بِفَصْلِ الْقَضَاءِ فِيهَا، وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ يَأْتِي الْقَضَاءَ مِنْ وَجْهِهِ بِاخْتِصَارٍ مِنْ لَفْظِهِ وَإِيجَازٍ فِي طَرِيقِهِ بِحَذْفِ التَّطْوِيلِ، وَرَفْعِ التَّشْتِيتِ، وَإِصَابَةِ الْمَقْصُودِ. وَلِذَلِكَ يُرْوَى «أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: لَمَّا بَعَثَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْيَمَنِ حَفَرَ قَوْمٌ زُبْيَةً لِلْأَسَدِ، فَوَقَعَ فِيهَا الْأَسَدُ، وَازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَى الزُّبْيَةِ، فَوَقَعَ فِيهَا رَجُلٌ، وَتَعَلَّقَ بِآخَرَ، وَتَعَلَّقَ الْآخَرُ بِآخَرَ، حَتَّى صَارُوا أَرْبَعَةً، فَحَرَجَهُمْ الْأَسَدُ فِيهَا، فَهَلَكُوا، وَحَمَلَ الْقَوْمُ السِّلَاحَ، وَكَادَ يَكُونُ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، فَأَتَيْتهمْ فَقُلْت لَهُمْ: أَتَقْتُلُونَ مِائَتَيْ رَجُلٍ مِنْ أَجْلِ أَرْبَعَةِ أَنَاسِيَّ، تَعَالَوْا أَقْضِ بَيْنَكُمْ بِقَضَاءٍ، فَإِنْ رَضِيتُمْ فَهُوَ قَضَاءٌ بَيْنَكُمْ، وَإِنْ أَبَيْتُمُوهُ رَفَعْت ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ؛ فَجَعَلَ لِلْأَوَّلِ رُبُعَ الدِّيَةِ، وَلِلثَّانِي ثُلُثَ الدِّيَةِ، وَلِلثَّالِثِ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَجَعَلَ لِلرَّابِعِ الدِّيَةَ، وَجَعَلَ الدِّيَاتِ عَلَى مَنْ حَفَرَ الزُّبْيَةَ عَلَى قَبَائِلِ الْأَرْبَعِ. فَسَخَطَ بَعْضُهُمْ، وَرَضِيَ بَعْضُهُمْ، ثُمَّ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَصُّوا عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقَالَ: أَنَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ. فَقَالَ قَائِلٌ: إنَّ عَلِيًّا قَدْ قَضَى بَيْنَنَا، وَأَخْبَرُوهُ بِمَا قَضَى بِهِ عَلِيٌّ. فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: الْقَضَاءُ كَمَا قَضَاهُ عَلِيٌّ». وَفِي رِوَايَةٍ: «فَأَمْضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَاءَ عَلِيٍّ». وَكَذَلِكَ يُرْوَى فِي الْمَعْرِفَةِ بِالْقَضَاءِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ جَاءَ إلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: إنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى وَكَانَ قَاضِيًا بِالْكُوفَةِ جَلَدَ امْرَأَةً مَجْنُونَةً قَالَتْ لِرَجُلٍ: يَا بْنَ الزَّانِيَيْنِ. فَحَدَّهَا حَدَّيْنِ فِي الْمَسْجِدِ، وَهِيَ قَائِمَةٌ. فَقَالَ: أَخْطَأَ مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ.

وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِالْبَدِيهَةِ لَا يُدْرِكُهُ أَحَدٌ بِالرَّوِيَّةِ إلَّا الْعُلَمَاءُ. فَأَمَّا قِصَّةُ عَلِيٍّ فَلَا يُدْرِكُهَا الشَّادِي وَلَا يَلْحَقُهَا بَعْدَ التَّمَرُّنِ فِي الْأَحْكَامِ إلَّا الْعَاكِفُ الْمُتَمَادِي. وَتَحْقِيقُهَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةَ مَقْتُولُونَ خَطَأً بِالتَّدَافُعِ عَلَى الْحُفْرَةِ مِنْ الْحَاضِرِينَ عَلَيْهَا فَلَهُمْ الدِّيَاتُ عَلَى مَنْ حَفَرَ عَلَى وَجْهِ الْخَطَأِ، بَيْدَ أَنَّ الْأَوَّلَ مَقْتُولٌ بِالْمُدَافَعَةِ قَاتِلٌ ثَلَاثَةً بِالْمُجَاذَبَةِ، فَلَهُ الدِّيَةُ بِمَا قَتَلَ، وَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ لِلثَّلَاثَةِ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلَهُ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَعَلَيْهِ الثُّلُثَانِ لِلِاثْنَيْنِ اللَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا بِالْمُجَاذَبَةِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَعَلَيْهِ النِّصْفُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ وَاحِدًا بِالْمُجَاذَبَةِ، فَوَقَعَتْ الْمُحَاصَّةُ، وَغَرِمَتْ الْعَوَاقِلُ هَذَا التَّقْدِيرَ بَعْدَ الْقِصَاصِ الْجَارِي فِيهِ. وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الِاسْتِنْبَاطِ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ نَظَرَ إلَى الْمَعَانِي الْمُتَعَلِّقَةِ فَرَآهَا سِتَّةً: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَجْنُونَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْجُنُونَ يُسْقِطُ التَّكْلِيفَ، هَذَا إذَا كَانَ الْقَذْفُ فِي حَالَةِ الْجُنُونِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ يُجَنُّ مَرَّةً وَيُفِيقُ أُخْرَى فَإِنَّهُ يُحَدُّ بِالْقَذْفِ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ. الثَّانِي: قَوْلُهَا يَا بْنَ الزَّانِيَيْنِ؛ فَجَلَدَهَا حَدَّيْنِ لِكُلِّ أَبٍ حَدٌّ، فَإِنَّمَا خَطَّأَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِيهِ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ فِي أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ يَتَدَاخَلُ، لِأَنَّهُ عِنْدَهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الْخَمْرِ وَالزِّنَى. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ فَإِنَّهُمَا يَرَيَانِ الْحَدَّ بِالْقَذْفِ حَقًّا لِلْآدَمِيِّ، فَيَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْمَقْذُوفِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ حَدٌّ بِغَيْرِ مُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ، وَلَا يَجُوزُ إقَامَةُ حَدِّ الْقَذْفِ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْأُمَّةِ إلَّا بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ بِإِقَامَتِهِ مِمَّنْ يَقُولُ إنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ، وَمَنْ يَقُولُ إنَّهُ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّ. وَبِهَذَا الْمَعْنَى

وَقَعَ الِاحْتِجَاجُ لِمَنْ يَرَى أَنَّهُ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّ؛ إذْ يَقُولُ: لَوْ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ لَمَا تَوَقَّفَ عَلَى الْمُطَالَبَةِ كَحَدِّ الزِّنَا. الرَّابِعُ أَنَّهُ وَالَى بَيْنَ الْحَدَّيْنِ، وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدَّانِ لَمْ يُوَالِ بَيْنَهُمَا، بَلْ يُحَدُّ لِأَحَدِهِمَا، ثُمَّ يُتْرَكُ حَتَّى يَنْدَمِلَ الضَّرْبُ أَوْ يَسْتَبِلَّ الْمَضْرُوبُ، ثُمَّ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ الْآخَرُ. الْخَامِسُ أَنَّهُ حَدَّهَا قَائِمَةً، وَلَا تُحَدُّ الْمَرْأَةُ إلَّا جَالِسَةً مَسْتُورَةً. قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: فِي زِنْبِيلٍ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ. السَّادِسُ أَنَّهُ أَقَامَ الْحَدَّ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ فِيهِ إجْمَاعًا. وَفِي الْقِصَاصِ فِي الْمَسْجِدِ وَالتَّعْزِيرِ فِيهِ خِلَافٌ قَدَّمْنَا بَيَانَهُ فِيمَا سَلَفَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَفِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ وَالْخِلَافِ؛ فَهَذَا هُوَ فَصْلُ الْخِطَابِ وَعِلْمُ الْقَضَاءِ الَّذِي وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ: «أَقَضَاكُمْ عَلِيٌّ»، حَسْبَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ آنِفًا. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ الْإِيجَازُ فَذَلِكَ لِلْعَرَبِ دُونَ الْعَجَمِ، وَلِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُونَ الْعَرَبِ، وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا بِقَوْلِهِ: «أُوتِيت جَوَامِعَ الْكَلِمِ»، وَكَانَ أَفْصَحَ النَّاسِ بَعْدَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي آيَاتِ الْكِتَابِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ وَفِي سُورَةِ النُّورِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ قَوْلُهُ: " أَمَّا بَعْدُ «فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: أَمَّا بَعْدُ». وَيُرْوَى أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَالَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ سَحْبَانُ وَائِلٌ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِالْبَعْثِ، وَأَوَّلُ مَنْ اتَّكَأَ عَلَى عَصًا، وَعَمَّرَ مِائَةً وَثَمَانِينَ سَنَةً. وَلَوْ صَحَّ أَنَّ دَاوُد قَالَهَا فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ عَلَى هَذَا النَّظْمِ، وَإِنَّمَا كَانَ بِلِسَانِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْحِكْمَةَ الْمَعْرِفَةُ بِالدِّينِ، وَالْفِقْهُ فِيهِ، وَالِاتِّبَاعُ لَهُ.

[الآية الثالثة قوله تعالى وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب]

وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّ فَصْلَ الْخِطَابِ هُوَ الْفَهْمُ وَإِصَابَةُ الْقَضَاءِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا صَحِيحٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي وَصْفِ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} [الطارق: 13] {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق: 14] لِمَا فِيهِ مِنْ إيجَازِ اللَّفْظِ، وَإِصَابَةِ الْمَعْنَى، وَنُفُوذِ الْقَضَاءِ. [الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى وَهَلْ أَتَاك نَبَأُ الْخَصْمِ إذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ] َ} [ص: 21] {إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} [ص: 22]. الْآيَةُ فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْخَصْمُ كَلِمَةٌ تَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ وُقُوعَ الْمَصَادِرِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمَا كَانَا اثْنَيْنِ، فَيَنْتَظِمُ الْكَلَامُ بِهِمَا، وَيَصِحُّ الْمُرَادُ فِيهِمَا. [مَسْأَلَة معني قَوْله تَعَالَى تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص: 21] يَعْنِي جَاءُوا مِنْ أَعْلَاهُ. وَالسُّورَةُ الْمَنْزِلَةُ الْعَالِيَةُ كَانَتْ بُقْعَةً مَحْسُوسَةً أَوْ مَنْزِلَةً مَعْقُولَةً؛ قَالَ الشَّاعِرُ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاك سُورَةً ... تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ فَهَذَا هُوَ الْمَنْزِلَةُ. وَسُورُ الْمَدِينَةِ الْمَوْضِعُ الْعَالِي مِنْهَا، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِغَيْرِ هَمْزٍ. وَالسُّؤْرُ مَهْمُوزٌ: بَقِيَّةُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي الْإِنَاءِ. وَالسُّؤْرُ: الْوَلِيمَةُ بِالْفَارِسِيَّةِ

[مسألة الخصمان اللذان دخلا على داود]

وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ: يَأْهَلَ الْخَنْدَقِ؛ إنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ لَكُمْ سُؤْرًا فَحَيَّ هَلَّا بِكُمْ». الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي الْمِحْرَابِ، قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ سَبَأٍ. [مَسْأَلَة الْخَصْمَانِ اللَّذَانِ دَخَلَا عَلَى دَاوُد] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ: {إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ} [ص: 22]: قِيلَ: إنَّهُمَا كَانَا إنْسِيَّيْنِ؛ قَالَهُ النَّقَّاشُ. وَقِيلَ: مَلَكَيْنِ؛ قَالَهُ جَمَاعَةٌ. وَعَيَّنَهُمَا جَمَاعَةٌ، فَقَالُوا: إنَّهُمَا كَانَا جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، وَرَبُّك أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ، بَيْدَ أَنِّي أَقُولُ لَكُمْ قَوْلًا تَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى الْغَرَضِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ مِحْرَابَ دَاوُد كَانَ مِنْ الِامْتِنَاعِ بِالِارْتِفَاعِ بِحَيْثُ لَا يَرْقَى إلَيْهِ آدَمِيٌّ بِحِيلَةٍ إلَّا أَنْ يُقِيمَ إلَيْهِ أَيَّامًا أَوْ أَشْهُرًا بِحَسْبِ طَاقَتِهِ، مَعَ أَعْوَانٍ يَكْثُرُ عَدَدُهُمْ، وَآلَاتٍ جَمَّةٍ مُخْتَلِفَةِ الْأَنْوَاعِ. وَلَوْ قُلْنَا إنَّهُ يُوصَلُ إلَيْهِ مِنْ بَابِ الْمِحْرَابِ لَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ ذَلِكَ: {تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص: 21]؛ إذْ لَا يُقَالُ تَسَوَّرَ الْمِحْرَابَ وَالْغُرْفَةَ لِمَنْ طَلَعَ إلَيْهَا مِنْ دَرَجِهَا، وَجَاءَهَا مِنْ أَسْفَلِهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَجَازًا. وَإِذَا شَاهَدْت الْكُوَّةَ الَّتِي يُقَالُ إنَّهُ دَخَلَ مِنْهَا الْخَصْمَانِ عَلِمْت قَطْعًا أَنَّهُمَا مَلَكَانِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْعُلُوِّ بِحَيْثُ لَا يَنَالُهَا إلَّا عُلْوِيٌّ، وَلَا نُبَالِي مَنْ كَانَا فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُك بَيَانًا، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ وَرَاءَ ذَلِكَ. [مَسْأَلَة لِمَ فَزِعَ دَاوُد وَهُوَ نَبِيٌّ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْلُهُ: {فَفَزِعَ مِنْهُمْ} [ص: 22]: فَإِنْ قِيلَ: لِمَ فَزِعَ وَهُوَ نَبِيٌّ وَقَدْ قَوِيَتْ نَفْسُهُ بِالنُّبُوَّةِ، وَاطْمَأَنَّتْ بِالْوَحْيِ، وَوَثِقَتْ بِمَا آتَاهُ اللَّهُ مِنْ الْمَنْزِلَةِ، وَأَظْهَرَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ الْآيَاتِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْ لَهُ الْعِصْمَةَ، وَلَا أَمِنَ مِنْ الْقَتْلِ وَالْإِذَايَةِ، وَمِنْهُمَا. كَانَ يَخَافُ،

[مسألة معنى قوله تعالى خصمان بغى بعضنا على بعض]

وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَا تَخَفْ. وَقَبْلَهُ قِيلَ ذَلِكَ لِلُوطٍ؛ فَهُمْ فَزِعُونَ مِنْ خَوْفٍ مَا لَمْ يَكُنْ قِيلَ لَهُمْ [فِيهِ]: إنَّكُمْ مِنْهُ مَعْصُومُونَ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَوْلُهُ: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص: 22]: أَيْ نَحْنُ خَصْمَانِ. وَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ لَمْ يَأْمُرْ بِإِخْرَاجِهِمْ إذْ عَلِمَ مَطْلَبَهُمْ، وَقَدْ دَخَلُوا عَلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنٍ، وَهَلَّا أَدَّبَهُمْ عَلَى تَعَدِّيهِمْ؟ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّا لَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ شَرْعِهِ فِي الْحِجَابِ وَالْإِذْنِ، فَيَكُونُ الْجَوَابُ عَلَى حَسْبِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ. وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ شَرْعِنَا مُهْمَلًا عَنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ، حَتَّى أَوْضَحَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْبَيَانِ. الثَّانِي: إنَّا لَوْ نَزَّلْنَا الْجَوَابَ عَلَى أَحْكَامِ الْحِجَابِ لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْفَزَعُ الطَّارِئُ عَلَيْهِ أَذْهَلَهُ عَمَّا كَانَ يَجِبُ فِي ذَلِكَ لَهُ. الثَّالِثُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ كَلَامَهُمَا الَّذِي دَخَلَا لَهُ حَتَّى يَعْلَمَ آخِرَ الْأَمْرِ مِنْهُ، وَيَرَى هَلْ يَحْتَمِلُ التَّقَحُّمُ فِيهِ بِغَيْرِ إذْنٍ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَقْتَرِنُ بِذَلِكَ عُذْرٌ لَهُمَا، أَمْ لَا يَكُونُ لَهُمَا عُذْرٌ عَنْهُ. وَكَانَ مِنْ آخِرِ الْحَالِ مَا انْكَشَفَ مِنْ أَنَّهُ بَلَاءٌ وَمِحْنَةٌ وَمَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ فِي الْقِصَّةِ، وَأَدَبٌ وَقَعَ عَلَى دَعْوَى الْعِصْمَةِ. الرَّابِعُ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا إذْنَ فِي الْمَسْجِدِ لِأَحَدٍ، وَلَا حَجْرَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ. [الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى إنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ] ٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23].

فِيهَا وَفِي الْآيَةِ الَّتِي تَلِيهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى كَنَّى بِالنَّعْجَةِ عَنْ الْمَرْأَةِ، لِمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ السُّكُونِ وَالْمُعْجِزَةِ وَضَعْفِ الْجَانِبِ. وَقَدْ يُكْنَى عَنْهَا بِالْبَقَرَةِ وَالْحَجَرَ وَالنَّاقَةَ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ مَرْكُوبٌ. أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْهُذَلِيُّ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إنَّهُ يُكَنَّى عَنْ الْمَرْأَةِ بِأَلْفِ مِثْلٍ فِي الْمَقَامِ يُعَبِّرُ بِهِ الْمَلِكُ عَنْ الْمَعْنَى الَّذِي يُرِيدُهُ، وَقَدْ قَيَّدْنَاهَا كُلَّهَا عَنْهُ فِي سِفْرٍ وَاحِدٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ {تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} [ص: 23] إنْ كَانَ جَمِيعُهُنَّ أَحْرَارًا فَذَلِكَ شَرْعُهُ، وَإِنْ كُنَّ إمَاءً فَذَلِكَ شَرْعُنَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا لَمْ يَكُنْ مَحْصُورًا بِعَدَدٍ، وَإِنَّمَا الْحَصْرُ فِي شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِضَعْفِ الْأَبَدَانِ وَقِلَّةِ الْأَعْمَارِ. وَهْمٌ وَتَنْبِيهٌ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: لَمْ يَكُنْ لِدَاوُدَ مِائَةُ امْرَأَةٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ مَثَلًا. الْمَعْنَى هَذَا غَنِيٌّ عَنْ الزَّوْجَةِ وَأَنَا مُفْتَقِرٌ إلَيْهَا، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعُدُولَ عَنْ الظَّاهِرِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ لَا مَعْنَى لَهُ، وَلَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا كَانَ مَقْصُورًا مِنْ النِّسَاءِ عَلَى مَا فِي شَرْعِنَا. الثَّانِي: أَنَّهُ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ سُلَيْمَانَ قَالَ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَنَسِيَ أَنْ يَقُولَ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَهَذَا نَصٌّ قَدَّمْنَا تَحْقِيقَهُ قَبْلُ.

[المسألة السادسة في الآية الخامسة قوله تعالى لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه]

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {أَكْفِلْنِيهَا} [ص: 23]: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: مِنْ كَفْلِهَا أَيْ ضَمِّهَا أَيْ اجْعَلْهَا تَحْتَ كَفَالَتِي. الثَّانِي: أَعْطِنِيهَا. وَيَرْجِعُ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْهُ مَعْنًى. الثَّالِثُ: تُحَوَّلُ لِي عَنْهَا؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَيَرْجِعُ إلَى الْعَطَاءِ وَالْكَفَالَةِ إلَّا أَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ الْكَفَالَةِ وَأَخَصُّ مِنْ الْعَطَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23]. يَعْنِي غَلَبَنِي، مِنْ قَوْلِهِمْ: مَنْ عَزَّ بَزَّ. وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ الْغَلَبَةِ؛ فَقِيلَ مَعْنَاهُ: غَلَبَنِي بِبَيَانِهِ. وَقِيلَ: غَلَبَنِي بِسُلْطَانِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَأَلَهُ لَمْ يَسْتَطِعْ خِلَافَهُ. كَانَ بِبَلَدِنَا أَمِيرٌ يُقَالُ لَهُ سَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، فَكَلَّمْته فِي أَنْ يَسْأَلَ لِي رَجُلًا حَاجَةً، فَقَالَ لِي: أَمَا عَلِمْت أَنَّ طَلَبَ السُّلْطَانِ الْحَاجَةَ غَصْبٌ لَهَا. فَقُلْت: أَمَّا إذَا كَانَ عَدْلًا فَلَا. فَعَجِبْت مِنْ عُجْمَتِهِ وَحِفْظِهِ لِمَا تَمَثَّلَ بِهِ، وَفِطْنَتِهِ، كَمَا عَجِبَ مِنْ جَوَابِي لَهُ وَاسْتَغْرَبَهُ. [الْمَسْأَلَة السَّادِسَة فِي الْآيَة الْخَامِسَة قَوْله تَعَالَى لَقَدْ ظَلَمَك بِسُؤَالِ نَعْجَتِك إلَى نِعَاجِهِ] ِ} [ص: 24]. الظُّلْمُ: وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَقَدْ يَكُونُ مُحَرَّمًا وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا شَرْعًا، وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا عَادَةً، فَإِنْ كَانَ غَلَبَهُ عَادَةً عَلَى أَهْلِهِ فَهُوَ ظُلْمٌ مُحَرَّمٌ، وَإِنْ كَانَ سَأَلَهُ إيَّاهَا فَهُوَ ظُلْمٌ مَكْرُوهٌ شَرْعًا وَعَادَةً، وَلَكِنْ لَا إثْمَ عَلَيْهِ فِيهِ

[مسألة الأنبياء معصومون عن الكبائر إجماعا وفي الصغائر اختلاف]

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ فِي تَقْيِيدِ مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْهُمْ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَحْوَالٍ مُتَفَاوِتَةٍ؛ أَمْثَلُهَا أَنَّ دَاوُد حَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ إذْ اُبْتُلِيَ أَنْ يَعْتَصِمَ، فَقِيلَ لَهُ. إنَّك سَتُبْتَلَى وَتَعْلَمُ الَّذِي تُبْتَلَى فِيهِ، فَخُذْ حِذْرَك؛ فَأَخَذَ الزَّبُورَ وَدَخَلَ الْمِحْرَابَ، وَمَنَعَ مِنْ الدُّخُولِ عَلَيْهِ؛ فَبَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ الزَّبُورَ إذْ جَاءَ طَائِرٌ كَأَحْسَنِ مَا يَكُونُ، وَجَعَلَ يُدْرِجُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهَمَّ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ بِيَدِهِ، فَاسْتُدْرِجَ حَتَّى وَقَعَ فِي كُوَّةِ الْمِحْرَابِ، فَدَنَا مِنْهُ لِيَأْخُذَهُ، فَطَارَ فَاطَّلَعَ لِيُبْصِرَهُ فَأَشْرَفَ عَلَى امْرَأَةٍ تَغْتَسِلُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ غَطَّتْ جَسَدَهَا بِشَعْرِهَا، فَوَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ، وَكَانَ زَوْجُهَا غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَكَتَبَ دَاوُد إلَى أَمِيرِ الْغَزَاةِ أَنْ يَجْعَلَ زَوْجَهَا فِي حَمْلَةِ التَّابُوتِ، إمَّا أَنْ يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَإِمَّا أَنْ يُقْتَلُوا. فَقَدَّمَهُ فِيهِمْ، فَقُتِلَ. فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا خَطَبَهَا دَاوُد، فَاشْتَرَطَتْ عَلَيْهِ إنْ وَلَدَتْ غُلَامًا أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِهِ، وَكَتَبَتْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا، وَأَشْهَدَتْ عَلَيْهِ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ، فَلَمْ تَسْتَقِرَّ نَفْسُهُ حَتَّى وَلَدَتْ سُلَيْمَانَ، وَشَبَّ وَتَسَوَّرَ الْمَلَكَانِ وَكَانَ مِنْ قِصَّتِهَا مَا قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ. {قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص: 22]. [مَسْأَلَة الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ عَنْ الْكَبَائِرِ إجْمَاعًا وَفِي الصَّغَائِرِ اخْتِلَافٌ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فِي التَّنْقِيحِ: قَدْ قَدَّمْنَا لَكُمْ فِيمَا سَلَفَ، وَأَوْضَحْنَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ عَنْ الْكَبَائِرِ إجْمَاعًا، وَفِي الصَّغَائِرِ اخْتِلَافٌ؛ وَأَنَا أَقُولُ: إنَّهُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ، لِوُجُوهٍ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ النُّبُوَّاتِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ: لَا صَغِيرَةَ فِي الذُّنُوبِ وَهُوَ صَحِيحٌ، كَمَا قَالَتْ طَائِفَةٌ: إنَّ مِنْ الذُّنُوبِ كَبَائِرُ وَصَغَائِرُ، وَهُوَ صَحِيحٌ. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْكُفْرَ مَعْصِيَةٌ لَيْسَ فَوْقَهَا مَعْصِيَةٌ، كَمَا أَنَّ النَّظْرَةَ مَعْصِيَةٌ لَيْسَ دُونَهَا مَعْصِيَةٌ، وَبَيْنَهُمَا ذُنُوبٌ إنْ قَرَنْتهَا بِالْكُفْرِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ وَالْقَذْفِ

وَالْغَصْبِ كَانَتْ صَغَائِرَ، وَإِنْ أَضَفْتهَا إلَى مَا يَلِيهَا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي الَّذِي بَعْدَهُ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ كَانَتْ كَبَائِرَ وَاَلَّذِي أَوْقَعَ النَّاسَ فِي ذَلِكَ رِوَايَةُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلُ التَّقْصِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ مَصَائِبَ لَا قَدْرَ عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ اعْتَقَدَهَا رِوَايَاتٍ وَمَذَاهِبَ، وَلَقَدْ كَانَ مِنْ حُسْنِ الْأَدَبِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أَلَّا تُبَثُّ عَثَرَاتُهُمْ لَوْ عَثَرُوا، وَلَا تُبَثُّ فَلَتَاتُهُمْ لَوْ اسْتَفْلَتُوا؛ فَإِنَّ إسْبَالَ السِّتْرِ عَلَى الْجَارِ وَالْوَلَدِ وَالْأَخِ وَالْفَضِيلَةُ أَكْرَمُ فَضِيلَةٍ، فَكَيْفَ سَتَرْت عَلَى جَارِك حَتَّى لَمْ تَقُصَّ نَبَأَهُ فِي أَخْبَارِك؛ وَعَكَفْت عَلَى أَنْبِيَائِك وَأَحْبَارِك تَقُولُ عَنْهُمْ مَا لَمْ يَفْعَلُوا، وَتَنْسُبُ إلَيْهِمْ مَا لَمْ يَتَلَبَّسُوا بِهِ، وَلَا تُلَوَّثُوا بِهِ، نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ هَذَا التَّعَدِّي وَالْجَهْلِ بِحَقِيقَةِ الدِّينِ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ أَخْبَارَهُمْ. قُلْنَا: عَنْ ذَلِكَ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا لِلْمَوْلَى أَنْ يَذْكُرَ مَا شَاءَ مِنْ أَخْبَارِ عَبِيدِهِ، وَيَسْتُرَ وَيَفْضَحَ، وَيَعْفُوَ وَيَأْخُذَ، وَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يُنَبِّزَ فِي مَوْلَاهُ بِمَا يُوجِبُ عَلَيْهِ اللَّوْمَ، فَكَيْفَ بِمَا عَلَيْهِ فِيهِ الْأَدَبُ وَالْحَدُّ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَالَ فِي كِتَابِهِ لِعِبَادِهِ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] فَكَيْفَ بِمَا زَادَ عَلَيْهِ؟ فَمَا ظَنُّك بِالْأَنْبِيَاءِ، وَحَقُّهُمْ أَعْظَمُ، وَحُرْمَتُهُمْ آكَدُ، وَأَنْتُمْ تَغْمِسُونَ أَلْسِنَتَكُمْ فِي أَعْرَاضِهِمْ، وَلَوْ قَرَّرْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ حُرْمَتَهُمْ لَمَا ذَكَرْتُمْ قِصَّتَهُمْ. الثَّانِي: أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ قَصَصَ الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا أَتَوْا مِنْ ذَلِكَ عِلْمَهُ بِأَنَّ الْعِبَادَ سَيَخُوضُونَ فِيهَا بِقَدْرٍ، وَيَتَكَلَّمُونَ فِيهَا بِحِكْمَةٍ، وَلَا يُسْأَلُ عَنْ مَعْنَى ذَلِكَ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ، فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ أَمْرَهُمْ كَمَا وَقَعَ، وَوَصَفَ حَالَهُمْ بِالصِّدْقِ كَمَا جَرَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3] يَعْنِي أَصْدَقَهُ. وَقَالَ: {وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120]. وَقَدْ وَصَّيْنَاكُمْ إذَا كُنْتُمْ لَا بُدَّ آخِذِينَ فِي شَأْنِهِمْ ذَاكِرِينَ قَصَصَهُمْ أَلَّا تَعْدُوا مَا أَخْبَرَ اللَّهُ

[مسألة في ذكر قصة داود]

عَنْهُمْ، وَتَقُولُوا ذَلِكَ بِصِفَةِ التَّعْظِيمِ لَهُمْ وَالتَّنْزِيهِ عَنْ غَيْرِ مَا نَسَبَ اللَّهُ إلَيْهِمْ، وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: قَدْ عَصَى الْأَنْبِيَاءُ فَكَيْفَ نَحْنُ، فَإِنْ ذَكَرَ ذَلِكَ كَفَرَ. . [مَسْأَلَة فِي ذِكْرِ قِصَّةِ دَاوُد] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ فِي ذِكْرِ قِصَّةِ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى الْخُصُوصِ بِالْجَائِزِ مِنْهَا دُونَ الْمُمْتَنَعِ: أَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ دَاوُد حَدَّثَ نَفْسَهُ أَنْ يَعْتَصِمَ إذَا اُبْتُلِيَ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ حَدِيثَ النَّفْسِ لَا حَرَجَ فِيهِ فِي شَرْعِنَا آخِرًا، وَقَدْ كُنَّا قَبْلَ ذَلِكَ قِيلَ لَنَا إنَّا نُؤَاخَذُ بِهِ، ثُمَّ رَفَعَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنَّا بِفَضْلِهِ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُؤَاخَذًا بِهِ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا، وَهُوَ أَمْرٌ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، فَلَيْسَ فِي وُقُوعِهِ مِمَّنْ يَقَعُ مِنْهُ نَقْصٌ؛ وَإِنَّمَا الَّذِي يُمْكِنُ دَفْعُهُ هُوَ الْإِصْرَارُ بِالتَّمَادِي عَلَى حَدِيثِ النَّفْسِ وَعَقْدِ الْعَزْمِ عَلَيْهِ. الثَّانِي أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَظَرَ مِنْ حَالِهِ وَفِي عِبَادَتِهِ وَخُشُوعِهِ وَإِنَابَتِهِ وَإِخْبَاتِهِ، فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُعْطِيهِ عَادَةَ التَّجَافِي عَنْ أَسْبَابِ الذُّنُوبِ، فَضْلًا عَنْ التَّوَغُّلِ فِيهَا، فَوَثِقَ بِالْعِبَادَةِ، فَأَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُرِيَهُ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُهُ فِي الْعِبَادَةِ وَاطِّرَادِهَا. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا النَّقْلُ لَمْ يَثْبُتْ؛ فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الطَّائِرَ دَرَجَ عِنْدَهُ فَهَمَّ بِأَخْذِهِ، فَدَرَجَ فَاتَّبَعَهُ، فَهَذَا لَا يُنَاقِضُ الْعِبَادَةَ؛ لِأَنَّ هَذَا مُبَاحٌ فِعْلُهُ لَا سِيَّمَا وَهُوَ حَلَالٌ، وَطَلَبُ الْحَلَالِ فَرِيضَةٌ، وَإِنَّمَا اتَّبَعَ الطَّائِرَ لِذَاتِهِ لَا لِجَمَالِهِ فَإِنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِيهِ؛ وَإِنَّمَا ذِكْرُهُمْ لِحُسْنِ الطَّائِرِ حِذْقٌ فِي الْجَهَالَةِ، أَمَّا إنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ طَائِرًا مِنْ ذَهَبٍ فَاتَّبَعَهُ لِيَأْخُذَهُ لِأَنَّهُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، كَمَا رُوِيَ فِي " الصَّحِيحِ " أَنَّ أَيُّوبَ كَانَ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا، فَخَرَّ عَلَيْهِ رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَحْثِي مِنْهُ، وَيَجْعَلُ فِي ثَوْبِهِ، فَقَالَ لَهُ اللَّهُ: يَا أَيُّوبُ، أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُك عَمَّا تَرَى، قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، وَلَكِنْ لَا غِنًى لِي عَنْ بَرَكَتِك ". وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى امْرَأَةٍ تَغْتَسِلُ عُرْيَانَةً فَلَمَّا رَأَتْهُ أَرْسَلَتْ شَعْرَهَا

فَسَتَرَتْ جَسَدَهَا، فَهَذَا لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيهِ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّ النَّظْرَةَ الْأُولَى لِكَشْفِ الْمَنْظُورِ إلَيْهِ، وَلَا يَأْثَمُ النَّاظِرُ بِهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: أَنَّهَا لَمَّا أَعْجَبَتْهُ أَمَرَ بِتَقْدِيمِ زَوْجِهَا لِلْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا؛ لِأَنَّ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَكُنْ لِيُرِيقَ دَمَهُ فِي غَرَضِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ الْأَمْرِ أَنَّ دَاوُد قَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: انْزِلْ لِي عَنْ أَهْلِك، وَعَزَمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، كَمَا يَطْلُبُ الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ الْحَاجَةَ بِرَغْبَةٍ صَادِقَةٍ كَانَتْ فِي الْأَهْلِ أَوْ الْمَالِ، وَقَدْ قَالَ سَعِيدٌ بْنُ الرَّبِيعِ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ حِينَ آخَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا: وَلِي زَوْجَتَانِ، أَنْزِلُ لَك عَنْ إحْدَاهُمَا، فَقَالَ لَهُ: بَارَكَ اللَّهُ لَك فِي أَهْلِك وَمَالِك. وَمَا يَجُوزُ فِعْلُهُ ابْتِدَاءً يَجُوزُ طَلَبُهُ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ، وَلَا أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوَالِ عِصْمَةِ الرَّجُلِ عَنْهَا، وَلَا وِلَادَتُهَا لِسُلَيْمَانَ، فَعَنْ مَنْ يَرْوِي هَذَا وَيُسْنَدُ؟ وَعَلَى مَنْ فِي نَقْلِهِ يَعْتَمِدُ، وَلَيْسَ يُؤْثِرُهُ عَنْ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ أَحَدٌ؟ أَمَا إنَّ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ نُكْتَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَاوُد قَدْ صَارَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ زَوْجَةً، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} [الأحزاب: 38] يَعْنِي فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ [كَانَ] تَزْوِيجُ الْمَرْأَةِ الَّتِي نَظَرَ إلَيْهَا، " كَمَا زُوِّجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَهُ بِزَيْنَبِ بِنْتِ جَحْشٍ " إلَّا أَنَّ تَزْوِيجَ زَيْنَبَ كَانَ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ لِلزَّوْجِ فِي فِرَاقٍ، بَلْ أَمَرَهُ بِالتَّمَسُّكِ بِزَوْجِيَّتِهَا، وَكَانَ تَزْوِيجُ دَاوُد الْمَرْأَةَ بِسُؤَالِ زَوْجِهَا فِرَاقَهَا، فَكَانَتْ هَذِهِ الْمَنْقَبَةُ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى دَاوُد مُضَافَةً إلَى مَنَاقِبِهِ الْعَلِيَّةِ، وَلَكِنْ قَدْ قِيلَ: إنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} [الأحزاب: 38] تَزْوِيجُ الْأَنْبِيَاءِ بِغَيْرِ صَدَاقِ مَنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا مِنْ النِّسَاءِ بِغَيْرِ صَدَاقٍ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} [الأحزاب: 38] أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ فُرِضَ لَهُمْ مَا يَمْتَثِلُونَهُ فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ.

[مسألة الفتوى في النازلة بعد السماع من أحد الخصمين وقبل أن يسمع من الآخر]

وَقَدْ رَوَى الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ دَاوُد نَكَحَ مِائَةَ امْرَأَةٍ، وَهَذَا نَصُّ الْقُرْآنِ. وَرُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَتْ لَهُ ثَلَاثُمِائَةِ امْرَأَةٍ وَسَبْعُمِائَةِ سَرِيَّةٍ، وَرَبُّك أَعْلَمُ، وَبَعْدَ هَذَا قِفُوا حَيْثُ وَقَفَ بِكُمْ الْبَيَانُ بِالْبُرْهَانِ دُونَ مَا تَتَنَاقَلُهُ الْأَلْسِنَةُ مِنْ غَيْرِ تَثْقِيفٍ لِلنَّقْلِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . [مَسْأَلَة الْفَتْوَى فِي النَّازِلَةِ بَعْدَ السَّمَاعِ مِنْ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ وَقَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ الْآخِرِ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ قَوْله تَعَالَى: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص: 24]: فِيهِ الْفَتْوَى فِي النَّازِلَةِ بَعْدَ السَّمَاعِ مِنْ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ، وَقَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ الْآخِرِ بِظَاهِرِ الْقَوْلِ؛ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ وَلَا فِي مِلَّةٍ مِنْ الْمِلَلِ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ لِلْبَشَرِ؛ وَإِنَّمَا تَقْدِيرُ الْكَلَامِ أَنَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ ادَّعَى، وَالْآخَرُ سَلَّمَ فِي الدَّعْوَى، فَوَقَعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَتْوَى. وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذَا جَلَسَ إلَيْك الْخَصْمَانِ فَلَا تَقْضِ لِأَحَدِهِمَا حَتَّى تَسْمَعَ مِنْ الْآخَرِ». وَقِيلَ: إنَّ دَاوُد لَمْ يَقْضِ لِلْآخَرِ حَتَّى اعْتَرَفَ صَاحِبُهُ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ لَقَدْ ظَلَمَك إنْ كَانَ كَذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِتَعْيِينِ مَا يُمْكِنُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ. [مَسْأَلَة الْقَضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: قَوْله تَعَالَى: {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص: 21] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، لَمَا قَرَّرَهُمْ دَاوُد عَلَى ذَلِكَ، وَلَقَالَ: انْصَرِفَا إلَى مَوْضِعِ الْقَضَاءِ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: إنَّ الْقَضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ الْأَمْرِ الْقَدِيمِ يَعْنِي فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْلِسَ فِي رَحْبَتِهِ لِيَصِلَ إلَيْهِ الضَّعِيفُ وَالْمُشْرِكُ وَالْحَائِضُ.

[مسألة الظن ينطلق على العلم والظن]

وَقَدْ قَالَ أَشْهَبُ: يَقْضِي فِي مَنْزِلِهِ وَأَيْنَ أَحَبَّ. وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ يُقَسِّمُ أَوْقَاتَهُ وَأَحْوَالَهُ لِيَبْلُغَ كُلُّ أَحَدٍ إلَيْهِ وَيَسْتَرِيحَ هُوَ مِمَّا يَرِدُ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَة الظَّنُّ يَنْطَلِقُ عَلَى الْعِلْمِ وَالظَّنِّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى: {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} [ص: 24]: يَعْنِي أَيْقَنَ. وَالظَّنُّ يَنْطَلِقُ عَلَى الْعِلْمِ وَالظَّنِّ؛ لِأَنَّهُ جَارُهُ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ} [التوبة: 118]. [مَسْأَلَة فِي الذَّنْبِ الَّذِي اسْتَغْفَرَ مِنْهُ دَاوُد] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ} [ص: 24]: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الذَّنْبِ الَّذِي اسْتَغْفَرَ مِنْهُ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قِيلَ: إنَّهُ نَظَرَ إلَى الْمَرْأَةِ حَتَّى شَبِعَ مِنْهَا. الثَّانِي: أَنَّهُ أَغْزَى زَوْجَهَا فِي حَمْلَةِ التَّابُوتِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ نَوَى إنْ مَاتَ زَوْجُهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا. الرَّابِعُ أَنَّهُ حَكَمَ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ الْآخَرِ. قَالَ الْقَاضِي: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ الذُّنُوبِ الْمَحْدُودَةِ عَلَى وَجْهٍ بَيِّنٍ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ حَكَمَ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ الْآخَرِ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَكَذَلِكَ تَعْرِيضُ زَوْجِهَا لِلْقَتْلِ كَمَا قَدَّمْنَا تَصْوِيرٌ لِلْحَقِّ عَلَى رُوحِ الْبَاطِلِ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ نَظَرَ إلَيْهَا حَتَّى شَبِعَ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدِي بِحَالٍ؛ لِأَنَّ طُمُوحَ الْبَصَرِ لَا يَلِيقُ بِالْأَوْلِيَاءِ الْمُتَجَرِّدِينَ لِلْعِبَادَةِ، فَكَيْفَ بِالْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ هُمْ الْوَسَائِطُ الْمُكَاشَفُونَ بِالْغَيْبِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ تِلْكَ الْحَمَامَةَ أَتَتْ فَوَقَفَتْ قَرِيبًا مِنْ دَاوُد، وَهِيَ مِنْ ذَهَبٍ، فَلَمَّا رَآهَا أَعْجَبَتْهُ، فَقَامَ لِيَأْخُذَهَا، فَفَرَّتْ مِنْ يَدِهِ، ثُمَّ صَنَعَ مِثْلَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ طَارَتْ فَأَتْبَعَهَا بَصَرَهُ، فَوَقَعَتْ عَيْنُهُ عَلَى تِلْكَ الْمَرْأَةِ وَهِيَ تَغْتَسِلُ، وَلَهَا شَعْرٌ طَوِيلٌ، فَبَلَغَنِي أَنَّهُ أَقَامَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً سَاجِدًا حَتَّى نَبَتَ الْعُشْبُ مِنْ دُمُوعِ عَيْنَيْهِ، فَأَمَّا النَّظْرَةُ الثَّانِيَةُ فَلَا أَصْلَ لَهَا.

[مسألة كل ركوع سجود وكل سجود ركوع]

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَبْلُغُنِي عَنْ أَحَدٍ أَنَّهُ يَقُولُ: إنَّ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ارْتَكَبَ مِنْ تِلْكَ الْمَرْأَةِ مُحَرَّمًا إلَّا جَلَدْته مِائَةً وَسِتِّينَ سَوْطًا، فَإِنَّهُ يُضَاعَفُ لَهُ الْحَدُّ حُرْمَةً لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَهَذَا مِمَّا لَا يَصِحُّ عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا حُكْمُهُ عِنْدَكُمْ؟ قُلْنَا: أَمَّا مَنْ قَالَ إنَّ نَبِيًّا زَنَى فَإِنَّهُ يُقْتَلُ. وَأَمَّا مَنْ نَسَبَ إلَيْهِ دُونَ ذَلِكَ مِنْ النَّظْرَةِ وَالْمُلَامَسَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ نَقْلُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ صَمَّمَ أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ فِيهِ وَنَسَبَهُ إلَيْهِ فَإِنَّهُ يُنَاقِضُ التَّعْزِيرَ الْمَأْمُورَ بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ نَوَى إنْ مَاتَ زَوْجُهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَلَا شَيْءَ فِيهِ؛ إذَا لَمْ يُعَرِّضْهُ لِلْمَوْتِ، وَبَعْدَ هَذَا فَإِنَّ الذَّنْبَ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ سُؤَالُهُ زَوْجَةً وَعَدَمُ الْقَنَاعَةِ بِمَا كَانَ مِنْ عَدَدِ النِّسَاءِ عِنْدَهُ؛ وَالشَّهْوَةُ لَا آخِرَ لَهَا، وَالْأَمَلُ لَا غَايَةَ لَهُ؛ فَإِنَّ مَتَاعَ الدُّنْيَا لَا يَكْفِي الْإِنْسَانَ وَحْدَهُ فِي ظَنِّهِ، وَيَكْفِيهِ الْأَقَلُّ مِنْهُ؛ وَاَلَّذِي عَتَبَ اللَّهُ فِيهِ عَلَى دَاوُد تَعَلُّقُ بَالُهُ إلَى زَوْجِ غَيْرِهِ، وَمَدُّ عَيْنِهِ إلَى مَتَاعِ سِوَاهُ حَسْبَمَا نَصَّ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ خَطَبَ عَلَى خِطْبَةِ أُورِيَا فَمَالَ إلَيْهَا، وَلَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ عَارِفًا، وَهَذَا بَاطِلٌ يَرُدُّهُ الْقُرْآنُ وَالْآثَارُ التَّفْسِيرِيَّةُ كُلُّهَا. [مَسْأَلَة كُلُّ رُكُوعٍ سُجُودٌ وَكُلُّ سُجُودٍ رُكُوعٌ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24]: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الرُّكُوعَ هَاهُنَا السُّجُودُ؛ لِأَنَّهُ أَخُوهُ؛ إذْ كُلُّ رُكُوعٍ سُجُودٌ، وَكُلُّ سُجُودٍ رُكُوعٌ؛ فَإِنَّ السُّجُودَ هُوَ الْمِيلُ، وَالرُّكُوعُ هُوَ الِانْحِنَاءُ، وَأَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَى الْآخَرِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يَخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِهَيْئَةٍ، ثُمَّ جَاءَ عَلَى تَسْمِيَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، فَسُمِّيَ السُّجُودُ رُكُوعًا. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هِيَ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ أَمْ لَا؟ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ. وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1] فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ، وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ؛ فَلَمَّا كَانَ يَوْمٌ آخَرُ

[الآية السادسة قوله تعالى يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض]

قَرَأَهَا فَهَيَّأَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّهَا تَوْبَةُ نَبِيٍّ، وَلَكِنَّنِي رَأَيْتُكُمْ تَيَسَّرْتُمْ لِلسُّجُودِ، وَنَزَلَ فَسَجَدَ». وَهَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُد. وَفِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّهُ قَالَ: «ص لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ الْقُرْآنِ. وَقَدْ رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْجُدُ فِيهَا». وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: إنَّهَا تَوْبَةُ نَبِيٍّ، لَا يُسْجَدُ فِيهَا. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إنَّهَا تَوْبَةُ نَبِيٍّ؛ وَنَبِيُّكُمْ مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يُقْتَدَى بِهِ. وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهَا لَيْسَتْ مَوْضِعَ سُجُودٍ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَ فِيهَا فَسَجَدْنَا لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ. وَمَعْنَى السُّجُودِ أَنَّ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَجَدَ خَاضِعًا لِرَبِّهِ، مُعْتَرِفًا بِذَنْبِهِ، تَائِبًا مِنْ خَطِيئَتِهِ؛ فَإِذَا سَجَدَ أَحَدٌ فِيهَا فَلْيَسْجُدْ بِهَذِهِ النِّيَّةِ؛ فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ بِحُرْمَةِ دَاوُد الَّذِي اتَّبَعَهُ، وَسَوَاءٌ قُلْنَا إنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا أَمْ لَا فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ مِلَّةٍ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَاللَّفْظُ لِلْغَيْرِ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ يَسْتَتِرُ بِشَجَرَةٍ، وَهُوَ يَعْرِضُ الْقُرْآنَ؛ فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ سَجَدَ وَسَجَدَتْ الشَّجَرَةُ مَعَهُ، فَسَمِعَهَا وَهِيَ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعْظِمْ لِي بِهَذِهِ السَّجْدَةِ أَجْرًا وَارْزُقْنِي بِهَا شُكْرًا». [الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى يَا دَاوُد إنَّا جَعَلْنَاك خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ] ِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26].

[مسألة الاستنابة على أقسام كثيرة]

فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى هَذَا كَلَامٌ مُرْتَبِطٌ بِمَا قَبْلَهُ وَصَّى اللَّهُ فِيهِ دَاوُد؛ فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الَّذِي عُوتِبَ عَلَيْهِ طَلَبُ الْمَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِعَدْلٍ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَطْلُبْ امْرَأَةَ زَيْدٍ، وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ فِي أَمْرِهَا بَعْدَ فِرَاقِ زَوْجِهَا وَإِتْمَامِ عِدَّتِهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَيَبْعُدُ مِنْ مَنْصِبِ النُّبُوَّةِ؛ فَلِهَذَا ذُكِّرَ وَعَلَيْهِ عُوتِبَ وَبِهِ وُعِظَ. [مَسْأَلَة الِاسْتِنَابَةِ عَلَى أَقْسَامٍ كَثِيرَةٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {خَلِيفَةً} [ص: 26]: قَدْ بَيَّنَّا الْخِلَافَةَ وَمَعْنَاهَا لُغَةً، وَهُوَ قِيَامُ الشَّيْءِ مَقَامَ الشَّيْءِ؛ وَالْحُكْمُ لِلَّهِ، وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ لِلْخَلْقِ عَلَى الْعُمُومِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَنَاظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» وَعَلَى الْخُصُوصِ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] وقَوْله تَعَالَى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} [ص: 26] وَالْخُلَفَاءُ عَلَى أَقْسَامٍ: أَوَّلُهُمْ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، وَآخِرُهُمْ الْعَبْدُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ، " قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ». بَيْدَ أَنَّ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ لَا يُمْكِنُهُ تُوَلِّي كُلِّ الْأُمُورِ بِنَفْسِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِنَابَةِ، وَهِيَ عَلَى أَقْسَامٍ كَثِيرَةٍ: أَوَّلُهَا الِاسْتِخْلَافُ عَلَى الْبِلَادِ، وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَدِّمَهُ عَلَى الْعُمُومِ، أَوْ يُقَدِّمَهُ عَلَى الْخُصُوصِ؛ فَإِنْ قَدَّمَهُ وَعَيَّنَهُ فِي مَنْشُورِهِ وَقَفَ نَظَرُهُ حَيْثُ خُصَّ بِهِ، وَإِنْ قَدَّمَهُ عَلَى الْعُمُومِ فَكُلُّ مَا فِي الْمِصْرِ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ؛ وَذَلِكَ فِي ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ: الْأَوَّلُ الْقَضَاءُ بَيْنَ النَّاسِ، فَلَهُ أَنْ يَقْضِيَ، وَلَهُ أَنْ يُقَدِّمَ مَنْ يَقْضِي، فَإِذَا قَدَّمَ لِلْقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ وَالْحُكْمِ بَيْنِ الْخَلْقِ كَانَ لَهُ النَّظَرُ فِيمَا فِيهِ التَّنَازُعُ بَيْنَ الْخَلْقِ، وَذَلِكَ

[ولايات الشرع]

حَيْثُ تَزْدَحِمُ أَهْوَاؤُهُمْ، وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: النَّفْسِ، وَالْعِرْضِ، وَالْمَالِ، يَفْصِلُ فِيمَا تَنَازَعَهُمْ، وَيَذُبُّ عَنْهُمْ مَنْ يُؤْذِيهِمْ، وَيَحْفَظُ مِنْ الضَّيَاعِ أَمْوَالَهُمْ بِالْجِبَايَةِ إنْ كَانَتْ مُفَرَّقَةً، وَبِتَفْرِيقِهَا عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهَا إذَا اجْتَمَعَتْ، وَيَكُفُّ الظَّالِمَ عَنْ الْمَظْلُومِ. وَيَدْخُلُ فِيهِ قَوَدُ الْجُيُوشِ، وَتَدْبِيرُ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ هُوَ الثَّالِثُ. [وِلَايَاتِ الشَّرْعِ] وَقَدْ رَامَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَحْصُرَ وِلَايَاتِ الشَّرْعِ فَجَمَعَهَا فِي عِشْرِينَ وِلَايَةً، وَهِيَ: الْخِلَافَةُ الْعَامَّةُ، وَالْوَزَارَةُ، وَالْإِمَارَةُ فِي الْجِهَادِ، وَوِلَايَةُ حُدُودِ الْمَصَالِحِ، وَوِلَايَةُ الْقَضَاءِ، وَوِلَايَةُ الْمَظَالِمِ، وَوِلَايَةُ النِّقَابَةِ عَلَى أَهْلِ الشَّرَفِ، وَالصَّلَاةُ، وَالْحَجُّ، وَالصَّدَقَاتُ، وَقَسَمُ الْفَيْءِ، وَالْغَنِيمَةِ، وَفَرْضُ الْجِزْيَةِ، وَالْخَرَاجِ، وَالْمَوَاتُ وَأَحْكَامُهُ، وَالْحِمَى، وَالْإِقْطَاعُ، وَالدِّيوَانُ، وَالْحِسْبَةُ. فَأَمَّا وِلَايَةُ الْخِلَافَةِ فَهِيَ صَحِيحَةٌ، وَأَمَّا الْوَزَارَةُ فَهِيَ وِلَايَةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ رَجُلٍ مَوْثُوقٍ بِهِ فِي دِينِهِ وَعَقْلِهِ يُشَاوِرُهُ الْخَلِيفَةُ فِيمَا يَعِنُّ لَهُ مِنْ الْأُمُورِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي} [طه: 29] {هَارُونَ أَخِي} [طه: 30] {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه: 31] فَلَوْ سَكَتَ هَاهُنَا كَانَتْ وَزَارَةَ مَشُورَةٍ، وَلَكِنَّهُ تَأَدَّبَ مَعَ أَخِيهِ لِسِنِّهِ وَفَضْلِهِ وَحِلْمِهِ وَصَبْرِهِ فَقَالَ: {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه: 32] فَسَأَلَ وَزَارَةَ مُشَارَكَةٍ فِي أَصْلِ النُّبُوَّةِ. وَعَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الْحَسَنِ: «وَزِيرَايَ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، وَوَزِيرَايَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ». وَأَمَّا الْوِلَايَةُ عَلَى الْجِهَادِ فَقَدْ «أَمَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْجُيُوشِ وَالسَّرَايَا كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي كُلِّ غَزْوَةٍ لَمْ يَشْهَدْهَا، وَقَسَّمُوا الْغَنِيمَةَ فِيهَا»، فَدَخَلَتْ إحْدَى الْوِلَايَتَيْنِ فِي الْأُخْرَى، وَلِلْوَالِي أَنْ يُفْرِدَهُمَا. وَأَمَّا حُدُودُ الْمَصَالِحِ فَهِيَ ثَلَاثَةٌ: الرِّدَّةُ، وَقَطْعُ السَّبِيلِ، وَالْبَغْيُ؛ فَأَمَّا الرِّدَّةُ وَالْقَطْعُ لِلسَّبِيلِ فَكَانَا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَإِنَّ نَفَرًا مِنْ عُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ،

فَجَعَلَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْإِبِلِ حَتَّى صَحُّوا، فَقَتَلُوا الرَّاعِيَ، وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ مُرْتَدِّينَ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي آثَارِهِمْ، فَجِيءَ بِهِمْ فَقَتَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ كَمَا فَعَلُوا»، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَشَرْحُ الْحَدِيثِ. وَاسْتَوْفَى اللَّهُ بَيَانَ حَرْبِ الرِّدَّةِ بِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ عَلَى يَدَيْهِ، وَذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ. وَأَمَّا قِتَالُ أَهْلِ الْبَغْيِ فَقَدْ نَصَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ حَيْثُ يَقُولُ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9]؛ ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَى مَا شَرَحْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ الْحَدِيثِ وَالْمَسَائِلِ. وَأَمَّا وِلَايَةُ الْقَضَاءِ «فَقَدَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهَا فِي حَيَاتِهِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ. وَقَالَ: لَا تَقْضِ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ حَتَّى تَسْمَعَ مِنْ الْآخَرِ». وَشُرُوطُهَا مَذْكُورَةٌ فِي الْفِقْهِ. «وَقَدَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرَهُ مِنْ وُلَاتِهِ». وَأَمَّا وِلَايَةُ الْمَظَالِمِ فَهِيَ وِلَايَةٌ غَرِيبَةٌ أَحْدَثَهَا مَنْ تَأَخَّرَ مِنْ الْوُلَاةِ، لِفَسَادِ الْوِلَايَةِ وَفَسَادِ النَّاسِ؛ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ حُكْمٍ يَعْجَزُ عَنْهُ الْقَاضِي فَيَنْظُرُ فِيهِ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ يَدًا؛ وَذَلِكَ أَنَّ التَّنَازُعَ إذَا كَانَ بَيْنَ ضَعِيفَيْنِ قَوَّى أَحَدَهُمَا الْقَاضِي، وَإِذَا كَانَ بَيْنَ قَوِيٍّ وَضَعِيفٍ أَوْ قَوِيَّيْنِ وَالْقُوَّةُ فِي أَحَدِهِمَا بِالْوِلَايَةِ كَظُلْمِ الْأُمَرَاءِ وَالْعُمَّالِ فَهَذَا مِمَّا نُصِّبَ لَهُ الْخُلَفَاءُ أَنْفُسُهُمْ، وَأَوَّلُ مَنْ جَلَسَ إلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ فَرَدَّهُ إلَى قَاضِيهِ ابْنِ إدْرِيسَ، ثُمَّ جَلَسَ لَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَرَدَّ مَظَالِمَ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى الْمَظْلُومِينَ؛ إذْ كَانَتْ فِي أَيْدِي الْوُلَاةِ وَالْعُتَاةِ الَّذِينَ تَعْجَزُ عَنْهُمْ الْقُضَاةُ، ثُمَّ صَارَتْ سُنَّةً، فَصَارَ بَنُو الْعَبَّاسِ يَجْلِسُونَ لَهَا، وَفِي قِصَّةٍ دَارِسَةٍ عَلَى أَنَّهَا فِي أَصْلِ وَضْعِهَا دَاخِلَةٌ فِي الْقَضَاءِ، وَلَكِنَّ الْوُلَاةَ أَضْعَفُوا الْخُطَّةَ الْقَضَوِيَّةِ لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ ضَعْفِ الرَّعِيَّةِ، لِيَحْتَاجَ النَّاسُ إلَيْهِمْ، فَيَقْعُدُوا عَنْهُمْ، فَتَبْقَى الْمَظَالِمُ بِحَالِهَا.

وَأَمَّا وِلَايَةُ النِّقَابَةِ فَهِيَ مُحْدَثَةٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَثُرَتْ الدَّعَاوَى فِي الْأَنْسَابِ الْهَاشِمِيَّةِ، لِاسْتِيلَائِهَا عَلَى الدَّوْلَةِ، نَصَّبَ الْوُلَاةُ قَوْمًا يَحْفَظُونَ الْأَنْسَابَ لِئَلَّا يَدْخُلَ فِيهَا مَنْ لَيْسَ مِنْهَا، ثُمَّ زَادَتْ الْحَالُ فَسَادًا، فَجَعَلُوا إلَيْهِمْ مَنْ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ، فَرَدُّوهُمْ لِقَاضٍ مِنْهُمْ لِئَلَّا تَمْتَهِنَهُمْ الْقُضَاةُ مِنْ سَائِرِ الْقَبَائِلِ، وَهُمْ أَشْرَفُ مِنْهُمْ، وَهِيَ بِدْعِيَّةٌ تُنَافِي الشَّرْعِيَّةَ. وَأَمَّا وِلَايَةُ الصَّلَاةِ فَهِيَ أَصْلٌ فِي نَفْسِهَا وَفَرْعٌ لِلْإِمَارَةِ؛ «فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا بَعَثَ أَمِيرًا كَانَتْ الصَّلَاةُ إلَيْهِ»، وَلَمَّا فَسَدَ الْأَمْرُ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ تُرْضَى حَالُهُ لِلْإِمَامَةِ بَقِيَتْ الْوِلَايَةُ فِي يَدِهِ بِحُكْمِ الْغَلَبَةِ، وَقَدَّمَ لِلصَّلَاةِ مَنْ يَرْضَى؛ سِيَاسَةً مِنْهُمْ لِلنَّاسِ، وَإِبْقَاءً عَلَى أَنْفُسِهِمْ؛ فَقَدْ كَانَ بَنُو أُمَيَّةَ، حِينَ كَانُوا يُصَلُّونَ بِأَنْفُسِهِمْ، يَتَحَرَّجُ أَهْلُ الْفَضْلِ مِنْ الصَّلَاةِ خَلْفَهُمْ، وَيَخْرُجُونَ عَلَى الْأَبْوَابِ؛ فَيَأْخُذُونَهُمْ بِسِيَاطِ الْحَرَسِ، فَيَضْرِبُونَ لَهَا حَتَّى يَفِرُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ الْمَسْجِدِ. وَهَذَا لَا يَلْزَمُ، بَلْ يُصَلِّي مَعَهُمْ، وَفِي إعَادَةِ الصَّلَاةِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ بَيَانُهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَأَمَّا وِلَايَةُ الْحَجِّ فَهِيَ مَخْصُوصَةٌ بِبِلَادِ الْحَجِّ. «وَأَوَّلُ أَمِيرٍ بَعَثَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، بَعَثَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَنَةَ تِسْعٍ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَأَرْسَلَهُ بِسُورَةِ بَرَاءَةٍ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ عَلِيًّا»، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي السُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَأَمَّا وِلَايَةُ الصَّدَقَةِ «فَقَدْ اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الصَّدَقَاتِ كَثِيرًا». أَمَّا وَضْعُ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ فَقَدْ صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُكَيْدِرَ دَوْمَةَ وَأَهْلَ الْبَحْرَيْنِ، فَأَمَرَ عَلَيْهِمْ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ بَعْدَ تَقْرِيرِهِ " وَلَوْ لَمْ يَتَّفِقْ التَّقْرِيرُ لِخَلِيفَةٍ لَجَازَ أَنْ يَبْعَثَ مَنْ يُقَرِّرُهُ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ حِينَ بَعَثَ إلَى الْعِرَاقِ عُمَّالَهُ، وَأَمَرَهُمْ بِمِسَاحَةِ الْأَرْضِ، وَوَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَيْهَا. وَأَمَّا مَا تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ فَلَيْسَ بِوِلَايَةٍ فَيَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ الْوِلَايَاتِ؛ وَإِنَّمَا هُوَ النَّظَرُ فِي مَكَّةَ وَحَرَمِهَا وَدُورِهَا، وَفِي الْمَدِينَةِ وَحَرَمِهَا، وَفِيمَا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ فِيهَا، وَأَحْوَالِ الْبِلَادِ فِيمَا فُتِحَ مِنْهَا عَنْوَةً وَصُلْحًا وَهَذِهِ الشَّرِيعَةُ فِيمَا

اخْتَلَفَتْ الْأَسْبَابُ فِي تَمَلُّكِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ، وَلَيْسَ بِوِلَايَةٍ مَخْصُوصَةٍ حَتَّى يُذْكَرَ فِي جُمْلَةِ الْوِلَايَاتِ؛ وَكَذَلِكَ إحْيَاءُ الْمَوَاتِ حُكْمٌ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَلَيْسَ مِنْ الْوِلَايَاتِ، وَبَيَانُهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَأَمَّا وِلَايَةُ الْحِمَى وَالْإِقْطَاعِ فَهِيَ مَشْهُورَةٌ. وَأَوَّلُ مَنْ وَلَّى فِيهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ مَوْلَاهُ أَبَا أُسَامَةَ عَلَى حِمَى الرَّبَذَةِ، وَوَلَّى عُمَرُ عَلَى حِمَى السَّرِفِ مَوْلَاهُ يَرْفَأُ، وَقَالَ: اُضْمُمْ جَنَاحَك عَنْ النَّاسِ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهَا مُجَابَةٌ، وَأَدْخِلْ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَرَبَّ الْغُنَيْمَةِ، وَإِيَّايَ وَغَنَمَ ابْنُ عَوْفٍ وَابْنُ عَفَّانَ فَإِنَّهُمَا إنْ تَهْلِكُ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَانِ إلَى نَخْلٍ وَزَرْعٍ، وَإِنَّ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَالْغُنَيْمَةِ يَأْتِينِي بِعِيَالِهِ فَيَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَفَتَارِكُهُمْ أَنَا؟ لَا أَبَا لَك، فَالْمَاءُ وَالْكَلَأُ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا الْمَالُ الَّذِي أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا حَمَيْت عَلَيْهِمْ مِنْ بِلَادِهِمْ شِبْرًا. وَأَمَّا الْإِقْطَاعُ فَهُوَ بَابٌ مِنْ الْأَحْكَامِ، «فَقَدْ أَقْطَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمَزْنِيِّ مَعَادِنَ الْقَبَلِيَّةِ مِنْ نَاحِيَةِ الْفَرْعِ»، وَبَيَانُهَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَأَمَّا وِلَايَةُ الدِّيوَانِ فَهِيَ الْكِتَابَةُ، وَقَدْ كَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُتَّابٌ وَلِلْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ، وَهِيَ ضَبْطُ الْجُيُوشِ بِمَعْرِفَةِ أَرْزَاقِهِمْ وَالْأَمْوَالُ لِتَحْصِيلِ فَوَائِدِهَا لِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا. وَأَمَّا وِلَايَةُ الْحُدُودِ فَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ: تَنَاوُلُ إيجَابِهَا، وَذَلِكَ لِلْقُضَاةِ؛ وَتَنَاوُلُ اسْتِيفَائِهَا، «وَقَدْ جَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْمٍ مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ»، وَهِيَ أَشْرَفُ الْوِلَايَاتِ؛ لِأَنَّهَا عَلَى أَشْرَفِ الْأَشْيَاءِ، وَهِيَ الْأَبْدَانُ؛ فَلِنَقِيصَةِ النَّاسِ وَدَحْضِهِمْ بِالذُّنُوبِ أَلْزَمَهُمْ اللَّهُ بِالذِّلَّةِ بِأَنْ جَعَلَهَا فِي أَيْدِي الْأَدْنِيَاءِ وَالْأَوْضَاعِ بَيْنَ الْخَلْقِ. وَأَمَّا وِلَايَةُ الْحِسْبَةِ فَهِيَ مُحْدَثَةٌ؛ وَأَصْلُهَا أَكْبَرُ الْوِلَايَاتِ، وَهِيَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَلِكَثْرَةِ ذَلِكَ رَأَى الْأُمَرَاءُ أَنْ يَجْعَلُوهَا إلَى رَجُلٍ يَتَفَقَّدُهَا فِي الْأَحْيَانِ مِنْ السَّاعَاتِ؛ وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى التَّوْفِيقَ لِلْجَمِيعِ، وَيُرْشِدُ إلَى سَوَاءِ الطَّرِيقِ، وَيَمُنُّ بِتَوْبَةٍ تُعِيدُ الْأَمْرَ إلَى أَهْلِهِ، وَتُوسِعُنَا مَا نُؤَمِّلُهُ مِنْ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ.

[الآية السابعة قوله تعالى أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض]

[الْآيَة السَّابِعَة قَوْله تَعَالَى أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ] ِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: قِيلَ: نَزَلَتْ فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ مِنْهُمْ: عَلِيٌّ، وَحَمْزَةُ، وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَالطُّفَيْلُ بْنُ الْحَارِثِ ابْنَيْ الْمُطَّلِبِ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَأُمُّ أَيْمَنَ وَغَيْرُهُمْ، وَيَقُولُ: أَمْ نَجْعَلُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ بِالْمَعَاصِي مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ؛ كَعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ وَحَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَالْعَاصِي بْنُ أُمَيَّةَ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28] يَعْنِي الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فِي الْآخِرَةِ كَالْفُجَّارِ يَعْنِي مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ هَذِهِ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ، وَلَا شَكَّ فِي صِحَّتِهَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ نَفَى الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ وَبَيْنَ الْمُتَّقِينَ وَالْفُجَّارِ، رُءُوسًا بِرُءُوسٍ وَأَذْنَابًا بِأَذْنَابٍ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ فِي الْجَنَّةِ وَالْمُفْسِدِينَ الْفُجَّارَ فِي النَّارِ؛ وَلَا مُسَاوَاةَ أَيْضًا بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ مَعْصُومُونَ دَمًا وَعِرْضًا، وَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ وَالْفُجَّارَ فِي النَّارِ مُبَاحُو الدَّمِ وَالْعِرْضِ وَالْمَالِ، فَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ الْمُفْسِدِينَ بِذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ دُونَ الدُّنْيَا. [مَسْأَلَة بَنَى رَجُلٌ فِي أَرْضِ رَجُلٍ بِإِذْنِهِ ثُمَّ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَوَقَعَتْ فِي الْفِقْهِ نَوَازِلُ مِنْهَا قَتْلُ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ، وَمِنْهَا إذَا بَنَى رَجُلٌ فِي أَرْضِ

[الآية الثامنة قوله تعالى إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد]

رَجُلٍ بِإِذْنِهِ، ثُمَّ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ إخْرَاجَهُ عَنْ الْبُنْيَانِ، وَهَلْ يُعْطِيهِ قِيمَتَهُ قَائِمًا أَوْ مَنْقُوضًا؟ وَمِنْهَا إذَا بَنَى الْمُشْتَرِي فِي الشِّقْصِ الَّذِي اشْتَرَى فَأَرَادَ الشَّفِيعُ أَخْذَهُ بِالشُّفْعَةِ فَإِنَّهُ يَزِنُ الثَّمَنَ، وَهَلْ يُعْطِيهِ قِيمَةَ بِنَائِهِ قَائِمًا أَوْ مَنْقُوضًا؟ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إذَا بَنَى فِي الْأَرْضِ رَجُلٌ بِإِذْنِهِ ثُمَّ وَجَبَ لَهُ إخْرَاجُهُ فَإِنَّهُ يُعْطِيهِ قِيمَةَ بِنَائِهِ قَائِمًا، وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْطِي الشَّفِيعُ لِلْمُشْتَرِي قِيمَةَ بِنَائِهِ فِي الشِّقْصِ مَنْقُوضًا مُسَاوِيًا لَهُ بِالْغَاصِبِ. وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَسَائِرُ عُلَمَائِنَا وَالشَّافِعِيَّةُ إلَّا الْقَلِيلَ. يُعْطِيهِ قِيمَةَ بِنَائِهِ قَائِمًا، لِأَنَّهُ بَنَاهُ بِحَقٍّ وَتَقْوَى وَصَلَاحٍ، بِخِلَافِ الْغَاصِبِ؛ وَلِذَلِكَ لَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ إذَا قَتَلَ الذِّمِّيَّ، وَإِنْ كَانَ يُقْتَلُ بِمُسْلِمٍ مِثْلِهِ، وَتَعَلَّقُوا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28]. وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ، وَهُوَ قَوْلٌ عَامٌّ يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمْ فِي كُلِّ حَالٍ وَزَمَانٍ، أَمَّا أَنَّهُ يَبْقَى النَّظَرُ فِي أَعْيَانِ هَذِهِ الْفُرُوعِ فَتَفْصِيلٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ، لَا نُطِيلُ بِذِكْرِهِ هَاهُنَا فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ. [الْآيَةُ الثَّامِنَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى إذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ] ُ} [ص: 31]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ: بِالْعَشِيِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَأَنَّهُ مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ إلَى الْغُرُوبِ، كَمَا أَنَّ الْغَدَاةَ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى الزَّوَالِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: {الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} [ص: 31] يَعْنِي الَّتِي وَقَفَتْ مِنْ الدَّوَابِّ عَلَى ثَلَاثِ قَوَائِمَ، وَذَلِكَ لِعِتْقِهَا، فَإِذَا ثَنَى الْفَرَسُ إحْدَى رِجْلَيْهِ فَذَلِكَ عَلَامَةٌ عَلَى كَرَمِهِ، كَمَا أَنَّهُ إذَا شَرِبَ وَلَمْ يَثْنِ سُنْبُكُهُ دَلَّ أَيْضًا عَلَى كَرَمِهِ، وَمِنْ الْغَرِيبِ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقُومَ لَهُ الرِّجَالُ صُفُونًا يَعْنِي يُدِيمُونَ لَهُ الْقِيَامَ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ». وَهَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ. وَمِنْ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ تَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ». وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ، وَقَدْ يُقَالُ صَفَنَ لِمُجَرَّدِ الْوُقُوفِ، وَالْمَصْدَرُ صُفُونًا قَالَ الشَّاعِرُ: أَلِفَ الصُّفُونَ فَمَا يُزَالُ كَأَنَّهُ ... مِمَّا يَقُومُ عَلَى الثَّلَاثِ كَسِيرًا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الْجِيَادُ هِيَ الْخَيْلُ، وَكُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ بِرَدِيءٍ يُقَالُ لَهُ جَيِّدٌ، وَدَابَّةٌ جَيِّدَةٌ وَجِيَادٌ مِثْلُ سَوْطٍ وَسِيَاطٍ؛ عُرِضَتْ الْخَيْلُ عَلَى سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَشَغَلَتْهُ عَنْ صَلَاةِ الْعَشِيِّ بِظَاهِرِ الْقَوْلَيْنِ؛ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هِيَ الْعَصْرُ. وَقَدْ رَوَى الْمُفَسِّرُونَ حَدِيثًا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «صَلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَهِيَ الَّتِي فَاتَتْ سُلَيْمَانَ»، وَهُوَ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ. وَقِيلَ: كَانَتْ أَلْفَ فَرَسٍ وَرِثَهَا مِنْ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ أَصَابَهَا مِنْ الْعَمَالِقَةِ، وَكَانَ لَهُ مَيْدَانٌ مُسْتَدِيرٌ يُسَابِقُ بَيْنَهَا فِيهِ، فَنَظَرَ فِيهَا حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ خَلْفَ الْحِجَابِ، وَهُوَ مَا كَانَ يَحْجُبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا لَا غَيْرُ مِمَّا يَدَّعِيهِ الْمُفَسِّرُونَ، وَقِيلَ أَرَادَ وَهِيَ:

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ، وَغَابَتْ عَنْ عَيْنَيْهِ فِي الْمُسَابَقَةِ؛ لِأَنَّ الشَّمْسَ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ؛ وَهَذَا فَاسِدٌ بَلْ قَدْ تَقَدَّمَ عَلَيْهَا دَلِيلٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (بِالْعَشِيِّ)، كَمَا تَقُولُ: سِرْت بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى غَابَتْ يَعْنِي الشَّمْسَ، وَتَرَكَهَا لِدَلَالَةِ السَّامِعِ لَهَا عَلَيْهَا بِمَا ذَكَرَ مِمَّا يَرْتَبِطُ بِهَا، وَتَعَلَّقَ بِذِكْرِهَا؛ وَالْغَدَاةُ وَالْعَشِيُّ أَمْرٌ مُرْتَبِطٌ بِمَسِيرِ الشَّمْسِ، فَذِكْرُهُ ذِكْرٌ لَهَا، وَقَدْ بَيَّنَّ ذَلِكَ لَبِيدٌ بِقَوْلِهِ: حَتَّى إذَا أَلْقَتْ يَدًا فِي كَافِرٍ ... وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلَامُهَا الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ فَلَمَّا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ قَالَ: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} [ص: 32] يَعْنِي الْخَيْلَ، وَسَمَّاهَا خَيْرًا لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْمَالِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ بِتَسْمِيَةِ الشَّارِعِ لَهُ بِذَلِكَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَلِذَلِكَ قَرَأَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ: إنِّي أَحْبَبْت حُبَّ الْخَيْلِ بِالتَّصْرِيحِ بِالتَّفْسِيرِ؛ قَالَ: {رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا} [ص: 33] بِسُوقِهَا وَأَعْنَاقِهَا، فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا مَسْحُهَا بِيَدِهِ إكْرَامًا لَهَا، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُئِيَ وَهُوَ يَمْسَحُ عَنْ فَرَسِهِ عَرَقَهُ بِرِدَائِهِ، وَقَالَ: إنِّي عُوتِبْت اللَّيْلَةَ فِي الْخَيْلِ». وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَسَحَ أَعْنَاقَهَا وَسُوقَهَا بِالسُّيُوفِ عَرْقَبَةً، وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ، وَكَانَ فِعْلُهُ هَذَا بِهَا حِينَ كَانَ سَبَبًا لِاشْتِغَالِهِ بِهَا عَنْ الصَّلَاةِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَتَلَهَا، وَهِيَ خَيْلُ الْجِهَادِ؟ قُلْنَا: رَأَى أَنْ يَذْبَحَهَا لِلْأَكْلِ.

[الآية التاسعة قوله تعالى رب اغفر لي وهب لي ملكا]

وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: «أَكَلْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَسًا». فَكَانَ ذَلِكَ لِئَلَّا تُشْغِلَهُ مَرَّةً أُخْرَى. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ تَرَكَ شَيْئًا لِلَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ أَمْثَالَهُ؛ أَلَا تَرَى إلَى سُلَيْمَانَ كَيْفَ أَتْلَفَ الْخَيْلَ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ فَعَوَّضَهُ اللَّهُ مِنْهَا الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ، غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ. وَمِنْ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ وَهِمَ فَقَالَ: وَسَمَهَا بِالْكَيِّ، وَسَبَّلَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَيْسَتْ السُّوقُ مَحَلًّا لِلْوَسْمِ بِحَالٍ. [الْآيَةُ التَّاسِعَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا] الْآيَةُ التَّاسِعَةُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 35]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى كَيْفَ سَأَلَ سُلَيْمَانُ الْمُلْكَ، وَهُوَ مِنْ نَاحِيَةِ الدُّنْيَا؟ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّمَا سَأَلَهُ لِيُقِيمَ فِيهِ الْحَقَّ، وَيَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ يُوسُفُ: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]. كَمَا تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَيْفَ مَنَعَ مِنْ أَنْ يَنَالَهُ غَيْرُهُ؟ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فِيهِ أَجْوِبَةٌ سَبْعَةٌ: الْأَوَّلُ إنَّمَا سَأَلَ أَنْ يَكُونَ مُعْجِزَةً لَهُ فِي قَوْمِهِ وَآيَةً فِي الدَّلَالَةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ. الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ لَا تَسْلُبْهُ عَنِّي. الثَّالِثُ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي أَنْ يَسْأَلَ الْمُلْكَ، بَلْ يَكِلُ أَمْرَهُ إلَى اللَّهِ. الرَّابِعُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي مِنْ الْمُلُوكِ، وَلَمْ يُرِدْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ. الْخَامِسُ أَنَّهُ أَرَادَ الْقَنَاعَةَ. السَّادِسُ أَنَّهُ أَرَادَ مُلْكَهُ لِنَفْسِهِ.

السَّابِعُ عَلِمَ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَلَمْ يَسْأَلْهُ إيَّاهُ لِيَفْضُلَ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي التَّنْقِيحِ لِمَنَاطِ الْأَقْوَالِ: أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ سَأَلَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَخْصِيصٌ بِفَائِدَةٍ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُعْجِزَةِ أَنْ تَكُونَ هَكَذَا. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ لَا تَسْلُبْهُ عَنِّي، فَإِنَّمَا أَرَادَ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي أَنْ يَدَّعِيَهُ بَاطِلًا؛ إذْ كَانَ الشَّيْطَانُ قَدْ أَخَذَ خَاتَمَهُ وَجَلَسَ مَجْلِسَهُ، وَحَكَمَ فِي الْخَلْقِ عَلَى لِسَانِهِ، حَسْبَمَا رُوِيَ فِي كُتُبِ الْمُفَسِّرِينَ. وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ قَطْعًا؛ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَصَوَّرُ بِصُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا يَحْكُمُونَ فِي الْخَلْقِ بِصُورَةِ الْحَقِّ، مَكْشُوفًا إلَى النَّاسِ: بِمَرْأًى مِنْهُمْ؛ حَتَّى يَظُنَّ النَّاسُ أَنَّهُمْ مَعَ نَبِيِّهِمْ فِي حَقٍّ، وَهُمْ مَعَ الشَّيْطَانِ فِي بَاطِلٍ؛ وَلَوْ شَاءَ رَبُّك لَوَهَبَ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالدِّينِ لِمَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلُ مَا يَزَعُهُ عَنْ ذِكْرِهِ، وَيَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يُخَلِّدَهُ فِي دِيوَانٍ مِنْ بَعْدَهُ، حَتَّى يُضِلَّ بِهِ غَيْرَهُ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ مَعْنَاهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي أَنْ يَسْأَلَ الْمُلْكَ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ يَصِحُّ لَوْ جَاءَ بِقَوْلِهِ: {لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35] فِي سَعَةِ الِاسْتِئْنَافِ لِلْقَوْلِ وَالِابْتِدَاءِ بِالْكَلَامِ. أَمَّا وَقَدْ جَاءَ مَجِيءَ الْجُمْلَةِ الْحَالَّةِ مَحَلَّ الصِّفَةِ لِمَا سَبَقَ قَبْلَهَا مِنْ الْقَوْلِ فَلَا يَجُوزُ تَفْسِيرُهُ بِهَذَا لِتَنَاقُضِ الْمَعْنَى فِيهِ وَخُرُوجِ ذَلِكَ عَنْ الْقَانُونِ الْعَرَبِيِّ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ مَعْنَاهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي مِنْ الْمُلُوكِ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ فَهَذَا قَوْلٌ قَلِيلٌ الْفَائِدَةِ جِدًّا؛ إذْ قَدْ عَلِمَ قَطْعًا وَيَقِينًا هُوَ وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ مَعَهُ أَنَّ الْمُلُوكَ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إلَى ذَلِكَ، لَا بِالسُّؤَالِ، وَلَا مَعَ ابْتِدَاءِ الْعَطَاءِ، وَهُوَ مَعَ مَا بَعْدَهُ أَمْثَلُ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّا يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ عَلِمَ أَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى دَرَجَةٍ مِنْ الزُّهْدِ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدٌ لَا مَلِكٌ، فَأَرَادَ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلِمَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَهُ لَا يُؤْتَى ذَلِكَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا مَعَ فَضْلِهِ لَا يَسْأَلُهُ، لِأَنَّهُ نَبِيٌّ عَبْدٌ، وَلَيْسَ بِنَبِيٍّ مَلِكٍ، فَحِينَئِذٍ أَقْدَمَ عَلَى السُّؤَالِ، وَهُوَ قَوْلٌ

[الآية العاشرة قوله تعالى وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث]

مُتَمَاثِلٌ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يُعْطِيهِ بِسُؤَالِهِ، كَمَا غَفَرَ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَرْطِ اسْتِغْفَارِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ عِفْرِيتًا تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلَاتِي، فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ، وَأَرَدْت أَنْ أَرْبِطَهُ إلَى جَنْبِ سَارِيَةٍ مِنْ سِوَارِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ ذَكَرْت قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35]. فَأَرْسَلْته، فَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَصْبَحَ يَلْعَبُ بِهِ وِلْدَانُ الْمَدِينَةِ». وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مُرَاعَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِدُعَائِهِ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ فِي حَيَاتِهِ وَلَا بَعْدَ مَمَاتِهِ، وَذَلِكَ بِإِذْنٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مَشْرُوعٌ؛ إذْ لَا يَجُوزُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرُهُ. [الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَخُذْ بِيَدِك ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ] ْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ حَلِفِ أَيُّوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اتَّخَذَ إبْلِيسُ تَابُوتًا، فَوَقَفَ عَلَى الطَّرِيقِ يُدَاوِي النَّاسَ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةَ أَيُّوبَ، فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ؛ إنَّ هَاهُنَا إنْسَانًا مُبْتَلًى فِي أَمْرِهِ كَذَا وَكَذَا، فَهَلْ لَك أَنْ تُدَاوِيَهُ؟ قَالَ لَهَا: نَعَمْ، عَلَى أَنِّي إنْ شَفَيْته يَقُولُ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ: أَنْتَ شَفَيْتنِي، لَا أُرِيدُ مِنْهُ غَيْرَهَا.

[مسألة حلف ليضربن عبده مائة فجمعها فضربه بها ضربة واحدة]

فَأَخْبَرَتْ بِذَلِكَ أَيُّوبَ، فَقَالَ: وَيْحُك، ذَلِكَ الشَّيْطَانُ، لِلَّهِ عَلَيَّ إنْ شَفَانِي اللَّهُ لَأَجْلِدَنَّك مِائَةَ جَلْدَةٍ. فَلَمَّا شَفَاهُ اللَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ ضِغْثًا فَيَضْرِبَهَا بِهِ، فَأَخَذَ شَمَارِيخَ قَدْرَ مِائَةٍ، فَضَرَبَهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: إنَّمَا كَانَ حِينَ بَاعَتْ ذَوَائِبَهَا فِي طَعَامِهِ، وَقَدْ كَانَتْ عَدِمَتْ الطَّعَامَ، وَكَرِهَتْ أَنْ تَتْرُكَهُ جَائِعًا، فَبَاعَتْ ذَوَائِبَهَا وَجَاءَتْهُ بِطَعَامٍ طَيِّبٍ مِرَارًا، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَعَرَّفَتْهُ بِهِ، فَقَالَ مَا قَالَ. [مَسْأَلَة حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ مِائَةً فَجَمَعَهَا فَضَرَبَهُ بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي عُمُومِ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَخُصُوصِهَا: رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا لِلنَّاسِ عَامَّةً. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهَا بِالنَّكَرَةِ خَاصَّةً، وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: مَنْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ مِائَةً، فَجَمَعَهَا فَضَرَبَهُ بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً لَمْ يَبَرَّ. قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: يُرِيدُ مَالِكٌ قَوْله تَعَالَى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]. قَالَ الْقَاضِي: شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَإِنَّمَا انْفَرَدَ مَالِكٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ قِصَّةِ أَيُّوبَ هَذِهِ لَا عَنْ شَرِيعَتِهِ لِتَأْوِيلٍ بَدِيعٍ، وَهُوَ أَنَّ مَجْرَى الْإِيمَانِ عِنْدَ مَالِكٍ فِي سَبِيلِ النِّيَّةِ وَالْقَصْدِ أَوْلَى لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ». وَالنِّيَّةُ أَصْلُ الشَّرِيعَةِ، وَعِمَادُ الْأَعْمَالِ، وَعِيَارُ التَّكْلِيفِ؛ وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ كَبِيرَةٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ قَدْ أَوْضَحْنَاهَا فِي كُتُبِ الْخِلَافِ. وَقِصَّةُ أَيُّوبَ هَذِهِ لَمْ يَصِحَّ كَيْفِيَّةُ يَمِينِ أَيُّوبَ فِيهَا فَإِنَّهُ رَوَى أَنَّهُ قَالَ: إنْ شَفَانِي اللَّهُ جَلَدْتُك. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: وَاَللَّهِ لَأَجْلِدَنَّك وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ عَنْ كُتُبِ التِّرْمِذِيِّ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا حُكْمٌ، فَلَا فَائِدَةَ فِي النَّصْبِ فِيهَا وَلَا فِي إشْكَالِهَا بِسَبِيلِ التَّأْوِيلِ، وَلَا طُلِبَ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا بِجَمْعِ الدَّلِيلِ.

[الآية الحادية عشرة قوله تعالى ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44] يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِهِ كَفَّارَةٌ، وَإِنَّمَا كَانَ الْبِرُّ أَوْ الْحِنْثُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَا صَدَرَ مِنْهُ نَذْرًا لَا يَمِينًا، وَإِذَا كَانَ النَّذْرُ مُعَيَّنًا فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي كُلِّ نَذْرٍ كَفَّارَةٌ، وَهَلْ مَخْرَجُهَا عَلَى التَّفْصِيلِ أَوْ الْإِجْمَالِ؟ [الْآيَة الْحَادِيَة عَشْرَة قَوْلُهُ تَعَالَى مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى إذْ يَخْتَصِمُونَ] َ} [ص: 69]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: وَذَلِكَ أَنَّ «قُرَيْشًا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ قَالَ: سَأَلَنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ قُلْت: فِي الْكَفَّارَاتِ وَالدَّرَجَاتِ. قَالَ: وَمَا الْكَفَّارَاتُ؟ قُلْت: الْمَشْيُ عَلَى الْأَقْدَامِ إلَى الْجَمَاعَاتِ، وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِي السَّبَرَاتِ، وَالتَّعْقِيبُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ قَالَ: وَمَا الدَّرَجَاتُ؟ قُلْت: إفْشَاءُ السَّلَامِ، وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ، وَالصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ وَقِيلَ: خُصُومَتُهُمْ قَوْلُهُمْ: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]» هَذَا حَدِيثُ الْحَسَنِ؛ وَهُوَ حَسَنٌ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «رَأَيْت رَبِّي فِي أَحْسَنِ

صُورَةٍ فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ، فَوَجَدْت بَرْدَهَا بَيْنَ ثَدْيَيَّ، فَعَلِمْت مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام: 75]. فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقُلْت: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ قُلْت: أَيْ رَبِّ فِي الْكَفَّارَاتِ. قَالَ: وَمَا الْكَفَّارَاتُ؟ قُلْت: الْمَشْيُ عَلَى الْأَقْدَامِ إلَى الْجَمَاعَاتِ، وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكْرُوهَاتِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ إلَى الصَّلَاةِ، فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهِنَّ عَاشَ بِخَيْرٍ وَمَاتَ بِخَيْرٍ، وَكَانَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ». وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ صَحِيحًا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ مَالِكِ بْنِ يَخَامِرَ السَّكْسَكِيِّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: «احْتَبَسَ عَنَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ غَدَاةٍ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى كِدْنَا نَتَرَاءَى عَيْنَ الشَّمْسِ، فَخَرَجَ سَرِيعًا فَثَوَّبَ بِالصَّلَاةِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَجَوَّزَ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ لَنَا: عَلَى مَصَافِّكُمْ كَمَا أَنْتُمْ، ثُمَّ انْتَقَلَ إلَيْنَا ثُمَّ قَالَ: أَمَا إنِّي سَأُحَدِّثُكُمْ مَا حَبَسَنِي عَنْكُمْ الْغَدَاةَ: إنِّي قُمْت فِي اللَّيْلِ فَتَوَضَّأْت وَصَلَّيْت مَا قُدِّرَ لِي، فَنَعَسْت فِي صَلَاتِي حَتَّى اسْتَثْقَلْت، فَإِذَا أَنَا بِرَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ. قُلْت: لَبَّيْكَ. قَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ قُلْت: مَا أَدْرِي ثَلَاثًا. قَالَ: فَرَأَيْته وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ، فَوَجَدْت بَرْدَ أَنَامِلِهِ بَيْنَ ثَدْيَيَّ، فَتَجَلَّى لِي كُلُّ شَيْءٍ، وَعَرَفْت. ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ. قُلْت: لَبَّيْكَ، قَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ قُلْت: فِي الْكَفَّارَاتِ. قَالَ: مَا هُنَّ؟ قُلْت مَشْيُ الْأَقْدَامِ إلَى الْحَسَنَاتِ، وَالْجُلُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ، وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْكَرِيهَاتِ. قَالَ: وَمَا الْحَسَنَاتُ؟ قُلْت: إطْعَامُ الطَّعَامِ، وَلِينُ الْكَلَامِ، وَالصَّلَاةُ وَالنَّاسُ نِيَامٌ. قَالَ: سَلْ. قُلْت: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ. وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي، وَإِذَا أَرَدْت فِتْنَةً فِي قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ، أَسْأَلُك حُبَّك وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّك، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إلَى حُبِّك. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّهَا حَقٌّ فَادْرُسُوهَا ثُمَّ تَعَلَّمُوهَا».

[مسألة المشي فيما قرب من الطاعات]

[مَسْأَلَة الْمَشْيَ فِيمَا قَرُبَ مِنْ الطَّاعَاتِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَا خِلَافَ أَنَّ الْمَشْيَ فِيمَا قَرُبَ مِنْ الطَّاعَاتِ أَفْضَلُ مِنْ الرُّكُوبِ، فَأَمَّا كُلُّ مَا يُبْعِدُ فَيَكُونُ الْمَرْءُ بِكَلَالَهِ أَقَلَّ اجْتِهَادًا فِي الطَّاعَةِ فَالرُّكُوبُ أَفْضَلُ فِيهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّاكِبَ فِي الْجِهَادِ أَفْضَلُ مِنْ الرَّاجِلِ لِأَجْلِ غَنَائِهِ؛ وَهَذَا فَرْعُ هَذَا الْأَصْلِ، إذْ الْعَمَلُ مَا كَانَ أَخْلَصَ وَأَبَرَّ كَانَ الْوُصُولُ إلَيْهِ بِالرَّاحَةِ أَفْضَلَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَمْ يَخْتَلِفْ الْمَلَأُ الْأَعْلَى فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْفَضِيلَةِ وَكَمِّيَّتِهَا فَيَجْتَهِدُونَ وَيَقُولُونَ: إنَّهُ أَفْضَلُ، كَمَا لَمْ يَخْتَلِفُوا وَلَا أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ قَوْمٌ يَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ، وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ؛ وَإِنَّمَا طَلَبُوا وَجْهَ الْحِكْمَةِ فَغُيِّبَتْ عَنْهُمْ حِكْمَتُهُ. [الْآيَة الثَّانِيَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ] َ} [ص: 86]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: بِنَاءُ (ك ل ف) فِي لِسَانِ الْعَرَبِ لِلْإِلْزَامِ وَالِالْتِزَامِ، وَقَدْ غَلِطَ عُلَمَاؤُنَا فَقَالُوا: إنَّهُ فِعْلُ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ، وَكُلُّ إلْزَامٍ مَشَقَّةٌ، فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ الْمَشَقَّةِ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مَشَقَّةٌ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. [مَسْأَلَة وُرُودِ الْحَوْض السِّبَاع] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَعْنَى مَا أُلْزِمُ نَفْسِي مَا لَا يَلْزَمُنِي، وَلَا أُلْزِمُكُمْ مَا لَا يَلْزَمُكُمْ، وَمَا جِئْتُكُمْ بِاخْتِيَارِي دُونَ أَنْ أُرْسِلْت إلَيْكُمْ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْمُبَارَكِ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، أَخْبَرَنَا الدَّارَقُطْنِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنُ صَالِحٍ الْكُوفِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنُ هَارُونَ الْبَلَدِيُّ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَرَّانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ بْنُ خَالِدٍ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلْوَانَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَسَارَ لَيْلًا، فَمَرَّ عَلَى رَجُلٍ جَالِسٍ عِنْدَ مَقْرَاةٍ لَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا صَاحِبَ الْمَقْرَاةِ، وَلَغَتْ السِّبَاعُ اللَّيْلَةَ فِي مَقْرَاتِكَ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا صَاحِبَ الْمَقْرَاةِ، لَا تُخْبِرْهُ، هَذَا مُتَكَلِّفٌ لَهَا مَا حَمَلَتْ فِي بُطُونِهَا، وَلَنَا مَا بَقِيَ شَرَابٌ وَطَهُورٌ». وَهَذَا بَيَانُ سُؤَالٍ عَنْ وُرُودِ الْحَوْضِ السِّبَاعُ، فَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا غَالِبًا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُعَوَّلُ عَلَى حَالِ الْمَاءِ فِي لَوْنِهِ وَطَعْمِهِ وَرِيحِهِ، فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَسْأَلَ مَا يَكْسِبُهُ فِي دِينِهِ شَكًّا أَوْ إشْكَالًا فِي عَمَلِهِ، وَلِهَذَا قُلْنَا لَكُمْ: إذَا جَاءَ السَّائِلُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَوَجَدْتُمْ لَهُ مَخْلَصًا فِيهَا فَلَا تَسْأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا لَهُ مَخْلَصًا فَحِينَئِذٍ فَاسْأَلُوهُ عَنْ تَصَرُّفِ أَحْوَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَنِيَّتِهِ، عَسَى أَنْ يَكُونَ لَهُ مَخْلَصٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[سورة الزمر فيها أربع آيات]

[سُورَةُ الزُّمَرِ فِيهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْك الْكِتَابَ بِالْحَقِّ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2]، وَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ النِّيَّةِ فِي كُلِّ عَمَلٍ؛ وَأَعْظَمُهُ الْوُضُوءُ الَّذِي هُوَ شَطْرُ الْإِيمَانِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكٍ اللَّذَيْنِ يَقُولَانِ: إنَّ الْوُضُوءَ يَكْفِي مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، وَمَا كَانَ لِيَكُونَ مِنْ الْإِيمَانِ شَطْرُهُ، وَلَا لِيُخْرِجَ الْخَطَايَا مِنْ بَيْنِ الْأَظَافِرِ وَالشَّعْرِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْلُهُ تَعَالَى قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ] ْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]. رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] قَالَ: هُوَ الصَّبْرُ عَلَى فَجَائِعِ الدُّنْيَا وَأَحْزَانِهَا، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الصَّبْرَ مِنْ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ. قَالَ الْقَاضِي: الصَّبْرُ مَقَامٌ عَظِيمٌ مِنْ مَقَامَاتِ الدِّينِ، وَهُوَ حَبْسُ النَّفْسِ عَمَّا تَكْرَهُهُ مِنْ تَسْرِيحِ الْخَوَاطِرِ، وَإِرْسَالِ اللِّسَانِ، وَانْبِسَاطِ الْجَوَارِحِ عَلَى مَا يُخَالِفُ حَالَ الصَّبْرِ، وَمَنْ الَّذِي يَسْتَطِيعُهُ، فَمَا رُوِيَ أَنَّ أَحَدًا انْتَهَى إلَى مَنْزِلَةِ أَيُّوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَتَّى صَبَرَ عَلَى عَظِيمِ الْبَلَاءِ عَنْ سُؤَالٍ كَشَفَهُ بِالدُّعَاءِ، وَإِنَّمَا عَرَضَ حِينَ خَشِيَ عَلَى دِينِهِ لِضَعْفِ قَلْبِهِ

[الآية الثالثة قوله تعالى والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها]

عَنْ الْإِيمَانِ، فَقَالَ: مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى جَعَلُوهُ فِي الْآثَارِ نِصْفَ الْإِيمَانِ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ عَلَى قِسْمَيْنِ: مَأْمُورٌ وَمَزْجُورٌ، فَالْمَأْمُورُ يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِالْفِعْلِ، وَالْمَزْجُورُ امْتِثَالُهُ بِالْكَفِّ وَالدَّعَةِ عَنْ الِاسْتِرْسَالِ إلَيْهِ، وَهُوَ الصَّبْرُ، فَأَعْلَمَنَا رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّ ثَوَابَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مُقَدَّرٌ مِنْ حَسَنَةٍ إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَخَبَّأَ قَدْرَ الصَّبْرِ مِنْهَا تَحْتَ عِلْمِهِ، فَقَالَ: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]. وَلَمَّا كَانَ الصَّوْمُ نَوْعًا مِنْ الصَّبْرِ حِينَ كَانَ كَفًّا عَنْ الشَّهَوَاتِ قَالَ تَعَالَى: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ». قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: كُلُّ أَجْرٍ يُوزَنُ وَزْنًا، وَيُكَالُ كَيْلًا إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ يُحْثَى حَثْيًا، وَيُغْرَفُ غَرْفًا؛ وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: هُوَ الصَّبْرُ عَلَى فَجَائِعِ الدُّنْيَا وَأَحْزَانِهَا؛ فَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ سَلَّمَ فِيمَا أَصَابَهُ، وَتَرَكَ مَا نَهَى عَنْهُ فَلَا مِقْدَارَ لِأَجْرِهِ، وَأَشَارَ بِالصَّوْمِ إلَى أَنَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَمِيعَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَاَلَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا] وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر: 17]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: نَزَلَتْ مَعَ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فِي ثَلَاثَةِ نَفَرٍ: زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ كَانُوا مِمَّنْ لَمْ يَأْتِهِمْ كِتَابٌ وَلَا بُعِثَ إلَيْهِمْ نَبِيٌّ، وَلَكِنْ وَقَرَ فِي نُفُوسِهِمْ كَرَاهِيَةُ مَا النَّاسُ عَلَيْهِ بِمَا سَمِعُوا مِنْ أَحْسَنِ مَا كَانَ فِي أَقْوَالِ النَّاسِ، فَلَا جَرَمَ قَادَهُمْ ذَلِكَ إلَى الْجَنَّةِ.

أَمَّا زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فَمَاتَ عَلَى التَّوْحِيدِ فِي أَيَّامِ الْفَتْرَةِ فَلَهُ مَا نَوَى مِنْ الْجَنَّةِ، وَأَمَّا أَبُو ذَرٍّ وَسَلْمَانُ فَتَدَارَكَتْهُمْ الْعِنَايَةُ، وَنَالُوا الْهِدَايَةَ، وَأَسْلَمُوا، وَصَارُوا فِي جُمْلَةِ الصَّحَابَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ جَمَاعَةٌ: الطَّاغُوتُ الشَّيْطَانُ، وَقِيلَ: الْأَصْنَامُ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: هُوَ كُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَهُوَ فَلَعُوتٌ مَنْ طَغَى؛ إذَا تَجَاوَزَ الْحَدَّ، وَدَخَلَ فِي قِسْمِ الْمَذْمُومِ فَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَتْ الْعَرَبُ قَدْ اتَّخَذَتْ فِي الْكَعْبَةِ طَوَاغِيتَ، وَهِيَ سِتُّونَ، كَانَتْ تُعَظِّمُهَا بِتَعْظِيمِ الْكَعْبَةِ، وَتُهْدَى إلَيْهَا كَمَا تُهْدَى إلَى الْكَعْبَةِ، وَكَانَ لَهَا سَدَنَةٌ وَحُجَّابٌ، وَكَانَتْ تَطُوفُ بِهَا، وَتَعْرِفُ فَضْلَ الْكَعْبَةِ عَلَيْهَا. وَقِيلَ: كَانَ الشَّيْطَانُ يَتَصَوَّرُ فِي صُورَةِ إنْسَانٍ فَيَتَحَاكَمُونَ إلَيْهِ وَهِيَ صُورَةُ إبْرَاهِيمَ وَفِي الْحَدِيثِ: «إنَّهُ يَأْتِي شَيْطَانٌ فِي صُورَةِ رَجُلٍ فَيَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْذِبُ عَلَى النَّبِيِّ مُتَعَمِّدًا لِيُضِلَّ النَّاسَ»، فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْذَرَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْبَاطِلَةِ الْمُضِلَّةِ، وَيَنْبَغِي أَلَّا يَقْصِدَ مَسْجِدًا، وَلَا يُعَظِّمَ بُقْعَةً إلَّا الْبِقَاعَ الثَّلَاثَ الَّتِي قَالَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُعْمَلُ الْمَطِيُّ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِي هَذَا، وَمَكَّةَ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى». وَقَدْ سَوَّلَ الشَّيْطَانُ لِأَهْلِ زَمَانِنَا أَنْ يَقْصِدُوا الرُّبُطَ، وَيَمْشُوا إلَى الْمَسَاجِدِ تَعْظِيمًا لَهَا، وَهِيَ بِدْعَةٌ مَا جَاءَ النَّبِيُّ بِهَا إلَّا مَسْجِدَ قُبَاءَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَأْتِيهِ كُلَّ سَبْتٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا، لَا لِأَجْلِ الْمَسْجِدِيَّةِ، فَإِنَّ حُرْمَتَهَا فِي مَسْجِدِهِ كَانَتْ أَكْثَرَ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الِافْتِقَادِ لِأَهْلِهِ، وَالتَّطْيِيبِ لِقُلُوبِهِمْ، وَالْإِحْسَانِ بِالْأُلْفَةِ إلَيْهِمْ.

[الآية الرابعة قوله تعالى ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك]

[الْآيَة الرَّابِعَة قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ أُوحِيَ إلَيْك وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِك] َ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]. تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بَيَانُ حَالِ الْإِحْبَاطِ بِالرِّدَّةِ، وَسَنَزِيدُهُ هَاهُنَا بَيَانًا، فَنَقُولُ: هَذَا وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أُمَّتُهُ، وَكَيْفَمَا تَرَدَّدَ الْأَمْرُ فَإِنَّهُ بَيَانُ أَنَّ الْكُفْرَ يُحْبِطُ الْعَمَلَ كَيْفَ كَانَ، وَلَا يَعْنِي بِهِ الْكُفْرَ الْأَصْلِيَّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ عَمَلٌ يُحْبَطُ، وَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ أَنَّ الْكُفْرَ يُحْبِطُ الْعَمَلَ الَّذِي كَانَ مَعَ الْإِيمَانِ؛ إذْ لَا عَمَلَ إلَّا بَعْدَ أَصْلِ الْإِيمَانِ، فَالْإِيمَانُ مَعْنًى يَكُونُ بِهِ الْمَحَلُّ أَصْلًا لِلْعَمَلِ لَا شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَمَلِ، كَمَا تَخَيَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ لَا يَكُونُ شَرْطًا لِلْفَرْعِ؛ إذْ الشُّرُوطُ أَتْبَاعٌ فَلَا تَصِيرُ مَقْصُودَةً؛ إذْ فِيهِ قَلْبُ الْحَالِ وَعَكْسُ الشَّيْءِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] فَمَنْ كَفَرَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ حَبِطَ عَمَلُهُ، وَاسْتَأْنَفَ الْعَمَلَ إذَا أَسْلَمَ، وَكَانَ كَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ وَلَمْ يَكْفُرْ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وَالْإِسْلَامُ وَالْهِجْرَةُ يَهْدِمَانِ مَا قَبْلَهُمَا مِنْ بَاطِلٍ، وَلَا يَكُونُ إيمَانًا إلَّا بِاعْتِقَادٍ عَامٍّ عَلَى الْأَزْمَانِ، مُتَّصِلٍ بِتَأْبِيدِ الْأَبَدِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَتَبَعَّضُ وَإِنْ أُفْسِدَ فَسَدَ جَمِيعُهُ، وَهُوَ حُكْمٌ لَا يَتَجَزَّأُ شَرْعًا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي التَّلْخِيصِ وَغَيْرِهِ.

[سورة المؤمن فيها ثلاث آيات]

[سُورَة الْمُؤْمِن فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28]. ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُكَلَّفَ إذَا كَتَمَ إيمَانَهُ، وَلَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ لِسَانُهُ [أَنَّهُ] لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا بِاعْتِقَادِهِ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: إنَّهُ إذَا نَوَى بِقَلْبِهِ طَلَاقَ زَوْجِهِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ، كَمَا يَكُونُ مُؤْمِنًا وَكَافِرًا بِقَلْبِهِ، فَجَعَلَ مَدَارَ الْإِيمَانِ عَلَى الْقَلْبِ، وَإِنَّهُ كَذَلِكَ، لَكِنْ لَيْسَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِمَا لُبَابُهُ أَنَّ الْمُكَلَّفَ إذَا نَوَى الْكُفْرَ بِقَلْبِهِ كَانَ كَافِرًا، وَإِنْ لَمْ يَلْفِظْ بِلِسَانِهِ. وَأَمَّا إذَا نَوَى الْإِيمَانَ بِقَلْبِهِ فَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَتَلَفَّظَ بِلِسَانِهِ، وَأَمَّا إذَا نَوَى الْإِيمَانَ بِقَلْبِهِ تَمْنَعُهُ التَّقِيَّةُ وَالْخَوْفُ مِنْ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِلِسَانِهِ [فَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا] فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا تَمْنَعُهُ التَّقِيَّةُ مِنْ أَنْ يَسْمَعَهُ غَيْرُهُ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْإِيمَانِ أَنْ يَسْمَعَهُ الْغَيْرُ فِي صِحَّتِهِ مِنْ التَّكْلِيفِ؛ إنَّمَا يُشْتَرَطُ سَمَاعُ الْغَيْرِ لَهُ لِيَكُفَّ عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ.

[الآيتان الثانية والثالثة قوله تعالى الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون]

[الْآيَتَانِ الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة قَوْله تَعَالَى اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ] َ} [غافر: 79] {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [غافر: 80]. قَالَ الْقَاضِي: كُلُّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِالْأَنْعَامِ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهِ؛ فَمَنْ شَاءَ فَلْيَلْحَظْهُ فِي مَوْضِعِهِ.

[سورة فصلت فيها ست آيات]

[سُورَةُ فُصِّلَتْ فِيهَا سِتُّ آيَاتٍ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت: 16]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: يَعْنِي شَدَائِدَ لَا خَيْرَ فِيهَا، وَكَذَلِكَ رَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ " وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مَالِكٌ رَدًّا عَلَى مَنْ يَقُولُ: إنَّ النَّحْسَ الْغُبَارُ، وَلَوْ كَانَ الْغُبَارُ نَحْسًا لَكَانَ أَقَلَّ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ نَحْسٍ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: إنَّهَا مُتَتَابِعَاتٌ لَا يَخْرُجُ مِنْ لَفْظِ قَوْله تَعَالَى: {نَحِسَاتٍ} [فصلت: 16]. وَإِنَّمَا عُرِفَ التَّتَابُعُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة: 7] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قِيلَ: إنَّهَا كَانَتْ آخِرَ شَوَّالٍ مِنْ الْأَرْبِعَاءِ إلَى الْأَرْبِعَاءِ، وَالنَّاسُ يَكْرَهُونَ السَّفَرَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِأَجْلِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ؛ لَقِيت يَوْمًا مَعَ خَالِي الْحُسَيْنِ بْنِ حَفْصٍ رَجُلًا مِنْ الْكتاب فَوَدَّعْنَاهُ بِنِيَّةِ السَّفَرِ، فَلَمَّا فَارَقَنَا قَالَ لِي خَالِي: إنَّك لَا تَرَاهُ أَبَدًا لِأَنَّهُ سَافَرَ

[الآية الثانية قوله تعالى إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا]

يَوْمَ أَرْبِعَاءٍ لَا يَتَكَرَّرُ، وَكَذَلِكَ كَانَ: مَاتَ فِي سَفَرِهِ، وَهَذَا مَا لَا أَرَاهُ، فَإِنَّ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ يَوْمٌ عَجِيبٌ بِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ الْخَلْقِ فِيهِ، وَالتَّرْتِيبِ؛ فَإِنَّ الْحَدِيثَ ثَابِتٌ «بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ يَوْمَ السَّبْتِ التُّرْبَةَ، وَيَوْمَ الْأَحَدِ الْجِبَالَ، وَيَوْمَ الِاثْنَيْنِ الشَّجَرَ، وَيَوْمَ الثُّلَاثَاءِ الْمَكْرُوهَ، وَيَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ النُّورَ»، وَرُوِيَ: النُّونُ وَفِي الْحَدِيثِ: «إنَّهُ خَلَقَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ غُرَّةَ التِّقْنِ»، وَهُوَ كُلُّ شَيْءٍ أُتْقِنَ بِهِ الْأَشْيَاءُ يَعْنِي الْمَعَادِنَ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالنُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ فَالْيَوْمُ الَّذِي خَلَقَ فِيهِ الْمَكْرُوهَ لَا يَعَافُهُ النَّاسُ، وَالْيَوْمُ الَّذِي خَلَقَ فِيهِ النُّورَ أَوْ التِّقْنَ يَعَافُونَهُ، إنَّ هَذَا لَهُوَ الْجَهْلُ الْمُبِينُ. وَفِي الْمَغَازِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «دَعَا عَلَى الْأَحْزَابِ مِنْ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ إلَى يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، فَاسْتُجِيبَ لَهُ»، وَهِيَ سَاعَةٌ فَاضِلَةٌ؛ فَالْآثَارُ الصِّحَاحُ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ هَذَا الْيَوْمِ، وَكَيْفَ يُدَّعَى فِيهِ تَغْرِيرُ النَّحْسِ بِأَحَادِيثَ لَا أَصْلَ لَهَا، وَقَدْ صَوَّرَ قَوْمٌ أَيَّامًا مِنْ الْأَشْهُرِ الشَّمْسِيَّةِ ادَّعَوْا فِيهَا الْكَرَامَةَ؛ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا، وَلَا يَشْتَغِلَ بِآلَاتِهَا، وَاَللَّهُ حَسِيبُهُمْ. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا] تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [فصلت: 30] يَعْنِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ؛ إذْ لَا يَتِمُّ أَحَدُ الرُّكْنَيْنِ إلَّا بِالْآخَرِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَاسْتَقَرَّ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] اسْتِفْعَالٌ، مِنْ قَامَ يَعْنِي دَامَ وَاسْتَمَرَّ وَفِيهَا قَوْلَانِ:

[الآية الثالثة قوله تعالى ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا]

أَحَدُهُمَا: اسْتَقَامُوا عَلَى قَوْلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ حَتَّى مَاتُوا عَلَيْهَا، وَلَمْ يُبَدِّلُوا وَلَمْ يُغَيِّرُوا. الثَّانِي: اسْتَقَامُوا عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحٌ لَازِمٌ، مُرَادٌ بِالْقَوْلِ. وَالْمَعْنَى: فَإِنَّ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " مِفْتَاحٌ لَهُ أَسْنَانٌ، فَمَنْ جَاءَ بِالْمِفْتَاحِ وَأَسْنَانِهِ فُتِحَ لَهُ، وَإِلَّا لَمْ يُفْتَحْ لَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت: 30] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يَعْنِي عِنْدَ الْمَوْتِ، وَأَنَا أَقُولُ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَآكَدُ الْأَيَّامِ يَوْمَ الْمَوْتِ، وَحِينَ الْقَبْرِ، وَيَوْمَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَفِي ذَلِكَ آثَارٌ بَيَّنَّاهَا فِي مَوَاضِعِهَا. [الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا] وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ الْحَسَنُ إذَا تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ يَقُولُ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا حَبِيبُ اللَّهِ، هَذَا صَفْوَةُ اللَّهِ، هَذَا خِيرَةُ اللَّهِ، هَذَا وَاَللَّهِ أَحَبُّ أَهْلِ الْأَرْضِ إلَى اللَّهِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُؤَذِّنِينَ، وَهَذَا ذِكْرٌ ثَانٍ لَهُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَسَيَأْتِي الثَّالِثُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَالْأَذَانَ مَدَنِيٌّ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِيهَا بِالْمَعْنَى، لَا أَنَّهُ كَانَ الْمَقْصُودَ، وَيَدْخُلُ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ حِينَ قَالَ فِي النَّبِيِّ وَقَدْ خَنَقَهُ الْمَلْعُونُ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ، وَيَتَضَمَّنُ كُلَّ كَلَامٍ حَسَنٍ فِيهِ ذِكْرُ التَّوْحِيدِ وَبَيَانُ الْإِيمَانِ.

[الآية الرابعة قوله تعالى ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَعَمِلَ صَالِحًا} [فصلت: 33]. قَالُوا: هِيَ الصَّلَاةُ، وَإِنَّهُ لَحَسَنٌ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ كُلَّ عَمَلٍ صَالِحٍ، وَلَكِنَّ الصَّلَاةَ أَجَلُّهُ، وَالْمُرَادُ أَنْ يَتْبَعَ الْقَوْلَ الْعَمَلُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]، وَمَا تَقَدَّمَ يَدُلُّ عَلَى الْإِسْلَامِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الدُّعَاءُ بِالْقَوْلِ، وَالسَّيْفُ يَكُونُ لِلِاعْتِقَادِ، وَيَكُونُ لِلْحُجَّةِ، وَكَانَ الْعَمَلُ يَكُونُ لِلرِّيَاءِ وَالْإِخْلَاصِ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّصْرِيحِ بِالِاعْتِقَادِ لِلَّهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَنَّ الْعَمَلَ لِوَجْهِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33] وَلَمْ يَقُلْ [لَهُ] إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ: أَنَا مُسْلِمٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْأُصُولِ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ. [الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ؛ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأُمِرَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْعَفْوِ عَنْهُ. وَقِيلَ لَهُ: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اُخْتُلِفَ مَا الْمُرَادُ بِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قِيلَ الْمُرَادُ بِهَا مَا رُوِيَ فِي الْآيَةِ أَنْ نَقُولَ: إنْ كُنْت كَاذِبًا يَغْفِرُ اللَّهُ لَك، وَإِنْ كُنْت صَادِقًا يَغْفِرُ اللَّهُ لِي، وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَهُ لِرَجُلٍ نَالَ مِنْهُ.

[الآية الخامسة قوله تعالى ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر]

الثَّانِي الْمُصَافَحَةُ، وَفِي الْأَثَرِ: «تَصَافَحُوا يَذْهَبُ الْغِلُّ»، وَإِنْ لَمْ يَرَ مَالِكٌ الْمُصَافَحَةَ، وَقَدْ اجْتَمَعَ مَعَ سُفْيَانَ فَتَكَلَّمَا فِيهَا، فَقَالَ سُفْيَانُ: قَدْ صَافَحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعْفَرًا حِينَ قَدِمَ مِنْ الْحَبَشَةِ، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: ذَلِكَ خَاصٌّ لَهُ؛ فَقَالَ لَهُ سُفْيَانُ: مَا خَصَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخُصُّنَا، وَمَا عَمَّهُ يَعُمُّنَا، وَالْمُصَافَحَةُ ثَابِتَةٌ، فَلَا وَجْهَ لِإِنْكَارِهَا. وَقَدْ رَوَى قَتَادَةُ قَالَ: قُلْت لِأَنَسٍ: هَلْ كَانَتْ الْمُصَافَحَةُ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: نَعَمْ. وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَرَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا». وَفِي الْأَثَرِ: «مِنْ تَمَامِ الْمَحَبَّةِ الْأَخْذُ بِالْيَدِ». وَمِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَهُوَ إمَامٌ مُقَدَّمٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمَدِينَةَ فِي نَفَرٍ، فَقَرَعَ الْبَابَ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُرْيَانًا يَجُرُّ ثَوْبَهُ، وَاَللَّهِ مَا رَأَيْته عُرْيَانًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ». الثَّالِثُ: السَّلَامُ، لَا يُقْطَعُ عَنْهُ سَلَامُهُ إذَا لَقِيَهُ، وَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الْخَامِسَة قَوْله تَعَالَى وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ] ُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38]. وَهَذِهِ آيَةُ سُجُودٍ بِلَا خِلَافٍ، وَلَكِنْ اُخْتُلِفَ فِي مَوْضِعِهِ؛ فَقَالَ مَالِكٌ: مَوْضِعُهُ:

[الآية السادسة قوله تعالى ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته]

{كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْأَمْرِ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَالشَّافِعِيُّ: مَوْضِعُهُ {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] لِأَنَّهُ تَمَامُ الْكَلَامِ، وَغَايَةُ الْعِبَادَةِ وَالِامْتِثَالِ. وَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ يَسْجُدَانِ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37]. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْجُدُ عِنْدَ قَوْلِهِ: {يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38]. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: اُسْجُدُوا بِالْآخِرَةِ مِنْهُمَا، وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ مَسْرُوقٍ، وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ؛ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَأَبِي صَالِحٍ؛ وَيَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، وَطَلْحَةُ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ. وَكَانَ أَبُو وَائِلٍ، وَقَتَادَةُ، وَبَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَسْجُدُونَ عِنْدَ قَوْلِهِ: {يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38]، وَالْأَمْرُ قَرِيبٌ. [الْآيَة السَّادِسَة قَوْله تَعَالَى وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ] ُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44] فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رُوِيَ أَنَّ قُرَيْشًا قَالُوا: إنَّ الَّذِي يُعَلِّمُ مُحَمَّدًا يَسَارُ أَبُو فَكِيهَةَ مَوْلًى مِنْ قُرَيْشٍ، وَسَلْمَانُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَهَذَا يَصِحُّ فِي يَسَارٍ، لِأَنَّهُ مَكِّيٌّ، وَالْآيَةُ مَكِّيَّةٌ؛ وَأَمَّا سَلْمَانُ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعْ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا بِالْمَدِينَةِ، وَقَدْ كَانَتْ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ بِإِجْمَاعٍ مِنْ النَّاسِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي مَعْنَى الْآيَةِ: وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَوْ نَزَلَ بِاللُّغَةِ الْأَعْجَمِيَّةِ لَقَالَتْ قُرَيْشٌ لِمُحَمَّدٍ: يَا مُحَمَّدُ؛ إذَا أُرْسِلْت إلَيْنَا بِهِ فَهَلَّا فَصَّلْت آيَاتِهِ، أَيْ بَيَّنْت وَأَحْكَمْت.

[مسألة ترجمة القرآن]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ، التَّقْدِيرُ: أَنَّى يَجْتَمِعُ مَا يَقُولُونَ أَوْ يَنْتَظِمُ مَا يَأْفِكُونَ؟ يَسَارٌ أَعْجَمِيٌّ، وَالْقُرْآنُ عَرَبِيٌّ، فَأَنَّى يَجْتَمِعَانِ، [مَسْأَلَة تَرْجَمَةَ الْقُرْآنِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ: إنَّ تَرْجَمَةَ الْقُرْآنِ بِإِبْدَالِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِيهِ بِالْفَارِسِيَّةِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا} [فصلت: 44]: كَذَا لِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ لِلْعُجْمَةِ إلَيْهِ طَرِيقٌ، فَكَيْفَ يُصْرَفُ إلَى مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ التِّبْيَانَ وَالْإِعْجَازَ إنَّمَا يَكُونُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، فَلَوْ قُلِبَ إلَى غَيْرِ هَذَا لَمَا كَانَ قُرْآنًا وَلَا بَيَانًا، وَلَا اقْتَضَى إعْجَازًا، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ عَلَى التَّمَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ، وَلَا خَيْرَ إلَّا خَيْرُهُ.

[سورة الشورى فيها ثمان آيات]

[سُورَةُ الشُّورَى فِيهَا ثَمَانِ آيَاتٍ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَاَلَّذِي أَوْحَيْنَا] الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13]. ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الْمَشْهُورِ [الْكَبِيرِ]: «وَلَكِنْ ائْتُوا نُوحًا، فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ. فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ: أَنْتَ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ». وَهَذَا صَحِيحٌ لَا إشْكَالَ فِيهِ، كَمَا أَنَّ آدَمَ أَوَّلُ نَبِيٍّ بِغَيْرِ إشْكَالٍ؛ لِأَنَّ آدَمَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا بَنُوهُ، وَلَمْ تُفْرَضْ لَهُ الْفَرَائِضُ، وَلَا شُرِعَتْ لَهُ الْمَحَارِمُ؛ وَإِنَّمَا كَانَ تَنْبِيهًا عَلَى بَعْضِ الْأُمُورِ، وَاقْتِصَارًا عَلَى ضَرُورَاتِ الْمَعَاشِ، وَأَخَذًا بِوَظَائِفِ الْحَيَاةِ وَالْبَقَاءِ، وَاسْتَقَرَّ الْمَدَى إلَى نُوحٍ، فَبَعَثَهُ اللَّهُ بِتَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَوَظَّفَ عَلَيْهِ الْوَاجِبَاتِ، وَأَوْضَحَ لَهُ الْآدَابَ فِي الدِّيَانَاتِ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَأَكَّدُ بِالرُّسُلِ، وَيَتَنَاصَرُ بِالْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، شَرِيعَةً بَعْدَ شَرِيعَةٍ، حَتَّى خَتَمَهَا اللَّهُ بِخَيْرِ الْمِلَلِ مِلَّتِنَا، عَلَى لِسَانِ أَكْرَمِ الرُّسُلِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَأَنَّ الْمَعْنَى: وَوَصَّيْنَاك يَا مُحَمَّدُ وَنُوحًا دِينًا وَاحِدًا يَعْنِي فِي الْأُصُولِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ فِيهَا الشَّرِيعَةُ، وَهِيَ: التَّوْحِيدُ،

[الآية الثانية قوله تعالى من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه]

وَالصَّلَاةُ، وَالزَّكَاةُ، وَالصِّيَامُ، وَالْحَجُّ، وَالتَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِصَالِحِ الْأَعْمَالِ، وَالتَّزَلُّفُ إلَيْهِ بِمَا يَرُدُّ الْقَلْبَ وَالْجَارِحَةَ إلَيْهِ، وَالصِّدْقُ، وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ، وَتَحْرِيمُ الْكُفْرِ، وَالْقَتْلِ، وَالزِّنَا، وَالْإِذَايَةِ لِلْخَلْقِ، كَيْفَمَا تَصَرَّفَتْ، وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى الْحَيَوَانِ كَيْفَمَا كَانَ، وَاقْتِحَامِ الدَّنَاءَاتِ، وَمَا يَعُودُ بِخَرْمِ الْمُرُوءَاتِ. فَهَذَا كُلُّهُ شُرِعَ دِينًا وَاحِدًا وَمِلَّةً مُتَّحِدَةً لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَعْدَادُهُمْ، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] أَيْ اجْعَلُوهُ قَائِمًا، يُرِيدُ دَائِمًا مُسْتَمِرًّا، مَحْفُوظًا مُسْتَقِرًّا، مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فِيهِ، وَلَا اضْطِرَابٍ عَلَيْهِ. فَمِنْ الْخَلْقِ مَنْ وَفَى بِذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَكَثَ بِهِ، وَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ. وَاخْتَلَفَتْ الشَّرَائِعُ وَرَاءَ هَذَا فِي مَعَانٍ حَسْبَمَا أَرَادَهُ اللَّهُ، مِمَّا اقْتَضَتْهُ الْمَصْلَحَةُ، وَأَوْجَبَتْ الْحِكْمَةُ وَضْعَهُ فِي الْأَزْمِنَةِ عَلَى الْأُمَمِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ] ِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20]. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةٍ سُبْحَانَ وَغَيْرِهَا بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَقَوْلُهُ هَاهُنَا: {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20] يُبْطِلُ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ: إنَّهُ مَنْ تَوَضَّأَ تَبَرُّدًا إنَّهُ يُجْزِئْهُ عَنْ فَرِيضَةِ الْوُضُوءِ الْمُوَظَّفَةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ فَرِيضَةَ الْوُضُوءِ الْمُوَظَّفَةَ عَلَيْهِ مِنْ حَرْثِ الْآخِرَةِ، وَالتَّبَرُّدَ مِنْ حَرْثِ الدُّنْيَا؛ فَلَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَلَا تُجْزِئُ نِيَّتُهُ عَنْهُ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.

[الآية الثالثة قوله تعالى ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام]

[الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ] الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} [الشورى: 32]. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ رُكُوبِ الْبَحْرِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ. [الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] ْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ {وَأَمْرُهُمْ} [الشورى: 38] يَعْنِي بِهِ الْأَنْصَارَ، كَانُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَقَبْلَ قُدُومِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذَا كَانَ يَهُمُّهُمْ أَمْرٌ اجْتَمَعُوا فَتَشَاوَرُوا بَيْنَهُمْ وَأَخَذُوا بِهِ، فَأَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ خَيْرًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الشُّورَى فَعَلَى، مِنْ شَارَ يَشُورُ شَوْرًا إذَا عَرَضَ الْأَمْرَ عَلَى الْخِيرَةِ، حَتَّى يَعْلَمَ الْمُرَادَ مِنْهُ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ رَكِبَ فَرَسًا يَشُورُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الشُّورَى أُلْفَةٌ لِلْجَمَاعَةِ، وَمِسْبَارٌ لِلْعُقُولِ، وَسَبَبٌ إلَى الصَّوَابِ، وَمَا تَشَاوَرَ قَوْمٌ إلَّا هُدُوا. وَقَدْ قَالَ حَكِيمٌ: إذَا بَلَغَ الرَّأْيُ الْمَشُورَةَ فَاسْتَعِنْ ... بِرَأْيِ لَبِيبٍ أَوْ مَشُورَةِ حَازِمٍ وَلَا تَجْعَلْ الشُّورَى عَلَيْك غَضَاضَةً ... فَإِنَّ الْخَوَافِيَ نَافِعٌ لِلْقَوَادِمِ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَدَحَ اللَّهُ الْمُشَاوِرَ فِي الْأُمُورِ، وَمَدَحَ الْقَوْمَ الَّذِينَ يَمْتَثِلُونَ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

[الآية الخامسة والسادسة قوله تعالى والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون]

يُشَاوِرُ أَصْحَابَهُ فِي الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَصَالِحِ الْحُرُوبِ، وَذَلِكَ فِي الْآثَارِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يُشَاوِرْهُمْ فِي الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّهَا مُنَزَّلَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَقْسَامِ: مِنْ الْفَرْضِ، وَالنَّدْبِ، وَالْمَكْرُوهِ، وَالْمُبَاحِ، وَالْحَرَامِ. فَأَمَّا الصَّحَابَةُ بَعْدَ اسْتِئْثَارِ اللَّهِ بِهِ عَلَيْنَا فَكَانُوا يَتَشَاوَرُونَ فِي الْأَحْكَامِ، وَيَسْتَنْبِطُونَهُ امِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ وَإِنَّ أَوَّلَ مَا تَشَاوَرَ فِيهِ الصَّحَابَةُ الْخِلَافَةَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا حَتَّى كَانَ فِيهَا بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَالْأَنْصَارِ مَا سَبَقَ بَيَانُهُ. وَقَالَ عُمَرُ: نَرْضَى لِدُنْيَانَا مَنْ رَضِيَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِدِينِنَا. وَتَشَاوَرُوا فِي أَمْرِ الرِّدَّةِ، فَاسْتَقَرَّ رَأْيُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى الْقِتَالِ. وَتَشَاوَرُوا فِي الْجَدِّ وَمِيرَاثِهِ، وَفِي حَدِّ الْخَمْرِ وَعَدَدِهِ عَلَى الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَتَشَاوَرُوا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحُرُوبِ، حَتَّى شَاوَرَ عُمَرَ الْهُرْمُزَانَ حِينَ وَفَدَ عَلَيْهِ مُسْلِمًا فِي الْمَغَازِي، فَقَالَ لَهُ. الْهُرْمُزَانُ: إنَّ مَثَلَهَا وَمَثَلَ مَنْ فِيهَا مِنْ عَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُ طَائِرٍ لَهُ رَأْسٌ وَلَهُ جَنَاحَانِ وَرِجْلَانِ، فَإِنْ كُسِرَ أَحَدُ الْجَنَاحَيْنِ نَهَضَتْ الرِّجْلَانِ بِجَنَاحٍ وَالرَّأْسِ، وَإِنْ كُسِرَ الْجَنَاحُ الْآخَرُ نَهَضَتْ الرِّجْلَانِ وَالرَّأْسُ، وَإِنْ شُدِخَ الرَّأْسُ ذَهَبَتْ الرِّجْلَانِ وَالْجَنَاحَانِ، وَالرَّأْسُ كِسْرَى وَالْجَنَاحُ الْوَاحِدُ قَيْصَرُ، وَالْآخَرُ فَارِسُ. فَمُرْ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَنْفِرُوا إلَى كِسْرَى وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ وَقَالَ بَعْضُ الْعُقَلَاءِ: مَا أَخْطَأْت قَطُّ؛ إذَا حَزَبَنِي أَمْرٌ شَاوَرْت قَوْمِي، فَفَعَلْت الَّذِي يَرَوْنَ، فَإِنْ أَصَبْت فَهُمْ الْمُصِيبُونَ، وَإِنْ أَخْطَأْت فَهُمْ الْمُخْطِئُونَ، وَهَذَا أَبْيَنُ مِنْ إطْنَابٍ فِيهِ. [الْآيَة الْخَامِسَة وَالسَّادِسَة قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ إذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ] الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرَ اللَّهُ الِانْتِصَارَ فِي الْبَغْيِ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ، وَذَكَرَ الْعَفْوَ عَنْ الْجُرْمِ فِي مَوْضِعٍ

[الآية السابعة قوله تعالى إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق]

آخَرَ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ؛ فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا رَافِعًا لِلْآخَرِ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ رَاجِعًا إلَى حَالَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا أَنْ يَكُونَ الْبَاغِي مُعْلِنًا بِالْفُجُورِ، وَقِحًا فِي الْجُمْهُورِ، مُؤْذِيًا لِلصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، فَيَكُونَ الِانْتِقَامُ مِنْهُ أَفْضَلَ. وَفِي مِثْلِهِ قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: يُكْرَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُذِلُّوا أَنْفُسَهُمْ، فَيَجْتَرِئَ عَلَيْهِمْ الْفُسَّاقُ. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْفَلْتَةَ، أَوْ يَقَعَ ذَلِكَ مِمَّنْ يَعْتَرِفُ بِالزَّلَّةِ، وَيَسْأَلُ الْمَغْفِرَةَ، فَالْعَفْوُ هَاهُنَا أَفْضَلُ، وَفِي مِثْلِهِ نَزَلَتْ: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45]. وَقَوْلُهُ: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22]. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ السُّدِّيُّ: إنَّمَا مَدَحَ اللَّهُ مَنْ انْتَصَرَ مِمَّنْ بَغَى عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِدَاءٍ بِالزِّيَادَةِ عَلَى مِقْدَارِ مَا فَعَلَ بِهِ يَعْنِي كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ؛ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] فَبَيَّنَ فِي آخِرِ الْآيَةِ الْمُرَادَ مِنْهَا، وَهُوَ أَمْرٌ مُحْتَمَلٌ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَهِيَ الْآيَةُ السَّادِسَةُ. [الْآيَة السَّابِعَة قَوْله تَعَالَى إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ] [الْآيَةُ السَّابِعَةُ] قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 42]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ فِي مُقَابَلَةِ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي (بَرَاءَةٌ)، وَهِيَ قَوْلُهُ: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] فَكَمَا نَفَى اللَّهُ السَّبِيلَ عَمَّنْ أَحْسَنَ فَكَذَلِكَ أَثْبَتَهَا عَلَى مَنْ ظَلَمَ، وَاسْتَوْفَى بَيَانَ الْقِسْمَيْنِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ، وَسُئِلَ عَنْ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: لَا أُحَلِّلُ أَحَدًا. فَقَالَ: ذَلِكَ يَخْتَلِفُ. فَقُلْت: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، الرَّجُلُ يُسَلِّفُ الرَّجُلَ فَيَهْلِكُ، وَلَا فَاءَ لَهُ. قَالَ: أَرَى أَنْ يُحَلِّلَهُ، وَهُوَ أَفْضَلُ عِنْدِي لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] وَلَيْسَ كُلَّمَا قَالَ أَحَدٌ وَإِنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ يُتْبَعُ. فَقِيلَ لَهُ: الرَّجُلُ يَظْلِمُ الرَّجُلَ، فَقَالَ: لَا أَرَى ذَلِكَ، وَهُوَ مُخَالِفٌ عِنْدِي لِلْأَوَّلِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} [الشورى: 42]، وَيَقُولُ تَعَالَى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] فَلَا أَرَى أَنْ تَجْعَلَهُ مِنْ ظُلْمِهِ فِي حِلٍّ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَصَارَ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا لَا يُحَلِّلُهُ بِحَالٍ؛ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ. وَالثَّانِي: يُحَلِّلُهُ؛ قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ. الثَّالِثُ إنْ كَانَ مَالًا حَلَّلَهُ، وَإِنْ كَانَ ظُلْمًا لَمْ يُحَلِّلْهُ؛ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَجْهُ الْأَوَّلِ أَلَّا يُحَلِّلَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، فَيَكُونَ كَالتَّبْدِيلِ لِحُكْمِ اللَّهِ. وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ حَقُّهُ؛ فَلَهُ أَنْ يُسْقِطَهُ [كَمَا يُسْقِطُ دَمَهُ وَعَرْضَهُ]. وَوَجْهُ الثَّالِثِ الَّذِي اخْتَارَهُ مَالِكٌ هُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا غُلِبَ عَلَى حَقِّك فَمِنْ الرِّفْقِ بِهِ أَنْ تُحَلِّلَهُ، وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا فَمِنْ الْحَقِّ أَلَّا تَتْرُكَهُ لِئَلَّا يَغْتَرَّ الظَّلَمَةُ، وَيَسْتَرْسِلُوا فِي أَفْعَالِهِمْ الْقَبِيحَةِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ الصَّامِتِ قَالَ: خَرَجْت أَنَا وَأَبِي نَطْلُبُ الْعِلْمَ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنْ الْأَنْصَارِ قَبْلَ أَنْ يَهْلِكُوا، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ لَقِيَنَا أَبُو الْيُسْرِ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَهُ غُلَامٌ لَهُ مَعَهُ ضِمَامَةٌ مِنْ صُحُفٍ وَعَلَى أَبِي الْيُسْرِ بُرْدَةٌ وَمَعَافِرِيٌّ، وَعَلَى غُلَامِهِ بُرْدَةٌ وَمَعَافِرِيٌّ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: أَيْ عَمُّ؛ أَرَى فِي وَجْهِك سُفْعَةً مِنْ غَضَبٍ. فَقَالَ: أَجَلْ، كَانَ لِي عَلَى فُلَانٍ ابْنِ فُلَانٍ الْحَرَامِيِّ دَيْنٌ، فَأَتَيْت أَهْلَهُ

[الآية الثامنة قوله تعالى لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء]

فَسَلَّمْت، وَقُلْت: أَثَمَّ هُوَ؟ قَالُوا: لَا، فَخَرَجَ عَلَيَّ ابْنٌ لَهُ جَفْرٌ، قُلْت لَهُ: أَيْنَ أَبُوك، فَقَالَ: سَمِعَ صَوْتَك فَدَخَلَ أَرِيكَةَ أُمِّي، فَقُلْت: اُخْرُجْ إلَيَّ، فَقَدْ عَلِمْت أَيْنَ أَنْتَ، فَخَرَجَ، فَقُلْت لَهُ: مَا حَمَلَك عَلَى أَنْ اخْتَبَأْت مِنِّي؟ قَالَ: أَنَا وَاَللَّهِ أُحَدِّثُك، ثُمَّ لَا أَكْذِبُك، خَشِيت وَاَللَّهِ أَنْ أُحَدِّثَك فَأَكْذِبَك، وَأَعِدُك فَأُخْلِفُك، وَأَنْتَ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكُنْت وَاَللَّهِ مُعْسِرًا. قَالَ: فَقُلْت: آللَّهُ، قَالَ: آللَّهُ. قُلْت: آللَّهُ، قَالَ: آللَّهُ، قَالَ: فَقُلْت: آللَّهُ، قَالَ: آللَّهُ. قَالَ: فَأَتَى بِصَحِيفَتِهِ فَمَحَاهَا بِيَدِهِ. قَالَ: إنْ وَجَدْت قَضَاءً فَاقْضِ، وَإِلَّا فَأَنْتَ فِي حِلٍّ. . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَهَذَا فِي الْحَيِّ الَّذِي يُرْجَى لَهُ الْأَدَاءُ لِسَلَامَةِ الذِّمَّةِ، وَرَجَاءِ التَّحَلُّلِ، فَكَيْفَ بِالْمَيِّتِ الَّذِي لَا مَحَالَةَ مَعَهُ، وَلَا ذِمَّةَ مَعَهُ، [الْآيَة الثَّامِنَة قَوْله تَعَالَى لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ] الْآيَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49] {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 50]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْمُرَادِ بِالْآيَةِ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: قَوْلُهُ {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا} [الشورى: 49] يَعْنِي لُوطًا كَانَ لَهُ بَنَاتٌ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ابْنٌ وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ إبْرَاهِيمُ كَانَ لَهُ بَنُونَ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ بِنْتٌ. وَقَوْلُهُ: {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} [الشورى: 50] يَعْنِي آدَمَ، كَانَتْ حَوَّاءُ تَلِدُ لَهُ فِي كُلِّ بَطْنٍ وَلَدَيْنِ تَوْأَمَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى؛ فَيُزَوِّجُ الذَّكَرَ مِنْ هَذَا الْبَطْنِ مِنْ الْأُنْثَى مِنْ هَذَا الْبَطْنِ الْآخَرِ، حَتَّى أَحْكَمَ اللَّهُ التَّحْرِيمَ فِي شَرْعِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَكَذَلِكَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَهُ ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ، مِنْ الْأَوْلَادِ: الْقَاسِمُ، وَالطَّيِّبِ،

وَالطَّاهِرِ، وَعَبْدِ اللَّهِ؛ وَزَيْنَبَ، وَأُمُّ كُلْثُومٍ، وَرُقَيَّةُ، وَفَاطِمَةَ؛ وَكُلُّهُمْ مِنْ خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَإِبْرَاهِيمَ وَهُوَ مِنْ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ. وَكَذَلِكَ قَسَّمَ اللَّهُ الْخَلْقَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إلَى زَمَانِنَا إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْمَحْدُودِ بِحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ وَمَشِيئَتِهِ النَّافِذَةِ، لِيَبْقَى النَّسْلُ، وَيَتَمَادَى الْخَلْقُ، وَيَنْفُذُ الْوَعْدُ، وَيَحِقُّ الْأَمْرُ، وَتَعْمُرُ الدُّنْيَا، وَتَأْخُذُ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَا يَمْلَأُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَيَبْقَى؛ فَفِي الْحَدِيثِ: «إنَّ النَّارَ لَنْ تَمْتَلِئَ حَتَّى يَضَعَ الْجَبَّارُ فِيهَا قَدَمَهُ، فَتَقُولَ قَطُّ قَطُّ وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَتَبْقَى فَيُنْشِئُ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا آخَرَ». الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إنَّ اللَّهَ لِعُمُومِ قُدْرَتِهِ وَشَدِيدِ قُوَّتِهِ يَخْلُقُ الْخَلْقَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ، وَبِعَظِيمِ لُطْفِهِ وَبَالِغِ حِكْمَتِهِ يَخْلُقُ شَيْئًا مِنْ شَيْءٍ لَا عَنْ حَاجَةٍ، فَإِنَّهُ قُدُّوسٌ عَنْ الْحَاجَاتِ، سَلَامٌ عَنْ الْآفَاتِ، كَمَا قَالَ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ، فَخَلَقَ آدَمَ مِنْ الْأَرْضِ، وَخَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ آدَمَ، وَخَلَقَ النَّشْأَةِ مِنْ بَيْنَهُمَا مِنْهُمَا، مُرَتَّبًا عَنْ الْوَطْءِ كَائِنًا عَنْ الْحَمْلِ، مَوْجُودًا فِي الْجَنِينِ بِالْوَضْعِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ أَذْكَرَا، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ أَنَّثَا». وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا «إذَا عَلَا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ أَشْبَهَ الْوَلَدُ أَعْمَامَهُ، وَإِذَا عَلَا مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ أَشْبَهَ الْوَلَدُ أَخْوَالَهُ». وَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَ ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ بِمَا لُبَابُهُ أَنَّهَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: ذَكَرٌ يُشْبِهُ أَعْمَامَهُ. أُنْثَى تُشْبِهُ أَخْوَالَهَا. ذَكَرٌ يُشْبِهُ أَخْوَالَهُ. أُنْثَى تُشْبِهُ أَعْمَامَهَا. وَذَلِكَ فِي الْجَمِيعِ بَيِّنٌ ظَاهِرُ التَّعَالُجِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سَبَقَ: خَرَجَ مِنْ قَبْلُ، وَمَعْنَى عَلَا كَثُرَ، فَإِذَا خَرَجَ مَاءُ الرَّجُلِ مِنْ قَبْلُ وَخَرَجَ مَاءُ الْمَرْأَةِ بَعْدَهُ وَكَانَ أَقَلَّ مِنْهُ كَانَ

[مسألة رجل له ذكر وفرج كيف تكون حالته في الميراث]

الْوَلَدُ ذَكَرًا بِحُكْمِ سَبْقِ مَاءِ الرَّجُلِ، وَيُشْبِهُ أَعْمَامَهُ بِحُكْمِ كَثْرَةِ مَائِهِ أَيْضًا وَإِنْ خَرَجَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مِنْ قَبْلُ وَخَرَجَ مَاءُ الرَّجُلِ بَعْدَهُ وَكَانَ أَقَلَّ مِنْ مَائِهَا كَانَ الْوَلَدُ أُنْثَى بِحُكْمِ سَبْقِ مَاءِ الْمَرْأَةِ، وَيُشْبِهُ أَحْوَالَهَا لِأَنَّ مَاءَهَا عَلَا مَاءَ الرَّجُلِ وَكَاثَرَهُ. وَإِنْ خَرَجَ مَاءُ الرَّجُلِ مِنْ قَبْلُ لَكِنْ لَمَّا خَرَجَ مَاءُ الْمَرْأَةِ كَانَ أَكْثَرَ جَاءَ الْوَلَدُ ذَكَرًا بِحُكْمِ سَبْقِ مَاءِ الرَّجُلِ وَأَشْبَهَ أُمَّهُ وَأَخْوَالَهُ بِحُكْمِ عُلُوِّ مَاءِ الْمَرْأَةِ وَكَثْرَتِهِ. وَإِنْ خَرَجَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مِنْ قَبْلُ لَكِنْ لَمَّا خَرَجَ مَاءُ الرَّجُلِ مِنْ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ أَكْثَرَ وَأَعْلَى كَانَ الْوَلَدُ أُنْثَى بِحُكْمِ سَبْقِ مَاءِ الْمَرْأَةِ، وَيُشْبِهُ أَبَاهُ وَأَعْمَامَهُ بِحُكْمِ غَلَبَةِ مَاءِ الذَّكَرِ وَعُلُوِّهِ وَكَثْرَتِهِ عَلَى مَاءِ الْمَرْأَةِ. فَسُبْحَانَ الْخَلَّاقِ الْعَظِيمِ. [مَسْأَلَة رَجُلٌ لَهُ ذَكَرٌ وَفَرْجٌ كَيْفَ تَكُونُ حَالَتُهُ فِي الْمِيرَاثِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَدْ كَانَتْ الْخِلْقَةُ مُسْتَمِرَّةً ذَكَرًا وَأُنْثَى إلَى أَنْ وَقَعَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى الْخُنْثَى، فَأَتَى بِهِ فَرِيضُ الْعَرَبِ وَمُعَمِّرُهَا عَامِرُ بْنُ الظَّرِبِ، فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ فِيهِ، وَأَرْجَأَهُمْ عَنْهُ، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ تَنَكَّرَ مَوْضِعَهُ، وَأَقَضَّ عَلَيْهِ مَضْجَعَهُ، وَجَعَلَ يَتَقَلَّى وَيَتَقَلَّبُ. وَتَجِيءُ بِهِ الْأَفْكَارُ وَتَذْهَبُ إلَى أَنْ أَنْكَرَتْ الْأَمَةُ حَالَتَهُ، فَقَالَتْ: مَا بِك؟ قَالَ لَهَا: سَهِرْت لِأَمْرٍ قُصِدْت فِيهِ فَلَمْ أَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهِ. فَقَالَتْ لَهُ: مَا هُوَ؟ قَالَ لَهَا: رَجُلٌ لَهُ ذَكَرٌ وَفَرْجٌ، كَيْفَ تَكُونُ حَالَتُهُ فِي الْمِيرَاثِ؟ قَالَتْ لَهُ الْأَمَةُ: وَرِّثْهُ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ، فَعَقَلَهَا، وَأَصْبَحَ، فَعَرَضَهَا لَهُمْ وَأَمْضَاهَا عَلَيْهِمْ، فَانْقَلَبُوا بِهَا رَاضِينَ. وَجَاءَ الْإِسْلَامُ عَلَى ذَلِكَ فَلَمْ تَنْزِلْ إلَّا فِي عَهْدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَضَى فِيهَا بِمَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ رَوَى الْفَرْضِيُّونَ عَنْ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَوْلُودٍ لَهُ قُبُلٌ وَذَكَرٌ مِنْ أَيْنَ يُوَرَّثُ؟ قَالَ: مِنْ حَيْثُ يَبُولُ». وَرُوِيَ أَنَّهُ أَتَى بِخُنْثَى مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: «وَرِّثُوهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَبُولُ».

قَالَ الْقَاضِي: قَالَ لَنَا شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّقَّاقُ فَرَضِيُّ الْإِسْلَامِ: إنْ بَالَ مِنْهُمَا جَمِيعًا وَرِثَ بِاَلَّذِي يَسْبِقُ مِنْهُ الْبَوْلُ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ عَلِيٍّ، وَنَحْوَهُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَحَكَاهُ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا دَلَالَةَ فِي الْبَوْلِ، فَإِنْ خَرَجَ الْبَوْلُ مِنْهُمَا جَمِيعًا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُحْكَمُ بِالْأَكْثَرِ. وَأَنْكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ: أَيَكِيلُهُ، وَلَمْ يَجْعَلْ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ لِلْكَثْرَةِ حُكْمًا. وَحُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ: تُعَدُّ أَضْلَاعُهُ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَزِيدُ عَلَى الرَّجُلِ بِضِلْعٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا لَمَا أَشْكَلَ حَالُهُ. انْتَهَى كَلَامُ شَيْخِنَا أَبِي عَبْدِ اللَّهِ. وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي: لَا أَحْفَظُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْخُنْثَى شَيْئًا. وَحَكَى عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَهُ ذَكَرًا، وَحَكَى عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ نِصْفَ مِيرَاثِ ذَكَرٍ وَنِصْفَ مِيرَاثِ أُنْثَى، وَلَيْسَ بِثَابِتٍ عَنْهُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّقَّاقُ: وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى حَالِهِ: الْحَيْضُ، وَالْحَبَلُ، وَإِنْزَالُ الْمَنِيِّ مِنْ الذَّكَرِ، وَاللِّحْيَةُ، وَالثَّدْيَانِ؛ وَلَا يُقْطَعُ بِذَلِكَ. وَقَدْ قِيلَ: إذَا بَلَغَ زَالَ الْإِشْكَالُ. قَالَ الْقَاضِي: وَرُوِيَ عَنْ عُلَمَائِنَا فِيهِ قَالَ مُطَرِّفٌ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ نَافِعٍ، وَأَصْبَغُ: يُعْتَبَرُ مَبَالُهُ. فَإِنْ بَالَ مِنْهُمَا فَالْأَسْبَقُ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْهُمَا فَالْأَكْثَرُ، وَلَوْلَا مَا قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا لَقُلْت: إنَّهُ إنْ بَالَ مِنْ ثُقْبٍ إنَّهُ يُعْتَبَرُ بِهِ هُوَ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يُخْرِجُ مِنْ الْمَبَالِ بِحَالٍ، وَإِنَّمَا ثُقْبُ الْبَوْلِ غَيْرُ مَخْرَجِ الْوَلَدِ. وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ فِي الْأُنْثَى، وَقَالُوا عَلَى مَخْرَجِ الْبَوْلِ يَنْبَنِي نِكَاحُهُ وَمِيرَاثُهُ وَشَهَادَتُهُ وَإِحْرَامُهُ فِي حَجِّهِ، وَجَمِيعِ أَمْرِهِ. وَإِنْ كَانَ لَهُ ثَدْيٌ وَلِحْيَةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَرِثَ نِصْفَ مِيرَاثِ رَجُلٍ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ نِكَاحٌ، وَيَكُونُ أَمْرُهُ فِي شَهَادَتِهِ وَصَلَاتِهِ وَإِحْرَامِهِ عَلَى أَحْوَطِ الْأَمْرَيْنِ. وَاَلَّذِي نَقُولُ: إنَّهُ يُسْتَدَلُّ فِيهِ بِالْحَبَلِ وَالْحَيْضِ. حَالَةٌ ثَالِثَةٌ كَحَالَةٍ أُولَى لَا بُدَّ مِنْهَا، وَهِيَ أَنَّهُ إذَا أَشْكَلَ أَمْرُهُ فَطَلَب النِّكَاحَ مِنْ

ذَكَرِهِ، وَطَلَبَ النِّكَاحَ مِنْ فَرْجِهِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ عُلَمَاؤُنَا، وَهُوَ مِنْ النَّوْعِ الَّذِي يُقَالُ فِيهِ دَعْهُ حَتَّى يَقَعَ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْإِشْكَالَاتِ فِي الْأَحْكَامِ وَالتَّعَارُضِ فِي الْإِلْزَامِ وَالِالْتِزَامِ أَنْكَرَهُ قَوْمٌ مِنْ رُءُوسِ الْعَوَامّ، فَقَالُوا: إنَّهُ لَا خُنْثَى؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَسَّمَ الْخَلْقَ إلَى ذَكَرٍ وَأُنْثَى. قُلْنَا: هَذَا جَهْلٌ بِاللُّغَةِ وَغَبَاوَةٌ عَنْ مَقْطَعِ الْفَصَاحَةِ، وَقُصُورٌ عَنْ مَعْرِفَةِ سَعَةِ الْقُدْرَةِ؛ أَمَّا قُدْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ. وَأَمَّا ظَاهِرُ الْقُرْآنِ فَلَا يَنْفِي وُجُودَ الْخُنْثَى؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 49]، فَهَذَا عُمُومٌ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ تَقْتَضِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49] {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 50] فَهَذَا إخْبَارٌ عَنْ الْغَالِبِ فِي الْمَوْجُودَاتِ، وَسَكَتَ عَنْ ذِكْرِ النَّادِرِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ عُمُومِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ؛ وَالْوُجُودُ يَشْهَدُ لَهُ، وَالْعِيَانُ يُكَذِّبُ مُنْكِرَهُ. وَقَدْ كَانَ يَقْرَأُ مَعَنَا بِرِبَاطِ أَبِي سَعِيدٍ عَلِيٍّ الْإِمَامِ الشَّهِيدِ مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ خُنْثَى [لَيْسَ] لَهُ لِحْيَةٌ، وَلَهُ ثَدْيَانِ، وَعِنْدَهُ جَارِيَةٌ، فَرَبُّك أَعْلَمُ بِهِ، وَمَعَ طُولِ الصُّحْبَةِ عَقَلَنِي الْحَيَاءُ عَنْ سُؤَالِهِ، وَبِوُدِّيِّ الْيَوْمَ لَوْ كَاشَفْته عَنْ حَالِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي تَوْرِيثِهِ، وَهُوَ مَذْكُورٌ عَلَى التَّمَامِ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ.

[سورة الزخرف فيها ست آيات]

[سُورَة الزُّخْرُف فِيهَا سِتُّ آيَاتٍ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا] قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف: 12] {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف: 12] يَعْنِي بِذَلِكَ الْإِبِلَ دُونَ الْبَقَرِ؛ لِأَنَّ الْبَقَرَ لَمْ تُخْلَقْ لِتُرْكَبَ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ رَاكِبٌ بَقَرَةً إذْ قَالَتْ لَهُ: إنِّي لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا، وَإِنَّمَا خُلِقْت لِلْحَرْثِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: آمَنْت بِذَلِكَ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَمَا هُمَا فِي الْقَوْمِ». الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف: 13] يَعْنِي الْإِبِلَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْفُلْكَ إنَّمَا تُرْكَبُ بُطُونُهَا، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَهُمَا جَمِيعًا فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، وَعَطَفَ أَحَدَهُمَا عَلَى آخِرِهِمَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْعَلَ ظَاهِرُهَا بَاطِنَهَا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ غَمَرَهُ وَسَتَرَهُ، وَبَاطِنُهَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ انْكَشَفَ لِلرَّاكِبِينَ وَظَهَرَ لِلْمُبْصِرِينَ.

[مسألة ما نقول إذا ركبنا الدواب]

[مَسْأَلَة مَا نَقُولُ إذَا رَكِبْنَا الدَّوَابَّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ: {وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13] أَيْ مُطِيقِينَ، تَقُولُ: قَرَنْت كَذَا وَكَذَا إذَا رَبَطْته بِهِ، وَجَعَلْته قَرِينَهُ، وَأَقْرَنْت كَذَا بِكَذَا إذَا أَطَقْته وَحَكَمْته، كَأَنَّهُ جَعَلَهُ فِي قَرَنٍ وَهُوَ الْحَبْلُ، فَأَوْثَقَهُ بِهِ، وَشَدَّهُ فِيهِ؛ فَعَلَّمَنَا اللَّهُ تَعَالَى مَا نَقُولُ إذَا رَكِبْنَا الدَّوَابَّ، وَعَلَّمَنَا اللَّهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى عَلَى لِسَانِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا نَقُولُ إذَا رَكِبْنَا السُّفُنَ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [هود: 41]. وَرُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا رَكِبَ قَعُودًا لَهُ وَقَالَ: إنِّي لَمُقْرِنٌ لَهُ، فَرَكَضَتْ بِهِ الْقَعُودُ حَتَّى صَرَعَتْهُ، فَانْدَقَّتْ عُنُقُهُ. وَمَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَدَعَ قَوْلَ هَذَا، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ ذِكْرُهُ بِاللِّسَانِ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ اعْتِقَادُهُ بِالْقَلْبِ، أَمَّا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ ذِكْرُهُ بِاللِّسَانِ فَيَقُولُ مَتَى رَكِبَ وَخَاصَّةً بِاللِّسَانِ إذَا تَذَكَّرَ فِي السَّفَرِ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13] {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 14] «اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ، وَالْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ، وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ» يَعْنِي بِالْحَوْرِ وَالْكَوْرِ تَشَتُّتَ أَمْرِ الرَّجُلِ بَعْدَ اجْتِمَاعِهِ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: رَكِبْت مَعَ أَبِي جَعْفَرٍ إلَى أَرْضٍ لَهُ نَحْوُ حَائِطٍ يُقَالُ لَهَا مَدْرَكَةٌ، فَرَكِبَ عَلَى جَمَلٍ صَعْبٍ، فَقُلْت لَهُ: أَبَا جَعْفَرٍ، أَمَا تَخَافُ أَنْ يَصْرَعَك. فَقَالَ: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: عَلَى سَنَامِ كُلِّ بَعِيرٍ شَيْطَانٌ، فَإِذَا رَكِبْتُمُوهَا فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ كَمَا أَمَرَكُمْ، ثُمَّ امْتَهِنُوهَا لِأَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّمَا يَحْمِلُ اللَّهُ». وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ رَبِيعَةَ: «شَهِدْت عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَكِبَ دَابَّةً يَوْمًا، فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى الدَّابَّةِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وَإِنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ. ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا، اللَّهُمَّ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ ظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ

[الآية الثانية قوله تعالى وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون]

إلَّا أَنْتَ، ثُمَّ ضَحِكَ فَقُلْت لَهُ: مَا أَضْحَكَك؟ قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَنَعَ كَمَا صَنَعْت، وَقَالَ كَمَا قُلْت، ثُمَّ ضَحِكَ، فَقُلْت لَهُ: مَا يُضْحِكُك يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِعَبْدٍ أَوْ قَالَ: عَجَبًا لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ ظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرُهُ». [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ] َ} [الزخرف: 28]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي شَرْحِ الْكَلِمَةِ؛ وَهِيَ النُّبُوَّةُ فِي قَوْلٍ، وَالتَّوْحِيدُ فِي قَوْلٍ آخَرَ؛ وَلَا جَرَمَ لَمْ تَزَلْ النُّبُوَّةُ بَاقِيَةً فِي ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَالتَّوْحِيدُ هُمْ أَصْلُهُ، وَغَيْرُهُمْ فِيهِ تَبَعٌ لَهُمْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: {فِي عَقِبِهِ} [الزخرف: 28]: بِنَاءُ ع ق ب لِمَا يَخْلُفُ الشَّيْءَ، وَيَأْتِي بَعْدَهُ، يُقَالُ: عَقَبَ يَعْقُبُ عُقُوبًا وَعَقِبًا إذَا جَاءَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَلِهَذَا قِيلَ لِوَلَدِ الرَّجُلِ مِنْ بَعْدِهِ عَقِبُهُ. وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ أَنَّهُ سَافَرَ فِي عَقِبِ رَمَضَانَ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ عَلَى مَوَارِدِ كَثِيرَةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ إنَّمَا كَانَتْ لِإِبْرَاهِيمَ فِي الْأَعْقَابِ مَوْصُولَةً بِالْأَحْقَابِ بِدَعْوَتَيْهِ الْمُجَابَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا بِقَوْلِهِ: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] فَقَدْ قَالَ لَهُ: نَعَمْ، إلَّا مَنْ ظَلَمَ مِنْهُمْ، فَلَا عَهْدَ لَهُ. ثَانِيهِمَا قَوْلُهُ: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].

[مسألة عقود العمرى أو التحبيس]

وَقِيلَ بَدَلُ الْأُولَى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء: 84] فَكُلُّ أُمَّةٍ تُعَظِّمُهُ؛ بَنُوهُ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَجْتَمِعُ مَعَهُ فِي سَامٍ أَوْ فِي نُوحٍ. [مَسْأَلَة عُقُودُ الْعُمْرَى أَوْ التَّحْبِيسِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ جَرَى ذِكْرُ الْعَقِبِ هَاهُنَا مَوْصُولًا فِي الْمَعْنَى بِالْحُقْبِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي الْأَحْكَامِ، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ عُقُودُ الْعُمْرَى أَوْ التَّحْبِيسِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْمَرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ فَإِنَّهَا لِلَّذِي أُعْطِيهَا لَا تَرْجِعُ إلَى الَّذِي أَعْطَاهَا»؛ لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ. وَهِيَ تَرِدُ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ لَفْظًا قَوْلُهُ: اللَّفْظُ الْأَوَّلُ الْوَلَدُ، وَهُوَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عِبَارَةٌ عَمَّنْ وُجِدَ عَنْ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ مِنْ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، وَعَنْ وَلَدِ الذُّكُورِ دُونَ وَلَدِ الْإِنَاثِ لُغَةً وَشَرْعًا؛ وَلِذَلِكَ وَقَعَ الْمِيرَاثُ عَلَى الْوَلَدِ الْمُعَيَّنِ وَأَوْلَادِ الذُّكُورِ مِنْ الْمُعَيَّنِ دُونَ وَلَدِ الْبَنَاتِ، لِأَنَّهُ مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْحَبْسِ بِهَذَا اللَّفْظِ؛ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمَجْمُوعَةِ وَغَيْرِهَا. اللَّفْظُ الثَّانِي الْبَنُونَ فَإِنْ قَالَ: هَذَا حَبْسٌ عَلَى ابْنِي فَلَا يَتَعَدَّى الْوَلَدَ الْمُعَيَّنَ وَلَا يَتَعَدَّدُ. وَلَوْ قَالَ: وَلَدِي لَتَعَدَّى وَتَعَدَّدَ فِي كُلِّ مَنْ وُلِدَ. وَإِنْ قَالَ: عَلَى بَنِيَّ دَخَلَ فِيهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ. قَالَ مَالِكٌ: مَنْ تَصَدَّقَ عَلَى بَنِيهِ وَبَنِي بَنِيهِ فَإِنَّ بَنَاتَه وَبَنَاتَ بَنَاتِهِ يَدْخُلْنَ فِي ذَلِكَ. وَرَوَى عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيمَنْ حَبَسَ عَلَى بَنَاتِهِ فَإِنَّ بِنْتَ بِنْتِهِ تَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَعَ بَنَاتِ صُلْبِهِ. وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جَمَاعَةُ أَصْحَابِهِ أَنَّ وَلَدَ الْبِنْتِ لَا يَدْخُلُونَ فِي الْبَنِينَ.

فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَسَنِ بْنِ بِنْتِهِ: إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ». قُلْنَا: هَذَا مَجَازٌ، وَإِنَّمَا أَشَارَ بِهِ إلَى تَشْرِيفِهِ وَتَقْدِيمِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ نَفْيُهُ عَنْهُ، فَيَقُولُ الرَّجُلُ فِي وَلَدِ بِنْتِهِ: لَيْسَ بِابْنِي، وَلَوْ كَانَ حَقِيقَةً مَا جَازَ نَفْيُهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْحَقَائِقَ لَا تُنْفَى عَنْ مُسَمَّيَاتِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُنْسَبُ إلَى أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: إنَّهُ هَاشِمِيٌّ؛ وَلَيْسَ بِهِلَالِيٍّ، وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ هِلَالِيَّةً. اللَّفْظُ الثَّالِثُ الذُّرِّيَّةُ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ ذَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ، فِي الْأَشْهَرِ، فَكَأَنَّهُمْ وُجِدُوا عَنْهُ وَنُسِبُوا إلَيْهِ. وَيَدْخُلُ فِيهِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا وَلَدُ الْبَنَاتِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام: 84]. إلَى أَنْ قَالَ: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى} [الأنعام: 85] فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَا أَبَ لَهُ. اللَّفْظُ الرَّابِعُ الْعَقِبُ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ شَيْءٍ جَاءَ بَعْدَ شَيْءٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِ، يُقَالُ أَعْقَبَ اللَّهُ بِخَيْرٍ، أَيْ جَاءَ بَعْدَ الشِّدَّةِ بِالرَّخَاءِ. وَأَعْقَبَ الشِّيبُ السَّوَادَ. وَالْمِعْقَابُ مِنْ النِّسَاءِ الَّتِي تَلِدُ ذَكَرًا بَعْدَ أُنْثَى هَكَذَا أَبَدًا. وَعَقِبُ الرَّجُلِ وَلَدُهُ وَوَلَدُ وَلَدِهِ الْبَاقُونَ بَعْدَهُ. وَالْعَاقِبَةُ: الْوَلَدُ قَالَ يَعْقُوبُ: وَفِي الْقُرْآنِ: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف: 28]. وَقِيلَ: بَلْ الْوَرَثَةُ كُلُّهُمْ عَقِبُ. وَالْعَاقِبَةُ: الْوَلَدُ، كَذَلِكَ فَسَّرَهُ مُجَاهِدٌ هَاهُنَا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ هَاهُنَا: هُمْ الذُّرِّيَّةُ. وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: هُمْ الْوَلَدُ وَوَلَدُ الْوَلَدِ.

وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ الْفِقْهِ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَجْمُوعَةِ: الْعَقِبُ الْوَلَدُ ذَكَرًا كَانَ أَمْ أُنْثَى. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَلَيْسَ وَلَدُ الْبَنَاتِ عَقِبًا بِحَالٍ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ حَبَسَ عَلَى عَقِبِهِ وَلِعَقِبِهِ وَلَدٌ فَإِنَّهُ يُسَاوِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ آبَائِهِمْ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى سَوَاءٌ، وَيُفَضَّلُ ذُو الْعِيَالِ، وَهَذَا مِنْ قَوْلِ ابْنِ شِهَابٍ إنَّهُ الْوَلَدُ وَوَلَدُ الْوَلَدِ، وَلَيْسَ وَلَدُ الِابْنَةِ عَقِبًا وَلَا ابْنَةُ الِابْنَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْكَلِمَةِ التَّوْحِيدَ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْإِمَامَةَ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ إلَّا الذَّكَرُ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ الْأُنْثَى لَيْسَتْ بِإِمَامٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ وَأَوْضَحْنَاهُ؛ وَإِنَّمَا لَا يَكُونُ وَلَدُ الْبَنَاتِ عَقِبًا وَلَا وَلَدًا إذَا كَانَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: عَلَى وَلَدِي أَوْ عَقِبِي مُفْرَدًا، وَأَمَّا إذَا تَكَرَّرَ فَقَالَ: عَلَى وَلَدِي وَوَلَدِ وَلَدِي، وَعَلَى عَقِبِي وَعَقِبِ عَقِبِي، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ وَلَدُ الْبَنَاتِ فِيهِ حَسْبَمَا يَذْكُرُ فِيهِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيمَا بَعْدَهُ مِثْلَ قَوْلِهِ: أَبَدًا، وَمِثْلَ قَوْلِهِ مَا تَنَاسَلُوا. اللَّفْظُ الْخَامِسُ نَسْلِي، وَهُوَ عِنْدَ عُلَمَائِنَا كَقَوْلِهِ: وَلَدُ وَلَدِي فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ وَلَدُ الْبَنَاتِ، وَيَجِبُ أَنْ يَدْخُلُوا؛ لِأَنَّ " نَسْلَ " بِمَعْنَى خَرَجَ، وَوَلَدُ الْبَنَاتِ قَدْ خَرَجُوا مِنْهُ بِوَجْهٍ، وَلَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ مَا يَخُصُّهُ، كَمَا اقْتَرَنَ بِقَوْلِهِ: عَقِبِي مَا تَنَاسَلُوا، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اللَّفْظُ السَّادِسُ الْآلُ، وَهُمْ الْأَهْلُ. وَهُوَ اللَّفْظُ السَّابِعُ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: هُمَا سَوَاءٌ، وَهُمْ الْعَصَبَةُ وَالْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ، وَالْبَنَاتُ وَالْعَمَّاتُ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْخَالَاتُ، وَأَصْلُ الْأَهْلِ الِاجْتِمَاعُ، يُقَالُ مَكَانٌ آهِلٌ إذَا كَانَ فِيهِ جَمَاعَةٌ، وَذَلِكَ بِالْعَصَبَةِ، وَمَنْ دَخَلَ فِي الْعَقْدِ؛ وَالْعَصَبَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْهُ، وَهِيَ أَخَصُّ بِهِ. وَفِي حَدِيثِ الْإِفْكِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَهْلُك وَلَا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا يَعْنِي عَائِشَةَ؛

وَلَكِنْ لَا تَدْخُلُ الزَّوْجَةُ فِيهِ بِإِجْمَاعٍ، وَإِنْ كَانَتْ أَصْلَ التَّأَهُّلِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهَا لَيْسَ بِيَقِينٍ، وَقَدْ يَتَبَدَّلُ رَبْطُهَا وَيَنْحَلُّ بِالطَّلَاقِ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: آلُ مُحَمَّدٍ كُلُّ تَقِيٍّ، وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الْإِيمَانَ أَخَصُّ مِنْ الْقَرَابَةِ، وَقَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الدَّعْوَةُ وَقُصِدَ بِالرَّحْمَةِ. وَقَدْ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ التُّونُسِيُّ: يَدْخُلُ فِي الْأَهْلِ مَنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْأَبَوَيْنِ فَوَفَّى الِاشْتِقَاقَ حَقَّهُ، وَغَفَلَ عَنْ الْعُرْفِ وَمُطْلَقِ الِاسْتِعْمَالِ. وَهَذِهِ الْمَعَانِي إنَّمَا تُبْنَى عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْ الْعُرْفِ الْمُسْتَعْمَلِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، فَهَذَانِ لَفْظَانِ. اللَّفْظُ الثَّامِنُ الْقَرَابَةُ، وَفِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ، وَابْنِ عَبْدُوسٍ: إنَّهُمْ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ بِالِاجْتِهَادِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ وَلَدُ الْبَنَاتِ، وَلَا وَلَدُ الْخَالَاتِ. الثَّانِي يَدْخُلُ فِيهِ أَقَارِبُهُ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ؛ قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ. الثَّالِثُ: قَالَ أَشْهَبُ: يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ ذِي رَحِمٍ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. الرَّابِعُ قَالَ ابْنُ كِنَانَةٍ: يَدْخُلُ فِيهِ الْأَعْمَامُ وَالْعَمَّاتُ وَالْأَخَوَاتُ وَالْخَالَاتُ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] قَالَ: إلَّا أَنْ تَصِلُوا قَرَابَةَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَقَالَ: لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ إلَّا كَانَتْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَابَةٌ، فَهَذَا يَضْبِطُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اللَّفْظُ التَّاسِعُ: الْعَشِيرَةُ، وَيَضْبِطُهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] دَعَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُطُونَ قُرَيْشٍ وَسَمَّاهُمْ» كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهُمْ الْعَشِيرَةُ

[الآية الثالثة قوله تعالى ولولا أن يكون الناس أمة واحدة]

الْأَقْرَبُونَ؛ وَسِوَاهُمْ عَشِيرَةٌ فِي الْإِطْلَاقِ، وَاللَّفْظُ يُحْمَلُ عَلَى الْأَخَصِّ الْأَقْرَبِ بِالِاجْتِهَادِ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ عُلَمَائِنَا. اللَّفْظُ الْعَاشِرُ الْقَوْمُ [قَالَ الْقَرَوِيُّونَ]: يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى الرِّجَالِ خَاصَّةً مِنْ الْعَصَبَةِ دُونَ النِّسَاءِ. وَالْقَوْمُ يَشْتَمِلُ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَ الشَّاعِرُ قَدْ قَالَ: وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ أَخَالُ أَدْرِي ... أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا دَعَا قَوْمَهُ لِلنُّصْرَةِ عَنَى الرِّجَالَ، وَإِذَا دَعَاهُمْ لِلْحُرْمَةِ دَخَلَ فِيهِمْ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، فَتَعُمُّهُ الصِّفَةُ وَتَخُصُّهُ الْقَرِينَةُ. اللَّفْظُ الْحَادِيَ عَشَرَ الْمَوَالِي: قَالَ مَالِكٌ: يَدْخُلُ فِيهِ مَوَالِي أَبِيهِ وَابْنِهِ مَعَ مَوَالِيهِ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: يَدْخُلُ فِيهِ أَوْلَادُ مَوَالِيهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَاَلَّذِي يَتَحَصَّلُ فِيهِ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يَرِثُهُ بِالْوَلَاءِ؛ وَهَذِهِ فُصُولُ الْكَلَامِ وَأُصُولُهُ مُرْتَبِطَةٌ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ؛ وَالسُّنَّةُ الْمُبَيِّنَةُ لَهُ وَالتَّفْرِيعُ وَالتَّتْمِيمُ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أَمَةً وَاحِدَةً] ً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الدُّنْيَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْهَوَانِ بِحَيْثُ كَانَ يَجْعَلُ بُيُوتَ الْكُفَّارِ وَدُرَجِهَا وَأَبْوَابِهَا ذَهَبًا وَفِضَّةً، لَوْلَا غَلَبَةُ حُبِّ الدُّنْيَا عَلَى الْقُلُوبِ، فَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى الْكُفْرِ. وَالْقَدَرُ

[مسألة باع من رجل دارا فبناها فوجد فيها جرة من ذهب]

الَّذِي [جُعِلَ] عِنْدَ الْكُفَّارِ مِنْ الدُّنْيَا وَعِنْدَ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْأَغْنِيَاءِ إنَّمَا هُوَ فِتْنَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20]. [مَسْأَلَة بَاعَ مِنْ رَجُلٍ دَارًا فَبَنَاهَا فَوَجَدَ فِيهَا جَرَّةً مِنْ ذَهَبٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّقْفَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَيْتَ عِبَارَةٌ عَنْ قَاعَةٍ وَجِدَارٍ وَسَقْفٍ وَبَابٍ، فَمَنْ لَهُ الْبَيْتُ فَلَهُ أَرْكَانُهُ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْعُلُوَّ لَهُ إلَى السَّمَاءِ. وَاخْتَلَفُوا فِي السُّفْلِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ لَهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَيْسَ لَهُ فِي بَطْنِ الْأَرْضِ شَيْءٌ. وَفِي مَذْهَبِنَا الْقَوْلَانِ. وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ حَدِيثُ الْإِسْرَائِيلِيِّ الصَّحِيحُ فِيمَا تَقَدَّمَ: أَنَّ رَجُلًا بَاعَ مِنْ رَجُلٍ دَارًا فَبَنَاهَا فَوَجَدَ فِيهَا جَرَّةً مِنْ ذَهَبٍ، فَجَاءَ بِهَا إلَى الْبَائِعِ، فَقَالَ: إنَّمَا اشْتَرَيْت الدَّارَ دُونَ الْجَرَّةِ. وَقَالَ الْبَائِعُ: إنَّمَا بِعْت الدَّارَ بِمَا فِيهَا. وَكِلَاهُمَا تَدَافَعَا فَقَضَى بَيْنَهُمْ أَنْ يُزَوِّجَ أَحَدُهُمَا وَلَدَهُ مِنْ بِنْتِ الْآخَرِ، وَيَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْعُلُوَّ وَالسُّفْلَ لَهُ إلَّا أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ بِالْبَيْعِ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فَإِذَا بَاعَ أَحَدُهُمَا أَحَدَ الْمَوْضِعَيْنِ فَلَهُ مِنْهُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَبَاقِيهِ لِلْمُبْتَاعِ مِنْهُ. [الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَك وَلِقَوْمِكَ] َ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: 44]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي الذِّكْرِ؛ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهُمَا: الشَّرَفُ. الثَّانِي: الذِّكْرَى بِالْعَهْدِ الْمَأْخُوذِ فِي الدِّينِ. الثَّالِثُ: قَالَ مَالِكٌ: هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ. وَإِذَا قُلْنَا: إنَّهُ الشَّرَفُ وَالْفَضْلُ فَإِنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةً إنَّمَا هُوَ بِالدِّينِ، فَإِنَّ الدُّنْيَا لَا شَرَفَ فِيهَا. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَفَاخُرَهَا بِالْأَحْسَابِ، وَالنَّاسُ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ أَوْ كَافِرٌ شَقِيٌّ، كُلُّكُمْ لِآدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، وَإِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ». وَقِيلَ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَك وَلِقَوْمِك يَعْنِي الْخِلَافَةَ فَإِنَّهَا فِي قُرَيْشٍ لَا تَكُونُ فِي غَيْرِهِمْ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشَّأْنِ، مُسْلِمُهُمْ تَبَعٌ لِمُسْلِمِهِمْ، وَكَافِرُهُمْ تَبَعٌ لِكَافِرِهِمْ». وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ، وَلَمْ أَجِدْ فِي الْإِسْلَامِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ إلَّا بِبَغْدَادَ، فَإِنَّ بَنِي التَّمِيمِيِّ بِهَا يَقُولُونَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِذَلِكَ شَرُفَتْ أَقْدَارُهُمْ، وَعَظَّمَ النَّاسُ شَأْنَهُمْ وَتَهَمَّمَتْ الْخِلَافَةُ بِهِمْ. وَرَأَيْت بِمَدِينَةِ السَّلَامِ ابْنَيْ أَبِي مُحَمَّدٍ رِزْقَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنَ أَبِي الْفَرَحِ بْنَ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ الْجَرْدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ اللَّيْثِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَسَدِ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ أَكَيْنَة بْنِ

[الآية الخامسة قوله تعالى يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب]

عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيَّ وَكَانَا يَقُولَانِ: سَمِعْنَا أَبَانَا رِزْقَ اللَّهِ يَقُولُ: سَمِعْت أَبِي يَقُولُ: سَمِعْت أَبِي يَقُولُ: سَمِعْت عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الْحَنَّانِ الْمَنَّانِ، الْحَنَّانُ الَّذِي يُقْبِلُ عَلَى مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ. وَالْمَنَّانُ الَّذِي يَبْدَأُ بِالنَّوَالِ قَبْلَ السُّؤَالِ، وَالْقَائِلُ سَمِعْت عَلِيًّا أَكْيَنَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ جَدُّهُمْ الْأَعْلَى. وَالْأَقْوَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] يَعْنِي الْقُرْآنَ، فَعَلَيْهِ يَنْبَنِي الْكَلَامُ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي تَنْقِيحِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ. [الْآيَة الْخَامِسَة قَوْله تَعَالَى يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ] ٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف: 71]. وَفِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْجَنَّةُ مَخْصُوصَةٌ بِالْحَرِيرِ وَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ لُبْسًا وَأَكْلًا وَشُرْبًا وَانْتِفَاعًا، وَقَطَعَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا عَنْ الْخَلْقِ إجْمَاعًا عَلَى اخْتِلَافٍ فِي الْأَحْكَامِ، وَتَفْصِيلٍ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَأَمَّا الْحَرِيرُ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ». قَالَ الرَّاوِي: وَإِنْ لَبِسَهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ لَمْ يَلْبَسْهُ هُوَ، فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَأْوِيلِ الرَّاوِي. وَقَدْ بَيَّنَّا تَأْوِيلَ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ هَاهُنَا.

وَأَمْثَلُهَا تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ مَعْنَاهُ وَلَمْ يَتُبْ، كَمَا قَالَ: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ»، وَكَذَلِكَ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ فِي الْحَرِيرِ أَيْضًا بِنَصِّهِ. الثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي يُقْضَى [بِنَصِّهِ] عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّ مَعْنَاهُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، وَآخِرُ الْأَمْرِ إلَى حُسْنِ الْعَاقِبَةِ وَجَمِيلِ الْمَآلِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي لِبَاسِ الْحَرِيرِ عَلَى تِسْعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مُحَرَّمٌ بِكُلِّ حَالٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْحَرْبِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي السَّفَرِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْمَرَضِ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْغَزْوِ. السَّادِسُ: أَنَّهُ مُبَاحٌ بِكُلِّ حَالٍ. السَّابِعُ: أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا الْعَلَمَ. الثَّامِنُ: أَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. التَّاسِعُ: أَنَّهُ مُحَرَّمٌ لُبْسُهُ دُونَ فَرْشِهِ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ. فَأَمَّا كَوْنُهُ مُحَرَّمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحُلَّةِ السِّيَرَاءِ: «إنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ»، وَشَبَهُهُ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْحَرْبِ فَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي الْغَزْوِ بِهِ وَالصَّلَاةِ فِيهِ؛ وَأَنْكَرَهُ مَالِكٌ فِيهِمَا. وَوَجْهُهُ أَنَّ لِبَاسَ الْحَرِيرِ مِنْ السَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ يُبْغِضُهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا فِي الْحَرْبِ، فَرُخِّصَ فِيهِ مِنْ الْإِرْهَابِ عَلَى الْعَدُوِّ.

وَهَذَا تَعْلِيلُ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ الشَّرِيعَةَ، فَظَنَّ أَنَّ النَّصْرَ بِالدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ فَتَحَ اللَّهُ الْفُتُوحَ عَلَى قَوْمٍ مَا كَانَتْ حِلْيَةُ سُيُوفِهِمْ إلَّا الْعَلَابِيَّ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي السَّفَرِ فَلَمَّا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَخَّصَ لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي قُمُصِ الْحَرِيرِ فِي السَّفَرِ لِحَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا». وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَحْرُمُ إلَّا فِي الْمَرَضِ فَلِأَجْلِ إبَاحَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمَا اسْتِعْمَالَهُ عِنْدَ الْحَكَّةِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْغَزْوِ فَلِأَجْلِ مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ أَنَسٍ «إنَّهُ رَخَّصَ لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي قُمُصِ الْحَرِيرِ فِي غَزَاةٍ لَهُمَا»، فَذِكْرُ لَفْظِ الْغَزْوِ فِي الْعِلَّةِ، وَذِكْرُ الصِّفَةِ فِي الْحُكْمِ تَعْلِيلٌ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ وَهَا هُنَا كَمَا سَبَقَ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ مُبَاحٌ بِكُلِّ حَالٍ فَإِنَّهُ رَأَى الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ يُبِيحُهُ لِلْحَكَّةِ، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الصَّحِيحِ «لِأَجْلِ الْقَمْلِ»، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا أَبَاحَهُ لِلْحَكَّةِ وَلَا لِلْقَمْلِ، كَالْخَمْرِ وَالْبَوْلِ، فَإِنَّ التَّدَاوِي بِمَا حَرَّمَ اللَّهُ لَا يَجُوزُ. وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ ثَبَتَ يَقِينًا، وَالرُّخْصَةَ قَدْ وَرَدَتْ حَقًّا، وَلِلْبَارِئِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَضَعَ وَظَائِفَ التَّحْرِيمِ كَيْفَ شَاءَ مِنْ إطْلَاقٍ وَاسْتِثْنَاءٍ؛ وَإِنَّمَا أَذِنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ لَهُمَا لِأَجْلِ الْقَمْلِ وَالْحَكَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ خَمَائِصُ غَلِيظَةٌ لَا يَحْتَمِلُهَا الْبَدَنُ، فَنَقَلَهُمْ إلَى الْحَرِيرِ، لِعَدَمِ دَقِيقِ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ، وَإِذَا وَجَدَ صَاحِبُ الْجَرَبِ وَالْقَمْلِ دَقِيقَ الْكَتَّانِ وَالْقُطْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ لِينَ الْحَرِيرِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ مُحَرَّمٌ بِكُلِّ حَالٍ إلَّا الْعَلَمَ، فَلِمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ إبَاحَةِ الْعَلَمِ، وَتَقْدِيرُهُ بِأُصْبُعَيْنِ. وَفِي رِوَايَةٍ بِثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ؛ وَالْيَقِينُ ثَلَاثُ أَصَابِعَ، وَهُوَ الَّذِي

رَآهُ مَالِكٌ فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْهِ، وَالْأَرْبَعُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُكَفُّ الثَّوْبُ بِالْحَرِيرِ كَمَا يَجُوزُ إدْخَالُ الْعَلَمِ فِيهِ، لِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ لَهُ فَرْوَةٌ مَكْفُوفَةٌ بِالدِّيبَاجِ». وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ قَالَ: «أَخْرَجَتْ إلَيَّ أَسْمَاءَ طَيَالِسَةً كِسْرَوَانِيَّةً، لَهَا لِبْنَةُ دِيبَاجٍ، وَفَرْجَاهَا مَكْفُوفَانِ بِالدِّيبَاجِ، فَقَالَتْ: هَذِهِ كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ تَلْبَسُهَا حَتَّى قُبِضَتْ. وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْبَسُهَا، فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرْضَى لِيُسْتَشْفَى بِهَا». وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَأَصْلٌ صَرِيحٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَى النِّسَاءِ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ خَطَبَ فَقَالَ: أَلَا لَا تُلْبِسُوا نِسَاءَكُمْ الْحَرِيرَ؛ فَإِنِّي سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: سَمِعْت رَسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّهِ يَقُولُ: «لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ، فَإِنَّهُ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ». وَهَذَا ظَنٌّ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ يَدْفَعُهُ يَقِينُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ جَمَاعَةٍ، مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: «أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُلَّةٌ سِيَرَاءُ، فَبَعَثَ بِهَا إلَيَّ فَلَبِسْتهَا، فَعَرَفْت الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، وَقَالَ: إنِّي لَمْ أَبْعَثْ بِهَا إلَيْك لِتَلْبَسَهَا، إنَّمَا بَعَثْتهَا إلَيْك لِتَشُقَّهَا خُمُرًا بَيْنَ النِّسَاءِ». وَفِي رِوَايَةٍ «شَقَّقَهُ خُمُرًا بَيْنَ الْفَوَاطِمِ»، إحْدَاهُنَّ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَوَّجَ عَلِيَّ، وَالثَّانِيَةُ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدِ بْنُ هَاشِمٍ زَوْجُ أَبِي طَالِبٍ أُمُّ عَلِيٍّ وَجَعْفَرٍ وَعَقِيلٌ وَطَالِبُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَكَانَتْ أَسْلَمَتْ، وَهِيَ أَوَّلُ هَاشِمِيَّةٍ وُلِدَتْ لِهَاشِمِيٍّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِغَيْرِهِمَا. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّمَا حُرِّمَ لُبْسُهُ لَا فَرْشُهُ، وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ فَهِيَ نَزْغَةٌ أَعْجَمِيَّةٌ لَمْ يَعْلَمْ مَا هُوَ اللِّبَاسُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَلَا فِي الشَّرِيعَةِ، وَالْفَرْشُ وَالْبَسْطُ لَيْسَ لُغَةً، وَهُوَ كَذَلِكَ

[مسألة ثياب الذهب والحرير والديباج]

حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ فِي الشَّرِيعَةِ؛ فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ فِيهِ: «فَقُمْت إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ». وَهَذَا نَصٌّ. [مَسْأَلَة ثِيَابَ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَة الْحَرِيرُ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ، وَحَلَالٌ لِلنِّسَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْأَصْلُ فِيهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ فِي الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا»، وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَّخِذَ ثِيَابَ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ، وَلِلرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا فِيهَا، فَإِذَا انْفَرَدَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ حِينَ تَزَوَّجَ: اتَّخَذْت أَنْمَاطًا؟ قُلْت: وَأَنَّى لَنَا الْأَنْمَاطُ؟ قَالَ: أَمَا إنَّهَا سَتَكُونُ». وَلَيْسَ يَلْزَمُ الرَّجُلَ أَنْ يَخْلَعَهَا عَنْ ثِيَابِهَا، وَلَا أَنْ يُعَرِّيَ بَيْتَهَا وَفِرَاشَهَا، وَحِينَئِذٍ يَسْتَمْتِعُ بِهَا. [مَسْأَلَة لُبْسُ الْخَزِّ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ لُبْسُ الْخَزِّ جَائِزٌ، وَهُوَ مَا سَدَاه حَرِيرٌ وَلَيْسَ لُحْمَتُهُ مِنْهُ؛ وَقَدْ لَبِسَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ يَرَى الْحَرِيرَ حَرَامًا عَلَى النِّسَاءِ، وَلِهَذَا أَدْخَلَهُ مَالِكٌ عَنْهُ فِي الْمُوَطَّإِ، وَقَدْ لَبِسَهُ عُثْمَانُ، وَكَفَى بِهِ حُجَّةً، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ.

[مسألة استعمال الذهب والفضة]

[مَسْأَلَة اسْتِعْمَالُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ فَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةٍ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. فَإِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمِ». وَرَوَى حُذَيْفَةُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهِمَا، وَلَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَالدِّيبَاجَ فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الْآخِرَةِ». وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي اسْتِعْمَالِهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ؛ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرِّجَالِ اسْتِعْمَالُهَا فِي شَيْءٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ: «هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا»؛ وَالنَّهْيُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِيهَا، وَسَائِرُ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ اسْتِعْمَالِهَا؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْمَتَاعِ، فَلَمْ يَجُزْ، أَصْلُهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ؛ وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ اسْتِعْجَالُ أَجْرِ الْآخِرَةِ؛ وَذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَسَائِرُ أَجْزَاءِ الِانْتِفَاعِ؛ وَلِأَنَّهُ «- عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: هِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الْآخِرَةِ»؛ فَلَمْ يَجْعَلْ لَنَا فِيهَا حَظًّا فِي الدُّنْيَا. [مَسْأَلَة إذَا كَانَ الْإِنَاءُ مُضَبَّبًا بِالذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّة أَوْ فِيهِ حَلْقَةٌ مِنْهُمَا] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ إذَا كَانَ الْإِنَاءُ مُضَبَّبًا بِهِمَا أَوْ فِيهِ حَلْقَةٌ مِنْهُمَا، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُشْرَبَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْمِرْآةُ تَكُونُ فِيهَا الْحَلْقَةُ مِنْ الْفِضَّةِ لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَنْظُرَ فِيهَا وَجْهَهُ، وَقَدْ كَانَ عِنْدَ أَنَسٍ إنَاءٌ مُضَبَّبٌ بِالْفِضَّةِ. وَقَالَ: «لَقَدْ سَقَيْت فِيهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: كَانَتْ فِيهِ حَلْقَةُ حَدِيدٍ، فَأَرَادَ أَنَسٌ أَنْ يَجْعَلَ فِيهِ حَلْقَةَ فِضَّةً، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِمَّا صَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَتَرَكَهُ.

[مسألة أقتناء إناء الذهب والفضة]

[مَسْأَلَة أقتناء إنَاء الذَّهَب والْفِضَّة] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ إذَا لَمْ يَجُزْ اسْتِعْمَالُهَا لَمْ يَجُزْ اقْتِنَاؤُهَا؛ لِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لَا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ كَالصَّنَمِ وَالطُّنْبُورِ. وَفِي كُتُبِ عُلَمَائِنَا إنَّهُ يَلْزَمُ الْغُرْمُ فِي قِيمَتِهَا لِمَنْ كَسَرَهَا؛ وَهُوَ مَعْنَى فَاسِدٌ؛ فَإِنَّ كَسْرَهَا وَاجِبٌ؛ فَلَا ثَمَنَ لِقِيمَتِهَا؛ وَلَا يَجُوزُ تَقْوِيمُهَا فِي الزَّكَاةِ بِحَالٍ، وَغَيْرُ هَذَا لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي الْمَسَائِلِ بِأَبْلَغَ مِنْ هَذَا. [الْآيَة السَّادِسَة قَوْله تَعَالَى وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ] َ إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّهَادَةَ مَنْصِبٌ عَظِيمٌ، وَوِلَايَةٌ كَرِيمَةٌ، فِيهَا تَنْفِيذُ قَوْلِ الْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ، وَلَا يَكُونُ إلَّا بِمَا قَدْ عَلِمَهُ الشَّاهِدُ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى الْعِلْمِ بِمَا يَكُونُ قَطْعًا عِنْدَهُ، وَقَدْ يَكُونُ عِنْدَهُ ظَاهِرًا، وَذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[سورة الدخان فيها ثلاث آيات]

[سُورَة الدُّخَان فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ] الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدخان: 3]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3] يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ بِاللَّيْلِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مِنْهُ لَيْلِيًّا وَمِنْهُ نَهَارِيًّا وَمِنْهُ سَفَرِيٌّ وَحَضَرِيٌّ، وَمِنْهُ مَكِّيٌّ وَمَدَنِيٌّ، وَمِنْهُ سَمَائِي وَأَرْضِيٌّ، وَمِنْهُ هَوَائِيٌّ؛ وَالْمُرَادُ هَاهُنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أُنْزِلَ جُمْلَةً فِي اللَّيْلِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوُ مَا فِي عِشْرِينَ عَامًا وَنَحْوِهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: {مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3] الْبَرَكَةُ: هِيَ النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ، وَسَمَّاهَا مُبَارَكَةً لِمَا يُعْطِي اللَّهُ فِيهَا مِنْ الْمَنَازِلِ، وَيَغْفِرُ مِنْ الْخَطَايَا، وَيُقَسِّمُ مِنْ الْحُظُوظِ، وَيَبُثُّ مِنْ الرَّحْمَةِ، وَيُنِيلُ مِنْ الْخَيْرِ، وَهِيَ حَقِيقَةُ ذَلِكَ وَتَفْسِيرُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ تَعْيِينُ هَذِهِ اللَّيْلَةِ: وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهَا لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ؛ وَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ الصَّادِقِ الْقَاطِعِ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] فَنَصَّ عَلَى أَنَّ مِيقَاتَ نُزُولِهِ رَمَضَانُ، ثُمَّ عَبَّرَ عَنْ زَمَانِيَّةِ اللَّيْلِ هَاهُنَا بِقَوْلِهِ: {فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3] فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ فِي غَيْرِهِ فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ، وَلَيْسَ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ حَدِيثٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، لَا فِي فَضْلِهَا، وَلَا فِي نَسْخِ الْآجَالِ فِيهَا، فَلَا تَلْتَفِتُوا إلَيْهَا.

[الآية الثانية قوله تعالى فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون]

[الْآيَة الثَّانِيَة قَوْلُهُ تَعَالَى فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ] َ} [الدخان: 23]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى السُّرَى: سَيْرُ اللَّيْلِ. وَالْإِدْلَاجُ: سَيْرُ السَّحَرِ، وَالْإِسْآدُ: سَيْرُهُ كُلِّهِ. وَالتَّأْوِيبُ: سَيْرُ النَّهَارِ. وَيُقَالُ: سَرَى وَأَسْرَى، وَقَدْ يُضَافُ إلَى اللَّيْلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الفجر: 4] وَهُوَ يُسْرَى فِيهِ، كَمَا قِيلَ: لَيْلٌ نَائِمٌ، وَهُوَ يُنَامُ فِيهِ؛ وَذَلِكَ مِنْ اتِّسَاعَاتِ الْعَرَبِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلا} [الدخان: 23] أَمْرٌ بِالْخُرُوجِ بِاللَّيْلِ، وَسَيْرُ اللَّيْلِ يَكُونُ مِنْ الْخَوْفِ؛ وَالْخَوْفُ يَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ: إمَّا مِنْ الْعَدُوِّ فَيُتَّخَذُ اللَّيْلُ سِتْرًا مُسْدَلًا، فَهُوَ مِنْ أَسْتَارِ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِمَّا مِنْ خَوْفِ الْمَشَقَّةِ عَلَى الدَّوَابِّ وَالْأَبَدَانِ بِحَرٍّ أَوْ جَدْبٍ، فَيُتَّخَذُ السُّرَى مَصْلَحَةً مِنْ ذَلِكَ. وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسْرَى وَيُدْلَجُ وَيَتَرَفَّقُ وَيَسْتَعْجِلُ قَدْرَ الْحَاجَةِ وَحَسْبَ الْعَجَلَةِ، وَمَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ. وَفِي جَامِعِ الْمُوَطَّإِ: «إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيَرْضَى بِهِ، وَيُعِينُ عَلَيْهِ مَا لَا يُعِينُ عَلَى الْعُنْفِ، فَإِذَا رَكِبْتُمْ هَذِهِ الدَّوَابَّ الْعَجَمَ فَأَنْزِلُوهَا مَنَازِلَهَا، فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ جَدْبَةً فَانْجُوَا عَلَيْهَا بِنِقْيِهَا، وَعَلَيْكُمْ بِسَيْرِ اللَّيْلِ فَإِنَّ الْأَرْضَ تَطْوِي بِاللَّيْلِ مَا لَا تَطْوِي بِالنَّهَارِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّعْرِيسَ عَلَى الطَّرِيقِ فَإِنَّهُ طُرُقُ الدَّوَابِّ وَمَأْوَى الْحَيَّاتِ». [الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى إنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ] الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ} [الدخان: 43] {طَعَامُ الأَثِيمِ} [الدخان: 44].

فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الزَّقُّومُ: كُلُّ طَعَامٍ مَكْرُوهٍ، يُقَالُ: تَزَقَّمَ الرَّجُلُ إذَا تَنَاوَلَ مَا يَكْرَهُ. وَيُحْكَى عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الزَّقُّومَ هُوَ التَّمْرُ وَالزُّبْدُ بِلِسَانِ الْبَرْبَرِ، وَيَا لِلَّهِ وَلِهَذَا الْقَائِلِ وَأَمْثَالِهِ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْكِتَابِ بِالْبَاطِلِ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَقْرَأَ رَجُلًا طَعَامَ الْأَثِيمَ فَلَمْ يَفْهَمْهَا؛ فَقَالَ لَهُ: طَعَامُ الْفَاجِرِ، فَجَعَلَهَا النَّاسُ قِرَاءَةً، حَتَّى رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: أَقْرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَجُلًا إنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ فَجَعَلَ الرَّجُلَ يَقُولُ: طَعَامُ الْيَتِيمِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: طَعَامُ الْفَاجِرِ. فَقُلْت لِمَالِكٍ: أَتَرَى أَنْ يَقُولَ كَذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَرَوَى الْبَصْرِيُّونَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ بِمَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَالَ ابْنُ شَعْبَانَ: لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ مَالِكٍ إنَّهُ لَا يُصَلَّى بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى بِهَا أَعَادَ صَلَاتَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ بِالتَّفْسِيرِ. وَقَدْ بَيَّنَّا الْقَوْلَ فِي حَالِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَلَوْ صَحَّتْ قِرَاءَتُهُ لَكَانَتْ الْقِرَاءَةُ بِهَا سُنَّةً، وَلَكِنَّ النَّاسَ أَضَافُوا إلَيْهِ مَا لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ؛ فَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: لَا يُقْرَأُ بِمَا يُذْكَرُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَاَلَّذِي صَحَّ عَنْهُ مَا فِي الْمُصْحَفِ الْأَصْلِيِّ. فَإِنْ قِيلَ: فَفِي الْمُصْحَفِ الْأَصْلِيِّ قِرَاءَاتٌ وَاخْتِلَافَاتٌ فَبِأَيٍّ يُقْرَأُ؟ قُلْنَا: وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ بِجَمِيعِهَا بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْأُمَّةِ، فَمَا وُضِعَتْ إلَّا لِحِفْظِ الْقُرْآنِ، وَلَا كُتِبَتْ إلَّا لِلْقِرَاءَةِ بِهَا، وَلَكِنْ لَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يُعَيَّنَ الْمَقْرُوءُ بِهِ مِنْهَا، فَيُقْرَأَ بِحَرْفِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَهْلِ الشَّامِّ،

وَأَهْلِ مَكَّةَ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ أَلَّا يَخْرُجَ عَنْهَا، فَإِذَا قَرَأَ آيَةً بِحَرْفِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَقَرَأَ الَّتِي بَعْدَهَا بِحَرْفِ أَهْلِ الشَّامِ كَانَ جَائِزًا، وَإِنَّمَا ضَبَطَ أَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ قِرَاءَتَهُمْ بِنَاءً عَلَى مُصْحَفِهِمْ، وَعَلَى مَا نَقَلُوهُ عَنْ سَلَفِهِمْ، وَالْكُلُّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ».

[سورة الجاثية فيها ثلاث آيات]

[سُورَةُ الْجَاثِيَةِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الجاثية: 14]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ شَتَمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَهَمَّ أَنْ يَبْطِشَ بِهِ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ. وَهَذَا لَمْ يَصِحَّ. [مَسْأَلَة إعْرَاب قَوْله تَعَالَى قل لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي إعْرَابِهَا: اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ الْخَبَرَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جَوَابَ هَذَا الْأَمْرِ، وَجَاءَ ظَاهِرُهُ هَاهُنَا جَوَابًا مَجْزُومًا، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا [اغْفِرُوا] يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى: {لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14] يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الرَّجَاءِ الْمُطْلَقِ، عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأَيَّامُ عِبَارَةً عَنْ النِّعَمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْخَوْفِ، وَيُعَبَّرُ بِالْأَيَّامِ عَنْ النِّقَمِ، وَبِالْكُلِّ يَنْتَظِمُ الْكَلَامُ.

[الآية الثانية قوله تعالى ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها]

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ هَذَا مِنْ الْمَغْفِرَةِ وَشَبَهُهُ مِنْ الصَّفْحِ وَالْإِعْرَاضِ مَنْسُوخٌ بِآيَاتِ الْقِتَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا] وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الشَّرِيعَةُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الطَّرِيقِ إلَى الْمَاءِ، ضُرِبَتْ مَثَلًا لِلطَّرِيقِ إلَى الْحَقِّ لِمَا فِيهَا مِنْ عُذُوبَةِ الْمَوْرِدِ، وَسَلَامَةِ الْمَصْدَرِ، وَحُسْنِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْمُرَادِ بِهَا مِنْ وُجُوهِ الْحَقِّ. وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَمْرَ الدِّينُ. الثَّانِي: أَنَّهُ السُّنَّةُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ الْفَرَائِضُ. الرَّابِعُ: النِّيَّةُ. وَهَذِهِ كَلِمَةٌ أَرْسَلَهَا مَنْ لَمْ يَتَفَطَّنْ لِلْحَقَائِقِ، وَالْأَمْرُ يَرِدُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِمَعْنَى الشَّأْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97]. وَالثَّانِي أَنَّهُ أَحَدُ أَقْسَامِ الْكَلَامِ الَّذِي يُقَابِلُهُ النَّهْيُ، وَكِلَاهُمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا هَاهُنَا، وَتَقْدِيرُهُ ثُمَّ جَعَلْنَاك عَلَى طَرِيقَةٍ مِنْ الدِّينِ، وَهِيَ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123].

[مسألة هل شرع من قبلنا شرع لنا]

وَلَا خِلَافَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُغَايِرْ بَيْنَ الشَّرَائِعِ فِي التَّوْحِيدِ وَالْمَكَارِمِ وَالْمَصَالِحِ، وَإِنَّمَا خَالَفَ بَيْنَهَا فِي الْفُرُوعِ بِحَسْبِ مَا عَلِمَهُ سُبْحَانَهُ. [مَسْأَلَة هَلْ شَرْعَ مِنْ قَبْلِنَا شَرْع لَنَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ظَنَّ بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْعِلْمِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مِنْ قَبْلِنَا لَيْسَ بِشَرْعٍ لَنَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَفْرَدَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُمَّتَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِشَرِيعَةٍ؛ وَلَا نُنْكِرُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُمَّتَهُ مُنْفَرِدَانِ بِشَرِيعَةٍ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ مِنْ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ وَالْعِظَةِ، هَلْ يَلْزَمُ اتِّبَاعُهُ أَمْ لَا؟ وَلَا إشْكَالَ فِي لُزُومِ ذَلِكَ، لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَقَدَّمْنَاهَا هُنَا وَفِي مَوْضِعِهِ مِنْ الْبَيَانِ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَاَلَّذِينَ آمَنُوا] وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ: {اجْتَرَحُوا} [الجاثية: 21] مَعْنَاهُ افْتَعَلُوا مِنْ الْجُرْحِ؛ وَضَرَبَ تَأْثِيرَ الْجُرْحِ فِي الْبَدَنِ كَتَأْثِيرِ السَّيِّئَاتِ فِي الدِّينِ مَثَلًا، وَهُوَ مِنْ بَدِيعِ الْأَمْثَالِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْله تَعَالَى {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28] فَإِنَّهَا عَلَى مَسَاقِهَا؛ فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهَا.

[سورة الأحقاف فيها ثلاث آيات]

[سُورَةُ الْأَحْقَافِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف: 4]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي مَسَاقِ الْآيَةِ، وَهِيَ أَشْرَفُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا اسْتَوْفَتْ أَدِلَّةَ الشَّرْعِ عَقْلِيَّهَا وَسَمْعِيَّهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} [الأحقاف: 4] فَهَذِهِ بَيَانٌ لِأَدِلَّةِ الْعَقْلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّوْحِيدِ، وَحُدُوثِ الْعَالَمِ، وَانْفِرَادِ الْبَارِّي سُبْحَانَهُ بِالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالْوُجُودِ وَالْخَلْقِ، ثُمَّ قَالَ: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [الأحقاف: 4] عَلَى مَا تَقُولُونَ، وَهَذِهِ بَيَانٌ لِأَدِلَّةِ السَّمْعِ فَإِنَّ مُدْرِكَ الْحَقِّ إنَّمَا يَكُونُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ أَوْ بِدَلِيلِ الشَّرْعِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ مَرَاتِبِ الْأَدِلَّةِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، ثُمَّ قَالَ: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} [الأحقاف: 4] يَعْنِي أَوْ عِلْمٍ يُؤْثَرُ، أَوْ يُرْوَى وَيُنْقَلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَكْتُوبًا؛ فَإِنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ الْحِفْظِ مِثْلُ الْمَنْقُولِ عَنْ الْكُتُبِ. [مَسْأَلَة عِلْمَ الْخَطِّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَالَ قَوْمٌ: إنَّ قَوْلَهُ: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} [الأحقاف: 4] يَعْنِي بِذَلِكَ عِلْمَ الْخَطِّ، وَهُوَ الضَّرْبُ فِي التُّرَابِ لِمَعْرِفَةِ الْكَوَائِنِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوْ فِيمَا مَضَى مِمَّا غَابَ عَنْ الضَّارِبِ، وَأَسْنَدُوا ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَصِحَّ.

[مسألة الفأل والزجر والكهان]

وَفِي مَشْهُورِ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كَانَ نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ، فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَلِكَ» وَلَمْ يَصِحَّ أَيْضًا. وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ جَاءَ لِإِبَاحَةِ الضَّرْبِ بِهِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ يَفْعَلُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: جَاءَ لِلنَّهْيِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَلِكَ». وَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَةِ طَرِيقِ النَّبِيِّ الْمُتَقَدِّمِ فِيهِ فَإِذًا لَا سَبِيلَ إلَى الْعَمَلِ بِهِ: لَعَمْرُك مَا تَدْرِي الضَّوَارِبُ بِالْحَصَى ... وَلَا زَاجِرَاتُ الطَّيْرِ مَا اللَّهُ صَانِعٌ وَحَقِيقَتُهُ عِنْدَ أَرْبَابِهِ تَرْجِعُ إلَى صُوَرِ الْكَوَاكِبِ، فَيَدُلُّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ تِلْكَ الْكَوَاكِبِ مِنْ سَعْدٍ أَوْ نَحْسٍ يَحِلُّ بِهِمْ، فَصَارَ ظَنًّا مَبْنِيًّا عَلَى ظَنٍّ، وَتَعَلَّقَا بِأَمْرٍ غَائِبٍ قَدْ دَرَسَتْ طَرِيقُهُ، وَفَاتَ تَحْقِيقُهُ، وَقَدْ نَهَتْ الشَّرِيعَةُ عَنْهُ، وَأَخْبَرَتْ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا اخْتَصَّ اللَّهُ بِهِ، وَقَطَعَهُ عَنْ الْخَلْقِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ أَسْبَابٌ يَتَعَلَّقُونَ بِهَا فِي دَرْكِ الْغَيْبِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ رَفَعَ تِلْكَ الْأَسْبَابَ، وَطَمَسَ تِلْكَ الْأَبْوَابَ، وَأَفْرَدَ نَفْسَهُ بِعِلْمِ الْغَيْبِ؛ فَلَا يَجُوزُ مُزَاحَمَتُهُ فِي ذَلِكَ، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ دَعْوَاهُ، وَطَلَبُهُ عَنَاءً لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَهْيٌ، فَإِذْ قَدْ وَرَدَ النَّهْيُ فَطَلَبُهُ مَعْصِيَةٌ أَوْ كُفْرٌ بِحَسَبِ قَصْدِ الطَّالِبِ. [مَسْأَلَة الْفَأْلُ وَالزَّجْرُ وَالْكُهَّانُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُبْقِ مِنْ الْأَسْبَابِ الدَّالَّةِ عَلَى الْغَيْبِ الَّتِي أَذِنَ فِي التَّعَلُّقِ بِهَا وَالِاسْتِدْلَالِ مِنْهَا إلَّا الرُّؤْيَا، فَإِنَّهُ أَذِنَ فِيهَا وَأَخْبَرَ أَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ النُّبُوَّةِ، وَكَذَلِكَ الْفَأْلُ. فَأَمَّا الطِّيَرَةُ وَالزَّجْرُ فَإِنَّهُ نَهَى عَنْهُمَا.

[الآية الثانية قوله تعالى وحمله وفصاله ثلاثون شهرا]

وَالْفَأْلُ هُوَ الِاسْتِدْلَال بِمَا يَسْتَمِعُ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا يُرِيدُ مِنْ الْأَمْرِ إذَا كَانَ حَسَنًا، فَإِنْ سَمِعَ مَكْرُوهًا فَهُوَ تَطَيُّرٌ، وَأَمَرَ الشَّرْعُ بِأَنْ يَفْرَحَ بِالْفَأْلِ، وَيَمْضِيَ عَلَى أَمْرِهِ مَسْرُورًا بِهِ. فَإِذَا سَمِعَ الْمَكْرُوهَ أَعْرَضَ عَنْهُ وَلَمْ يَرْجِعْ لِأَجْلِهِ، وَقَالَ كَمَا عَلَّمَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُمَّ لَا طَيْرَ إلَّا طَيْرُك، وَلَا خَيْرَ إلَّا خَيْرُك، وَلَا إلَهَ غَيْرُك». وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْأُدَبَاءِ: الْفَأْلُ وَالزَّجْرُ وَالْكُهَّانُ كُلُّهُمْ ... مُضَلِّلُونَ وَدُونَ الْغَيْبِ أَقْفَالٌ وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ إلَّا فِي الْفَأْلِ، فَإِنَّ الشَّرْعَ اسْتِثْنَاءٌ، وَأَمَرَ بِهِ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْ هَذَا الشَّاعِرِ مَا نَظَمَهُ فِيهِ، فَإِنَّهُ تَكَلَّمَ بِجَهْلٍ؛ وَصَاحِبُ الشَّرْعِ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ. [الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا] } [الأحقاف: 15]. رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً تَزَوَّجَتْ فَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ زُوِّجَتْ، فَأَتَى بِهَا عُثْمَانَ، فَأَرَادَ أَنْ يَرْجُمَهَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعُثْمَانَ: إنَّهَا إنْ تُخَاصِمْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ تَخْصِمْكُمْ؛ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]. وَقَالَ: " وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ " فَالْحَمْلُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَالْفِصَالُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا؛ فَخَلَّى سَبِيلَهَا. فِي رِوَايَةٍ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ لَهُ ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَهُوَ اسْتِنْبَاطٌ بَدِيعٌ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ] ِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف: 20].

فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى لَا خِلَافَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْكُفَّارِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، لِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِهَا: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} [الأحقاف: 20]، أَيْ فَيُقَالُ لَهُمْ: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا، يُرِيدُ أَفْنَيْتُمُوهَا فِي الْكُفْرِ بِاَللَّهِ وَمَعْصِيَتِهِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَحَلَّ الطَّيِّبَاتِ مِنْ الْحَلَالِ وَاللَّذَّاتِ، وَأَمَرَ بِاسْتِعْمَالِهَا فِي الطَّاعَاتِ، فَصَرَفَهَا الْكُفَّارُ إلَى الْكُفْرِ فَأَوْعَدَهُمْ اللَّهُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُمْ، وَقَدْ يَسْتَعْمِلُهَا الْمُؤْمِنُ فِي الْمَعَاصِي، يَدْخُلُ فِي وَعِيدٍ آخَرَ وَتَنَالُهُ آيَةٌ أُخْرَى بِرَجَاءِ الْمَغْفِرَةِ، وَيَرْجِعُ أَمْرُهُ إلَى الْمَشِيئَةِ، فَيُنَفِّذُ اللَّهُ فِيهِ مَا عَلِمَهُ مِنْهُ وَكَتَبَهُ لَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَقَى جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَدْ ابْتَاعَ لَحْمًا بِدِرْهَمٍ، فَقَالَ لَهُ: أَمَا سَمِعْت اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20] وَهَذَا عِتَابٌ مِنْهُ لَهُ عَلَى التَّوَسُّعِ بِابْتِيَاعِ اللَّحْمِ وَالْخُرُوجِ عَنْ جِلْفِ الْخُبْزِ وَالْمَاءِ؛ فَإِنَّ تَعَاطِي الطَّيِّبَاتِ مِنْ الْحَلَالِ تَسْتَشْرِي لَهَا الطِّبَاعُ، وَتَسْتَمِرُّ عَلَيْهَا الْعَادَةُ، فَإِذَا فَقَدْتهَا اسْتَسْهَلْت فِي تَحْصِيلِهَا بِالشُّبُهَاتِ، وَحَتَّى تَقَعَ فِي الْحَرَامِ الْمَحْضِ بِغَلَبَةِ الْعَادَةِ، وَاسْتَشْرَاهِ الْهَوَى عَلَى النَّفْسِ الْأَمَارَةِ بِالسُّوءِ، فَأَخَذَ عُمَرُ الْأَمْرَ مِنْ أَوَّلِهِ، وَحَمَاهُ مِنْ ابْتِدَائِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ مِثْلُهُ. وَاَلَّذِي يَضْبِطُ هَذَا الْبَابَ وَيَحْفَظُ قَانُونَهُ: عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَأْكُلَ مَا وَجَدَ طَيِّبًا كَانَ أَوْ قَفَارًا، وَلَا يَتَكَلَّفُ الطَّيِّبَ، وَيَتَّخِذَهُ عَادَةً؛ وَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْبَعُ إذَا وَجَدَ، وَيَصْبِرُ إذَا عَدِمَ، وَيَأْكُلُ الْحَلْوَى إذَا قَدَرَ عَلَيْهَا، وَيَشْرَبُ الْعَسَلَ إذَا اتَّفَقَ لَهُ، وَيَأْكُلُ اللَّحْمَ إذَا تَيَسَّرَ، وَلَا يَعْتَمِدُهُ أَصْلًا، وَلَا يَجْعَلُهُ دَيْدَنًا، وَمَعِيشَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْلُومَةٌ، وَطَرِيقَةُ

أَصْحَابِهِ بَعْدُ مَنْقُولَةٌ؛ فَأَمَّا الْيَوْمَ عِنْدَ اسْتِيلَاءِ الْحَرَامِ، وَفَسَادِ الْحُطَامِ، فَالْخَلَاصُ عَسِيرٌ، وَاَللَّهُ يَهَبُ الْإِخْلَاصَ، وَيُعِينُ عَلَى الْخَلَاصِ بِرَحْمَتِهِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَدِمَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ الْعِرَاقِ فَرَأَى الْقَوْمُ كَأَنَّهُمْ يَتَقَزَّزُونَ فِي الْأَكْلِ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ؟ وَلَوْ شِئْت أَنْ يُدَهْمَقُ لِي كَمَا يُدَهْمَقُ لَكُمْ، وَلَكِنَّا نَسْتَبْقِي مِنْ دُنْيَانَا مَا نَجِدُهُ فِي آخِرَتِنَا. أَلَمِ تَسْمَعُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ قَوْمًا فَقَالَ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20].

[سورة محمد فيها ثلاث آيات]

[سُورَةُ مُحَمَّدٍ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى فَإِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 4]. فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي إعْرَابِهَا: قَالَ الْمُعْرِبُونَ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ، تَقْدِيرُهُ فَاضْرِبُوا الرِّقَابَ ضَرْبًا. وَعِنْدِي أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِقَوْلِك: اقْصِدُوا ضَرْبَ الرِّقَابِ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] مَعْنَاهُ افْعَلُوا ذَلِكَ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي رِسَالَةٍ الْإِلْجَاءِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى الَّذِينَ كَفَرُوا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: {الَّذِينَ كَفَرُوا} [محمد: 1]: فِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ الْمُشْرِكُونَ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّانِيَةُ كُلُّ مَنْ لَا عَهْدَ لَهُ وَلَا ذِمَّةَ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِعُمُومِ الْآيَةِ فِيهِ.

[مسألة المراد بقوله عز وجل ضرب الرقاب]

[مَسْأَلَة الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ ضَرْبَ الرِّقَابِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4] قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ الْقِتَالُ؛ قَالَهُ السُّدِّيُّ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَتْلُ الْأَسِيرِ صَبْرًا. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ فِي الْقِتَالِ، وَهُوَ اللِّقَاءُ، وَإِنَّمَا نَسْتَفِيدُ قَتْلَ الْأَسِيرِ صَبْرًا مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ وَأَمْرِهِ بِهِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى حَتَّى إذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى. {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد: 4] قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ. الْمَعْنَى اُقْتُلُوهُمْ حَتَّى إذَا كَثُرَ ذَلِكَ، وَأَخَذْتُمْ مَنْ بَقِيَ فَأَوْثِقُوهُمْ شَدًّا؛ فَإِمَّا أَنْ تَمُنُّوا عَلَيْهِمْ فَتُطْلِقُوهُمْ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِمَّا أَنْ تُفَادُوهُمْ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَبِي عِزَّةَ وَبِثُمَامَةَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ الْعِتْقُ، وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ فَإِنَّ الْإِسْقَاطَ وَالتَّرْكَ مَعْنًى، وَالْعِتْقَ مَعْنًى، وَإِنْ كَانَ فِي الْعِتْقِ مَعْنَى التَّرْكِ فَلَيْسَ حُكْمُهُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4]، وَيَعْنِي ثَقَلَهَا، وَعَبَّرَ عَنْ السِّلَاحِ بِهِ لِثِقَلِ حَمْلِهَا، وَفِي ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا حَتَّى يُؤْمِنُوا وَيَذْهَبَ الْكُفْرُ؛ قَالَهُ الْفَرَّاءُ. الثَّانِي حَتَّى يُسْلِمَ الْخَلْقُ؛ قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. الثَّالِثُ حَتَّى يَنْزِلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.

[مسألة تمكن المسلم من عنق الكافر]

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ هِيَ مَنْسُوخَةٌ أَوْ مُحَكَّمَةٌ؟ فَقِيلَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]؛ قَالَهُ السُّدِّيُّ. الثَّانِي: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ فِي أَهْلِ الْأَوْثَانِ فَإِنَّهُمْ لَا يُعَاهَدُونَ. وَقِيلَ: إنَّهَا مُحَكَّمَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ قَالَهُ الضَّحَّاكُ. الثَّالِثُ أَنَّهَا مُحَكَّمَةٌ بَعْدَ الْإِثْخَانِ؛ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، لِقَوْلِهِ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67]. وَالتَّحْقِيقُ الصَّحِيحُ أَنَّهَا مُحَكَّمَةٌ فِي الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي. [مَسْأَلَة تَمَكَّنَ الْمُسْلِمُ مِنْ عُنُقِ الْكَافِرِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ فِي التَّنْقِيحِ: اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْآيَاتِ وَمُحْكَمَاتِهَا؛ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهَا بِالْقِتَالِ، وَبَيَّنَ كَيْفِيَّتَهُ كَمَا بَيَّنَهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12] حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْأَنْفَالِ؛ فَإِذَا تَمَكَّنَ الْمُسْلِمُ مِنْ عُنُقِ الْكَافِرِ أَجْهَزَ عَلَيْهِ، وَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ ضَرْبِ يَدِهِ الَّتِي يَدْفَعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَيَتَنَاوَلُ بِهَا قِتَالَ غَيْرِهِ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ؛ فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ إلَّا ضَرَبَ فَرَسَهُ الَّتِي يَتَوَصَّلُ بِهَا إلَى مُرَادِهِ فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ رَاجِلًا مِثْلَهُ أَوْ دُونَهُ، فَإِنْ كَانَ فَوْقَهُ قَصْدَ مُسَاوَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ قَصْدَ حَطِّهِ، وَالْمَطْلُوبُ نَفْسُهُ، وَالْمَآلُ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَمَرَ بِالْقِتَالِ أَوَّلًا، وَعَلِمَ أَنْ سَتَبْلُغُ إلَى الْإِثْخَانِ وَالْغَلَبَةِ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ حُكْمَ الْغَلَبَةِ بِشَدِّ الْوَثَاقِ، فَيَتَخَيَّرُ حِينَئِذٍ الْمُسْلِمُونَ بَيْنَ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّمَا لَهُمْ الْقَتْلُ وَالِاسْتِرْقَاقُ؛ وَهَذِهِ الْآيَةُ عِنْدَهُ مَنْسُوخَةٌ.

وَالصَّحِيحُ إحْكَامُهَا؛ فَإِنَّ شُرُوطَ النَّسْخِ مَعْدُومَةٌ فِيهَا مِنْ الْمُعَارَضَةِ، وَتَحْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِ، وَقَوْلُهُ: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأنفال: 57] فَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ التَّشْرِيدَ قَدْ يَكُونُ بِالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ وَالْقَتْلِ، فَإِنَّ طَوْقَ الْمَنِّ يُثْقِلُ أَعْنَاقَ الرِّجَالِ، وَيَذْهَبُ بِنَفَاسَةِ نُفُوسِهِمْ، وَالْفِدَاءُ يُجْحِفُ بِأَمْوَالِهِمْ؛ «وَلَمْ يَزَلْ الْعَبَّاسُ تَحْتَ ثِقَلِ فِدَاءِ بَدْرٍ حَتَّى أَدَّى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] فَقَدْ قَالَ: وَاحْصُرُوهُمْ؛ فَأَمَرَ بِالْأَخْذِ كَمَا أَمَرَ بِالْقَتْلِ. فَإِنْ قِيلَ: أَمَرَ بِالْأَخْذِ لِلْقَتْلِ. قُلْنَا: أَوْ لِلْمَنِّ وَالْفِدَاءِ. وَقَدْ عَضَّدَتْ السُّنَّةُ ذَلِكَ كُلَّهُ؛ فَرَوَى مُسْلِمٌ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ مِنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ جَارِيَةً فَفَدَى بِهَا نَاسًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ هَبَطَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَوْمٌ، فَأَخَذَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنَّ عَلَيْهِمْ»، وَقَدْ مَنَّ عَلَى سِبِّي هَوَازِنَ، وَقَتَلَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ صَبْرًا فَقَالَتْ أُخْتُهُ قُتَيْلَةُ تَرِثِيهِ: يَا رَاكِبًا إنَّ الْأَثِيلَ مَظِنَّةٌ ... مِنْ صُبْحِ خَامِسَةٍ وَأَنْتَ مُوَفَّقُ أَبْلِغْ بِهَا مَيِّتًا بِأَنَّ تَحِيَّةً ... مَا إنْ تَزَالُ بِهَا النَّجَائِبُ تَخْفِقُ مِنِّي إلَيْهِ وَعَبْرَةً مَسْفُوحَةً ... جَادَتْ بِوَاكِفِهَا وَأُخْرَى تَخْنُقُ فَلْيَسْمَعْنِ النَّضْرُ إنْ نَادَيْته ... إنْ كَانَ يَسْمَعُ مَيِّتٌ أَوْ يَنْطِقُ أَمُحَمَّدٌ وَلَأَنْتَ ضِنْءُ كَرِيمَةٍ ... فِي قَوْمِهَا وَالْفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِقُ مَا كَانَ ضَرَّك لَوْ مَنَنْت وَرُبَّمَا ... مِنْ الْفَتَى وَهُوَ الْمَغِيظُ الْمُحْنَقُ لَوْ كُنْت قَابِلَ فِدْيَةٍ لَفَدَيْتُهُ ... بِأَعَزِّ مَا يُغْلَى بِهِ مَنْ يُنْفِقُ وَالنَّصْرُ أَقْرَبُ مِنْ أَسَرْت قَرَابَةً ... وَأَحَقُّهُمْ لَوْ كَانَ عِتْقٌ يُعْتِقُ ظَلَّتْ رِمَاحُ بَنِي أَبِيهِ تَنُوشُهُ ... لِلَّهِ أَرْحَامٌ هُنَاكَ تُشَقَّقُ صَبْرًا يُقَادُ إلَى الْمَنِيَّةِ مَتْعَبًا ... رَسْفَ الْمُقَيِّدِ وَهُوَ عَانٍ مُوثَقُ فَالنَّظَرُ إلَى الْإِمَامِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.

[مسألة هل للإمام أن يقتل الأسير]

وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] فَمَعْنَاهُ عِنْدَ قَوْمٍ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ آثَامَهَا يُرِيدُونَ بِأَنْ يُسْلِمَ الْكُلُّ، فَلَا يَبْقَى كَافِرٌ؛ وَيُؤَوَّلُ مَعْنَاهُ إلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حَتَّى يَنْقَطِعَ الْجِهَادُ؛ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ «لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ الْأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ». وَمَنْ ذَكَرَ نُزُولَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ إذَا نَزَلَ لَا يَبْقَى كَافِرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا جِزْيَةٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَبْقَى مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ جِزْيَةٌ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ فِي تَتْمِيمِ الْقَوْلِ: قَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ: الْمَعْنَى فَضَرْبُ الرِّقَابِ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، فَإِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ. [مَسْأَلَة هَلْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَ الْأَسِيرَ] وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَ الْأَسِيرَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَجَّاجِ أَنَّهُ دَفَعَ أَسِيرًا إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لِيَقْتُلَهُ، فَأَبَى وَقَالَ: لَيْسَ بِهَذَا أَمَرَنَا اللَّهُ، وَقَرَأَ: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد: 4]. قُلْنَا: قَدْ قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفَعَلَهُ، وَلَيْسَ فِي تَفْسِيرِ اللَّهِ لِلْمَنِّ وَالْفِدَاءِ مَنْعٌ مِنْ غَيْرِهِ؛ فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي الزِّنَا حُكْمَ، الْجَلْدِ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُكْمَ الرَّجْمِ؛ وَلَعَلَّ ابْنَ عُمَرَ كَرِهَ ذَلِكَ مِنْ يَدِ الْحَجَّاجِ فَاعْتَذَرَ بِمَا قَالَ، وَرَبُّك أَعْلَمُ. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ] الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]. اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ افْتَتَحَ نَافِلَةً مِنْ صَوْمٍ أَوْ صَلَاةٍ، ثُمَّ أَرَادَ تَرْكَهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ:

[الآية الثالثة قوله تعالى فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم]

لَهُ ذَلِكَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إبْطَالٌ لِعَمَلِهِ الَّذِي انْعَقَدَ لَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ تَطَوُّعٌ فَإِلْزَامُهُ إيَّاهُ يُخْرِجُهُ عَنْ الطَّوَاعِيَةِ. قُلْنَا: إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ، فَإِذَا شُرِّعَ لَزِمَهُ كَالشُّرُوعِ فِي الْمُعَامَلَاتِ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَا تَكُونُ عِبَادَةٌ بِبَعْضِ رَكْعَةٍ وَلَا بَعْضِ يَوْمٍ فِي صَوْمٍ؛ فَإِذَا قَطَعَ فِي بَعْضِ الرَّكْعَةِ أَوْ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ إنْ قَالَ: إنَّهُ يُعْتَدُّ بِهِ نَاقَضَ الْإِجْمَاعَ، وَإِنْ قَالَ: إنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَقَدْ نَقَضَ الْإِلْزَامَ، وَذَلِكَ مُسْتَقْصَى فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوَا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ وَاَللَّهُ مَعَكُمْ] ْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35]. قَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ الصُّلْحِ مَعَ الْأَعْدَاءِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ. وَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى [هَاهُنَا] عَنْهُ مَعَ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ لِلْكُفَّارِ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الصُّلْحَ إنَّمَا هُوَ إذَا كَانَ لَهُ وَجْهٌ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَيْهِ، وَيُفِيدُ فَائِدَةً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ، وَلَا خَيْرَ إلَّا خَيْرُهُ.

[سورة الفتح فيها خمس آيات]

[سُورَةُ الْفَتْحِ فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنْ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 16]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ} [الفتح: 16] قِيلَ: هُمْ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ الْحُدَيْبِيَةِ، وَهُمْ خَمْسُ قَبَائِلَ: جُهَيْنَةَ، وَمُزَيْنَةَ، وَأَشْجَعَ، وَغَفَّارَ، وَأَسْلَمَ: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الفتح: 16] وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَعْيِينِهِمْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ. الثَّانِي أَنَّهُمْ بَنُو حَنِيفَةَ مَعَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ. الثَّالِثُ أَنَّهُمْ هَوَازِنُ وَغَطَفَانُ يَوْمَ حُنَيْنٍ؛ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ بِالْيَمَامَةِ لَا بِفَارِسَ وَلَا بِالرُّومِ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِأَنَّ الَّذِي تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْقِتَالُ حَتَّى يُسْلِمَ مِنْ غَيْرِ قَبُولِ جِزْيَةٍ هُمْ الْعَرَبُ فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ وَالْمُرْتَدُّونَ.

[الآية الثانية ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج]

فَأَمَّا فَارِسُ وَالرُّومُ فَلَا يُقَاتَلُونَ حَتَّى يُسْلِمُوا؛ بَلْ إنْ بَذَلُوا الْجِزْيَةَ قُبِلَتْ مِنْهُمْ، وَجَاءَتْ الْآيَةُ مُعْجِزَةً لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِخْبَارًا بِالْغَيْبِ الْآتِي، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَدَلَّتْ عَلَى إمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ لِأَنَّ الدَّاعِي لَهُمْ كَانَ أَبَا بَكْرٍ فِي قِتَالِ بَنِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ اسْتَخْلَفَ عُمَرُ، وَعُمَرُ كَانَ الدَّاعِي لَهُمْ إلَى قِتَالِ فَارِسَ وَالرُّومِ، وَخَرَجَ عَلِيُّ تَحْتِ لِوَائِهِ [وَأَخَذَ سَهْمَهُ مِنْ غَنِيمَتِهِ وَاسْتَوْلَدَ حَنِيفَةُ الْحَنَفِيَّةِ وَلَدَهُ مُحَمَّدًا]، وَلَوْ كَانَتْ إمَامَةٌ بَاطِلَةً وَغَنِيمَةٌ حَرَامًا لَمَا جَازَ عِنْدَهُمْ وَطْءٌ عَلِيٍّ لَهَا؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ مَعْصُومٌ مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ. [الْآيَة الثَّانِيَة لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ] الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 17] وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النُّورِ بَيَانُهَا، وَالْمُرَادُ بِهَا هَاهُنَا الْجِهَادُ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى هُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا] أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 25]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ:

[مسألة معنى قوله تعالى أن يبلغ محله]

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الفتح: 25] يَعْنِي قُرَيْشًا بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ، وَالْقِصَّةَ مَخْصُوصَةٌ بِهِمْ؛ فَلَا يَدْخُلُ غَيْرُهُمْ مَعَهُمْ؛ مَنَعُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَمَنَعُوا الْهَدْيَ وَحَبَسُوهُ عَنْ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ؛ وَهَذَا كَانُوا لَا يَعْتَقِدُونَهُ، وَلَكِنَّهُمْ حَمَلَتْهُمْ الْأَنَفَةُ، وَدَعَتْهُمْ حَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ إلَى أَنْ يَفْعَلُوا مَا لَا يَعْتَقِدُونَ دِينًا، فَوَبَّخَهُمْ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَيْهِ، وَأَدْخَلَ الْأُنْسَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَيَانِهِ وَوَعْدِهِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا مَنْحَرُهُ. الثَّانِي: الْحَرَمُ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ. وَكَانَ الْهَدْيُ سَبْعِينَ بَدَنَةً، وَلَكِنَّ اللَّهَ بِفَضْلِهِ جَعَلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مَحِلًّا لِلْعُذْرِ، وَنَحَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ فِيهِ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَبُولِهِ وَإِبْقَائِهِ سُنَّةً بَعْدَهُ لِمَنْ حُبِسَ عَنْ الْبَيْتِ وَصُدَّ كَمَا صُدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ} [الفتح: 25] بِمَكَّةَ، فَخِيفَ وَطْؤُكُمْ لَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَأَدْخَلْنَاكُمْ عَلَيْهِمْ عَنْوَةً، وَمَلَكْنَاكُمْ الْبَلَدَ قَسْرًا، وَلَكِنَّا صُنَّا مَنْ كَانَ [فِيهَا] يَكْتُمُ إيمَانَهُ خَوْفًا، وَهَذَا حُكْمُ اللَّهِ وَحِكْمَتُهُ، وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِيهِ فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا فَعَلَ بَعْضَهُ لَمْ يَكُنْ عَنْ عَجْزٍ؛ وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ حِكْمَةٍ.

[مسألة العفة عن المعصية والعصمة عن التعدي]

[مَسْأَلَة الْعِفَّةِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَالْعِصْمَةِ عَنْ التَّعَدِّي] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الفتح: 25] تَفْصِيلٌ لِلصَّحَابَةِ، وَإِخْبَارٌ عَنْ صِفَتِهِمْ الْكَرِيمَةِ مِنْ الْعِفَّةِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ، وَالْعِصْمَةِ عَنْ التَّعَدِّي، حَتَّى إنَّهُمْ لَوْ أَصَابُوا مِنْ أُولَئِكَ أَحَدًا لَكَانَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَهَذَا كَمَا وُصِفَتْ النَّمْلَةُ عَنْ جُنْدِ سُلَيْمَانَ فِي قَوْلِهَا: {لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18] حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ. [مَسْأَلَة الرَّمْيَ فِي حُصُونِ الْمُشْرِكِينَ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ وَأَطْفَالُهُمْ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى: {لَوْ تَزَيَّلُوا} [الفتح: 25] يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا. تَنْبِيهٌ عَلَى مُرَاعَاةِ الْكَافِرِ فِي حُرْمَةِ الْمُؤْمِنِ إذَا لَمْ تُمْكِنْ إذَايَةُ الْكَافِرِ إلَّا بِإِذَايَةِ الْمُؤْمِنِ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: قُلْت لِابْنِ الْقَاسِمِ: أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ قَوْمًا فِي الْمُشْرِكِينَ فِي حِصْنٍ مِنْ حُصُونِهِمْ حَصَرَهُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ، وَفِيهِمْ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أُسَارَى فِي أَيْدِيهِمْ؛ أَيُحْرَقُ هَذَا الْحِصْنُ أَمْ لَا يُحْرَقُ؟ قَالَ: سَمِعْت مَالِكًا وَسَأَلَ عَنْ قَوْمٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ [يَرْمُونَ] فِي مَرَاكِبِهِمْ أَخَذُوا أُسَارَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ [وَأَدْرَكَهُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ فَأَرَادُوا أَنْ يُحَرِّقُوهُمْ وَمَرَاكِبَهُمْ بِالنَّارِ] وَمَعَهُمْ الْأُسَارَى فِي مَرَاكِبِهِمْ، وَقَالَ: فَقَالَ مَالِكٌ: لَا أَرَى ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى لِأَهْلِ مَكَّةَ: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 25]. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: إنَّ مَعْنَاهُ لَوْ تَزَيَّلُوا عَنْ بُطُونِ النِّسَاءِ وَأَصْلَابِ الرِّجَالِ. وَهَذَا ضَعِيفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الفتح: 25] وَهُوَ فِي صُلْبِ الرَّجُلِ لَا يُوطَأُ وَلَا تُصِيبُ مِنْهُ مَعَرَّةٌ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ صَرَّحَ فَقَالَ: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ} [الفتح: 25] وَذَلِكَ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى مَا فِي بَطْنِ الْمَرْأَةِ وَصُلْبِ الرَّجُلِ؛ وَإِنَّمَا يَنْطَلِقُ عَلَى مِثْلِ الْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنِ هِشَامٍ، وَعَيَّاشٍ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَأَبِي جُنْدُلِ بْنِ سُهَيْلٍ، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ.

[الآية الرابعة قوله تعالى لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق]

وَقَدْ حَاصَرْنَا مَدِينَةً لِلرُّومِ، فَحَبَسَ عَنْهُمْ الْمَاءَ، فَكَانُوا يُنْزِلُونَ الْأُسَارَى يَسْتَقُونَ لَهُمْ الْمَاءَ، فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى رَمْيِهِمْ بِالنَّبْلِ، فَيَحْصُلُ لَهُمْ الْمَاءُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِنَا. وَقَدْ جَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ الرَّمْيَ فِي حُصُونِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ وَأَطْفَالُهُمْ، وَلَوْ تَتَرَّسَ كَافِرٌ بِوَلَدِ مُسْلِمٍ رُمِيَ الْمُشْرِكُ وَإِنْ أُصِيبَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَا دِيَةَ فِيهِ وَلَا كَفَّارَةَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: فِيهِ الْكَفَّارَةُ وَلَا دِيَةَ لَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِنَا. وَهَذَا ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّ التَّوَصُّلَ إلَى الْمُبَاحِ بِالْمَحْظُورِ لَا يَجُوزُ، وَلَا سِيَّمَا بِرُوحِ الْمُسْلِمِ، فَلَا قَوْلَ إلَّا مَا قَالَهُ مَالِكٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الرَّابِعَة قَوْلُهُ تَعَالَى لقد صَدْق اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ] ِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 27]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} [الفتح: 27] وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرَى أَنَّهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ وَيَطُوفُ، فَأَنْذَرَ أَصَحَابَةَ بِالْعُمْرَةِ، وَخَرَجَ فِي أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَمِائَتَيْ قُرَشِيٍّ، حَتَّى أَتَى أَصْحَابُهُ، وَبَلَغَ الْحُدَيْبِيَةَ فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ وَصَالَحُوهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ بِسِلَاحِ الرَّاكِبِ بِالسَّيْفِ وَالْفَرَسِ، وَفِي رِوَايَةٍ: بِجُلُبَّانِ السِّلَاحِ وَهُوَ السَّيْفُ فِي قِرَابِهِ، فَسُمِّيَتْ عُمْرَةٌ الْقَضِيَّةِ، لِمَا كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمْ مِنْ الْقَضِيَّةِ، وَسُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَاهَا مِنْ قَابِلٍ. وَسُمِّيَتْ مَرَّةً عُمْرَةَ الْقِصَاصِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: 194] أَيْ اقْتَصَصْتُمْ مِنْهُمْ كَمَا صَدُّوكُمْ: فَارْتَابَ الْمُنَافِقُونَ، وَدَخَلَ الْهَمُّ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ الرُّفَعَاءِ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ

[الآية الخامسة قوله تعالى محمد رسول الله والذين معه]

الْخَطَّابِ إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَقَالَ لَهُ: أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّهُ دَاخِلٌ الْبَيْتَ فَمُطَّوِّفٌ بِهِ، قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنْ لَمْ يَقُلْ الْعَامَ، وَإِنَّهُ آتِيه فَمَطُوفٌ بِهِ. وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ، وَرَاجَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمُرَاجَعَةِ أَبِي بَكْرٍ. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: فَعَمِلْت لِذَلِكَ أَعْمَالًا يَعْنِي مِنْ الْخَيْرِ كَفَّارَةً لِذَلِكَ التَّوَقُّفِ الَّذِي دَاخَلَهُ حِينَ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ صُدَّ عَنْ الْبَيْتِ، وَلَمْ تَخْرُجْ رُؤْيَاهُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ دَخَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ آمَنِينَ فَحَلَّقُوا وَقَصَّرُوا. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ «أَخَذَ مِنْ شَعْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمَرْوَةِ بِمِشْقَصٍ» وَهَذَا كَانَ فِي الْعُمْرَةِ لَا فِي الْحَجِّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَقَ فِي حَجَّتِهِ، وَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا انْقَضَتْ الثَّلَاثُ أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ بِمَيْمُونَةَ بِمَكَّةَ فَأَبَوْا ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَنَى بِهَا بِسَرِفَ، وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي ذِكْرِ مَيْمُونَةَ خَاصَّةً مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. [الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ] ُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29] فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى يَعْنِي عَلَامَتَهُمْ، وَهِيَ سِيمَا وَسِيمَيَا، وَفِي الْحَدِيثِ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لِغَيْرِكُمْ مِنْ الْأُمَمِ؛ تَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ». رَوَيْت فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي تَأْوِيلِهَا: وَقَدْ تُؤُوِّلَتْ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. الثَّانِي: ثَرَى الْأَرْضِ؛ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ. الثَّالِثُ تَبْدُو صَلَاتُهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الرَّابِعُ أَنَّهُ السَّمْتُ الْحَسَنُ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ. الْخَامِسُ أَنَّهُ الْخُشُوعُ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. السَّادِسُ أَنَّهُ مَنْ صَلَّى بِاللَّيْلِ أَصْبَحَ وَجْهُهُ مُصْفَرًّا؛ قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ. وَدَسَّهُ قَوْمٌ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى وَجْهِ الْغَلَطِ، وَلَيْسَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ ذِكْرٌ بِحَرْفٍ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِيمَا رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِجِبَاهِهِمْ مِنْ الْأَرْضِ عِنْدَ السُّجُودِ؛ وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الصُّبْحَ صَبِيحَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، وَقَدْ وَكَفَ الْمَسْجِدُ، وَكَانَ عَلَى عَرِيشٍ، فَانْصَرَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ صَلَاتِهِ وَعَلَى جَبْهَتِهِ وَأَرْنَبَتِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ». وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَأْمُرُ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهَ، فَيَعْرِفُونَهُمْ بِعَلَامَةِ أَثَرِ السُّجُودِ وَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ مِنْ ابْنِ آدَمَ آثَارَ السُّجُودِ». وَقَدْ رَوَى مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هُوَ الْخُشُوعُ.

قُلْت: هُوَ أَثَرُ السُّجُودِ، فَقَالَ: إنَّهُ يَكُونُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مِثْلَ رُكْبَةِ الْعَنْزِ، وَهُوَ كَمَا شَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ: مَا مِنْ رَجُلٍ يَطْلُبُ الْحَدِيثَ إلَّا كَانَ عَلَى وَجْهِهِ نَضْرَةٌ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا» الْحَدِيثَ.

[سورة الحجرات فيها سبع آيات]

[سُورَةُ الْحُجُرَاتِ فِيهَا سَبْعُ آيَاتٍ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: وَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْمًا كَانُوا يَقُولُونَ لَوْ أَنْزَلَ فِي كَذَا وَكَذَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ. الثَّانِي: نُهُوا أَنْ يَتَكَلَّمُوا بَيْنَ يَدَيْ كَلَامِهِ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّالِثُ لَا تَفْتَاتُوا عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي أَمْرٍ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَشَاءُ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. الرَّابِعُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ ذَبَحُوا قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُعِيدُوا الذَّبْحَ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ. وَفِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَصْحَابِهِ فِي يَوْمِ الْأَضْحَى: مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لِأَهْلِهِ؛ فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ خَالُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ، وَإِنِّي ذَبَحْت قَبْلَ أَنْ أُصَلِّيَ، وَعِنْدِي عَنَاقُ جَذَعَةٍ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ. فَقَالَ: تُجْزِئُك، وَلَنْ تُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك».

[مسألة تقديم الطاعات على أوقاتها]

الْخَامِسُ لَا تُقَدِّمُوا أَعْمَالَ الطَّاعَةِ قَبْلَ وَقْتِهَا؛ قَالَهُ الزَّجَّاجُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا صَحِيحٌ تَدْخُلُ تَحْتَ الْعُمُومِ، فَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا كَانَ السَّبَبُ الْمُثِيرُ لِلْآيَةِ مِنْهَا، وَلَعَلَّهَا نَزَلَتْ دُونَ سَبَبٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إذَا قُلْنَا: إنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَقْدِيمِ النَّحْرِ عَلَى الصَّلَاةِ وَذَبْحِ الْإِمَامِ سَيَأْتِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْكَوْثَرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَة تَقْدِيمِ الطَّاعَاتِ عَلَى أَوْقَاتِهَا] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ إذَا قُلْنَا إنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَقْدِيمِ الطَّاعَاتِ عَلَى أَوْقَاتِهَا فَهُوَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ مُؤَقَّتَةٍ بِمِيقَاتٍ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ، كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ، إلَّا أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الزَّكَاةِ لَمَّا كَانَتْ عِبَادَةً مَالِيَّةً، وَكَانَتْ مَطْلُوبَةً لِمَعْنًى مَفْهُومٍ؛ وَهُوَ سَدُّ خُلَّةِ الْفَقِيرِ، «وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعْجَلَ مِنْ الْعَبَّاسِ صَدَقَةَ عَامَيْنِ»، وَلِمَا جَاءَ مِنْ جَمْعِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ قَبْلَ يَوْمِ الْفِطْرِ حَتَّى تُعْطَى لِمُسْتَحِقِّهَا يَوْمَ الْوُجُوبِ، وَهُوَ يَوْمُ الْفِطْرِ؛ فَاقْتَضَى ذَلِكَ كُلُّهُ جَوَازَ تَقْدِيمِهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا لِعَامٍ وَلِاثْنَيْنِ. فَإِنْ جَاءَ رَأْسُ الْعَامِ وَالنِّصَابُ بِحَالِهِ وَقَعَتْ مَوْقِعَهَا، وَإِنْ جَاءَ رَأْسُ الْحَوْلِ وَقَدْ تَغَيَّرَ النِّصَابُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا صَدَقَةُ تَطَوُّعٍ. وَقَالَ أَشْهَبُ: لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْحَوْلِ لَحْظَةً، كَالصَّلَاةِ، وَكَأَنَّهُ طَرَدَ الْأَصْلُ فِي الْعِبَادَاتِ، فَرَأَى أَنَّهَا إحْدَى دَعَائِمِ الْإِسْلَامِ، فَوَفَّاهَا حَقَّهَا فِي النِّظَامِ وَحُسْنِ التَّرْتِيبِ. وَرَأَى سَائِرُ عُلَمَائِنَا أَنَّ التَّقْدِيمَ فِيهَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ فِي الشَّرْعِ، بِخِلَافِ الْكَثِيرِ.

[مسألة ترك التعرض لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وإيجاب اتباعه]

وَمَا قَالَهُ أَشْهَبُ أَصَحُّ، فَإِنَّ مُفَارَقَةَ الْيَسِيرِ الْكَثِيرَ فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ صَحِيحٌ، وَلَكِنَّهُ لِمَعَانٍ تَخْتَصُّ بِالْيَسِيرِ دُونَ الْكَثِيرِ، فَأَمَّا فِي مَسْأَلَتِنَا فَالْيَوْمُ فِيهِ كَالشَّهْرِ وَالشَّهْرُ كَالسَّنَةِ، فَإِمَّا تَقْدِيمٌ كُلِّيٌّ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، وَإِمَّا حِفْظُ الْعِبَادَةِ وَقَصْرُهَا عَلَى مِيقَاتِهَا كَمَا قَالَ أَشْهَبُ وَغَيْرُهُ، وَذَلِكَ يَقْوَى فِي النَّظَرِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة تَرْكِ التَّعَرُّضِ لِأَقْوَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِيجَابِ اتِّبَاعِهِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] أَصْلٌ فِي تَرْكِ التَّعَرُّضِ لِأَقْوَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِيجَابِ اتِّبَاعِهِ، وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ؛ وَلِذَلِكَ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَرَضِهِ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِحَفْصَةَ: قُولِي لَهُ: إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ، وَأَنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامَك لَا يُسْمِعُ النَّاسَ مِنْ الْبُكَاءِ، فَمُرْ عَلِيًّا فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ». يَعْنِي بِقَوْلِهِ: صَوَاحِبُ يُوسُفَ الْفِتْنَةَ بِالرَّدِّ عَنْ الْجَائِزِ إلَى غَيْرِ الْجَائِزِ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ بَيَانًا شَافِيًا. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ] الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كَادَ الْخَيِّرَانِ أَنْ يَهْلَكَا: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، رَفَعَا أَصْوَاتَهُمَا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ رَكْبُ بَنِي تَمِيمٍ، فَأَشَارَ أَحَدُهُمَا بِالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ أَخِي بَنِي مُجَاشِعٍ، وَأَشَارَ الْآخَرُ بِرَجُلٍ آخَرَ قَالَ نَافِعٌ عَنْهُ: لَا أَحْفَظُ اسْمَهُ،

[مسألة حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتا كحرمته حيا]

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ: مَا أَرَدْت إلَّا خِلَافِي. قَالَ: مَا أَرَدْت ذَلِكَ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فِي ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2]» الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: فَمَا كَانَ عُمَرُ يَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ] حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ. [مَسْأَلَة حُرْمَة النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيِّتًا كَحُرْمَتِهِ حَيًّا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ حُرْمَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَيِّتًا كَحُرْمَتِهِ حَيًّا، وَكَلَامُهُ الْمَأْثُورُ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي الرِّفْعَةِ مِثْلُ كَلَامِهِ الْمَسْمُوعِ مِنْ لَفْظِهِ؛ فَإِذَا قُرِئَ كَلَامُهُ وَجَبَ عَلَى كُلِّ حَاضِرٍ أَلَّا يَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِ، وَلَا يُعْرِضَ عَنْهُ، كَمَا كَانَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِهِ عِنْدَ تَلَفُّظِهِ بِهِ، وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى دَوَامِ الْحُرْمَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى مُرُورِ الْأَزْمِنَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]. وَكَلَامُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْوَحْيِ وَلَهُ مِنْ الْحُرْمَةِ مِثْلُ مَا لِلْقُرْآنِ إلَّا مَعَانِي مُسْتَثْنَاةٌ، بَيَانُهَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا] الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ مُصَدِّقًا إلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَلَمَّا أَبْصَرُوهُ أَقْبَلُوا نَحْوَهُ فَهَابَهُمْ وَرَجَعَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ ارْتَدُّوا عَنْ الْإِسْلَامِ. فَبَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَثَبَّت وَلَا يَعْجَلَ، فَانْطَلَقَ خَالِدٌ حَتَّى أَتَاهُمْ لَيْلًا، فَبَعَثَ عُيُونَهُ، فَلَمَّا جَاءُوا أَخْبَرُوا خَالِدًا أَنَّهُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِالْإِسْلَامِ، وَسَمِعُوا آذَانَهُمْ وَصَلَاتَهُمْ، فَلَمَّا أَتَاهُمْ خَالِدٌ، وَرَأَى صِحَّةَ مَا ذَكَرُوهُ عَادَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ

[مسألة من ثبت فسقه بطل قوله في الأخبار]

الْآيَةُ». فَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ: «الْعَجَلَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالتَّأَنِّي مِنْ اللَّهِ». [مَسْأَلَة مَنْ ثَبَتَ فِسْقُهُ بَطَلَ قَوْلُهُ فِي الْأَخْبَارِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مَنْ ثَبَتَ فِسْقُهُ بَطَلَ قَوْلُهُ فِي الْأَخْبَارِ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ أَمَانَةٌ، وَالْفِسْقَ قَرِينَةٌ تُبْطِلُهَا، فَأَمَّا فِي الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يَبْطُلُ إجْمَاعًا. وَأَمَّا فِي الْإِنْسَانِ عَلَى غَيْرِهِ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: لَا يَكُونُ وَلِيًّا فِي النِّكَاحِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: يَكُونُ وَلِيًّا؛ لِأَنَّهُ يَلِي مَالَهَا فَيَلِي بُضْعَهَا، كَالْعَدْلِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا فِي دِينِهِ إلَّا أَنَّ غِيرَتَهُ مُوَفَّرَةٌ، وَبِهَا يَحْمِي الْحَرِيمَ، وَقَدْ يَبْذُلُ الْمَالَ وَيَصُونُ الْحُرْمَةَ، فَإِذَا وُلِّيَ الْمَالَ فَالْبُضْعُ أَوْلَى. [مَسْأَلَة إمَامَةَ الْفَاسِقِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَمِنْ الْعَجَبِ أَنْ يُجَوِّزَ الشَّافِعِيُّ وَنُظَرَاؤُهُ إمَامَةَ الْفَاسِقِ وَمَنْ لَا يُؤْتَمَنُ عَلَى حَبَّةِ مَالٍ كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُؤْتَمَنَ عَلَى قِنْطَارِ دِينٍ؛ وَهَذَا إنَّمَا كَانَ أَصْلُهُ أَنَّ الْوُلَاةَ [الَّذِينَ كَانُوا يُصَلُّونَ بِالنَّاسِ] لَمَّا فَسَدَتْ أَدْيَانُهُمْ، وَلَمْ يُمْكِنْ تَرْكُ الصَّلَاةِ وَرَاءَهُمْ، وَلَا اُسْتُطِيعَتْ إزَالَتُهُمْ صَلَّى مَعَهُمْ وَوَرَاءَهُمْ، كَمَا قَالَ عُثْمَانُ: الصَّلَاةُ أَحْسَنُ مَا يَفْعَلُ النَّاسُ، فَإِذَا أَحْسَنُوا فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ، وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إسَاءَتَهُمْ؛ ثُمَّ كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ إذَا صَلَّى مَعَهُمْ تَقِيَّةٌ أَعَادُوا الصَّلَاةَ لِلَّهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَجْعَلُهَا صَلَاتَهُ. وَبِوُجُوبِ الْإِعَادَةِ أَقُولُ؛ فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الصَّلَاةَ خَلْفَ مَنْ لَا يَرْضَى مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَلَكِنْ يُعِيدُ سِرًّا فِي نَفْسِهِ، وَلَا يُؤْثَرُ ذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِهِ.

[مسألة هل يكون الفاسق رسولا عن غيره في قول يبلغه]

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَأَمَّا أَحْكَامُهُ إنْ كَانَ [حَاكِمًا] وَالِيًا فَيُنَفِّذُ مِنْهَا مَا وَافَقَ الْحَقَّ وَيَرُدُّ مَا خَالَفَهُ، وَلَا يَنْقُضُ حُكْمَهُ الَّذِي أَمْضَاهُ بِحَالٍ، وَلَا تَلْتَفِتُوا إلَى غَيْرِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ رِوَايَةٍ ثُؤْثَرُ، أَوْ قَوْلٍ يُحْكَى؛ فَإِنَّ الْكَلَامَ كَثِيرٌ، وَالْحَقَّ ظَاهِرٌ. [مَسْأَلَة هَلْ يَكُونَ الْفَاسِق رَسُولًا عَنْ غَيْرِهِ فِي قَوْلٍ يُبَلِّغُهُ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا عَنْ غَيْرِهِ فِي قَوْلٍ يُبَلِّغُهُ، أَوْ شَيْءٍ يُوَصِّلُهُ أَوْ إذْنٍ يُعَلِّمُهُ، إذَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَقِّ الْمُرْسِلِ وَالْمُبَلِّغِ؛ فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِمَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ. فَهَذَا جَائِزٌ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَصَرَّفْ بَيْنَ الْخَلْقِ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي إلَّا الْعُدُولُ. يَحْصُلُ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِعَدَمِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا] فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]. فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةٍ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ رَوَى عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ كَانَ بَيْنَهُمْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِتَالٌ بِالسَّعَفِ وَالنِّعَالِ وَنَحْوِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ. الثَّانِي: مَا رَوَى سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَتْ بَيْنَهُمَا مُلَاحَاةٌ فِي حَقٍّ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: لَآخُذَنَّهُ عَنْوَةً لِكَثْرَةِ عَشِيرَتِهِ، وَإِنَّ الْآخَرَ

[مسألة حرب المتأولين]

دَعَاهُ إلَى الْمُحَاكِمَةِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَبَى أَنْ يَتْبَعَهُ، وَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ الْأَمْرُ حَتَّى تَدَافَعُوا، وَتَنَاوَلَ بَعْضُهُمْ بِالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ. الثَّالِثُ مَا رَوَاهُ أَسْبَاطُ عَنْ السُّدِّيِّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ تُدْعَى أُمَّ زَيْدٍ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ أَرَادَتْ أَنْ تَزُورَ أَهْلَهَا فَحَبَسَهَا زَوْجُهَا، وَجَعَلَهَا فِي عِلِّيَّةٍ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهَا، وَإِنَّ الْمَرْأَةَ بَعَثَتْ إلَى أَهْلِهَا، فَجَاءَ قَوْمُهَا فَأَنْزَلُوهَا لِيَنْطَلِقُوا بِهَا، فَخَرَجَ الرَّجُلُ فَاسْتَغَاثَ بِأَهْلِهِ؛ فَجَاءَ بَنُو عَمِّهِ لِيَحُولُوا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ أَهْلِهَا؛ فَتَدَافَعُوا وَاجْتَلَدُوا بِالنِّعَالِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ. الرَّابِعُ مَا حَكَى قَوْمٌ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَهْطِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ مِنْ الْخَزْرَجِ وَرَهْطِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ مِنْ الْأَوْسِ، وَسَبَبُهُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ عَلَى حِمَارٍ لَهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَهُوَ فِي مَجْلِسِ قَوْمِهِ، فَرَاثَ حِمَارُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ سَطَعَ غُبَارُهُ، فَأَمْسَكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ، وَقَالَ: لَقَدْ آذَانَا نَتِنُ حِمَارِك. فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَقَالَ: إنَّ حِمَارَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَطْيَبُ رِيحًا مِنْك وَمِنْ أَبِيك؛ فَغَضِبَ قَوْمُهُ وَاقْتَتَلُوا بِالنِّعَالِ وَالْأَيْدِي، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ». الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ: الْأَخِيرَةُ، وَالْآيَةُ تَقْتَضِي جَمِيعَ مَا رُوِيَ لِعُمُومِهَا وَمَا لَمْ يُرْوَ، فَلَا يَصِحُّ تَخْصِيصُهَا بِبَعْضِ الْأَحْوَالِ دُونَ بَعْضٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الطَّائِفَةُ كَلِمَةٌ تُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الْوَاحِدِ مِنْ الْعَدَدِ، وَعَلَى مَا لَا يَحْصُرُهُ عَدَدٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ. [مَسْأَلَة حَرْبِ الْمُتَأَوِّلِينَ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الْأَصْلُ فِي قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْعُمْدَةُ فِي حَرْبِ الْمُتَأَوِّلِينَ، وَعَلَيْهَا عَوَّلَ الصَّحَابَةُ، وَإِلَيْهَا لَجَأَ الْأَعْيَانُ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ، وَإِيَّاهَا عَنَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «يَقْتُلُ عَمَّارًا

الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» وَقَوْلُهُ فِي شَأْنِ الْخَوَارِجِ: «يَخْرُجُونَ عَلَى خَيْرِ فِرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ» أَوْ عَلَى حِينِ فِرْقَةٍ، وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَصَحُّ لِقَتْلِهِمْ أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ، وَكَانَ الَّذِي قَتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ [وَمَنْ كَانَ مَعَهُ] فَتَقَرَّرَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَثَبَتَ بِدَلِيلِ الدِّينِ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ إمَامًا، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ بَاغٍ، وَأَنَّ قِتَالَهُ وَاجِبٌ حَتَّى يَفِيءَ إلَى الْحَقِّ، وَيَنْقَادَ إلَى الصُّلْحِ؛ لِأَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قُتِلَ، وَالصَّحَابَةُ بُرَآءُ مِنْ دَمِهِ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ مِنْ قِتَالِ مَنْ ثَارَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: لَا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ خَلَفَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُمَّتِهِ بِالْقَتْلِ؛ فَصَبَرَ عَلَى الْبَلَاءِ، وَاسْتَسْلَمَ لِلْمِحْنَةِ، وَفَدَى بِنَفْسِهِ الْأُمَّةَ، ثُمَّ لَمْ يُمْكِنْ تَرْكُ النَّاسِ سُدًى، فَعُرِضَتْ الْإِمَامَةُ عَلَى بَاقِي الصَّحَابَةِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ عُمَرُ فِي الشُّورَى، وَتَدَافَعُوهَا، وَكَانَ عَلِيٌّ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا، فَقَبِلَهَا حَوْطَةً عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ تُسْفَكَ دِمَاؤُهَا بِالتَّهَارُجِ وَالْبَاطِلِ، وَيُتَخَرَّقُ أَمْرُهَا إلَى مَا لَا يَتَحَصَّلُ، وَرُبَّمَا تَغَيَّرَ الدِّينُ، وَانْقَضَّ عَمُودُ الْإِسْلَامِ؛ فَلَمَّا بُويِعَ لَهُ طَلَبَ أَهْلِ الشَّامِ فِي شَرْطِ الْبَيْعَةِ التَّمْكِينَ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ وَأَخْذَ الْقَوَدِ مِنْهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ عَلِيٌّ: اُدْخُلُوا فِي الْبَيْعَةِ، وَاطْلُبُوا الْحَقَّ تَصِلُوا إلَيْهِ فَقَالُوا: لَا تَسْتَحِقُّ بَيْعَةً وَقَتَلَةُ عُثْمَانَ مَعَك نَرَاهُمْ صَبَاحًا وَمَسَاءً، فَكَانَ عَلِيٌّ فِي ذَلِكَ أَسَدَّ رَأْيًا، وَأَصْوَبَ قَوْلًا؛ لِأَنَّ عَلِيًّا لَوْ تَعَاطَى الْقَوَدَ مِنْهُمْ لَتَعَصَّبَتْ لَهُمْ قَبَائِلُ، وَصَارَتْ حَرْبًا ثَالِثَةً فَانْتَظَرَ بِهِمْ أَنْ يَسْتَوْثِقَ الْأَمْرُ، وَتَنْعَقِدَ الْبَيْعَةُ الْعَامَّةُ، وَيَقَعَ الطَّلَبُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، فَيَجْرِي الْقَضَاءُ بِالْحَقِّ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ تَأْخِيرُ الْقِصَاصِ إذَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى إثَارَةِ الْفِتْنَةِ أَوْ تَشْتِيتِ الْكَلِمَةِ، وَكَذَلِكَ جَرَى لِطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ؛ فَإِنَّهُمَا مَا خَلَعَا عَلِيًّا عَنْ وِلَايَةٍ، وَلَا اعْتَرَضَا عَلَيْهِ فِي دَيَّانَةٍ، وَإِنَّمَا رَأَيَا أَنَّ الْبُدَاءَةَ بِقَتْلِ أَصْحَابِ عُثْمَانَ أَوْلَى، فَبَقِيَ هُوَ عَلَى رَأْيِهِ لَمْ يُزَعْزِعْهُ عَمَّا رَأَى وَهُوَ كَانَ الصَّوَابُ كَلَامُهُمَا، وَلَا أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ قَوْلُهُمَا. وَكَذَلِكَ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُثْنِي عَلَى صَاحِبِهِ [وَيَذْكُرُ مَا فِيهِ] وَيَشْهَدُ لَهُ بِالْجَنَّةِ، وَيَذْكُرُ مَنَاقِبَهُ؛ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى خِلَافِ هَذَا لَتَبْرَأَ كُلُّ وَاحِدٍ [مِنْهُمَا] مِنْ

[مسألة قتال الفئة الباغية]

صَاحِبِهِ، فَلَمْ يَكُنْ تَقَاتُلُ الْقَوْمِ عَلَى دُنْيَا، وَلَا بَغْيًا بَيْنَهُمْ فِي الْعَقَائِدِ، وَإِنَّمَا كَانَ اخْتِلَافًا فِي اجْتِهَادٍ؛ فَلِذَلِكَ كَانَ جَمِيعُهُمْ فِي الْجَنَّةِ. [مَسْأَلَة قِتَالَ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] أَمَرَ اللَّهُ بِالْقِتَالِ، وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَعْضِ الْبَاقِينَ؛ وَلِذَلِكَ تَخَلَّفَ قَوْمٌ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَنْ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ، كَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ. وَصَوَّبَ ذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لَهُمْ، وَاعْتَذَرَ إلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعُذْرٍ قَبِلَهُ مِنْهُ. وَيُرْوَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا أَفْضَى إلَيْهِ الْأَمْرُ عَاتَبَ سَعْدًا عَلَى مَا فَعَلَ، وَقَالَ لَهُ: لَمْ تَكُنْ مِمَّنْ أَصْلَحَ بَيْنَ الْفِئَتَيْنِ حِينَ اقْتَتَلَا، وَلَا مِمَّنْ قَاتَلَ الْفِئَةَ الْبَاغِيَةَ؛ فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: نَدِمْت عَلَى تَرْكِي قِتَالَ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْكُلِّ دَرَكٌ فِيمَا فَعَلَ، وَإِنَّمَا كَانَ تَصَرُّفًا بِحُكْمِ الِاجْتِهَادِ وَإِعْمَالًا بِمَا اقْتَضَاهُ الشَّرْعُ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْمُقْسِطِ كَلَامَ كُلِّ وَاحِدٍ وَمُتَعَلِّقَهُ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِالصُّلْحِ قَبْلَ الْقِتَالِ، وَعَيَّنَ الْقِتَالَ عِنْدَ الْبَغْيِ؛ فَعَلَ عَلِيٌّ بِمُقْتَضَى حَالِهِ فَإِنَّهُ قَاتَلَ الْبَاغِيَةَ الَّتِي أَرَادَتْ الِاسْتِبْدَادَ عَلَى الْإِمَامِ، وَنَقْضَ مَا رَأَى مِنْ الِاجْتِهَادِ وَالتَّحَيُّزِ عَنْ دَارِ النُّبُوَّةِ وَمَقَرِّ الْخِلَافَةِ بِفِئَةٍ تَطْلُبُ مَا لَيْسَ لَهَا طَلَبُهُ إلَّا بِشَرْطِهِ، مِنْ حُضُورِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَالْقِيَامِ بِالْحُجَّةِ عَلَى الْخَصْمِ؛ وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَقُدْ عَلَيَّ مِنْهُمْ مَا احْتَاجُوا إلَى مُجَاذَبَةٍ؛ فَإِنَّ الْكَافَّةَ كَانَتْ تَخْلَعُهُ، وَاَللَّهُ قَدْ حَفِظَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَصَانَهُ. وَعَمِلَ الْحَسَنُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِمُقْتَضَى حَالِهِ، فَإِنَّهُ صَالَحَ حِينَ اسْتَشْرَى الْأَمْرُ عَلَيْهِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِأَسْبَابٍ سَمَاوِيَّةٍ، وَمَقَادِيرَ أَزَلِيَّةٍ، وَمَوَاعِيدَ مِنْ الصَّادِقِ صَادِقَةٍ، وَمِنْهَا مَا رَأَى مِنْ تَشَتُّتِ آرَاءِ مَنْ مَعَهُ، وَمِنْهَا أَنَّهُ طُعِنَ حِينَ خَرَجَ إلَى مُعَاوِيَةَ فَسَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ وَدَاوَى جُرْحَهُ حَتَّى بَرِئَ؛ فَعَلِمَ أَنَّ عِنْدَهُ مَنْ يُنَافِقُ عَلَيْهِ وَلَا يَأْمَنُهُ عَلَى نَفْسِهِ.

[مسألة حكمة الله في قتال الصحابة]

وَمِنْهَا أَنَّهُ رَأَى الْخَوَارِجَ أَحَاطُوا بِأَطْرَافِهِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ إنْ اشْتَغَلَ بِحَرْبِ مُعَاوِيَةَ اسْتَوْلَى الْخَوَارِجُ عَلَى الْبِلَادِ، وَإِنْ اشْتَغَلَ بِالْخَوَارِجِ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا مُعَاوِيَةُ. وَمِنْهَا أَنَّهُ تَذَكَّرَ وَعْدَ جَدِّهِ الصَّادِقِ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ: «إنَّ ابْنِي هَذَا لَسَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ»، وَإِنَّهُ لَمَا سَارَ الْحَسَنُ إلَى مُعَاوِيَةَ بِالْكِتَابِ فِي أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَقَدِمَ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ بِعَشَرَةِ آلَافٍ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِمُعَاوِيَةَ: إنِّي أَرَى كَتِيبَةً لَا تُوَلِّي أُولَاهَا حَتَّى تُدْبِرَ أُخْرَاهَا. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِعَمْرٍو: مَنْ لِي بِذَرَارِيّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: أَنَا. فَقَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ: تَلْقَاهُ فَتَقُولُ لَهُ: الصُّلْحَ؛ فَصَالَحَهُ، فَنَفَذَ الْوَعْدُ الصَّادِقُ فِي قَوْلِهِ: «إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ». وَبِقَوْلِهِ: «الْخِلَافَةُ ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ تَعُودُ مُلْكًا»، فَكَانَتْ لِأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٌّ، وَلِلْحَسَنِ [مِنْهَا] ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ لَا تَزِيدُ [يَوْمًا] وَلَا تَنْقُصُ يَوْمًا، فَسُبْحَانَ الْمُحِيطِ لَا رَبَّ غَيْرُهُ. [مَسْأَلَة حِكْمَةَ اللَّهِ فِي قِتَالِ الصَّحَابَةِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} [الحجرات: 9] وَهَذَا صَحِيحٌ؛ فَإِنَّ الْعَدْلَ قِوَامُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا؛ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90]. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ الْمُقْسِطِينَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ؛ وَهُمْ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ بَيْنَ النَّاسِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وُلُّوا». وَمِنْ الْعَدْلِ فِي صُلْحِهِمْ أَلَّا يُطَالِبُوا بِمَا جَرَى بَيْنَهُمْ مِنْ دَمٍ وَلَا مَالٍ فَإِنَّهُ تَلَفٌ عَلَى تَأْوِيلٍ. وَفِي طَلَبِهِمْ لَهُ تَنْفِيرٌ لَهُمْ عَنْ الصُّلْحِ وَاسْتِشْرَاءٌ فِي الْبَغْيِ. وَهَذَا أَصْلٌ فِي الْمَصْلَحَةِ؛ وَقَدْ قَالَ لِسَانُ الْأُمَّةِ: إنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ فِي قِتَالِ الصَّحَابَةِ التَّعَرُّفُ مِنْهُمْ لِأَحْكَامِ قِتَالِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ؛ إذْ كَانَتْ أَحْكَامُ قِتَالِ التَّنْزِيلِ قَدْ عُرِفَتْ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلِهِ.

[مسألة قاتل الصديق البغاة والمرتدين]

[مَسْأَلَة قَاتَلَ الصِّدِّيق الْبُغَاةَ وَالْمُرْتَدِّينَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى} [الحجرات: 9] بِنَاءُ (ب غ ي) فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الطَّلَبُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} [الكهف: 64]؛ وَوَقَعَ التَّعْبِيرُ بِهِ هَاهُنَا عَمَّنْ يَبْغِي مَا لَا يَنْبَغِي عَلَى عَادَةِ اللُّغَةِ فِي تَخْصِيصِهِ بِبَعْضِ مُتَعَلِّقَاتِهِ وَهُوَ الَّذِي يَخْرُجُ عَلَى الْإِمَامِ يَبْغِي خَلْعَهُ أَوْ يَمْنَعُ مِنْ الدُّخُولِ فِي طَاعَةٍ لَهُ، أَوْ يَمْنَعُ حَقًّا يُوجِبُهُ عَلَيْهِ بِتَأْوِيلٍ؛ فَإِنْ جَحَدَهُ فَهُوَ مُرْتَدٌّ. وَقَدْ قَاتَلَ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْبُغَاةَ وَالْمُرْتَدِّينَ؛ فَأَمَّا الْبُغَاةُ فَهُمْ الَّذِينَ مَنَعُوا الزَّكَاةَ بِتَأْوِيلٍ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهَا سَقَطَتْ بِمَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَأَمَّا الْمُرْتَدُّونَ فَهُمْ الَّذِينَ أَنْكَرُوا وُجُوبَهَا، وَخَرَجُوا عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بِدَعْوَى نُبُوَّةِ غَيْرِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَاَلَّذِي قَاتَلَ عَلِيٌّ طَائِفَةٌ أَبَوْا الدُّخُولَ فِي بَيْعَتِهِ، وَهُمْ أَهْلُ الشَّامِ؛ وَطَائِفَةٌ خَلَعَتْهُ، وَهُمْ أَهْلُ النَّهْرَوَانِ. وَأَمَّا أَصْحَابُ الْجَمَلِ فَإِنَّمَا خَرَجُوا يَطْلُبُونَ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ الْفِرْقَتَيْنِ. وَكَانَ مِنْ حَقِّ الْجَمِيعِ أَنْ يَصِلُوا إلَيْهِ وَيَجْلِسُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيُطَالِبُوهُ بِمَا رَأَوْا أَنَّهُ عَلَيْهِ؛ فَلَمَّا تَرَكُوا ذَلِكَ بِأَجْمَعِهِمْ صَارُوا بُغَاةً بِجُمْلَتِهِمْ، فَتَنَاوَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَمِيعَهُمْ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي رِوَايَةِ سَحْنُونٍ: إنَّمَا يُقَاتِلُ مَعَ الْإِمَامِ الْعَدْلِ سَوَاءٌ كَانَ الْأَوَّلَ أَوْ الْخَارِجَ عَلَيْهِ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ فَأَمْسِكْ عَنْهُمَا إلَّا أَنْ تُرَادَ بِنَفْسِك أَوْ مَالِكَ أَوْ ظُلْمَ الْمُسْلِمِينَ فَادْفَعْ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: لَا تُقَاتِلُ إلَّا مَعَ إمَامٍ [عَادِلٍ] يُقَدِّمُهُ أَهْلُ الْحَقِّ لِأَنْفُسِهِمْ، وَلَا يَكُونُ إلَّا قُرَشِيًّا، وَغَيْرُهُ لَا حُكْمَ لَهُ، إلَّا أَنْ يَدْعُو إلَى الْإِمَامِ الْقُرَشِيِّ؛ قَالَهُ مَالِكٌ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ لَا تَكُونُ إلَّا لِقُرَشِيٍّ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ: إذَا خَرَجَ عَلَى الْإِمَامِ الْعَدْلِ خَارِجٌ وَجَبَ الدَّفْعُ عَنْهُ، مِثْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَأَمَّا غَيْرُهُ فَدَعْهُ يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْ ظَالِمٍ بِمِثْلِهِ ثُمَّ يَنْتَقِمُ مِنْ

كِلَيْهِمَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا} [الإسراء: 5]. قَالَ مَالِكٌ: إذَا بُويِعَ لِلْإِمَامِ فَقَامَ عَلَيْهِ إخْوَانُهُ قُوتِلُوا إذَا كَانَ الْأُوَلُ عَدْلًا، فَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَلَا بَيْعَةَ لَهُمْ إذَا كَانَ بُويِعَ لَهُمْ عَلَى الْخَوْفِ. قَالَ مَالِكٌ: وَلَا بُدَّ مِنْ إمَامٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي حَدِيثٍ يَرْوِيه مُعَاوِيَةُ: «إذَا كَانَ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَتَانِ فَاقْتُلُوا أَحَدَهُمَا؛ وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَا تَكْرَهُوا الْفِتْنَةَ فَإِنَّهَا حَصَادُ الْمُنَافِقِينَ». الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ لَا يُقْتَلُ أَسِيرُهُمْ، وَلَا يُتْبَعُ مُنْهَزِمُهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُهُمْ لَا قَتْلُهُمْ. وَأَمَّا الَّذِي يُتْلِفُونَهُ مِنْ الْأَمْوَالِ فَعِنْدَنَا أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ فِي نَفْسٍ وَلَا مَالٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَضْمَنُونَ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إتْلَافٌ بِعِدْوَانٍ، فَلْيَلْزَمْ الضَّمَانَ. وَالْمُعَوَّلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ عِنْدَنَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي خُرُوجِهِمْ لَمْ يَتْبَعُوا مُدْبِرًا وَلَا ذَفَّفُوا عَلَى جَرِيحٍ، وَلَا قَتَلُوا أَسِيرًا، وَلَا ضَمِنُوا نَفْسًا وَلَا مَالًا؛ وَهُمْ الْقُدْوَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانَ فِي خُرُوجِهِمْ مِنْ الْحِكْمَةِ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ قِتَالِ الْبُغَاةِ بِخِلَافِ الْكَفَرَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ إنْ وَلَّوْا قَاضِيًا، وَأَخَذُوا زَكَاةً، وَأَقَامُوا حَقًّا بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ جَازَ؛ قَالَهُ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يَجُوزُ بِحَالٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَصْبَغَ أَنَّهُ جَائِزٌ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَقَوْلِ ابْنُ الْقَاسِمِ. وَقَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِغَيْرِ حَقٍّ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ تَوْلِيَتُهُ، فَلَمْ يَجُزْ كَمَا لَوْ كَانُوا بُغَاةً.

[الآية الخامسة قوله تعالى ولا تنابزوا بالألقاب]

الْعُمْدَةُ لَنَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -[فِي خُرُوجِهِمْ] لَمْ يَتْبَعُوا مُدْبِرًا، وَلَا ذَفَّفُوا عَلَى جَرِيحٍ، وَلَا قَتَلُوا أَسِيرًا، وَلَا ضَمِنُوا نَفْسًا وَلَا مَالًا، وَهُمْ الْقُدْوَةُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا انْجَلَتْ الْفِتْنَةُ، وَارْتَفَعَ الْخِلَافُ بِالْهُدْنَةِ وَالصُّلْحِ لَمْ يَعْرِضُوا لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فِي حُكْمٍ. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الَّذِي عِنْدِي أَنَّ ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ؛ لِأَنَّ الْفِتْنَةَ لَمَّا انْجَلَتْ كَانَ الْإِمَامُ هُوَ الْبَاغِي، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يَعْتَرِضُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قِيلَ: فَأَهْلُ مَا وَرَاءِ النَّهْرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إمَامٌ، وَلَمْ يَعْتَرِضْ لَهُمْ حُكْمٌ، قُلْنَا: وَلَا سَمِعْنَا أَنَّهُمْ كَانَ لَهُمْ حُكْمٌ؛ وَإِنَّمَا كَانُوا فِتْنَةً مُجَرَّدَةً، حَتَّى انْجَلَتْ مَعَ الْبَاغِي لَسَكَتَ عَنْهُمْ لِئَلَّا يُعَضِّدَ بِاعْتِرَاضِهِ مَنْ خَرَجُوا عَلَيْهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الْخَامِسَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ] ِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى النَّبْزُ هُوَ اللَّقَبُ فَقَوْلُهُ: لَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ، أَيْ لَا تَدَاعَوْا بِالْأَلْقَابِ. وَاللَّقَبُ هُنَا اسْمٌ مَكْرُوهٌ عِنْدَ السَّامِعِ. وَكَذَلِكَ يُرْوَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَلِكُلِّ رَجُلٍ اسْمَانِ وَثَلَاثَةٌ؛ فَكَانَ يُدْعَى بِاسْمٍ مِنْهَا فَيَغْضَبُ؛ فَنَزَلَتْ: {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات: 11]، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: [مَسْأَلَة ذِكْرُ الصَّاحِبِ بِمَا يَكْرَهُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ: {بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ} [الحجرات: 11] يَعْنِي أَنَّك إذَا ذَكَرْت صَاحِبَك بِمَا يَكْرَهُ فَقَدْ آذَيْته؛ وَإِذَايَةُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ.

[الآية السادسة قوله تعالى يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن]

وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ أَبَا ذَرٍّ كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَازَعَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُ أَبُو ذَرٍّ: يَا ابْنَ الْيَهُودِيَّةِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا تَرَى مِنْ هَاهُنَا مِنْ أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ، مَا أَنْتَ بِأَفْضَلَ مِنْهُ» يَعْنِي إلَّا بِالتَّقْوَى، وَنَزَلَتْ: {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات: 11]. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ مُسْتَثْنَى مِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِعْمَالُ، كَالْأَعْرَجِ وَالْأَحْدَبِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ كَسْبٌ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ مِنْهُ عَلَيْهِ، فَجَوَّزَتْهُ الْأُمَّةُ، فَاتَّفَقَ عَلَى قَوْلِهِ أَهْلُ الْمِلَّةِ. وَقَدْ وَرَدَ لَعَمْرُ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ مَا لَا أَرْضَاهُ، كَقَوْلِهِمْ فِي صَالِحٍ جَزَرَةٌ؛ لِأَنَّهُ صَحَّفَ زَجَرَهُ فَنُقِّبَ بِهَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي مُحَمَّدِ بْنُ سُلَيْمَانَ الْحَضْرَمِيِّ مُطَيَّنٌ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي طِينٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا غَلَبَ عَلَى الْمُتَأَخِّرِينَ. وَلَا أَرَاهُ سَائِغًا فِي الدِّينِ، وَقَدْ كَانَ مُوسَى بْنُ عَلِيِّ بْنُ رَبَاحٍ الْمِصْرِيُّ يَقُولُ: لَا أَجْعَلُ أَحَدًا صَغَّرَ اسْمَ أَبِي فِي حِلٍّ. وَكَانَ الْغَالِبُ عَلَى اسْمِ أَبِيهِ التَّصْغِيرَ بِضَمِّ الْعَيْنِ. وَاَلَّذِي يَضْبِطُ هَذَا كُلَّهُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْكَرَاهَةِ لِأَجْلِ الْإِذَايَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة السَّادِسَة قَوْله تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ] الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي حَقِيقَةِ الظَّنِّ. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّ حَقِيقَةَ الظَّنِّ تَجْوِيزُ أَمْرَيْنِ فِي النَّفْسِ لِأَحَدِهِمَا تَرْجِيحٌ عَلَى الْآخَرِ. وَالشَّكُّ عِبَارَةٌ عَنْ اسْتِوَائِهِمَا. وَالْعِلْمُ هُوَ حَذْفُ أَحَدِهِمَا وَتَعْيِينُ الْآخَرِ. وَقَدْ حَقَقْنَاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ.

[الآية السابعة قوله تعالى يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَنْكَرَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ تَعَبُّدَ اللَّهِ تَعَالَى بِالظَّنِّ، وَجَوَازُ الْعَمَلِ بِهِ تَحَكُّمٌ فِي الدِّينِ، وَدَعْوَى فِي الْعُقُولِ؛ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ أَصْلٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْبَارِي تَعَالَى لَمْ يَذُمَّ جَمِيعَهُ، وَإِنَّمَا وَرَدَ الذَّمُّ كَمَا قَرَّرْنَاهُ آنِفًا فِي بَعْضِهِ. وَمُتَعَلِّقُهُمْ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَقَاطَعُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا». وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الظَّنَّ فِي الشَّرِيعَةِ قِسْمَانِ: مَحْمُودٌ، وَمَذْمُومٌ؛ فَالْمَحْمُودُ بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]، وَقَوْلُهُ: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور: 12]. «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لَا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسَبُهُ كَذَا، وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا». وَعِبَادَاتُ الشَّرْعِ وَأَحْكَامُهُ ظَنِّيَّةٌ فِي الْأَكْثَرِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْغَبِيِّ وَالْفَطِنِ. [الْآيَة السَّابِعَة قَوْله تَعَالَى يَأَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى] الْآيَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].

[مسألة كل أحد يجوز نسبة فإذا نفاه عنه أحد]

فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا، فَالنَّاسُ رَجُلَانِ: بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ؛ وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ} [الحجرات: 13]». وَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْخَلْقَ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَلَوْ شَاءَ لَخَلَقَهُ دُونَهُمَا كَخَلْقِهِ لِآدَمَ، أَوْ دُونَ ذَكَرٍ كَخَلْقِهِ لِعِيسَى، أَوْ دُونَ أُنْثَى كَخَلْقِهِ لِحَوَّاءَ مِنْ إحْدَى الْجِهَتَيْنِ. وَهَذَا الْجَائِزُ فِي الْقُدْرَةِ لَمْ يَرِدْ بِهِ الْوُجُودُ. وَقَدْ جَاءَ أَنَّ آدَمَ خَلَقَ اللَّهُ مِنْهُ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعٍ انْتَزَعَهَا مِنْ أَضْلَاعِهِ، فَلَعَلَّهُ هَذَا الْقِسْمُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ كَيْفِيَّةَ الْخَلْقِ مِنْ مَاءِ الذَّكَرِ وَمَاءِ الْأُنْثَى بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ. [مَسْأَلَة كُلُّ أَحَدٍ يَجُوزُ نِسْبَةً فَإِذَا نَفَاهُ عَنْهُ أَحَدٌ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى أَنْسَابًا وَأَصْهَارًا وَقَبَائِلَ وَشُعُوبًا، وَخَلَقَ لَهُمْ مِنْهَا التَّعَارُفَ، وَجَعَلَ لَهُمْ بِهَا التَّوَاصُلَ، لِلْحِكْمَةِ الَّتِي قَدَّرَهَا، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهَا؛ فَصَارَ كُلُّ أَحَدٍ يَجُوزُ نِسْبَةً، فَإِذَا نَفَاهُ عَنْهُ [أَحَدٌ] اسْتَوْجَبَ الْحَدَّ يَقْذِفُهُ لَهُ، مِثْلُ أَنْ يَنْفِيَهُ عَنْ رَهْطِهِ وَجِنْسِهِ، كَقَوْلِهِ لِلْعَرَبِيِّ: يَا عَجَمِيِّ: يَا عَرَبِيِّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقَعُ بِهِ النَّفْيُ حَقِيقَةً، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ. [مَسْأَلَة نِكَاحِ الْمَوْلَى الْعَرَبِيَّةَ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]: قَدْ بَيَّنَّا الْكَرَمَ، وَأَوْضَحْنَا حَقِيقَتَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ صَحِيحِ الْحَدِيثِ.

وَفِي صَحِيحِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْحَسَبُ الْمَالُ، وَالْكَرَمُ التَّقْوَى». ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنُ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ». وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنِّي لِأَرْجُوَ أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي». وَلِذَلِكَ كَانَ أَكْرَمَ الْبَشَرِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي لَحَظَ مَالِكٌ فِي الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ. رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مَالِكٍ يُزَوَّجُ الْمَوْلَى الْعَرَبِيَّةَ. وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: يُرَاعَى الْحَسَبُ وَالْمَالُ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُقْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَبَنَّى سَالِمًا، وَأَنْكَحَهُ هِنْدَ بِنْتَ أَخِيهِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَهُوَ مَوْلًى لِامْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، وَضُبَاعَةُ بِنْتُ الزُّبَيْرِ كَانَتْ تَحْتَ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ الْكِنْدِيِّ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْمَوْلَى الْعَرَبِيَّةَ. وَإِنَّمَا تُرَاعَى الْكَفَاءَةُ فِي الدِّينِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟ قَالُوا: حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أَنْ يَنْكِحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْمَعَ. قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ. فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ

فِي هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أَلَّا يَنْكِحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَلَّا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَلَّا يُسْمَعَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلِ هَذَا». وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِمَالِهَا وَجَمَالِهَا وَدِينِهَا وَفِي رِوَايَةٍ: وَحَسَبِهَا، فَعَلَيْك بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاك». وَقَدْ خَطَبَ سَلْمَانُ إلَى أَبِي بَكْرٍ ابْنَتَهُ فَأَجَابَهُ وَخَطَبَ إلَى عُمَرَ ابْنَتَهُ فَالْتَوَى عَلَيْهِ، ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا، فَلَمْ يَفْعَلْ سَلْمَانُ، «وَخَطَبَ بِلَالٌ بِنْتَ الْبُكَيْرِ فَأَبَى إخْوَتُهَا، فَقَالَ بِلَالٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَاذَا لَقِيت مِنْ بَنِي الْبُكَيْرِ، خَطَبْت إلَيْهِمْ أُخْتَهمْ فَمَنَعُونِي وَآذُونِي. فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَجْلِ بِلَالٍ؛ فَبَلَغَهُمْ الْخَبَرُ، فَأَتَوْا أُخْتَهُمْ، فَقَالُوا: مَاذَا لَقِينَا مِنْ سَبَبِك، غَضِبَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَجْلِ بِلَالٍ. فَقَالَتْ أُخْتُهُمْ أَمْرِي بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَزَوَّجَهَا بِلَالًا»، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَبِي هِنْدٍ حِينَ حَجَمَهُ: «أَنْكِحُوا أَبَا هِنْدٍ وَأَنْكِحُوا إلَيْهِ وَهُوَ مَوْلَى بَنِي بَيَاضَةَ».

[سورة ق فيها آية واحدة]

[سُورَةُ ق فِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ] [قَوْله تَعَالَى فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ] ٌ] وَهِيَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39] {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 40]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي الصَّحِيحِ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «كُنَّا جُلُوسًا لَيْلَةً مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَظَرَ إلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، فَقَالَ: إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا، لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ؛ فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَلَّا تَغْلِبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا؛ ثُمَّ قَرَأَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39]». [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} [ق: 40] فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ هُوَ تَسْبِيحُ اللَّهِ فِي اللَّيْلِ. الثَّانِي: أَنَّهَا صَلَاةُ اللَّيْلِ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا رَكْعَتَا الْفَجْرِ. الرَّابِعُ أَنَّهَا صَلَاةُ الْعِشَاءِ الْأَخِيرَةِ.

[مسألة معنى قوله تعالى وأدبار السجود]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُ [مَنْ قَالَ] إنَّهُ التَّسْبِيحُ، يُعَضِّدُهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: «مَنْ تَعَارَّ مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ كُفِّرَ عَنْهُ وَغُفِرَ لَهُ». وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا صَلَاةُ اللَّيْلِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ تُسَمَّى تَسْبِيحًا لِمَا فِيهَا مِنْ تَسْبِيحِ اللَّهِ، وَمِنْهُ سُبْحَةُ الضُّحَى وَأَمَّا مَنْ قَالَ إنَّهَا صَلَاةُ الْفَجْرِ والْعِشَاءِ فَلِأَنَّهُمَا مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَالْعِشَاءُ أَوْضَحُهُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَدْبَارَ السُّجُودِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 40] فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ النَّوَافِلُ. الثَّانِي: أَنَّهُ ذِكْرُ اللَّهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ؛ وَهُوَ الْأَقْوَى فِي النَّظَرِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ الْمَكْتُوبَةِ: «لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ».

[مسألة بماذا كان يقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفطر والأضحى]

[مَسْأَلَة بِمَاذَا كَانَ يَقْرَأُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ فِي الصُّبْحِ ق، فَلَمَّا انْتَهَى إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق: 10] رَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ». وَثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ مَاذَا كَانَ يَقْرَأُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى؟ فَقَالَ: «كَانَ يَقْرَأُ بِ قَ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وَاقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ».

[سورة الذاريات فيها ثلاث آيات]

[سُورَةُ الذَّارِيَاتِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى كَانُوا قَلِيلًا مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْهُجُوعُ: النَّوْمُ، وَذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ الْإِقْبَالُ [عَلَى الْأُنْسِ بِالْحَدِيثِ، وَكَانَتْ عَادَتَهُمْ، أَوْ] عَلَى الْوَطْءِ. الثَّانِي الْإِقْبَالُ عَلَى الصَّلَاةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَالْأَوَّلُ [ضَعِيفٌ وَالثَّانِي] بَاطِلٌ. وَلَوْلَا مَخَافَتُنَا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ مُتَعَلِّقٌ يَوْمًا مَا ذَكَرْنَاهُ لِبُطْلَانِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ تَكَلَّمَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ: {كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] لِأَجْلِ أَنَّ ظَاهِرَهُ يُعْطِي أَنَّ نَوْمَهُمْ بِاللَّيْلِ كَانَ قَلِيلًا، وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. وَإِنَّمَا مَدَحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ يُصَلِّي قَلِيلًا؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَيْسَ فِي الْإِمْكَانِ؛ وَإِنَّمَا [مَعْنَاهُ] كَانُوا يَهْجَعُونَ قَلِيلًا مِنْ اللَّيْلِ، أَيْ يَسْهَرُونَ قَلِيلًا. وَمَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى السَّهَرَ بِالْقَلِيلِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْعِبَادِ كُلَّهُ قَلِيلٌ.

[مسألة صلاة الليل]

وَفِي قَوْلِهِ (مَا) اخْتِلَافٌ بَيْنَ النُّحَاةِ: قَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ صِلَةٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ مَعَ الْفِعْلِ بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ؛ وَالْكُلُّ صَحِيحٌ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْمُلْجِئَةِ. [مَسْأَلَة صَلَاةُ اللَّيْلِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ صَلَاةُ اللَّيْلِ مَمْدُوحَةٌ شَرْعًا إجْمَاعًا، وَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ، لِأَجْلِ فَرَاغِ الْقَلْبِ وَضَمَانِ الْإِجَابَةِ، وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. [الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ] َ} [الذاريات: 18]. رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18] قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يَمُدُّ الصَّلَاةَ إلَى السَّحَرِ. قَالَ ابْنُ شَعْبَانَ: يُرِيدُ مَالِكٌ بِالرَّجُلِ الرَّبِيعَ بْنَ خُثَيْمٍ. وَقِيلَ: هِيَ الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَهْلِ قُبَاءَ. وَفِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ هَذَا لُبَابُهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا قَلَّ لَيْلَةٌ تَمُرُّ بِهِمْ إلَّا أَصَابُوا مِنْهَا خَيْرًا. قَالَ الْقَاضِي: وَخَصَّ السَّحَرَ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «جَوْفُ اللَّيْلِ أَسْمَعُ». وَرُوِيَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا ذَهَبَ الثُّلُثُ الْأَوَّلُ، وَفِي رِوَايَةٍ: إذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ، وَأَصَحُّهُ إذَا بَقِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ يَنْزِلُ اللَّهُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ، حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ». [الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ] ِ} [الذاريات: 19]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ} [الذاريات: 19]، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ هَلْ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ أَمْ لَا بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ هَاهُنَا. وَالْأَقْوَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ الزَّكَاةُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ: سَأَلَ سَائِلٌ: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج: 24] {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 25] وَالْحَقُّ الْمَعْلُومُ هُوَ الزَّكَاةُ الَّتِي بَيَّنَ الشَّرْعُ قَدْرَهَا وَجِنْسَهَا وَوَقْتَهَا، فَأَمَّا غَيْرُهَا لِمَنْ يَقُولُ بِهِ فَلَيْسَ بِمَعْلُومٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ وَلَا مُجَنَّسٍ وَلَا مُؤَقَّتٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: {لِلسَّائِلِ} [الذاريات: 19]، وَهُوَ الْمُتَكَفِّفُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ: {وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19]، وَهُوَ الْمُتَعَفِّفُ؛ فَبَيَّنَ أَنَّ لِلسَّائِلِ حَقَّ الْمَسْأَلَةِ وَلِلْمَحْرُومِ حَقَّ الْحَاجَةِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ الَّذِي يُحَرَّمُ الرِّزْقُ. وَقِيلَ: الَّذِي أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ الْمُحْتَرِقَةِ: {قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} [القلم: 26] {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [القلم: 27] وَفِيهِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ لَمْ نُطَوِّلْ بِذِكْرِهَا؛ لِأَنَّ هَذَا أَصَحُّهَا؛ إذْ يَقْتَضِي هَذَا التَّقْسِيمُ أَنَّ الْمُحْتَاجَ إذَا كَانَ مِنْهُ مَنْ يَسْأَلُ فَالْقِسْمُ الثَّانِي هُوَ الَّذِي لَا يَسْأَلُ، وَيَتَنَوَّعُ أَحْوَالُ الْمُتَعَفِّفِ، وَالِاسْمُ يَعُمُّهُ كُلَّهُ، فَإِذَا رَأَيْته فَسَمِّهِ بِهِ، وَاحْكُمْ عَلَيْهِ بِحُكْمِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[سورة الطور فيها آيتان]

[سُورَةُ الطُّورِ فِيهَا آيَتَانِ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21]. وَقُرِئَ: وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ بِإِيمَانٍ. فِيهَا (مَسْأَلَةٌ): الْقِرَاءَتَانِ لِمَعْنَيَيْنِ: أَمَّا إذَا كَانَ اتَّبَعَتْهُمْ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ لِلذُّرِّيَّةِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الذُّرِّيَّةُ مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا تَعْقِلُ الْإِيمَانَ وَتَتَلَفَّظُ بِهِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ الْفِعْلُ وَاقِعًا بِهِمْ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ نِسْبَةً إلَيْهِمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ لِمَنْ كَانَ مِنْ الصِّغَرِ فِي حَدٍّ لَا يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ، وَلَكِنْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ حُكْمَ أَبِيهِ لِفَضْلِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْعِصْمَةِ وَالْحُرْمَةِ. فَأَمَّا إتْبَاعُ الصَّغِيرِ لِأَبِيهِ فِي أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ. وَأَمَّا تَبَعِيَّتُهُ لِأُمِّهِ فَاخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ وَاضْطَرَبَ فِيهِ قَوْلُ مَالِكٍ. وَالصَّحِيحُ فِي الدِّينِ أَنَّهُ يَتْبَعُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَحَدِ أَبَوَيْهِ، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْت أَنَا وَأُمِّي مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ أَنَّ أُمَّهُ أَسْلَمَتْ وَلَمْ يُسْلِمْ الْعَبَّاسُ فَاتَّبَعَ أُمَّهُ فِي الدِّينِ، وَكَانَ لِأَجْلِهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ.

[الآية الثانية قوله تعالى واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا]

فَأَمَّا إذَا كَانَ أَبَوَاهُ كَافِرَيْنِ فَعَقَلَ الْإِسْلَامَ صَغِيرًا وَتَلَفَّظَ بِهِ، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ اخْتِلَافًا كَثِيرًا. وَمَشْهُورُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا. وَالْمَسْأَلَةُ مُشْكِلَةٌ، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهَا بِطُرُقِهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَمِنْ عُمُدِهَا هَذِهِ الْآيَةُ، وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} [الطور: 21]، فَنَسَبَ الْفِعْلَ إلَيْهِمْ؛ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ عَقَلُوهُ وَتَكَلَّمُوا بِهِ؛ فَاعْتُبِرَهُ اللَّهُ، وَجَعَلَ لَهُمْ حُكْمَ الْمُسْلِمِينَ. وَمِنْ الْعُمُدِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُخَالِفَ يَرَى صِحَّةَ رِدَّتِهِ فَكَيْفَ يَصِحُّ اعْتِبَارُ رِدَّتِهِ وَلَا يُعْتَبَرُ إسْلَامُهُ، وَقَدْ احْتَجَّ جَمَاعَةٌ بِإِسْلَامِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ صَغِيرًا وَأَبَوَاهُ كَافِرَانِ. [الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّك فَإِنَّك بِأَعْيُنِنَا] وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48] {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 49]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48] فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: الْمَعْنَى فِيهِ حِينَ تَقُومُ مِنْ الْمَجْلِسِ لِيُكَفِّرَهُ. الثَّانِي: حِينَ تَقُومُ مِنْ النَّوْمِ، لِيَكُونَ مُفْتَتِحًا بِهِ كَلَامَهُ. الثَّالِثُ: حِينَ تَقُومُ مِنْ نَوْمِ الْقَائِلَةِ، وَهِيَ الظُّهْرُ. الرَّابِعُ: التَّسْبِيحُ فِي الصَّلَاةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ مَعْنَاهُ حِينَ تَقُومُ مِنْ الْمَجْلِسِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا يَكْثُرُ فِيهِ لَغَطُهُ، فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ:

سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ، وَأَسْتَغْفِرُك، وَأَتُوبُ إلَيْك إلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ». وَهَذَا الْحَدِيثُ مَعْلُولٌ. جَاءَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ إلَى مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ فَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: دَعْنِي أُقَبِّلُ رِجْلَيْك يَا أُسْتَاذَ الْأُسْتَاذَيْنِ وَسَيِّدَ الْمُحَدِّثِينَ، وَطَبِيبَ الْحَدِيثِ فِي عِلَلِهِ، حَدَّثَك مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كَفَّارَةِ الْمَجْلِسِ فَمَا عِلَّتُهُ؟ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ: هَذَا حَدِيثٌ مَلِيحٌ، وَلَا أَعْلَمُ فِي الدُّنْيَا فِي هَذَا الْبَابِ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ، إلَّا أَنَّهُ مَعْلُولٌ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ بْنُ إسْمَاعِيلَ، أَنْبَأَنَا وُهَيْبٌ، أَنْبَأَنَا سُهَيْلٌ عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَوْلُهُ قَالَ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ هَذَا أَوْلَى، فَإِنَّهُ لَا يُذْكَرُ لِمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ سَمَاعٌ مِنْ سُهَيْلٍ. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَرَادَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ حَدِيثَ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ قَوْلِهِ حَمَلَهُ سُهَيْلٌ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ حَتَّى تَغَيَّرَ حِفْظُهُ بِآخِرَةٍ؛ فَهَذِهِ مَعَانٍ لَا يُحْسِنُهَا إلَّا الْعُلَمَاءُ بِالْحَدِيثِ، فَأَمَّا أَهْلُ الْفِقْهِ فَهُمْ عَنْهَا بِمَعْزِلٍ. وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ: «كُنَّا نَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِائَةَ مَرَّةٍ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ». وَأَمَّا قَوْلُهُ حِينَ يَقُومُ يَعْنِي مِنْ اللَّيْلِ فَفِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ: فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ تَعَارَّ مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ» وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ سُقُوطِ التَّهْلِيلِ. الثَّانِي وَرُوِيَ عَنْهُ «أَنَّهُ قَرَأَ الْعَشْرَ الْخَوَاتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ». وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ،

[مسألة يقرأ في المغرب بالطور]

وَأَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ، فَإِنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ». وَأَمَّا نَوْمُ الْقَائِلَةِ فَلَيْسَ فِيهِ أَثَرٌ، وَهُوَ يَلْحَقُ بِنَوْمِ اللَّيْلِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الصُّبْحُ لِنَوْمِ اللَّيْلِ، وَالظُّهْرُ لِنَوْمِ الْقَائِلِ، وَهُوَ أَصْلُ التَّسْبِيحِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ تَسْبِيحُ الصَّلَاةِ فَهُوَ أَفْضَلُهُ، وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، أَعْظَمُهَا مَا ثَبَتَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ إذَا قَامَ لِلصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ رَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَيَصْنَعُ ذَلِكَ إذَا قَضَى قِرَاءَتَهُ وَأَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ، وَيَضَعُهَا إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ، وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ وَهُوَ قَاعِدٌ، وَإِذَا قَامَ مِنْ السَّجْدَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ كَذَلِكَ وَكَبَّرَ وَيَقُولُ حِينَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بَعْدَ التَّكْبِيرِ: وَجَّهْت وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ؛ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْت وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك أَنْتَ رَبِّي، وَأَنَا عَبْدُك ظَلَمْت نَفْسِي، وَاعْتَرَفْت بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا، وَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْك وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْك، وَإِنَّا بِك وَإِلَيْك لَا مَنْجَى مِنْك، وَلَا مَلْجَأَ إلَّا إلَيْك، أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك». وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ «قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي. فَقَالَ: قُلْ رَبِّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مِنْ عِنْدِك، وَارْحَمْنِي، إنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ». [مَسْأَلَة يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «شَكَوْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنِّي أَشْتَكِي،

فَقَالَ: طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ، وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ. قَالَتْ: فَطُفْت وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَئِذٍ يُصَلِّي إلَى جَنْبِ الْبَيْتِ يَقْرَأُ بِالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ». وَفِيهِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: «سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ بِالطُّورِ فِي الْمَغْرِبِ». قَالَ الْقَاضِي: وَرَدَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَمْرِ أُسَارَى بَدْرٍ وَهُوَ لَمْ يُسْلِمْ بَعْدُ، فَحَضَرَ صَلَاةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: «فَسَمِعْته يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ إلَى قَوْلِهِ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35] كَادَ يَنْخَلِعُ فُؤَادِي، ثُمَّ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيَّ بَعْدُ بِالْإِسْلَامِ».

[سورة النجم]

[سُورَةُ النَّجْمِ] [سَجْدَةَ النَّجْمِ هَلْ هِيَ مِنْ عَزَائِم الْقُرْآن] قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ مَالِكٍ إنَّ سَجْدَةَ النَّجْمِ لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ الْقُرْآنِ، وَرَآهَا ابْنُ وَهْبٍ مِنْ عَزَائِمِهِ، وَكَانَ مَالِكٌ يَسْجُدُهَا فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ. وَرَوَى مَالِكٌ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ بِالنَّجْمِ إذَا هَوَى، فَسَجَدَ فِيهَا، ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ سُورَةً أُخْرَى. وَرَوَى غَيْرُهُ أَنَّ السُّورَةَ الَّتِي وَصَلَهَا بِهَا " إذَا زُلْزِلَتْ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا. " وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ النَّجْمَ، فَسَجَدَ فِيهَا، وَسَجَدَ مَنْ كَانَ مَعَهُ إلَّا شَيْخًا كَبِيرًا أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ مِنْ تُرَابٍ، فَرَفَعَهُ إلَى جَبْهَتِهِ، وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا». قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَلَقَدْ رَأَيْته بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا. وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَ فِيهَا يَعْنِي فِي النَّجْمِ، وَسَجَدَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ». الشَّيْخُ الَّذِي لَمْ يَسْجُدْ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ إذَا قَرَأَهَا عَلَى النَّاسِ سَجَدَ، فَإِذَا قَرَأَهَا وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ رَكَعَ وَسَجَدَ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا قَرَأَ " وَالنَّجْمُ " وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ تَكُونَ بَعْدَهَا قِرَاءَةٌ قَرَأَهَا وَسَجَدَ. وَإِذَا انْتَهَى إلَيْهَا رَكَعَ وَسَجَدَ، وَلَمْ يَرَهَا [عَلِيٌّ] مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: هِيَ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ.

[سورة الرحمن فيها آية واحدة]

[سُورَةُ الرَّحْمَنِ فِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ] [قَوْلُهُ تَعَالَى هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلَّا الْإِحْسَانُ] قَوْلُهُ تَعَالَى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَنَّ جِبْرِيلَ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْإِحْسَانِ، فَقَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك». فَهَذَا إحْسَانُ الْعَبْدِ. وَأَمَّا إحْسَانُ اللَّهِ فَهُوَ دُخُولُ الْحُسْنَى وَهِيَ الْجَنَّةُ، وَلِلْحُسْنَى دَرَجَاتٌ بَيَّنَّاهَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ؛ وَهَذَا مِنْ أَجَلِّهَا قَدْرًا، وَأَكْرَمِهَا أَمْرًا، وَأَحْسَنِهَا ثَوَابًا، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] فَهَذَا تَفْسِيرُهُ.

[سورة الواقعة فيها آية واحدة]

[سُورَةُ الْوَاقِعَةِ فِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ] [قَوْلُهُ تَعَالَى لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ] قَوْله تَعَالَى: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى [هَلْ] هَذِهِ الْآيَةُ مُبَيِّنَةٌ حَالَ الْقُرْآنِ فِي كُتُبِ اللَّهِ أَمْ هِيَ مُبَيِّنَةٌ فِي كُتُبِنَا؟ فَقِيلَ: هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. وَقِيلَ: هُوَ مَا بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ؛ فَهَذَا كِتَابُ اللَّهِ. وَقِيلَ: هِيَ مَصَاحِفُنَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: {لا يَمَسُّهُ} [الواقعة: 79] فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ الْمَسُّ بِالْجَارِحَةِ حَقِيقَةً. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يَجِدُ طَعْمَ نَفْعِهِ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ بِالْقُرْآنِ؛ قَالَهُ الْفَرَّاءُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ: {إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ الْمَلَائِكَةُ طُهِّرُوا مِنْ الشِّرْكِ وَالذُّنُوبِ. الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ الْمُطَهَّرِينَ مِنْ الْحَدَثِ، وَهُمْ الْمُكَلَّفُونَ مِنْ الْآدَمِيِّينَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ هَلْ قَوْلُهُ: {لا يَمَسُّهُ} [الواقعة: 79] نَهْيٌ أَوْ نَفْيٌ؟ فَقِيلَ: لَفْظُهُ لَفْظُ الْخَبَرِ، وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ.

[مسألة إذا أراد أحد أن يمس صحف المصحف هل يجب عليه الوضوء]

وَقِيلَ: هُوَ نَفْيٌ. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقْرَؤُهَا: مَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ، لِتَحْقِيقِ النَّفْيِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ فِي تَنْقِيحِ الْأَقْوَالِ: أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَنَالُهُ فِي وَقْتٍ، وَلَا تَصِلُ إلَيْهِ بِحَالٍ؛ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ ذَلِكَ لَمَا كَانَ لِلِاسْتِثْنَاءِ فِيهِ مَحَلٌّ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: أَنَّهُ الَّذِي بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ مِنْ الصُّحُفِ فَإِنَّهُ قَوْلٌ مُحْتَمَلٌ؛ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ مَالِكٌ قَالَ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْت فِي قَوْلِهِ: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْآيَةِ الَّتِي فِي {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس: 1]: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} [عبس: 12] {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} [عبس: 13] {مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} [عبس: 14] {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} [عبس: 15] {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 16] يُرِيدُ أَنَّ الْمُطَهَّرِينَ هُمْ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ وُصِفُوا بِالطَّهَارَةِ فِي سُورَةِ " عَبَسَ " [مَسْأَلَة إذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَمَسَّ صُحُف الْمُصْحَف هَلْ يَجِب عَلَيْهِ الْوُضُوء] وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ أَمْرٌ بِالتَّوَضُّؤِ [بِالْقُرْآنِ] إذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَمَسَّ صُحُفَهُ، فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ لَفْظَهُ لَفْظُ الْخَبَرِ وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَحَقَّقْنَا أَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ الشَّرْعِ، أَيْ لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ شَرْعًا، فَإِنْ وُجِدَ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ الشَّرْعِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ مَعْنَاهُ لَا يَجِدُ طَعْمَهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ مِنْ الذُّنُوبِ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ فَهُوَ صَحِيحٌ، اخْتَارَهُ الْبُخَارِيُّ؛ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِسْلَامِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبِيًّا»؛ لَكِنَّهُ عُدُولٌ عَنْ الظَّاهِرِ لِغَيْرِ ضَرُورَةِ عَقْلٍ وَلَا دَلِيلِ سَمْعٍ. وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الَّذِي كَتَبَهُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنُسْخَتُهُ: «مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ إلَى شُرَحْبِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، وَالْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، وَنُعَيْمِ

بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، قِيلَ ذِي رُعَيْنٍ وَمَعَافِرَ وَهَمْدَانَ: أَمَّا بَعْدُ وَكَانَ فِي كِتَابِهِ أَلَّا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إلَّا طَاهِرٌ». وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ دَخَلَ عَلَى أُخْتِهِ وَزَوْجِهَا سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَهُمَا يَقْرَآنِ طَهَ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ الْهَيْنَمَةُ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ: هَاتُوا الصَّحِيفَةَ. فَقَالَتْ لَهُ أُخْتُهُ: إنَّهُ لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ فَقَامَ وَاغْتَسَلَ وَأَسْلَمَ. وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَرْثِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَقَدْنَا الْوَحْيَ إذْ وَلَّيْت عَنَّا ... وَوَدَّعَنَا مِنْ اللَّهِ الْكَلَامُ سِوَى مَا قَدْ تَرَكْت لَنَا قَدِيمًا ... تَوَارَثَهُ الْقَرَاطِيسُ الْكِرَامُ وَأَرَادَ صُحُفَ الْقُرْآنِ الَّتِي كَانَتْ بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُمْلِيهَا عَلَى كَتَبَتِهِ. وَقَدْ قَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ مِنْهُمْ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ. وَلَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إلَّا طَاهِرٌ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَمَسُّهُ الْمُحْدِثُ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَمَسُّ ظَاهِرَهُ وَحَوَاشِيَهُ وَمَا لَا مَكْتُوبَ فِيهِ. وَأَمَّا الْكِتَابُ فَلَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ. وَهَذَا إنْ سُلِّمَ مِمَّا يُقَوِّي الْحُجَّةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حَرِيمَ الْمَمْنُوعِ مَمْنُوعٌ، وَفِيمَا كَتَبَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَيْهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[سورة الحديد فيها أربع آيات]

[سُورَةُ الْحَدِيدِ فِيهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3]. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْأَمَدِ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْآخِرُ بِعَيْنِهِ [يَعْنِي] لِأَنَّهُ وَاحِدٌ، وَأَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ الْبَاطِنُ، وَأَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْبَاطِنُ، وَأَنَّ الْآخِرَ هُوَ الظَّاهِرُ؛ إذْ هُوَ تَعَالَى وَاحِدٌ تَخْتَلِفُ أَوْصَافُهُ، وَتَتَعَدَّدُ أَسْمَاؤُهُ، وَهُوَ تَعَالَى وَاحِدٌ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: قَالَ مَالِكٌ: لَا يُحَدُّ وَلَا يُشَبَّهُ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: مَنْ قَرَأَ " يَدُ اللَّهِ " وَأَشَارَ إلَى يَدِهِ، وَقَرَأَ عَيْنُ اللَّهِ، وَأَشَارَ إلَى ذَلِكَ الْعُضْوِ مِنْهُ يُقْطَعُ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ فِي تَقْدِيسِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا أَشْبَهَ إلَيْهِ، وَشَبَّهَهُ بِنَفْسِهِ، فَتُعْدَمُ [نَفْسُهُ وَ] جَارِحَتُهُ الَّتِي شَبَّهَهَا بِاَللَّهِ، وَهَذِهِ غَايَةٌ فِي التَّوْحِيدِ لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهَا مَالِكًا مُوَحِّدٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «ذُكِرَ الدَّجَّالُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ. وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى عَيْنِهِ، وَأَنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ». فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:

[الآية الثانية قوله تعالى وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله]

أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا خَبَرٌ وَاحِدٌ، لَا يُوجِبُ عِلْمًا. الثَّانِي أَنَّ هَذِهِ الْإِشَارَةَ فِي النَّفْيِ لَا فِي الْإِثْبَاتِ، وَفِي التَّقْدِيسِ لَا فِي التَّشْبِيهِ، وَهَذَا نَفِيسٌ فَاعْرِفْهُ. . [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْلُهُ تَعَالَى وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: نَفَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ فَتْحِ مَكَّةَ وَبَيْنَ مَنْ أَنْفَقَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَاجَةَ النَّاسِ كَانَتْ قَبْلَ الْفَتْحِ أَكْثَرُ، لِضَعْفِ الْإِسْلَامِ، وَفِعْلُ ذَلِكَ كَانَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ أَشَقُّ، وَالْأَجْرُ عَلَى قَدْرِ النَّصَبِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة التَّفْضِيلُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحِكْمَةِ وَالْحُكْمِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ أَهْلُ الْفَضْلِ وَالْعَزْمِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10] وَقَدْ بَيَّنَّا نَحْنُ فِيمَا تَقَدَّمَ تَرْتِيبَ أَحْوَالِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَمَنَازِلِهِمْ فِي التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ وَمَرَاتِبِ التَّابِعِينَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إذَا ثَبَتَ انْتِفَاءُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْخَلْقِ وَقَعَ التَّفْضِيلُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحِكْمَةِ وَالْحُكْمِ؛ فَإِنَّ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ يَكُونُ [فِي الدِّينِ وَيَكُونُ] فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، فَأَمَّا فِي أَحْكَامِ الدِّينِ فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نُنْزِلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ، وَأَعْظَمُ الْمَنَازِلِ مَرْتَبَةً الصَّلَاةُ». «وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَرَضِهِ: مُرُوا أَبَا

بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ. فَقِيلَ لَهُ: إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ إذَا قَامَ مَقَامَك لَمْ يُسْمِعْ النَّاسَ مِنْ الْبُكَاءِ، فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ. فَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ». الْحَدِيثَ. فَقَدَّمَ الْمُقَدَّمَ، وَرَاعَى الْأَفْضَلَ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ؛ فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا، وَلَا يَؤُمُّ الرَّجُلُ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يَجْلِسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ». وَفِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِمَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَأَخِيهِ فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا». فَفَهِمَ مِنْهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ أَرَادَ كِبَرَ الْمَنْزِلَةِ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوَلَاءُ لِلْكِبَرِ». وَلَمْ يَعْنِ كِبَرَ السِّنِّ، وَإِنَّمَا أَرَادَ كِبَرَ الْمَنْزِلَةِ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ: وَإِنَّ لِلسِّنِّ حَقًّا. وَرَاعَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَحَقُّ بِالْمُرَاعَاةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ الْعِلْمُ وَالسِّنُّ فِي خَيِّرَيْنِ قُدِّمَ الْعِلْمُ وَأَمَّا أَحْكَامُ الدُّنْيَا فَهِيَ مُرَتَّبَةٌ عَلَى أَحْكَامِ الدِّينِ، فَمَنْ قُدِّمَ فِي الدِّينِ قُدِّمَ فِي الدُّنْيَا. وَفِي الْآثَارِ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْتَرِفْ لِعَالِمِنَا». وَفِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ فِي الْأَفْرَادِ: «مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إلَّا قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ سِنِّهِ مَنْ يُكْرِمُهُ». وَأَنْشَدَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ قَاسِمٍ الْعُثْمَانِيُّ الشَّهِيدُ نَزِيلُ الْقُدْسِ لِابْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ السَّرَقُسْطِيِّ: يَا عَائِبًا لِلشُّيُوخِ مِنْ أَشَرٍ ... دَاخَلَهُ لِلصِّبَا وَمِنْ بَذَخِ اُذْكُرْ إذَا شِئْت أَنْ تَعِيبَهُمْ ... جَدَّك وَاذْكُرْ أَبَاك يَا بْنَ أَخِي

[الآية الثالثة قوله تعالى والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء]

وَاعْلَمْ بِأَنَّ الشَّبَابَ مُنْسَلِخٌ ... عَنْك وَمَا وِزْرُهُ بِمُنْسَلِخِ مَنْ لَا يُعِزُّ الشُّيُوخَ لَا بَلَغَتْ ... يَوْمًا بِهِ سِنُّهُ إلَى الشَّيْخِ [الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمْ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ] ُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [الحديد: 19]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالشُّهَدَاءُ} [الحديد: 19] وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُمْ النَّبِيُّونَ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ الْمُؤْمِنُونَ. الثَّالِثُ أَنَّهُمْ الشُّهَدَاءُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ شَهِيدٌ، أَمَّا الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - فَهُمْ شُهَدَاءُ عَلَى الْأُمَمِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَهُمْ شُهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ [كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]]. وَأَمَّا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ شَهِيدٌ عَلَى الْكُلِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ شَاهِدٍ. وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «خَيْرُ الشُّهَدَاء الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا، وَلَهُ الْأَجْرُ إذَا أَدَّى وَالْإِثْمُ إذَا كَتَمَ». وَنُورُهُمْ [قِيلَ] وَهِيَ:

[الآية الرابعة قوله تعالى ثم قفينا على آثارهم برسلنا]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ هُوَ ظُهُورُ الْحَقِّ بِهِ، وَقِيلَ نُورُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالْكُلُّ صَالِحٌ لِلْقَوْلِ حَاصِلٌ لِلشَّاهِدِ بِالْحَقِّ. وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الشُّهَدَاءَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُمْ الَّذِينَ قَاتَلُوا لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا. وَهُمْ أَوْفَى دَرَجَةً وَأَعْلَى. وَالشُّهَدَاءُ قَدْ بَيَّنَّا عَدَدَهُمْ، وَهُمْ الْمَقْتُولُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. الْمَقْتُولُ دُونَ مَالِهِ [الْمَقْتُولُ دُونَ أَهْلِهِ]. الْمَطْعُونُ. الْغَرِقُ. الْحَرِقُ. الْمَجْنُونُ. الْهَدِيمُ. ذَاتُ الْجَمْعِ. الْمَقْتُولُ ظُلْمًا. أَكِيلُ السَّبْعِ. الْمَيِّتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. مَنْ مَاتَ مِنْ بَطْنٍ فَهُوَ شَهِيدٌ. الْمَرِيضُ شَهِيدٌ. الْغَرِيبُ شَهِيدٌ. صَاحِبُ النَّظْرَةِ شَهِيدٌ. فَهَؤُلَاءِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهِيدًا. وَقَدْ بَيَّنَّاهُمْ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَالَ جَمَاعَةٌ: إنَّ قَوْلَهُ {وَالشُّهَدَاءُ} [الحديد: 19] مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْله تَعَالَى: {الصِّدِّيقُونَ} [الحديد: 19] عَطْفُ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ يَعْنِ ي أَنَّ الصِّدِّيقَ هُوَ الشَّهِيدُ، وَالْكُلُّ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، وَالشُّهَدَاءُ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ وَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ، وَأَظْهَرُهُ عَطْفُ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ. [الْآيَة الرَّابِعَة قَوْلُهُ تَعَالَى ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا] وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الرَّهْبَانِيَّةُ: فَعْلَانِيَّةٌ مِنْ الرَّهَبِ كَالرَّحْمَانِيَّةِ؛ وَقَدْ قُرِئَتْ بِضَمِّ الرَّاءِ وَهِيَ مِنْ الرُّهْبَانِ كالرَّضْوانِيَّةِ مِنْ الرُّضْوَانِ. [وَالرَّهَبُ هُوَ الْخَوْفُ، كَفَى بِهِ عَنْ فِعْلٍ الْتَزَمَ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ وَرَهْبًا مِنْ سَخَطِهِ]. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي تَفْسِيرِهَا: وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهَا رَفْضُ النِّسَاءِ، وَقَدْ نُسِخَ ذَلِكَ فِي دِينِنَا، كَمَا تَقَدَّمَ. الثَّانِي: اتِّخَاذُ الصَّوَامِعِ لِلْعُزْلَةِ؛ وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ عِنْدَ فَسَادِ الزَّمَانِ. الثَّالِثُ: سِيَاحَتُهُمْ، وَهِيَ نَحْوٌ مِنْهُ. الرَّابِعُ رَوَى الْكُوفِيُّونَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ تَدْرِي أَيَّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ قَالَ: قُلْت: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: أَعْلَمُ النَّاسِ أَبْصَرُهُمْ بِالْحَقِّ إذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُقَصِّرًا فِي الْعَمَلِ، وَإِنْ كَانَ يَزْحَفُ عَلَى اسْتِهِ». وَافْتَرَقَ مَنْ [كَانَ] قَبْلَنَا عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، نَجَا مِنْهَا ثَلَاثٌ، وَهَلَكَ سَائِرُهَا: فِرْقَةٌ آزَتْ الْمُلُوكَ، وَقَاتَلَتْهُمْ عَلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عِيسَى حَتَّى قُتِلُوا، وَفِرْقَةٌ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ طَاقَةٌ بِمُوَازَاةِ الْمُلُوكِ أَقَامُوا بَيْنَ ظَهْرَانِي قَوْمِهِمْ يَدْعُونَهُمْ إلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَأَخَذَتْهُمْ الْمُلُوكُ وَقَتَلَهُمْ وَقَطَّعَتْهُمْ بِالْمَنَاشِيرِ، وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طَاقَة بِمُوَازَاةِ الْمُلُوك، وَلَا بِأَنْ يُقِيمُوا بَيْنَ ظَهْرَانِي قَوْمِهِمْ، فَيَدْعُوهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ [وَدِينِهِ] وَدِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَسَاحُوا فِي الْجِبَالِ، وَتَرَهَّبُوا فِيهَا، وَهِيَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27].

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ رُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، وَاسْمُهُ صُدَيُّ بْنُ عَجْلَانَ، وَأَنَّهُ قَالَ: أَحْدَثْتُمْ قِيَامَ رَمَضَانَ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ، إنَّمَا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ؛ فَدُومُوا عَلَى الْقِيَامِ إذَا فَعَلْتُمُوهُ، وَلَا تَتْرُكُوهُ؛ فَإِنَّ نَاسًا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ ابْتَدَعُوا بِدَعًا لَمْ يَكْتُبْهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ، ابْتَغَوْا بِهَا رِضْوَانَ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، فَعَاتَبَهُمْ اللَّهُ بِتَرْكِهَا، فَقَالَ: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27] يَعْنِي تَرَكُوا ذَلِكَ فَعُوقِبُوا عَلَيْهَا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد: 27] مِنْ وَصْفِ الرَّهْبَانِيَّةِ، وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد: 27] مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ابْتَدَعُوهَا} [الحديد: 27]. وَقَدْ زَاغَ قَوْمٌ عَنْ مَنْهَجِ الصَّوَابِ فَظَنُّوا أَنَّهَا رَهْبَانِيَّةٌ كُتِبَتْ عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ الْتَزَمُوهَا، وَلَيْسَ يَخْرُجُ هَذَا مِنْ قَبِيلِ مَضْمُونِ الْكَلَامِ، وَلَا يُعْطِيه أُسْلُوبُهُ وَلَا مَعْنَاهُ، وَلَا يُكْتَبُ عَلَى أَحَدٍ شَيْءٌ إلَّا بِشَرْعٍ أَوْ نَذْرٍ، وَلَيْسَ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْمِلَلِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[سورة المجادلة فيها ست آيات]

[سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ فِيهَا سِتُّ آيَاتٍ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُك فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة: 2] {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 3] فِيهَا تِسْعٌ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةٍ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي سَمَاعِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا قَوْلًا أَوْ غَيْرَهُ، لَا يَخْتَصُّ بِسَمَاعِ الْأَصْوَاتِ، بَلْ كُلُّ مَوْجُودٍ يَسْمَعُهُ وَيَرَاهُ وَيَعْلَمُهُ، وَيَعْلَمُ الْمَعْدُومَ بِأَبْدَعِ بَيَانٍ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ وَالْأُصُولِ، وَكَذَلِكَ أَوْضَحْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ تَعَلُّقُ سَمِعْنَا بِكُلِّ مَوْجُودٍ، وَكَذَلِكَ رُؤْيَتُنَا، وَلَكِنَّ الْبَارِي تَعَالَى أَجْرَى الْعَادَةَ بِتَعَلُّقِ رُؤْيَتِنَا بِالْأَلْوَانِ، وَسَمْعِنَا بِالْأَصْوَاتِ؛ وَلِلَّهِ الْحِكْمَةُ فِيمَا خَصَّ وَالْقُدْرَةُ فِيمَا عَمَّ. [مَسْأَلَة اسْم الْمُجَادِلَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1]: وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْمُجَادِلَةِ وَحَقِيقَتُهَا وَجَوَازُهَا فِي طَلَبِ قَصْدِ الْحَقِّ وَإِظْهَارِهِ، وَأَمْرِ اللَّهِ بِهَا، وَنَسْخِهِ وَتَخْصِيصِهِ لَهَا وَتَعْمِيمِهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَعْيِينِ هَذِهِ الْمُجَادِلَةِ: وَفِيهِ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ: قِيلَ هِيَ خَوْلَةُ امْرَأَةُ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ. وَقِيلَ هِيَ خَوْلَةُ بِنْتُ دُلَيْجٍ. وَقِيلَ: بِنْتُ الصَّامِتِ. وَأُمُّهَا مُعَاذَةُ؛ كَانَتْ أَمَةً لِابْنِ أُبَيٍّ. وَفِيهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} [النور: 33] الْآيَةَ. وَقِيلَ: خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ، وَهِيَ أَشْبَهُهَا؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ ثَعْلَبَةَ جَاءَتْ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهِيَ عَجُوزَةٌ كَبِيرَةٌ، وَالنَّاسُ مَعَهُ، وَهُوَ عَلَى حِمَارٍ قَالَ: فَجَنَحَ إلَيْهَا، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَنْكِبِهَا، وَتَنَحَّى النَّاسُ عَنْهَا، فَنَاجَاهَا طَوِيلًا، ثُمَّ انْطَلَقَتْ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، حَبَسْت رِجَالَاتِ قُرَيْشٍ عَلَى هَذِهِ الْعَجُوزِ. قَالَ: أَتَدْرُونَ مَنْ هِيَ؟ هَذِهِ خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ، سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَهَا مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ؛ فَوَاَللَّهِ لَوْ قَامَتْ هَكَذَا إلَى اللَّيْلِ لَقُمْت مَعَهَا إلَى أَنْ تَحْضُرَ صَلَاةٌ، وَأَنْطَلِقَ لِأُصَلِّيَ ثُمَّ أَرْجِعَ إلَيْهَا. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: تَبَارَكَ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ كُلَّ شَيْءٍ، إنِّي لَأَسْمَعُ كَلَامَ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ، وَيَخْفَى عَلَيَّ بَعْضُهُ، وَهِيَ تَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَفِي تَرَاجِمِ الْبُخَارِيِّ، وَعَنْ تَمِيمِ بْنِ سَلَمَةَ، وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ؛ «قُلْت: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} [المجادلة: 1]». وَنَصُّهُ عَلَى الِاخْتِصَارِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ «لَمَّا ظَاهَرَ أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ مِنْ امْرَأَتِهِ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ قَالَتْ لَهُ: وَاَللَّهِ مَا أَرَاك إلَّا قَدْ أَثِمْت فِي شَأْنِي، لَبِسْت جِدَّتِي، وَأَفْنَيْت شَبَابِي، وَأَكَلْت مَالِي، حَتَّى إذَا كَبِرَتْ سِنِّي، وَرَقَّ عَظْمِي، وَاحْتَجْت إلَيْك فَارَقْتنِي. قَالَ: مَا أَكْرَهَنِي لِذَلِكَ، اذْهَبِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَانْظُرِي هَلْ تَجِدِينَ عِنْدَهُ شَيْئًا فِي أَمْرِك؟ فَأَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَلَمْ تَبْرَحْ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَعْتِقْ رَقَبَةً. قَالَ: لَا أَجِدُ ذَلِكَ. قَالَ: صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؛ أَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ. قَالَ:

[مسألة معنى قوله تعالى وتشتكي إلى الله]

أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا. قَالَ: لَا أَجِدُ. فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَعِيرًا، وَقَالَ: خُذْ هَذَا فَأَطْعِمْهُ». وَرُوِيَ أَيْضًا «أَنَّ سَعِيدًا أَتَى أَبَا سَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ أَحَدَ بَنِي بَيَاضَةَ، كَانَ رَجُلًا ميطا فَلَمَّا جَاءَ شَهْرُ رَمَضَانَ جَعَلَ امْرَأَتَهُ عَلَيْهِ كَأُمِّهِ، فَرَآهَا ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي بِرِيقِ الْقَمَرِ، وَرَأَى بَرِيقَ خَلْخَالِهَا وَسَاقِهَا فَأَعْجَبَتْهُ فَأَتَاهَا، وَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ لَهُ: أَتَيْت بِهَذَا يَا أَبَا سَلَمَةَ ثَلَاثًا؟ فَأَمَرَ النَّبِيُّ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً. قَالَ: مَا أَمْلِكُ غَيْرَ رَقَبَتِي هَذِهِ. فَأَمَرَهُ بِالْإِطْعَامِ. قَالَ: إنَّمَا هِيَ وَجْبَةٌ. قَالَ: صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. قَالَ: مَا مِنْ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ النَّاسُ أَشَدُّ عَلَيَّ مِنْ الصِّيَامِ. قَالَ: فَأَتَى النَّاسُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقِنَاعٍ فِيهِ تَمْرٌ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ هَذَا، فَتَصَدَّقْ بِهِ وَأَطْعِمْهُ عِيَالَك». [وَقِيلَ هَذَا صَخْرُ بْنُ] سَلَمَةَ بْنُ صَخْرِ بْنُ سُلَيْمَانَ الَّذِي أَعْطَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمِجَنَّ يَوْمَ أُحُدٍ. وَقَالَ: وَجْهِي أَحَقُّ بِالْكَلْمِ مِنْ وَجْهِك، وَارْتُثَّ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْقَتْلَى، وَبِهِ رَمَقٌ، وَقَدْ كُلِمَ كُلُومًا كَثِيرَةً، فَمَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُومَهُ، وَاسْتَشْفَى لَهُ فَبَرِئَ، وَفِيهِ نَزَلَتْ آيَةُ الظِّهَارِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1]: رُوِيَ «أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ دُلَيْجٍ ظَاهَرَ مِنْهَا زَوْجُهَا، فَأَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَتْهُ كَذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَدْ حَرُمْت عَلَيْهِ، فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا إلَى السَّمَاءِ فَقَالَتْ: إلَى اللَّهِ أَشْكُو حَاجَتِي إلَيْهِ. ثُمَّ عَادَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حَرُمْت عَلَيْهِ. فَقَالَتْ: إلَى اللَّهِ أَشْكُو حَاجَتِي

[مسألة شبه جملة أهله بظهر أمه]

إلَيْهِ، وَعَائِشَةُ تَغْسِلُ شِقَّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنَ، ثُمَّ تَحَوَّلَتْ إلَى الشِّقِّ الْآخَرِ، وَقَدْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَذَهَبَتْ أَنْ تُعِيدَ، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، اُسْكُتِي، فَإِنَّهُ نَزَلَ الْوَحْيُ. فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِزَوْجِهَا: أَعْتِقْ رَقَبَةً. قَالَ: لَا أَجِدُ. قَالَ: صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. قَالَ: إنْ لَمْ آكُلْ فِي الْيَوْمِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ خِفْت أَنْ يَعْشُوَ بَصَرِي. قَالَ: فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا. قَالَ: فَأَعِنِّي، فَأَعَانَهُ بِشَيْءٍ». [مَسْأَلَة شَبَّهَ جُمْلَةَ أَهْلِهِ بِظَهْرِ أُمِّهِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ} [المجادلة: 2] حَقِيقَتُهُ تَشْبِيهُ ظَهْرٍ [بِظَهْرٍ، وَالْمُوجِبُ لِلْحُكْمِ مِنْهُ تَشْبِيهُ ظَهْرِ] مُحَلَّلٍ بِظَهْرِ مُحَرَّمٍ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ، أُصُولُهَا سَبْعَةٌ: الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: إذَا شَبَّهَ جُمْلَةَ أَهْلِهِ بِظَهْرِ أُمِّهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. الْفَرْعُ الثَّانِي: إذَا شَبَّهَ جُمْلَةَ أَهْلِهِ بِعُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ أُمِّهِ كَانَ ظِهَارًا، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ: إنْ شَبَّهَهَا بِعُضْوٍ يَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ ظِهَارًا، وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ إلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِمْتَاعِ لَا يَحِلُّ لَهُ، وَفِيهِ رَفْعُ التَّشْبِيهِ، وَإِيَّاهُ قَصَدَ الْمُظَاهِرُ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ: إنَّهُ لَا يَكُونُ ظِهَارًا إلَّا فِي الظَّهْرِ وَحْدَهُ؛ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ عُضْوٍ مِنْهَا مُحَرَّمٌ، فَكَانَ التَّشْبِيهُ بِهِ ظِهَارًا كَالظَّهْرِ، وَلِأَنَّ الْمُظَاهِرَ إنَّمَا يَقْصِدُ تَشْبِيهَ الْمُحَلَّلِ بِالْمُحَرَّمِ؛ فَلَزِمَ عَلَى الْمَعْنَى. [مَسْأَلَة شَبَّهَ عُضْوًا مِنْ امْرَأَتِهِ بِظَهْرِ أُمِّهِ] الْفَرْعُ الثَّالِثُ إذَا شَبَّهَ عُضْوًا مِنْ امْرَأَتِهِ بِظَهْرِ أُمِّهِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَا يَكُونُ ظِهَارًا، وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْهُ، لِأَنَّهُ قَدْ وَافَقَنَا عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَيْهِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ؛ فَصَحَّ إضَافَةُ الظِّهَارِ إلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [مَسْأَلَة قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي أَوْ مِثْلُ أُمِّي] الْفَرْعُ الرَّابِعُ إذَا قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي، أَوْ مِثْلُ أُمِّي، فَإِنْ نَوَى ظِهَارًا كَانَ ظِهَارًا، وَإِنْ نَوَى طَلَاقًا كَانَ طَلَاقًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ كَانَ ظِهَارًا.

[مسألة قال أنت علي حرام كظهر أمي]

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: إنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ. وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ أَطْلَقَ تَشْبِيهَ امْرَأَتِهِ بِأُمِّهِ، فَكَانَ ظِهَارًا؛ أَصْلُهُ إذَا ذَكَرَ الظَّهْرَ، وَهَذَا قَوِيٌّ؛ إذْ مَعْنَى اللَّفْظِ فِيهِ مَوْجُودٌ، وَاللَّفْظُ بِمَعْنَاهُ، وَلَمْ يَلْزَمْ حُكْمُ الظَّهْرِ لِلَفْظِهِ، وَإِنَّمَا لَزِمَ لِمَعْنَاهُ وَهُوَ التَّحْرِيمُ. [مَسْأَلَة قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي] الْفَرْعُ الْخَامِسُ إذَا قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي كَانَ ظِهَارًا؛ وَلَمْ يَكُنْ طَلَاقًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ حَرَامٌ يَحْتَمِلُ التَّحْرِيمَ بِالطَّلَاقِ وَهِيَ مُطَلَّقَةٌ، وَيَحْتَمِلُ التَّحْرِيمَ بِالظِّهَارِ، فَلَمَّا صَرَّحَ بِهِ كَانَ تَفْسِيرًا لِأَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ فَقَضَى بِهِ فِيهِ. [مَسْأَلَة شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ] الْفَرْعُ السَّادِسُ إنْ شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ فَإِنْ ذَكَرَ الظَّهْرَ كَانَ ظِهَارًا حَمْلًا عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الظَّهْرَ فَاخْتَلَفَ فِيهِ عُلَمَاؤُنَا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَكُونُ ظِهَارًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَكُونُ طَلَاقًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَكُونُ شَيْئًا؛ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَ مُحَلَّلًا مِنْ الْمَرْأَةِ بِمُحَرَّمٍ، فَكَانَ مُقَيَّدًا بِحُكْمِهِ كَالظَّهْرِ. وَالْأَسْمَاءُ بِمَعَانِيهَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُمْ بِأَلْفَاظِهَا، وَهَذَا نَقْضٌ لِلْأَصْلِ مِنْهُمْ. [مَسْأَلَة قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُخْتِي] الْفَرْعُ السَّابِعُ إذَا قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُخْتِي كَانَ مُظَاهِرًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَكُونُ لَهُ حُكْمٌ، وَهَذِهِ أَشْكَلُ مِنْ الَّتِي قَبْلَهَا. وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِظَهْرٍ مُحَرَّمٍ عَلَيْهِ مُؤَبَّدٍ كَالْأُمِّ. [مَسْأَلَة أَنْكِحَةَ الْكُفَّارِ فَاسِدَةٌ مُسْتَحِقَّةُ الْفَسْخِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَوْلُهُ: {مِنْكُمْ} [المجادلة: 2]. يَعْنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ وَذَلِكَ يَقْتَضِي خُرُوجَ الذِّمِّيِّ مِنْ الْخِطَابِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ. قُلْنَا: هُوَ اسْتِدْلَالٌ بِالِاشْتِقَاقِ. وَالْمَعْنَى فَإِنَّ أَنْكِحَةَ الْكُفَّارِ فَاسِدَةٌ مُسْتَحِقَّةُ الْفَسْخِ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمُ طَلَاقٍ وَلَا ظِهَارٍ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.

[مسألة ظهار العبد]

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَصِحُّ ظِهَارُ الذِّمِّيِّ؛ وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ عُظْمَى. وَقَدْ مَدَدْنَا إطْنَابَ الْقَوْلِ فِيهَا فِي مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ. وَلُبَابُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ وَإِذَا خُوطِبُوا فَإِنَّ أَنْكِحَتَهُمْ فَاسِدَةٌ لِإِخْلَالِهِمْ بِشُرُوطِهَا مِنْ وَلِيٍّ وَأَهْلٍ وَصَدَاقٍ وَوَصْفِ صَدَاقٍ، فَقَدْ يَعْقِدُونَ بِغَيْرِ صَدَاقٍ، وَيَعْقِدُونَ [بِغَيْرِ مَالٍ كَخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، وَيَعْقِدُونَ فِي الْعِدَّةِ وَيَعْقِدُونَ] نِكَاحَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَإِذَا خَلَتْ الْأَنْكِحَةُ عَنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ فَهِيَ فَاسِدَةٌ، وَلَا ظِهَارَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ بِحَالٍ. [مَسْأَلَة ظِهَارِ الْعَبْدِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَهَذَا الدَّلِيلُ بِعَيْنِهِ يَقْتَضِي صِحَّةَ ظِهَارِ الْعَبْدِ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَهُ، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَأَحْكَامُ النِّكَاحِ فِي حَقِّهِ ثَابِتَةٌ، وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْعِتْقُ وَالْإِطْعَامُ فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الصِّيَامِ. [مَسْأَلَة هَلْ عَلَى النِّسَاءِ تَظَاهُرٌ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ تَظَاهُرٌ، إنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] وَلَمْ يَقُلْ: وَاَللَّاتِي يُظَاهِرْنَ مِنْكُنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ، وَإِنَّمَا الظِّهَارُ عَلَى الرِّجَالِ. قَالَ الْقَاضِي: هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَسَالِمٍ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَرَبِيعَةَ، وَأَبِي الزِّنَادِ؛ وَهُوَ صَحِيحٌ مَعْنًى؛ لِأَنَّ الْحَلَّ وَالْعَقْدَ وَالتَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ فِي النِّكَاحِ بِيَدِ الرِّجَالِ، لَيْسَ بِيَدِ الْمَرْأَةِ مِنْهُ شَيْءٌ. وَهَذَا إجْمَاعٌ. [مَسْأَلَة الظِّهَارُ فِي كُلِّ أَمَةٍ يَصِحُّ وَطْؤُهَا] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ يَلْزَمُ الظِّهَارُ فِي كُلِّ أَمَةٍ يَصِحُّ وَطْؤُهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَلْزَمُ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ عَسِيرَةٌ جِدًّا عَلَيْنَا؛ لِأَنَّ مَالِكًا

[مسألة المظاهر الذي به لمم وانتظم في بعض الأوقات]

يَقُولُ: إذَا قَالَ لِأَمَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ لَمْ يَلْزَمْ، فَكَيْفَ يُبْطَلُ صَرِيحُ التَّحْرِيمِ، وَيُصَحَّحُ كِنَايَتُهُ، وَلَكِنْ تَدْخُلُ الْأَمَةُ فِي عُمُومِ: {مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 2]؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مِنْ مُحَلَّلَاتِكُمْ. وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَفْظٌ يَتَعَلَّقُ بِالْبُضْعِ دُونَ رَفْعِ الْعَقْدِ فَيَصِحُّ فِي الْأَمَةِ، أَصْلُهُ الْحَلِفُ بِاَللَّهِ. [مَسْأَلَة الْمُظَاهِر الَّذِي بِهِ لَمَمٌ وَانْتَظَمَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ مَنْ بِهِ لَمَمٌ، وَانْتَظَمَتْ لَهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ الْكَلِمُ إذَا ظَاهَرَ لَزِمَ ظِهَارُهُ، لِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ ثَعْلَبَةَ وَكَانَ زَوْجُهَا أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ وَكَانَ بِهِ لَمَمٌ فَدَاخَلَهُ بَعْضُ لَمَمِهِ، فَظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ». [مَسْأَلَة غَضِبَ فَظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ أَوْ طَلَّقَ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ مَنْ غَضِبَ فَظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ أَوْ طَلَّقَ لَمْ يُسْقِطْ غَضَبُهُ حُكْمَهُ. وَفِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ: حَدَّثَتْنِي خَوْلَةُ امْرَأَةُ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ قَالَتْ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، فَقَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. ثُمَّ خَرَجَ إلَى نَادِي قَوْمِهِ. فَقَوْلُهَا: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ دَلِيلٌ عَلَى مُنَازَعَةٍ أَحْرَجَتْهُ، فَظَاهَرَ مِنْهَا. وَالْغَضَبُ لَغْوٌ لَا يَرْفَعُ حُكْمًا، وَلَا يُغَيِّرُ شَرْعًا. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. [مَسْأَلَة السَّكْرَانُ هَلْ يَلْزَمُهُ حُكْمُ الظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ وَكَذَلِكَ السَّكْرَانُ يَلْزَمُهُ حُكْمُ الظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ فِي حَالِ سُكْرِهِ إذَا عَقَلَ قَوْلَهُ، وَنَظَمَ كَلَامَهُ. [مَسْأَلَة النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ فِي الظِّهَارِ بِالْفِرَاقِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ فِيمَا أَوْرَدْنَاهُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَكَمَ فِي الظِّهَارِ بِالْفِرَاقِ، وَهُوَ الْحُكْمُ بِالتَّحْرِيمِ بِالطَّلَاقِ، حَتَّى نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِالْكَفَّارَةِ. وَهَذَا نَسْخٌ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ، فِي حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ، فِي زَمَانَيْنِ؛ وَذَلِكَ جَائِزٌ عَقْلًا، وَاقِعٌ شَرْعًا. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ النَّسْخِ.

[مسألة هل الظهار يحرم جميع أنواع الاستمتاع]

[مَسْأَلَة هَلْ الظِّهَارُ يُحَرِّمُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الِاسْتِمْتَاعِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ الظِّهَارُ يُحَرِّمُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الِاسْتِمْتَاعِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: " أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي " يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كُلِّ اسْتِمْتَاعٍ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا حُرِّمَ الْوَطْءُ بِالتَّشْبِيهِ بِالْمُحَرَّمَةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كُلِّ الِاسْتِمْتَاعِ. [مَسْأَلَة ظَاهَرَ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ بِشَرْطِ الزَّوَاجِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا ظَاهَرَ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ بِشَرْطِ الزَّوَاجِ لَمْ يَكُنْ ظِهَارًا، وَعِنْدَنَا يَكُونُ ظِهَارًا، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا كَذَلِكَ لَلَزِمَهُ الطَّلَاقُ [إذَا زُوِّجَهَا] لِأَنَّهَا مِنْ نِسَائِهِ حِينَ شَرَطَ نِكَاحَهَا. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَفِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ. [مَسْأَلَة ظَاهَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ إذَا ظَاهَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَلْزَمُهُ أَرْبَعُ كَفَّارَاتٍ؛ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ إنَّمَا وَقَعَ فِي عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا الْمُعَوِّلُ عَلَى الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّهُ لَفْظٌ يَتَعَلَّقُ بِالْفَرْجِ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ لِوَجْهٍ، فَكَانَتْ وَاحِدَةً. وَإِنْ عَلَّقَهُ بِعَدَدٍ، أَصْلُهُ الْإِيلَاءُ، وَمَا أَقْرَبُ مَا بَيْنَهُمَا، وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي الْإِنْصَافِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْمُوجَبَ لَا يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْمَحَلِّ. [مَسْأَلَة الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ وَهُوَ فِي حَالِ الْحَيْضِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2] [فَسَمَّاهُ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا]، ثُمَّ رَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمَهُ [مِنْ الْكَفَّارَةِ وَالتَّحْرِيمِ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ وَهُوَ فِي حَالِ الْحَيْضِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ] إذَا وَقَعَ.

[مسألة معنى قوله تعالى ثم يعودون لما قالوا]

[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ قَوْلُهُ: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3]: وَهُوَ حَرْفٌ مُشْكِلٌ؛ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ. وَمَحْصُولُ الْأَقْوَالِ سَبْعَةٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ؛ وَهُوَ مَشْهُورُ قَوْلِ الْعِرَاقِيِّينَ. الثَّانِي: أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْإِمْسَاكِ. الثَّالِثُ: الْعَزْمُ عَلَيْهِمَا؛ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي مُوَطَّئِهِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ الْوَطْءُ نَفْسُهُ. الْخَامِسُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ أَنْ يُمْسِكَهَا زَوْجَةً بَعْدَ الظِّهَارِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّلَاقِ. السَّادِسُ: أَنَّهُ لَا يَسْتَبِيحُ وَطْأَهَا إلَّا بِكَفَّارَةٍ. السَّابِعُ: هُوَ تَكْرِيرُ الظِّهَارِ بِلَفْظِهِ، وَيُسْنَدُ إلَى بُكَيْر بْنِ الْأَشَجِّ. فَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ الْعَوْدُ إلَى لَفْظِ الظِّهَارِ فَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا، وَلَا يَصِحُّ عَنْ بُكَيْر، وَإِنَّمَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَهَالَةِ دَاوُد وَأَشْيَاعِهِ. وَقَدْ رَوَيْت قِصَصَ الْمُتَظَاهِرِينَ، وَلَيْسَ فِي ذِكْرِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِمْ ذِكْرٌ لِعَوْدِ الْقَوْلِ مِنْهُمْ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَعْنَى يَنْقُضُهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُ بِأَنَّهُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ، فَكَيْفَ يُقَالُ لَهُ إذَا أَعَدْت الْقَوْلَ الْمُحَرَّمَ وَالسَّبَبَ الْمَحْظُورَ وَجَبَتْ عَلَيْك الْكَفَّارَةُ، وَهَذَا لَا يُعْقَلُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ سَبَبٍ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ لَا تُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِعَادَةُ مِنْ قَتْلٍ وَوَطْءٍ فِي صَوْمٍ وَنَحْوِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّهُ تَرْكُ الطَّلَاقِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَيَنْقُضُهُ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ أُمَّهَاتٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَالَ {ثُمَّ} [المجادلة: 3] وَهَذَا بِظَاهِرِهِ يَقْتَضِي التَّرَاخِيَ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ {ثُمَّ يَعُودُونَ} [المجادلة: 3] يَقْتَضِي وُجُودَ فِعْلٍ مِنْ جِهَتِهِ، وَمُرُورُ الزَّمَانِ لَيْسَ بِفِعْلٍ مِنْهُ.

[مسألة وطئ قبل الكفارة]

الثَّالِثُ: أَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُنَافِي الْبَقَاءَ عَلَى الْمِلْكِ، فَلَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ الظِّهَارِ كَالْإِيلَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا رَآهَا كَالْأُمِّ لَمْ يُمْسِكْهَا؛ إذْ لَا يَصِحُّ إمْسَاكُ الْأُمِّ بِالنِّكَاحِ. وَهَذَا عُمْدَةُ أَهْلِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ. قُلْنَا: إذَا عَزَمَ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ، وَرَآهَا خِلَافَ الْأُمِّ كَفَّرَ، وَعَادَ إلَى أَهْلِهِ. وَتَحْقِيقُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْعَزْمَ قَوْلٌ نَفْسِيٌّ، وَهَذَا رَجُلٌ قَالَ قَوْلًا يَقْتَضِي التَّحْلِيلَ، وَهُوَ النِّكَاحُ، وَقَالَ قَوْلًا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَهُوَ الظِّهَارُ، ثُمَّ عَادَ لِمَا قَالَ، وَهُوَ قَوْلُ التَّحْلِيلِ؛ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ ابْتِدَاءَ عَقْدٍ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ بَاقٍ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّهُ قَوْلُ عَزْمٍ يُخَالِفُ مَا اعْتَقَدَهُ، وَقَالَهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ الظِّهَارِ الَّذِي أَخْبَرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَفَّرَ، وَعَادَ إلَى أَهْلِهِ لِقَوْلِهِ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3]، وَهَذَا تَفْسِيرٌ بَالِغٌ فِي فَنِّهِ. فَإِنْ قِيلَ: الْعَزْمُ عَلَى الْفِعْلِ مُحَرَّمٌ، فَلَا أَثَرَ لَهُ فِي مُوَافَقَةِ الْمُحَرَّمِ. قُلْنَا: هَذَا لَا مَعْنَى لَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَعْزِمُ عَلَى مَا يَجُوزُ لَهُ بِمُحَلَّلٍ، وَهُوَ الْكَفَّارَةُ. [مَسْأَلَة وَطِئَ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَ حَتَّى يُكَفِّرَ، فَإِنْ وَطِئَ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ لَمْ تَتَعَدَّدْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ. قُلْنَا: أَمَّا الْكَفَّارَةُ الْوَاحِدَةُ فَقُرْآنِيَّةٌ سُنِّيَّةٌ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَقَوْلٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْإِنْصَافِ، عَلَى أَنَّ جَمَاعَةً رَوَوْا مِنْهُمْ النَّسَائِيّ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ قَدْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ، فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي قَدْ ظَاهَرْت مِنْ امْرَأَتِي، فَوَقَعْت عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ أُكَفِّرَ. قَالَ: مَا حَمَلَك عَلَى ذَلِكَ يَرْحَمُك اللَّهُ، قَالَ: رَأَيْت خَلْخَالَهَا فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ. فَقَالَ: لَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَك اللَّهُ».

[مسألة طلقها ثلاثا بعد الظهار ثم عادت إليه بنكاح جديد]

[مَسْأَلَة طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بَعْد الظِّهَار ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ] الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بَعْدَ الظِّهَارِ، ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ لَمْ يَطَأْ حَتَّى يُكَفِّرَ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَبَنَاهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ الْعَوْدِ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ، فَلَا مَعْنًى لِإِعَادَتِهِ. [مَسْأَلَة ظَاهَرَ مُوَقِّتًا بِزَمَانٍ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ إذَا ظَاهَرَ مُوَقِّتًا بِزَمَانٍ. قَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُهُ مُؤَبَّدًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَلْغُو؛ وَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الظِّهَارِ عُمُومٌ فِي الْمُؤَقَّتِ وَالْمُؤَبَّدِ. وَإِذَا وَقَعَ التَّحْرِيمُ بِالظِّهَارِ لَمْ يَرْفَعْهُ مُرُورُ الزَّمَانِ، وَإِنَّمَا تَرْفَعُهُ الْكَفَّارَةُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ رَافِعَةً لَهُ. وَقَدْ وَافَقَنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ زَمَانًا مُؤَقَّتًا لَزِمَهُ الطَّلَاقُ عَامًّا، وَلَا انْفِصَالَ لَهُ عَنْهُ. [مَسْأَلَة شُرُوط عِتْق الرَّقَبَة الظِّهَار] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذِكْرِ الرَّقَبَةِ، وَأَنَّهَا السَّلِيمَةُ مِنْ الْعُيُوبِ، وَفِي أَنَّهَا الْمُؤْمِنَةُ لَيْسَتْ الْكَافِرَةَ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ وَأَنَّهَا مَنْ لَا شَائِبَةَ لِلْحُرِّيَّةِ فِيهَا، كَالْمُكَاتَبَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي الْجَمِيعِ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا تُجْزِي، فَالْمُكَاتَبَةُ مِثْلُهَا؛ لِأَنَّ [عَقْدَ] الْحُرِّيَّةِ قَدْ ثَبَتَ لَهَا، وَهِيَ مِنْ السَّيِّدِ فِي حُكْمِ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَرَجَّحْنَا أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ أَشْبَهُ بِأُمِّ الْوَلَدِ مِنْهَا بِالْأَمَةِ، وَكَذَلِكَ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ عَدَدِ الْمَسَاكِينِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. [مَسْأَلَة هَلْ الْمُعْتَبَرُ فِي كَفَّارَة الظِّهَار حَالُ الْوُجُوبِ أَوْ حَالُ الْأَدَاءِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا هَلْ الْمُعْتَبَرُ فِي الْكَفَّارَةِ حَالُ الْوُجُوبِ أَوْ حَالُ الْأَدَاءِ؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ:

[مسألة المعتبر الوسط من الإطعام في الكفارة]

يُعْتَبَرُ حَالُ الْأَدَاءِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْنِ. وَقَالَهُ مَالِكٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ أَيْضًا. وَالثَّانِي الِاعْتِبَارُ بِحَالِ الْوُجُوبِ. وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ؛ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَظَاهِرُ قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] [فِيهِ] يَرْتَبِطُ الْوُجُوبُ بِالْعَوْدِ، وَفِيهِ يَرْتَبِطُ كَيْفَمَا كَانَتْ حَالَةُ الِارْتِبَاطِ، بَيْدَ أَنَّهُ لِلْمَسْأَلَةِ حَرْفٌ جَرَى فِي أَلْسِنَةِ عُلَمَائِنَا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَهُوَ مَقْصُودُ الْمَسْأَلَةِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْكَفَّارَةِ صِفَةُ الْعِبَادَةِ أَوْ صِفَةُ الْعُقُوبَةِ. وَالشَّافِعِيُّ اعْتَبَرَ صِفَةَ الْعُقُوبَةِ؛ وَنَحْنُ اعْتَبَرْنَا صِفَةَ الْقُرْبَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ؛ فَإِذَا كَانَ الْمُعْتَبَرُ صِفَةَ الْقُرْبَةِ فَالْقُرْبُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي حَالِ الْإِجْزَاءِ خَاصَّةً بِحَالِ الْأَدَاءِ كَالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ، وَاَلَّذِي يُعْتَبَرُ فِيهِ حَالَةُ الْوُجُوبِ هِيَ الْحُدُودُ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا وَجَبَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ قَائِمًا، ثُمَّ عَجَزَ فَقَعَدَ فِيهَا فَهَذَا مِنْ الْمُغَايِرِ لِلْقُرْبَةِ فِي الْهَيْئَاتِ، بِخِلَافِ الْعِتْقِ وَالصَّوْمِ فَإِنَّهُمَا جِنْسَانِ، وَعَلَيْهِ عَوَّلَ أَبُو الْمَعَالِي. قُلْنَا: إنْ كَانَ الْعِتْقُ وَالصَّوْمُ جِنْسَيْنِ فَإِنَّ الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ ضِدَّانِ، فَالْخُرُوجُ مِنْ جِنْسٍ إلَى جِنْسٍ أَقْرَبُ مِنْ الْعُدُولِ مِنْ ضِدٍّ إلَى ضِدٍّ. فَإِنْ قِيلَ: الطَّهَارَةُ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً لِنَفْسِهَا، وَإِنَّمَا تُرَادُ لِلصَّلَاةِ؛ فَاعْتُبِرَ حَالُ فِعْلِ الصَّلَاةِ فِيهَا. قُلْنَا: وَكَذَلِكَ الْكَفَّارَةُ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً لِنَفْسِهَا، وَإِنَّمَا تُرَادُ لِحِلِّ الْمَسِيسِ؛ فَإِذَا اُحْتِيجَ إلَى الْمَسِيسِ اُعْتُبِرَتْ الْحَالَةُ الْمَذْكُورَةُ فِيهَا. [مَسْأَلَة الْمُعْتَبَرَ الْوَسَطُ مِنْ الْإِطْعَامِ فِي الْكَفَّارَة] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ قَدْ بَيَّنَّا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْوَسَطُ مِنْ الْإِطْعَامِ، وَهُوَ مُدٌّ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ: مُدٌّ بِمُدِّ هِشَامٍ، وَهُوَ الشِّبَعُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَقَ الطَّعَامَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْوَسَطَ.

وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ: مُدَّانِ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قِيلَ لَهُ: أَلَمْ تَكُنْ قُلْت: مُدُّ هِشَامٍ، قَالَ: بَلَى، وَمُدَّانِ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَبُّ إلَيَّ. وَكَذَلِكَ قَالَ عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ أَيْضًا. وَمُدُّ هِشَامٍ هُوَ مُدَّانِ غَيْرُ ثُلُثٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ أَشْهَبُ: قُلْت لَهُ: أَيَخْتَلِفُ الشِّبَعُ عِنْدَنَا وَعِنْدَكُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ. الشِّبَعُ عِنْدَنَا مُدٌّ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالشِّبَعُ عِنْدَكُمْ أَكْثَرُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا لَنَا بِالْبَرَكَةِ دُونَكُمْ، وَأَنْتُمْ تَأْكُلُونَ أَكْثَرَ مِمَّا نَأْكُلُ نَحْنُ، وَهَذَا بَيِّنٌ جِدًّا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَقَعَ الْكَلَامُ هَاهُنَا كَمَا تَرَوْنَ فِي مُدِّ هِشَامٍ، وَدِدْت أَنْ يُهَشِّمَ الزَّمَانُ ذِكْرَهُ، وَيَمْحُوَ مِنْ الْكُتُبِ رَسْمَهُ؛ فَإِنَّ الْمَدِينَةَ الَّتِي نَزَلَ الْوَحْيُ بِهَا، وَاسْتَقَرَّ بِهَا الرَّسُولُ، وَوَقَعَ عِنْدَهُمْ الظِّهَارُ وَقِيلَ لَهُمْ فِيهِ: «فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا» فَهِمُوهُ وَعَرَفُوا الْمُرَادَ بِهِ، وَأَنَّهُ الشِّبَعُ، وَقَدْرُهُ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ مُتَقَدِّرٌ لَدَيْهِمْ، فَقَدْ كَانُوا يَجُوعُونَ لِحَاجَةٍ وَيَشْبَعُونَ بِسُنَّةٍ لَا بِشَهْوَةٍ [وَمَجَاعَةٍ]، وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ الشِّبَعِ فِي الْأَخْبَارِ كَثِيرًا، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ فِي الْأَنْوَارِ، وَاسْتَمَرَّتْ الْحَالُ عَلَى ذَلِكَ أَيَّامَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، حَتَّى نَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِ هِشَامٍ، فَرَأَى مُدَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُشْبِعُهُ، وَلَا مِثْلَهُ مِنْ حَاشِيهِ وَنُظَرَائِهِ، فَسَوَّلَ لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ مُدًّا يَكُونُ فِيهِ شِبَعُهُ، فَجَعَلَهُ رَطْلَيْنِ، وَحَمَلَ النَّاسَ عَلَيْهِ، فَإِذَا ابْتَلَّ عَادَ نَحْوَ ثَلَاثَةِ أَرْطَالٍ، فَغَيَّرَ السُّنَّةَ، وَأَذْهَبَ مَحَلَّ الْبَرَكَةِ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ دَعَا رَبَّهُ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ بِالْبَرَكَةِ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ: مِثْلَ مَا بَارَكَ لِإِبْرَاهِيمَ بِمَكَّةَ. فَكَانَتْ الْبَرَكَةُ تَجْرِي بِدَعْوَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مُدِّهِ، فَسَعَى الشَّيْطَانُ فِي تَغْيِيرِ هَذِهِ السُّنَّةِ وَإِذْهَابِ الْبَرَكَةِ، فَلَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ فِي ذَلِكَ إلَّا هِشَامٌ، فَكَانَ مِنْ حَقِّ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُلْغُوا ذِكْرَهُ، وَيَمْحُوا رَسْمَهُ، وَإِذَا لَمْ يُغَيِّرُوا أَمْرَهُ، وَأَمَّا أَنْ يُحِيلُوا عَلَى ذِكْرِهِ فِي الْأَحْكَامِ، وَيَجْعَلُوهُ تَفْسِيرًا لِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُفَسِّرًا عِنْدَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ نَزَلَ عَلَيْهِمْ فَخَطْبٌ جَسِيمٌ؛ وَلِذَلِكَ كَانَتْ رِوَايَةُ أَشْهَبَ فِي ذِكْرِ مُدَّيْنِ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ أَحَبَّ إلَيْنَا مِنْ الرِّوَايَةِ بِأَنَّهَا بِمُدِّ هِشَامٍ.

[مسألة الوطء للزوجة في ليل صوم الظهار]

أَلَا تَرَى كَيْفَ نَبَّهَ مَالِكٌ عَلَى هَذَا الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ [لِأَشْهَبَ]: الشِّبَعُ عِنْدَنَا بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالشِّبَعُ عِنْدَكُمْ أَكْثَرُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا لَنَا بِالْبَرَكَةِ، وَبِهَذَا أَقُولُ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ إذَا أُدِّيَتْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي الْبَدَنِ كَانَ أَسْرَعَ لِلْقَبُولِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَالِ كَانَ قَلِيلُهَا أَثْقَلَ فِي الْمِيزَانِ، وَأَبْرَكَ فِي يَدِ الْآخِذِ، وَأَطْيَبَ فِي شِدْقِهِ، وَأَقَلَّ آفَةً فِي بَطْنِهِ، وَأَكْثَرَ إقَامَةً لِصُلْبِهِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ. [مَسْأَلَة الْوَطْءَ لِلزَّوْجَةِ فِي لَيْلِ صَوْمِ الظِّهَارِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْلُهُ: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] يَقْتَضِي أَنَّ الْوَطْءَ لِلزَّوْجَةِ فِي لَيْلِ صَوْمِ الظِّهَارِ يُبْطِلُ الْكَفَّارَةَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَرَطَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فِعْلَهَا قَبْلِ التَّمَاسِّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّمَا يَكُونُ شَرْطُ الْمَسِيسِ فِي الْوَطْءِ بِالنَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ. قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الصَّوْمَ قَبْلَ التَّمَاسِّ، فَإِذَا وَطِئَ فِيهِ فَقَدْ [تَعَذَّرَ كَوْنُهُ قَبْلَهُ، فَإِذَا أَتَمَّهَا كَانَ بَعْضُ الْكَفَّارَةِ قَبْلَهُ، وَإِذَا اسْتَأْنَفَهَا] كَانَ الْوَطْءُ قَبْلَ جَمِيعِهَا، وَامْتِثَالُ الْأَمْرِ فِي بَعْضِهَا أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ فِي جَمِيعِهَا. قُلْنَا: هَذَا كَلَامُ مَنْ لَمْ يُذَقْ طَعْمَ الْفِقْهِ؛ فَإِنَّ الْوَطْءَ الْوَاقِعَ فِي خِلَالِ الصَّوْمِ لَيْسَ بِالْمُحَلِّ الْمَأْذُونِ فِيهِ بِالْكَفَّارَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَطْءُ تَعَدٍّ، فَلَا بُدَّ مِنْ الِامْتِثَالِ لِلْأَمْرِ بِصَوْمٍ لَا يَكُونُ فِي أَثْنَائِهِ وَطْءٌ. [مَسْأَلَة الْحَجْرُ عَلَى الْحُرِّ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ مِنْ غَرِيبِ الْأَمْرِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: الْحَجْرُ عَلَى الْحُرِّ بَاطِلٌ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3]، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ السَّفِيهِ وَالرَّشِيدِ. وَهَذَا فِقْهٌ ضَعِيفٌ لَا يُنَاسِبُ قَدْرَهُ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ، وَقَدْ كَانَ الْقَضَاءُ بِالْحَجْرِ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاشِيًا، وَالنَّظَرُ يَقْتَضِيهِ. وَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ حَجْرٌ لِصِغَرٍ أَوْ لِوِلَايَةٍ، وَبَلَغَ سَفِيهًا قَدْ نُهِيَ عَنْ دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ فَكَيْفَ يَنْفُذُ فِعْلُهُ فِيهِ؟ وَالْخَاصُّ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ.

[الآية الثانية قوله تعالى ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه]

[الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنْ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ] ُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة: 8]. لَا خِلَافَ بَيْنَ النَّقَلَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ الْيَهُودُ، كَانُوا يَأْتُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَقُولُونَ: السَّامُ عَلَيْك؛ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ السَّلَامَ ظَاهِرًا، وَهُمْ يَعْنُونَ الْمَوْتَ بَاطِنًا، فَيَقُولُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَلَيْكُمْ [فِي رِوَايَةٍ]، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: وَعَلَيْكُمْ بِالْوَاوِ، وَهِيَ مُشْكِلَةٌ. وَكَانُوا يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا مَا أَمْهَلَنَا اللَّهُ بِسِبِّهِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِ؛ وَجَهِلُوا أَنَّ الْبَارِئَ تَعَالَى حَلِيمٌ لَا يُعَاجِلُ مَنْ سَبَّهُ، فَكَيْفَ مَنْ سَبَّ نَبِيَّهُ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا أَحَدَ أَصَبْرُ عَلَى الْأَذَى مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، يَدَّعُونَ لَهُ الصَّاحِبَةَ وَالْوَلَدَ، وَهُوَ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ». فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا كَشْفًا لِسَرَائِرِهِمْ، وَفَضْحًا لِبَوَاطِنِهِمْ، وَمُعْجِزَةً لِرَسُولِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا شَرْحَ هَذَا فِي مُخْتَصَرِ النَّيِّرَيْنِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ يَهُودِيًّا أَتَى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: السَّامُ عَلَيْكُمْ، فَرَدَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتَدْرُونَ مَا قَالَ هَذَا؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: قَالَ كَذَا؛ رُدُّوهُ عَلَيَّ، فَرَدُّوهُ. قَالَ: قُلْت: السَّامُ عَلَيْكُمْ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ ذَلِكَ: إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا: عَلَيْك مَا قُلْت». فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} [المجادلة: 8].

[الآية الثالثة قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا]

[الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا] يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي تَفْسِيرِ الْمَجْلِسِ: فِيهِ أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَجْلِسُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَكَانَ قَوْمٌ إذَا أَخَذُوا فِيهِ مَقَاعِدَهُمْ شَحُّوا عَلَى الدَّاخِلِ أَنْ يَفْسَحُوا لَهُ. وَلَقَدْ أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْكَرَامِيُّ بِهَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بُكَيْر الْغَلَّابِيُّ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ بَكَّارٍ الضَّبِّيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى الْأَنْصَارِيُّ عَنْ عَمِّهِ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ [عَنْ أَنَسٍ] قَالَ: «بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ، وَقَدْ أَطَافَ بِهِ أَصْحَابُهُ إذْ أَقْبَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَوَقَفَ وَسَلَّمَ، ثُمَّ نَظَرَ مَجْلِسًا يُشْبِهُهُ؛ فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ أَيِّهِمْ يُوَسِّعُ لَهُ؛ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ جَالِسًا عَلَى يَمِينِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَزَحْزَحَ لَهُ عَنْ مَجْلِسِهِ، وَقَالَ: هَا هُنَا يَا أَبَا الْحَسَنِ، فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ أَبِي بَكْرٍ. قَالَ: فَرَأَيْنَا السُّرُورَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ؛ إنَّمَا يَعْرِفُ الْفَضْلَ لِأَهْلِ الْفَضْلِ ذَوُو الْفَضْلِ». الثَّانِي: أَنَّهُ الْمَسْجِدُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَجْلِسُ الذِّكْرِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ مَوْقِفُ الصَّفِّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي الْقِتَالِ.

[مسألة معنى قوله تعالى انشزوا فانشزوا]

وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجَمِيعَ مُرَادٌ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ مُحْتَمِلٌ لَهُ، وَالتَّفَسُّحُ وَاجِبٌ فِيهِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى اُنْشُزُوا فَانْشُزُوا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: {انْشُزُوا فَانْشُزُوا} [المجادلة: 11]: فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا جَلَسُوا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَجْلِسِهِ أَطَالُوا، يَرْغَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهِ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ أَنْ يَرْتَفِعُوا. الثَّانِي: أَنَّهُ الْأَمْرُ بِالِارْتِفَاعِ إلَى الْقِتَالِ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَوْضِعُ الصَّلَاةِ؛ قَالَهُ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ الْخَيْرُ كُلُّهُ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ. وَهُوَ الصَّحِيحُ، كَمَا بَيَّنَّاهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الْفُسْحَةُ كُلُّ فَرَاغٍ بَيْنَ مَلَأَيْنِ. وَالنَّشْزُ: مَا ارْتَفَعَ مِنْ الْأَرْضِ. ذَكَرَ الْأَوَّلَ بِلَفْظِهِ وَحَقِيقَتِهِ، وَضَرَبَ الْمَثَلَ لِلثَّانِي فِي الِارْتِفَاعِ؛ فَصَارَ مَجَازًا فِي اللَّفْظِ حَقِيقَةً فِي الْمَعْنَى. [مَسْأَلَة كَيْفِيَّةُ التَّفَسُّحِ فِي الْمَجَالِسِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ كَيْفِيَّةُ التَّفَسُّحِ فِي الْمَجَالِسِ مُشْكِلَةٌ، وَتَفَاصِيلُهَا كَثِيرَةٌ: الْأَوَّلُ مَجْلِسُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُفْسَحُ فِيهِ بِالْهِجْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالسِّنِّ. الثَّانِي مَجْلِسُ الْجُمُعَاتِ يُتَقَدَّمُ فِيهِ بِالْبُكُورِ إلَّا مَا يَلِي الْإِمَامَ، فَإِنَّهُ لِذَوِي الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى. الثَّالِثُ: مَجْلِسُ الذِّكْرِ يَجْلِسُ فِيهِ كُلُّ أَحَدٍ حَيْثُ انْتَهَى بِهِ الْمَجْلِسُ. الرَّابِعُ مَجْلِسُ الْحَرْبِ يَتَقَدَّمُ فِيهِ ذَوُو النَّجْدَةِ وَالْمِرَاسِ مِنْ النَّاسِ. الْخَامِسُ مَجْلِسُ الرَّأْيِ وَالْمُشَاوَرَةِ يَتَقَدَّمُ فِيهِ مَنْ لَهُ بَصَرٌ بِالشُّورَى، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي مَجْلِسِ الذِّكْرِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] فَيَرْتَفِعُ الْمَرْءُ بِإِيمَانِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ بِعِلْمِهِ ثَانِيًا. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يُقَدِّمُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَلَى الصَّحَابَةِ،

[الآية الرابعة قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول]

فَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ، فَدَعَاهُمْ وَدَعَاهُ، وَسَأَلَهُمْ عَنْ تَفْسِيرِ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] فَسَكَتُوا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَمَهُ اللَّهُ إيَّاهُ. فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إلَّا مَا تَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: إنَّ الْآيَةَ فِي مَجْلِسِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَجَالِسِنَا هَذِهِ، وَإِنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَجْلِسٍ، رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى عَنْهُ: إنَّ قَوْلَهُ: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة: 11] الصَّحَابَةَ {وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا الْعَالِمَ وَالطَّالِبَ لِلْحَقِّ. وَالْعُمُومُ أَوْقَعُ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَأَوْلَى بِمَعْنَى الْآيَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ] َ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المجادلة: 12]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَلْقَمَةَ الْأَنْمَارِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] قَالَ لِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دِينَارٌ؛ قُلْت: لَا يُطِيقُونَهُ. قَالَ: نِصْفُ دِينَارٍ. قُلْت: لَا يُطِيقُونَهُ. قَالَ: فَكَمْ؟ قُلْت: شَعِيرَةٌ. قَالَ إنَّك لَزَهِيدٌ. فَنَزَلَتْ: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} [المجادلة: 13] قَالَ: فَبِي خَفَّفَ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ». وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ أُصُولِيَّتَيْنِ: الْأُولَى نَسْخُ الْعِبَادَةِ قَبْلَ فِعْلِهَا. الثَّانِيَةُ النَّظَرُ فِي الْمُقَدَّرَاتِ بِالْقِيَاسِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ.

[مسألة النبي صلى الله عليه وسلم لا يمنع أحدا مناجاته]

وَمَعْنَى قَوْلِهِ: شَعِيرَةٌ. يُرِيدُ وَزْنَ شَعِيرَةٍ [مِنْ ذَهَبٍ]. وَقَدْ رُوِيَ [عَنْ] مُجَاهِدٍ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ تَصَدَّقَ فِي ذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، تَصَدَّقَ بِدِينَارٍ، وَنَاجَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرُوِيَ [أَنَّهُ تَصَدَّقَ] بِخَاتَمٍ، وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَصِحُّ. وَقَدْ سَرَدَ الْمَسْأَلَةَ كَمَا يَجِبُ أَسْلَمُ فِي رِوَايَةِ زَيْدٍ ابْنِهِ عَنْهُ. [مَسْأَلَة النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَمْنَعُ أَحَدًا مُنَاجَاتَهُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَمْنَعُ أَحَدًا مُنَاجَاتَهُ. يُرِيدُ لَا يَسْأَلُهُ حَاجَةً إلَّا نَاجَاهُ بِهَا مِنْ شَرِيفٍ أَوْ دَنِيءٍ؛ فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَأْتِيهِ فَيُنَاجِيهِ، كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ، وَكَانَتْ الْأَرْضُ كُلُّهَا حَرْبًا عَلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ الشَّيْطَانُ يَأْتِي أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ حَوْلَهُ. فَيَقُولُ لَهُ: أَتَدْرُونَ لِمَ نَاجَى فُلَانٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ إنَّمَا نَاجَاهُ؛ لِأَنَّ جُمُوعًا [كَثِيرَةً] مِنْ بَنِي فُلَانٍ وَفُلَانٍ قَدْ خَرَجُوا لِيُقَاتِلُوكُمْ. قَالَ: فَيُحْزِنُ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: إنَّمَا مُحَمَّدٌ أُذُنٌ سَمَّاعَةٌ يَسْمَعُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ يُنَاجِيهِ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} [التوبة: 61]. وَقَالَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المجادلة: 9] {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة: 10] فَلَمْ يَنْتَهُوا عَنْ الْمُنَاجَاةِ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} [المجادلة: 12] لِيَنْتَهِيَ أَهْلُ الْبَاطِلِ عَنْ مُنَاجَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَعَرَفَ اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ الْبَاطِلِ لَا يُقَدِّمُونَ بَيْنَ يَدَيْ نَجَوَاهُمْ صَدَقَةً؛ فَانْتَهَى أَهْلُ الْبَاطِلِ عَنْ النَّجْوَى، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ الْحَوَائِجِ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ -

[الآية الخامسة قوله تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله]

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالُوا: لَا نُطِيقُهُ، فَخَفَّفَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَنَسَخَتْهَا آيَةُ: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [المجادلة: 13]. وَهَذَا الْخَبَرُ مِنْ زَيْدٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَتَرَتَّبُ بِحَسَبِ الْمَصَالِحِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} [المجادلة: 12] [ثُمَّ نَسَخَهُ مَعَ كَوْنِهِ خَيْرًا وَأَطْهَرَ]. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ عَظِيمٌ فِي الْتِزَامِ الْمَصَالِحِ؛ لَكِنَّ رَاوِيَ الْحَدِيثِ عَنْ زَيْدٍ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْعُلَمَاءُ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} [المجادلة: 12] نَصٌّ مُتَوَاتِرٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الْخَامِسَة قَوْله تَعَالَى لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ] ُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ؛ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ أَبُوهُ الْجَرَّاحُ يَتَصَدَّى لِأَبِي عُبَيْدَةَ، فَجَعَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَحِيدُ عَنْهُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ قَصَدَ إلَيْهِ أَبُو عُبَيْدَةَ فَقَتَلَهُ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى حِينَ قَتَلَ أَبَاهُ: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ} [المجادلة: 22]. [مَسْأَلَة مُجَالِسَة الْقَدَرِيَّةَ وَمُعَادَاتِهِمْ فِي اللَّهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: لَا تُجَالِسْ الْقَدَرِيَّةَ وَعَادَهُمْ فِي اللَّهِ لِقَوْلِ الْآيَةِ: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22].

قَالَ الْقَاضِي: قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ مِنْ كَلَامِنَا فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ بَدَائِعَ اسْتِنْبَاطِ مَالِكٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ كَانَ حَفِيًّا بِأَهْلِ التَّوْحِيدِ غَرِيًّا بِالْمُبْتَدِعَةِ يَأْخُذُ عَلَيْهِمْ جَانِبَ الْحُجَّةِ مِنْ الْقُرْآنِ، وَمِنْ أَجْلِهِ أَخَذَهُ لَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ؛ فَإِنَّ الْقَدَرِيَّةَ تَدَّعِي أَنَّهَا تَخْلُقُ كَمَا يَخْلُقُ اللَّهُ، وَأَنَّهَا تَأْتِي بِمَا يَكْرَهُ اللَّهُ وَلَا يُرِيدُهُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّ ذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مَجُوسِيًّا نَاظَرَ قَدَرِيًّا، فَقَالَ الْقَدَرِيُّ لِلْمَجُوسِيِّ: مَالَك لَا تُؤْمِنُ؟ فَقَالَ لَهُ الْمَجُوسِيُّ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَآمَنْت. قَالَ لَهُ الْقَدَرِيُّ: قَدْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَكِنَّ الشَّيْطَانَ يَصُدُّك. قَالَ لَهُ الْمَجُوسِيُّ: فَدَعْنِي مَعَ أَقْوَاهُمَا.

[سورة الحشر فيها إحدى عشرة آية]

[سُورَةُ الْحَشْرِ فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ آيَةً] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2].

فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ: سُورَةُ الْحَشْرِ؟ قَالَ: قُلْ سُورَةُ النَّضِيرِ، وَهُمْ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ مِنْ ذُرِّيَّةِ هَارُونَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَزَلُوا الْمَدِينَةَ فِي فَنَنِ بَنِي إسْرَائِيلَ انْتِظَارًا لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {لأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر: 2] فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: جَلَاءُ الْيَهُودِ. الثَّانِي: إلَى الشَّامِ؛ لِأَنَّهَا أَرْضُ الْمَحْشَرِ؛ قَالَهُ عُرْوَةُ، وَالْحَسَنُ. الثَّالِثُ: قَالَ قَتَادَةُ: أَوَّلُ الْحَشْرِ نَارٌ تَسُوقُ النَّاسَ إلَى الْمَغَارِبِ، وَتَأْكُلُ مَنْ خُلِّفَ [فِي الدُّنْيَا].

[مسألة وقت إجلاء بني النضير]

وَنَحْوُهُ رَوَى وَهْبٌ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: قُلْت لِمَالِكٍ: هُوَ جَلَاؤُهُمْ عَنْ دَارِهِمْ؟ فَقَالَ لِي: الْحَشْرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَشْرُ الْيَهُودِ؛ قَالَ: وَإِجْلَاءُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْيَهُودَ إلَى خَيْبَرَ حِينَ سُئِلُوا عَنْ ذَلِكَ الْمَالِ فَكَتَمُوهُ فَاسْتَحَلَّهُمْ بِذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لِلْحَشْرِ أَوَّلٌ وَوَسَطٌ وَآخِرٌ؛ فَالْأَوَّلُ إجْلَاءُ بَنِي النَّضِيرِ، وَالْأَوْسَطُ إجْلَاءُ خَيْبَرَ، وَالْآخِرُ حَشْرُ الْقِيَامَةِ الَّذِي ذَكَرَهُ مَالِكٌ وَأَشَارَ إلَى أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ. [مَسْأَلَة وَقْت إجلاء بَنِي النضير] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي وَقْتِهَا: قَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ: كَانَتْ بَعْدَ بَدْرٍ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْوَاقِدِيُّ: كَانَتْ بَعْدَ أُحُدٍ، وَبَعْدَ بِئْرِ مَعُونَةَ، وَكَانَتْ عَلَى يَدَيْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، وَاخْتَارَ الْبُخَارِيُّ أَنَّهَا قَبْلَ أُحُدٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر: 2]: وَثِقُوا بِحُصُونِهِمْ، وَلَمْ يَثِقُوا بِاَللَّهِ لِكُفْرِهِمْ، فَيَسَّرَ اللَّهُ مَنَعَتَهُمْ، وَأَبَاحَ حَوْزَتَهُمْ. وَالْحِصْنُ هُوَ الْعُدَّةُ وَالْعِصْمَةُ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ: وَلَقَدْ عَلِمْت عَلَى تَوَقِّي الرَّدَى ... أَنَّ الْحُصُونَ الْخَيْلُ لَا مُدُنُ الْقُرَى يَخْرُجْنَ مِنْ خَلَلِ الْقَتَامِ عَوَابِسَا ... كَأَنَامِلِ الْمَقْرُورِ أَقْعَى فَاصْطَلَى وَلَقَدْ أَحْسَنَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي إصَابَةِ الْمَعْنَى، فَقَالَ: وَإِنْ بَاشَرَ الْأَصْحَابُ فَالْبِيضُ وَالْقَنَا ... قِرَاهُ وَأَحْوَاضُ الْمَنَايَا مَنَاهِلُهُ وَإِنْ يَبْنِ حِيطَانًا عَلَيْهِ فَإِنَّمَا ... أُولَئِكَ عِقَالَاتُهُ لَا مَعَاقِلُهُ وَإِلَّا فَأَعْلِمْهُ بِأَنَّك سَاخِطٌ ... وَدَعْهُ فَإِنَّ الْخَوْفَ لَا شَكَّ قَاتِلُهُ [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْلُهُ تَعَالَى وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ] َ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر: 2]: ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: نُصِرْت بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، فَكَيْفَ لَا يُنْصَرُ بِهِ مَسِيرَةَ مَيْلٍ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَحَلَّةِ بَنِي النَّضِيرِ. وَهَذِهِ خِصِّيصَةٌ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُونَ غَيْرِهِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} [الحشر: 2]: فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: يُخْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ بِنَقْضِ الْمُوَادَعَةِ، وَبِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُقَاتَلَةِ؛ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ. الثَّانِي: بِأَيْدِيهِمْ فِي تَرْكِهِمْ لَهَا، وَبِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فِي إجْلَائِهِمْ عَنْهَا؛ قَالَهُ أَبُو عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ. الثَّالِثُ بِأَيْدِيهِمْ دَاخِلَهَا، وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ خَارِجَهَا؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ. الرَّابِعُ كَانَ الْمُسْلِمُونَ إذَا هَدَمُوا بَيْتًا مِنْ خَارِجِ الْحِصْنِ هَدَمُوا بُيُوتَهُمْ يَرْمُونَهُمْ مِنْهَا. الْخَامِسُ كَانُوا يَحْمِلُونَ مَا يُعْجِبُهُمْ فَذَلِكَ خَرَابُ أَيْدِيهِمْ. وَتَحْقِيقُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ: أَنَّ التَّنَاوُلَ لِلْإِفْسَادِ إذَا كَانَ بِالْيَدِ كَانَ حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ بِنَقْضِ الْعَهْدِ كَانَ مَجَازًا، إلَّا أَنَّ قَوْلَ الزُّهْرِيِّ فِي الْمَجَازِ أَمْثَلُ مِنْ قَوْلِ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ مَنْ قَرَأَهَا بِالتَّشْدِيدِ أَرَادَ هَدْمَهَا، وَمَنْ قَرَأَهَا بِالتَّخْفِيفِ أَرَادَ جَلَاءَهُمْ عَنْهَا؛ وَهَذِهِ دَعْوَى لَا يُعَضِّدُهَا لُغَةٌ وَلَا حَقِيقَةٌ، وَالتَّضْعِيفُ بَدِيلُ الْهَمْزَةِ فِي الْأَفْعَالِ. [مَسْأَلَة قَوْلُهُ تَعَالَى فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2]: وَهِيَ كَلِمَةٌ أُصُولِيَّةٌ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَوْضِعِهَا، وَمِنْ وُجُوهِ الِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ اعْتَصَمُوا بِالْحُصُونِ دُونَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَنْزَلَهُمْ اللَّهُ مِنْهَا، وَمِنْ وُجُوهِهِ أَنَّهُ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ مَنْ كَانَ

[الآية الثالثة قوله تعالى ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب]

يَرْجُوهُمْ، وَمِنْ وُجُوهِهِ أَنَّهُمْ هَدَمُوا أَمْوَالَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ. وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ بِغَيْرِهِ اعْتَبَرَ بِنَفْسِهِ، وَمِنْ الْأَمْثَالِ الصَّحِيحَةِ: السَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّه وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ] ِ} [الحشر: 4]. فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ. يَعْنِي نَقَضُوا الْعَهْدَ. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُمْ صَارُوا فِي شِقٍّ، أَيْ جِهَةٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُخْرَى، وَذِكْرُ اللَّهِ مَعَ رَسُولِهِ تَشْرِيفٌ لَهُ، وَكَانَ نَقْضُهُمْ الْعَهْدَ لِخَبَرٍ؛ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: «جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّضِيرَ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةٍ، فَقَعَدَ فِي ظِلِّ جِدَارٍ، فَأَرَادُوا أَنْ يُلْقُوا عَلَيْهِ رَحًى، فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِذَلِكَ، فَقَامَ وَانْصَرَفَ؛ وَبِذَلِكَ اسْتَحَلَّهُمْ وَأَجَلَاهُمْ إلَى خَيْبَرَ، وَصَفِيَّةُ مِنْهُمْ سَبَاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَيْبَرَ. قَالَ: فَرَجَعَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَجَلَاهُمْ عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا حَمَلَتْ الْإِبِلُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَالصَّفْرَاءِ، وَالْبَيْضَاءِ، وَالْحَلْقَةِ، وَالدِّنَانِ، وَمِسْكِ الْجَمَلِ». فَالصَّفْرَاءُ وَالْبَيْضَاءُ: الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ. وَالْحَلْقَةُ: السِّلَاحُ. وَالدِّنَانُ: الْفَخَّارُ. وَمِسْكُ الْجَمَلِ: جُلُودٌ يُسْتَقَى فِيهَا الْمَاءُ بِشَعْرِهَا. «فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ رَجَعَ إلَيْهِمْ: يَا أَخَابِثَ خَلْقِ اللَّهِ، يَا إخْوَةَ الْخَنَازِيرِ وَالْقِرَدَةِ». قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: فَقَالُوا: مَهْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَمَا كُنْت فَحَّاشًا. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إضْمَارَ الْخِيَانَةِ نَقْضٌ لِلْعَهْدِ؛ لِأَنَّهُ انْعَقَدَ قَوْلًا [فَيَنْتَقِضُ قَوْلًا]، وَالْعَقْدُ إذَا ارْتَبَطَ بِالْقَوْلِ انْتَقَضَ بِالْقَوْلِ وَبِالْفِعْلِ، وَإِذَا ارْتَبَطَ بِالْفِعْلِ لَمْ يَنْتَقِضْ إلَّا بِالْفِعْلِ، كَالنِّكَاحِ يَرْتَبِطُ بِالْقَوْلِ وَيَنْحَلُّ بِالْقَوْلِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ، وَبِالْفِعْلِ،

[الآية الرابعة قوله تعالى ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله]

وَهُوَ الرَّضَاعُ. وَعِتْقُ الْمِدْيَانِ يَنْعَقِدُ بِالْقَوْلِ، وَيُنْقِضُهُ الْحَاكِمُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَاهُ، وَالِاسْتِيلَادُ لَا يُنْقِضُهُ الْقَوْلُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ كَيْفِيَّةَ نَقْضِ الْعَهْدِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا تَحَقَّقَ نَقْضُ الْعَهْدِ فَلِمَ بَعَثَ إلَيْهِمْ اُخْرُجُوا مِنْ بِلَادِي؟ وَلِمَ لَمْ يَأْخُذْهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ؟ قُلْنَا: قَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58]. فَإِنَّ قِيلَ: هَذَا مَا خَانَهُ، وَإِنَّمَا تَحَقَّقَ بِخَبَرِ اللَّهِ عَنْهُ. قُلْنَا: الْخَوْفُ هَاهُنَا الْوُقُوعُ، وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ الْخَوْفِ مَوْجُودٌ مِنْ كُلِّ عَاقِدٍ. وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا أَرْسَلَ إلَيْهِمْ لِأَنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ وَحْدَهُ، فَأَرَادَ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا مَشْهُورًا، وَسَاقَهُ اللَّهُ إلَى مَا كَتَبَ مِنْ الْجَلَاءِ. [الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ] ِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَقَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ، وَقَطَعَ؛ وَهِيَ الْبُوَيْرَةُ»، وَلَهَا يَقُولُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ: لَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ ... حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} [الحشر: 5] الْآيَةَ. [مَسْأَلَة تَخْرِيبِ دَارِ الْعَدُوِّ وَحَرْقِهَا وَقَطْعِ ثِمَارِهَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اخْتَلَفَتْ النَّاسُ فِي تَخْرِيبِ دَارِ الْعَدُوِّ وَحَرْقِهَا وَقَطْعِ ثِمَارِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ؛ قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ.

[مسألة النوع الذي قطع وهو اللينة]

الثَّانِي: إنْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ ذَلِكَ لَهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا، وَإِنْ يَيْأَسُوا فَعَلُوا؛ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْوَاضِحَةِ، وَعَلَيْهِ تَنَاظُرُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَقَدْ عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ لَهُ، وَلَكِنَّهُ قَطَعَ وَحَرَقَ لِيَكُونَ ذَلِكَ نِكَايَةً لَهُمْ وَوَهْنًا فِيهِمْ، حَتَّى يَخْرُجُوا عَنْهَا، فَإِتْلَافُ بَعْضِ الْمَالِ لِصَلَاحِ بَاقِيهِ مَصْلَحَةٌ جَائِزَةٌ شَرْعًا مَقْصُودَةٌ عَقْلًا. [مَسْأَلَة النَّوْعِ الَّذِي قُطِعَ وَهُوَ اللِّينَةُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي النَّوْعِ الَّذِي قُطِعَ، وَهُوَ اللِّينَةُ، عَلَى سَبْعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ النَّخْلُ كُلُّهُ، وَإِلَّا الْعَجْوَةَ؛ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْخَلِيلُ. الثَّانِي: أَنَّهُ النَّخْلُ كُلُّهُ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَرَائِمُ النَّخْلِ؛ قَالَهُ ابْنُ شَعْبَانَ. الرَّابِعُ أَنَّهُ الْعَجْوَةُ خَاصَّةً؛ قَالَهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ. الْخَامِسُ أَنَّهَا النَّخْلُ الصِّغَارُ، وَهِيَ أَفْضَلُهَا. السَّادِسُ أَنَّهَا الْأَشْجَارُ كُلُّهَا. السَّابِعُ أَنَّهَا الدَّقَلُ؛ قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ. قَالَ: وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ: لَا نُنَحِّي الْمَوَائِدَ حَتَّى نَجِدَ الْأَلْوَانَ يَعْنُونَ الدَّقَلَ. وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ الزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُمَا أَعْرَفُ بِبَلَدِهِمَا وَثِمَارِهَا وَأَشْجَارِهَا. الثَّانِي أَنَّ الِاشْتِقَاقَ يُعَضِّدُهُ، وَأَهْلُ اللُّغَةِ يُصَحِّحُونَهُ، قَالُوا: اللِّينَةُ وَزْنُهَا لِوْنَةٌ، وَاعْتُلَّتْ عَلَى أَصْلِهِمْ. [فَآلَتْ إلَى لَيْنَةٍ]، فَهُوَ لَوْنٌ، فَإِذَا دَخَلَتْ الْهَاءُ كُسِرَ أَوَّلُهَا؛ كَبَرْكِ الصَّدْرِ بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَبِرْكِهِ بِكَسْرِهَا لِأَجْلِ الْهَاءِ. [مَسْأَلَة مَتَى كَانَ قطع نَخْل بَنِي النضير] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ مَتَى كَانَ الْقَطْعُ؛ فَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهَا نَخْلُ بَنِي النَّضِيرِ، وَرَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا نَخْلُ بَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ، وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عَلَى أَنَّ الْإِذْنَ

[مسألة اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم فيما لم ينزل عليه]

وَالْجَوَازَ فِي بَنِي النَّضِيرِ [تَضَمَّنَ بَنِي قُرَيْظَةَ؛ إذْ لَا خِلَافَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي بَنِي النَّضِيرِ] قَبْلَ قُرَيْظَةَ بِمُدَّةٍ كَبِيرَةٍ. [مَسْأَلَة اجْتِهَادِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ تَأَسَّفَتْ الْيَهُودُ عَلَى النَّخْلِ الْمَقْطُوعَةِ، وَقَالُوا: يَنْهَى مُحَمَّدٌ عَنْ الْفَسَادِ وَيَفْعَلُهُ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ يَقْطَعُ، وَبَعْضُهُمْ لَا يَقْطَعُ، فَصَوَّبَ اللَّهُ الْفَرِيقَيْنِ، وَخَلَّصَ الطَّائِفَتَيْنِ فَظَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ يُخَرَّجُ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مَعَهُمْ، وَلَا اجْتِهَادَ مَعَ حُضُورِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى اجْتِهَادِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ أَخْذًا بِعُمُومِ الْإِذَايَةِ لِلْكُفَّارِ، وَدُخُولًا فِي الْإِذْنِ لِلْكُلِّ بِمَا يَقْضِي عَلَيْهِمْ بِالِاجْتِيَاحِ وَالْبَوَارِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5]. [الْآيَة الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ] ْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحشر: 6]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى {مَا أَفَاءَ اللَّهُ} [الحشر: 7]: يُرِيدُ مَا رَدَّ اللَّهُ. وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَمْوَالَ فِي الْأَرْضِ لِلْمُؤْمِنِينَ حَقًّا، فَيَسْتَوْلِي عَلَيْهَا الْكُفَّارُ مِنْ اللَّهِ بِالذُّنُوبِ عَدْلًا، فَإِذَا رَحِمَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَرَدَّهَا عَلَيْهِمْ مِنْ أَيْدِيهِمْ رَجَعَتْ فِي طَرِيقِهَا ذَلِكَ، فَكَانَ ذَلِكَ فَيْئًا. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر: 6]: الْإِيجَافُ: ضَرْبٌ مِنْ السَّيْرِ. وَالرِّكَابُ: اسْمٌ لِلْإِبِلِ خَاصَّةً عُرْفًا لُغَوِيًّا، وَإِنْ كَانَ

[مسألة معنى قوله تعالى ولكن الله يسلط رسله على من يشاء]

ذَلِكَ مُشْتَقًّا مِنْ الرُّكُوبِ، وَيَشْتَرِكُ غَيْرُهَا مَعَهَا فِيهَا، وَلَكِنْ لِلْعُرْفِ احْتِكَامٌ فِي اخْتِصَاصِ بَعْضِ الْمُشْرَكَاتِ بِالِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [الحشر: 6]: الْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ وَإِنْ كَانَتْ فَيْئًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّهَا لِرَسُولِهِ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهَا كَانَ بِرُعْبٍ أُلْقِيَ فِي قُلُوبِهِمْ، دُونَ عَمَلٍ مِنْ النَّاسِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَتَكَلَّفُوا سَفَرًا، وَلَا تَجَشَّمُوا رِحْلَةً، وَلَا صَارُوا عَنْ حَالَةٍ إلَى غَيْرِهَا، وَلَا أَنْفَقُوا مَالًا، فَأَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ مُوجِبٌ لِاخْتِصَاصِ رَسُولِهِ بِذَلِكَ الْفَيْءِ، وَأَفَادَ الْبَيَانُ بِأَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ الْيَسِيرَ مِنْ النَّاسِ فِي مُحَاصَرَتِهِمْ لَغْوٌ لَا يَقَعُ الِاعْتِدَادُ بِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ سَهْمٍ، فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَخْصُوصًا بِهَا. رَوَى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ النَّصْرِيِّ «أَنَّ عَلِيًّا وَالْعَبَّاسَ لَمَّا طَلَبَا عُمَرَ بِمَا كَانَ فِي يَدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْمَالِ، وَذَلِكَ بِحَضْرَةِ عُثْمَانَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرِ، وَسَعْدٍ، قَالَ لَهُمْ عُمَرُ: أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ خَصَّ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ هَذَا الْفَيْءِ بِسَهْمٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ، وَقَرَأَ: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحشر: 6] فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةً لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّ اللَّهَ اخْتَارَهَا، وَاَللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ وَلَا اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ. وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ؛ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبُثُّهَا، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ خَصَّهُ بِهَا». وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ أَعْطَاهَا الْمُهَاجِرِينَ خَاصَّةً، وَمِنْ الْأَنْصَارِ لِأَبِي دُجَانَةَ سِمَاكِ بْنِ خَرَشَةَ، وَسَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ [وَالْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ] لِحَاجَةٍ كَانَتْ بِهِمْ، وَفِي آثَارٍ كَثِيرَةٍ بَيَّنَّاهَا فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ تَمَامُ الْكَلَامِ: فَلَا حَقَّ لَكُمْ فِيهِ وَلَا حُجَّةَ لَكُمْ عَلَيْهِ، وَحُذِفَتْ اخْتِصَارًا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ.

[الآية السادسة قوله تعالى ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى]

[الْآيَة السَّادِسَة قَوْله تَعَالَى مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى] فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى لَا خِلَافَ أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً، وَهَذِهِ الْآيَةُ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهَا هَذِهِ الْقُرَى الَّتِي قُوتِلَتْ، فَأَفَاءَ اللَّهُ بِمَالِهَا؛ فَهِيَ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ. الثَّانِي هُوَ مَا غَنِمْتُمْ بِصُلْحٍ مِنْ غَيْرِ إيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، فَيَكُونُ لِمَنْ سَمَّى اللَّهُ فِيهِ، وَالْأُولَى لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً، إذَا أَخَذَ مِنْهُ حَاجَتَهُ كَانَ الْبَاقِي فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. الثَّالِثُ: قَالَ مَعْمَرٌ: الْأُولَى لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالثَّانِيَةُ فِي الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ لِلْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ، وَالثَّالِثَةُ الْغَنِيمَةُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ لِلْغَانِمِينَ. الرَّابِعُ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر: 6] هِيَ النَّضِيرُ، لَمْ يَكُنْ فِيهَا خُمُسٌ، وَلَمْ يُوجَفْ عَلَيْهَا بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، كَانَتْ صَافِيَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَسَمَهَا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَثَلَاثَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ: أَبِي دُجَانَةَ سِمَاكِ بْنِ خَرَشَةَ، وَسَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، وَالْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ. وقَوْله تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] هِيَ قُرَيْظَةُ وَكَانَتْ قُرَيْظَةُ وَالْخَنْدَقُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ هَذَا لُبَابُ الْأَقْوَالِ الْوَارِدَةِ؛ وَتَحْقِيقُهَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ السُّورَةَ سُورَةُ النَّضِيرِ، وَأَنَّ

الْآيَاتِ الْوَارِدَةَ فِيهَا آيَاتُ بَنِي النَّضِيرِ وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ فِيهَا بِالْعُمُومِ مَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ وَفَعَلَ فِعْلَهُمْ، وَفِيهَا آيَتَانِ: الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر: 6]. وَالثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7]. وَفِي الْأَنْفَالِ آيَةٌ ثَالِثَةٌ، وَهِيَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41]. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ: هَلْ هِيَ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ أَوْ مَعْنَيَانِ؟ وَلَا إشْكَالَ فِي أَنَّهَا ثَلَاثَةُ مَعَانٍ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ: أَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى فَهِيَ قَوْلُهُ: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر: 2]. ثُمَّ قَالَ: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} [الحشر: 6] يَعْنِي مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر: 6] يُرِيدُ كَمَا بَيَّنَّا فَلَا حَقَّ لَكُمْ فِيهِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ: إنَّهَا كَانَتْ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي بَنِي النَّضِيرِ، وَمَا كَانَ مِثْلَهَا، فَهَذِهِ آيَةٌ وَاحِدَةٌ وَمَعْنًى مُتَّحِدٌ. الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر: 7]. وَهَذَا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ غَيْرُ الْأَوَّلِ لِمُسْتَحِقٍّ غَيْرِ الْأَوَّلِ، وَسَمَّى الْآيَةَ الثَّالِثَةَ آيَةَ الْغَنِيمَةِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ مَعْنًى آخَرُ بِاسْتِحْقَاقٍ ثَانٍ لِمُسْتَحِقٍّ آخَرَ، بَيْدَ أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ اشْتَرَكَتَا فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَضَمَّنَتْ شَيْئًا أَفَاءَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَاقْتَضَتْ الْآيَةُ الْأُولَى أَنَّهُ حَاصِلٌ بِغَيْرِ قِتَالٍ، وَاقْتَضَتْ آيَةُ الْأَنْفَالِ أَنَّهُ حَاصِلٌ بِقِتَالِ، وَعُرِّيَتْ الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] عَنْ ذِكْرِ حُصُولِهِ لِقِتَالٍ أَوْ لِغَيْرِ قِتَالٍ؛ فَنَشَأَ الْخِلَافُ مِنْ هَاهُنَا، فَمِنْ طَائِفَةٍ قَالَتْ: هِيَ مُلْحَقَةٌ بِالْأُولَى، وَهُوَ مَالُ الصُّلْحِ كُلُّهُ وَنَحْوُهُ. وَمِنْ طَائِفَةٍ قَالَتْ: هِيَ مُلْحَقَةٌ بِالثَّانِيَةِ؛ وَهِيَ آيَةُ الْأَنْفَالِ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا: إنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِآيَةِ الْأَنْفَالِ اخْتَلَفُوا: هَلْ هِيَ مَنْسُوخَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ أَوْ مُحْكَمَةٌ؟ وَإِلْحَاقُهَا بِشَهَادَةِ اللَّهِ بِالْأُولَى أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِيهِ تَجْدِيدَ فَائِدَةٍ وَمَعْنًى. وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَمْلَ الْحَرْبِ عَلَى فَائِدَةٍ مُجَدَّدَةٍ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى فَائِدَةٍ مُعَادَةٍ. وَهَذَا الْقَوْلُ يُنَظِّمُ لَك

[الآية السابعة قوله تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا]

شَتَاتَ الرَّأْيِ، وَيُحْكِمُ الْمَعْنَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ وَإِذَا انْتَهَى الْكَلَامُ إلَى هَذَا الْقَدْرِ فَيَقُولُ مَالِكٌ: إنَّ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ إشَارَةً إلَى أَنَّ مَعْنَاهَا يَعُودُ إلَى آيَةِ الْأَنْفَالِ وَيَلْحَقُهَا النَّسْخُ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ الْقَوْلِ بِالْإِحْكَامِ، وَنَحْنُ لَا نَخْتَارُ إلَّا مَا قَسَّمْنَا وَبَيَّنَّا أَنَّ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ لَهَا مَعْنًى مُجَدَّدٌ حَسْبَمَا دَلَّلْنَا عَلَيْهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة السَّابِعَة قَوْله تَعَالَى وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] } [الحشر: 7]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي الْمَعْنَى؛ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: مَعْنَاهَا مَا أَعْطَاكُمْ مِنْ الْفَيْءِ، وَمَا مَنَعَكُمْ مِنْهُ فَلَا تَطْلُبُوهُ. الثَّانِي: مَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ مِنْ مَالِ الْغَنِيمَةِ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ مِنْ الْغُلُولِ فَلَا تَأْتُوهُ. الثَّالِثُ: مَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنْ طَاعَتِي فَافْعَلُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ مِنْ مَعْصِيَتِي فَاجْتَنِبُوهُ. وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ؛ لِأَنَّهُ لِعُمُومِهِ تَنَاوَلَ الْكُلَّ، وَهُوَ صَحِيحٌ فِيهِ مُرَادٌ بِهِ. [مَسْأَلَة إذَا أَمَرَ النَّبِيُّ بِأَمْرٍ كَانَ شَرْعًا وَإِذَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ شَرْعًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَقَعَ الْقَوْلُ هَاهُنَا مُطْلَقًا بِذَلِكَ، وَقَيَّدَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَ ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ إذَا أَمَرَ النَّبِيُّ بِأَمْرٍ كَانَ شَرْعًا، وَإِذَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ شَرْعًا وَلِذَلِكَ قَالَ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ». وَقَالَ فِي حَدِيثِ الْعَسِيفِ الَّذِي

[مسألة وهل يقابل النهي الأمر]

افْتَدَى مِنْ الْجَلْدِ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ: «أَمَّا غَنَمُك فَرَدٌّ عَلَيْك وَجَلْدُ ابْنِك مِائَةً وَتَغْرِيبُهُ عَامًا». وَتَرَدَّدَتْ هَاهُنَا مَسْأَلَةٌ عُظْمَى بَيْنَ الْعُلَمَاءِ؛ وَهِيَ مَا إذَا اجْتَمَعَ فِي عَقْدٍ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَازْدَحَمَ عَلَيْهِ صَحِيحٌ وَفَاسِدٌ؛ فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: لَا يَجُوزُ، وَيُفْسَخُ بِكُلِّ حَالٍ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: ذَلِكَ يَخْتَلِفُ؛ أَمَّا فِي الْبَيْعِ فَلَا يَجُوزُ إجْمَاعًا، وَأَمَّا فِي النِّكَاحِ فَلَا، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ. وَأَمَّا فِي الْأَحْبَاسِ وَالْهِبَاتِ فَيَحْتَمِلُ كَثِيرًا مِنْ الْجَهَالَةِ وَالْأَخْطَارِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا فِيهَا، حَتَّى قَالَ أَصْبَغُ: إنَّ مَا لَا يَجُوزُ إذَا دَخَلَ فِي الصُّلْحِ مَعَ مَا يَجُوزُ مَضَى الْكُلُّ. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: يَمْضِي إنْ طَالَ. وَقَالَ سَائِرُ عُلَمَائِنَا: لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْهُ، وَهُوَ كَالْبَيْعِ. وَأَمَّا إنْ وَقَعَ النَّهْيُ فِي الْبَيْعِ فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: يُفْسَخُ أَبَدًا. وَقَالَ مَالِكٌ: يُفْسَخُ مَا لَمْ يَفُتْ، فِي تَفْصِيلٍ طَوِيلٍ بَيَانُهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ تَأْصِيلًا، وَفِي فُرُوعِ مَسَائِلِ الْفِقْهِ تَفْصِيلًا بَنَيْنَاهُ عَلَى تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ، وَالْمَعْنَى وَالرَّدِّ. وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا فَسْخُ الْفَاسِدِ أَبَدًا حَيْثُمَا وَقَعَ، وَكَيْفَمَا وُجِدَ، فَاتَ أَوْ لَمْ يَفُتْ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ». [مَسْأَلَة وَهَلْ يُقَابِلُ النَّهْيَ الْأَمْرُ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] وَإِنْ جَاءَ بِلَفْظِ الْإِيتَاءِ وَهِيَ الْمُنَاوَلَةُ فَإِنَّ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] فَقَابَلَهُ بِالنَّهْيِ، وَلَا يُقَابِلُ النَّهْيَ إلَّا الْأَمْرُ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى فَهْمِ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ، وَالْمُسْتَوْشِمَات، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ، الْمُغَيِّرَاتِ لِخَلْقِ اللَّهِ». فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ، فَجَاءَتْ فَقَالَتْ: إنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّك لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ؟ فَقَالَ: وَمَالِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَتْ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَمَا وَجَدْت فِيهِ مَا تَقُولُ. قَالَ: لَئِنْ

[الآية الثامنة قوله تعالى والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم]

كُنْت قَرَأْته لَقَدْ وَجَدْته؛ أَمَا قَرَأْت: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. [الْآيَة الثَّامِنَة قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ] ْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]. فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَالَ الْخَلْقُ بِأَجْمَعِهِمْ: يُرِيدُ بِذَلِكَ الْأَنْصَارَ الَّذِينَ آوَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ طُرِدَ، وَنَصَرُوهُ حِينَ خُذِلَ، فَلَا مِثْلَ لَهُمْ وَلَا لِأَجْرِهِمْ. [مَسْأَلَة فَضْلَ الْمَدِينَةِ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ الْآفَاقِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْت مَالِكًا وَهُوَ يَذْكُرُ فَضْلَ الْمَدِينَةِ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ الْآفَاقِ فَقَالَ: إنَّ الْمَدِينَةَ تُبُوِّئَتْ بِالْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ، وَإِنَّ غَيْرَهَا مِنْ الْقُرَى اُفْتُتِحَتْ بِالسَّيْفِ ثُمَّ قَرَأَ الْآيَةَ: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} [الحشر: 9] الْآيَةَ. وَقَدْ بَيَّنَّا فَضْلَ الْمَدِينَةِ عَلَى كُلِّ بُقْعَةٍ فِي كِتَابِ الْإِنْصَافِ، وَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ، بَيْدَ أَنَّ الْقَارِئَ رُبَّمَا تَعَلَّقَتْ نَفْسُهُ بِنُكْتَةٍ كَافِيَةٍ فِي ذَلِكَ مُغْنِيَةٍ عَنْ التَّطْوِيلِ، فَيُقَالُ لَهُ: إنْ أَرَدْت الْوُقُوفَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي ذَلِكَ فَاتْلُ مَنَاقِبَ مَكَّةَ إلَى آخِرِهَا، فَإِذَا اسْتَوْفَيْتهَا قُلْ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي الصَّحِيحِ: «اللَّهُمَّ إنَّ إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَأَنَا أُحَرِّمُ الْمَدِينَةَ بِمِثْلِ مَا حَرَّمَ بِهِ إبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَمِثْلِهِ مَعَهُ»؛ فَقَدْ جَعَلَ حُرْمَةَ الْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ حُرْمَةِ مَكَّةَ. وَقَالَ عُمَرُ فِي وَصِيَّتِهِ: أُوصِي الْخَلِيفَةَ بِالْمُهَاجِرِينَ وَبِالْأَنْصَارِ الْأَوَّلِينَ أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ

[مسألة قوله تعالى ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا]

حَقَّهُمْ. وَأُوصِي الْخَلِيفَةَ بِالْأَنْصَارِ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُهَاجِرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَيَتَجَاوَزَ عَنْ مُسِيئِهِمْ. [مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} [الحشر: 9] يَعْنِي لَا يَحْسُدُونَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى مَا خُصُّوا بِهِ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ وَغَيْرِهِ كَذَا قَالَ النَّاسُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ: وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا إذَا كَانَ قَلِيلًا؛ بَلْ يَقْنَعُونَ بِهِ، وَيَرْضَوْنَ عَنْهُ. وَقَدْ كَانُوا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ حِينَ حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُنْيَا، ثُمَّ كَانُوا عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَقَدْ أَنْذَرَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] وَقَالَ: «سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ». [مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]: فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا قُوتُهُ وَقُوتُ صِبْيَانِهِ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: نَوِّمِي الصِّبْيَةَ، وَأَطْفِئِي السِّرَاجَ، وَقَرِّبِي لِلضَّيْفِ مَا عِنْدَك، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]. مُخْتَصَرٌ، وَتَمَامُهُ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَصَابَنِي الْجَهْدُ؛ فَأَرْسَلَ إلَى نِسَائِهِ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُنَّ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَلَا رَجُلٌ يُضَيِّفُهُ اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَذَهَبَ إلَى أَهْلِهِ فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: ضَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لَا تَدَّخِرِي عَنْهُ شَيْئًا. فَقَالَتْ: وَاَللَّهِ مَا عِنْدِي سِوَى قُوتِ الصِّبْيَةِ.

[مسألة الإيثار بالنفس فوق الإيثار بالمال]

قَالَ: فَإِذَا أَرَادَ الصِّبْيَةُ الْعَشَاءَ فَنَوِّمِيهِمْ وَتَعَالَيْ فَأَطْفِئِي السِّرَاجَ وَنَطْوِي بُطُونَنَا اللَّيْلَةَ، فَفَعَلَتْ ثُمَّ غَدَا الرَّجُلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ أَوْ ضَحِكَ اللَّهُ مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانَةَ، وَأَنْزَلَ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]». وَرُوِيَ «أَنَّ النَّضِيرَ لَمَّا اُفْتُتِحَتْ أَرْسَلَ إلَى ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ فَقَالَ: جِئْنِي بِقَوْمِك. قَالَ: الْخَزْرَجُ. قَالَ: الْأَنْصَارُ، فَدَعَاهُمْ وَقَدْ كَانُوا وَاسَوْا الْمُهَاجِرِينَ بِدِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: إنْ شِئْتُمْ أَشْرَكْتُكُمْ فِيهَا مَعَ الْمُهَاجِرِينَ، وَإِنْ شِئْتُمْ خَصَصْتُهُمْ بِهَا، وَكَانَتْ لَكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَدِيَارُكُمْ؛ فَقَالَ لَهُ السَّعْدَانِ: بَلْ نَخُصُّهُمْ بِهَا وَيَبْقَوْنَ عَلَى مُوَاسَاتِنَا لَهُمْ؛ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ». الْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ: «كَانَ الرَّجُلُ يَجْعَلُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّخَلَاتِ حَتَّى افْتَتَحَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ». [مَسْأَلَة الْإِيثَارُ بِالنَّفْسِ فَوْقَ الْإِيثَارِ بِالْمَالِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ الْإِيثَارُ بِالنَّفْسِ فَوْقَ الْإِيثَارِ بِالْمَالِ، وَإِنْ عَادَ إلَى النَّفْسِ وَمِنْ الْأَمْثَالِ السَّائِرَةِ: وَالْجُودُ بِالنَّفْسِ أَقْصَى غَايَةِ الْجُودِ وَمِنْ عِبَارَاتِ الصُّوفِيَّة فِي حَدِّ الْمَحَبَّةِ: إنَّهَا الْإِيثَارُ، أَلَا تَرَى أَنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ لَمَا تَنَاهَتْ فِي حُبِّهَا لِيُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - آثَرَتْهُ عَلَى نَفْسِهَا بِالتَّبْرِئَةِ، فَقَالَتْ: {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف: 51]. وَأَفْضَلُ الْجُودُ بِالنَّفْسِ الْجُودُ عَلَى حِمَايَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَفِي الصَّحِيحِ «أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ تَرَّسَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَطَلَّعُ فَيَرَى الْقَوْمَ، فَيَقُولُ لَهُ أَبُو طَلْحَةَ: لَا تُشْرِفْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا يُصِيبُونَك، نَحْرِي دُونَ نَحْرِك. وَوَقَى بِيَدِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَشُلَّتْ».

[مسألة الشح والبخل]

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ الْإِيثَارُ هُوَ تَقْدِيمُ الْغَيْرِ عَلَى النَّفْسِ فِي حُظُوظِهَا الدُّنْيَوِيَّةِ رَغْبَةً فِي الْحُظُوظِ الدِّينِيَّةِ، وَذَلِكَ يَنْشَأُ عَنْ قُوَّةِ النَّفْسِ، وَوَكِيدِ الْمَحَبَّةِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَشَقَّةِ؛ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُؤْثَرِينَ؛ كَمَا رُوِيَ فِي الْآثَارِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبِلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ مَالَهُ وَمِنْ عُمَرَ نِصْفَ مَالِهِ، وَرَدَّ أَبَا لُبَابَةَ وَكَعْبًا إلَى الثُّلُثِ، لِقُصُورِهِمَا عَنْ دَرَجَتَيْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؛ إذْ لَا خَيْرَ لَهُ فِي أَنْ يَتَصَدَّقَ ثُمَّ يَنْدَمَ، فَيُحْبِطُ أَجْرَهُ نَدَمُهُ». [مَسْأَلَة الشُّحِّ وَالْبُخْلِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الشُّحِّ وَالْبُخْلِ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَهُمَا مَعْنَيَانِ: فَالْبُخْلُ مَنْعُ الْوَاجِبِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقُ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ، فَإِذَا أَرَادَ الْبَخِيلُ أَنْ يَتَصَدَّقَ لَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا فَيُوَسِّعُهَا فَلَا تَتَّسِعُ». وَالشُّحُّ: مَنْعُ الَّذِي لَمْ يَجِدْ؛ بِدَلِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ؛ فَذَكَرَ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ ذَهَابِ الشُّحِّ؛ وَهَذَا لَا يَلْزَمُ؛ فَإِنَّ كُلَّ حَرْفٍ يُفَسَّرُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَوْ مَعْنًى يُعَبَّرُ عَنْهُ بِحَرْفَيْنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ يُوضَعُ مَوْضِعَ صَاحِبِهِ جَمْعًا أَوْ فَرْقًا، وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ، وَلَمْ يَقُمْ هَاهُنَا دَلِيلٌ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. [الْآيَة التَّاسِعَة قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا] الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:

[مسألة كيفية قسمة الأرض التي فتحها المسلمون]

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي تَعْيِينِ هَؤُلَاءِ. وَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ غَيْرُ ذَيْنِ مِنْ سَائِرِ الْقَبَائِلِ وَالْأُمَمِ وَمِنْ الصَّحَابَةِ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ التَّابِعُونَ بَعْدَ قَرْنِ الصَّحَابَةِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ جَمَاعَةٍ، مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَوَاهُ عَنْهُ سَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَشْهَبُ وَغَيْرُهُمَا؛ قَالُوا: قَالَ مَالِكٌ: مَنْ سَبَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْفَيْءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10]. [مَسْأَلَة كَيْفِيَّة قِسْمَة الْأَرْض الَّتِي فَتْحهَا الْمُسْلِمُونَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي تَحْقِيقِ الْقَوْلِ: هَذِهِ نَازِلَةٌ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِيهَا قَدِيمًا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا افْتَتَحَ الْفُتُوحَ عَلَى عُمَرَ اجْتَمَعَ إلَيْهِ مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ وَاسْتَحَقَّ بِكِتَابِ اللَّهِ الْغَنِيمَةَ، فَسَأَلُوهُ الْقِسْمَةَ، فَامْتَنَعَ عُمَرُ مِنْهَا، فَأَلَحُّوا عَلَيْهِ، حَتَّى دَعَا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ. فَمَا حَالَ الْحَوْلُ إلَّا وَقَدْ مَاتُوا. وَقَالَ عُمَرُ: لَوْلَا أَنْ أَتْرُكَ آخِرَ النَّاسِ بَبَّانَا مَا تَرَكْت قَرْيَةً اُفْتُتِحَتْ إلَّا قَسَمَتْهَا بَيْنَ أَهْلِهَا. وَرَأَى الشَّافِعِيُّ الْقِسْمَةَ كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْبَرَ، وَرَأَى مَالِكٌ أَقْوَالًا أَمْثَلُهَا أَنْ يَجْتَهِدَ الْوَالِي فِيهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ قِسْمَةُ الْمَنْقُولِ وَإِبْقَاءُ الْعَقَارِ وَالْأَرْضِ سَهْلًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ، إلَّا أَنْ يَجْتَهِدَ الْوَالِي فَيُنْفِذَ أَمْرًا، فَيَمْضِي عَمَلُهُ فِيهِ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ عَلَيْهِ. وَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَاضِيَةٌ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ الْفَيْءِ، وَجَعَلَهُ لِثَلَاثِ طَوَائِفَ: الْمُهَاجِرِينَ، وَالْأَنْصَارِ وَهُمْ مَعْلُومُونَ، {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10] فَهِيَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ التَّابِعِينَ وَالْآتِينَ بَعْدَهُمْ إلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهَا بِبَعْضِ مُقْتَضَيَاتِهَا. وَفِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ إلَى الْمَقْبَرَةِ وَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ وَدِدْت أَنِّي رَأَيْت إخْوَانَنَا. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ

[الآية العاشرة قوله تعالى لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر]

اللَّهِ؛ أَلَسْنَا بِإِخْوَانِك، فَقَالَ: بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ». فَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ إخْوَانَهُمْ كُلُّ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ. وَهَذَا تَفْسِيرٌ صَحِيحٌ ظَاهِرٌ فِي الْمُرَادِ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ. [الْآيَة الْعَاشِرَة قَوْله تَعَالَى لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ] ٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [الحشر: 14]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي الْمُرَادِ بِهَا، فَقِيلَ: إنَّهُمْ الْيَهُودُ، وَقِيلَ: هُمْ الْمُنَافِقُونَ؛ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْآيَاتِ مُبْتَدَأَةٌ بِذِكْرِهِمْ قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [الحشر: 11] إلَى قَوْلِهِ: {الظَّالِمِينَ} [الحشر: 17]. وَعَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ الْيَهُودَ بِالنَّصْرِ، وَضَمِنَ لَهُمْ أَنَّ بَقَاءَهُ بِبَقَائِهِمْ وَخُرُوجَهُ بِخُرُوجِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَلَا وَفَّى بِهِ، بَلْ أَسْلَمَهُمْ وَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ، فَكَانَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر: 16] فَغَرَّ أَوَّلًا، وَكَذَبَ آخِرًا. الثَّانِي: أَنَّ الْيَهُودَ وَالْمُنَافِقِينَ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ وَاحِدَةً عَلَى مُعَادَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ تَكُنْ لِإِحْدَاهُمَا فِئَةٌ تُخَالِفُ الْأُخْرَى فِي ذَلِكَ. وَالشَّتَّى: هِيَ الْمُتَفَرِّقَةُ قَالَ الشَّاعِرُ: إلَى اللَّهِ أَشْكُو نِيَّةً شَقَّتْ الْعَصَا ... هِيَ الْيَوْمُ شَتَّى وَهِيَ بِالْأَمْسِ جُمَّعُ

[مسألة صلاة المفترض خلف المتنفل]

[مَسْأَلَة صَلَاةِ الْمُفْتَرِضِ خَلْفَ الْمُتَنَفِّلِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ تَعَلَّقَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فِي مَنْعِ صَلَاةِ الْمُفْتَرِضِ خَلْفَ الْمُتَنَفِّلِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ؛ لِأَنَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى صُورَةِ التَّكْبِيرِ وَالْأَفْعَالِ، وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي النِّيَّةِ. وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ [ذَلِكَ] فِيمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَيَشْمَلُهُ هَذَا اللَّفْظُ، وَيَنَالُهُ هَذَا الظَّاهِرُ. وَهَذَا كَانَ يَكُونُ حَسَنًا، بَيْدَ أَنَّهُ يَقْطَعُ بِهِ اتِّفَاقُ الْأُمَّةِ عَلَى جَوَازِ صَلَاةِ الْمُتَنَفِّلِ خَلْفَ الْمُفْتَرِضِ، وَالصُّورَةُ فِي اخْتِلَافِ النِّيَّةِ وَاتِّفَاقِ الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ فِيهِمَا وَاحِدٌ، فَإِذَا خَرَجَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ عَنْ عُمُومِ الْآيَةِ تَبَيَّنَ أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ فِي الطَّاعَاتِ، وَأَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا كَانَ مِنْ اخْتِلَافِ الْمُنَافِقِينَ فِي الْإِذَايَةِ لِلدِّينِ وَمُعَادَاةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [الْآيَة الْحَادِيَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ] ِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 20]. تَعَلَّقَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ فِي الْقِصَاصِ لِأَجْلِ عُمُومِ نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ، وَحَقَّقْنَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي التَّعَلُّقِ بِمِثْلِ هَذَا الْعُمُومِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ التَّعْمِيمِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا عَقَبَ الْآيَةَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 20] يَعْنِي وَأَصْحَابُ النَّارِ هُمْ الْهَالِكُونَ؛ فَفِي هَذَا الْقَدْرِ انْتَفَتْ التَّسْوِيَةُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: خُصُوصُ آخِرِهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ عُمُومِ أَوَّلِهَا، وَذَلِكَ مُحَقَّقٌ هُنَالِكَ.

[سورة الممتحنة فيها سبع آيات]

[سُورَةُ الْمُمْتَحَنَةِ فِيهَا سَبْع آيَات] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1]. فِيهَا ثَمَانِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ وَاللَّفْظُ فِي الْبُخَارِيِّ «أَنَّ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ وَكَانَ عُثْمَانِيًّا قَالَ لِابْنِ عَطِيَّةَ وَكَانَ عَلَوِيًّا: قَدْ عَلِمْت مَا جَرَّأَ صَاحِبَك عَلَى الدِّمَاءِ، سَمِعْته يَقُولُ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالزُّبَيْرَ فَقَالَ: ائْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ وَتَجِدُونَ بِهَا امْرَأَةً أَعْطَاهَا حَاطِبٌ كِتَابًا، فَأَتَيْنَا الرَّوْضَةَ، فَقُلْنَا: الْكِتَابَ؟ فَقَالَتْ: لَمْ يُعْطِنِي شَيْئًا، فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُجَرِّدَنَّكِ. فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ حُجْزَتِهَا، أَوْ قَالَ: مِنْ عِقَاصِهَا. فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ إلَى حَاطِبٍ فَقَالَ: لَا تَعْجَلْ، فَوَاَللَّهِ مَا كَفَرْت وَمَا ازْدَدْت لِلْإِسْلَامِ إلَّا حُبًّا، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِك إلَّا وَلَهُ بِمَكَّةَ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِي أَحَدٌ، فَأَحْبَبْت أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا، فَصَدَّقَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ فَإِنَّهُ قَدْ نَافَقَ. فَقَالَ لَهُ: مَا يُدْرِيك، لَعَلَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ». فَهَذَا الَّذِي جَرَّأَهُ وَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] الْآيَةَ، إلَى: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 7].

[مسألة معنى قوله تعالى عدوي وعدوكم]

[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ} [الممتحنة: 1]: قَدْ بَيَّنَّا الْعَدَاوَةَ وَالْوِلَايَةَ وَأَنَّ مَآلَهُمَا إلَى الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فِي كِتَابِ الْأَمَدِ الْأَقْصَى. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى: {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1] يَعْنِي فِي الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ قَلْبَ حَاطِبٍ كَانَ سَلِيمًا بِالتَّوْحِيدِ، بِدَلِيلِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُمْ: أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ صَدَقَ». وَهَذَا نَصٌّ فِي سَلَامَةِ فُؤَادِهِ وَخُلُوصِ اعْتِقَادِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ مَنْ كَثُرَ تَطَلُّعُهُ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُنَبِّهُ عَلَيْهِمْ، وَيُعَرِّفُ عَدُوَّهُمْ بِأَخْبَارِهِمْ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ كَافِرًا إذَا كَانَ فِعْلُهُ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ، وَاعْتِقَادُهُ عَلَى ذَلِكَ سَلِيمٌ، كَمَا فَعَلَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ حِينَ قَصَدَ بِذَلِكَ اتِّخَاذَ الْيَدِ وَلَمْ يَنْوِ الرِّدَّةَ عَنْ الدِّينِ. [مَسْأَلَة مِنْ كثر تَطْلُعهُ عَلَى عورات الْمُسْلِمِينَ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ إذَا قُلْنَا: إنَّهُ لَا يَكُونُ بِهِ كَافِرًا [فَاخْتَلَفَ النَّاسُ] فَهَلْ يُقْتَلُ بِهِ حَدًّا أَمْ لَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ، وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَشْهَبُ: يَجْتَهِدُ فِيهِ الْإِمَامُ. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: إذَا كَانَتْ تِلْكَ عَادَتَهُ قُتِلَ لِأَنَّهُ جَاسُوسٌ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: يُقْتَلُ الْجَاسُوسُ، وَهُوَ صَحِيحٌ لِإِضْرَارِهِ بِالْمُسْلِمِينَ وَسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. فَإِنْ قِيلَ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ هَلْ يُقْتَلُ كَمَا قَالَ عُمَرُ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ؛ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ وَحْدَهُ، وَيَبْقَى قَتْلُ غَيْرِهِ حُكْمًا شَرْعِيًّا، فَهَمَّ عُمَرُ بِهِ بِعِلْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَرُدَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَّا بِالْعِلَّةِ الَّتِي خَصَّصَهَا بِحَاطِبٍ. قُلْنَا: إنَّمَا قَالَ عُمَرُ: إنَّهُ يُقْتَلُ لِعِلَّةِ أَنَّهُ مُنَافِقٌ، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَيْسَ بِمُنَافِقٍ فَإِنَّمَا

[مسألة الجاسوس الحربي]

يُوجِبُ عُمَرُ قَتْلَ مَنْ نَافَقَ، وَنَحْنُ لَا نَتَحَقَّقُ نِفَاقَ فَاعِلِ مِثْلِ هَذَا، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ نَافَقَ، وَاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَصَدَ بِذَلِكَ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ مَعَ بَقَاءِ إيمَانِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ مَا رُوِيَ فِي الْقِصَّةِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: يَا حَاطِبُ؛ أَنْتَ كَتَبْت الْكِتَابَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَقَرَّ بِهِ وَلَمْ يُنْكِرْ، وَبَيَّنَ الْعُذْرَ فَلَمْ يَكْذِبْ»، وَصَارَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ أَقَرَّ رَجُلٌ بِالطَّلَاقِ ابْتِدَاءً، وَقَالَ: أَرَدْت بِهِ كَذَا وَكَذَا لِلنِّيَّةِ الْبَعِيدَةِ الصِّدْقِ، وَلَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ وَادَّعَى فِيهِ النِّيَّةَ الْبَعِيدَةَ لَمْ يُقْبَلْ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ الْجَارُودِ سَيِّدَ رَبِيعَةَ أَخَذَ دِرْبَاسًا وَقَدْ بَلَغَهُ أَنَّهُ يُخَاطِبُ الْمُشْرِكِينَ بِعَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَمَّ بِالْخُرُوجِ إلَيْهِمْ، فَصَلَبَهُ فَصَاحَ يَا عُمَرَاهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَأَرْسَلَ عُمَرُ إلَيْهِ، فَلَمَّا جَاءَ أَخَذَ الْحَرْبَةَ فَعَلَا بِهَا لِحْيَتَهُ، وَقَالَ: لَبَّيْكَ يَا دِرْبَاسُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَالَ: لَا تَعْجَلْ؛ إنَّهُ كَاتَبَ الْعَدُوَّ، وَهَمَّ بِالْخُرُوجِ إلَيْهِمْ، فَقَالَ: قَتَلْته عَلَى الْهَمِّ، وَأَيُّنَا لَا يَهُمُّ. فَلَمْ يَرَهُ عُمَرُ مُوجِبًا لِلْقَتْلِ، وَلَكِنَّهُ أَنْفَذَ اجْتِهَادَ ابْنِ الْجَارُودِ فِيهِ، لِمَا رَأَى مِنْ خُرُوجِ حَاطِبٍ عَنْ هَذَا الطَّرِيقِ كُلِّهِ. وَلَعَلَّ ابْنَ الْجَارُودِ إنَّمَا أَخَذَ بِالتَّكْرَارِ فِي هَذَا؛ لِأَنَّ حَاطِبًا أُخِذَ فِي أَوَّلِ فِعْلِهِ. [مَسْأَلَة الْجَاسُوسُ الْحَرْبِيُّ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ فَإِنْ كَانَ الْجَاسُوسُ كَافِرًا فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ يَكُونُ نَقْضًا لِعَهْدِهِ. وَقَالَ أَصْبَغُ: الْجَاسُوسُ الْحَرْبِيُّ يُقْتَلُ، وَالْجَاسُوسُ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ يُعَاقَبَانِ إلَّا أَنْ يَتَعَاهَدَا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَيُقْتَلَانِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «أَتَى بِعَيْنٍ لِلْمُشْرِكِينَ اسْمُهُ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُقْتَلَ، فَصَاحَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؛ أُقْتَلُ وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخُلِّيَ سَبِيلُهُ. ثُمَّ قَالَ: إنَّ مِنْكُمْ مَنْ أَكِلُهُ إلَى إيمَانِهِ، وَمِنْهُمْ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ». [مَسْأَلَة تَوَدَّدَ حَاطِبٌ إلَى الْكُفَّارِ لِيَجْلُبَ مَنْفَعَةً لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَعْقِدْ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ تَوَدَّدَ حَاطِبٌ إلَى الْكُفَّارِ لِيَجْلُبَ مَنْفَعَةً لِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَعْقِدْ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ.

[الآية الثانية قوله تعالى قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه]

وَقَدْ رَوَى جَابِرٌ «أَنَّ عَبْدًا لِحَاطِبٍ جَاءَ يَشْكُو حَاطِبًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك، لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَذَبْت؛ لَا يَدْخُلُهَا فَإِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ». [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ] ُ} [الممتحنة: 4]. وَهَذَا نَصٌّ فِي الِاقْتِدَاءِ بِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي فِعْلِهِ، وَهَذَا يُصَحِّحُ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ أَوْ رَسُولُهُ عَنْهُمْ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الممتحنة: 6] يَعْنِي فِي بَرَاءَتِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَمُبَاعَدَتِهِمْ لَهُمْ، وَمُنَابَذَتِهِمْ عَنْهُمْ، وَأَنْتُمْ بِمُحَمَّدٍ أَحَقُّ بِهَذَا الْفِعْلِ مِنْ قَوْمِ إبْرَاهِيمَ بِإِبْرَاهِيمَ {إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4] فَلَيْسَ فِيهِ أُسْوَةٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ حُكْمَهُ فِي سُورَةِ " بَرَاءَةٍ ". [الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ] ِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي بَقَاءِ حُكْمِهَا أَوْ نَسْخِهِ: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ الْمُوَادَعَةِ وَتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ؛ ثُمَّ نُسِخَ؛ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ.

[مسألة نفقة الابن المسلم على أبيه الكافر]

الثَّانِي: أَنَّهُ بَاقٍ، وَذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ خُزَاعَةُ وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ. الثَّانِي: مَا رَوَاهُ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قُتَيْلَةَ أُمَّ أَسْمَاءَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَدِمَتْ عَلَيْهِمْ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَادَنَ فِيهَا كُفَّارَ قُرَيْشٍ، وَأَهْدَتْ إلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قُرْطًا، فَكَرِهَتْ أَنْ تَقْبَلَ مِنْهَا، حَتَّى أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ». وَاَلَّذِي صَحَّ فِي رِوَايَةِ أَسْمَاءَ مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ رِوَايَةِ الصَّحِيحِ فِيهِ مِنْ قَبْلُ. [مَسْأَلَة نَفَقَةِ الِابْنِ الْمُسْلِمِ عَلَى أَبِيهِ الْكَافِرِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة: 8] أَيْ تُعْطُوهُمْ قِسْطًا مِنْ أَمْوَالِكُمْ [عَلَى وَجْهِ الصِّلَةِ]، وَلَيْسَ يُرِيدُ بِهِ مِنْ الْعَدْلِ؛ فَإِنَّ الْعَدْلَ وَاجِبٌ فِيمَنْ قَاتَلَ وَفِيمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ مَنْ تُعْقَدُ عَلَيْهِ الْخَنَاصِرُ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الِابْنِ الْمُسْلِمِ عَلَى أَبِيهِ الْكَافِرِ، وَهَذِهِ وَهْلَةٌ عَظِيمَةٌ؛ فَإِنَّ الْإِذْنَ فِي الشَّيْءِ أَوْ تَرْكِ النَّهْيِ عَنْهُ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ، إنَّمَا يُعْطِيك الْإِبَاحَةَ خَاصَّةً. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إسْمَاعِيلَ بْنَ إِسْحَاقَ الْقَاضِيَ دَخَلَ عَلَيْهِ ذِمِّيٌّ فَأَكْرَمَهُ، فَوَجَدَ عَلَيْهِ الْحَاضِرُونَ، فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَيْهِمْ. [الْآيَة الْخَامِسَة قَوْله تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ] الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الممتحنة: 10]. فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:

[مسألة قوله تعالى فامتحنوهن]

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: ثَبَتَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا صَالَحَ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ كَانَ فِيهِ أَنَّ مَنْ جَاءَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ إلَى الْمُسْلِمِينَ رُدَّ إلَيْهِمْ، وَمَنْ ذَهَبَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَى الْمُشْرِكِينَ لَمْ يُرَدَّ؛ وَتَمَّ الْعَهْدُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّ أَبَا بَصِيرٍ عُتْبَةَ بْنَ أُسَيْدِ بْنَ حَارِثَةَ الثَّقَفِيَّ حِينَ قَدِمَ، وَقَدِمَ أَيْضًا نِسَاءٌ مُسْلِمَاتٌ مِنْهُنَّ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَسُبَيْعَةُ الْأَسْلَمِيَّةُ، وَغَيْرُهُمَا، فَجَاءَ الْأَوْلِيَاءُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلُوهُ رَدَّهُنَّ عَلَى الشَّرْطِ، وَاسْتَدْعَوْا مِنْهُ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّمَا الشَّرْطُ فِي الرِّجَالِ لَا فِي النِّسَاءِ»، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ الْمُعْجِزَاتِ إلَّا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَبَضَ أَلْسِنَتَهُمْ عَنْ أَنْ يَقُولُوا: غَدَرَ مُحَمَّدٌ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي النِّسَاءِ، وَذَلِكَ إحْدَى مُعْجِزَاتِهِ. [مَسْأَلَة قَوْلُهُ تَعَالَى فَامْتَحِنُوهُنَّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: {فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10]: اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الِامْتِحَانِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْيَمِينُ رَوَاهُ أَبُو نَصْرٍ الْأَسَدِيُّ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسُبَيْعَةَ وَكَانَ زَوْجُهَا صَيْفِيَّ بْنَ السَّائِبِ: بِاَللَّهِ مَا أَخْرَجَك مِنْ قَوْمِك ضَرْبٌ وَلَا كَرَاهِيَةٌ لِزَوْجِك، وَلَا أَخْرَجَك إلَّا حِرْصٌ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَرَغْبَةٌ فِيهِ، لَا تُرِيدِينَ غَيْرَهُ». الثَّانِي: وَهُوَ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَمْتَحِنُ النِّسَاءَ بِهَذِهِ الْآيَةِ». [مَسْأَلَة الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ لَمْ تُرَدَّ النِّسَاءُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ لَمْ تُرِدْ النِّسَاءُ وَإِنْ دَخَلْنَ فِي عُمُومِ الشَّرْطِ، وَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا لِرِقَّتِهِنَّ وَضَعْفِهِنَّ. الثَّانِي: لِحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] وَالْمَعْنَيَانِ صَحِيحَانِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُعَلَّلَ الْحُكْمُ بِعِلَّتَيْنِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ.

[مسألة خروج النساء من عهد الرد]

[مَسْأَلَة خُرُوجُ النِّسَاءِ مِنْ عَهْدِ الرَّدِّ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ خُرُوجُ النِّسَاءِ مِنْ عَهْدِ الرَّدِّ كَانَ تَخْصِيصًا لِلْعُمُومِ لَا نَاسِخًا لِلْعَهْدِ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الْغَافِلِينَ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ الَّذِي أَوْجَبَ فُرْقَةَ الْمُسْلِمَةِ مِنْ زَوْجِهَا [هُوَ إسْلَامُهَا لَا] هِجْرَتُهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَهُوَ التَّلْخِيصُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الَّذِي فَرَّقَ بَيْنَهُمَا هُوَ اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ، وَإِلَيْهِ إشَارَةٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، بَلْ عِبَارَةٌ قَدْ أَوْضَحْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ. وَالْعُمْدَةُ فِيهِ هَاهُنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَالَ: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] فَبَيَّنَ أَنَّ الْعِلَّةَ عَدَمُ الْحِلِّ بِالْإِسْلَامِ، وَلَيْسَ اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ. [مَسْأَلَة إذَا أُمْسِكَتْ الْمَرْأَةُ الْمُسْلِمَةُ أَنْ تَرُدَّ عَلَى زَوْجِهَا مَا أَنْفَقَ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى إذَا أُمْسِكَتْ الْمَرْأَةُ الْمُسْلِمَةُ أَنْ تَرُدَّ عَلَى زَوْجِهَا مَا أَنْفَقَ، وَذَلِكَ مِنْ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مُنِعَ مِنْ أَهْلِهِ لِحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُرَدَّ إلَيْهِ الْمَالُ، حَتَّى لَا يَقَعَ عَلَيْهِمْ خُسْرَانٌ مِنْ الْوَجْهَيْنِ: الزَّوْجَةِ، وَالْمَالِ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِرَدِّ مَا أَنْفَقُوا إلَى الْأَزْوَاجِ وَكَانَ الْمُخَاطَبُ بِهَذَا الْإِمَامَ يُنَفِّذُ ذَلِكَ مِمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ الَّذِي لَا يَتَعَيَّنُ لَهُ مَصْرِفٌ. [مَسْأَلَة رَفَعَ اللَّهُ الْحَرَجَ فِي نِكَاحِ الْمَرْأَة بِشَرْطِ الصَّدَاقِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ رَفَعَ اللَّهُ الْحَرَجَ فِي نِكَاحِهَا بِشَرْطِ الصَّدَاقِ، وَسَمَّى ذَلِكَ أَجْرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَبَيَانُ شَرْطٍ آخَرَ وَهُوَ الِاسْتِبْرَاءُ مِنْ مَاءِ الْكَافِرِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ؛ وَالِاسْتِبْرَاءُ هَا هُنَا بِثَلَاثِ حِيَضٍ وَهِيَ الْعِدَّةُ». وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. ثُمَّ قَالَ وَهِيَ:

[مسألة نكاح المشركة والمعتدة]

[مَسْأَلَة نِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ وَالْمُعْتَدَّةِ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الممتحنة: 10] يَعْنِي إذْ أَسْلَمْنَ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ، لِمَا ثَبَتَ مِنْ تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ وَالْمُعْتَدَّةِ؛ فَعَادَ جَوَازُ النِّكَاحِ إلَى حَالَةِ الْإِيمَانِ ضَرُورَةً. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ قَوْلُهُ: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]: هَذَا بَيَانٌ لِامْتِنَاعِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ مِنْ جُمْلَةِ الْكَوَافِرِ. وَهُوَ تَفْسِيرُهُ وَالْمُرَادُ بِهِ. قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ كَانَ لَهُ زَوْجَةٌ مُشْرِكَةٌ أَنْ يُطَلِّقَهَا. وَقَدْ كَانَ الْكُفَّارُ يَتَزَوَّجُونَ الْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُسْلِمُونَ يَتَزَوَّجُونَ الْمُشْرِكَاتِ، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا. وَكَانَ ذَلِكَ نَسْخَ الْإِقْرَارِ عَلَى الْأَفْعَالِ بِالْأَقْوَالِ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، فَطَلَّقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حِينَئِذٍ قُرَيْبَةَ بِنْتَ أُمَيَّةَ، وَابْنَةَ جَرْوَلٍ الْخُزَيْمِيِّ؛ فَتَزَوَّجَ قُرَيْبَةَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَتَزَوَّجَ ابْنَةَ جَرْوَلٍ أَبُو جَهْمٍ. فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِمُعَاوِيَةَ: طَلِّقْ قُرَيْبَةَ لِئَلَّا يَرَى عُمَرُ سَلَبَهُ فِي بَيْتِك، فَأَبَى مُعَاوِيَةُ ذَلِكَ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا] الْمَسْأَلَة الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَوْلُهُ: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10]: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كُلُّ مَنْ ذَهَبَ مِنْ الْمُسْلِمَاتِ مُرْتَدَّاتٍ [مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ] إلَى الْكُفَّارِ يُقَالُ لِلْكُفَّارِ: هَاتُوا مَهْرَهَا وَيُقَالُ لِلْمُسْلِمِينَ إذَا جَاءَ أَحَدٌ مِنْ الْكَافِرَاتِ مُسْلِمَةً مُهَاجِرَةً: رُدُّوا إلَى الْكُفَّارِ مَهْرَهَا وَكَانَ ذَلِكَ نَصْفًا وَعَدْلًا بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ، وَكَانَ هَذَا حُكْمَ اللَّهِ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ الزَّمَانِ فِي تِلْكَ النَّازِلَةِ خَاصَّةً بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ. [مَسْأَلَة عَقْدُ الْهُدْنَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ أَمَّا عَقْدُ الْهُدْنَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ فَجَائِزٌ عَلَى مَا مَضَى مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ لِمُدَّةٍ وَمُطْلَقًا إلَيْهِمْ لِغَيْرِ مُدَّةٍ. فَأَمَّا عَقْدُهُ عَلَى أَنْ يَرُدَّ مَنْ أَسْلَمَ إلَيْهِمْ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا جَوَّزَهُ اللَّهُ لَهُ لِمَا عَلِمَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَةِ، وَقَضَى فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ، وَأَظْهَرَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ وَحَمِيدِ الْأَثَرِ فِي الْإِسْلَامِ مَا حَمَلَ الْكُفَّارَ عَلَى الرِّضَا بِإِسْقَاطِهِ، وَالشَّفَاعَةِ فِي حَطِّهِ؛ فَفِي الصَّحِيحِ: «لَمَّا كَاتَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى قَصْرِ

[الآية السادسة قوله تعالى وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم]

الْمُدَّةِ، فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَأَرْسَلُوا فِي طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ، فَدَفَعَهُ إلَى الرَّجُلَيْنِ، فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا بِهِ ذَا الْحُلَيْفَةِ فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ، فَقَتَلَ أَبُو بَصِيرٍ أَحَدَهُمَا، وَفَرَّ الْآخَرُ، حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا، فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَدْ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَك، ثُمَّ أَنْجَانِي مِنْهُمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ لَوْ كَانَ مَعَهُ رِجَالٌ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إلَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ قَالَ: وَتَفَلَّتَ مِنْهُمْ أَبُو جُنْدُبِ بْنُ سُهَيْلٍ، فَلَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، وَجَعَلَ لَا يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَسْلَمَ إلَّا لَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ، فَوَاَللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إلَى الشَّامِ إلَّا اعْتَرَضُوهُمْ فَقَتَلُوهُمْ، وَأَخَذُوا بِأَمْوَالِهِمْ. فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَنْشُدُهُ اللَّهَ وَالرَّحِمَ إلَّا أَرْسَلَ إلَيْهِمْ، فَمَنْ أَتَاهُ فَهُوَ آمِنٌ. فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 24] الْآيَةَ إلَى {حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح: 26]»؛ فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الِانْقِيَادِ إلَيْهِمْ عَنْ هَوَانٍ، وَإِنَّمَا كَانَ عَنْ حِكْمَةٍ حَسُنَ مَآلُهَا، كَمَا سُقْنَاهُ آنِفًا مِنْ الرِّوَايَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة السَّادِسَة قَوْله تَعَالَى وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ] ْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [الممتحنة: 11]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الْمَعْنَى إنْ ارْتَدَّتْ امْرَأَةٌ وَلَمْ يَرُدَّ الْكُفَّارُ صَدَاقَهَا إلَى زَوْجِهَا كَمَا أُمِرُوا فَرُدُّوا أَنْتُمْ إلَى زَوْجِهَا مِثْلَ مَا أَنْفَقَ.

[مسألة معنى قوله تعالى فعاقبتم]

[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَعَاقَبْتُمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {فَعَاقَبْتُمْ} [الممتحنة: 11]: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الْمُعَاقَبَةُ الْمُنَاقَلَةُ عَلَى تَصْيِيرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّيْئَيْنِ مَكَانَ الْآخَرِ عَقِيبَ ذَهَابِ عَيْنِهِ، فَأَرَادَ: فَعَوَّضْتُمْ مَكَانَ الذَّاهِبِ لَهُمْ عِوَضًا، أَوْ عَوَّضُوكُمْ مَكَانَ الذَّاهِبِ لَكُمْ عِوَضًا، فَلْيَكُنْ مِنْ مِثْلِ الَّذِي خَرَجَ عَنْكُمْ أَوْ عَنْهُمْ عِوَضًا مِنْ الْفَائِتِ لَكُمْ أَوْ لَهُمْ. [مَسْأَلَة مَحَلِّ الْعَاقِبَة فِي قَوْله تَعَالَى فَعَاقَبْتُمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي مَحَلِّ الْعَاقِبَةِ: وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا مِنْ الْفَيْءِ؛ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ. الثَّانِي: مِنْ مَهْرٍ إنْ وَجَبَ لِلْكُفَّارِ فِي زَوْجِ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى مَذْهَبِ اقْتِصَاصِ الرَّجُلِ مِنْ مَالِ خَصْمِهِ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ دُونَ أَذِيَّةٍ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُرَدُّ مِنْ الْغَنِيمَةِ. وَفِي كَيْفِيَّةِ رَدِّهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُخْرَجُ الْمَهْرُ وَالْخُمُسُ ثُمَّ تَقَعُ الْقِسْمَةُ، وَهَذَا مَنْسُوخٌ إنْ صَحَّ. الثَّانِي: أَنَّهُ يُخْرَجُ مِنْ الْخُمُسِ، وَهُوَ أَيْضًا مَنْسُوخٌ، وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة السَّابِعَة قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا جَاءَك الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَك] َ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 12]. فِيهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12] الْآيَةَ.

عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْتَحِنُ إلَّا بِهَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} [الممتحنة: 12] الْآيَةَ». قَالَ مَعْمَرٌ: فَأَخْبَرَنِي ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَا مَسَّتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ إلَّا امْرَأَةٍ يَمْلِكُهَا. وَعَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ: «مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَ امْرَأَةٍ وَقَالَ: إنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ، إنَّمَا قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ كَقَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ». وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ صَافَحَهُنَّ عَلَى ثَوْبِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ صَافَحَهُنَّ عَنْهُ، وَأَنَّهُ كَلَّفَ امْرَأَةً وَقَفَتْ عَلَى الصَّفَا فَبَايَعَتْهُنَّ. وَذَلِكَ ضَعِيفٌ؛ وَإِنَّمَا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَى مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: تُبَايِعُونِي عَلَى أَلَّا تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا أَيُّهَا النِّسَاءُ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُنَّ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فَهُوَ لَهُ كَفَّارَةٌ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْهَا شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إلَى اللَّهِ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ»؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَيْعَةَ الرَّجُلِ فِي الدِّينِ كَبَيْعَةِ النِّسَاءِ إلَّا فِي الْمَسِيسِ بِالْيَدِ خَاصَّةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «شَهِدْت الصَّلَاةَ يَوْمَ الْفِطْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَكُلُّهُمْ يُصَلِّيهَا قَبْلَ الْخُطْبَةِ، ثُمَّ يَخْطُبُ بَعْدُ فَنَزَلَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَيْهِ حِينَ يُجَلِّسُ الرِّجَالَ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ يَشُقُّهُمْ حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ وَمَعَهُ بِلَالٌ، فَقَرَأَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12] الْآيَةَ كُلَّهَا، ثُمَّ قَالَ حِينَ فَرَغَ: أَنْتُنَّ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ وَاحِدَةٌ لَمْ يُجِبْهُ غَيْرُهَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. لَا يَدْرِي الْحَسَنُ مَنْ هِيَ. قَالَ: فَتَصَدَّقْنَ وَبَسَطَ بِلَالٌ ثَوْبَهُ فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ الْفَتَخَ وَالْخَوَاتِمَ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ».

[مسألة معنى قوله تعالى ولا يقتلن أولادهن]

[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ: {وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ} [الممتحنة: 12] يَعْنِي بِالْوَأْدِ وَالِاسْتِتَارِ عَنْ الْعَمْدِ إذَا كَانَ عَنْ غَيْرِ رِشْدَةٍ؛ فَإِنَّ رَمْيَهُ كَقَتْلِهِ، وَلَكِنَّهُ إنْ عَاشَ كَانَ إثْمُهَا أَخَفَّ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْلُهُ: {وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} [الممتحنة: 12]: قِيلَ فِي أَيْدِيهِنَّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا الْمَسْأَلَةُ. الثَّانِي: أَكْلُ الْحَرَامِ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَوْلُهُ: {وَأَرْجُلِهِنَّ} [الممتحنة: 12]: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ الْكَذِبُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ الثَّانِي: هُوَ إلْحَاقُ وَلَدٍ بِمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَمَّا بَيْنَ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوفٍ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة: 12]: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ النِّيَاحَةُ. الثَّانِي: أَلَّا يُحَدِّثْنَ الرِّجَالَ. الثَّالِثُ: أَلَّا يَخْمُشْنَ وَجْهًا، وَلَا يَشْقُقْنَ جَيْبًا، وَلَا يَرْفَعْنَ صَوْتًا، وَلَا يَرْمِينَ عَلَى أَنْفُسِهِنَّ نَقْعًا الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ فِي تَنْخِيلِ هَذِهِ الْمَعَانِي: أَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ قَوْلَهُ {بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ} [الممتحنة: 12] يَعْنِي الْمَسْأَلَةَ فَهُوَ تَجَاوُزٌ كَبِيرٌ؛ فَإِنَّ أَصْلَهَا اللِّسَانُ وَآخِرَهَا أَنْ أُعْطِيَ شَيْئًا فِي الْيَدِ.

[مسألة هل الطاقة مشروطة في الشريعة]

وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ أَكْلُ الْحَرَامِ أَقْرَبُ، وَكَأَنَّهُ عَكْسُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْحَرَامَ يَتَنَاوَلُهُ بِيَدِهِ فَيَحْمِلُهُ إلَى لِسَانِهِ، وَالْمَسْأَلَةُ يَبْدَؤُهَا بِلِسَانِهِ وَيَحْمِلُهَا إلَى يَدِهِ، وَيَرُدُّهَا إلَى لِسَانِهِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ كِنَايَةٌ عَمَّا بَيْنَ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ، فَهُوَ أَصْلٌ فِي الْمَجَازِ حَسَنٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة: 12] فَهُوَ نَصٌّ فِي إيجَابِ الطَّاعَةِ؛ فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ، إمَّا لَفْظًا أَوْ مَعْنًى عَلَى اخْتِلَافِ الْأُصُولِيِّينَ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا [مَعْنَى] تَخْصِيصِ قَوْلِهِ: {فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة: 12] وَقُوَّةُ قَوْلِهِ: {وَلا يَعْصِينَكَ} [الممتحنة: 12] يُعْطِيهِ؛ لِأَنَّهُ عَامٌّ فِي وَظَائِفِ الشَّرِيعَةِ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلْمَعْنَى عَلَى التَّأْكِيدِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء: 112] لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ " اُحْكُمْ " لَكَفَى. الثَّانِي أَنَّهُ إنَّمَا شَرَطَ الْمَعْرُوفَ فِي بَيْعَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى يَكُونَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى بِذَلِكَ، وَأَلْزَمُ لَهُ، وَأَنْفَى لِلْإِشْكَالِ فِيهِ. وَفِي الْآثَارِ: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ». [مَسْأَلَة هَلْ الطَّاقَةَ مَشْرُوطَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا بَايَعَ النِّسَاءَ عَلَى هَذَا قَالَ لَهُنَّ: فِيمَا أَطَقْتُنَّ فَيَقُلْنَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَرْحَمُ بِنَا مِنْ أَنْفُسِنَا». وَهَذَا بَيَانٌ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحَقِيقَةِ الْحَالِ؛ فَإِنَّ الطَّاقَةَ مَشْرُوطَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ، مَرْفُوعٌ عَنْ الْمُكَلَّفِينَ مَا نَافَ عَلَيْهَا، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ رَوَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ فِي الصَّحِيحِ قَالَتْ: «بَايَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَرَأَ عَلَيْنَا: أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا، وَنَهَانَا عَنْ النِّيَاحَةِ، فَقَبَضَتْ امْرَأَةٌ عَلَى يَدِهَا وَقَالَتْ: أَسْعَدَتْنِي فُلَانَةُ أُرِيدُ أَنْ أَجْزِيَهَا. فَمَا قَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا، فَانْطَلَقَتْ فَرَجَعَتْ فَبَايَعَهَا»، فَيَكُونُ هَذَا

[مسألة صفة أركان البيعة]

تَفْسِيرَ قَوْلِهِ: {بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} [الممتحنة: 12]؛ وَذَلِكَ تَخْمِيشُ وُجُوهٍ، وَشَقُّ جُيُوبٍ. وَفِي الصَّحِيحِ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَمَشَ الْوُجُوهَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ». فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَازَ أَنْ تُسْتَثْنَى مَعْصِيَةٌ، وَتَبْقَى عَلَى الْوَفَاءِ بِهَا، وَيُقِرُّهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ؟ قُلْنَا: وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْكَافِي، مِنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْهَلَهَا حَتَّى تَسِيرَ إلَى صَاحِبَتِهَا لِعِلْمِهِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَبْقَى فِي نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا تَرْجِعُ سَرِيعًا عَنْهُ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ بَعْضَهُمْ شَرَطَ أَلَّا يَخِرَّ إلَّا قَائِمًا، فَقِيلَ فِي أَحَدِ تَأْوِيلَيْهِ: إنَّهُ لَا يَرْكَعُ، فَأَمْهَلَهُ حَتَّى آمَنَ، فَرَضِيَ بِالرُّكُوعِ. وَقِيلَ: أَرَادَتْ أَنْ تَبْكِيَ مَعَهَا بِالْمُقَابَلَةِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ النَّوْحِ خَاصَّةً. [مَسْأَلَة صِفَة أَرْكَانِ الْبَيْعَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ فِي صِفَةِ أَرْكَانِ الْبَيْعَةِ عَلَى أَلَّا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا إلَى آخِرِ الْخِصَالِ السِّتِّ. صَرَّحَ فِيهِنَّ بِأَرْكَانِ النَّهْيِ فِي الدِّينِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَرْكَانَ الْأَمْرِ؛ وَهِيَ الشَّهَادَةُ، وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ، وَالصِّيَامُ، وَالْحَجُّ، وَالِاغْتِسَالُ مِنْ الْجَنَابَةِ؛ وَهِيَ سِتَّةٌ فِي الْأَمْرِ فِي الدِّينِ وَكِيدَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي قِصَّةِ جِبْرِيلَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَفِي اعْتِمَادِهِ الْإِعْلَامَ بِالْمَنْهِيَّاتِ دُونَ الْمَأْمُورَاتِ حُكْمَانِ اثْنَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّهْيَ دَائِمٌ، وَالْأَمْرُ يَأْتِي فِي الْفَتَرَاتِ؛ فَكَانَ التَّنْبِيهُ عَلَى اشْتِرَاطِ الدَّائِمِ أَوْكَدَ. الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْمَنَاهِيَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ كَثِيرٌ مَنْ يَرْتَكِبُهَا، وَلَا يَحْجِزُهُنَّ عَنْهَا شَرَفُ الْحَسَبِ، وَلِذَلِكَ رُوِيَ «أَنَّ الْمَخْزُومِيَّةَ سَرَقَتْ، فَأَهَمَّ قُرَيْشًا أَمْرُهَا، وَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا أُسَامَةُ، فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ»، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

[مسألة قول النبي صلى الله عليه وسلم لهن في البيعة ألا يسرقن]

فَخَصَّ اللَّهُ ذَلِكَ بِالذِّكْرِ لِهَذَا، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ: «آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ؛ آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الدُّبَّاءِ، وَالْحَنْتَمِ، وَالنَّقِيرِ، وَالْمُزَفَّتِ»، فَنَبَّهَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ دُونَ سَائِرِ الْمَعَاصِي؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ عَادَتَهُمْ. وَإِذَا تَرَكَ الْمَرْءُ شَهْوَتَهُ مِنْ الْمَعَاصِي هَانَ عَلَيْهِ تَرْكُ سِوَاهَا مِمَّا لَا شَهْوَةَ لَهُ فِيهَا. [مَسْأَلَة قَوْل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُنَّ فِي الْبَيْعَةِ أَلَّا يَسْرِقْنَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُنَّ فِي الْبَيْعَةِ: أَلَّا يَسْرِقْنَ قَالَتْ هِنْدُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ، فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي؟ فَقَالَ: لَا، إلَّا بِالْمَعْرُوفِ»؛ فَخَشِيَتْ هِنْدُ أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى مَا يُعْطِيهَا أَبُو سُفْيَانَ فَتَضِيعَ أَوْ تَأْخُذَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَتَكُونَ سَارِقَةً نَاكِثَةً لِلْبَيْعَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا، أَيْ لَا حَرَجَ عَلَيْك فِيمَا أَخَذْت بِالْمَعْرُوفِ يَعْنِي مِنْ غَيْرِ اسْتِطَالَةٍ إلَى أَكْثَرَ مِنْ الْحَاجَةِ. وَهَذَا إنَّمَا هُوَ فِيمَا لَا يَخْزُنُهُ عَنْهَا فِي حِجَابٍ، وَلَا يَضْبِطُ عَلَيْهَا بِقُفْلٍ، فَإِنَّهَا إذَا هَتَكَتْهُ الزَّوْجَةُ، وَأَخَذَتْ مِنْهُ كَانَتْ سَارِقَةً، تَعْصِي بِهَا، وَتُقْطَعُ عَلَيْهِ يَدُهَا حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ. [مَسْأَلَة صِفَةِ الْبَيْعَةِ لِمَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْكُفَّارِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ فِي صِفَةِ الْبَيْعَةِ لِمَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْكُفَّارِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ مَنْقُولَةً وَهِيَ الْيَوْمَ مَكْتُوبَةٌ؛ إذْ كَانَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُكْتَبُ إلَّا الْقُرْآنُ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي السُّنَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُكَتِّبُ أَصْحَابَهُ وَلَا يَجْمَعُهُمْ لَهُ دِيوَانٌ حَافِظٌ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا: «اُكْتُبُوا لِي مَنْ يَلْفِظُ بِالْإِسْلَامِ لِأَمْرٍ عَرَضَ لَهُ». فَأَمَّا الْيَوْمَ فَيُكْتَبُ إسْلَامُ الْكَفَرَةِ، كَمَا يُكْتَبُ سَائِرُ مَعَالِمِ الدِّينِ الْمُهِمَّةِ وَالتَّوَابِعِ مِنْهَا لِضَرُورَةِ حِفْظِهَا حِينَ فَسَدَ النَّاسُ وَخَفَّتْ أَمَانَتُهُمْ، وَمَرَجَ أَمْرُهُمْ، وَنُسْخَةُ مَا يُكْتَبُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: لِلَّهِ أَسْلَمَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ مِنْ أَهْلِ أَرْضِ كَذَا، وَآمَنَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشَهِدَ لَهُ بِشَهَادَةِ الصِّدْقِ، وَأَقَرَّ بِدَعْوَةِ الْحَقِّ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ

رَسُولُ اللَّهِ. وَالْتَزَمَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ بِأَرْكَانِهَا وَأَوْصَافِهَا، وَأَدَّى الزَّكَاةَ بِشُرُوطِهَا، وَصَوْمَ رَمَضَانَ، وَالْحَجَّ إلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ، إذَا اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا، وَيَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ، وَيَتَوَضَّأُ مِنْ الْحَدَثِ، وَخَلَعَ الْأَنْدَادَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَتَحَقَّقَ أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا قُلْت: وَإِنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ يَهُودِيًّا قُلْت: وَإِنَّ الْعُزَيْرَ عَبْدُ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ صَابِئًا قُلْت: وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ عَبِيدُ اللَّهِ وَرُسُلُهُ الْكِرَامُ وَكُتَّابُهُ الْبَرَرَةُ الَّذِينَ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ. وَإِنْ كَانَ هِنْدِيًّا قُلْت: [وَإِنَّ] مَانِي بَاطِلٌ مَحْضٌ، وَبُهْتَانٌ صِرْفٌ، وَكَذِبٌ مُخْتَلَقٌ مُزَوَّرٌ. وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ عَلَى مَذْهَبٍ مِنْ الْكُفْرِ اعْتَمَدْته بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُ بِالذِّكْرِ. وَتَقُولُ بَعْدَهُ: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا - لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} [مريم: 93 - 94] {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]. تَعَالَى وَتَقَدَّسَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ وَكَبَّرَهُ تَكْبِيرًا. وَالْتَزَمَ أَلَّا يَقْتُلَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ، وَلَا يَسْرِقُ، وَلَا يَزْنِي، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَلَا يَتَكَلَّمُ بِالزُّورِ، وَيَكُونُ مَعَ إخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ كَأَحَدِهِمْ، وَلَا يُسْلِمُهُمْ وَلَا يُسْلِمُونَهُ، وَلَا يَظْلِمُهُمْ وَلَا يَظْلِمُونَهُ، وَعَلِمَ أَنَّ لِلدِّينِ فَرَائِضَ وَشَرَائِعَ وَسُنَنًا، فَعَاهَدَ اللَّهَ عَلَى أَنْ يَلْتَزِمَ كُلَّ خَصْلَةٍ مِنْهَا عَلَى نَعْتِهَا بِقَلْبٍ سَلِيمٍ وَسَنَنٍ قَوِيمٍ وَاَللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى مَا شَاءَ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَشَهِدَ أَنَّهُ {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] شَهِدَ عَلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ مَنْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ، وَهُوَ صَحِيحُ الْعَقْلِ فِي شَهْرِ كَذَا. وَقَدْ أَدْرَكَ التَّقْصِيرَ جُمْلَةٌ مِنْ الْمُؤَرِّخِينَ، وَكَتَبُوا مَعَالِمَ الْأَمْرِ دُونَ وَظَائِفِ النَّهْيِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَذْكُرُ فِي بَيْعَتِهِ الْوَجْهَيْنِ، أَوْ يُغَلِّبُ ذِكْرَ وَظَائِفِ النَّهْيِ، كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ.

وَكَتَبُوا أَنَّهُ أَسْلَمَ طَوْعًا، وَكَتَبُوا: وَكَانَ إسْلَامُهُ عَلَى يَدَيْ فُلَانٍ، وَكَتَبُوا أَنَّهُ اغْتَسَلَ وَصَلَّى. فَأَمَّا قَوْلُهُمْ: وَكَانَ إسْلَامُهُ طَوْعًا فَبَاطِلٌ، فَإِنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ مُكْرَهًا لَصَحَّ إسْلَامُهُ وَلَزِمَهُ، وَقُتِلَ بِالرِّدَّةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]؛ وَالْكُفَّارُ إنَّمَا يُقَاتَلُونَ قَسْرًا عَلَى الْإِسْلَامِ فَيُسْتَخْرَجُ مِنْهُمْ بِالسَّيْفِ. وَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ قَتْلِ الْأَسْرَى أَوْ مُفَادَاتِهِمْ بِالْخَمْسَةِ الْأَوْجُهِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِيهِمْ؛ فَإِذَا أَسْلَمَ سَقَطَ حُكْمُ السَّيْفِ عَنْهُ. وَفِي الصَّحِيحِ: «عَجِبَ رَبُّكُمْ مِنْ قَوْمٍ يُقَادُونَ إلَى الْجَنَّةِ بِالسَّلَاسِلِ». وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ لَوْ جَنَى جِنَايَةً فَخَافَ مِنْ مُوجَبِهَا الْقَتْلَ وَالضَّرْبَ فَأَسْلَمَ سَقَطَ عَنْهُ الضَّرْبُ وَالْقَتْلُ، وَكَانَ إسْلَامُهُ كُرْهًا، وَحُكِمَ بِصِحَّتِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِكْرَاهُ الْمُسْقِطُ لِلْإِسْلَامِ إذَا كَانَ ظُلْمًا وَبَاطِلًا، مِثْلُ أَنْ يُقَالَ لِلذِّمِّيِّ [ابْتِدَاءً] مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ وَلَا سَبَبٍ: أَسْلِمْ، وَإِلَّا قَتَلْتُك؛ فَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ فَإِنْ أَسْلَمَ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَجَازَ لَهُ الرُّجُوعُ إلَى دِينِهِ عِنْدَ أَمْنِهِ مِمَّا خَافَ مِنْهُ. وَإِذَا ادَّعَى الذِّمِّيُّ أَنَّهُ أُكْرِهَ بِالْبَاطِلِ لَزِمَهُ إثْبَاتُ ذَلِكَ، فَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ الطَّوَاعِيَةِ بِوَجْهٍ وَلَا حَالٍ فِي كُلِّ كَافِرٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: كَانَ إسْلَامُهُ عَلَى يَدِ فُلَانٍ فَأَنَّى عَلَّقُوهَا، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونُوا رَأَوْهُ فِي كُتُبِ الْمُخَالِفِينَ؛ لِأَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ ذَلِكَ فِي شُرُوطِهِمْ لِعِلَّةِ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ الرَّجُلَ إذَا أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ الرَّجُلِ كَانَ لَهُ وَلَاؤُهُ، وَذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ بِمَذْهَبٍ لَنَا. وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَغَيْرِهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: اغْتَسَلَ وَصَلَّى، فَلَيْسَ يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْعَقْدِ الْمَكْتُوبِ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ صَلَاةٍ، فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ وَلَا وُضُوءَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ صَلَاةٌ. وَأَمَّا إذَا كَانَ وَقْتَ صَلَاةٍ فَيُؤْمَرُ بِالْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ فَيَفْعَلُهُمَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَكْتُوبًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[سورة الصف فيها آيتان]

[سُورَةُ الصَّفِّ فِيهَا آيَتَانِ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى رَوَى أَبُو مُوسَى فِي الصَّحِيحِ أَنَّ سُورَةً كَانَتْ عَلَى قَدْرِهَا، أَوَّلُهَا: سَبَّحَ لِلَّهِ، كَانَ فِيهَا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] سَتُكْتَبُ شَهَادَةٌ فِي أَعْنَاقِهِمْ فَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ ثَابِتٌ فِي الدِّينِ. أَمَّا قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] فَثَابِتٌ فِي الدِّينِ لَفْظًا وَمَعْنًى فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَا تَلَوْنَاهُ آنِفًا فِيهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: [فَتُكْتَبُ] شَهَادَةٌ فِي أَعْنَاقِكُمْ فَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَعْنًى ثَابِتٌ فِي الدِّينِ [لَفْظًا وَمَعْنًى]؛ فَإِنَّ مَنْ الْتَزَمَ شَيْئًا لَزِمَهُ شَرْعًا، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْمُلْتَزَمُ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا النَّذْرُ، وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ:

[مسألة كان الوعد مقولا منه هل يلزمه الوفاء]

نَذْرِ تَقَرُّبٍ مُبْتَدَأً؛ كَقَوْلِهِ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمٌ وَصَلَاةٌ وَصَدَقَةٌ، وَنَحْوُهُ مِنْ الْقُرَبِ؛ فَهَذَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ إجْمَاعًا. وَنَذْرِ مُبَاحٍ؛ وَهُوَ مَا عُلِّقَ بِشَرْطِ رَغْبَةٍ [كَقَوْلِهِ: إنْ قَدِمَ غَائِبِي فَعَلَيَّ صَدَقَةٌ، أَوْ عُلِّقَ بِشَرْطِ رَهْبَةٍ]، كَقَوْلِهِ: إنْ كَفَانِي اللَّهُ شَرَّ كَذَا فَعَلَيَّ صَدَقَةٌ، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ؛ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ: إنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ. وَعُمُومُ الْآيَةِ حُجَّةٌ لَنَا؛ لِأَنَّهَا بِمُطْلَقِهَا تَتَضَمَّنُ ذَمَّ مَنْ قَالَ مَا لَا يَفْعَلُهُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ، مِنْ مُطْلَقٍ، أَوْ مُقَيَّدٍ بِشَرْطٍ. وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُهُ: إنَّ النَّذْرَ إنَّمَا يَكُونُ بِمَا الْقَصْدُ مِنْهُ الْقُرْبَةُ مِمَّا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْقُرْبَةِ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْقُرْبَةِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْقُرْبَةَ، وَإِنَّمَا قَصَدَ مَنْعَ نَفْسِهِ عَنْ فِعْلٍ أَوْ الْإِقْدَامِ عَلَى فِعْلٍ. قُلْنَا: الْقُرَبُ الشَّرْعِيَّةُ مُقْتَضَيَاتٌ وَكُلَفٌ وَإِنْ كَانَتْ قُرُبَاتٍ. وَهَذَا تَكَلَّفَ فِي الْتِزَامِ هَذِهِ الْقُرْبَةِ مَشَقَّةً لِجَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ، فَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ سُنَنِ التَّكْلِيفِ، وَلَا زَالَ عَنْ قَصْدِ التَّقَرُّبِ. [مَسْأَلَة كَانَ الْوَعْد مَقُولًا مِنْهُ هَلْ يَلْزَمهُ الوفاء] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فَإِنْ كَانَ الْمَقُولُ مِنْهُ وَعْدًا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَنُوطًا بِسَبَبٍ؛ كَقَوْلِهِ: إنْ تَزَوَّجْتَ أَعَنْتُك بِدِينَارٍ، أَوْ ابْتَعْت حَاجَةَ كَذَا أَعْطَيْتُك كَذَا؛ فَهَذَا لَازِمٌ إجْمَاعًا مِنْ الْفُقَهَاءِ. وَإِنْ كَانَ وَعْدًا مُجَرَّدًا فَقِيلَ: يَلْزَمُ بِمُطْلَقِهِ؛ وَتَعَلَّقُوا بِسَبَبِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: لَوْ نَعْلَمُ أَيَّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلَ أَوْ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ لَعَمِلْنَاهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ. وَهُوَ حَدِيثٌ لَا بَأْسَ بِهِ.

[الآية الثانية قوله تعالى إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا]

وَقَدْ رَوَى مُجَاهِدٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ لَمَّا سَمِعَهَا قَالَ: لَا أَزَالُ حَبِيسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى أُقْتَلَ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ الْوَعْدَ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ إلَّا لِعُذْرٍ. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا] كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ: (مَرْصُوصٌ)، أَيْ مُحْكَمٌ ثَابِتٌ، كَأَنَّهُ عُقِدَ بِالرَّصَاصِ، وَكَثِيرًا مَا تُعْقَدُ بِهِ الْأَبْنِيَةُ الْقَدِيمَةُ، عَايَنَتْ مِنْهَا بِمِحْرَابِ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ كَذَلِكَ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ. وَيُقَالُ: حَدِيثٌ مَرْسُوسٌ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ سِيقَ سِيَاقَةً مُحْكَمَةً مُرَتَّبَةً. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصف: 4]؛ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْأَمَدِ أَنَّ الْمَحَبَّةَ هِيَ إرَادَةُ الثَّوَابِ لِلْعَبْدِ. [مَسْأَلَة إحْكَامِ الصُّفُوفِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي إحْكَامِ الصُّفُوفِ جَمَالٌ لِلصَّلَاةِ، وَحِكَايَةٌ لِلْمَلَائِكَةِ، وَهَيْئَةٌ لِلْقِتَالِ، وَمَنْفَعَةٌ فِي أَنْ تُحْمَلَ الصُّفُوفُ عَلَى الْعَدُوِّ كَذَلِكَ. وَأَمَّا الْخُرُوجُ مِنْ الصَّفِّ فَلَا يَكُونُ إلَّا لِحَاجَةٍ تَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ، أَوْ فِي رِسَالَةٍ يُرْسِلُهَا الْإِمَامُ، وَمَنْفَعَةٍ تَظْهَرُ فِي الْمَقَامِ، كَفُرْصَةٍ تُنْتَهَزُ وَلَا خِلَافَ فِيهَا، أَوْ بِتَظَاهُرٍ عَلَى التَّبَرُّزِ لِلْمُبَارَزَةِ.

وَفِي الْخُرُوجِ عَنْ الصَّفِّ لِلْمُبَارَزَةِ خِلَافٌ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ إرْهَابًا لِلْعَدُوِّ، وَطَلَبًا لِلشَّهَادَةِ، وَتَحْرِيضًا عَلَى الْقِتَالِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَبْرُزُ أَحَدٌ طَالِبًا لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهِ رِيَاءً وَخُرُوجًا إلَى مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ تَمَنِّي لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْمُبَارَزَةُ إذَا طَلَبَهَا الْكَافِرُ، كَمَا كَانَتْ فِي حُرُوبِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ، وَعَلَيْهِ دَرَجَ السَّلَفُ.

[سورة الجمعة فيها آيتان]

[سُورَةُ الْجُمُعَةِ فِيهَا آيَتَانِ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9]. فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الجمعة: 9] ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِالْجُمُعَةِ الْمُؤْمِنُونَ دُونَ الْكُفَّارِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ وَغَيْرِهَا وَهَا هُنَا أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا الْجُمُعَةُ. وَإِنَّمَا خُصَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْمُؤْمِنُونَ دُونَ الْكُفَّارِ؛ تَشْرِيفًا [لَهُمْ] بِالْجُمُعَةِ، وَتَخْصِيصًا دُونَ غَيْرِهِمْ؛ وَذَلِكَ لِمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي الصَّحِيحِ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ؛ فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ، فَغَدًا لِلْيَهُودِ وَلِلنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ». [مَسْأَلَة الْجُمُعَةُ خَاصَّةٌ بِهَذِهِ الْأُمَّة] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الْجُمُعَةُ خَاصَّةٌ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَيَوْمُ الْإِسْلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَفْضَلُ الْأَيَّامِ. رُوِيَ أَنَّ «جِبْرِيلَ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِيَدِهِ مِرْآةٌ فِيهَا نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ؛ مَا هَذِهِ الْمِرْآةُ؟ قَالَ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ. قَالَ: مَا هَذِهِ النُّكْتَةُ السَّوْدَاءُ الَّتِي فِيهَا؟ قَالَ: السَّاعَةُ وَفِيهَا تَقُومُ».

[مسألة هل الجمعة فرض]

كَمَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَم وَفِيهِ أُهْبِطَ مِنْ الْجَنَّةِ، وَفِيهِ تِيبَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ» كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة هَلْ الْجُمُعَةُ فَرْضٌ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الْجُمُعَةُ فَرْضٌ، لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا قُرْآنِيَّةٌ سُنِّيَّةٌ، وَهِيَ ظُهْرُ الْيَوْمِ، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مَا يُحْكَى فِي ذَلِكَ، لَا سِيَّمَا مَا يُؤْثَرُ عَنْ سَحْنُونٍ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَتَخَلَّفَ الْعَرُوسُ عَنْهَا؛ فَإِنَّ الْعَرُوسَ عِنْدَنَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَخَلَّفَ مِنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ لِأَجْلِ الْعُرْسِ، فَكَيْفَ عَنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ. وَلَهَا شُرُوطٌ وَأَرْكَانٌ فِي الْوُجُوبِ وَالْأَدَاءِ، فَشُرُوطُ الْوُجُوبِ سَبْعَةٌ: الْعَقْلُ، وَالذُّكُورِيَّةُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْقُدْرَةُ، وَالْإِقَامَةُ، وَالْقَرْيَةُ. وَأَمَّا شُرُوطُ الْأَدَاءِ فَهِيَ: الْإِسْلَامُ، فَلَا تَصِحُّ مِنْ كَافِرٍ. وَالْخُطْبَةُ، وَالْإِمَامُ الْقَيِّمُ لِلصَّلَاةِ لَيْسَ الْأَمِيرُ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ كَلِمَةً بَدِيعَةً: إنَّ لِلَّهِ فَرَائِضَ فِي أَرْضِهِ لَا يُضَيِّعُهَا [إنْ] وَلِيَهَا وَالٍ أَوْ لَمْ يَلِهَا. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: مِنْ شُرُوطِ أَدَائِهَا الْمَسْجِدُ الْمُسْقَفُ. وَلَا أَعْلَمُ وَجْهَهُ. وَمِنْهَا الْعَدَدُ، وَلَيْسَ لَهُ حَدٌّ. وَإِنَّمَا حَدُّهُ جَمَاعَةٌ تَتَقَرَّى بِهِمْ بُقْعَةٌ، وَمِنْ أَدَائِهَا الِاغْتِسَالُ، وَتَحْسِينُ الشَّارَةِ، وَتَمَامُ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ.

[مسألة معنى قوله تعالى إذا نودي للصلاة]

[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ} [الجمعة: 9]: النِّدَاءُ هُوَ الْأَذَانُ، وَقَدْ بَيَّنَّا جُمْلَةً مِنْهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ. وَقَدْ «كَانَ الْأَذَانُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجُمُعَةِ كَسَائِرِ الْأَذَانِ فِي الصَّلَوَاتِ؛ يُؤَذِّنُ وَاحِدٌ إذَا جَلَسَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمِنْبَرِ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ بِالْكُوفَةِ، ثُمَّ زَادَ عُثْمَانُ عَلَى الْمِنْبَرِ أَذَانًا ثَالِثًا عَلَى الزَّوْرَاءِ، حَتَّى كَثُرَ النَّاسُ بِالْمَدِينَةِ، فَإِذَا سَمِعُوا أَقْبَلُوا، حَتَّى إذَا جَلَسَ عُثْمَانُ عَلَى الْمِنْبَرِ أَذَّنَ مُؤَذِّنُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يَخْطُبُ عُثْمَانُ.» وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَنَّ الْآذَانَ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاحِدًا، فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ عُثْمَانَ زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ عَلَى الزَّوْرَاءِ»، وَسَمَّاهُ فِي الْحَدِيثِ ثَالِثًا؛ لِأَنَّهُ أَضَافَهُ إلَى الْإِقَامَةِ فَجَعَلَهُ ثَالِثَ الْإِقَامَةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ لِمَنْ شَاءَ» يَعْنِي الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ؛ فَتَوَهَّمَ النَّاسُ أَنَّهُ أَذَانٌ أَصْلِيٌّ، فَجَعَلُوا الْمُؤَذِّنَيْنِ ثَلَاثَةً، فَكَانَ وَهْمًا، ثُمَّ جَمَعُوهُمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَكَانَ وَهْمًا عَلَى وَهْمٍ، وَرَأَيْتهمْ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ يُؤَذِّنُونَ بَعْدَ أَذَانِ الْمَنَارِ بَيْنَ يَدَيْ الْإِمَامِ تَحْتَ الْمِنْبَرِ فِي جَمَاعَةٍ، كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ عِنْدَنَا فِي الدُّوَلِ الْمَاضِيَةِ؛ وَكُلُّ ذَلِكَ مُحْدَثٌ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْلُهُ: {لِلصَّلاةِ} [الجمعة: 9]؛ يَعْنِي بِذَلِكَ الْجُمُعَةَ دُونَ غَيْرِهَا، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كَوْنُ الصَّلَاةِ الْجُمُعَةَ هَاهُنَا مَعْلُومٌ بِالْإِجْمَاعِ لَا مِنْ نَفْسِ اللَّفْظِ. وَعِنْدِي أَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ نَفْسِ اللَّفْظِ بِنُكْتَةٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ: {مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9]، وَذَلِكَ يُفِيدُهُ؛ لِأَنَّ النِّدَاءَ الَّذِي يَخْتَصُّ بِذَلِكَ الْيَوْمِ هُوَ

[مسألة معنى قوله تعالى فاسعوا إلى ذكر الله]

نِدَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ؛ فَأَمَّا غَيْرُهَا فَهُوَ عَامٌّ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُرَادُ بِهِ نِدَاءُ الْجُمُعَةِ لَمَا كَانَ لِتَخْصِيصِهِ بِهَا وَإِضَافَتِهِ إلَيْهَا مَعْنًى وَلَا فَائِدَةٌ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: كَانَ اسْمُ الْجُمُعَةِ فِي الْعَرَبِ الْأَوَّلِ عُرُوبَةً، فَسَمَّاهَا الْجُمُعَةَ كَعْبُ بْنُ لُؤَيٍّ؛ لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِيهَا إلَى كَعْبٍ قَالَ الشَّاعِرُ: لَا يُبْعِدُ اللَّهُ أَقْوَامًا هُمْ خَلَطُوا ... يَوْمَ الْعُرُوبَةِ أَصْرَامًا بِأَصْرَامٍ [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ قَوْلُهُ {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَاهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النِّيَّةُ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ. الثَّانِي أَنَّهُ الْعَمَلُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء: 19] وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 4]. وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ السَّعْيُ عَلَى الْأَقْدَامِ. وَيُحْتَمَلُ ظَاهِرُهُ رَابِعًا: وَهُوَ الْجَرْيُ وَالِاشْتِدَادُ، وَهُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ الصَّحَابَةُ الْأَعْلَمُونَ، وَالْفُقَهَاءُ الْأَقْدَمُونَ، وَقَرَأَهَا عُمَرُ: " فَامْضُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ " فِرَارًا عَنْ ظَنِّ الْجَرْيِ وَالِاشْتِدَادِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ ذَلِكَ. وَقَالَ: لَوْ قَرَأْت فَاسْعَوْا لَسَعَيْت حَتَّى سَقَطَ رِدَائِي. وَقَرَأَ ابْنُ شِهَابٍ: فَامْضُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ سَالِكًا تِلْكَ السُّبُلَ، وَهُوَ كُلُّهُ تَفْسِيرٌ مِنْهُمْ، لَا قِرَاءَةٌ قُرْآنٍ مُنَزَّلٍ، وَجَائِزٌ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالتَّفْسِيرِ فِي مَعْرِضِ التَّفْسِيرِ. فَأَمَّا مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ النِّيَّةُ؛ فَهُوَ أَوَّلُ السَّعْيِ وَمَقْصُودُهُ الْأَكْبَرُ فَلَا خِلَافَ فِيهِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ السَّعْيُ عَلَى الْأَقْدَامِ فَهُوَ أَفْضَلُ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ. فِي الصَّحِيحِ أَنَّ أَبَا عِيسَى بْنَ جُبَيْرٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ يَمْشِي إلَى

[مسألة خطبة الجمعة]

الْجُمُعَةِ رَاجِلًا. وَقَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُمَا اللَّهُ عَلَى النَّارِ. فَذَلِكَ فَضْلٌ وَأَجْرٌ لَا شَرْطٌ.» وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ الْعَمَلُ فَأَعْمَالُ الْجُمُعَةِ هِيَ: الِاغْتِسَالُ، وَالتَّمَشُّطُ، وَالِادِّهَانُ، وَالتَّطَيُّبُ، وَالتَّزَيُّنُ بِاللِّبَاسِ، وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَحَادِيثُ بَيَانُهَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ؛ وَظَاهِرُ الْآيَةِ وُجُوبُ الْجَمِيعِ، لَكِنَّ أَدِلَّةَ الِاسْتِحْبَابِ ظَهَرَتْ عَلَى أَدِلَّةِ الْوُجُوبِ، فَقَضَى بِهَا حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ. [مَسْأَلَة خُطْبَةِ الْجُمُعَةَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى: {إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ الْخُطْبَةُ؛ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ الصَّلَاةُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ [وَاجِبٌ] الْجَمِيعُ أَوَّلُهُ الْخُطْبَةُ، فَإِنَّهَا تَكُونُ عَقِبَ النِّدَاءِ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْخُطْبَةِ، وَبِهِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا، إلَّا عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ الْمَاجِشُونِ فَإِنَّهُ رَآهَا سُنَّةً. وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهَا أَنَّهَا تُحَرِّمُ الْبَيْعَ، وَلَوْلَا وُجُوبُهَا مَا حَرَّمَتْهُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَبَّ لَا يُحَرِّمُ الْمُبَاحَ. وَإِذَا قُلْنَا: إنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ الصَّلَاةُ فَالْخُطْبَةُ مِنْ الصَّلَاةِ، وَالْعَبْدُ يَكُونُ ذَاكِرًا لِلَّهِ [بِفِعْلِهِ] كَمَا يَكُونُ مُسَبِّحًا لِلَّهِ بِفِعْلِهِ. [مَسْأَلَة الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاء لِلْجُمُعَةِ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]: وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِ الْبَيْعِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ إذَا وَقَعَ؛ فَفِي الْمُدَوَّنَةِ يُفْسَخُ. وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: يُفْسَخُ مَا لَمْ يَفُتْ. وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْوَاضِحَةِ، وَأَشْهَبُ، وَقَالَ فِي الْمَجْمُوعَةِ: الْبَيْعُ مَاضٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: يُفْسَخُ بَيْعُ مَنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِهِ.

[مسألة هل تفتقر إقامة الجمعة إلى سلطان]

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُفْسَخُ بِكُلِّ حَالٍ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ بِالْفَسْخِ فِي تَفْصِيلٍ قَرِيبٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا تَوْجِيهَ ذَلِكَ فِي الْفِقْهِ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ فَسْخُهُ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الصَّحِيحِ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ.» الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ فَإِنْ كَانَ نِكَاحًا فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ: لَا يُفْسَخُ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لِأَنَّهُ نَادِرٌ، وَيَقْرُبُ هَذَا مِنْ قَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ: يُفْسَخُ بَيْعُ مَنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِالْبَيْعِ. وَقَالُوا: إنَّ الشَّرِكَةَ وَالْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ نَادِرٌ لَا يُفْسَخُ. وَالصَّحِيحُ فَسْخُ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ إنَّمَا مُنِعَ لِلِاشْتِغَالِ بِهِ، فَكُلُّ أَمْرٍ يَشْغَلُ عَنْ الْجُمُعَةِ مِنْ الْعُقُودِ كُلِّهَا فَهُوَ حَرَامٌ شَرْعًا مَفْسُوخٌ رَدْعًا. [مَسْأَلَة هَلْ تُفْتَقَرُ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ إلَى سُلْطَانٍ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ لَا تُفْتَقَرُ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ إلَى السُّلْطَانِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنَّمَا تُفْتَقَرُ إلَى الْإِمَامِ، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ الْآيَةُ لَا عَلَى السُّلْطَانِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [مَسْأَلَة الْجُمُعَةِ عَلَى الْقَرِيبِ الَّذِي يَسْمَعُ النِّدَاءَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ} [الجمعة: 9] يَخْتَصُّ بِوُجُوبِ الْجُمُعَةِ عَلَى الْقَرِيبِ الَّذِي يَسْمَعُ النِّدَاءَ؛ فَأَمَّا الْبَعِيدُ الدَّارِ الَّذِي لَا يَسْمَعُ النِّدَاءَ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْخِطَابِ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَنْ يَأْتِي الْجُمُعَةَ مِنْ الدَّانِي وَالْقَاصِي اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا بَيَّنَّاهُ فِي الْمَسَائِلِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْخِلَافِيَّاتِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَائِنَا قَالُوا: إنَّ الْجُمُعَةَ تَلْزَمُ مَنْ كَانَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنْ الْمَدِينَةِ، لِوَجْهَيْنِ:

[مسألة هل الجمعة لا تجب إلا بالنداء]

أَحَدُهُمَا أَنَّ أَهْلَ الْعَوَالِي كَانُوا يَأْتُونَهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحِكْمَتُهُ أَنَّ الصَّوْتَ إذَا كَانَ رَفِيعًا وَالنَّاسُ فِي هُدُوءٍ وَسُكُونٍ فَأَقْصَى سَمَاعِ الصَّوْتِ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ؛ وَهَذَا نَظَرٌ وَمُلَاحَظَةٌ إلَى قَوْله تَعَالَى: {نُودِيَ} [الجمعة: 9]؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ الْعَبْدَ وَالْمَرْأَةَ يَسْمَعَانِ النِّدَاءَ، وَقَدْ قُلْتُمْ لَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَيْهِمَا. قُلْنَا: أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا يَلْزَمُهَا خِطَابُ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ؛ وَلِهَذَا لَا تَدْخُلُ فِي خِطَابِهَا. وَأَمَّا الْعَبْدُ فَفِي صَحِيحِ الْمَذْهَبِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ نَقْصَ الرِّقِّ أَثَّرَ بِصِفَتِهِ حَتَّى لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الْفَاسِقُ؛ لِأَنَّ نَقْصَهُ فِي فِعْلِهِ، وَهَذَا نَقْصُهُ فِي ذَاتِهِ؛ فَأَشْبَهَ نَقْصَ الْمَرْأَةِ وَمِنْ النُّكَتِ الْبَدِيعَةِ فِي سُقُوطِ الْجُمُعَةِ عَنْ الْعَبْدِ قَوْله تَعَالَى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]؛ فَإِنَّمَا خَاطَبَ اللَّهُ بِالْجُمُعَةِ مَنْ يَبِيعُ، وَالْعَبْدُ وَالصَّبِيُّ لَا يَبِيعَانِ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ تَحْتَ حَجْرِ السَّيِّدِ، وَالصَّبِيَّ تَحْتَ حَجْرِ الصِّغَرِ. [مَسْأَلَة هَلْ الْجُمُعَةَ لَا تَجِبُ إلَّا بِالنِّدَاءِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَجِبُ إلَّا بِالنِّدَاءِ، وَالنِّدَاءُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهَا تُصَلَّى قَبْلَ الزَّوَالِ؛ وَتَعَلَّقَ فِي ذَلِكَ بِحَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ: «كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ نَنْصَرِفُ، وَلَيْسَ لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ.» وَبِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «مَا كُنَّا نُقِيلُ وَلَا نَتَغَدَّى إلَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ.» وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَا يَخْرُجُ إلَى الْجُمُعَةِ حَتَّى يَغْشَى ظِلُّ الْجِدَارِ الْغَرْبِيِّ طَنْفَسَةَ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الَّتِي كَانَتْ تُطْرَحُ لَهُ عِنْدَ الْجِدَارِ، وَذَلِكَ بَعْدَ الزَّوَالِ. وَحَدِيثُ سَلَمَةَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّبْكِيرِ

[مسألة السعي إلى الجمعة]

بِالْجُمُعَةِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُبَكِّرُونَ إلَى الْجُمُعَةِ تَبْكِيرًا كَثِيرًا عِنْدَ الْغَدَاةِ وَقَبْلَهَا فَلَا يَتَنَاوَلُونَ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الصَّلَاةِ. وَقَدْ رَأَى مَالِكٌ أَنَّ التَّبْكِيرَ إلَى الْجُمُعَةِ إنَّمَا يَكُونُ وَقْتَ الزَّوَالِ بِيَسِيرٍ. وَتَأَوَّلَ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ» الْحَدِيثُ أَنَّهُ كُلَّهُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ وَحَمَلَهُ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى سَاعَاتِ النَّهَارِ الزَّمَانِيَّةِ الِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَاعَةً الْمُسْتَوِيَةِ أَوْ الْمُخْتَلِفَةِ بِحَسَبِ زِيَادَاتِ النَّهَارِ وَنُقْصَانِهِ. وَهُوَ أَصَحُّ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «مَا كَانُوا يُقِيلُونَ وَلَا يَتَغَدَّوْنَ إلَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ» يُرِيدُ لِكَثْرَةِ الْبُكُورِ إلَيْهَا. [مَسْأَلَة السَّعْيَ إلَى الْجُمُعَةِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ فَرَضَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ السَّعْيَ إلَى الْجُمُعَةِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ رَدًّا عَلَى مَنْ يَقُولُ: إنَّهَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الرَّوَاحُ إلَى الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ.» وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ بِالنِّفَاقِ.» الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ أَوْجَبَ اللَّهُ السَّعْيَ إلَى الْجُمُعَةِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَثَبَتَ شَرْطُ الْوُضُوءِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الْآيَةُ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ».

[مسألة الجمعة كونها في يوم عيد]

وَأَغْرَبَتْ طَائِفَةٌ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ». فَقَالَتْ: إنَّ غُسْلَ الْجُمُعَةِ فَرْضٌ؛ وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِمَا رَوَى النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَنْ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ.» وَهَذَا نَصٌّ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ رَاحَ إلَى الْمَسْجِدِ فَأَنْصَتَ وَلَمْ يَلْغُ غُفِرَ لَهُ». وَهَذَا نَصٌّ آخَرُ. وَفِي الْمُوَطَّأِ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الْمَسْجِدَ وَالْإِمَامُ عُمَرُ يَخْطُبُ الْحَدِيثُ إلَى أَنْ قَالَ: مَا زِدْت عَلَى أَنْ تَوَضَّأْت. فَقَالَ عُمَرُ: وَالْوُضُوءُ أَيْضًا، وَقَدْ عَلِمْت «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ». فَأَمَرَ عُمَرُ بِالْغُسْلِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالرُّجُوعِ إلَيْهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، فَلَمْ يُمْكِنْ، وَقَدْ تَلَبَّسَ بِالْفَرْضِ وَهُوَ الْحُضُورُ وَالْإِنْصَاتُ لِلْخُطْبَةِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ إلَى السُّنَّةِ، وَذَلِكَ بِمَحْضَرِ فُحُولِ الصَّحَابَةِ وَكِبَارِ الْمُهَاجِرِينَ حَوَالَيْ عُمَرَ، وَفِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [مَسْأَلَة الْجُمُعَةَ كَوْنُهَا فِي يَوْمِ عِيدٍ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ لَا يُسْقِطُ الْجُمُعَةَ كَوْنُهَا فِي يَوْمِ عِيدٍ، خِلَافًا لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ حِينَ قَالَ: إذَا اجْتَمَعَ عِيدٌ وَجُمُعَةٌ سَقَطَ فَرْضُ الْجُمُعَةِ؛ لِتَقَدُّمِ الْعِيدِ عَلَيْهَا، وَاشْتِغَالِ النَّاسِ بِهِ عَنْهَا. وَتَعَلَّقَ فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ أَذِنَ فِي يَوْمِ الْعِيدِ لِأَهْلِ الْعَوَالِي أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ الْجُمُعَةِ، وَقَوْلُ الْوَاحِدِ مِنْ الصَّحَابَةِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ إذَا خُولِفَ فِيهِ وَلَمْ يُجْمَعْ مَعَهُ عَلَيْهِ. وَالْأَمْرُ بِالسَّعْيِ مُتَوَجِّهٌ يَوْمَ الْعِيدِ كَتَوَجُّهِهِ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ.

[الآية الثانية قوله تعالى وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما]

[الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا] قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة: 11] فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: الْأُولَى ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، فَدَخَلَتْ عِيرٌ إلَى الْمَدِينَةِ، فَالْتَفَتُوا، فَخَرَجُوا إلَيْهَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، فَنَزَلَتْ: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا} [الجمعة: 11] الْآيَةُ كُلُّهَا». الثَّانِيَةُ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ: «كَانَ النَّاسُ قَرِيبًا مِنْ السُّوقِ، فَرَأَوْا التِّجَارَةَ، فَخَرَجُوا إلَيْهَا، وَتَرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ قَائِمًا، وَكَانَتْ الْأَنْصَارُ إذَا كَانَتْ لَهُمْ عُرْسٌ يَمُرُّونَ بِالْكِيرِ يَضْرِبُونَ بِهِ، فَخَرَجَ إلَيْهِ نَاسٌ، فَغَضِبَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ». الثَّالِثُ مِنْ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ: «نَزَلَتْ مَعَ دَحْيَةَ الْكَلْبِيِّ تِجَارَةٌ بِأَحْجَارِ الزَّيْتِ فَضَرَبُوا طَبْلَهُمْ، يُعَرِّفُونَ بِإِقْبَالِهِمْ، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ النَّاسُ بِمِثْلِهِ فَعَاتَبَهُمْ اللَّهُ وَنَزَلَتْ الْآيَةُ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ تَفَرَّقَ جَمْعُهُمْ لَسَالَ الْوَادِي عَلَيْهِمْ نَارًا». [مَسْأَلَة الْإِمَامَ يَخْطُبُ قَائِمًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا يَخْطُبُ قَائِمًا، كَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. وَخَطَبَ عُثْمَانُ قَائِمًا حَتَّى رَقَّ فَخَطَبَ قَاعِدًا. وَيُرْوَى أَنَّ أَوَّلَ مَنْ خَطَبَ قَاعِدًا مُعَاوِيَةُ، وَدَخَلَ كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ الْمَسْجِدَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَكَمِ يَخْطُبُ قَاعِدًا، فَقَالَ: اُنْظُرُوا إلَى هَذَا الْخَبِيثَ يَخْطُبُ قَاعِدًا وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] إشَارَةً إلَى أَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقُرُبَاتِ عَلَى الْوُجُوبِ، وَلَكِنْ فِي بَيَانِ الْمُجْمَلِ الْوَاجِبِ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَفِي الْإِطْلَاقِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.

وَقَدْ قِيلَ: إنَّ مُعَاوِيَةَ إنَّمَا خَطَبَ قَاعِدًا لِسِنِّهِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ قَائِمًا ثُمَّ يَقْعُدُ ثُمَّ يَقُومُ وَلَا يَتَكَلَّمُ فِي قَعْدَتِهِ رَوَاهُ جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ، وَرَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَائِنَا: إنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُوجِبُ الْخُطْبَةَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّهُمْ عَلَى تَرْكِهَا، وَالْوَاجِبُ هُوَ الَّذِي يُذَمُّ تَارِكُهُ شَرْعًا حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: إنَّهَا سُنَّةٌ. وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[سورة المنافقون فيها ثلاث آيات]

[سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى إذَا جَاءَك الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّك لَرَسُولُ اللَّهِ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الشَّهَادَةُ تَكُونُ بِالْقَلْبِ؛ وَتَكُونُ بِاللِّسَانِ، وَتَكُونُ بِالْجَوَارِحِ؛ فَأَمَّا شَهَادَةُ الْقَلْبِ فَهُوَ الِاعْتِقَادُ [أَوْ الْعِلْمُ] عَلَى رَأْيِ قَوْمٍ، وَالْعِلْمُ عَلَى رَأْيِ آخَرِينَ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ الِاعْتِقَادُ [وَالْعِلْمُ] كَمَا بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَالدِّينِ. وَأَمَّا شَهَادَةُ اللِّسَانِ فَبِالْكَلَامِ، وَهُوَ الرُّكْنُ الظَّاهِرُ مِنْ أَرْكَانِهَا، وَعَلَيْهِ تُبْنَى الْأَحْكَامُ، وَتَتَرَتَّبُ الْأَعْذَارُ وَالِاعْتِصَامُ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؛ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا؛ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ.»

[مسالة الرجل إذا قال في يمينه أشهد بالله هل يكون يمينا]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]. إنَّ الْبَارِئَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلِمَ وَشَهِدَ؛ فَهَذَا عِلْمُهُ. وَشَهَادَتُهُ قَوْله تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} [آل عمران: 18] وَأَمْثَالُهُ. وَقَدْ يُقَالُ: شَهَادَةُ اللَّهِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ الشَّهَادَاتِ فِي ذَاتِ اللَّهِ، يُقَالُ: وَاَللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ فِي قَوْلِهِمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَا يَعْتَقِدُونَهُ فِي قُلُوبِهِمْ، فَخَدَعُوا وَغَرُّوا، وَاَللَّهُ خَادِعُهُمْ وَمَاكِرٌ بِهِمْ، وَهُوَ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ. [مسالة الرَّجُلَ إذَا قَالَ فِي يَمِينِهِ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ هَلْ يَكُون يَمِينًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: إنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ: إنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ فِي يَمِينِهِ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ يَكُونُ يَمِينًا بِنِيَّةِ الْيَمِينِ. وَرَأَى أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ أَنَّهُ دُونَ النِّيَّةِ [يَمِينٌ]، فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهَا تَكُونُ يَمِينًا بِالنِّيَّةِ، وَلَا أَرَى الْمَسْأَلَةَ إلَّا هَكَذَا فِي أَصْلِهَا، وَإِنَّمَا غَلِطَ هَذَا الْعَالِمُ أَوْ غَلِطَ فِي النَّقْلِ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: إذَا قَالَ [الرَّجُلُ] أَشْهَدُ: إنَّهُ يَمِينٌ إذَا أَرَادَ بِاَللَّهِ. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ] ِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المنافقون: 2]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون: 2] لَيْسَ يَرْجِعُ إلَى قَوْلِهِ: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إلَى سَبَبِ الْآيَةِ الَّذِي

[الآية الثالثة قوله تعالى وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت]

نَزَلَتْ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، مِنْهَا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: «كُنْت فِي غُزَاةٍ فَسَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ يَقُولُ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ، وَلَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعَمِّي، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَعَانِي فَجِئْته، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ. فَحَلَفُوا مَا قَالُوا؛ فَكَذَّبَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَدَّقَهُ، فَأَصَابَنِي هَمٌّ لَمْ يُصِبْنِي مِثْلُهُ فَجَلَسْت فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ عَمِّي: مَا أَرَدْت إلَّا إلَى أَنْ كَذَّبَك رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَقَتَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] فَبَعَثَ إلَيَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَك». فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون: 2] إشَارَةٌ إلَى أَنَّ ابْنَ أُبَيٍّ حَلَفَ أَنَّهُ مَا قَالَ. وَقَدْ قَالَ. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِرَاجِعٍ إلَى قَوْله تَعَالَى: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] فَاعْلَمُوهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ هَذِهِ الْيَمِينُ كَانَتْ غَمُوسًا كَاذِبَةً مِنْ عَدِيمِ الْإِيمَانِ؛ فَهِيَ مُوجِبَةٌ لِلنَّارِ، أَمَّا عَدَمُ إيمَانِهِ فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 3]. وَأَمَّا عَدَمُ الثَّوَابِ فِيهِمْ وَوُجُوبُ الْعِقَابِ لَهُمْ فَبِآيَاتِ الْوَعِيدِ الْوَارِدَةِ فِي الْكُفَّارِ. وَقَدْ كَثُرَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ] الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يُبَلِّغُهُ حَجَّ بَيْتِ رَبِّهِ، أَوْ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا سَأَلَ الرَّجْعَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؛ اتَّقِ اللَّهَ؛ إنَّمَا سَأَلَ الرَّجْعَةَ الْكُفَّارُ. قَالَ: سَأَتْلُو عَلَيْك بِذَلِكَ قُرْآنًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9] {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ - وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 10 - 11] قَالَ: فَمَا يُوجِبُ الزَّكَاةَ؟ قَالَ: إذَا بَلَغَ الْمَالُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا. قَالَ: فَمَا يُوجِبُ الْحَجَّ؟ قَالَ: الزَّادُ وَالْبَعِيرُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِعُمُومِ الْآيَةِ فِي الْإِنْفَاقِ الْوَاجِبِ خَاصَّةً دُونَ النَّفْلِ. وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْوَعِيدَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَاجِبِ دُونَ النَّفْلِ. وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ بِالزَّكَاةِ فَصَحِيحٌ كُلُّهُ عُمُومًا وَتَقْدِيرًا بِالْمِائَتَيْنِ. وَأَمَّا الْقَوْلُ فِي الْحَجِّ فَفِيهِ إشْكَالٌ؛ لِأَنَّا إنْ قُلْنَا: إنَّ الْحَجَّ عَلَى التَّرَاخِي فَفِي الْمَعْصِيَةِ فِي الْمَوْتِ قَبْلَ أَدَائِهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، فَلَا تُخَرَّجُ الْآيَةُ عَلَيْهِ. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْحَجَّ عَلَى الْفَوْرِ فَالْآيَةُ عَلَى الْعُمُومِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ فَلَمْ يُؤَدِّهِ لَقِيَ مِنْ اللَّهِ مَا يَوَدُّ أَنَّهُ رَجَعَ لِيَأْتِيَ بِمَا تَرَكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ. وَأَمَّا تَقْدِيرُ الْأَمْرِ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَلَيْسَ لِكَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ مَدْخَلٌ، لِأَجْلِ أَنَّ الرَّجْعَةَ وَالْوَعِيدَ لَا يَدْخُلُ فِي الْمَسَائِلِ الْمُجْتَهَدِ فِيهَا وَالْمُخْتَلَفِ عَلَيْهَا؛ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ. وَالصَّحِيحُ تَنَاوُلُهُ لِلْوَاجِبِ مِنْ الْإِنْفَاقِ كَيْفَ تَصَرَّفَ بِالْإِجْمَاعِ أَوْ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، لِأَجْلِ أَنَّ مَا عَدَا ذَلِكَ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ تَحْقِيقُ الْوَعِيدِ.

[سورة التغابن فيها خمس آيات]

[سُورَةُ التَّغَابُنِ فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التغابن: 9]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَالَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ: إنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَبْنُ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. الْمَعْنَى أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ أَخَذُوا الْجَنَّةَ، وَأَخَذَ أَهْلُ النَّارِ النَّارَ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَادَلَةِ، فَوَقَعَ الْغَبْنُ، لِأَجْلِ مُبَادَلَتِهِمْ الْخَيْرَ بِالشَّرِّ، وَالْجَيِّدَ بِالرَّدِيءِ، وَالنَّعِيمَ بِالْعَذَابِ، عَلَى مَنْ أَخَذَ الْأَشَدَّ وَحَصَلَ عَلَى الْأَدْنَى. فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ مُعَامَلَةٍ وَقَعَتْ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَقَعَ الْغَبْنُ فِيهَا؟ قُلْنَا وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ إنَّمَا هَذَا مَثَلٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْخَلْقَ مُنْقَسِمِينَ عَلَى دَارَيْنِ: دُنْيَا، وَآخِرَةٍ، وَجَعَلَ الدُّنْيَا دَارَ عَمَلٍ، وَجَعَلَ الْآخِرَةَ دَارَ جَزَاءٍ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ؛ وَهِيَ الدَّارُ الْمَطْلُوبَةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ؛ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ عَبَثًا، وَعِنْدَهُ وَقَعَ الْبَيَانُ، بِقَوْلِهِ

[مسألة الغبن في معاملة الدنيا]

سُبْحَانَهُ: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون: 116] يَعْنِي عَنْ ذَلِكَ وَعَنْ أَمْثَالِهِ مِمَّا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ، مُقَدَّسٌ مِنْهُ، وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ النَّجِدَيْنِ، وَخَلَقَ لِلْقَلْبِ الْمَعْرِفَةَ وَالْحَوَاسَّ سُبُلًا لَهَا، وَالْعَقْلُ وَالشَّهْوَةُ يَتَنَازَعَانِ لِلْعَلَائِقِ، وَالْمَلَكُ يُعَضِّدُ الْعَقْلَ، وَالشَّيْطَانُ يَحْمِلُ الشَّهْوَةَ، وَالتَّوْفِيقُ قَرِينُ الْمَلَكِ، وَالْخِذْلَانُ قَرِينُ الشَّيْطَانِ، وَالْقَدَرُ مِنْ فَوْقِ [ذَلِكَ] يَحْمِلُ الْعَبْدَ إلَى مَا كُتِبَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ فَرَّقَ الْخَلْقَ فَرِيقَيْنِ فِي أَصْلِ الْمِقْدَارِ وَكَتَبَهُمْ بِالْقَلَمِ الْأَوَّلِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقٌ لِلْجَنَّةِ، وَفَرِيقٌ لِلنَّارِ، وَمَنَازِلُ الْكُلِّ مَوْضُوعَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ؛ فَإِنْ سَبَقَ التَّوْفِيقُ حَصَلَ الْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَكَانَ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ سَبَقَ الْخِذْلَانُ عَلَى الْعَبْدِ الْآخَرِ فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيَحْصُلُ الْمُوَفَّقُ عَلَى مَنْزِلِ الْمَخْذُولِ، وَيَحْصُلُ لِلْمَخْذُولِ مَنْزِلُ الْمُوَفَّقِ فِي النَّارِ، فَكَأَنَّهُ وَقَعَ التَّبَادُلُ، فَحَصَلَ التَّغَابُنُ. وَالْأَمْثَالُ مَوْضُوعَةٌ لِلْبَيَانِ فِي حُكْمِ الْقُرْآنِ وَاللُّغَةِ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ مَجْمُوعٌ مِنْ نَشْرِ الْآثَارِ. وَقَدْ جَاءَتْ مُتَفَرِّقَةً فِي هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ. [مَسْأَلَة الْغَبْنُ فِي مُعَامَلَةِ الدُّنْيَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ اسْتَدَلَّ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن: 9] عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْغَبْنُ فِي مُعَامَلَةِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّصَ التَّغَابُنَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن: 9]؛ وَهَذَا الِاخْتِصَاصُ يُفِيدُ أَنَّهُ لَا غَبْنَ فِي الدُّنْيَا، فَكُلُّ مَنْ اطَّلَعَ عَلَى غَبْنٍ فِي مَبِيعٍ فَإِنَّهُ مَرْدُودٌ إذَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، وَاخْتَارَهُ الْبَغْدَادِيُّونَ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ؛ مِنْهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ: «إذَا بَايَعْت فَقُلْ لَا خِلَابَةَ، وَلَك الْخِيَارُ ثَلَاثًا». وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ طَوِيلٌ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. نُكْتَتُهُ أَنَّ الْغَبْنَ فِي الدُّنْيَا مَمْنُوعٌ بِإِجْمَاعٍ فِي حُكْمِ الدُّنْيَا؛ إذْ هُوَ مِنْ بَابِ الْخِدَاعِ الْمُحَرَّمِ شَرْعًا فِي كُلِّ مِلَّةٍ، لَكِنَّ الْيَسِيرَ مِنْهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ لِأَحَدٍ فَمَضَى فِي الْبُيُوعِ؛ إذْ لَوْ حَكَمْنَا بِرَدِّهِ مَا نَفَذَ بَيْعٌ أَبَدًا، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْهُ، حَتَّى إذَا كَانَ كَثِيرًا أَمْكَنَ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، فَوَجَبَ الرَّدُّ بِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ

[الآية الثانية قوله تعالى ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله]

الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ مَعْلُومٌ، فَقَدَّرَ عُلَمَاؤُنَا الثُّلُثَ لِهَذَا الْحَدِّ؛ إذْ رَأَوْهُ حَدًّا فِي الْوَصِيَّةِ وَغَيْرِهَا. وَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا: ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ الْجَائِزُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، أَوْ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ الَّذِي لَا يُسْتَدْرَكُ أَبَدًا؛ لِأَنَّ تَغَابُنَ الدُّنْيَا يُسْتَدْرَكُ بِوَجْهَيْنِ: إمَّا بِرَدٍّ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَإِمَّا بِرِبْحٍ فِي بَيْعٍ آخَرَ وَسِلْعَةٍ أُخْرَى. فَأَمَّا مَنْ خَسِرَ الْجَنَّةَ فَلَا دَرْكَ لَهُ أَبَدًا. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الصُّوفِيَّةِ: إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْغَبْنَ عَلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، وَلَا يَلْقَى أَحَدٌ رَبَّهُ إلَّا مَغْبُونًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِيفَاءُ لِلْعَمَلِ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ اسْتِيفَاءُ الثَّوَابِ. وَفِي الْأَثَرِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَلْقَى اللَّهَ أَحَدٌ إلَّا نَادِمًا إنْ كَانَ مُسِيئًا إذْ لَمْ يُحْسِنْ. وَإِنْ كَانَ مُحْسِنًا إذْ لَمْ يَزْدَدْ». وَالْقَوْلُ مُتَشَعِّبٌ، وَالْقَدْرُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ مِنْهُ بِالْأَحْكَامِ هَذَا فَاعْلَمُوهُ. [الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ] ِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11]. قَالَ الْقَاضِي: أَدْخَلَ عُلَمَاؤُنَا هَذِهِ الْآيَةَ فِي فُنُونِ الْأَحْكَامِ، وَقَالُوا: إنَّ ذَلِكَ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَالتَّسْلِيمَ لِمَا يَنْفُذُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَالْمِقْدَارُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ مِنْهُ بِالْأَحْكَامِ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْمَصَائِبِ لِعِلْمِ الْعَبْدِ بِالْمَقَادِيرِ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ؛ وَهَذَا خَارِجٌ عَنْ سُبُلِ الْأَحْكَامِ، لَكِنْ لِلْجَوَارِحِ فِي ذَلِكَ أَعْمَالٌ [مِنْ دَمْعِ الْعَيْنِ، وَالْقَوْلِ بِاللِّسَانِ، وَالْعَمَلِ بِالْجَوَارِحِ]، فَإِذَا هَدَأَ الْقَلْبُ جَرَى اللِّسَانُ بِالْحَقِّ. وَرَكَدَتْ الْجَوَارِحُ عَنْ الْخَرْقِ، وَلَوْ اسْتَرْسَلَ الدَّمْعُ لَمْ يَضُرَّ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُبَيِّنًا لِذَلِكَ: «تَدْمَعُ الْعَيْنُ، وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ، وَلَا نَقُولُ إلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا، وَإِنَّا بِك يَا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ».

[الآية الثالثة قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم]

وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ النِّيَاحَةِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْأَعْمَالِ الْمَكْرُوهَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ، فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهَا. . [الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ] ْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن: 14]. الْآيَةُ فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَدْ بَيَّنَّا الْعَدَاوَةَ وَمُقَابِلَتَهَا الْوِلَايَةَ فِي كِتَابِ الْأَمَدِ الْأَقْصَى وَغَيْرِهِ وَحَقَّقْنَا أَنَّ الْوِلَايَةَ هِيَ الْقُرْبُ، وَأَنَّ الْعَدَاوَةَ هِيَ الْبُعْدُ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ الْقُرْبَ وَالْبُعْدَ يَكُونَانِ حَقِيقَةً بِالْمَسَافَةِ؛ وَذَلِكَ مُحَالٌ فِي حَقِّ الْإِلَهِ، وَيَكُونَانِ بِالْمَوَدَّةِ وَالْمَنْزِلَةِ؛ وَذَلِكَ جَائِزٌ فِي حَقِّ الْإِلَهِ، وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ يَجُوزُ عَلَى الْخَلْقِ. وَالْمُرَادُ بِالْعَدَاوَةِ هَاهُنَا بُعْدُ الْمَوَدَّةِ وَالْمَنْزِلَةِ؛ فَإِنَّ الزَّوْجَةَ قَرِيبٌ، وَالْوَلَدَ قَرِيبٌ، بِحُكْمِ الْمُخَالَطَةِ، وَالصُّحْبَةِ، وَلَكِنَّهُمَا قَدْ يَقْرُبَانِ بِالْأُلْفَةِ الْحَسَنَةِ وَالْعِشْرَةِ الْجَمِيلَةِ، فَيَكُونَانِ وَلِيَّيْنِ، وَقَدْ يَبْعُدَانِ بِالنَّفْرَةِ وَالْفِعْلِ الْقَبِيحِ، فَيَكُونَانِ عَدُوَّيْنِ، وَعَنْ هَذَا أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَمِنْهُ حَذَّرَ، وَبِهِ أَنْذَرَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14] قَالَ: هَؤُلَاءِ رِجَالٌ أَسْلَمُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَأَرَادُوا أَنْ يَأْتُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَى أَزْوَاجُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ أَنْ يَدْعُوهُمْ أَنْ يَأْتُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَلَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَأَوْا النَّاسَ فَقِهُوا فِي الدِّينِ هَمُّوا أَنْ يُعَاقِبُوهُمْ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14].

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ هَذَا يُبَيِّنُ وَجْهَ الْعَدَاوَةِ؛ فَإِنَّ الْعَدُوَّ لَمْ يَكُنْ عَدُوًّا لِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ عَدُوًّا لِفِعْلِهِ، فَإِذَا فَعَلَ الزَّوْجُ وَالْوَلَدُ فِعْلَ الْعَدُوِّ كَانَ عَدُوًّا، وَلَا فِعْلَ أَقْبَحَ مِنْ الْحَيْلُولَةِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الطَّاعَةِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ فِي طَرِيقِ الْإِيمَانِ. فَقَالَ لَهُ: أَتُؤْمِنُ وَتَذَرُ دِينَك وَدِينَ آبَائِك، فَخَالَفَهُ فَآمَنَ. ثُمَّ قَعَدَ لَهُ عَلَى طَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ لَهُ: أَتُهَاجِرُ وَتَتْرُكُ أَهْلَك وَمَالَك؛ فَخَالَفَهُ فَهَاجَرَ؛ فَقَعَدَ لَهُ فِي طَرِيقِ الْجِهَادِ، فَقَالَ: أَتُجَاهِدُ فَتَقْتُلُ نَفْسَك وَتُنْكَحُ نِسَاؤُك، وَيُقْسَمُ مَالُك، فَخَالَفَهُ فَجَاهَدَ فَقُتِلَ، فَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ». وَقُعُودُ الشَّيْطَانِ يَكُونُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا يَكُونُ بِالْوَسْوَسَةِ. وَالثَّانِي: بِأَنْ يَحْمِلَ عَلَى مَا يُرِيدُ مِنْ ذَلِكَ الزَّوْجَ وَالْوَلَدَ وَالصَّاحِبَ. قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت: 25]. فِي حِكْمَةِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: مَنْ اتَّخَذَ أَهْلًا وَمَالًا وَوَلَدًا كَانَ لِلدُّنْيَا عَبْدًا. وَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ بَيَانُ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ حَالُ الْعَبْدِ؛ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ، تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ، تَعِسَ فَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَفَشَ»، وَلَا دَنَاءَةَ أَعْظَمَ مِنْ عِبَادَةِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَلَا هِمَّةَ أَخَسَّ مِنْ هِمَّةٍ تَرْتَفِعُ بِثَوْبٍ جَدِيدٍ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ لَهُ وَلَدُهُ وَزَوْجُهُ عَدُوًّا كَذَلِكَ الْمَرْأَةُ يَكُونُ لَهَا وَلَدُهَا وَزَوْجُهَا عَدُوًّا بِهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ.

[مسألة معنى قوله تعالى فاحذروهم]

وَعُمُومُ قَوْلِهِ: {مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [التغابن: 14] يُدْخِلُ فِيهِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى كَدُخُولِهِمَا فِي كُلِّ آيَةٍ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى فَاحْذَرُوهُمْ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْلُهُ: {فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14]؛ مَعْنَاهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ. وَالْحَذَرُ عَلَى النَّفْسِ يَكُونُ بِوَجْهَيْنِ: إمَّا لِضَرَرٍ فِي الْبَدَنِ، وَإِمَّا لِضَرَرٍ فِي الدِّينِ. وَضَرَرُ الْبَدَنِ يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا، وَضَرَرُ الدِّينِ يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ. فَحَذَّرَ اللَّهُ الْعَبْدَ مِنْ ذَلِكَ وَأَنْذَرَهُ بِهِ. [مَسْأَلَة تَفْسِير قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَوْلُهُ: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن: 14]: قَالَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَسْلَمُوا وَمَنَعَهُمْ أَزْوَاجُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ مِنْ الْهِجْرَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَئِنْ رَجَعْت لَأَقْتُلَنَّهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَئِنْ رَجَعْت لَا يَنَالُونَ مِنِّي خَيْرًا أَبَدًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ إلَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن: 14]. [الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ] ٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن: 15]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَاللَّفْظُ لِلتِّرْمِذِيِّ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُنَا إذْ جَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْمِنْبَرِ فَحَمَلَهُمَا وَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ اللَّهُ، إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ

[مسألة قوله تعالى والله عنده أجر عظيم]

وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ، نَظَرْت إلَى هَذَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْت حَدِيثِي وَرَفَعْتهمَا». الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الْفِتْنَةُ مَا بَيَّنَّاهَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ الِابْتِلَاءُ، فَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ ابْتَلَى الْعَبْدَ بِالْمَالِ وَالْأَهْلِ لِيَنْظُرَ أَيُطِيعُهُ أَمْ يَعْصِيهِ، حَسْبَمَا ثَبَتَ فِي عِلْمِهِ وَتَقَدَّمَ فِي حُكْمِهِ؛ فَإِنْ مَالَ الْعَبْدُ إلَيْهِمَا خَسِرَ، وَإِنْ صَبَرَ عَلَى الْعُزُوفِ عَنْهُمَا، وَأَنَابَ إلَى إيثَارِ جَانِبِ الطَّاعَةِ عَلَيْهِمَا فَاَللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ، وَهِيَ الْجَنَّةُ بِعَيْنِهَا الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات: 3] وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: وَقَدْ فُتِنَ النَّاسُ فِي دِينِهِمْ ... وَخَلَّى ابْنُ عَفَّانَ شَرًّا طَوِيلًا [مَسْأَلَة قَوْلُهُ تَعَالَى وَاَللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن: 15] يَعْنِي الْجَنَّةَ؛ فَهِيَ الْغَايَةُ، وَلَا أَجْرَ أَعْظَمَ مِنْهَا فِي قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ. وَعِنْدِي مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا، وَهُوَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى؟ وَقَدْ أَعْطَيْتنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِك؟ فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالُوا: يَا رَبَّنَا، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا.» وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الرِّضَا غَايَةُ الْآمَالِ، وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ: امْتَحَنَ اللَّهُ بِهِ خَلْقَهُ فَالنَّارُ وَالْجَنَّةُ فِي قَبْضَتِهِ فَهَجْرُهُ أَعْظَمُ مِنْ نَارِهِ وَوَصْلُهُ أَطْيَبُ مِنْ جَنَّتِهِ. [الْآيَة الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ] ْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن: 16].

فِيهَا ثَمَانِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي التَّقْوَى: قَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ التَّقْوَى فِيمَا تَقَدَّمَ، فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ رَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]: يَقُولُ مُطِيعِينَ قَالَ: فَلَمْ يَدْرِ أَحَدٌ مَا حَقُّ تُقَاتِهِ مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَلَوْ اجْتَمَعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى أَنْ يَبْلُغُوا حَقَّ تُقَاتِهِ مَا بَلَغُوا. قَالَ: فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَعْلَمَ خَلْقُهُ قُدْرَتَهُ. ثُمَّ نَسَخَهَا وَهَوَّنَ عَلَى خَلْقِهِ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، فَلَمْ يَدَعْ لَهُمْ مَقَالًا. فَلَوْ قُلْت لِرَجُلٍ: اتَّقِ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ رَأَى أَنَّك كَلَّفْتَهُ شَطَطًا مِنْ أَمْرِهِ. فَإِذَا قُلْت: اتَّقِ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْت رَأَى أَنَّك لَمْ تُكَلِّفْهُ شَطَطًا، وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]. نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي فِي النَّحْلِ: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18]. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ». وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ، وَهَا هُنَا، فِيمَا تَقَدَّمَ وَبَيَّنَّا حِكْمَةَ رَبْطِ الْأَمْرِ بِالِاسْتِطَاعَةِ، وَإِطْلَاقِ النَّهْيِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَهَا هُنَا قَدْ قَرَنَ النَّهْيَ بِالِاسْتِطَاعَةِ أَيْضًا، فَقَالَ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. وَعُمُومُ التَّقْوَى يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَمِنْ النَّهْيِ مَا يَقِفُ عَلَى الِاسْتِطَاعَةِ، وَهُوَ إذًا تَعَلَّقَ بِأَمْرٍ مَفْعُولٍ. وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ.

[مسألة قوله تعالى واسمعوا وأطيعوا]

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ إنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْمُفَسِّرِينَ رَوَوْا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] لَمَّا نَزَلَتْ قَامَ قَوْمٌ حَتَّى تَوَرَّمَتْ أَقْدَامُهُمْ، وَتَقَرَّحَتْ جِبَاهُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] فَنُسِخَ ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَفِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ قِسْمُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ. [مَسْأَلَة قَوْلُهُ تَعَالَى وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْلُهُ: {وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن: 16]: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا اصْغَوْا إلَى مَا يَنْزِلُ عَلَيْكُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي السَّمَاعِ. الثَّانِي أَنَّ مَعْنَاهُ اقْبَلُوا مَا تَسْمَعُونَ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالسَّمَاعِ؛ لِأَنَّهُ فَائِدَتُهُ عَلَى أَحَدِ قِسْمَيْ الْمَجَازِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَوْلُهُ: {أَطِيعُوا} [آل عمران: 32] وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الطَّاعَةِ، وَأَنَّهَا الِانْقِيَادُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَأَنْفِقُوا] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ {وَأَنْفِقُوا} [التغابن: 16]: قِيلَ: هُوَ الزَّكَاةُ. وَقِيلَ: هُوَ النَّفَقَةُ فِي النَّفْلِ، وَقِيلَ: نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ. وَإِنَّمَا أَوْقَعَ قَائِلُ ذَلِكَ فِيهِ قَوْلَهُ: {لأَنْفُسِكُمْ} [التغابن: 16] وَخَفِيَ عَلَيْهِ أَنَّ نَفَقَةَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ عَلَى الصَّدَقَةِ هِيَ نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7]؛ وَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ الرَّجُلُ مِنْ خَيْرٍ فَلِنَفْسِهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا عَامَّةٌ؛ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ لَهُ رَجُلٌ: عِنْدِي دِينَارٌ. قَالَ: أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِك. قَالَ: عِنْدِي آخَرُ. قَالَ: أَنْفِقْهُ عَلَى عِيَالِك. قَالَ: عِنْدِي آخَرُ. قَالَ: أَنْفِقْهُ عَلَى وَلَدِك. قَالَ: عِنْدِي آخَرُ. قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ». فَبَدَأَ بِالنَّفْسِ وَالْأَهْلِ وَالْوَلَدِ، وَجَعَلَ الصَّدَقَةَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الشَّرْعِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن: 16]: تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْحَشْرِ

[سورة الطلاق فيها خمس آيات]

[سُورَةُ الطَّلَاقِ فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلَّقَ حَفْصَةَ، فَلَمَّا أَتَتْ أَهْلَهَا أَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ. وَقِيلَ لَهُ: رَاجِعْهَا فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ، وَهِيَ مِنْ أَزْوَاجِك فِي الْجَنَّةِ. الثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَوْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَعُيَيْنَةَ بْنِ عَمْرٍو، وَطُفَيْلِ بْنِ الْحَارِثِ، وَعَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ. وَهَذَا كُلُّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَمْثَلُ. وَالْأَصَحُّ فِيهِ أَنَّهَا بَيَانٌ لِشَرْعٍ مُبْتَدَإٍ. [مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى يَأَيُّهَا النَّبِيُّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الطلاق: 1]: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِلَفْظِ الْإِفْرَادِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَهُ، وَقَوْلُهُ: {طَلَّقْتُمُ} [الطلاق: 1] خَبَرٌ عَنْهُ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ.

[مسألة قوله تعالى لعدتهن]

الثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُرَادُ بِهِ أُمَّتُهُ، وَغَايَرَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ مِنْ حَاضِرٍ وَغَائِبٍ [وَذَلِكَ] لُغَةٌ فَصِيحَةٌ. كَمَا قَالَ: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس: 22]: تَقْدِيرُهُ يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لَهُمْ إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ. وَهَذَا هُوَ قَوْلُهُمْ: إنَّ الْخِطَابَ لَهُ وَحْدَهُ لَفْظًا، وَالْمَعْنَى لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ. وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ الْخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ لَاطَفَهُ بِقَوْلِهِ: يَأَيُّهَا النَّبِيُّ. وَإِذَا كَانَ الْخِطَابُ بِاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا لَهُ قَالَ: يَأَيُّهَا الرَّسُولُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ نِدَاءُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَعْظِيمًا، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] كَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ} [المائدة: 90]؛ فَذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَعْنَى تَقْدِمَتِهِمْ وَتَكْرِمَتِهِمْ، ثُمَّ افْتَتَحَ فَقَالَ: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ} [المائدة: 90] الْآيَةُ. قَالَ الْقَاضِي: الصَّحِيحُ أَنَّ مَعْنَاهَا: يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْت أَنْتَ وَالْمُخْبَرُونَ الَّذِينَ أَخْبَرْتُهُمْ بِذَلِكَ النِّسَاءَ فَلْيَكُنْ طَلَاقُهُنَّ كَذَا؛ وَسَاغَ هَذَا لَمَّا كَانَ النَّبِيُّ يَقْضِي مُنَبَّأً. وَهَذَا كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ صَحِيحٌ فِيهَا. [مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى لِعِدَّتِهِنَّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى: {لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] يَقْتَضِي أَنَّهُنَّ اللَّاتِي دَخَلَ بِهِنَّ مِنْ الْأَزْوَاجِ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهِنَّ خَرَجْنَ بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ: {لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]. قِيلَ: الْمَعْنَى فِي عِدَّتِهِنَّ، وَاللَّامُ تَأْتِي بِمَعْنَى فِي؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24] أَيْ فِي حَيَاتِي. وَهَذَا فَاسِدٌ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي رِسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ. وَإِنَّمَا الْمَعْنَى فِيهِ: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ الَّتِي تُعْتَبَرُ. وَاللَّامُ عَلَى أَصْلِهَا، كَمَا تَقُولُ: افْعَلْ كَذَا لِكَذَا، وَيَكُونُ مَقْصُودُ الطَّلَاقِ وَالِاعْتِدَادِ مَآلَهُ الَّذِي يَنْتَهِي إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24] يَعْنِي حَيَاةَ الْقِيَامَةِ الَّتِي هِيَ الْحَيَاةُ الْحَقِيقِيَّةُ الدَّائِمَةُ.

[مسألة العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء]

[مَسْأَلَة الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ مَا هَذِهِ الْعِدَّةُ؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: هُوَ زَمَانُ الطُّهْرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ زَمَانُ الْحَيْضِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهَا الطُّهْرُ قَرَأَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقُبُلِ عِدَّتِهِنَّ تَفْسِيرًا لَا قُرْآنًا، رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَغَيَّظَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ يُمْسِكْهَا حَتَّى تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ؛ فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا؛ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ». وَهَذَا بَالِغٌ قَاطِعٌ، لِأَجْلِ هَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا وَهِيَ: [مَسْأَلَة أَقْسَام الطَّلَاق] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ أَنَّ الطَّلَاقَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: سُنَّةٌ وَبِدْعَةٌ، وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِهِ، فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: طَلَاقُ السُّنَّةِ مَا جَمَعَ سَبْعَةَ شُرُوطٍ؛ وَهِيَ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً، وَهِيَ مِمَّنْ تَحِيضُ، طَاهِرًا لَمْ يَمَسَّهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ، وَلَا تَقَدَّمَهُ طَلَاقٌ فِي حَيْضٍ، وَلَا تَبِعَهُ طَلَاقٌ فِي طُهْرٍ يَتْلُوهُ، وَخَلَا عَنْ الْعِوَضِ؛ وَهَذِهِ الشُّرُوطُ السَّبْعَةُ مُسْتَقْرَآتٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَمَسَائِلِ الْفِقْهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: طَلَاقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي كُلِّ طُهْرٍ طَلْقَةً، وَلَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي طُهْرٍ لَمْ يَكُنْ بِدْعَةً. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: طَلَاقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي كُلِّ قُرْءٍ طَلْقَةً. يُقَالُ ذَلِكَ لِفِقْهٍ يَتَحَصَّلُ؛ وَهُوَ: أَنَّ السُّنَّةَ عِنْدَنَا فِي الطَّلَاقِ تُعْتَبَرُ بِالزَّمَانِ وَالْعَدَدِ. وَفَارَقَ مَالِكٌ أَبَا حَنِيفَةَ بِأَنَّ مَالِكًا قَالَ: يُطَلِّقُهَا وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يَمَسَّهَا فِيهِ، وَلَا يَتْبَعُهُ طَلَاقٌ فِي

[مسألة معنى قوله تعالى وأحصوا العدة]

الْعِدَّةِ، وَلَا يَكُونُ الطُّهْرُ تَالِيًا لِحَيْضٍ وَقَعَ فِي الطَّلَاقِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ؛ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ». وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ. وَتَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ طَلَاقٍ، كَانَ وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ. وَإِنَّمَا رَاعَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الزَّمَانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَمْ يَعْتَبِرْ الْعَدَدَ، وَهَذِهِ غَفْلَةٌ عَنْ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، وَهَذَا يَدْفَعُ الثَّلَاثَ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ: «أَرَأَيْت لَوْ طَلَّقْتهَا ثَلَاثًا؟ قَالَ لَهُ: حَرُمَتْ عَلَيْك، وَبَانَتْ مِنْك بِمَعْصِيَةٍ». وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ وَالْوَاحِدَةَ سَوَاءٌ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: وَلَوْلَا قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]. وَهَذَا يُبْطِلُ دُخُولَ الثَّلَاثِ تَحْتَ الْآيَةِ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ نَمَطٌ بَدِيعٌ لَهُمْ. وَأَمَّا مَالِكٌ فَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ إطْلَاقُ الْآيَةِ كَمَا قَالُوا، وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ فَسَّرَهَا كَمَا قُلْنَا وَبَيَانُهُ التَّامُّ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَكُتُبِ الْمَسَائِلِ. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ: إنَّهُ يَجُوزُ طَلَاقٌ فِي طُهْرٍ جَامَعَ فِيهِ فَيَرُدُّهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ بِنَصِّهِ وَمَعْنَاهُ، أَمَّا نَصُّهُ فَقَدْ قَدَّمْنَاهُ. وَأَمَّا مَعْنَاهُ فَلِأَنَّهُ إذَا مُنِعَ مِنْ طَلَاقِ الْحَائِضِ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِهِ فَالطُّهْرُ الْمُجَامَعُ فِيهِ أَوْلَى بِالْمَنْعِ؛ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ الِاعْتِدَادُ بِهِ وَبِالْحَيْضِ التَّالِي لَهُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ قَوْلُهُ: {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق: 1]: مَعْنَاهُ احْفَظُوهَا؛ تَقْدِيرُهُ احْفَظُوا الْوَقْتَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ، حَتَّى إذَا انْفَصَلَ الْمَشْرُوطُ مِنْهُ وَهُوَ الثَّلَاثَةُ قُرُوءٍ فِي قَوْلِهِ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ هِيَ بِالْأَطْهَارِ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضِ. وَيُؤَكِّدُهُ وَيُفَسِّرُهُ قِرَاءَةُ

النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لِقُبُلِ عِدَّتِهِنَّ. وَقُبُلُ الشَّيْءِ بَعْضُهُ لُغَةً وَحَقِيقَةً، بِخِلَافِ اسْتِقْبَالِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ غَيْرَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ مَنْ الْمُخَاطَبُ بِأَمْرِ الْإِحْصَاءِ؛ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُمْ الْأَزْوَاجُ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ الزَّوْجَاتُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ الْمُسْلِمُونَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَذَا اللَّفْظِ الْأَزْوَاجُ؛ لِأَنَّ الضَّمَائِرَ كُلَّهَا مِنْ {طَلَّقْتُمُ} [الطلاق: 1] {وَأَحْصُوا} [الطلاق: 1] وَ {لا تُخْرِجُوهُنَّ} [الطلاق: 1] عَلَى نِظَامٍ وَاحِدٍ يَرْجِعُ إلَى الْأَزْوَاجِ، وَلَكِنَّ الزَّوْجَاتِ دَاخِلَةٌ فِيهِ بِالْإِلْحَاقِ بِالزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يُحْصِي لِيُرَاجِعَ، وَيُنْفِقَ أَوْ يَقْطَعَ، وَلِيُسْكِنَ أَوْ يُخْرِجَ، وَلِيُلْحِقَ نَسَبَهُ أَوْ يَقْطَعَ. وَهَذِهِ كُلُّهَا أُمُورٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَتَنْفَرِدُ الْمَرْأَةُ دُونَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ الْحَاكِمُ يَفْتَقِرُ إلَى الْإِحْصَاءِ لِلْعِدَّةِ لِلْفَتْوَى عَلَيْهَا وَفَصْلُ الْخُصُومَةِ عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ فِيهَا؛ وَهَذِهِ فَوَائِدُ الْإِحْصَاءِ الْمَأْمُورِ بِهِ. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ فِيمَا لَا يَتِمُّ الْإِحْصَاءُ إلَّا بِهِ وَهُوَ مَعْرِفَةُ أَسْبَابِ الْعِدَّةِ، وَمَحِلِّهَا، وَأَنْوَاعِهَا: فَأَمَّا أَسْبَابُهَا فَأَرْبَعَةٌ: وَهِيَ الطَّلَاقُ، وَالْفَسْخُ، وَالْوَفَاةُ، وَانْتِقَالُ الْمِلْكِ. [وَالْمِلْكُ] وَالْوَفَاةُ مَذْكُورَانِ فِي الْقُرْآنِ، وَالْفَسْخُ مَحْمُولٌ عَلَى الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ، أَوْ هُوَ هُوَ. وَالِاسْتِبْرَاءُ مَذْكُورٌ فِي السُّنَّةِ، وَلَيْسَ بِعِدَّةٍ؛ لِأَنَّهُ حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ، وَسُمِّيَتْ مُدَّةُ الِاسْتِبْرَاءِ عِدَّةً لِأَنَّهَا مُدَّةٌ ذَاتُ عَدَدٍ تُعْتَبَرُ بِحِلٍّ وَتَحْرِيمٍ. وَأَمَّا مَحِلُّهَا فَهِيَ الْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ. وَأَمَّا أَنْوَاعُهَا فَهِيَ أَرْبَعَةٌ: ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ. وَوَضْعُ الْحَمْلِ، كَمَا جَاءَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَسَنَةٌ كَمَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ، فَهَذِهِ جُمْلَتُهَا،

وَفِيهَا تَفَاصِيلُ عَظِيمَةٌ بِاخْتِلَافِ الْأَسْبَابِ وَتَعَارُضِهَا، وَاخْتِلَافُ أَحْوَالِ النِّسَاءِ، وَالتَّدَخُّلُ الطَّارِئُ عَلَيْهَا، وَالْعَوَارِضُ اللَّاحِقَةُ لَهَا، بَيَانُهَا فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ. وَمَحْصُولُهَا اللَّائِقُ بِهَذَا الْفَنِّ الَّذِي تَصَدَّيْنَا لَهُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْمُعْتَادَةُ. الْقِسْمُ الثَّانِي مُتَأَخِّرٌ حَيْضُهَا لِعُذْرٍ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الصَّغِيرَةُ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ الْآيِسَةُ. فَأَمَّا الْمُعْتَادَةُ فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ؛ وَتَحِلُّ إذَا طَعَنَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ؛ لِأَنَّ الْأَطْهَارَ هِيَ الْأَقْرَاءُ، وَقَدْ كَمُلَتْ ثَلَاثَةً. وَأَمَّا مَنْ تَأَخَّرَ حَيْضُهَا لِمَرَضٍ؛ فَقَالَ مَالِكٌ، وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَأَصْبَغُ: تَعْتَدُّ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ ثَلَاثَةً. وَقَالَ أَشْهَبُ: هِيَ كَالْمُرْضِعِ بَعْدَ الْفِطَامِ بِالْحَيْضِ أَوْ بِالسَّنَةِ، وَقَدْ طَلَّقَ حِبَّانُ بْنُ مُنْقِذٍ امْرَأَتَهُ وَهِيَ تُرْضِعُ فَمَكَثَتْ سَنَةً لَا تَحِيضُ لِأَجْلِ الرَّضَاعِ، ثُمَّ مَرِضَ حِبَّانُ، فَخَافَ أَنْ تَرِثَهُ إنْ مَاتَ فَخَاصَمَهَا إلَى عُثْمَانَ، وَعِنْدَهُ عَلِيٌّ وَزَيْدٌ، فَقَالَا: نَرَى أَنْ تَرِثَهُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْقَوَاعِدِ، وَلَا مِنْ الصِّغَارِ؛ فَمَاتَ حِبَّانُ، فَوَرِثَتْهُ، وَاعْتَدَّتْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ. وَلَوْ تَأَخَّرَ الْحَيْضُ لِغَيْرِ مَرَضٍ وَلَا رَضَاعٍ فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ سَنَةً لَا حَيْضَ فِيهَا: تِسْعَةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ ثَلَاثَةً؛ فَتَحِلُّ مَا لَمْ تَرْتَبْ بِحَمْلٍ، فَإِنْ ارْتَابَتْ بِحَمْلٍ أَقَامَتْ أَرْبَعَةَ أَعْوَامٍ أَوْ خَمْسَةً أَوَسَبْعَةً عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ عَنْ عُلَمَائِنَا. وَمَشْهُورُهَا خَمْسَةُ أَعْوَامٍ؛ فَإِنْ تَجَاوَزَتْهَا حَلَّتْ. وَقَالَ أَشْهَبُ: لَا تَحِلُّ أَبَدًا حَتَّى تَنْقَطِعَ عَنْهَا الرِّيبَةُ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يَبْقَى الْوَلَدُ فِي بَطْنِهَا خَمْسَةَ أَعْوَامٍ جَازَ أَنْ يَبْقَى عَشْرَةً وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِثْلُهُ. وَأَمَّا الَّتِي جُهِلَ حَيْضُهَا بِالِاسْتِحَاضَةِ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: تَعْتَدُّ سَنَةً؛ وَهُوَ مَشْهُورُ قَوْلِ عُلَمَائِنَا. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: تَعْتَدُّ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ بَعْدَ تِسْعَةٍ.

[مسألة هل للمطلقة المعتدة السكنى]

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ: عِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْقَرَوِيِّينَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي. وَأَمَّا الْمُرْتَابَةُ فَقَاسَهَا قَوْمٌ عَلَيْهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تَبْقَى أَبَدًا حَتَّى تَزُولَ الرِّيبَةُ. وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ كَيْفَمَا كَانَتْ حُرَّةً، أَوْ أَمَةً؛ مُسْلِمَةً، أَوْ كِتَابِيَّةً فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَنَا. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: إنْ كَانَتْ أَمَةً فَعِدَّتُهَا شَهْرٌ وَنِصْفٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: شَهْرَانِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحَيْضَةَ الْوَاحِدَةَ تَدُلُّ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَالثَّانِيَةَ تَعَبُّدٌ؛ فَلِذَلِكَ جُعِلَتْ قُرْأَيْنِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ الْحُرَّةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَانْظُرْهُ هُنَالِكَ مُجَرَّدًا. وَأَمَّا الْأَشْهُرُ فَإِنَّهَا دَلِيلٌ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ لِأَجْلِ تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ الَّتِي يَخْلُقُ اللَّهُ فِيهَا الْوَلَدَ، وَهَذَا تَسْتَوِي فِيهِ الْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ. وَيُعَارِضُهُ أَنَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ عِنْدَهُمْ شَهْرَانِ، وَخَمْسُ لَيَالٍ، وَأَجَلُ الْإِيلَاءِ شَهْرَانِ، وَأَجَلُ الْعُنَّةِ نِصْفُ عَامٍ. وَالْأَحْكَامُ مُتَعَارِضَةٌ. وَأَمَّا الْآيِسَةُ فَهِيَ مِثْلُهَا، وَإِذَا أَشْكَلَ حَالُ الْيَائِسَةِ كَالصَّغِيرَةِ لِقُرْبِ السِّنِينَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْجِهَتَيْنِ فَإِنَّ عِدَّتَهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَلَا يُعْتَبَرُ بِالدَّمِ إلَّا أَنْ تَرْتَابَ مَعَ الْأَشْهُرِ فَتَذْهَبَ بِنَفْسِهَا إلَى زَوَالِ الرِّيبَةِ. [مَسْأَلَة هَلْ لِلْمُطَلَّقَةِ الْمُعْتَدَّةِ السُّكْنَى] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ قَوْلُهُ {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1] جَعَلَ اللَّهُ لِلْمُطَلَّقَةِ الْمُعْتَدَّةِ السُّكْنَى فَرْضًا وَاجِبًا وَحَقًّا لَازِمًا هُوَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُمْسِكَهُ عَنْهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُسْقِطَهُ عَنْ الزَّوْجِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ عَسِيرَةٌ عَلَى أَكْثَرِ الْمَذَاهِبِ. قَالَ مَالِكٌ: لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ السُّكْنَى، كَانَ الطَّلَاقُ وَاحِدًا أَوْ ثَلَاثًا. وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا سُكْنَى إلَّا لِلرَّجْعِيَّةِ. [وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَهَا أَنْ تَتْرُكَ

السُّكْنَى، فَجَعَلَهُ حَقًّا لَهَا، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَنَّ السُّكْنَى لِلْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ] لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]. وَإِنَّمَا عَرَفْنَا وُجُوبَهُ لِغَيْرِهَا مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ، وَذَكَرْنَا التَّحْقِيقَ فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُ الضَّحَّاكِ فَيَرُدُّهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1] وَهَذَا نَصٌّ الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَوْلُهُ: {مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] إضَافَةُ إسْكَانٍ، وَلَيْسَتْ إضَافَةَ تَمْلِيكٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34] وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ. وَقَوْلُهُ: {لا تُخْرِجُوهُنَّ} [الطلاق: 1] يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حَقًّا عَلَى الْأَزْوَاجِ، وَيَقْتَضِي قَوْلُهُ: {وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1] أَنَّهُ حَقٌّ عَلَى الزَّوْجَاتِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ذَكَرَ اللَّهُ الْإِخْرَاجَ وَالْخُرُوجَ عَامًّا مُطْلَقًا، وَلَكِنْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَذِنَ لِخَالَتِهِ فِي الْخُرُوجِ فِي جِذَاذِ نَخْلِهَا». وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مَعًا، «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ وَكَانَ زَوْجُهَا طَلَّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ: لَا نَفَقَةَ لَك وَلَا سُكْنَى». وَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَا خَيْرَ لَهَا فِي ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ. وَفِي مُسْلِمٍ: «قَالَتْ فَاطِمَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَخَافُ أَنْ يُقْتَحَمَ عَلَيَّ قَالَ: اُخْرُجِي». وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ: كَانَ فِي مَكَان وَحِشٍ، فَخِيفَ عَلَيْهَا. وَقَالَ مَرْوَانُ: حَيْثُ عِيبَ عَلَيْهِ نَقْلُ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ حِينَ طَلَّقَهَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنُ الْعَاصِ. وَذَكَرَ حَدِيثَ فَاطِمَةَ إنْ كَانَ بِك الشَّرُّ فَحَسْبُك مَا بَيْنَ هَذَيْنِ مِنْ الشَّرِّ.

وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: لَا نَدَعُ كِتَابَ اللَّهِ وَلَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا تَدْرِي أَحَفِظَتْ أَمْ نَسِيَتْ. فَأَنْكَرَ عُمَرُ وَعَائِشَةُ حَدِيثَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ؛ لَكِنَّ عُمَرُ رَدَّهُ بِعُمُومِ الْقُرْآنِ، وَرَدَّتْهُ عَائِشَةُ بِعِلَّةِ تَوَحُّشِ مَكَانِهَا، وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ لَمْ يُخَصِّصْ عُمُومَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ قَالَتْ: بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]؛ فَأَيُّ أَمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الثَّلَاثِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْآيَةَ فِي تَحْرِيمِ الْإِخْرَاجِ وَالْخُرُوجُ إنَّمَا هُوَ فِي الرَّجْعِيَّةِ، وَصَدَقَتْ. وَهَكَذَا هُوَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، وَلَكِنَّ ذَلِكَ فِي الْمَبْتُوتَةِ ثَبَتَ مِنْ الْآيَةِ الْأُخْرَى؛ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] حَسْبَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَجَاءَ مِنْ هَذَا أَنَّ لُزُومَ الْبَيْتِ لِلْمُعْتَدَّةِ شَرْعٌ لَازِمٌ، وَأَنَّ الْخُرُوجَ لِلْحَدَثِ وَالْبَذَاءِ وَالْحَاجَةِ إلَى الْمَعَاشِ وَخَوْفِ الْعَوْرَةِ مِنْ السَّكَنِ جَائِزٌ بِالسُّنَّةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ فِي صِفَةِ الْخُرُوجِ: أَمَّا الْخُرُوجُ لِخَوْفِ الْبَذَاءِ وَالتَّوَحُّشِ وَالْحَاجَةِ إلَى الْمَعَاشِ؛ فَيَكُونُ انْتِقَالًا مَحْضًا. وَأَمَّا الْخُرُوجُ لِلتَّصَرُّفِ لِلْحَاجَاتِ فَيَكُونُ بِالنَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ؛ إذْ لَا سَبِيلَ لَهَا إلَى الْبَيْتِ عَنْ مَنْزِلِهَا، وَإِنَّمَا تَخْرُجُ بِالْإِسْفَارِ وَتَرْجِعُ قَبْلَ الْإِغْطَاشِ وَتُمَكَّنُ فَحْمَةُ اللَّيْلِ؛ قَالَ مَالِكٌ: وَلَا تَفْعَلُ ذَلِكَ دَائِمًا. وَإِنَّمَا أَذِنَ لَهَا فِيهِ إنْ احْتَاجَتْ إلَيْهِ، إنَّمَا يَكُونُ خُرُوجُهَا، فِي الْعِدَّةِ كَخُرُوجِهَا فِي النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ فَرْعُ النِّكَاحِ، لَكِنَّ النِّكَاحَ يَقِفُ الْخُرُوجُ فِيهِ عَلَى إذْنِ الزَّوْجِ، وَيَقِفُ فِي الْعِدَّةِ عَلَى إذْنِ اللَّهِ؛ وَإِذْنُ اللَّهِ إنَّمَا هُوَ بِقَدْرِ الْعُذْرِ الْمُوجِبِ لَهُ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1] وَكَانَ هَذَا فِي الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ كَمَا بَيَّنَّا كَانَتْ السُّكْنَى حَقًّا عَلَيْهِنَّ لِلَّهِ، وَكَانَتْ النَّفَقَةُ حَقًّا عَلَى

[مسألة معنى قوله تعالى إلا أن يأتين بفاحشة]

الْأَزْوَاجِ، فَسَقَطَتْ بِتَرْكِهِنَّ وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ مِنْ أَحْكَامِ الرَّجْعَةِ، وَالسُّكْنَى مِنْ حُقُوقِ الْعِدَّةِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ قَوْلُهُ: {إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ} [الطلاق: 1]: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الزِّنَا. الثَّانِي: أَنَّهُ الْبَذَاءُ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ كُلُّ مَعْصِيَةٍ. وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ الْخُرُوجُ مِنْ الْبَيْتِ؛ وَاخْتَارَهُ ابْنُ عُمَرَ. فَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ الْخُرُوجُ لِلزِّنَا فَلَا وَجْهَ لَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْخُرُوجَ هُوَ خُرُوجُ الْقَتْلِ وَالْإِعْدَامِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُسْتَثْنًى فِي حَلَالٍ وَلَا حَرَامٍ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ الْبَذَاءُ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ كُلُّ مَعْصِيَةٍ فَوَهْمٌ؛ لِأَنَّ الْغَيْبَةَ وَنَحْوَهَا مِنْ الْمَعَاصِي لَا تُبِيحُ الْإِخْرَاجَ وَلَا الْخُرُوجَ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ الْخُرُوجُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَهُوَ صَحِيحٌ. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ شَرْعًا إلَّا أَنْ يَخْرُجْنَ تَعَدِّيًا. وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ السُّكْنَى، وَحَرَّمَ الْخُرُوجَ وَالْإِخْرَاجَ تَحْرِيمًا عَامًّا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَا بَيَّنَّاهُ، وَرَتَّبْنَا عَلَيْهِ إيضَاحَ الْخُرُوجِ الْمَمْنُوعِ مِنْ الْجَائِزِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة التَّحْرِيضُ عَلَى طَلَاقِ الْوَاحِدَةِ وَالنَّهْيُ عَنْ الثَّلَاث] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ قَوْلُهُ: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]: قَالَ جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ: أَرَادَ بِالْأَمْرِ هَاهُنَا الرَّغْبَةَ فِي الرَّجْعَةِ، وَمَعْنَى الْقَوْلِ: التَّحْرِيضُ عَلَى طَلَاقِ الْوَاحِدَةِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الثَّلَاث؛ فَإِنَّهُ إذَا طَلَّقَ ثَلَاثًا أَضَرَّ بِنَفْسِهِ عِنْدَ النَّدَمِ عَلَى الْفِرَاقِ، وَالرَّغْبَةِ فِي الِارْتِجَاعِ، وَلَا يَجِدُ عِنْدَ إرَادَةِ الرَّجْعَةِ سَبِيلًا. وَكَمَا أَنَّ

[الآية الثانية قوله تعالى فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف]

قَوْلَهُ: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] فِيهِ الْأَمْرُ بِالطَّلَاقِ فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْ [فِيهِ لِئَلَّا يَضُرَّ بِالْمَرْأَةِ فِي تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] فِيهِ] النَّهْيُ عَنْ طَلَاقِ الثَّلَاثِ، لِئَلَّا تَفُوتَ الرَّجْعَةُ عِنْدَمَا يَحْدُثُ لَهُ مِنْ الرَّغْبَةِ. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ] ٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2]: فِيهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [الطلاق: 2] يَعْنِي قَارَبْنَ بُلُوغَ أَجَلِهِنَّ يَعْنِي الْأَجَلَ الْمُقَدَّرَ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَالْعِبَارَةُ عَنْ مُقَارَبَةِ الْبُلُوغِ [بِالْبُلُوغِ] سَائِغٌ لُغَةً وَمَعْلُومٌ شَرْعًا. وَمِنْهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ لَا يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ أَصْبَحْت يَعْنِي قَارَبْت الصُّبْحَ، وَلَوْ كَانَ لَا يُنَادِي حَتَّى يَرَى [وَكِيلُهُ] الصُّبْحَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُعْلِمُهُ هُوَ، فَيَرْقَى عَلَى السَّطْحِ بَعْدَ ذَلِكَ يُؤَذِّنُ لَكَانَ النَّاسُ يَأْكُلُونَ جُزْءًا مِنْ النَّهَارِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا كَانَ يُقَالُ لَهُ: أَصْبَحْت أَيْ قَارَبْت، فَيُنَادِي فَيُمْسِكُ النَّاسُ عَنْ الْأَكْلِ فِي وَقْتٍ يَنْعَقِدُ لَهُمْ فِيهِ الصَّوْمُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، أَوْ مَعَهُ. وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُ الشَّمَّاخِ: وَتَشْكُو بِعَيْنٍ مَا أَكَلَّ رِكَابُهَا ... وَقِيلَ الْمُنَادِي أَصْبَحَ الْقَوْمُ أَدْلِجْ يَعْنِي قَارَبَ الْقَوْمُ الصَّبَاحَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: {فَأَمْسِكُوهُنَّ} [الطلاق: 2] يَعْنِي بِالرَّجْعَةِ، أَوْ فَارِقُوهُنَّ، وَهِيَ:

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ مَعْنَاهُ أَوْ اُتْرُكُوهُنَّ عَلَى حُكْمِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ؛ فَيَقَعُ الْفِرَاقُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِالطَّلَاقِ الْمَاضِي لِتَرْكِ الْإِمْسَاكِ بِالرَّجْعَةِ؛ إذْ قَدْ وَقَعَ الْفِرَاقُ بِهِ؛ وَإِنَّمَا لَهُ الِاسْتِدْرَاكُ بِالتَّمَسُّكِ بِالتَّصْرِيحِ بِالرَّجْعَةِ الْمُنَاقِضِ لِلتَّصْرِيحِ بِالطَّلَاقِ، وَسُمِّيَ التَّمَادِي عَلَى حُكْمِ الْفِرَاقِ وَتَرْكِ التَّمَسُّكِ بِالتَّصْرِيحِ بِالرَّجْعَةِ فِرَاقًا مَجَازًا. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ: {بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2]: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا بِمَعْلُومٍ مِنْ الْإِشْهَادِ. الثَّانِي: الْقَصْدُ إلَى الْخَلَاصِ مِنْ النِّكَاحِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْوَصْلَةِ مَعَ عَدَمِ الْأُلْفَةِ لَا بِقَصْدِ الْإِضْرَارِ، حَسْبَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ؛ كَانُوا يُطَلِّقُونَ الْمَرْأَةَ حَتَّى إذَا أَشْرَفْت عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَشْهَدَ بِرَجْعَتِهَا حَتَّى إذَا مَرَّ لِذَلِكَ مُدَّةٌ طَلَّقَهَا هَكَذَا، كُلَّمَا رَدَّهَا طَلَّقَهَا، فَإِذَا أَشْرَفَتْ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ رَاجَعَهَا، لَا رَغْبَةً؛ لَكِنْ إضْرَارًا وَإِذَايَةً، فَنُهُوا أَنْ يُمْسِكُوا أَوْ يُفَارِقُوا إلَّا بِالْمَعْرُوفِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231]. وَقَوْلِهِ: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْلُهُ: {فَإِذَا بَلَغْنَ} [الطلاق: 2]: يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَرْأَةِ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إذَا ادَّعَتْ ذَلِكَ فِيمَا يُمْكِنُ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي قَوْلِهِ: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2]: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي قَوْلِهِ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، تَمَامُهُ أَنَّ الزَّوْجَ لَهُ الرَّجْعَةُ فِي الْعِدَّةِ بِلَا خِلَافٍ، وَالرَّجْعَةُ تَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَاللَّيْثُ. وَقَالَ

الشَّافِعِيُّ: لَا تَصِحُّ إلَّا بِالْقَوْلِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ التَّابِعُونَ قَدِيمًا، بَيْدَ أَنَّ عُلَمَاءَنَا قَالُوا: إنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَكُونُ بِالْفِعْلِ، حَتَّى تَقْتَرِنَ بِهِ النِّيَّةُ، فَيَقْصِدَ بِالْوَطْءِ أَوْ الْقُبْلَةِ الرَّجْعَةَ وَبِالْمُبَاشَرَةِ كُلَّهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَاللَّيْثُ: الْوَطْءُ مُجَرَّدًا رَجْعَةٌ، وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ، هُوَ: الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ هَلْ الرَّجْعِيَّةُ مُحَرِّمَةُ الْوَطْءِ أَمْ لَا؟ فَعِنْدَنَا أَنَّهَا مُحَرِّمَةُ الْوَطْءِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَعَطَاءٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَطْؤُهَا مُبَاحٌ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ طَلَاقٌ لَا يَقْطَعُ النِّكَاحَ؛ فَلَمْ يُحَرِّمْ الْوَطْءَ، كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ بِقُدُومِ زَيْدٍ لَمْ يَقَعْ، هَذَا طَلَاقٌ وَاقِعٌ فَيَجِبُ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي تَحْرِيمِ الْوَطْءِ الْمَقْصُودِ مِنْ الْعَقْدِ، لَا سِيَّمَا وَهِيَ جَارِيَةٌ [بِهِ] إلَى بَيْنُونَةٍ خَارِجَةٍ عَنْ الْعِصْمَةِ؛ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مُحَرِّمَةُ الْوَطْءِ فَلَا بُدَّ مِنْ قَصْدِ الرَّدِّ، وَحِينَئِذٍ يَصِحُّ مَعَهُ الرَّدُّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَكُونُ الرَّجْعَةُ بِالْفِعْلِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ بِالْقَوْلِ وَلَا مُعْتَمَدَ لَهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَلَنَا كُلُّ ذَلِكَ؛ فَأَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2]؛ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ؛ إذْ الْإِمْسَاكُ يَكُونُ بِهِمَا عَادَةً، وَيَكُونُ شَرْعًا، أَلَا تَرَى أَنَّ خِيَارَ الْمُعْتَقَةِ يَكُونُ إمْسَاكُهَا بِالْقَوْلِ بِأَنْ تَقُولَ: اخْتَرْت، وَبِالْفِعْلِ بِأَنْ تُمَكِّنَ مِنْ وَطْئِهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] وَالرَّدُّ يَكُونُ تَارَةً بِالْقَوْلِ، وَتَارَةً بِالْفِعْلِ. وَمِنْ عَجِيبِ الْأَمْرِ أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَيْنِ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِلْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ أَمْسَكْتهَا، هَلْ يَكُونُ رَجْعَةً أَمْ لَا؟ قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُظَفَّرٍ الطَّبَرِيُّ: لَا يَكُونُ رَجْعَةً؛ لِأَنَّ اسْتِبَاحَةَ الْوَطْءِ لَا تَكُونُ إلَّا بِلَفْظَيْنِ،

[مسألة الإشهاد في الرجعة]

وَهُمَا قَوْلُهُ: رَاجَعْت، أَوْ رَدَدْت، كَمَا يَكُونُ النِّكَاحُ بِلَفْظَيْنِ وَهُمَا قَوْلُهُ: زَوَّجْت، أَوْ نَكَحْت، وَهَذَا مِنْ رَكِيكِ الْكَلَامِ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِ ذَلِكَ الْإِمَامِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ تَحَكُّمٌ. وَالثَّانِي أَنَّهُ لَوْ صَحَّ أَنْ يَقِفَ عَلَى [لَفْظَيْنِ لَكَانَ وُقُوفُهُ عَلَى] لَفْظَيْ الْقُرْآنِ، وَهُمَا رَدَدْت وَأَمْسَكْت اللَّذَانِ جَاءَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَهَا هُنَا أَوْلَى مِنْ لَفْظِ رَاجَعْت الَّذِي لَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ، بَيْدَ أَنَّهُ جَاءَ فِي السُّنَّةِ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، كَمَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ لَفْظٌ ثَالِثٌ فِي النِّكَاحِ، وَهُوَ فِي شَأْنِ الْمَوْهُوبَةِ؛ إذْ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اذْهَبْ فَقَدْ مَلَكْتهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ؛ فَذَكَرَ النِّكَاحَ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ مِنْ قَوْلِ عُلَمَائِنَا كَمَا تَقَدَّمَ: إنَّ الرَّجْعَةَ تَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَعَ النِّيَّةِ، فَلَوْ خَلَا ذَلِكَ فِي نِيَّةٍ، أَوْ كَانَتْ نِيَّةٌ دُونَ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ مَا حُكْمُهُ؟ قَالَ أَشْهَبُ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: إذَا عَرَى الْقَوْلُ أَوْ الْفِعْلُ عَنْ النِّيَّةِ فَلَيْسَا بِرَجْعَةٍ. وَفِي الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ الْوَطْءَ الْعَارِيَ مِنْ نِيَّةٍ لَيْسَ بِرَجْعَةٍ، وَالْقَوْلَ الْعَارِيَ عَنْ النِّيَّةِ جَعَلَهُ رَجْعَةً؛ إذَا قَالَ: رَاجَعْتُك وَكُنْت هَازِلًا، فَعَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ بِأَنَّ النِّكَاحَ بِالْهَزْلِ لَا يَلْزَمُ فَلَا يَكُونُ رَجْعَةً؛ فَإِنْ كَانَتْ رَجْعَةً بِالنِّيَّةِ دُونَ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ فَحَمَلَهُ الْقَرَوِيُّونَ عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ فِي الطَّلَاقِ وَالْيَمِينِ إنَّهُ يَصِحُّ بِالنِّيَّةِ دُونَ قَوْلٍ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ أَسْرَعُ فِي الثُّبُوتِ مِنْ النِّكَاحِ. [مَسْأَلَة الْإِشْهَادِ فِي الرَّجْعَةِ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ قَوْلُهُ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]: وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الْوُجُوبِ بِمُطْلَقِ الْأَمْرِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ: إنَّ الرَّجْعَةَ لَا

[مسألة راجعها بعد أن ارتدت]

تَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ، فَلَمْ تَفْتَقِرْ إلَى الْإِشْهَادِ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَخُصُوصًا حِلُّ الظِّهَارِ بِالْكَفَّارَةِ. وَرَكَّبَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى وُجُوبِ الْإِشْهَادِ فِي الرَّجْعَةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ: كُنْت رَاجَعْت أَمْسِ، وَأَنَا أُشْهِدُ الْيَوْمَ؛ لِأَنَّهُ إشْهَادٌ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالرَّجْعَةِ؛ وَمِنْ شَرْطِ الرَّجْعَةِ الْإِشْهَادُ عَلَيْهَا، فَلَا تَصِحُّ دُونَهُ؛ وَهَذَا فَاسِدٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْإِشْهَادَ فِي الرَّجْعَةِ تَعَبُّدٌ، وَنَحْنُ لَا نُسَلِّمُ فِيهَا وَلَا فِي النِّكَاحِ. بَلْ نَقُولُ: إنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلتَّوَثُّقِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْإِقْرَارِ، كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْإِنْشَاءِ، وَبَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [مَسْأَلَة رَاجَعَهَا بَعْدَ أَنْ ارْتَدَّتْ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ وَهِيَ فَرْعٌ غَرِيبٌ: إذَا رَاجَعَهَا بَعْدَ أَنْ ارْتَدَّتْ لَمْ تَصِحَّ الرَّجْعَةُ. وَقَالَ الْمُزَنِيّ: تَصِحُّ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [الطلاق: 2] وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ زَوْجَةٍ مُسْلِمَةٍ أَوْ مُرْتَدَّةٍ؛ وَلِأَنَّ الرَّجْعَةَ تَصِحُّ فِي حَالِ كَوْنِهَا مُحَرَّمَةً بِالْإِحْرَامِ وَالْحَيْضِ، كَذَلِكَ الرِّدَّةُ، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ فَإِنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِبَاحَةُ فَرْجٍ مُحَرَّمٍ، فَلَمْ تَجُزْ مَعَ الرِّدَّةِ، كَالنِّكَاحِ؛ وَالْمُحَرَّمَةُ وَالْحَائِضُ لَيْسَتَا بِمُحَرَّمَتَيْنِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ تَجُوزُ الْخَلْوَةُ بِهِمَا لِزَوْجِهِمَا. [مَسْأَلَة قَالَ بَعْدَ الْعِدَّةِ كُنْت رَاجَعْتهَا وَصَدَّقَتْهُ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ لَوْ قَالَ بَعْدَ الْعِدَّةِ، كُنْت رَاجَعْتهَا وَصَدَّقَتْهُ جَازَ، وَلَوْ أَنْكَرَتْ حَلَفَتْ، وَذَلِكَ فِي مَسَائِلَ الْخِلَافِ مَشْرُوحٌ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِإِعْمَالِ الْإِقْرَارِ فِي الرَّجْعَةِ. [مَسْأَلَة اخْتِصَاصَ الشَّهَادَةِ عَلَى الرَّجْعَةِ بِالذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]: وَهَذَا يُوجِبُ اخْتِصَاصَ الشَّهَادَةِ عَلَى الرَّجْعَةِ بِالذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {ذَوَيْ} [الطلاق: 2] مُذَكَّرٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَا مَدْخَلَ لِشَهَادَةِ النِّسَاءِ فِيمَا عَدَا الْأَمْوَالَ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2]: يَعْنِي لَا تُضَيِّعُوهَا وَلَا تُغَيِّرُوهَا، وَأْتُوا بِهَا عَلَى وَجْهِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

[الآية الثالثة قوله تعالى واللائي يئسن من المحيض من نسائكم]

[الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ] ْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4]. فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ} [الطلاق: 4]: وَهَذِهِ آيَةٌ مُشْكِلَةٌ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ مَعْنَاهَا إذَا ارْتَبْتُمْ. وَحُرُوفُ الْمَعَانِي يُبْدَلُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، وَاَلَّذِينَ قَالُوا هَذَا اخْتَلَفُوا فِي الْوَجْهِ الَّذِي رَجَعَتْ فِيهِ إنْ بِمَعْنَى إذَا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى مَا رُوِيَ أَنَّ «أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنَّ اللَّهَ قَدْ بَيَّنَ لَنَا عِدَّةَ الْحَائِضِ بِالْأَقْرَاءِ فَمَا حُكْمُ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ». وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ وَهُوَ الثَّانِي: إنَّ اللَّهَ جَعَلَ عِدَّةَ الْحَائِضِ بِالْأَقْرَاءِ، فَمَنْ انْقَطَعَ حَيْضُهَا، وَهِيَ تَقْرُبُ مِنْ حَدِّ الِاحْتِمَالِ [فَوَاجِبٌ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِالْأَشْهُرِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَمِنْ ارْتَفَعَتْ عَنْ حَدِّ الِاحْتِمَالِ] وَجَبَ عَلَيْهَا الِاعْتِدَادُ بِالْأَشْهُرِ بِالْإِجْمَاعِ، لَا بِهَذِهِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا رِيبَةَ فِيهَا. الثَّالِثُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: الْآيَةُ وَارِدَةٌ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَدْرِي دَمَ حَيْضٍ هُوَ أَوْ دَمَ عِلَّةٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي تَحْقِيقِ الْمَقْصُودِ: أَمَّا وَضْعُ حُرُوفِ الْمَعَانِي إبْدَالًا بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ. وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي حُرُوفِ الْخَفْضِ؛ وَإِنَّمَا الْآيَةُ وَارِدَةٌ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْعِدَّةِ مَوْضُوعٌ لِأَجْلِ الرِّيبَةِ؛ إذْ الْأَصْلُ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ، وَتَرْتَابُ لِشُغْلِهِ بِالْمَاءِ؛ فَوُضِعَتْ الْعِدَّةُ لِأَجْلِ هَذِهِ الرِّيبَةِ، وَلَحِقَهَا ضَرْبٌ مِنْ التَّعَبُّدِ.

[مسألة قوله تعالى واللائي لم يحضن]

وَيُحَقِّقُ هَذَا أَنَّ حَرْفَ " إنْ " يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ الْوَاجِبِ، كَمَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ الْمُمْكِنِ، وَعَلَى هَذَا خُرِّجَ قَوْلُهُ: " وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ ". وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَلْجَئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ وَاللُّغَوِيِّينَ. وَأَمَّا حَدِيثُ أُبَيٍّ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَشْهَبُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] يَقُولُ فِي شَأْنِ الْعِدَّةِ: إنَّ تَفْسِيرَهَا: إنْ لَمْ تَدْرُوا مَا تَصْنَعُونَ فِي أَمْرِهَا فَهَذِهِ سَبِيلُهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] يَعْنِي الصَّغِيرَةَ، وَعِدَّتُهَا أَيْضًا بِالْأَشْهُرِ؛ لِتَعَذُّرِ الْأَقْرَاءِ فِيهَا عَادَةً؛ وَالْأَحْكَامُ إنَّمَا أَجْرَاهَا اللَّهُ عَلَى الْعَادَاتِ، فَهِيَ تَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ، فَإِذَا رَأَتْ الدَّمَ فِي زَمَنِ احْتِمَالِهِ عِنْدَ النِّسَاءِ انْتَقَلَتْ إلَى الدَّمِ، لِوُجُودِ الْأَصْلِ. فَإِذَا وُجِدَ الْأَصْلُ لَمْ يَبْقَ لِلْبَدَلِ حُكْمٌ، كَمَا أَنَّ الْمُسِنَّةَ إذَا اعْتَدَّتْ بِالدَّمِ، ثُمَّ انْقَطَعَ عَادَتْ إلَى الْأَشْهُرِ. رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ اعْتَدَّتْ حَيْضَةً أَوْ حَيْضَتَيْنِ ثُمَّ رَفَعَتْهَا حَيْضَتُهَا فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ اسْتَبَانَ بِهَا حَمْلٌ فَذَلِكَ وَإِلَّا اعْتَدَّتْ بَعْدَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ حَلَّتْ، وَأَمَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالتَّرَبُّصِ سَنَةً. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: تَبْقَى إلَى سِنِّ الْيَأْسِ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: تَعْتَدُّ سَنَةً؛ وَإِنْ كَانَتْ مُسِنَّةً وَانْقَطَعَ حَيْضُهَا وَقَالَ النِّسَاءُ: إنَّ مِثْلَهَا لَا تَحِيضُ اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ إنَّهَا تَبْقَى إلَى سِنِّ الْيَأْسِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ إذَا كَانَتْ مُرْتَابَةً بِحَمْلٍ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَشْهَبُ لَا تَحِلُّ أَبَدًا حَتَّى تَيْأَسَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. [مَسْأَلَة لِلْمَرْءِ أَنْ يُنْكِحَ وَلَدَهُ الصِّغَارَ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْمَرْءِ أَنْ يُنْكِحَ وَلَدَهُ الصِّغَارَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ عِدَّةَ مَنْ لَمْ يَحِضْ مِنْ النِّسَاءِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَلَا تَكُونُ عَلَيْهَا عِدَّةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا نِكَاحٌ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْغَرَضِ، وَهُوَ بَدِيعٌ فِي فَنِّهِ.

[مسألة وضعت الحامل ما وضعت من علقة أو مضغة]

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]: هَذَا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فِي الْمُطَلَّقَةِ لِأَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهَا، وَإِلَيْهَا رَجَعَ عَقِبَ الْكَلَامِ، فَإِنَّهُ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا كَذَلِكَ لِعُمُومِ الْآيَةِ، وَحَدِيثِ سُبَيْعَةَ فِي السُّنَّةِ؛ وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ بَرَاءَةَ الرَّحِمِ قَدْ حَصَلَتْ يَقِينًا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. [مَسْأَلَة وَضَعَتْ الْحَامِلُ مَا وَضَعَتْ مِنْ عَلَقَةٍ أَوْ مُضْغَةٍ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ إذَا وَضَعَتْ الْحَامِلُ مَا وَضَعَتْ مِنْ عَلَقَةٍ أَوْ مُضْغَةٍ حَلَّتْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَحِلُّ إلَّا بِمَا يَكُونُ وَلَدًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي وَضْعِ اللَّهِ الْعِدَّةَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ أَنَّهَا الْمُدَّةُ الَّتِي فِيهَا يُخْلَقُ الْوَلَدُ فَوُضِعَتْ اخْتِبَارًا لِشَغْلِ الرَّحِمِ مِنْ فَرَاغِهِ. [الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ] َّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق: 6]: قَالَ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ: يَخْرُجُ عَنْهَا إذَا طَلَّقَهَا، وَيَتْرُكُهَا فِي الْمَنْزِلِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] فَلَوْ كَانَ مَعَهَا مَا قَالَ: أَسْكِنُوهُنَّ. وَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ قَالَ: قَالَ مَالِكٌ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق: 6] يَعْنِي الْمُطَلَّقَاتِ اللَّاتِي قَدْ بِنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ، فَلَا رَجْعَةَ لَهُمْ عَلَيْهِنَّ، وَلَيْسَتْ حَامِلًا؛ فَلَهَا السُّكْنَى وَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا كِسْوَةَ؛ لِأَنَّهَا بَائِنٌ مِنْهُ، لَا يَتَوَارَثَانِ وَلَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا.

[مسألة فيمن يجب عليه رضاع الولد]

وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ وَالْمَسْكَنُ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا. فَأَمَّا مَنْ لَمْ تَبِنْ مِنْهُنَّ فَإِنَّهُنَّ نِسَاؤُهُمْ يَتَوَارَثْنَ، وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ مَا كُنَّ فِي عِدَّتِهِنَّ، وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِالسُّكْنَى لَهُنَّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ لِأَزْوَاجِهِنَّ مَعَ نَفَقَتِهِنَّ وَكِسْوَتِهِنَّ، كُنَّ حَوَامِلَ أَوْ غَيْرَ حَوَامِلَ، وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ بِالسُّكْنَى لِلَّاتِي بِنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6]؛ فَجَعَلَ عَزَّ وَجَلَّ لِلْحَوَامِلِ اللَّائِي قَدْ بِنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي بَسْطِ ذَلِكَ وَتَحْقِيقِهِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ السُّكْنَى أَطْلَقَهَا لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ، فَلَمَّا ذَكَرَ النَّفَقَةَ قَيَّدَهَا بِالْحَمْلِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ الْبَائِنَ لَا نَفَقَةَ لَهَا؛ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ مَهَّدْنَا سُبُلَهَا قُرْآنًا وَسُنَّةً وَمَعْنًى فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. وَهَذَا مَأْخَذُهَا مِنْ الْقُرْآنِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا حُجَّةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ} [الطلاق: 6] رَاجِعٌ إلَى مَا قَبْلَهُ، وَهِيَ الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ. قُلْنَا: لَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا لَمَا قَالَ: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6]؛ فَإِنَّ الْمُطَلَّقَةَ الرَّجْعِيَّةَ يُنْفَقُ عَلَيْهَا حَامِلًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَ حَامِلٍ، فَلَمَّا خَصَّهَا بِذِكْرِ النَّفَقَةِ حَامِلًا دَلَّ عَلَى أَنَّهَا الْبَائِنُ الَّتِي لَا يُنْفَقُ عَلَيْهَا. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْمُطَلَّقَةَ الرَّجْعِيَّةَ وَأَحْكَامَهَا حَتَّى بَلَغَ إلَى قَوْله تَعَالَى: {ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ حُكْمًا يَعُمُّ الْمُطَلَّقَاتِ كُلَّهُنَّ مِنْ تَعْدِيدِ الْأَشْهُرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ [مِنْ الْأَحْكَامِ]، وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مُطَلَّقَةٍ؛ فَرَجَعَ مَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ إلَى كُلِّ مُطَلَّقَةٍ. [مَسْأَلَة فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ رَضَاعُ الْوَلَدِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]: قَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ شَيْئًا مِنْ مَسَائِلِ الرَّضَاعِ، وَوَضَّحْنَا أَنَّهُ يَكُونُ تَارَةً عَلَى الْأُمِّ، وَلَا يَكُونُ عَلَيْهَا تَارَةً.

[الآية الخامسة قوله تعالى وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى]

وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ رَضَاعُ الْوَلَدِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: رَضَاعُ الْوَلَدِ عَلَى الزَّوْجَةِ مَا دَامَتْ الزَّوْجِيَّةُ، إلَّا لِشَرَفِهَا أَوْ مَرَضِهَا فَعَلَى الْأَبِ حِينَئِذٍ رَضَاعُهُ فِي مَالِهِ. الثَّانِي: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ [وَالشَّافِعِيُّ]: لَا يَجِبُ عَلَى الْأُمِّ بِحَالٍ. الثَّالِثُ: قَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يَجِبُ عَلَيْهَا فِي كُلِّ حَالٍ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّهُ لَفْظٌ مُحْتَمِلٌ لِكَوْنِهِ حَقًّا عَلَيْهَا أَوْ لَهَا، لَكِنَّ الْعُرْفَ يَقْضِي بِأَنَّهُ عَلَيْهَا، إلَّا أَنْ تَكُونَ شَرِيفَةً، وَمَا جَرَى بِهِ الْعُرْفُ فَهُوَ كَالشَّرْطِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ أَنَّ الْعُرْفَ وَالْعَادَةَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ يُقْضَى بِهِ فِي الْأَحْكَامِ [وَالْعَادَةُ] إذَا كَانَتْ شَرِيفَةً أَلَّا تُرْضِعَ فَلَا يَلْزَمُهَا ذَلِكَ. فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا يَلْزَمُهَا إرْضَاعُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ قَابِلٍ ثَدْيَ غَيْرِهَا، فَيَلْزَمُهَا حِينَئِذٍ الْإِرْضَاعُ؛ أَوْ تَكُونَ مُخْتَارَةً لِذَلِكَ فَتُرْضِعُ فِي الْوَجْهَيْنِ بِالْأُجْرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]. وَيُحَقِّقُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 6] وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ فَالْمَعْرُوفُ أَنْ تُرْضِعَ مَا دَامَتْ زَوْجَةً إلَّا أَنْ تَكُونَ شَرِيفَةً، وَأَلَّا تُرْضِعَ بَعْدَ الزَّوْجِيَّةِ إلَّا بِأَجْرٍ. فَإِنْ قَبِلَ غَيْرَهَا لَمْ يَلْزَمْهَا، وَإِنْ شَاءَتْ إرْضَاعَهُ فَهِيَ أَوْلَى بِمَا يَأْخُذُهُ غَيْرُهَا. [الْآيَة الْخَامِسَة قَوْله تَعَالَى وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى] } [الطلاق: 6] {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ:

[مسألة هل النفقة مقدرة شرعا]

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ} [الطلاق: 6]: الْمَعْنَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا امْتَنَعَتْ مِنْ رَضَاعِهِ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَغَيْرُهَا تُرْضِعُ يَعْنِي إنْ قَبِلَ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ كَمَا تَقَدَّمَ لَزِمَهَا وَلَمْ يَنْفَعْهَا تَعَاسُرُهَا مَعَ الْأَبِ. [مَسْأَلَة هَلْ النَّفَقَةَ مُقَدَّرَة شَرْعًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7]: هَذَا يُفِيدُ أَنَّ النَّفَقَةَ لَيْسَتْ مُقَدَّرَةً شَرْعًا، وَإِنَّمَا تَتَقَدَّرُ عَادَةً بِحَسَبِ الْحَالَةِ مِنْ الْمُنْفِقِ وَالْحَالَةُ مِنْ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ، فَتُقَدَّرُ بِالِاجْتِهَادِ عَلَى مَجْرَى الْعَادَةِ. وَقَدْ فَرَضَ عُمَرُ لِلْمَنْفُوسِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فِي الْعَامِ بِالْحِجَازِ، وَالْقُوتُ بِهَا مَحْبُوبٌ، وَالْمِيرَةُ عَنْهُ بَعِيدَةٌ، وَيَنْظُرُ الْمُفْتِي إلَى قَدْرِ حَاجَةِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى حَالَةِ الْمُنْفِقِ؛ فَإِنْ احْتَمَلَتْ الْحَالَةُ الْحَاجَةَ أَمْضَاهَا عَلَيْهِ، وَإِنْ قَصُرَتْ حَالَتُهُ عَنْ حَالَةِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ رَدَّهَا إلَى قَدْرِ احْتِمَالِ حَالِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]؛ فَإِذَا كَانَ لِلْعَبْدِ مَا يَكْفِيهِ، وَيَفْضُلُ عَنْهُ فَضْلٌ أَخَذَهُ وَلَدُهُ، وَمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ؛ وَإِنَّمَا يَبْدَأُ بِهِ أَوَّلًا، لَكِنْ لَا يَرْتَفِعُ لَهُ؛ بَلْ يُقَدَّرُ لَهُ الْوَسَطُ، حَتَّى إذَا اسْتَوْفَاهُ عَادَ الْفَضْلُ إلَى سِوَاهُ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهِنْدَ: «خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ»؛ فَأَحَالَهَا عَلَى الْكِفَايَةِ حِينَ عَلِمَ السَّعَةَ مِنْ حَالِ أَبِي سُفْيَانَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ بِطَلَبِهَا الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ فِي تَقْدِيرِ الْإِنْفَاقِ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَقْدِيرٌ شَرْعِيٌّ، وَإِنَّمَا أَحَالَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْعَادَةِ، وَهِيَ دَلِيلٌ أُصُولِيٌّ بَنَى اللَّهُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامَ، وَرَبَطَ بِهِ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ؛ وَقَدْ أَحَالَهُ اللَّهُ عَلَى الْعَادَةِ فِيهِ فِي الْكَفَّارَةِ، فَقَالَ: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89].

وَقَالَ: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4]. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ، وَقَدَّرْنَا لِلْكَبِيرِ نَفَقَةً لِشِبَعِهِ وَكِسْوَتِهِ وَمُلَاءَتِهِ. وَأَمَّا الصَّغِيرُ الَّذِي لَا يَأْكُلُ الطَّعَامَ فَلِأُمِّهِ أَجْرُهَا بِالْمِثْلِ إذَا شَطَّتْ عَلَى الْأَبِ، وَالْمُفْتُونَ مِنَّا يُقَدِّرُونَهَا بِالطَّعَامِ وَالْإِدَامِ، وَلَيْسَ لَهَا تَقْدِيرٌ إلَّا بِالْمِثْلِ مِنْ الدَّرَاهِمِ لَا مِنْ الطَّعَامِ. وَأَمَّا إذَا أَكَلَ فَيُفْرَضُ لَهُ قَدْرُ مَأْكَلِهِ وَمَلْبَسِهِ عَلَى قَدْرِ الْحَالِ. كَمَا قَدَّمْنَا. وَفَرَضَ عُمَرُ لِلْمَنْفُوسِ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَفَرَضَ لَهُ عُثْمَانُ خَمْسِينَ دِرْهَمًا. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الِاخْتِلَافُ بِحَسَبِ حَالِ السِّنِينَ، أَوْ بِحَسَبِ حَالِ الْقَدْرَ فِي التَّسْعِيرِ لِثَمَنِ الْقُوتِ وَالْمَلْبَسِ. وَقَدْ رَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ لَا يَفْرِضُ لِلْمَوْلُودِ حَتَّى يُطْعَمَ، ثُمَّ أَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: لَا تُعَجِّلُوا أَوْلَادَكُمْ عَنْ الْفِطَامِ، فَإِنَّا نَفْرِضُ لِكُلِّ مَوْلُودٍ فِي الْإِسْلَامِ. وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ هِلَالٍ الْمُزَنِيّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي وَجَدَّتِي أَنَّهَا كَانَتْ تَرِدُ عَلَى عُثْمَانَ فَفَقَدَهَا، فَقَالَ لِأَهْلِهِ: مَالِي لَا أَرَى فُلَانَةَ؟ فَقَالَتْ امْرَأَتُهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَدَتْ اللَّيْلَةَ، فَبَعَثَ إلَيْهَا بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَشُقَيْقَةً أَنْبِجَانِيَّةً ثُمَّ قَالَ: هَذَا عَطَاءُ ابْنِك، وَهَذِهِ كِسْوَتُهُ، فَإِذَا مَرَّتْ لَهُ سَنَةٌ رَفَعْنَاهُ إلَى مِائَةٍ. وَقَدْ أَتَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِمَنْبُوذٍ، فَفَرَضَ لَهُ مِائَةً. وَقَالَ الْقَاضِي: هَذَا الْفَرْضُ قَبْلَ الْفِطَامِ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ، فَمِنْهُمْ مَنْ رَآهُ مُسْتَحَبًّا؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ الْآيَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَآهُ وَاجِبًا لِمَا تَجَدَّدَ مِنْ حَاجَتِهِ وَعَرَضَ مِنْ مُؤْنَتِهِ، وَبِهِ أَقُولُ؛ وَلَكِنْ يَخْتَلِفُ قَدْرُهُ بِحَالِهِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ، وَبِحَالِهِ عِنْدَ الْفِطَامِ. وَقَدْ رَوَى سُفْيَانُ بْنُ وَهْبٍ أَنَّ عُمَرَ أَخَذَ الْمُدَّ بِيَدٍ وَالْقِسْطَ بِيَدٍ، وَقَالَ: إنِّي فَرَضْت لِكُلِّ نَفْسٍ مُسْلِمَةٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ مُدَّيْ حِنْطَةٍ وَقِسْطَيْ خَلٍّ، وَقِسْطَيْ زَيْتٍ. زَادَ غَيْرُهُ، وَقَالَ: إنَّا قَدْ أَجَزْنَا لَكُمْ أَعْطِيَاتِكُمْ وَأَرْزَاقَكُمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ. فَمَنْ انْتَقَصَهَا فَعَلَ اللَّهُ بِهِ كَذَا وَكَذَا، وَدَعَا عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: كَمْ سُنَّةٍ رَاشِدَةٍ مَهْدِيَّةٍ قَدْ سَنَّهَا عُمَرُ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[وَالْمُدُّ] وَالْقِسْطُ كَيْلَانِ شَامِيَّانِ فِي الطَّعَامِ وَالْإِدَامِ، وَقَدْ دُرِسَا بِعُرْفٍ آخَرَ؛ فَأَمَّا الْمُدُّ

[مسألة هل النفقة للولد على الوالد دون الأم]

فَدُرِسَ إلَى الْكِيلَجَةِ، وَأَمَّا الْقِسْطُ فَدُرِسَ إلَى الْكَيْلِ، وَلَكِنَّ التَّقْدِيرَ فِيهِ عِنْدَنَا رُبْعَانِ فِي الطَّعَامِ، وَثُمُنَانِ فِي الْإِدَامِ، وَأَمَّا الْكِسْوَةُ فَبِقَدْرِ الْعَادَةِ قَمِيصٌ وَسَرَاوِيلُ، وَجُبَّةٌ فِي الشِّتَاءِ وَكِسَاءٌ وَإِزَارٌ وَحَصِيرٌ. وَهَذَا الْأَصْلُ، وَيَتَزَيَّدُ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ وَالْعَادَةِ. [مَسْأَلَة هَلْ النَّفَقَةِ لِلْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ دُونَ الْأُمِّ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ دُونَ الْأُمِّ، خِلَافًا لِمُحَمَّدِ بْنِ الْمَوَّازِ؛ إذْ يَقُولُ: إنَّهَا عَلَى الْأَبَوَيْنِ عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ، وَبَيَانُهَا فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ وَالْخِلَافِيَّاتِ، وَلَعَلَّ مُحَمَّدًا أَرَادَ أَنَّهَا عَلَى الْأُمِّ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ، «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تَقُولُ لَك الْمَرْأَةُ أَنْفِقْ عَلَيَّ وَإِلَّا طَلِّقْنِي، وَيَقُولُ الْعَبْدُ: أَنْفِقْ عَلَيَّ وَاسْتَعْمِلْنِي، وَيَقُولُ لَك ابْنُك: أَنْفِقْ عَلَيَّ إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ فَقَدْ تَعَاضَدَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَتَوَارَدَا فِي مَشْرَعَةٍ وَاحِدَةٍ». وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.

[سورة التحريم فيها ثلاث آيات]

[سُورَة التَّحْرِيمِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى يَأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَك] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم: 1]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا «الْمَوْهُوبَةُ الَّتِي جَاءَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: إنِّي وَهَبْت لَك نَفْسِي. فَلَمْ يَقْبَلْهَا» رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. الثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ مَارِيَةَ أُمِّ إبْرَاهِيمَ، خَلَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِ حَفْصَةَ، وَقَدْ خَرَجَتْ لِزِيَارَةِ أَبِيهَا، فَلَمَّا عَادَتْ وَعَلِمَتْ عَتَبَتْ عَلَيْهِ، فَحَرَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى نَفْسِهِ إرْضَاءً لِحَفْصَةَ، وَأَمَرَهَا أَلَّا تُخْبِرَ أَحَدًا مِنْ نِسَائِهِ، فَأَخْبَرَتْ بِذَلِكَ عَائِشَةَ لِمُصَافَاةٍ كَانَتْ بَيْنَهُمَا؛ فَطَلَّقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَفْصَةَ، وَاعْتَزَلَ نِسَاءَهُ شَهْرًا، وَكَانَ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُحَرِّمَهُنَّ شَهْرًا؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَرَاجَعَ حَفْصَةُ، وَاسْتَحَلَّ مَارِيَةَ، وَعَادَ إلَى نِسَائِهِ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَجَمَاعَةٌ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ حَرَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَارِيَةَ بِيَمِينٍ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَقَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ: حَرَّمَهَا بِيَمِينٍ. وَقَالَ غَيْرُهُمْ: إنَّهُ حَرَّمَهَا بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. الثَّالِثُ: ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَاللَّفْظُ لِلْجُعْفِيِّ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ

قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْرَبُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَيَمْكُثُ عِنْدَهَا فَتَوَاصَيْت أَنَا وَحَفْصَةُ عَلَى أَيَّتِنَا دَخَلَ عَلَيْهَا فَلْتَقُلْ لَهُ: أَكَلْت مَغَافِيرَ، إنِّي أَجِدُ مِنْك رِيحَ مَغَافِيرَ. قَالَ: لَا. وَلَكِنِّي شَرِبْت عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَلَنْ أَعُودَ لَهُ. وَقَدْ حَلَفْت لَا تُخْبِرِي أَحَدًا يَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِهِ». وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ شَرِبَهُ عِنْدَ حَفْصَةَ، وَذَكَرَ نَحْوًا مِنْ الْقِصَّةِ، وَكَذَلِكَ رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ. وَالْأَكْثَرُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ عِنْدَ زَيْنَبَ، وَأَنَّ اللَّتَيْنِ تَظَاهَرَتَا عَلَيْهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ شَرِبَهُ عِنْدَ سَوْدَةَ. وَرَوَى أَسْبَاطٌ عَنْ السُّدِّيِّ أَنَّهُ شَرِبَهُ عِنْدَ أُمِّ سَلَمَةَ، وَكُلُّهُ جَهْلٌ وَتَسَوُّرٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَمَّا مَنْ رَوَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمَوْهُوبَةِ فَهُوَ ضَعِيفٌ فِي السَّنَدِ، وَضَعِيفٌ فِي الْمَعْنَى؛ أَمَّا ضَعْفُهُ فِي السَّنَدِ فَلِعَدَمِ عَدَالَةِ رُوَاتِهِ، وَأَمَّا ضَعْفُهُ فِي مَعْنَاهُ فَلِأَنَّ رَدَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمَوْهُوبَةِ لَيْسَ تَحْرِيمًا لَهَا؛ لِأَنَّ مَنْ رَدَّ مَا وُهِبَ لَهُ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا حَقِيقَتُهُ التَّحْرِيمِ بَعْدَ التَّحْلِيلِ. وَأَمَّا مَنْ رَوَى أَنَّهُ حَرَّمَ مَارِيَةَ فَهُوَ أَمْثَلُ فِي السَّنَدِ، وَأَقْرَبُ إلَى الْمَعْنَى؛ لَكِنَّهُ لَمْ يُدَوَّنْ فِي صَحِيحٍ، وَلَا عُدِّلَ نَاقِلُهُ، كَمَا أَنَّهُ رُوِيَ مُرْسَلًا. وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ؛ قَالَ: «حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَّ وَلَدِهِ إبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ؛ وَاَللَّهِ لَا أَتَيْتُك. فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1]». وَرَوَى مِثْلَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ. وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: رَاجَعَتْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي شَيْءٍ، فَاقْشَعَرَّ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ: مَا كَانَ النِّسَاءُ هَكَذَا. قَالَتْ: بَلَى، وَقَدْ

[مسألة حرم ولم يحلف]

كَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرَاجِعْنَهُ. فَاحْتَزَمَ ثَوْبَهُ، فَخَرَجَ إلَى حَفْصَةَ، فَقَالَ لَهَا: أَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَتْ: نَعَمْ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّك تَكْرَهُ مَا فَعَلْت. فَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَجَرَ نِسَاءَهُ قَالَ: رَغْمَ أَنْفِ حَفْصَةَ. وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ فِي الْعَسَلِ، وَأَنَّهُ شَرِبَهُ عِنْدَ زَيْنَبَ، وَتَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ فِيهِ، وَجَرَى مَا جَرَى، فَحَلَفَ أَلَّا يَشْرَبَهُ، وَأَسَرَّ ذَلِكَ، وَنَزَلَتْ الْآيَةُ فِي الْجَمِيعِ. [مَسْأَلَة حَرَّمَ وَلَمْ يَحْلِفْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ: {لِمَ تُحَرِّمُ} [التحريم: 1] إنْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّمَ وَلَمْ يَحْلِفْ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِيَمِينٍ عِنْدَنَا فِي الْمَعْنَى، وَلَا يُحَرِّمُ شَيْئًا قَوْلُ الرَّجُلِ: هَذَا حَرَامٌ عَلَيَّ، حَاشَا الزَّوْجَةَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا أُطْلِقَ حُمِلَ عَلَى الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ دُونَ الْمَلْبُوسِ، وَكَانَتْ يَمِينًا تُوجِبُ الْكَفَّارَةَ. [وَقَالَ زُفَرُ: هُوَ يَمِينٌ فِي الْكُلِّ، حَتَّى فِي الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ. وَعَوَّلَ الْمُخَالِفُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّمَ الْعَسَلَ، فَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ]. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] فَسَمَّاهُ يَمِينًا؛ وَعَوَّلَ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْيَمِينِ التَّحْرِيمُ، فَإِذَا وُجِدَ مَلْفُوظًا بِهِ تَضَمَّنَ مَعْنَاهُ كَالْمِلْكِ فِي الْبَيْعِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87]. وَقَوْلُهُ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] فَذَمَّ اللَّهُ الْمُحَرِّمَ لِلْحَلَالِ، وَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ كَفَّارَةً. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَهَذَا يَنْقُضُ مَذْهَبَ الْمُخَالِفِينَ: زُفَرَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ،

[مسألة إذا حرم الزوجة هل تعد يمينا]

وَيَنْقُضُ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ إخْرَاجُهُ اللِّبَاسَ مِنْهُ، وَلَا جَوَابَ لَهُ عَنْهُ، وَخَفِيَ عَنْ الْقَوْمِ سَبَبُ الْآيَةِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَفَ أَلَّا يَشْرَبَ عَسَلًا. وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ الْكَفَّارَةِ؛ وَقِيلَ لَهُ: لِمَ تُحَرِّمُ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ مَعْنَى النَّهْيِ تَحْرِيمُ الْحَلَالِ فَكَانَ كَالْمَالِ فِي الْبَيْعِ لَا يَصِحُّ؛ بَلْ التَّحْرِيمُ مَعْنًى يُرَكَّبُ عَلَى لَفْظِ الْيَمِينِ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ اللَّفْظُ لَمْ يُوجَدْ الْمَعْنَى بِخِلَافِ الْمِلْكِ فَإِنَّهُ لَمْ يُرَكَّبْ عَلَى لَفْظِ الْبَيْعِ، بَلْ هُوَ فِي مَعْنَى لَفْظِهِ، وَقَدْ اسْتَوْعَبْنَا الْقَوْلَ فِي كِتَابِ تَخْلِيصِ التَّلْخِيصِ، وَالْإِنْصَافِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. [مَسْأَلَة إذَا حَرَّمَ الزَّوْجَة هَلْ تَعُدْ يَمِينًا] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ إذَا حَرَّمَ الزَّوْجَةَ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ قَوْلًا، وَجَمَعْنَاهَا فِي كِتَابِ الْمَسَائِلِ، وَأَوْضَحْنَاهَا بِمَا مَقْصُودُهُ أَنْ نَقُولَ: يَجْمَعُهَا ثَلَاثَةُ مَقَامَاتٍ: الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فِي جَمِيعِ الْأَقْوَالِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا يَمِينٌ تُكَفَّرُ؛ قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَعَائِشَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ. الثَّانِي قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: تَجِبُ فِيهِ كَفَّارَةٌ، وَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ؛ قَالَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَالزُّهْرِيُّ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونِ. الرَّابِعُ أَنَّهَا ظِهَارٌ؛ قَالَهُ عُثْمَانُ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. الْخَامِسُ أَنَّهَا طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ؛ قَالَهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَرَوَاهُ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ عَنْ مَالِكٍ. السَّادِسُ أَنَّهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ؛ قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ [وَمَالِكٌ]. السَّابِعُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ نَوَى الطَّلَاقَ أَوْ الظِّهَارَ كَانَ مَا نَوَى، وَإِلَّا كَانَتْ يَمِينًا وَكَانَ الرَّجُلُ مُولِيًا مِنْ امْرَأَتِهِ. الثَّامِنُ أَنَّهُ لَا تَنْفَعُهُ نِيَّةُ الظِّهَارِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ طَلَاقًا؛ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ.

التَّاسِعُ قَالَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ: يَكُونُ طَلَاقًا، فَإِنْ ارْتَجَعَهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ وَطْؤُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ. الْعَاشِرُ هِيَ ثَلَاثٌ قَبْلُ وَبَعْدُ، لَكِنَّهُ يَنْوِي فِي الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فِي الْوَاحِدَةِ؛ قَالَهُ مَالِكٌ، وَابْنُ الْقَاسِمِ. الْحَادِيَ عَشَرَ ثَلَاثٌ، وَلَا يَنْوِي بِحَالٍّ، وَلَا فِي مَحِلٍّ؛ قَالَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي الْمَبْسُوطِ. الثَّانِيَ عَشَرَ هِيَ فِي الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَاحِدَةٌ، وَفِي الَّتِي دَخَلَ بِهَا ثَلَاثٌ؛ قَالَهُ أَبُو مُصْعَبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ. الثَّالِثَ عَشَرَ أَنَّهُ إنْ نَوَى الظِّهَارَ، وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ كَتَحْرِيمِ أُمِّهِ كَانَ ظِهَارًا، وَإِنْ نَوَى تَحْرِيمَ عَيْنِهَا عَلَيْهِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ تَحْرِيمًا مُطْلَقًا وَجَبَتْ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ. الرَّابِعَ عَشَرَ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ. الْخَامِسَ عَشَرَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهَا؛ قَالَهُ مَسْرُوقُ بْنُ رَبِيعَةَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَرَأَيْت بَعْدَ ذَلِكَ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ عَلَيْهِ عِتْقَ رَقَبَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهَا ظِهَارًا. وَلَسْت أَعْلَمُ لَهُ وَجْهًا، وَلَا يَتَعَدَّدُ فِي الْمَقَالَاتِ عِنْدِي. الْمَقَامُ الثَّانِي فِي التَّوْجِيهِ: أَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا يَمِينٌ فَقَالَ: سَمَّاهَا اللَّهُ يَمِينًا فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] إلَى قَوْله تَعَالَى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]؛ فَسَمَّاهَا اللَّهُ يَمِينًا، وَهَذَا بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَفَ عَلَى شُرْبِ الْعَسَلِ، وَهَذِهِ يَمِينٌ كَمَا قَدَّمْنَا. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: تَجِبُ فِيهَا كَفَّارَةٌ وَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ فَبَنَاهُ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ فِيهَا وَلَمْ تَكُنْ يَمِينًا؛ وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ ذَلِكَ.

الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى الْيَمِين عِنْدَهُ التَّحْرِيمُ، فَوَقَعَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمَعْنَى، وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ وَفِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ، فَبَنَاهُ عَلَى أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ؛ وَهُوَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى أَقَلِّ وُجُوهِهِ، وَالرَّجْعِيَّةُ مُحَرِّمَةُ الْوَطْءِ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، وَهَذَا يَلْزَمُ مَالِكًا لِقَوْلِهِ: إنَّ الرَّجْعِيَّةَ مُحَرِّمَةُ الْوَطْءِ. وَكَذَلِكَ وَجْهُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ ثَلَاثٌ، فَحَمَلَهُ عَلَى أَكْبَرِ مَعْنَاهُ؛ وَهُوَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ ظِهَارٌ فَبَنَاهُ عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَلُّ دَرَجَاتِ التَّحْرِيمِ فَإِنَّهُ تَحْرِيمٌ لَا يَرْفَعُ النِّكَاحَ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ فَعَوَّلَ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُحَرِّمُ الْمُطَلَّقَةَ، وَأَنَّ الطَّلَاقَ الْبَائِنَ يُحَرِّمُهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ لَا رَجْعَةَ لِي عَلَيْك نَفَذَ وَسَقَطَتْ الرَّجْعَةُ، وَحُرِّمَتْ؛ فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ حَرَامٌ [عَلَيَّ] فَإِنَّهُ يَكُونُ طَلَاقًا بَائِنًا مَعْنَوِيًّا، وَكَأَنَّهُ أَلْزَمَ نَفْسَهُ مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ إنْفَاذِ الطَّلَاقِ وَإِسْقَاطِ الرَّجْعَةِ. وَنَحْنُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَنْفُذُ قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ لَا رَجْعَةَ لِي عَلَيْك؛ فَإِنَّ الرَّجْعَةَ حُكْمُ اللَّهِ، وَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ إلَّا بِمَا أَسْقَطَهُ اللَّهُ مِنْ الْعِوَضِ الْمُقْتَرِنِ بِهِ، أَوْ الثَّلَاثِ الْقَاضِيَةِ عَلَيْهِ وَالْغَايَةِ لَهُ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ إنَّهَا تَكُونُ عَارِيَّةً عَنْ النِّيَّةِ يَمِينًا فَقَدْ تَقَدَّمَ بُطْلَانُهُ. وَأَمَّا نَفْيُ الظِّهَارِ فِيهِ فَيَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ يَخْتَصُّ بِمَعْنًى، فَاخْتَصَّ بِلَفْظٍ، وَهَذَا إنَّمَا يَلْزَمُ لِمَنْ يَرَى مُرَاعَاةَ الْأَلْفَاظِ؛ وَنَحْنُ إنَّمَا نَعْتَبِرُ الْمَعَانِيَ خَاصَّةً، إلَّا أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ تَعَبُّدًا. وَأَمَّا قَوْلُ يَحْيَى بْنِ عُمَرَ فَإِنَّهُ احْتَاطَ بِأَنْ جَعَلَهُ طَلَاقًا؛ فَلَمَّا ارْتَجَعَهَا احْتَاطَ بِأَنْ أَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةَ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْمُتَضَادَّيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ ظِهَارٌ وَطَلَاقٌ فِي مَعْنَى لَفْظٍ وَاحِدٍ، فَلَا وَجْهَ لِلِاحْتِيَاطِ فِيمَا لَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُ فِي الدَّلِيلِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَنْوِي فِي الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلِأَنَّ الْوَاحِدَةَ تُبِينُهَا وَتُحَرِّمُهَا شَرْعًا إجْمَاعًا.

وَكَذَلِكَ قَالَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِاعْتِبَارِ نِيَّتِهِ: إنَّ الْوَاحِدَةَ تَكْفِي قَبْلَ الدُّخُولِ فِي التَّحْرِيمِ بِالْإِجْمَاعِ، فَيَكْفِي أَخْذًا بِالْأَقَلِّ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ مُخْتَلَفٌ فِي اقْتِضَائِهِ التَّحْرِيمَ فِي الْعِدَّةِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا ثَلَاثٌ فِيهِمَا فَلِأَنَّهُ أَخَذَ بِالْحُكْمِ الْأَعْظَمِ فَإِنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِالثَّلَاثِ لَنَفَذَتْ فِي الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا نُفُوذَهَا فِي الَّتِي دَخَلَ بِهَا. وَمِنْ الْوَاجِبِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مِثْلَهُ وَهُوَ التَّحْرِيمُ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّالِثَ عَشَرَ فَيَرْجِعُ إلَى إيجَابِ الْكَفَّارَةِ فِي التَّحْرِيمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فَسَادُهُ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: لَا شَيْءَ فِيهَا فَعُمْدَتُهُمْ أَنَّهُ كَذِبٌ فِي تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَاقْتَحَمَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّحْرِيمُ فِي الشَّرْعِ مُرَتَّبًا عَلَى أَسْبَابِهِ؛ فَأَمَّا إرْسَالُهُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ فَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ الطَّلَاقَ لَكَانَ أَقَلَّهُ وَهُوَ الْوَاحِدَةُ، إلَّا أَنْ يُعَدِّدَهُ، كَذَلِكَ إذَا ذَكَرَ التَّحْرِيمَ يَكُونُ أَقَلَّهُ، إلَّا أَنْ يُقَيِّدَهُ بِالْأَكْثَرِ؛ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ إلَّا بَعْدَ زَوْجٍ، فَهَذَا نَصٌّ عَلَى الْمُرَادِ. وَقَدْ أَحْكَمْنَا الْأَسْئِلَةَ وَالْأَجْوِبَةَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَالتَّفْرِيعِ. الْمَقَامُ الثَّالِثُ فِي تَصْوِيرِهَا، وَأَخَّرْنَاهُ فِي الْأَحْكَامِ الْقُرْآنِيَّةِ لِمَا يَجِبُ مِنْ تَقْدِيمِ مَعْنَى الْآيَةِ، وَاسْتَقْدَمْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَالتَّفْرِيعِ؛ لِيَقَعَ الْكَلَامُ عَلَى كُلِّ صُورَةٍ مِنْهَا. وَعَدَدُ صُوَرِهَا عَشْرَةٌ: الْأُولَى: قَوْلُهُ: حَرَامٌ. الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: عَلَيَّ حَرَامٌ. الثَّالِثَةُ: أَنْتِ حَرَامٌ. الرَّابِعَةُ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ. الْخَامِسَةُ: الْحَلَالُ عَلَيَّ حَرَامٌ. السَّادِسَةُ: مَا أَنْقَلِبُ إلَيْهِ حَرَامٌ.

[مسألة إذا حرم الأمة هل تلزمه الكفارة]

السَّابِعَةُ: مَا أَعِيشُ فِيهِ حَرَامٌ. الثَّامِنَةُ: مَا أَمْلِكُهُ حَرَامٌ عَلَيَّ. التَّاسِعَةُ: الْحَلَالُ حَرَامٌ. الْعَاشِرَةُ أَنْ يُضِيفَ التَّحْرِيمَ إلَى جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا. فَأَمَّا الْأُولَى، وَالثَّانِيَةُ، وَالتَّاسِعَةُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ لَفْظٌ مُطْلَقٌ لَا ذِكْرَ لِلزَّوْجَةِ فِيهِ، وَلَوْ قَالَ: مَا أَنْقَلِبُ إلَيْهِ حَرَامٌ فَهُوَ مَا يَلْزَمُهُ فِي قَوْلِهِ: الْحَلَالُ عَلَيَّ حَرَامٌ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الزَّوْجَةُ، إلَّا أَنْ يُحَاشِيَهَا. وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فِي غَيْرِهَا مِنْ الْمُحَلَّلَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي وَجْهِ الْمُحَاشَاةِ، فَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا: إنْ حَاشَاهَا بِقَلْبِهِ خَرَجَتْ. وَقَالَ أَشْهَبُ: لَا يُحَاشِيهَا إلَّا بِلَفْظِهِ، كَمَا دَخَلَتْ فِي لَفْظِهِ. وَالصَّحِيحُ جَوَازُ الْمُحَاشَاةِ بِالْقَلْبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعُمُومَ يَخْتَصُّ بِالنِّيَّةِ. وَأَمَّا إضَافَةُ التَّحْرِيمِ إلَى جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا فَشَأْنُهُ شَأْنُهُ فِيمَا إذَا أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ كَبِيرَةٌ. قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: يُطَلِّقُ فِي جَمِيعِهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ فِي ذِكْرِ [الرَّأْسِ وَنَحْوِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ فِي ذِكْرِ] الْيَدِ وَنَحْوِهَا؛ وَذَلِكَ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ وَالتَّفْرِيعِيَّةِ. [مَسْأَلَة إذَا حَرَّمَ الْأَمَةَ هَلْ تَلْزَمهُ الْكَفَّارَة] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ إذَا حَرَّمَ الْأَمَةَ لَمْ يَلْزَمْهُ تَحْرِيمٌ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، وَسَاعَدَهُ سِوَاهُ، فَإِنْ تَعَلَّقُوا بِالْآيَةِ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا، وَإِنْ تَعَلَّقُوا بِأَنَّ الظِّهَارَ عِنْدَنَا يَصِحُّ فِيهَا فَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الظِّهَارَ حُكْمٌ مُخْتَصٌّ لَا يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّمَا صَحَّ ظِهَارُهُ فِي الْأَمَةِ لِأَنَّهَا مِنْ النِّسَاءِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ، وَأَوْضَحْنَا أَيْضًا أَنَّ الْأَمَةَ مِنْ الْمُحَلَّلَاتِ، فَلَا يَلْحَقُهَا التَّحْرِيمُ كَالطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ، وَمَا لَهُمْ مِنْ شُبْهَةٍ قَدْ تَقَصَّيْنَا عَنْهَا فِي مَسَائِلِ الْإِنْصَافِ.

[الآية الثانية قوله تعالى يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا]

[الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا] الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {قُوا} [التحريم: 6]: قَالَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ: مَعْنَاهُ اصْرِفُوا، وَتَحْقِيقُهَا اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهَا وِقَايَةً. وَمِثْلُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ». الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَأْوِيلِهَا. وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَاهُ قُوا أَنْفُسَكُمْ، وَأَهْلِيكُمْ فَلْيَقُوا أَنْفُسَهُمْ. الثَّانِي: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَمُرُوا أَهْلِيكُمْ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ. الثَّالِثُ: قُوا أَنْفُسَكُمْ بِفِعَالِكُمْ وَأَهْلِيكُمْ بِوَصِيَّتِكُمْ إيَّاهُمْ؛ قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَالْفِقْهُ الَّذِي يُعْطِيهِ الْعَطْفُ الَّذِي يَقْتَضِي التَّشْرِيكَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي مَعْنَى الْفِعْلِ، كَقَوْلِهِ: عَلَفْتهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا وَكَقَوْلِهِ: وَرَأَيْت زَوْجَك فِي الْوَغَى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا فَعَلَى الرَّجُلُ أَنْ يُصْلِحَ نَفْسَهُ بِالطَّاعَةِ، وَيُصْلِحَ أَهْلَهُ إصْلَاحَ الرَّاعِي لِلرَّعِيَّةِ؛ فَفِي

[مسألة يؤدب أهله فيما يصلحه ويصلحهم أدبا خفيفا على طريق التعزير]

صَحِيحِ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ». وَعَنْ هَذَا عَبَّرَ الْحَسَنُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: يَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ. وَقَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ»؛ خَرَّجَهُ جَمَاعَةٌ. وَهَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُد، وَخُرِّجَ أَيْضًا عَنْ سَمُرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مُرُوا الصَّبِيَّ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ، فَإِذَا بَلَغَ عَشْرَ سِنِينَ فَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا». وَكَذَلِكَ يُخْبِرُ أَهْلَهُ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ، وَوُجُوبِ الصِّيَامِ، وَوُجُوبِ الْفِطْرِ إذَا وَجَبَ، مُسْتَنِدًا فِي ذَلِكَ إلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا أَوْتَرَ يَقُولُ: قُومِي فَأَوْتِرِي يَا عَائِشَةُ». وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يُصَلِّي فَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، فَإِنْ لَمْ تَقُمْ رَشَّ وَجْهَهَا بِالْمَاءِ. رَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنْ اللَّيْلِ تُصَلِّي وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا، فَإِنْ لَمْ يَقُمْ رَشَّتْ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ الْمَاءِ». وَمِنْهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَيْقِظُوا صَوَاحِبَ الْحُجَرِ». وَيَدْخُلُ هَذَا فِي عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وَقَدْ تَقَدَّمَ. [مَسْأَلَة يُؤَدِّبُ أَهْلَهُ فِيمَا يُصْلِحُهُ وَيُصْلِحُهُمْ أَدَبًا خَفِيفًا عَلَى طَرِيقِ التَّعْزِيرِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَكَمَا يُؤَدِّبُ وَلَدَهُ فِي مَصْلَحَتِهِمْ فَكَذَلِكَ يُؤَدِّبُ أَهْلَهُ فِيمَا يُصْلِحُهُ وَيُصْلِحُهُمْ أَدَبًا خَفِيفًا عَلَى طَرِيقِ التَّعْزِيرِ. وَلَيْسَ يَدْخُلُ ذَلِكَ فِي شَرْطِهَا الْمُحْدَثِ الَّذِي يَكْتُبُهُ الْمُتَصَدِّرُونَ وَيَقُولُونَ: وَلَا

[مسألة إقامة الرجل حده على عبده وأمته]

يَضْرِبُهَا فِي نَفْسِهَا، فَإِنْ فَعَلَ فَأَمْرُهَا بِيَدِهَا؛ فَيَظُنُّ الْمُتَصَدِّرُونَ مِنْ الْمُفْتِينَ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَدَبَهَا كَانَ أَمْرُهَا بِيَدِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إنَّمَا يَجِبُ لَهَا الْخِيَارُ إذَا كَانَ ضَرْبُهَا ابْتِدَاءً، أَوْ عَلَى غَيْرِ سَبَبٍ مُوجِبٍ لِذَلِكَ، وَهُوَ الضَّرَرُ. فَأَمَّا مَا يُصْلِحُ الزَّوْجَ وَيُصْلِحُ الْمَرْأَةَ فَلَيْسَ ضَرَرًا، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى حَدِّ الضَّرَرِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَبَيَّنَّا حَدَّهُ الَّذِي يُخْرِجُ عَنْ الْحُدُودِ وَالْآدَابِ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ. وَالتَّقْرِيبُ فِيهِ الْآنَ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ الْأَلَمُ الَّذِي لَا نَفْعَ مَعَهُ يُوَازِيهِ أَوْ يَرْبَى عَلَيْهِ. [مَسْأَلَة إقَامَةُ الرَّجُلِ حَدَّهُ عَلَى عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ مِنْ وِقَايَةِ الرَّجُلِ أَهْلَهُ إقَامَةُ الرَّجُلِ حَدَّهُ عَلَى عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَغَيْرِهَا. [الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى يَأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ] الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التحريم: 9]. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ.

[سورة الملك فيها آية واحدة]

[سُورَة الْمُلْكِ فِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ] [قَوْله تَعَالَى هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا] قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15]. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ السَّفَرِ وَأَقْسَامُ الْمَشْيِ فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ. وَكَذَلِكَ بَيَّنَّا قَوْله تَعَالَى: {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15] فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ.

[سورة القلم فيها ثلاث آيات]

[سُورَةُ الْقَلَمِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى رَوَى الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ سَمِيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ، ثُمَّ خَلَقَ النُّونَ، وَهِيَ الدَّوَاةُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {ن وَالْقَلَمِ} [القلم: 1]؛ ثُمَّ قَالَ: اُكْتُبْ. قَالَ: وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: مَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلٍ، أَوْ أَجَلٍ، أَوْ رِزْقٍ، أَوْ أَثَرٍ؛ فَجَرَى الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ خَتَمَ عَلَى الْقَلَمِ فَلَمْ يَنْطِقْ، وَلَا يَنْطِقُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ خَلَقَ الْعَقْلَ فَقَالَ الْجَبَّارُ: مَا خَلَقْت خَلْقًا أَعْجَبَ إلَيَّ مِنْك، وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأُكَمِّلَنَّكَ فِيمَنْ أَحْبَبْت، وَلَأُنْقِصَنَّكَ فِيمَنْ أَبْغَضْت، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَكْمَلُ النَّاسِ عَقْلًا أَطْوَعُهُمْ لِلَّهِ وَأَعْمَلُهُمْ بِطَاعَتِهِ» الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ الْأَوَّلَ، فَكَتَبَ مَا يَكُونُ فِي الذِّكْرِ، وَوَضَعَهُ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ، ثُمَّ خَلَقَ الْقَلَمَ الثَّانِيَ لِيُعَلِّمَ بِهِ مَنْ فِي الْأَرْضِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

[الآية الثانية قوله تعالى ودوا لو تدهن فيدهنون]

[الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ] الْآيَةُ الثَّانِيَةُ: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهَا نَحْوَ عَشْرَةِ أَقْوَالٍ، كُلُّهَا دَعَاوَى عَلَى اللُّغَةِ وَالْمَعْنَى، أَمْثَلُهَا قَوْلُهُمْ: وَدُّوا لَوْ تَكْذِبُ فَيَكْذِبُونَ. وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُ فَيَكْفُرُونَ. وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْإِدْهَانُ هُوَ التَّلْبِيسُ، مَعْنَاهُ: وَدُّوا لَوْ تَلْبِسُ إلَيْهِمْ فِي عَمَلِهِمْ وَعَقْدِهِمْ فَيَمِيلُونَ إلَيْك. وَحَقِيقَةُ الْإِدْهَانِ إظْهَارُ الْمُقَارَبَةِ مَعَ الِاعْتِقَادِ لِلْعَدَاوَةِ؛ فَإِنْ كَانَتْ الْمُقَارَبَةُ بِاللِّينِ فَهِيَ مُدَاهَنَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ مَعَ سَلَامَةِ الدِّينِ فَهِيَ مُدَارَاةٌ أَيْ مُدَافَعَةٌ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ «اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: ائْذَنُوا لَهُ، بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ هُوَ، أَوْ ابْنُ الْعَشِيرَةِ؛ فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الْكَلَامَ، فَقُلْت لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ قُلْت مَا قُلْت، ثُمَّ أَلَنْت لَهُ فِي الْقَوْلِ، فَقَالَ لِي: يَا عَائِشَةُ؛ إنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً مَنْ تَرَكَهُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ». وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَثَلُ الْمُدَاهِنِ فِي حُدُودِ اللَّهِ وَالْقَائِمِ عَلَيْهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا فِي سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا، وَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَأَرَادَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا أَنْ يَسْتَقُوا الْمَاءَ عَلَى الَّذِينَ فِي أَعْلَاهَا فَمَنَعُوهُمْ، فَأَرَادُوا أَنْ يَسْتَقُوا الْمَاءَ فِي أَسْفَلِ السَّفِينَةِ، فَإِنْ مَنَعُوهُمْ نَجَوْا، وَإِنْ تَرَكُوهُمْ هَلَكُوا جَمِيعًا». وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} [الواقعة: 81]. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يَعْنِي مُكَذِّبُونَ، وَحَقِيقَتُهُ مَا قَدَّمْنَاهُ أَيْ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُقَارِبُونَ فِي

[الآية الثالثة قوله تعالى سنسمه على الخرطوم]

الظَّاهِرِ مَعَ إضْمَارِ الْخِلَافِ فِي الْبَاطِنِ، يَقُولُونَ: اللَّهُ، اللَّهُ. ثُمَّ يَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَجْمِ كَذَا، وَنَوْءِ كَذَا، وَلَا يُنَزِّلُ الْمَطَرَ إلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ غَيْرَ مُرْتَبِطٍ بِنَجْمٍ وَلَا مُقْتَرِنٍ بِنَوْءٍ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] فَسَاقَهُ عَلَى الْعَطْفِ، وَلَوْ جَاءَ بِهِ جَوَابُ التَّمَنِّي لَقَالَ فَيُدْهِنُوا، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُمْ تَمَنَّوْا لَوْ فَعَلْت فَيَفْعَلُونَ مِثْلَ فِعْلِك عَطْفًا، لَا جَزَاءً عَلَيْهِ، وَلَا مُكَافَأَةً لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ تَمْثِيلٌ وَتَنْظِيرٌ. [الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ] الْآيَةُ الثَّالِثَةُ: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم: 16]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم: 16]: ذَكَرَ فِيهِ أَهْلُ التَّفْسِيرِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا سِمَةٌ سَوْدَاءُ تَكُونُ عَلَى أَنْفِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُمَيَّزُ بِهَا بَيْنَ النَّاسِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن: 41]. وَقِيلَ: يُضْرَبُ بِالنَّارِ عَلَى أَنْفِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْنِي وَسْمًا يَكُونُ عَلَامَةً [عَلَيْهِ]. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106]؛ فَهَذِهِ عَلَامَةٌ ظَاهِرَةٌ. وَقَالَ: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه: 102] {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا} [طه: 103] وَهَذِهِ عَلَامَةٌ أُخْرَى ظَاهِرَةٌ، فَأَفَادَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَامَةً ثَالِثَةً وَهِيَ الْوَسْمُ عَلَى الْخُرْطُومِ مِنْ جُمْلَةِ الْوَجْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: {سَنَسِمُهُ} [القلم: 16]: كَانَ الْوَسْمُ فِي الْوَجْهِ لِذَوِي الْمَعْصِيَةِ قَدِيمًا عِنْدَ النَّاسِ حَتَّى أَنَّهُ رُوِيَ كَمَا تَقَدَّمَ

أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا أَهْمَلُوا رَجْمَ الزَّانِي وَاعْتَاضُوا عَنْهُ بِالضَّرْبِ وَتَحْمِيمِ الْوَجْهِ، وَهَذَا وَضْعٌ بَاطِلٌ. وَمِنْ الْوَسْمِ الصَّحِيحِ فِي الْوَجْهِ مَا رَأَى الْعُلَمَاءُ مِنْ تَسْوِيدِ وَجْهِ شَاهِدِ الزُّورِ عَلَامَةً عَلَى قُبْحِ الْمَعْصِيَةِ، وَتَشْدِيدًا لِمَنْ يَتَعَاطَاهَا لِغَيْرِهِ مِمَّنْ يُرْجَى تَجَنُّبُهُ بِمَا يُرْجَى مِنْ عُقُوبَةِ شَاهِدِ الزُّورِ وَشُهْرَتِهِ. وَقَدْ كَانَ عَزِيزًا بِقَوْلِ الْحَقِّ، وَقَدْ صَارَ مَهِينًا بِالْمَعْصِيَةِ؛ وَأَعْظَمُ الْإِهَانَةِ إهَانَةُ الْوَجْهِ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ الِاسْتِهَانَةُ بِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ سَبَبًا لِحَيَاةِ الْأَبَدِ، وَالتَّحْرِيمِ لَهُ عَلَى النَّارِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ مِنْ ابْنِ آدَمَ أَثَرَ السُّجُودِ، حَسْبَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ.

[سورة المعارج فيها ثلاث آيات]

[سُورَة الْمَعَارِجِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ} [المعارج: 13]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْفَصِيلَةُ فِي اللُّغَةِ عِنْدَهُمْ أَقْرَبُ مِنْ الْقَبِيلَةِ، وَأَصْلُ الْفَصِيلَةِ الْقِطْعَةُ مِنْ اللَّحْمِ. وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ الْفَصِيلَةَ مِنْ فَصَلَ، أَيْ قَطَعَ، أَيْ مَفْصُولَةٌ كَالْأَكِيلَةِ مِنْ أَكَلَ، وَالْأَخِيذَةِ مِنْ أَخَذَ؛ وَكُلُّ شَيْءٍ فَصَلْتَهُ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ فَصِيلَةٌ؛ فَهَذَا حَقِيقَةٌ فِيهِ يَشْهَدُ لَهُ الِاشْتِقَاقُ. وَأَدْنَى الْفَصِيلَةِ الْأَبَوَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 7]. وَقَالَ: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]؛ فَهَذَا هُوَ أَدْنَى الْأَدْنَى، وَلِهَذَا التَّحْقِيقِ تَفَطَّنَ إمَامُ دَارِ الْهِجْرَةِ وَحَبْرُ الْمِلَّةِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ أَشْهَبُ: سَأَلْت مَالِكًا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ} [المعارج: 13] قَالَ: هِيَ أُمُّهُ، فَعَبَّرَ عَنْ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ، ثُمَّ صَرَّحَ بِالْأَصْلِ، فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: هِيَ عَشِيرَتُهُ، وَالْعَشِيرَةُ وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا فَصِيلَةً فَإِنَّ الْفَصِيلَةَ الدَّانِيَةَ هِيَ الْأُمُّ، وَهِيَ أَيْضًا الْمُرَادُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ - وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ} [المعارج: 11 - 12] {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ} [المعارج: 13] فَذَكَرَ لِلْقَرَابَةِ مَعْنَيَيْنِ، وَخَتَمَهَا بِالْفَصِيلَةِ الْمُخْتَصَّةِ مِنْهُمْ، وَهِيَ الْأُمُّ.

[الآية الثانية قوله تعالى إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ إذَا حَبَسَ عَلَى فَصِيلَتِهِ أَوْ أَوْصَى لَهَا فَمَنْ رَاعَى الْعُمُومَ حَمَلَهُ عَلَى الْعَشِيرَةِ، وَمَنْ ادَّعَى الْخُصُوصَ حَمَلَهُ عَلَى الْأُمِّ، وَالْأُولَى أَكْثَرُ فِي النُّطْقِ. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى إلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ] الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {إِلا الْمُصَلِّينَ} [المعارج: 22] {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 23]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَاللَّيْثُ: هِيَ الْمَوَاقِيتُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هِيَ النَّوَافِلُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. فَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ جُرَيْجٍ إنَّهُ النَّفَلُ فَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ فَإِنَّهُ لَا فَرْضَ لِمَنْ لَا نَفْلَ لَهُ. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ تُكْمَلُ صَلَاةُ الْفَرِيضَةِ لِلْعَبْدِ مِنْ تَطَوُّعِهِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ «لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى شَيْءٍ مِنْ النَّوَافِلِ أَشَدَّ مُعَاهَدَةً مِنْهُ عَلَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ». وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى كُلَّ يَوْمٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ». الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 23] قَالَ: هُمْ الَّذِينَ إذَا صَلُّوا لَا يَلْتَفِتُونَ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا وَلَا خَلْفَ، وَيَنْظُرُ إلَى قَوْلِهِ: {الَّذِينَ هُمْ

[الآية الثالثة قوله تعالى والذين في أموالهم حق معلوم]

عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5]؛ فَإِنَّ الْمُلْتَفِتَ سَاهٍ عَنْ صَلَاتِهِ. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَانَ لَا يَلْتَفِتُ فِي صَلَاتِهِ، فَكَانَ عَلَيْهَا دَائِمًا وَلَهَا مُرَاعِيًا؛ وَالْآيَةُ عَامَّةٌ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، وَعَلَى مَوَاقِيتِهَا، عَلَى فَرْضِهَا وَنَفْلِهَا. [الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ] وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج: 24] وَهِيَ الْآيَةُ الثَّالِثَةُ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ.

[سورة نوح فيها ثلاث آيات]

[سُورَة نُوحٍ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ: {لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] يَعْنِي لَا تَخْشَوْنَ لِلَّهِ عِقَابًا. وَعَبَّرَ عَنْ الْعِقَابِ بِالْوَقَارِ؛ لِأَنَّ مَنْ عَظَّمَهُ فَقَدْ عَرَفَهُ، وَعَنْ الْخَشْيَةِ بِالرَّجَاءِ؛ لِأَنَّهَا نَظِيرَتُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح: 14] يَعْنِي فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، وَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ، وَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَكُلِّ صِفَةٍ وَنَعْتٍ تَكُونُ لَهُمْ، وَكَذَلِكَ تَدْبِيرُهُ فِي النَّشْأَةِ مِنْ تُرَابٍ إلَى نُطْفَةٍ إلَى عَلَقَةٍ، إلَى مُضْغَةٍ، إلَى لَحْمٍ وَدَمٍ، وَخَلْقٍ سَوِيٍّ. وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ: مَا لَكُمْ لَا تُؤَمِّلُونَ تَوْقِيرَكُمْ لِأَمْرِ اللَّهِ وَلُطْفِهِ وَنِعْمَتِهِ. أَدْخَلَهَا الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ فِي الْأَحْكَامِ. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا] } [نوح: 26]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى لَمَّا قَالَ لِنُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36] حِينَ اسْتَنْفَدَ مَا فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَمَا فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، دَعَا عَلَيْهِمْ نُوحٌ بِقَوْلِهِ: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] فَأَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَهُ، وَأَغْرَقَ أُمَّتَهُ. وَهَذَا كَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، هَازِمَ الْأَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ». الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ دَعَا نُوحٌ عَلَى الْكَافِرِينَ أَجْمَعِينَ، وَدَعَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَنْ تَحَزَّبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّبَ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ هَذَا أَصْلًا فِي الدُّعَاءِ عَلَى الْكُفَّارِ فِي الْجُمْلَةِ، فَأَمَّا كَافِرٌ مُعَيَّنٌ لَمْ تُعْلَمْ خَاتِمَتُهُ فَلَا يُدْعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَآلَهُ عِنْدَنَا مَجْهُولٌ، وَرُبَّمَا كَانَ عِنْدَ اللَّهِ مَعْلُومَ الْخَاتِمَةِ لِلسَّعَادَةِ؛ وَإِنَّمَا خَصَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدُّعَاءَ عَلَى عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ وَأَصْحَابِهِ لِعِلْمِهِ بِمَآلِهِمْ، وَمَا كُشِفَ لَهُ مِنْ الْغِطَاء عَنْ حَالِهِمْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ إنْ قِيلَ: لِمَ جَعَلَ نُوحٌ دَعْوَتَهُ عَلَى قَوْمِهِ سَبَبًا لِتَوَقُّفِهِ عَنْ طَلَبِ الشَّفَاعَةِ لِلْخَلْقِ مِنْ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ. قُلْنَا: قَالَ النَّاسُ: فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ تِلْكَ الدَّعْوَةَ نَشَأَتْ عَنْ غَضَبٍ وَقَسْوَةٍ؛ وَالشَّفَاعَةُ تَكُونُ عَنْ رِضًا وَرِقَّةٍ، فَخَافَ أَنْ يُعَاتَبَ بِهَا، فَيُقَالُ: دَعَوْت عَلَى الْكُفَّارِ بِالْأَمْسِ وَتَشْفَعُ لَهُمْ الْيَوْمَ. الثَّانِي: أَنَّهُ دَعَا غَضَبًا بِغَيْرِ نَصٍّ وَلَا إذْنٍ صَرِيحٍ فِي ذَلِكَ؛ فَخَافَ الدَّرْكَ فِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ مُوسَى: إنِّي قَتَلْت نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا. وَبِهَذَا أَقُولُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَتَمَامُهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي.

[الآية الثالثة قوله تعالى رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات]

[الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ] ِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا} [نوح: 28]. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَعْنَاهُ مَسْجِدِي؛ فَجَعَلَ دُخُولَ الْمَسْجِدِ سَبَبًا لِلدُّعَاءِ بِالْمَغْفِرَةِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الْمَلَائِكَةَ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ، تَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ»، حَسْبَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الرِّوَايَةِ. وَفَضْلُ الْمَسَاجِدِ كَثِيرٌ، قَدْ أَثْبَتْنَاهُ فِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ وَشَرْحِهِ.

[سورة الجن فيها آيتان]

[سُورَةُ الْجِنِّ فِيهَا آيَتَانِ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى قُلْ أُوحِيَ إلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنّ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن: 1] إلَى: {هَرَبًا} [الجن: 12] فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي حَقِيقَةِ الْجِنِّ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّهُمْ أَحَدُ خَلْقِ الْأَرْضِ، أُنْزِلَ أَبُوهُمْ إبْلِيسُ إلَيْهَا، كَمَا أُنْزِلَ أَبُونَا آدَم، هَذَا مَرْضِيٌّ عَنْهُ، وَهَذَا مَسْخُوطٌ عَلَيْهِ. وَقَدْ رَوَى عِكْرِمَةُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْجَانَّ مَسْخُ الْجِنِّ، كَمَا مُسِخَتْ الْقِرَدَةُ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ. وَقَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْمُخْتَزِنِ: إنَّ إبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْجِنِّ. وَلَسْت أَرْضَاهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ [مَسْأَلَة هَلْ قَرَأَ رَسُولُ اللَّه عَلَى الْجِنِّ وَرَآهُمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «مَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْجِنِّ وَلَا رَآهُمْ انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إلَى سُوقِ عِكَاظٍ، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمْ الشُّهُبُ، فَقَالُوا: مَا حَالَ

بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إلَّا حَدَثٌ، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، تَتْبَعُونَ مَا هَذَا الْخَبَرُ الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ؛ فَضَرَبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، فَانْصَرَفَ أُولَئِكَ النَّفَرُ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِنَخْلَةَ عَامِدًا إلَى سُوقِ عِكَاظٍ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ، فَقَالُوا: هَذَا وَاَللَّهِ الَّذِي حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ. قَالَ: فَهُنَاكَ رَجَعُوا إلَى قَوْمِهِمْ، وَقَالُوا: يَا قَوْمَنَا؛ {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن: 1] {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ

[مسألة زاد الجن]

فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن: 2] فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 1] وَإِنَّمَا أُوحِيَ إلَيْهِ قَوْلُ الْجِنِّ». قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَوْلُ الْجِنِّ لِقَوْمِهِمْ: {لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19]؛ قَالَ: لَمَّا رَأَوْهُ وَأَصْحَابَهُ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ، وَيَسْجُدُونَ بِسُجُودِهِ قَالَ: فَتَعَجَّبُوا مِنْ طَوَاعِيَةِ أَصْحَابِهِ لَهُ، قَالُوا لِقَوْمِهِمْ: {لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19]. صَحَّ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَفْظُهُ لِلتِّرْمِذِيِّ وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إلَى سُوقِ عِكَاظٍ، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمْ الشُّهُبُ، فَرَجَعَتْ الشَّيَاطِينُ، فَقَالُوا: مَا لَكُمْ؟ فَقَالُوا: حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ. قَالُوا: مَا حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إلَّا حَدَثٌ، فَانْطَلَقُوا يَضْرِبُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا يَنْظُرُونَ مَا هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ. قَالَ: فَانْطَلَقَ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَخْلَةَ، وَهُوَ عَامِدٌ إلَى سُوقِ عِكَاظٍ، وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ. فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ سَمِعُوا لَهُ، فَقَالُوا: هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَهُنَالِكَ رَجَعُوا إلَى قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا: يَا قَوْمَنَا {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن: 1] {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن: 2]. وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 1]. وَإِنَّمَا أُوحِيَ إلَيْهِ قَوْلُ الْجِنِّ». وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: «قُلْت لِابْنِ مَسْعُودٍ: هَلْ صَحِبَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْجِنِّ مِنْكُمْ أَحَدٌ؟ قَالَ: مَا صَحِبَهُ مِنَّا أَحَدٌ؛ وَلَكِنْ افْتَقَدْنَاهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهُوَ بِمَكَّةَ، فَقُلْنَا: اُغْتِيلَ، اُسْتُطِيرَ، مَا فُعِلَ بِهِ؟ فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ، حَتَّى إذَا أَصْبَحْنَا أَوْ كَانَ فِي وَجْهِ الصُّبْحِ إذَا نَحْنُ بِهِ مِنْ قِبَلِ حِرَاءٍ. قَالَ: فَذَكَرُوا لَهُ الَّذِي كَانُوا فِيهِ قَالَ: فَقَالَ: أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ، فَأَتَيْتهمْ فَقَرَأْت عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ فَانْطَلَقَ فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ.» وَابْنُ مَسْعُودٍ أَعْرَفُ بِالْأَمْرِ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ لِأَنَّهُ شَاهَدَهُ، وَابْنَ عَبَّاسٍ سَمِعَهُ؛ وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ. [مَسْأَلَة زَادَ الْجِنّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَالَ الشَّعْبِيُّ فِي رِوَايَتِهِ: «وَسَأَلُوهُ الزَّادَ، وَكَانُوا مِنْ جِنِّ الْجَزِيرَةِ، فَقَالَ: كُلُّ عَظْمٍ يُذْكَرُ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا كَانَ لَحْمًا، وَكُلُّ بَعْرَةٍ أَوْ رَوْثَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِ فَإِنَّهُ زَادُ إخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ». وَقَدْ أَنْكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ كَفَرَةِ الْأَطِبَّاءِ وَالْفَلَاسِفَةِ الْجِنَّ وَقَالُوا إنَّهُمْ بَسَائِطُ وَلَا يَصِحُّ طَعَامُهُمْ؛ اجْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ وَافْتِرَاءً [عَلَيْهِ]. وَقَدْ مَهَّدْنَا الرَّدَّ عَلَيْهِمْ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَبَيَّنَّا جَوَازَ وُجُودِهِمْ عَقْلًا لِعُمُومِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَأَوْضَحْنَا وُجُوبَ وُجُودِهِمْ شَرْعًا بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ لَهُمْ مِنْ تَيَسُّرِ التَّصَوُّرِ فِي الْهَيْئَاتِ مَا خَلَقَ لَنَا مِنْ تَيَسُّرِ التَّصَوُّرِ فِي الْحَرَكَاتِ؛ فَنَحْنُ إلَى أَيِّ جِهَةٍ شِئْنَا ذَهَبْنَا، وَهُمْ فِي أَيِّ صُورَةٍ شَاءُوا تَيَسَّرَتْ لَهُمْ، وَوُجِدُوا عَلَيْهَا، وَلَا نَرَاهُمْ فِي هَيْئَاتِهِمْ، إنَّمَا يَتَصَوَّرُونَ فِي خَلْقِ الْحَيَوَانَاتِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُمْ بَسَائِطُ، فَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ بَسِيطٌ، بَلْ الْكُلُّ مُرَكَّبٌ مُزْدَوِجٌ، إنَّمَا

الْوَاحِدُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ؛ وَغَيْرُهُ مُرَكَّبٌ لَيْسَ بِوَاحِدٍ كَيْفَمَا تَصَرَّفَ حَالُهُ؛ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَرَاهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صُوَرِهِمْ، كَمَا يَرَى الْمَلَائِكَةَ؛ وَأَكْثَرُ مَا يَتَصَوَّرُونَ لَنَا فِي صُوَرِ الْحَيَّاتِ؛ فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ «أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي بَيْتِهِ؛ قَالَ: فَوَجَدْته يُصَلِّي، فَجَلَسْت أَنْتَظِرُهُ حَتَّى تُقْضَى صَلَاتُهُ، فَسَمِعْت تَحْرِيكًا فِي عَرَاجِينَ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، فَالْتَفَتّ فَإِذَا حَيَّةٌ، فَوَثَبْت لِأَقْتُلَهَا، فَأَشَارَ إلَيَّ أَنْ أَجْلِسَ، فَجَلَسْت، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَشَارَ إلَى بَيْتٍ فِي الدَّارِ، فَقَالَ: أَتَرَى هَذَا الْبَيْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: كَانَ فِيهِ فَتًى مِنَّا حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ. قَالَ: فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْخَنْدَقِ، فَكَانَ ذَلِكَ الْفَتَى يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْصَافِ النَّهَارِ، فَيَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ، فَاسْتَأْذَنَهُ يَوْمًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خُذْ عَلَيْك سِلَاحَك؛ فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْك قُرَيْظَةَ. فَأَخَذَ الرَّجُلُ سِلَاحَهُ، ثُمَّ رَجَعَ، فَإِذَا امْرَأَتُهُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ قَائِمَةً، فَأَهْوَى إلَيْهَا بِالرُّمْحِ لِيَطْعَنَهَا بِهِ، وَأَصَابَتْهُ غَيْرَةٌ، فَقَالَتْ لَهُ: كُفَّ عَلَيْك رُمْحَك، وَادْخُلْ الْبَيْتَ حَتَّى تَنْظُرَ مَا الَّذِي أَخْرَجَنِي، فَدَخَلَ، فَإِذَا حَيَّةٌ عَظِيمَةٌ مُنْطَوِيَةٌ عَلَى الْفِرَاشِ، فَأَهْوَى إلَيْهَا بِالرُّمْحِ، فَانْتَظَمَهَا، ثُمَّ خَرَجَ بِهِ فَرَكَزَهُ فِي الدَّارِ، فَاضْطَرَبَتْ عَلَيْهِ فَمَا نَدْرِي أَيَّهُمَا كَانَ أَسْرَعَ مَوْتًا: الْحَيَّةُ أَمْ الْفَتَى. قَالَ: فَجِئْنَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرْنَا لَهُ ذَلِكَ، قُلْنَا: اُدْعُ اللَّهَ يُحْيِيهِ لَنَا. فَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا لِصَاحِبِكُمْ. ثُمَّ قَالَ: إنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا فَآذِنُوهُ ثَلَاثًا، فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ». وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ لِهَذِهِ الْبُيُوتِ عَوَامِرَ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَحَرِّجُوا عَلَيْهَا ثَلَاثًا، فَإِنْ ذَهَبَ وَإِلَّا فَاقْتُلُوهُ، فَإِنَّهُ كَافِرٌ». أَوْ قَالَ: «اذْهَبُوا فَادْفِنُوا صَاحِبَكُمْ». وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَجْلَانَ عَنْ أَبِي السَّائِبِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ بِالْمَدِينَةِ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ أَسْلَمُوا، فَمَنْ رَأَى شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْعَوَامِرِ فَلْيُؤْذِنْهُ ثَلَاثًا، فَإِنْ بَدَا لَهُ بَعْدُ فَلْيَقْتُلْهُ، فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ». وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ الْحَيَّاتِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْبُيُوتِ، فَقَالَ: إذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُنَّ شَيْئًا بَعْدَ ذَلِكَ فَقُولُوا: نَشَدْتُكُمْ الْعَهْدَ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْكُمْ

نُوحٌ نَشَدْتُكُمْ الْعَهْدَ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْكُمْ سُلَيْمَانُ أَلَّا تُؤْذُونَا، فَإِنْ رَأَيْتُمْ مِنْهُنَّ شَيْئًا بَعْدَ ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُنَّ.» الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ فِي التَّقْدِيمِ إلَى الْحَيَّاتِ يَقُولُ يَا عَبْدَ اللَّهِ؛ إنْ كُنْت تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكُنْت مُسْلِمًا فَلَا تُؤْذِنَا وَلَا تَشْعَفْنَا، وَلَا تُرَوِّعْنَا، وَلَا تَبْدُوَنَّ لَنَا، فَإِنَّك إنْ تَبْدُ بَعْدَ ثَلَاثٍ قَتَلْتُك. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: قَالَ مَالِكٌ: يُحَرِّجُ عَلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَلَّا يَبْدُوَ لَنَا، وَلَا يَخْرُجُ. وَقَالَ أَيْضًا عَنْهُ: أُحَرِّجُ عَلَيْك بِأَسْمَاءِ اللَّهِ أَلَّا تَبْدُوَ لَنَا. قَالَ الْقَاضِي: ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مَعَ أَصْحَابِهِ فِي غَارٍ، وَهُوَ يَقْرَأُ: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} [المرسلات: 1] وَإِنَّ فَاهُ لَرَطْبٌ بِهَا، حَتَّى خَرَجَتْ حَيَّةٌ مِنْ غَارٍ، فَبَادَرْنَاهَا، فَدَخَلَتْ جُحْرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وُقِيَتْ شَرَّكُمْ، وَوُقِيتُمْ شَرَّهَا؛ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِنْذَارٍ وَلَا تَحْرِيجٍ» لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مِنْ عَوَامِرِ الْبُيُوتِ. وَأَمَرَ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ إنْذَارٍ وَلَا تَحْرِيجٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْإِنْذَارِ إنَّمَا هُوَ لِمَنْ فِي الْحَضَرِ، لَا لِمَنْ يَكُونُ فِي الْقَفْرِ، وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالْمَدِينَةِ، لِقَوْلِهِ فِي الصَّحِيحِ: إنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا أَسْلَمُوا. وَهَذَا لَفْظٌ مُخْتَصٌّ بِهَا، فَتَخْتَصُّ بِحُكْمِهَا. قُلْنَا: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهَا مِنْ الْبُيُوتِ مِثْلُهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَلِّلْ بِحُرْمَةِ الْمَدِينَةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْحُكْمُ مَخْصُوصًا بِهَا، وَإِنَّمَا عَلَّلَ بِالْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ عَامٌّ فِي غَيْرِهَا، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ فِي الْحَدِيثِ مُخْبِرًا عَنْ الْجِنِّ الَّذِينَ لَقِيَ؛ فَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ جِنِّ الْجَزِيرَةِ، وَهَذَا بَيِّنٌ يُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ: وَنَهَى عَنْ عَوَامِرِ الْبُيُوتِ، وَهَذَا عَامٌّ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي إنْذَارِهِمْ وَالتَّحْرِيجِ [عَلَيْهِمْ]: هَلْ يَكُونُ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ، أَمْ يَكُونُ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ؟ وَالْقَوْلُ مُحْتَمِلٌ لِذَلِكَ وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ، لِأَنَّهُ إثْبَاتٌ لِمُفْرَدٍ فِي نَكِرَةٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْعُمُومُ فِي الْمُفْرَدَاتِ إذَا اتَّصَلَتْ بِالنَّفْيِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَفِيمَا سَبَقَ هَاهُنَا. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَاهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي ثَلَاثِ حَالَاتٍ لَكَانَ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجًا لَهُنَّ وَتَعْرِيضًا لِمَضَرَّتِهِنَّ، وَلَكِنْ إذَا ظَهَرَتْ تُنْذَرُ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ فَرَّتْ وَإِلَّا أُعِيدَ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَإِنْ فَرَّتْ وَإِلَّا أُعِيدَ عَلَيْهَا الْإِنْذَارُ ثَلَاثًا، فَإِنْ فَرَّتْ وَإِلَّا أُعِيدَ لَهَا الْإِنْذَارُ، فَإِنْ فَرَّتْ وَغَابَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَالَ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ أَوْ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ: كَيْفَ يُنْذَرُ بِالْقَوْلِ وَيُحَرَّجُ بِالْعَهْدِ عَلَى الْبَهَائِمِ وَالْحَشَرَاتِ، وَهِيَ لَا تَعْقِلُ الْأَقْوَالَ، وَلَا تَفْهَمُ الْمَقَاصِدَ وَالْأَغْرَاضَ؟ قُلْنَا: الْحَيَّاتُ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ حَيَّةٌ عَلَى أَصْلِهَا، فَبَيْنَنَا وَبَيْنَهَا الْعَدَاوَةُ الْأَصْلِيَّةُ فِي مُعَاضَدَةِ إبْلِيسَ عَلَى آدَمَ، وَإِلَى هَذَا وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا سَالَمْنَاهُنَّ مُنْذُ حَارَبْنَاهُنَّ. فَهَذَا الْقِسْمُ يُقْتَلُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ إنْذَارٍ وَلَا إمْهَالٍ وَعَلَامَتُهُ الْبَتْرُ وَالطُّفَى لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اُقْتُلُوا الْأَبْتَرَ وَذَا الطُّفْيَتَيْنِ»؛ فَإِنْ كَانَتْ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الْهَيْئَةِ احْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ حَيَّةً أَصْلِيَّةً، وَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ جِنِّيًّا [تَصَوَّرَ] بِصُورَتِهَا، فَلَا يَصِحُّ الْإِقْدَامُ بِالْقَتْلِ عَلَى الْمُحْتَمِلِ، لِئَلَّا يُصَادِفَ مَنْهِيًّا عَنْهُ حَسْبَمَا يُرْوَى لِلْعَرُوسِ بِالْمَدِينَةِ حِينَ قَتَلَ الْحَيَّةَ، فَلَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمَا كَانَ أَسْرَعَ مَوْتًا هُوَ أَمْ الْحَيَّةُ. وَيَكْشِفُ هَذَا الْخَفَاءَ الْإِنْذَارُ، فَإِنْ صَرُمَ كَانَ عَلَامَةً عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، أَوْ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْحَيَّاتِ الْأَصْلِيَّاتِ، إذْ لَمْ يُؤْذَنْ لِلْجِنِّ فِي التَّصَوُّرِ عَلَى الْبَتْرِ وَالطُّفَى، وَلَوْ تَصَوَّرَتْ فِي هَذَا كَتَصَوُّرِهَا فِي غَيْرِهِ لَمَا كَانَ لِتَخْصِيصِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْإِطْلَاقِ بِالْقَتْلِ فِي

[الآية الثانية قوله تعالى وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا]

ذَيْنِ وَالْإِنْذَارِ فِي سِوَاهُمَا مَعْنًى. وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ الْبَلِيدُ وَالْمُرْتَابُ بِعَدَمِ فَهْمِهِنَّ، فَيُقَالُ: إيهٍ اُنْظُرْ إلَى التَّقْسِيمِ، إنْ كُنْت تُرِيدُ التَّسْلِيمَ لَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ حَيَّةً جِنِّيَّةً أَوْ أَصْلِيَّةً، فَإِنْ كَانَتْ جِنِّيَّةً فَهِيَ أَفْهَمُ مِنْك، وَإِنْ كَانَتْ أَصْلِيَّةً فَصَاحِبُ الشَّرْعِ أَذِنَ فِي الْخِطَابِ، وَلَوْ كَانَ لِمَنْ لَا يَفْهَمُ لَكَانَ أَمْرًا بِالتَّلَاعُبِ. وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ. فَإِنْ شَكَّ فِي النُّبُوَّةِ، أَوْ فِي خَلْقِ الْجِنِّ، أَوْ فِي صِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَلْيَنْظُرْ فِي الْمُقْسِطِ وَالْمُتَوَسِّطِ وَالْمُشْكِلَيْنِ يُعَايِنُ الشِّفَاءَ مِنْ هَذَا الْإِشْكَالِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا يَحْتَاجُ الْإِنْذَارُ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْجَانِّ وَالْحَيَوَانِ، فَإِنْ كَفَّ فَهُوَ جِنٌّ مُؤْمِنٌ، وَإِلَّا كَانَ كَافِرًا أَوْ حَيَوَانًا. قُلْنَا: أَمَّا الْحَيَوَانُ فَقَدْ جُعِلَتْ لَهُ عَلَامَةٌ. وَأَمَّا غَيْرُهُ فَقَدْ خُصَّ بِالْإِنْذَارِ؛ وَالْحَيَوَانُ يَفْهَمُ بِالْإِنْذَارِ كَمَا يَفْهَمُ بِالزَّجْرِ؛ وَلِهَذَا تُؤَدَّبُ الْبَهِيمَةُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا] } [الجن: 18] فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْأَرْضُ كُلُّهَا لِلَّهِ مُلْكًا وَخَلْقًا، كَمَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأعراف: 128]. وَالْمَسَاجِدُ لِلَّهِ رِفْعَةً وَتَشْرِيفًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] وَالْكَعْبَةُ بَيْتُ اللَّهِ تَخْصِيصًا وَتَعْظِيمًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} [البقرة: 125]. وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: " وَالْقَائِمِينَ " فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَرْضَ كُلَّهَا مَسْجِدًا [كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا] وَطَهُورًا» وَاصْطَفَى مِنْهَا مَوَاضِعَ ثَلَاثًا بِصِفَةِ الْمَسْجِدِيَّةِ، وَهِيَ: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى وَهُوَ مَسْجِدُ إيلِيَاءَ، وَمَسْجِدُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَاصْطَفَى مِنْ الثَّلَاثَةِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فِي قَوْلٍ، وَمَسْجِدَ النَّبِيِّ

[مسألة المساجد لله ملكا وتشريفا]

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلٍ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي أَيُّهَا أَفْضَلُ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ؛ هَلْ هُوَ عَلَى تَفْضِيلِ الْمُفَضَّلِ أَوْ احْتِمَالِهِ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ مُفَضَّلٌ بِتَفْضِيلِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إنَّهُ مُحْتَمِلٌ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ كُلَّ تَأْوِيلٍ تَضَمَّنَ فِيهِ مِقْدَارًا يَجُوزُ تَقْدِيرُهُ عَلَى خِلَافِهِ؛ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ لَا بَأْسَ بِهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ؛ فَإِنَّ صَلَاةً فِيهِ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي»، وَلَوْ صَحَّ هَذَا لَكَانَ نَصًّا. [مَسْأَلَة الْمَسَاجِد لِلَّهِ مُلْكًا وَتَشْرِيفًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الْمَسَاجِدُ وَإِنْ كَانَتْ لِلَّهِ مُلْكًا وَتَشْرِيفًا فَإِنَّهَا قَدْ نُسِبَتْ إلَى غَيْرِهِ تَعْرِيفًا، فَيُقَالُ: مَسْجِدُ فُلَانٍ. وَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي أُضْمِرَتْ مِنْ الْحَيْفَاءِ وَأَمَدُهَا ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ، وَسَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضْمَرْ مِنْ الثَّنِيَّةِ إلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ» وَتَكُونُ هَذِهِ الْإِضَافَةُ بِحُكْمِ الْمَحَلِّيَّةِ، كَأَنَّهَا فِي قِبْلَتِهِمْ، وَقَدْ تَكُونُ بِتَحْبِيسِهِمْ، فَإِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ مُلْكًا، ثُمَّ يَخُصُّ بِهَا مَنْ يَشَاءُ، فَيَرُدَّهَا إلَيْهِ، وَيُعَيِّنُهَا لِعِبَادَتِهِ، فَيَنْفُذُ ذَلِكَ بِحُكْمِهِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي تَحْبِيسِ الْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ وَالْمَقَابِرِ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي تَحْبِيسِ غَيْرِ ذَلِكَ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ إذَا تَعَيَّنَتْ لِلَّهِ أَصْلًا، وَعُيِّنَتْ لَهُ عَقْدًا، فَصَارَتْ عَتِيقَةً عَنْ التَّمَلُّكِ، مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْخَلِيقَةِ فِي الْعِبَادَةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ اتِّخَاذُ الْأَبْوَابِ لَهَا، وَوَضْعُ الْإِغْلَاقِ عَلَيْهَا مِنْ بَابِ الصِّيَانَةِ لَهَا؛ فَهَذِهِ الْكَعْبَةُ بِأَبْوَابِهَا، وَكَذَلِكَ أَدْرَكْنَا الْمَسَاجِدَ الْكَرِيمَةَ. وَفِي الْبُخَارِيِّ مُدْرَجًا، وَفِي كِتَابِ أَبِي دَاوُد مُسْنَدًا: «كَانَتْ الْكِلَابُ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ، وَتَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَا يَرُشُّونَ ذَلِكَ»؛ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَسْجِدِ حِينَئِذٍ بَابٌ، ثُمَّ

[مسألة قسمة الأموال في المساجد]

اُتُّخِذَ لَهُ الْبَابُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ تَرْكُ الْبَابِ لَهُ شَرْعًا، وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ تَقْصِيرِ النَّفَقَةِ وَاخْتِصَارِ الْحَالَةِ. [مَسْأَلَة قِسْمَةُ الْأَمْوَالِ فِي الْمَسَاجِد] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ مَعَ أَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ لَا يُذْكَرُ فِيهَا غَيْرُ اللَّهِ فَإِنَّهُ تَجُوزُ الْقِسْمَةُ لِلْأَمْوَالِ فِيهَا، وَيَجُوزُ وَضْعُ الصَّدَقَاتِ فِيهَا عَلَى رَسْمِ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَ الْمَسَاكِينِ، فَكُلُّ مَنْ جَاءَ أَكَلَ، وَيَجُوزُ حَبْسُ الْغَرِيمِ فِيهَا، وَرَبْطُ الْأَسِيرِ، وَالنَّوْمُ فِيهَا، وَسُكْنَى الْمَرِيضِ فِيهَا، وَفَتْحُ الْبَابِ لِلْجَارِ، وَإِنْشَاءُ الشِّعْرِ فِيهَا إذَا عَرِيَ عَنْ الْبَاطِلِ، وَلَا نُبَالِي أَنْ يَكُونَ غَزَلًا، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْلُهُ: {فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] هَذَا تَوْبِيخٌ لِلْمُشْرِكِينَ فِي دَعْوَاهُمْ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَهُوَ لِلَّهِ اصْطَفَاهُ لَهُمْ، وَاخْتَصَّهُمْ بِهِ، وَوَضَعَهُ مَسْكَنًا لَهُمْ. وَأَحْيَاهُ بَعْدَ الْمَمَاتِ عَلَى يَدِ أَبِيهِمْ، وَعَمَرَهُ مِنْ الْخَرَابِ بِسَلَفِهِمْ، وَحِينَ بَلَغَتْ الْحَالَةُ إلَيْهِمْ كَفَرُوا هَذِهِ النِّعْمَةَ، وَأَشْرَكُوا بِاَللَّهِ غَيْرَهُ، فَنَبَّهَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَيْهِمْ، وَأَوْعَزَ عَلَى لِسَانِهِ إلَيْهِمْ بِهِ، وَأَمَرَهُمْ بِإِقَامَةِ الْحَقِّ فِيهِ، وَإِخْلَاصِ الدَّعْوَةِ لِلَّهِ بِمَعَالِمِهِ.

[سورة المزمل فيها تسع آيات]

[سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ فِيهَا تِسْعِ آيَاتٍ] [الْآيَة الْأُولَى وَالثَّانِيَة وَالثَّالِثَة قَوْله تَعَالَى يَأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمْ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1] {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} [المزمل: 2] فِيهَا مَعَ الَّتِي تَلِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1] هُوَ الْمُلْتَفُّ، بِإِضَافَةِ الْفِعْلِ إلَى الْفَاعِلِ، وَكُلُّ شَيْءٍ لُفِّفَ فِي شَيْءٍ فَقَدْ زُمِّلَ بِهِ؛ وَمِنْهُ قِيلَ لِلِفَافَةِ الرَّاوِيَةُ وَالْقِرْبَةِ زِمَالٌ. وَفِي الْحَدِيثِ فِي قَتْلَى أُحُدٍ: «زَمِّلُوهُمْ بِثِيَابِهِمْ وَدِمَائِهِمْ» أَيْ لَفِّفُوهُمْ، يُقَالُ تَزَمَّلَ يَتَزَمَّلُ؛ فَإِذَا أُدْغِمَتْ التَّاءُ قُلْت: ازَّمَّلَ بِتَشْدِيدَيْنِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِهِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، قِيلَ لَهُ: يَا مَنْ تَلَفَّفَ فِي ثِيَابِهِ أَوْ فِي قَطِيفَتِهِ قُمْ؛ قَالَهُ إبْرَاهِيمُ وَقَتَادَةُ. وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْمَجَازِ كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: يَا مَنْ تَزَمَّلَ بِالنُّبُوَّةِ. رَوَى عِكْرِمَةُ أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَاهُ يَا مَنْ تَزَمَّلَ، أَيْ زَمَلْت هَذَا الْأَمْرَ فَقُمْ بِهِ. [فَأَمَّا الْعُدُولُ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ فَلَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لَا سِيَّمَا وَفِيهِ خِلَافُ الظَّاهِرِ؛ وَإِذَا تَعَاضَدَتْ الْحَقِيقَةُ وَالظَّاهِرُ لَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهُ. وَأَمَّا قَوْلُ عِكْرِمَةَ: إنَّك زَمَلْت هَذَا الْأَمْرَ فَقُمْ بِهِ]؛ وَإِنَّمَا يَسُوغُ هَذَا التَّفْسِيرُ لَوْ كَانَتْ الْمِيمُ مَفْتُوحَةً مُشَدَّدَةً بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَأَمَّا وَهُوَ بِلَفْظِ الْفَاعِلِ فَهُوَ بَاطِلٌ.

[مسألة معنى الآية لغويا قم]

وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ زُمِّلَ بِالْقُرْآنِ فَهُوَ صَحِيحٌ فِي الْمَجَازِ، لَكِنَّهُ كَمَا قَدَّمْنَا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ، وَيَشْهَدُ لِمَعْنَاهُ حَدِيثٌ يُؤْثَرُ لَمْ يَصِحَّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: «إنَّ اللَّهَ قَدْ زَادَكُمْ صَلَاةً إلَى صَلَاتِكُمْ هَذِهِ وَهِيَ الْوِتْرُ، فَأَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ.» [مَسْأَلَة مَعْنَى الْآيَة لُغَوِيًّا قُمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْمَعْنَى وَهُوَ الْأَوَّلُ فِي الْقَوْلِ قَوْلُهُ: {قُمِ} [المزمل: 2] هُوَ فِعْلٌ لَا يَتَعَدَّى وَلَكِنَّهُ عَلَى أَصْلِ الْأَفْعَالِ الْقَاصِرَةِ فِي تَعَدِّيهِ إلَى الظُّرُوفِ، فَأَمَّا ظَرْفُ الزَّمَانِ فَسَائِغٌ فِيهِ، وَارِدٌ كَثِيرًا بِهِ يُقَالُ: قَامَ اللَّيْلَ، وَصَامَ النَّهَارَ، فَيَصِحُّ وَيُفِيدُ. وَأَمَّا ظَرْفُ الْمَكَانِ فَلَا يَصِلُ إلَيْهِ إلَّا بِوَاسِطَةٍ، لَا تَقُولُ: قُمْت الدَّارَ حَتَّى تَقُولَ وَسَطَ الدَّارِ وَخَارِجَ الدَّارِ. وَقَدْ قِيلَ قُمْ هَاهُنَا بِمَعْنَى صَلِّ؛ عَبَّرَ بِهِ عَنْهُ، وَاسْتُعِيرَ لَهُ عُرْفًا فِيهِ بِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى اللَّيْلَ] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ {اللَّيْلَ} [المزمل: 2] فَخَصَّهُ بِالذِّكْرِ. وَاخْتُلِفَ فِي وَجْهِ تَخْصِيصِهِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: خَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَشَقُّ. وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ وَقِيلَ: خَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ كَانَ فَرْضًا. فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَائِشَةَ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ: «قَالَ سَعْدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ: فَانْطَلَقْت إلَى عَائِشَةَ. فَقُلْت: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ؛ أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَتْ أَلَسْت تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْت: بَلَى. قَالَتْ: فَإِنَّ خُلُقَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ الْقُرْآنَ. قَالَ: فَهَمَمْت أَنْ أَقُومَ وَلَا أَسْأَلُ أَحَدًا عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أَمُوتَ. ثُمَّ قُلْت: أَنْبِئِينِي عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَتْ: أَلَسْت تَقْرَأُ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1]، قُلْت: بَلَى. قَالَتْ: فَإِنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ قِيَامَ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ حَوْلًا، وَأَمْسَكَ اللَّهُ خَاتِمَتَهَا اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا فِي السَّمَاءِ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ التَّخْفِيفَ، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ فَرِيضَتِهِ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. [مَسْأَلَة اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْمَكَانَ وَالزَّمَانَ سَعَةً لِلْإِنْسَانِ] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْمَكَانَ وَالزَّمَانَ سَعَةً لِلْإِنْسَانِ وَمَجَالًا لِلْعَمَلِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ:

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]، وَكَمَا أَنَّ الْعَمَلَ فِي الْآدَمِيِّ أَصْلٌ خِلْقِيٌّ، فَكَذَلِكَ الزَّمَانُ لِلسِّيَاحَةِ وَجْهٌ خِلْقِيٌّ أَيْضًا، لَكِنَّ الْحِكْمَةَ فِيهِ أَنْ يَقْدُمَ لِلدَّارِ الْأُخْرَى، وَيَعْتَمِدَ فِيهِ قَبْلَ الْعَمَلِ مَا هُوَ بِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَلَوْ عُمْرُهُ كُلُّهُ بِالشُّكْرِ وَالذِّكْرِ وَرُزِقَ عَلَى ذَلِكَ قُدْرَةَ مَا كَانَ قَضَاءً لِحَقِّ النِّعْمَةِ، فَوَضَعَهُ اللَّهُ أَوْقَاتًا لِلْعِبَادَةِ، وَأَوْقَاتًا لِلْعَادَةِ. فَالنَّهَارُ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: مِنْ الصُّبْحِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، مَحِلٌّ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ، وَهُوَ فُسْحَةٌ لِلْفَرِيضَةِ، فَإِنْ أُدِّيَتْ كَانَتْ فِيهِ مَحِلًّا لِلذِّكْرِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا صَلَّى الصُّبْحَ جَلَسَ فِي مُصَلَّاهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ [حِسًّا]، فَإِذَا طَلَعَتْ قَامَ إلَى وَظِيفَتِهِ الْآدَمِيَّةِ حَتَّى تَبْيَضَّ الشَّمْسُ، فَيَكُونَ هُنَالِكَ عِبَادَةً نَفْلِيَّةً يَمْتَدُّ وَقْتُهَا إلَى أَنْ تَجِدَ الْفِصَالُ حَرَّ الشَّمْسِ فِي الْأَرْضِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ إذَا رَمِضَتْ الْفِصَالُ». وَهُوَ أَيْضًا خِلْفَةٌ لِمَنْ نَامَ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ فَاتَهُ حِزْبُهُ مِنْ اللَّيْلِ فَصَلَّاهُ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الصُّبْحِ إلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَفُتْهُ وَهُوَ مَغْمُورٌ بِحَالِ الْمَعَاشِ». [قَالَ الْإِمَامُ]: كُنَّا بِثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة مُرَابِطِينَ أَيَّامًا، وَكَانَ فِي أَصْحَابِنَا رَجُلٌ حَدَّادٌ، وَكَانَ يُصَلِّي مَعَنَا الصُّبْحَ، وَيَذْكُرُ اللَّهَ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، ثُمَّ يَحْضُرَ حَلْقَةَ الذِّكْرِ، ثُمَّ يَقُومُ إلَى حِرْفَتِهِ، حَتَّى إذَا سَمِعَ النِّدَاءَ بِالظُّهْرِ رَمَى بِالْمِرْزَبَّةِ فِي أَثْنَاءِ الْعَمَلِ وَتَرَكَهُ، وَأَقْبَلَ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَجَاءَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى وَأَقَامَ فِي صَلَاةٍ أَوْ ذِكْرٍ حَتَّى يُصَلِّيَ الْعَصْرَ، ثُمَّ يَنْصَرِفَ إلَى مَنْزِلِهِ فِي مَعَاشِهِ، حَتَّى إذَا غَابَتْ الشَّمْسُ جَاءَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ عَادَ إلَى فِطْرِهِ، ثُمَّ يَأْتِي الْمَسْجِدَ فَيَرْكَعُ أَوْ يَسْمَعُ مَا يُقَالُ مِنْ الْعِلْمِ، حَتَّى إذَا صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ انْصَرَفَ إلَى مَنْزِلِهِ. وَهُوَ مَحَلٌّ لِلْقَائِلَةِ، وَهِيَ نَوْمُ النَّهَارِ الْمُعَيَّنِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ الْعِلْمِ. فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ حَانَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ، فَإِذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ حَانَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ، فَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ زَالَ النَّهَارُ بِوَظَائِفِهِ وَنَوَافِلِهِ.

[مسألة التهجد بالليل]

ثُمَّ يَدْخُلُ اللَّيْلُ فَتَكُونُ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ، وَكَانَ مَا بَعْدَهَا وَقْتًا لِلتَّطَوُّعِ، يُقَالُ إنَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16] وَإِنَّهُ الْمُرَادُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا} [المزمل: 6] ثُمَّ يَغِيبُ الشَّفَقُ فَتَدْخُلُ الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ، وَيَمْتَدُّ وَقْتُهَا إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ أَوْ ثُلُثِهِ، وَهُوَ مَحَلُّ النَّوْمِ إذَا صَلَّى الْعِشَاءَ [الْآخِرَةَ] إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ فَإِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ فَهُوَ وَقْتٌ لِقِيَامِ اللَّيْلِ. فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا جَلَّ وَعَلَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا إذَا ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ. فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ، حَتَّى إذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ فَهُوَ أَيْضًا وَقْتٌ لِلْقِيَامِ»، لِقَوْلِهِ: «إذَا بَقِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا» الْحَدِيثَ. وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ «إذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ»؟ وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ جَاءَ قَوْله تَعَالَى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} [المزمل: 2] {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا} [المزمل: 3] هُوَ إذَا بَقِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل: 4]: هُوَ إذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ، وَبِهَذَا التَّرْتِيبِ انْتَظَمَ الْحَدِيثُ وَالْقُرْآنُ فَإِنَّهُمَا يَنْظُرَانِ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ، حَتَّى إذَا بَقِيَ سُدُسُ اللَّيْلِ كَانَ مَحَلًّا لِلنَّوْمِ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَثَّ عَلَى سُنَنِ دَاوُد فِي صَوْمِهِ وَقِيَامِهِ، فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إنَّ دَاوُد كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، ثُمَّ يَطْلُعُ الْفَجْرُ فَتَعُودُ الْحَالَةُ الْأُولَى هَكَذَا أَبَدًا، ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَتَدْبِيرُ الْعَلِيِّ الْحَكِيمِ.» [مَسْأَلَة التَّهَجُّد بِاللَّيْلِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْلُهُ: {إِلا قَلِيلا} [المزمل: 2]: اسْتَثْنَى مِنْ اللَّيْلِ كُلِّهِ " قَلِيلًا " وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ عَلَى وَجْهِ كَلَامِهِ فِيهِ، وَهُوَ إحَالَةُ التَّكْلِيفِ عَلَى مَجْهُولٍ يُدْرَكُ عِلْمُهُ بِالِاجْتِهَادِ؛ إذْ لَوْ قَالَ: إلَّا ثُلُثَهُ، أَوْ رُبْعَهُ، أَوْ سُدُسَهُ، لَكَانَ بَيَانًا نَصًّا، فَلَمَّا قَالَ: {إِلا قَلِيلا} [المزمل: 2] وَكَانَ مُجْمَلًا لَا يُدْرَكُ إلَّا بِالِاجْتِهَادِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ أَدِلَّةِ التَّكْلِيفِ.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَهِيَ مِنْ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ قَوْلُهُ: {نِصْفَهُ} [المزمل: 3]. ذَكَرَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ أَنَّ قَوْلَهُ: {نِصْفَهُ} [المزمل: 3] دَلِيلٌ عَلَى اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ مِنْ الْجُمْلَةِ، وَإِنَّمَا يُفِيدُ اسْتِثْنَاءَ شَيْءٍ فَبَقِيَ مِثْلُهُ، وَالْمَطْلُوبُ اسْتِثْنَاءُ شَيْءٍ مِنْ الْجُمْلَةِ فَبَقِيَ أَقَلُّ مِنْهَا تَحْتَ اللَّفْظِ الْمُتَنَاوِلِ لِلْجَمِيعِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: {نِصْفَهُ} [المزمل: 3] بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: {اللَّيْلَ} [المزمل: 2]؛ كَأَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ قُمْ نِصْفَ اللَّيْلِ أَوْ اُنْقُصْ مِنْهُ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ يَسِيرًا، وَيُعَضِّدُهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحِ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ حَتَّى إذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ، «اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَامَ إلَى شَنٍّ مُعَلَّقٍ، فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا» ذَكَرَ أَوَّلَ الْحَدِيثِ وَآخِرَهُ. وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: {نِصْفَهُ} [المزمل: 3] بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: {قَلِيلا} [المزمل: 3] كَانَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: قُمْ اللَّيْلَ إلَّا نِصْفَهُ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِهِ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِهِ، وَيَكُونُ أَيْضًا اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ مِنْ مُتَنَاوِلِ الْجُمْلَةِ، وَإِذَا احْتَمَلَ الْوَجْهَيْنِ سَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، لَا سِيَّمَا وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَفِي الصَّحِيحِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِحَبْلٍ مُعَلَّقٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقِيلَ لَهُ: فُلَانَةُ تُصَلِّي لَا تَنَامُ اللَّيْلَ، فَإِذَا أُضْعِفَتْ تَعَلَّقَتْ بِهِ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اكْلَفُوا مِنْ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا.» وَقَدْ انْدَرَجَتْ الْآيَةُ الثَّالِثَةُ فِي هَذِهِ الْأَوْجُهِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا} [المزمل: 4] قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: مَعْنَاهُ بَيِّنٌ قِرَاءَتُهُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: ثَغْرٌ رَتِلٌ وَرَتَلٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا إذَا كَانَ مُفَلَّجًا لَا فَضَضَ فِيهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ بَعْضُهُ إثْرَ بَعْضٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَعْنَاهُ فَسَّرَهُ تَفْسِيرًا، يُرِيدُ تَفْسِيرَ الْقِرَاءَةِ، حَتَّى لَا يُسْرَعُ فِيهِ فَيَمْتَزِجَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ. وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِرَجُلٍ يَقْرَأُ آيَةً وَيَبْكِي، فَقَالَ: أَلَمْ تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا} [المزمل: 4]؛ هَذَا التَّرْتِيلُ» وَسَمِعَ رَجُلٌ عَلْقَمَةَ يَقْرَأُ قِرَاءَةً حَسَنَةً، فَقَالَ: رَتِّلْ الْقُرْآنَ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي. وَقَدْ رَوَى أَنَسٌ «أَنَّ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَمُدُّ صَوْتَهُ مَدًّا». وَقَدْ تَقَدَّمَ تَمَامُ هَذَا.

[الآية الرابعة قوله تعالى إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا]

[الْآيَةُ الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْك قَوْلًا ثَقِيلًا] } [المزمل: 5] فِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا ثِقَلُهُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ كَانَ يُلْقِيهِ الْمَلَكُ إلَيْهِ، وَقَدْ «سُئِلَ كَيْفَ يَأْتِيك الْوَحْيُ؟ فَقَالَ: أَحْيَانًا يَأْتِينِي الْمَلَكُ مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيُفْصِمُ عَنِّي، وَقَدْ وَعَيْت مَا قَالَ». وَقَدْ كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَتَفَصَّدُ جَبِينُهُ عَرَقًا. الثَّانِي: ثِقَلُ الْعَمَلِ بِهِ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمَا. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وَجَاءَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بُعِثْت بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ». وَقَدْ قِيلَ: أَرَادَ ثِقَلَهُ فِي الْمِيزَانِ. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ، فَتُلْقِي بِجِرَانِهَا عَلَى الْأَرْضِ، فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُسَرِّيَ عَنْهُ» وَهَذَا يُعَضِّدُ ثِقَلَ الْحَقِيقَةِ. [الْآيَةُ الْخَامِسَة قَوْله تَعَالَى إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا] } [المزمل: 6]: فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} [المزمل: 6]، فَاعِلَةٌ مِنْ قَوْلِك: نَشَأَ يَنْشَأُ، فَهُوَ نَاشِئٌ، وَنَشَأَتْ تَنْشَأُ فَهِيَ نَاشِئَةٌ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18] وَقَالَ الْعُلَمَاءُ بِالْأَثَرِ: إذَا نَشَأَتْ بَحْرِيَّةً، ثُمَّ تَشَاءَمَتْ فَتِلْكَ عَيْنُ غُدَيْقَةَ

[مسألة قراءة قوله تعالى أشد وطئا]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعْيِينِهَا عَلَى أَقْوَالٍ، جُمْلَتُهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، مِنْهُمْ ابْنُ عُمَرَ، إشَارَةً إلَى أَنَّ لَفْظَ نَشَأَ يُعْطِي الِابْتِدَاءَ، فَهُوَ بِالْأَوَّلِيَّةِ أَحَقُّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَلَوْلَا أَنْ يُقَالَ صَبَا نُصَيْبٌ ... لَقُلْت بِنَفْسِي النَّشَأُ الصِّغَارُ الثَّانِي: أَنَّهُ اللَّيْلُ كُلُّهُ؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَهُوَ الَّذِي يُعْطِيهِ اللَّفْظُ، وَتَقْتَضِيهِ اللُّغَةُ. [مَسْأَلَة قِرَاءَة قَوْله تَعَالَى أَشَدُّ وَطْئًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ {أَشَدُّ وَطْئًا} [المزمل: 6]: قُرِئَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَإِسْكَانِ الطَّاءِ فَمِمَّنْ قَرَأَهُ كَذَلِكَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَالْكُوفِيُّونَ وَقُرِئَ بِكَسْرِ الطَّاءِ مَمْدُودًا، وَمِمَّنْ قَرَأَهُ كَذَلِكَ أَهْلُ الشَّامِ وَأَبُو عَمْرٍو فَأَمَّا مَنْ قَرَأَهُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَإِسْكَانِ الطَّاءِ فَإِنَّهُ أَشَارَ إلَى ثِقَلِهِ عَلَى النَّفْسِ لِسُكُونِهَا إلَى الرَّاحَةِ فِي اللَّيْلِ وَغَلَبَةِ النَّوْمِ فِيهِ عَلَى الْمَرْءِ. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَهُ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ فَإِنَّهُ مِنْ الْمُوَاطَأَةِ وَهِيَ الْمُوَافَقَةُ؛ لِأَنَّهُ يَتَوَافَقُ فِيهِ السَّمْعُ لِعَدَمِ الْأَصْوَاتِ، وَالْبَصَرُ لِعَدَمِ الْمَرْئِيَّاتِ، وَالْقَلْبُ لِفَقْدِ الْخَطَرَاتِ. قَالَ مَالِكٌ: أَقْوَمُ قِيلًا: هُدُوًّا مِنْ الْقَلْبِ وَفَرَاغًا لَهُ. وَالْمَعْنَيَانِ فِيهِ صَحِيحَانِ؛ لِأَنَّهُ يَثْقُلُ عَلَى الْعَبْدِ وَأَنَّهُ الْمُوَافِقُ لِلْقَصْدِ. [الْآيَة السَّادِسَة قَوْله تَعَالَى إنَّ لَك فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا] } [المزمل: 7] فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: مَعْنَاهُ اضْطِرَابًا وَمَعَاشًا وَتَصَرُّفًا، سَبَّحَ يُسَبِّحُ: إذَا تَصَرَّفَ

[مسألة نوم القائلة الذي يستريح به العبد من قيام الليل]

وَاضْطَرَبَ، وَمِنْهُ سِبَاحَةُ الْمَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33] يُعْنَى يَجْرُونَ. وَقَالَ: {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} [النازعات: 3]؛ قِيلَ: الْمَلَائِكَةُ تُسَبِّحُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَيْ تَجْرِي وَقِيلَ: هِيَ السُّفُنُ: أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ تَخْرُجُ بِسُهُولَةٍ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مَعْنَاهُ فَرَاغًا طَوِيلًا؛ وَسَاعَدَهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. فَأَمَّا حَقِيقَةُ (س ب ح) فَالتَّصَرُّفُ وَالِاضْطِرَابُ؛ فَأَمَّا الْفَرَاغُ فَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ تَفَرُّغَهُ لِأَشْغَالِهِ وَحَوَائِجِهِ عَنْ وَظَائِفَ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ؛ فَأَحَدُ التَّفْسِيرَيْنِ لَفْظِيٌّ وَالْآخَرُ مَعْنَوِيٌّ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قُرِئَ سَبْخًا بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَمَعْنَاهُ رَاحَةً وَقِيلَ نَوْمًا. وَالتَّسْبِيخُ: النَّوْمُ الشَّدِيدُ، يُقَالُ سَبَّخَ، أَيْ نَامَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَسَبَّحَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ: أَيْ تَصَرَّفَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ «سَمِعَ عَائِشَةَ تَدْعُو عَلَى سَارِقٍ، فَقَالَ: لَا تُسَبِّخِي عَنْهُ بِدُعَائِك»، أَيْ لَا تُخَفِّفِي عَنْهُ، فَإِنَّ السَّارِقَ أَخَذَ مَالَهَا، وَهِيَ أَخَذَتْ مِنْ عِرْضِهِ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْمُقَاصَّةُ كَانَ تَخْفِيفًا مِمَّا لَهَا عَلَيْهِ مِنْ حَقِّ السَّرِقَةِ. وَيُعَضِّدُهُ قَوْله تَعَالَى فِي الْأَثَرِ: «مَنْ دَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ فَقَدْ انْتَصَرَ» وَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ اللَّيْلَ عِوَضُ النَّهَارِ، وَكَذَلِكَ النَّهَارُ عِوَضُ اللَّيْلِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62] [مَسْأَلَة نَوْمِ الْقَائِلَةِ الَّذِي يَسْتَرِيحُ بِهِ الْعَبْدُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى نَوْمِ الْقَائِلَةِ الَّذِي يَسْتَرِيحُ بِهِ الْعَبْدُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي الْعِلْمِ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ فِي حَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ: فَقَدْ كَانَ يُصَلِّي إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَرُوِيَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُوتِرُ مِنْهَا بِخَمْسٍ لَا يَجْلِسُ إلَّا فِي آخِرِهَا.

[الآية السابعة قوله تعالى واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا]

وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْعِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ، وَيُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ تِسْعًا مِنْهَا الْوِتْرُ، وَكَانَ يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَيُحْيِي آخِرَهُ، وَمَا أَلْفَاهُ السَّحَرُ إلَّا عِنْدَ أَهْلِهِ قَائِمًا وَكَانَ يُوتِرُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ حَتَّى انْتَهَى وِتْرُهُ إلَى السَّحَرِ، وَمَا قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ قَطُّ فِي لَيْلَةٍ، وَلَا صَلَّى لَيْلَةً إلَى الصُّبْحِ، وَكَانَ إذَا فَاتَهُ قِيَامُ اللَّيْلِ مِنْ وَجَعٍ أَوْ غَيْرِهِ صَلَّى مِنْ النَّهَارِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَكَانَ يَقُولُ: «الْوِتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ» وَيَقُولُ: «أَوْتِرُوا قَبْلَ أَنْ تُصْبِحُوا» وَقَالَ «صَلَاةُ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ» وَذَلِكَ أَفْضَلُ وَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ فِي الصَّحِيحِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْجَمْعَ بَيْنَ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي عَدَدِ صَلَاتِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَهِيَ كَانَتْ وَظِيفَتَهُ الدَّائِمَةَ، وَكَانَ يَفْتَتِحُ صَلَاةَ اللَّيْلِ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، فَهَذِهِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً. وَكَانَ يُصَلِّي إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَهَذَا تَأْوِيلُ قَوْلِ مَنْ رَوَى أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي خَمْسَ عَشْرَةَ رَكْعَةً. وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي تِسْعَ رَكَعَاتٍ فِيهَا الْوِتْرُ» وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ حِينَ ضَعُفَ وَأَسَنَّ وَحَطَّمَهُ الْبَأْسُ، أَوْ كَانَ لِأَلَمٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة السَّابِعَة قَوْله تَعَالَى وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّك وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا] } [المزمل: 8]: فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي مَعْنَى التَّبَتُّلِ، وَهُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ التَّفَرُّدُ؛ قَالَهُ ابْنُ عَرَفَةَ " وَقَالَ غَيْرُهُ وَهُوَ الْأَقْوَى: هُوَ الْقَطْعُ، يُقَالُ: بَتَلَ إذَا قَطَعَ، وَتَبَتَّلَ إذَا كَانَ الْقَطْعُ فِي نَفْسِهِ، فَلِذَلِكَ قَالُوا: إنَّ مَعْنَى الْآيَةِ انْفَرِدْ لِلَّهِ، وَصَدَقَةٌ بَتْلَةٌ، أَيْ مُنْقَطِعَةٌ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ. وَفِي حَدِيثِ سَعْدٍ: «رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِيهِ لَاخْتَصَيْنَا» يَعْنِي الِانْقِطَاعَ عَنْ النِّسَاءِ،

وَفِي الْأَثَرِ: لَا رَهْبَانِيَّةَ وَلَا تَبَتُّلَ فِي الْإِسْلَامِ، وَمِنْهُ مَرْيَمُ الْعَذْرَاءُ الْبَتُولُ، أَيْ الَّتِي انْقَطَعَتْ عَنْ الرِّجَالِ، وَتُسَمَّى فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَتُولَ، لِانْقِطَاعِهَا عَنْ نِسَاءِ زَمَانِهَا فِي الْفَضْلِ وَالدِّينِ وَالنَّسَبِ وَالْحَسَبِ. وَهَذَا قَوْلٌ أَحْدَثَتْهُ الشِّيعَةُ، وَإِلَّا فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي التَّفْضِيلِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ عَائِشَةَ، وَلَيْسَتْ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمُهِمَّةِ، وَكِلْتَاهُمَا مِنْ الدِّينِ وَالْجَلَالِ فِي الْغَايَةِ الْقُصْوَى، وَرَبُّك أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَفْضَلُ وَأَعْلَى. وَقَدْ أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ وَشَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [تَفْسِيرُ] قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] حَالُ الدِّينِ فِي الْكَرَاهِيَةِ لِمَنْ تَبَتَّلَ فِيهِ، وَانْقَطَعَ، وَسَلَكَ سَبِيلَ الرَّهْبَانِيَّةِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ، وَأَمَّا الْيَوْمُ وَقَدْ مَرِجَتْ عُهُودُ النَّاسِ، وَخَفَّتْ أَمَانَاتُهُمْ، وَاسْتَوْلَى الْحَرَامُ عَلَى الْحُطَامِ، فَالْعُزْلَةُ خَيْرٌ مِنْ الْخُلْطَةِ، وَالْعُزْبَةُ أَفْضَلُ مِنْ التَّأَهُّلِ، وَلَكِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: انْقَطَعَ عَنْ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ، وَعَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ أَخْلِصْ لَهُ الْعِبَادَةَ، وَلَمْ يُرِدْ [انْقَطِعْ عَنْ النَّاسِ وَالنِّسَاءِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ لِأَجْلِ مَا رُوِيَ مِنْ «نَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ] التَّبَتُّلِ» فَصَارَ التَّبَتُّلُ مَأْمُورًا بِهِ فِي الْقُرْآنِ، مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي السُّنَّةِ؛ وَمُتَعَلِّقُ الْأَمْرِ غَيْرُ مُتَعَلِّقِ النَّهْيِ؛ إذْ لَا يَتَنَاقَضَانِ، وَإِنَّمَا بُعِثَ النَّبِيُّ لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ، فَالتَّبَتُّلُ الْمَأْمُورُ بِهِ الِانْقِطَاعُ إلَى اللَّهِ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ، كَمَا قَالَ: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] وَالتَّبَتُّلُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ سُلُوكُ مَسْلَكِ النَّصَارَى فِي تَرْكِ النِّكَاحِ وَالتَّرَهُّبُ فِي الصَّوَامِعِ، لَكِنْ عِنْدَ فَسَادِ الزَّمَانِ يَكُونُ خَيْرُ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمًا يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ.

[الآية الثامنة قوله تعالى واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا]

[الْآيَة الثَّامِنَة قَوْله تَعَالَى وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا] } [المزمل: 10]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ، وَكُلُّ مَنْسُوخٍ لَا فَائِدَةَ لِمَعْرِفَةِ مَعْنَاهُ، لَا سِيَّمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ [إلَّا] عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَرْءَ إذَا غُلِبَ بِالْبَاطِلِ كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ الْكُفَّارِ حِينَ غَلَبُوهُ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فَأَمَّا الصَّبْرُ عَلَى مَا يَقُولُونَ فَمَعْلُومٌ. وَأَمَّا الْهَجْرُ الْجَمِيلُ فَهُوَ الَّذِي لَا فُحْشَ فِيهِ. وَقِيلَ: هُوَ السَّلَامُ عَلَيْهِمْ. وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ مُجَرَّدُ الْإِعْرَاضِ. [الْآيَة التَّاسِعَة قَوْله تَعَالَى إنَّ رَبَّك يَعْلَمُ أَنَّك تَقُومُ] ُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20]. فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى} [المزمل: 20] الْآيَةَ. هَذَا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} [المزمل: 2] {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا} [المزمل: 3] {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل: 4] كَمَا قَدَّمْنَا. {وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} [المزمل: 20]: رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1] {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} [المزمل: 2] قَامُوا حَتَّى تَوَرَّمَتْ أَقْدَامُهُمْ، فَخَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ. هَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ، وَابْنِ

[مسألة معنى قوله تعالى والله يقدر الليل والنهار]

عَبَّاسٍ، لَكِنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِآخِرِ السُّورَةِ، وَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَاَللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [المزمل: 20]؛ يَعْنِي يُقَدِّرُهُ لِلْعِبَادَاتِ؛ فَإِنَّ تَقْدِيرَ الْخِلْقَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ، وَإِنَّمَا يَرْبِطُ اللَّهُ بِهِ مَا شَاءَ مِنْ وَظَائِفِ التَّكْلِيفِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} [المزمل: 20] يَعْنِي تُطِيقُوهُ. اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ الْبَارِئَ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ فِي عِبَادِهِ بِمَا شَاءَ، وَيُكَلِّفَهُمْ فَوْقَ الطَّوْقِ، فَقَدْ تَفَضَّلَ بِأَنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ. وَمَا لَا يُطَاقُ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَلَّا يُطَاقَ جِنْسُهُ أَيْ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ قُدْرَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقُدْرَةَ لَمْ تُخْلَقْ لَهُ، وَإِنْ كَانَ جِنْسُهُ مَقْدُورًا؛ كَتَكْلِيفِ الْقَائِمِ الْقُعُودَ أَوْ الْقَاعِدِ الْقِيَامَ؛ وَهَذَا الضَّرْبُ قَدْ يُغَلَّبُ إذَا تَكَرَّرَ بِقِيَامِ اللَّيْلِ مِنْهُ، فَإِنَّهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْقُدْرَةُ، فَإِنَّهُ يُغَلَّبُ بِالتَّكْرَارِ وَالْمَشَقَّةِ، كَغَلَبَةِ خَمْسِينَ صَلَاةٍ لَوْ كَانَتْ مَفْرُوضَةً، كَمَا أَنَّ الِاثْنَيْنِ وَالْعِشْرِينَ رَكْعَةً الْمُوَظَّفَةَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ الْفَرْضِ وَالسُّنَّةِ تَغْلِبُ الْخَلْقَ، فَلَا يَفْعَلُونَهَا، وَإِنَّمَا يَقُومُ بِهَا الْفُحُولُ فِي الشَّرِيعَةِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَتَابَ عَلَيْكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل: 20]؛ أَيْ رَجَعَ عَلَيْكُمْ بِالْفَرَاغِ الَّذِي كُنْتُمْ فِيهِ مِنْ تَكْلِيفِهَا لَكُمْ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ آخِرَ السُّورَةِ هِيَ الَّتِي نَسَخَتْهَا، كَمَا رَوَتْ عَائِشَةُ فِي الصَّحِيحِ، كَمَا نَقَلَهُ الْمُفَسِّرُونَ عَنْهَا. [مَسْأَلَة الْمُرَاد مِنْ قَوْله تَعَالَى فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْلُهُ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَفْسُ الْقِرَاءَةِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الصَّلَاةُ، عَبَّرَ عَنْهَا بِالْقِرَاءَةِ؛ لِأَنَّهَا فِيهَا، كَمَا قَالَ: {وَقُرْآنَ

[مسألة معنى قوله تعالى علم أن سيكون منكم مرضى]

الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ عَنْ الصَّلَاةِ أَخْبَرَ، وَإِلَيْهَا رَجَعَ الْقَوْلُ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَوْلُهُ: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل: 20]: بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عِلَّةَ التَّخْفِيفِ بِأَنَّ الْخَلْقَ مِنْهُمْ الْمَرِيضُ، وَمِنْهُمْ الْمُسَافِرُ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، وَمِنْهُمْ الْغَازِي، وَهَؤُلَاءِ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ الْقِيَامُ؛ فَخَفَّفَ اللَّهُ عَنْ الْكُلِّ لِأَجْلِ هَؤُلَاءِ. وَقَدْ بَيَّنَّا حِكْمَةَ الشَّرِيعَةِ فِي أَمْثَالِ هَذَا الْمَقْصِدِ. [مَسْأَلَة فَرْضَ قِيَامِ اللَّيْلِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ قَوْلُهُ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20]: مَعْنَاهُ صَلُّوا مَا أَمْكَنَ؛ وَلَمْ يُفَسِّرْهُ. وَلِهَذَا قَالَ قَوْمٌ: إنَّ فَرْضَ قِيَامِ اللَّيْلِ بَقِيَ فِي رَكْعَتَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ؛ قَالَهُ الْبُخَارِيُّ، وَغَيْرُهُ، وَعَقَدَ بَابَ: «يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ الرَّأْسِ إذَا لَمْ يُصَلِّ بِاللَّيْلِ» وَذَكَرَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: «يَعْقِدُ قَافِيَةَ رَأْسِ أَحَدِكُمْ ثَلَاثَ عُقَدٍ يَضْرِبُ مَكَانَ كُلِّ عُقْدَةٍ عَلَيْك لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ. فَإِنْ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ؛ فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ؛ وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ». وَذَكَرَ حَدِيثَ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الرُّؤْيَا: قَالَ: أَمَّا الَّذِي يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ، فَإِنَّهُ الَّذِي يَأْخُذُ الْقُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ وَيَنَامُ عَنْ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ»، وَحَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ نَامَ اللَّيْلَ إلَى الصَّبَاحِ؛ فَقَالَ: ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ». وَهَذِهِ كُلُّهَا أَحَادِيثُ مُقْتَضِيَةٌ حَمْلَ مُطْلَقِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَكْتُوبَةِ، فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، لِاحْتِمَالِهِ لَهُ، وَتَسْقُطُ الدَّعْوَى مِمَّنْ عَيَّنَهُ لِقِيَامِ اللَّيْلِ. وَفِي الصَّحِيحِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ: «قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا عَبْدَ اللَّهِ، لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ؛ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ». وَلَوْ كَانَ فَرْضًا مَا أَقَرَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَخْبَرَ بِمِثْلِ هَذَا الْخَبَرِ عَنْهُ، بَلْ كَانَ يَذُمُّهُ غَايَةَ الذَّمِّ.

[مسألة تعيين القراءة في الصلاة]

وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا رَأَى رُؤْيَا قَصَّهَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَمَنَّيْت أَنْ أَرَى رُؤْيَا فَأَقُصُّهَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكُنْت غُلَامًا عَزَبًا شَابًّا، وَكُنْت أَنَامُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَأَيْت فِي النَّوْمِ كَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَخَذَانِي، فَذَهَبَا بِي إلَى النَّارِ، فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ كَطَيِّ الْبِئْرِ، وَإِذَا لَهَا قَرْنَانِ، وَإِذَا فِيهَا نَاسٌ قَدْ عَرَفْتهمْ، فَجَعَلْت أَقُولُ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ النَّارِ. قَالَ: وَلَقِيَنَا مَلَكٌ آخَرُ، فَقَالَ لِي: لَمْ تُرَعْ؛ فَقَصَصْتهَا عَلَى حَفْصَةَ، فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ، لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ. فَكَانَ بَعْدُ لَا يَنَامُ مِنْ اللَّيْلِ إلَّا قَلِيلًا»، وَلَوْ كَانَ تَرْكُ الْقِيَامِ مَعْصِيَةً لَمَا قَالَ لَهُ الْمَلَكُ: لَمْ تُرَعْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة تَعْيِينِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ] . الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ تَعَلَّقَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْيِينِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] فَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ آيَةٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ ثَلَاثُ آيَاتٍ؛ لِأَنَّهَا أَقَلُّ سُورَةٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِرَاءَةِ هَاهُنَا الصَّلَاةُ؛ وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا التَّقْدِيرُ، وَيُتَصَوَّرُ الْخِلَافُ فِي «قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلرَّجُلِ الَّذِي عَلَّمَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ، وَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ. وَقَالَ لَهُ: اقْرَأْ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، وَمَا تَيَسَّرَ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ» وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ لِبَابِهِ لِأَنَّا لَوْ قُلْنَا: إنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْقِرَاءَةُ لَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ عَيَّنَ هَذَا الْمُبْهَمَ بِقَوْلِهِ: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» خَرَّجَهُ الشَّيْخَانِ. وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَؤُهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، فَقَدْ اعْتَضَدَ الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ. جَوَابٌ آخَرُ وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا قَصَدَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ التَّخْفِيفَ عَنْ الرَّجُلِ، فَقَالَ لَهُ: «اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ» أَيْ مَا حَفِظْت. وَقَدْ ظَنَّ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ فَحْلُ الْحَنَفِيَّةِ الْأَهْدَرُ وَمُنَاضِلُهَا الْأَقْدَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] مَعَ زِيَادَةِ الْفَاتِحَةِ عَلَيْهِ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ، وَنَسْخُ الْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ، أَوْ بِخَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَمَهَّدَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.

وَأَجَابَ عُلَمَاؤُنَا بِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ لَا تَكُونُ نَسْخًا، وَقَدْ قَرَرْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَهُوَ مَذْهَبٌ ضَعِيفٌ جِدًّا. قَالَ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ: الصَّلَاةُ تَثْبُتُ بِالتَّوَاتُرِ، فَأَرْكَانُهَا يَجِبُ أَنْ تَثْبُتَ بِمِثْلِهِ، فَنَأْمُرُهُ بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، لِخَبَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ بِتَرْكِهَا، لِئَلَّا تَثْبُتَ الْأَرْكَانُ بِمَا لَمْ يَثْبُتْ بِهِ الْأَصْلُ. قُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ دَعْوَى. وَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى ثُبُوتِ أَرْكَانِ الْبَيْعِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَبِالْقِيَاسِ؛ وَأَصْلُ الْبَيْعِ ثَابِتٌ بِالْقُرْآنِ، وَهَذَا بَعْضُ مَا قَرَّرْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، فَلْيُنْظَرْ مَا بَقِيَ مِنْ الْقَوْلِ هُنَالِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ قَوْلُهُ: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [المزمل: 20]. الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ قَوْلُهُ: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [المزمل: 20] وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُمَا [الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَوْلُهُ: {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [المزمل: 20] وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ]

[سورة المدثر فيها أربع آيات]

[سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ فِيهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى يَأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى رَوَى الْعَدْلُ فِي الصَّحِيحِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: سَأَلْت أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1]. قُلْت: إنَّهُمْ يَقُولُونَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]. فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: سَأَلْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ، وَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ الَّذِي قُلْتَ، فَقَالَ جَابِرٌ: لَا أُحَدِّثُك إلَّا مَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «جَاوَرْت بِحِرَاءٍ، فَلَمَّا قَضَيْت جِوَارِي هَبَطْت فَنُودِيتُ، فَنَظَرْت عَنْ يَمِينِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَرَفَعْت رَأْسِي فَرَأَيْت شَيْئًا، فَأَتَيْت خَدِيجَةَ، فَقُلْت: دَثِّرُونِي وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا. قَالَ: فَدَثَّرُونِي وَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا، فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] {قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 2] {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5] {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 7]» وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إنَّهُ جَرَى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عُقْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ أَمْرٌ، فَرَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ مَغْمُومًا، فَتَلَفَّفَ وَاضْطَجَعَ، فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1]. وَهَذَا بَاطِلٌ. وَقِيلَ: أَرَادَ يَا مَنْ تَدَثَّرَ بِالنُّبُوَّةِ. وَهَذَا مَجَازٌ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا إلَّا بَعْدُ، عَلَى أَنَّهَا أَوَّلُ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَكُنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ ثَانِي مَا نَزَلَ.

[الآية الثانية قوله تعالى وربك فكبر]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ هَذِهِ مُلَاطَفَةٌ مِنْ الْكَرِيمِ إلَى الْحَبِيبِ؛ نَادَاهُ بِحَالِهِ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِصِفَتِهِ. وَمِثْلُهُ «قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قُمْ أَبَا تُرَابٍ»، إذْ خَرَجَ مُغَاضِبًا لِفَاطِمَةَ، وَنَامَ فِي الْمَسْجِدِ فَسَقَطَ رِدَاؤُهُ وَأَصَابَهُ تُرَابُهُ. «وَقَوْلُهُ لِحُذَيْفَةَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ: قُمْ يَا نَوْمَانُ». [الْآيَةُ الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى وَرَبَّك فَكَبِّرْ] ْ} [المدثر: 3] فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى التَّكْبِيرُ هُوَ التَّعْظِيمُ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْأَمَدِ الْأَقْصَى، وَمَعْنَاهُ ذِكْرُ اللَّهِ بِأَعْظَمَ صِفَاتِهِ بِالْقَلْبِ، وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِاللِّسَانِ، بِأَقْصَى غَايَاتِ الْمَدْحِ وَالْبَيَانِ، وَالْخُضُوعُ [لَهُ] بِغَايَةِ الْعِبَادَةِ كَالسُّجُودِ لَهُ ذِلَّةً وَخُضُوعًا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ هَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ يَقْتَضِي بِعُمُومِهِ تَكْبِيرَ الصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ مُرَادٌ بِهِ التَّكْبِيرُ وَالتَّقْدِيسُ، وَالتَّنْزِيهِ بِخَلْعِ الْأَنْدَادِ وَالْأَصْنَامِ دُونَهُ، وَلَا تَتَّخِذْ وَلِيًّا غَيْرَهُ، وَلَا تَعْبُدْ وَلَا تَرَى لِغَيْرِهِ فِعْلًا إلَّا لَهُ، وَلَا نِعْمَةً إلَّا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ صَلَاةً عِنْدَ نُزُولِهَا، وَإِنَّمَا كَانَ ابْتِدَاءَ التَّوْحِيدِ. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ: اُعْلُ هُبَلُ، اُعْلُ هُبَلُ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قُولُوا لَهُ: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ» وَقَدْ صَارَ هَذَا اللَّفْظُ بِعُرْفِ الشَّرْعِ فِي تَكْبِيرِ الْعِبَادَاتِ كُلِّهَا أَذَانًا وَصَلَاةً وَذِكْرًا، بِقَوْلِهِ: " اللَّهُ أَكْبَرُ " وَحُمِلَ عَلَيْهِ لَفْظُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَارِدُ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي مَوَارِدِهَا، مِنْهَا قَوْلُهُ: «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» وَالشَّرْعُ يَقْتَضِي بِعُرْفِهِ مَا يَقْتَضِي بِعُمُومِهِ. وَمِنْ مَوَارِدِهِ أَوْقَاتُ الْإِهْلَالِ بِالذَّبَائِحِ لِلَّهِ تَخْلِيصًا لَهُ مِنْ الشِّرْكِ، وَإِعْلَانًا بِاسْمِهِ فِي النُّسُكِ، وَإِفْرَادًا لِمَا شُرِعَ لِأَمْرِهِ بِالسَّفْكِ.

[الآية الثالثة قوله تعالى وثيابك فطهر]

[الْآيَة الثَّالِثَة قَوْله تَعَالَى وَثِيَابَك فَطَهِّرْ] ْ} [المدثر: 4] فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَرَادَ نَفْسَك فَطَهِّرْ، وَالنَّفْسُ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالثِّيَابِ [كَمَا] قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: وَإِنْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكِ مِنَى خَلِيقَةٌ ... فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِك تَنْسُلِي الثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الثِّيَابُ الْمَلْبُوسَةُ، فَتَكُونُ حَقِيقَةً، وَيَكُونُ [التَّأْوِيلُ] الْأَوَّلُ مَجَازًا. وَاَلَّذِي يَقُولُ: إنَّهَا الثِّيَابُ الْمَجَازِيَّةُ أَكْثَرُ. رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا يُعْجِبُنِي أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ إلَّا فِي الصَّلَاةِ وَالْمَسَاجِدِ، لَا فِي الطَّرِيقِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] يُرِيدُ مَالِكٌ أَنَّهُ كَنَّى بِالثِّيَابِ عَنْ الدِّينِ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] أَيْ لَا تَلْبَسْهَا عَلَى غَدْرَةٍ. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ مُسْنَدًا إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَثِيرًا مَا تَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ قَالَ أَبُو كَبْشَةَ: ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طَهَارَى نَقِيَّةٌ ... وَأَوْجُهُهُمْ عِنْدَ الْمَشَاعِرِ غُرَّانُ يَعْنِي بِطَهَارَةِ ثِيَابِهِمْ سَلَامَتَهُمْ مِنْ الدَّنَاءَاتِ، وَيَعْنِي بِغُرَّةِ وُجُوهِهِمْ تَنْزِيهَهُمْ عَنْ الْحُرُمَاتِ، أَوْ جَمَالَهُمْ فِي الْخِلْقَةِ، أَوْ كِلَيْهِمَا. وَقَدْ قَالَ غَيْلَانُ بْنُ سَلَمَةَ الثَّقَفِيُّ: فَإِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لَا ثَوْبَ غَادِرٍ ... لَبِسْت وَلَا مِنْ غَدْرَةٍ أَتَقَنَّعُ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ أَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ عَلَى عُمُومِ الْمُرَادِ فِيهَا بِالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَإِذَا حَمَلْنَاهَا عَلَى الثِّيَابِ الْمَعْلُومَةِ [الظَّاهِرَةِ] فَهِيَ تَتَنَاوَلُ مَعْنَيَيْنِ:

[الآية الرابعة قوله تعالى ولا تمنن تستكثر]

أَحَدُهُمَا تَقْصِيرُ الْأَذْيَالِ، فَإِنَّهَا إذَا أُرْسِلَتْ تَدَنَّسَتْ؛ وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِغُلَامٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَقَدْ رَأَى ذَيْلَهُ مُسْتَرْخِيًا: يَا غُلَامُ، ارْفَعْ إزَارَك، فَإِنَّهُ أَتْقَى وَأَنْقَى وَأَبْقَى. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحِ: «إزْرَةُ الْمُؤْمِنِ إلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَيْنِ، وَمَا كَانَ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَفِي النَّارِ»؛ فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْغَايَةَ فِي لِبَاسِ الْإِزَارِ الْكَعْبَ، وَتَوَعَّدَ مَا تَحْتَهُ بِالنَّارِ؛ فَمَا بَالُ رِجَالٍ يُرْسِلُونَ أَذْيَالَهُمْ، وَيُطِيلُونَ ثِيَابَهُمْ، ثُمَّ يَتَكَلَّفُونَ رَفْعَهَا بِأَيْدِيهِمْ. وَهَذِهِ حَالَةُ الْكِبْرِ وَقَائِدَةُ الْعُجْبِ، وَأَشَدُّ مَا فِي الْأَمْرِ أَنَّهُمْ يَعْصِمُونَ وَيَحْتَجُّونَ، وَيُلْحِقُونَ أَنْفُسَهُمْ بِمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ مَعَهُ غَيْرَهُ، وَلَا أَلْحَقَ بِهِ سِوَاهُ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ لِمَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ». وَلَفْظُ الصَّحِيحِ: «مَنْ جَرَّ إزَارَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنَّ أَحَدَ شِقَّيْ إزَارِي يَسْتَرْخِي، إلَّا أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَسْت مِمَّنْ يَصْنَعُهُ خُيَلَاءَ». فَعَمَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[بِالنَّهْيِ]، وَاسْتَثْنَى أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، فَأَرَادَ الْأَدْنِيَاءُ إلْحَاقَ أَنْفُسِهِمْ بالأَقْصِياءِ؛ وَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُمْ. وَالْمَعْنَى الثَّانِي: غَسْلُهَا مِنْ النَّجَاسَةِ؛ وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْهَا صَحِيحٌ فِيهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِصَحِيحِ الدَّلَائِلِ، وَلَا نُطَوِّلُ بِإِعَادَتِهِ، وَقَدْ أَشَارَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ إلَى أَنَّ مَعْنَاهُ وَأَهْلَك فَطَهِّرْ؛ وَهَذَا جَائِزٌ، فَإِنَّهُ قَدْ يُعَبَّرُ عَنْ الْأَهْلِ بِالثِّيَابِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] [الْآيَةُ الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرْ] ُ} [المدثر: 6] فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهَا سِتَّةَ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ لَا تُعْطِ عَطِيَّةً فَتَطْلُبُ أَكْثَرَ مِنْهَا؛ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ الثَّانِي: لَا تُعْطِ الْأَغْنِيَاءَ عَطِيَّةً لِتُصِيبَ مِنْهُمْ أَضْعَافَهَا.

الثَّالِثُ: لَا تُعْطِ عَطِيَّةً تَنْتَظِرُ ثَوَابَهَا. الرَّابِعُ: وَلَا تَمْنُنْ بِالنُّبُوَّةِ عَلَى النَّاسِ تَأْخُذُ أَجْرًا مِنْهُمْ عَلَيْهَا. الْخَامِسُ: لَا تَمْنُنْ بِعَمَلِك [تَسْتَكْثِرُهُ] عَلَى رَبِّك؛ قَالَهُ الْحَسَنُ السَّادِسُ لَا تَضْعُفْ عَنْ الْخَيْرِ أَنْ تَسْتَكْثِرَ مِنْهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ هَذِهِ الْأَقْوَالُ يَتَقَارَبُ بَعْضُهَا، وَهِيَ الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ؛ فَأَمَّا قَوْلُهُ: " لَا تُعْطِ عَطِيَّةً فَتَطْلُبُ أَكْثَرَ مِنْهَا " فَهَذَا لَا يَلِيقُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَا يُنَاسِبُ مَرْتَبَتَهُ. وَقَدْ قَالَ: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الروم: 39] عَلَى مَا بَيَّنَّا مَعْنَاهُ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ، وَيُثِيبُ عَلَيْهَا». وَفِي الصَّحِيحِ فِي الْحَدِيثِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ دُعِيت إلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْت، وَلَوْ أُهْدِيَ إلَيَّ ذِرَاعٌ لَقَبِلْت». وَلَفْظُهُ مُخْتَلِفٌ فَكَانَ يَقْبَلُهَا سُنَّةً، وَلَا يَسْتَكْثِرُهَا شِرْعَةً؛ وَإِذَا كَانَ لَا يُعْطِي عَطِيَّةً يَسْتَكْثِرُ بِهَا فَالْأَغْنِيَاءُ أَوْلَى بِالِاجْتِنَابِ، لِأَنَّهَا بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْمَذَلَّةِ؛ وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ مَعْنَاهُ لَا تُعْطِ عَطِيَّةً تَنْتَظِرُ ثَوَابَهَا؛ فَإِنَّ الِانْتِظَارَ تَعَلَّقَ بِالْإِطْمَاعِ؛ وَذَلِكَ فِي حَيِّزِهِ بِحُكْمِ الِامْتِنَاعِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131]. وَذَلِكَ جَائِزٌ لِسَائِرِ الْخَلْقِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَطَلَبِ الْكَسْبِ فِيهَا وَالتَّكَاثُرِ مِنْهَا. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: أَرَادَ بِهِ الْعَمَلَ، أَيْ لَا تَسْتَكْثِرْ بِهِ عَلَى رَبِّك فَهُوَ صَحِيحٌ؛ فَإِنَّ ابْنَ آدَمَ لَوْ أَطَاعَ اللَّهَ عُمْرَهُ مِنْ غَيْرِ فُتُورٍ لَمَا بَلَغَ لِنِعَمِ اللَّهِ بَعْضَ الشُّكْرِ. وَهَذَا كُلُّهُ بُنِيَ عَلَى أَصْلٍ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: {تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] قَدْ وَرَدَتْ الْقِرَاءَاتُ بِالرِّوَايَاتِ فِيهِ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ. وَرُوِيَ بِضَمِّ الرَّاءِ، فَإِذَا أَسْكَنْت الرَّاءَ كَانَتْ جَوَابًا لِلْأَمْرِ بِالتَّقَلُّلِ، فَيَكُونُ الْأَوَّلُ الثَّانِيَ. وَإِنْ ضَمَمْت الرَّاءَ كَانَ الْفِعْلُ بِتَقْدِيرِ الِاسْمِ، وَكَانَ بِمَعْنَى الْحَالِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تَمْنُنْ مُسْتَكْثِرًا، وَكَانَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ، وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ وَهِيَ:

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَهُوَ الْقَوْلُ فِي تَحْقِيقِ الْمَنِّ؛ وَهُوَ يَنْطَلِقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْعَطَاءُ. وَالثَّانِي التَّعْدَادُ عَلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ بِالنِّعَمِ، فَيَرْجِعُ إلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَيُعَضِّدُهُ قَوْله تَعَالَى: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة: 264] وَقَوْلُهُ: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصلت: 8] وَيُعَضِّدُ الثَّانِيَ قَوْلُهُ: {فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص: 39] وَقَوْلُهُ: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4]. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا أَحَدٌ أَمَنُّ عَلَيْنَا مِنْ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ». وَالْآيَةُ تَتَنَاوَلُ الْمَعْنَيَيْنِ كِلَيْهِمَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[سورة القيامة فيها أربع آيات]

[سُورَةُ الْقِيَامَةِ فِيهَا أَرْبَع آيَات] [الْآيَةُ الْأُولَى بَلْ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: 14] {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 15]: فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ إقْرَارِ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ مِنْهُ عَلَيْهَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 24]. وَلَا خِلَافَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عَلَى وَجْهٍ تَنْتَفِي التُّهْمَةُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَكْذِبُ عَلَى نَفْسِهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81] وَقَالَ تَعَالَى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102]. وَهُوَ فِي الْآثَارِ كَثِيرٌ؛ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا؛ فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ لَا يَصِحُّ إقْرَارٌ إلَّا مِنْ مُكَلَّفٍ لَكِنْ بِشَرْطِ أَلَّا يَكُونَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ

يُسْقِطُ قَوْلَهُ إذَا كَانَ لِحَقِّ نَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ لِحَقِّ غَيْرِهِ كَالْمَرِيضِ كَانَ مِنْهُ سَاقِطٌ وَمِنْهُ جَائِزٌ، وَبَيَانُهُ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ. وَلِلْعَبْدِ حَالَتَانِ فِي الْإِقْرَارِ إحْدَاهُمَا فِي ابْتِدَائِهِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ. وَالثَّانِيَةُ فِي انْتِهَائِهِ، وَذَلِكَ مِثْلُ إبْهَامِ الْإِقْرَارِ وَلَهُ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ. وَأُمَّهَاتُهَا سِتٌّ: الصُّورَةُ الْأُولَى أَنْ يَقُولَ لَهُ: عِنْدِي شَيْءٌ؛ قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْ فَسَّرَهُ بِتَمْرَةٍ أَوْ كِسْرَةٍ قُبِلَ مِنْهُ. وَاَلَّذِي تَقْتَضِيهِ أُصُولُنَا أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ إلَّا فِيمَا لَهُ قَدْرٌ، فَإِذَا فَسَّرَهُ بِهِ قُبِلَ مِنْهُ، وَحَلَفَ عَلَيْهِ. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يُفَسِّرَهَا بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، وَمَا لَا يَكُونُ مَالًا فِي الشَّرِيعَةِ، لَمْ يُقْبَلْ بِاتِّفَاقٍ، وَلَوْ سَاعَدَهُ عَلَيْهِ الْمُقَرُّ لَهُ. الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ يُفَسِّرَهُ بِمُخْتَلَفٍ فِيهِ، مِثْلُ جِلْدِ الْمَيْتَةِ، أَوْ سِرْجِينٍ، أَوْ كَلْبٍ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَحْكُمُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ بِمَا يَرَاهُ مِنْ رَدٍّ وَإِمْضَاءٍ، فَإِنْ رَدَّهُ لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ حَاكِمٌ آخَرُ غَيْرُهُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ نَفَذَ بِإِبْطَالِهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: يَلْزَمُ الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ، وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا قَالَ لَهُ: عَلَيَّ شَيْءٌ لَمْ يُقْبَلْ تَفْسِيرُهُ إلَّا بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ بِنَفْسِهِ إلَّا هُمَا. وَهَذَا ضَعِيفٌ، فَإِنَّ غَيْرَهُمَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ؛ إذْ وَجَبَ ذَلِكَ إجْمَاعًا. الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ إذَا قَالَ لَهُ: " عِنْدِي مَالٌ " قُبِلَ تَفْسِيرُهُ بِمَا يَكُونُ مَالًا فِي الْعَادَةِ، كَالدِّرْهَمِ وَالدِّرْهَمَيْنِ، مَا لَمْ يَجِئْ مِنْ قَرِينَةِ الْحَالِ مَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِأَكْثَرَ مِنْهُ. الصُّورَةُ الْخَامِسَةُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: عِنْدِي مَالٌ كَثِيرٌ أَوْ عَظِيمٌ. فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْبَلُ فِي الْحَبَّةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْبَلُ إلَّا فِي نِصَابِ الزَّكَاةِ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا

[مسألة معنى قوله تعالى ولو ألقى معاذيره]

مُخْتَلِفَةً، مِنْهَا نِصَابُ السَّرِقَةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالدِّيَةِ. وَأَقَلُّهُ عِنْدِي نِصَابُ السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبَانُ عُضْوُ الْمُسْلِمِ إلَّا فِي عَظِيمٍ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ. وَمَنْ تَعَجَّبَ فَيَتَعَجَّبُ لِقَوْلِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ: إنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِي أَقَلَّ مِنْ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا، وَقِيلَ لَهُ: وَمِنْ أَيْنَ تَقُولُ ذَلِكَ؟ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} [التوبة: 25]. وَغَزَوَاتُهُ وَسَرَايَاهُ كَانَتْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ حُنَيْنًا مِنْهَا، فَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ: يُقْبَلُ فِي وَاحِدٍ وَسَبْعِينَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41] وَقَالَ: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} [النساء: 114] وَقَالَ: {وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 68]. الصُّورَةُ السَّادِسَةُ إذَا قَالَ لَهُ: عَلَى عَشْرَةٍ أَوْ مِائَةٍ أَوْ أَلْفٍ، فَإِنَّهُ يُفَسِّرُهَا بِمَا شَاءَ وَيُقْبَلُ مِنْهُ، فَإِنْ قَالَ: أَلْفُ دِرْهَمٍ، أَوْ مِائَةُ عَبْدٍ، أَوْ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا فَإِنَّهُ تَفْسِيرُ مُبْهَمٍ، وَيُقْبَلُ مِنْهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ عَطَفَ عَلَى الْعَدَدِ الْمُبْهَمِ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا كَانَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ الدِّرْهَمَ تَفْسِيرٌ لِلْخَمْسِينَ، وَالْخَمْسِينَ تَفْسِيرٌ لِلْمِائَةِ. وَقَالَ ابْنُ خَيْرَانَ وَالْإِصْطَخْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: إنَّ الدِّرْهَمَ لَا يَكُونُ تَفْسِيرًا فِي الْمِائَةِ وَالْخَمْسِينَ إلَّا لِلْخَمْسِينَ خَاصَّةً، وَيُفَسِّرُ هُوَ الْمِائَةَ بِمَا شَاءَ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ تَحْقِيقَ ذَلِكَ، وَيَتَرَكَّبُ عَلَى هَذِهِ الصُّوَرِ مَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً، وَهَذِهِ أُصُولُهَا. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 15]: مَعْنَاهُ لَوْ اعْتَذَرَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ رَجَعَ بَعْدَ مَا أَقَرَّ فِي الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ؛ فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يُقْبَلُ رُجُوعُهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ. وَقَالَ بِهِ مَالِكٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَقَالَ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ: لَا يُقْبَلُ إلَّا أَنْ يَذْكُرَ لِرُجُوعِهِ وَجْهًا صَحِيحًا وَالصَّحِيحُ جَوَازُ الرُّجُوعِ مُطْلَقًا؛ لِمَا رَوَى الْأَئِمَّةُ، مِنْهُمْ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّ الْمُقِرَّ بِالزِّنَا مِرَارًا أَرْبَعًا، كُلَّ مَرَّةٍ يُعْرِضُ عَنْهُ. وَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ

[مسألة معنى قوله تعالى ولو ألقي معاذيره]

دَعَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: أَبِك جُنُونٌ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَحْصَنْت؟ قَالَ: نَعَمْ». وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ: «لَعَلَّك قَبَّلْت أَوْ غَمَزْت أَوْ نَظَرْت». وَفِي النَّسَائِيّ، وَأَبِي دَاوُد: «حَتَّى قَالَ لَهُ فِي الْخَامِسَةِ: أَنِكْتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: حَتَّى غَابَ ذَلِكَ مِنْك فِي ذَلِكَ مِنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ فِي الْمُكْحُلَةِ وَالرِّشَاءُ فِي الْبِئْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ. ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا الزِّنَا؟ قَالَ، أَتَيْت مِنْهَا حَرَامًا مِثْلَ مَا يَأْتِي الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ حَلَالًا. قَالَ: فَمَا تُرِيدُ مِنِّي بِهَذَا الْقَوْلِ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي؟ قَالَ: فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُد: «فَلَمَّا وَجَدَ مَسَّ الْحِجَارَةِ فَرَّ يَشْتَدُّ فَضَرَبَهُ رَجُلٌ بِلَحْيِ جَمَلٍ، وَضَرَبَهُ النَّاسُ حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ» قَالَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ: تَثَبَّتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَّا لِتَرْكِ حَدٍّ فَلَا، وَهَذَا كُلُّهُ طَرِيقٌ لِلرُّجُوعِ، وَتَصْرِيحٌ بِقَبُولِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: لَعَلَّك غَمَزْت، إشَارَةٌ إلَى قَوْلِ مَالِكٍ: إنَّهُ يُقْبَلُ رُجُوعُهُ إذَا ذَكَرَ فِيهَا وَجْهًا. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَلَوْ ألقي مَعَاذِيرَهُ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إنَّ مَعْنَى: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 15] أَيْ سُتُورَهُ، بِلُغَةِ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَاحِدُهَا مِعْذَارٌ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: وَاحِدُهَا مَعْذِرَةٌ. الْمَعْنَى أَنَّهُ إذَا اعْتَذَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَنْكَرَ الشِّرْكَ، لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ، وَيُخْتَمُ عَلَى فَمِهِ، فَتَشْهَدُ عَلَيْهِ جَوَارِحُهُ، وَيُقَالُ لَهُ: كَفَى بِنَفْسِك الْيَوْمَ عَلَيْك حَسِيبًا. [مَسْأَلَة إقْرَار الْعَبْد] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَهَذَا فِي الْحُرِّ الْمَالِكِ لِأَمْرِ نَفْسِهِ. وَأَمَّا الْعَبْدُ فَإِنَّ إقْرَارَهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ قِسْمَيْنِ: إمَّا أَنْ يُقِرَّ عَلَى بَدَنِهِ، أَوْ عَلَى مَا فِي يَدِهِ وَذِمَّتِهِ؛ فَإِنْ أَقَرَّ عَلَى بَدَنِهِ فِيمَا فِيهِ عُقُوبَةٌ مِنْ الْقَتْلِ فَمَا دُونَهُ نَفَذَ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ، لِأَنَّ بَدَنَهُ مُسْتَرَقٌّ بِحَقِّ السَّيِّدِ. وَفِي إقْرَارِهِ إتْلَافُ حُقُوقِ السَّيِّدِ فِي بَدَنِهِ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ

[مسألة معنى قوله تعالى بل الإنسان على نفسه بصيرة]

الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسَتْرِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ». الْمَعْنَى أَنَّ مَحِلَّ الْعُقُوبَةِ أَصْلُ الْخِلْقَةِ وَهِيَ الدُّمْيَةُ فِي الْآدَمِيَّةِ، وَلَا حَقَّ لِلسَّيِّدِ فِيهَا، وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي الْوَصْفِ وَالتَّبَعِ، وَهِيَ الْمَالِيَّةُ الطَّارِئَةُ عَلَيْهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِمَالٍ لَمْ يُقْبَلْ، حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّهُ لَوْ قَالَ: سَرَقْت هَذِهِ السِّلْعَةَ إنَّهُ تُقْطَعُ يَدُهُ وَيَأْخُذُهَا الْمُقَرُّ لَهُ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: السِّلْعَةُ لِلسَّيِّدِ، وَيُتْبَعُ الْعَبْدُ بِقِيمَتِهَا إذَا عَتَقَ؛ لِأَنَّ مَالَ الْعَبْدِ لِلسَّيِّدِ إجْمَاعًا، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ، وَلَا إقْرَارُهُ عَلَيْهِ، لَا سِيَّمَا وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: إنَّ الْعَبْدَ لَا مِلْكَ لَهُ وَنَحْنُ وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ يَصِحُّ تَمَلُّكُهُ، وَلَكِنَّ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ لِسَيِّدِهِ بِإِجْمَاعٍ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى بَلْ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَقَدْ قِيلَ: إنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: 14]؛ أَيْ عَلَيْهِ مَنْ يُبْصِرُ أَعْمَالَهُ، وَيُحْصِيهَا، وَهُمْ الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ؛ وَهَذِهِ كُلُّهَا مَقَاصِدُ مُحْتَمِلَةٌ لِلَّفْظِ، أَقْوَاهَا مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَك لِتَعْجَلَ بِهِ] ِ} [القيامة: 16]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16] قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَالِجُ مِنْ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ بِهِ شَفَتَيْهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَرِّكُهُمَا. وَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا رَأَيْت ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16] {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 17] قَالَ: جَمْعُهُ لَك فِي صَدْرِك وَتَقْرَؤُهُ. {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18]. قَالَ: فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ. {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19]: ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَقْرَأَهُ. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ذَلِكَ إذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا أَقْرَأَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ هَذَا يُعَضِّدُ مَا تَقَدَّمَ: فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ مِنْ قَوْلِهِ {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا} [المزمل: 4] حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. وَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُتَلَقِّنَ مِنْ حُكْمِهِ الْأَوْكَدِ أَنْ يُصْغِيَ إلَى الْمُلَقِّنِ بِقَلْبِهِ، وَلَا يَسْتَعِينُ بِلِسَانِهِ، فَيَشْتَرِك الْفَهْمُ بَيْنَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، فَيَذْهَبُ رُوحُ التَّحْصِيلِ بَيْنَهُمَا، وَيَخْزِلُ اللِّسَانَ بِتَجَرُّدِ الْقَلْبِ لِلْفَهْمِ؛ فَيَتَيَسَّرُ التَّحْصِيلُ؛ وَتَحْرِيكُ اللِّسَانِ يُجَرِّدُ الْقَلْبَ عَنْ الْفَهْمِ، فَيَتَعَسَّرُ التَّحْصِيلُ بِعَادَةِ اللَّهِ الَّتِي يَسَّرَهَا؛ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ عَادَةً فَيَتَحَقَّقُ لِذِي مُشَاهَدَةٍ. قَالَ الْإِمَامُ: كُنْت أَحْضُرُ عِنْدَ الْحَاسِبِ بِتِلْكَ الدِّيَارِ الْمُكَرَّمَةِ، وَهُوَ يَجْعَلُ الْأَعْدَادَ عَلَى الْمُتَعَلِّمِينَ الْحَاسِبِينَ، وَأَفْوَاهُهُمْ مَمْلُوءَةٌ مِنْ الْمَاءِ، حَتَّى إذَا انْتَهَى إلْقَاؤُهُ، وَقَالَ: مَا مَعَكُمْ رَمَى كُلُّ وَاحِدٍ بِمَا فِي فَمِهِ، وَقَالَ مَا مَعَهُ لِيُعَوِّدَهُمْ خَزْلَ اللِّسَانِ عَنْ تَحْصِيلِ الْمَفْهُومِ عَنْ الْمَسْمُوعِ. وَلِلْقَوْلِ فِي التَّعَلُّمِ سِيرَةٌ بَدِيعَةٌ؛ وَهِيَ أَنَّ الصَّغِيرَ مِنْهُمْ إذَا عَقَلَ بَعَثُوهُ إلَى الْمَكْتَبِ، فَإِذَا عَبَرَ الْمَكْتَبَ أَخَذَهُ بِتَعْلِيمِ الْخَطِّ وَالْحِسَابِ وَالْعَرَبِيَّةِ، فَإِذَا حَذَقَهُ كُلَّهُ أَوْ حَذَقَ مِنْهُ مَا قُدِّرَ لَهُ خَرَجَ إلَى الْمُقْرِئِ فَلَقَّنَهُ كِتَابَ اللَّهِ، فَحَفِظَ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ رُبْعَ حِزْبٍ، أَوْ نِصْفَهُ، أَوْ حِزْبًا، حَتَّى إذَا حَفِظَ الْقُرْآنَ خَرَجَ إلَى مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ تَعْلِيمِ الْعِلْمِ أَوْ تَرْكِهِ. وَمِنْهُمْ وَهُمْ الْأَكْثَرُ مَنْ يُؤَخِّرُ حِفْظَ الْقُرْآنِ، وَيَتَعَلَّمُ الْفِقْهَ وَالْحَدِيثَ، وَمَا شَاءَ اللَّهُ فَرُبَّمَا كَانَ إمَامًا، وَهُوَ لَا يَحْفَظُهُ، وَمَا رَأَيْت بِعَيْنِي إمَامًا يَحْفَظُ الْقُرْآنَ، وَلَا رَأَيْت فَقِيهًا يَحْفَظُهُ إلَّا اثْنَيْنِ، ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ الْمَقْصُودَ حُدُودُهُ لَا حُرُوفُهُ؛ وَعُلِّقَتْ الْقُلُوبُ الْيَوْمَ بِالْحُرُوفِ، وَضَيَّعُوا الْحُدُودَ، خِلَافًا لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنَّهُ إنْفَاذٌ لِقَدَرِ اللَّهِ، وَتَحْقِيقٌ لِوَعْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَبْيِينٌ لِنُبُوَّتِهِ، وَعَضُدٌ لِمُعْجِزَتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الْبَارِي سُبْحَانَهُ يَجْمَعُ الْقُرْآنَ فِي قَلْبِ الرَّسُولِ تَيْسِيرًا لِلتَّبْلِيغِ، وَيَجْمَعُهُ فِي قَلْبِ غَيْرِهِ؛ تَيْسِيرًا لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ شِفَاءً لِمَا يَعْرِضُ فِي الصُّدُورِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَمًى

[الآية الثالثة قوله تعالى ألم يك نطفة من مني يمنى]

فِي الْأَبْصَارِ وَالْبَصَائِرِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِلْمِ بِهِ رَيْنٌ، فَيَبْقَى تَالِيًا، وَلَا يَجْعَلُ لَهُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ ثَانِيًا، وَهُوَ أَخَفُّهُ حَالًا وَأَسْلَمُهُ مَآلًا، وَقَدْ حَقَّقَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ وَعْدَهُ بِقَوْلِهِ: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى: 6]؛ وَهُوَ خَبَرٌ، وَلَيْسَ بِأَمْرٍ مَعْنَوِيٍّ لِثُبُوتِ الْيَاءِ فِي الْخَطِّ إجْمَاعًا، وَلَيْسَ يَنْبَغِي بَعْدَ هَذَا تَأْوِيلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ. وَفِي الصَّحِيحِ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُعَارِضُهُ جِبْرِيلُ الْقُرْآنَ مَرَّةً فِي كُلِّ شَهْرِ رَمَضَانَ، حَتَّى كَانَ الْعَامُ الَّذِي قَبَضَهُ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ عَارَضَهُ مَرَّتَيْنِ؛ فَفَطِنَ لِتَأْكِيدِ الْحِفْظِ وَالْجَمْعِ عِنْدَهُ، وَقَالَ: مَا أَرَاهُ إلَّا قَدْ حَضَرَ أَجَلِي» إذْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ بَعْثِهِ إلَى الْخَلْقِ تَبْلِيغُ الْأَحْكَامِ وَتَمْهِيدُ الشَّرْعِ، ثُمَّ يَسْتَأْثِرُ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْخَلْقِ، وَيَظْهَرُهُ بِرَفْعِهِ إلَيْهِ عَنْهُمْ، وَيَنْفُذُ بَعْدَ ذَلِكَ حُكْمُهُ فِيهِمْ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ انْتَهَى النَّظَرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْمٍ مِنْ الرُّفَعَاءِ مِنْهُمْ قَتَادَةُ إلَى أَنْ يَقُولُوا فِي قَوْلِهِ {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] أَيْ تَفْصِيلَ أَحْكَامِهِ، وَتَمْيِيزَ حَلَالِهِ مِنْ حَرَامِهِ، حَتَّى قَالَ حِينَ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ: إنَّ مِنْهُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ مَسَاقُ الْآيَةِ فَلَا يَنْفِيهِ عُمُومُهَا، وَنَحْنُ لَا نَرَى تَخْصِيصَ الْعُمُومِ بِالسَّبَبِ وَلَا بِالْأَوْلَى مِنْ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ، وَلَا بِالْمَسَاقِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. [الْآيَة الثَّالِثَة قَوْله تَعَالَى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى] } [القيامة: 37] {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} [القيامة: 38]: فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ: وَهِيَ مَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَكُونُ الْوَلَدُ مِنْ أَحْوَالِ التَّخْلِيقِ وَلَدًا: مِنْ النُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ؛ وَهَذِهِ الْآيَةُ بِظَاهِرِهَا تَقْتَضِي أَنَّ الْمَرْتَبَةَ الثَّالِثَةَ بَعْدَ الْعَلَقَةِ [وَتَكُونُ] خَلْقًا مُسَوًّى، فَتَكُونُ بِهِ الْمَرْأَةُ أُمَّ وَلَدٍ، وَيَكُونُ الْمَوْضُوعُ سِقْطًا، وَقَدْ

[الآية الرابعة قوله تعالى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى]

حَقَّقْنَا ذَلِكَ وَاخْتِلَافَ النَّاسِ فِيهِ كَمَا سَبَقَ، وَهَذِهِ التَّسْوِيَةُ أَوَّلُهَا ابْتِدَاءُ الْخِلْقَةِ، وَآخِرُهَا اسْتِكْمَالُ الْقُوَّةِ، وَالْكُلُّ مُرَادٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى] } [القيامة: 39]: وَقَدْ احْتَجَّ بِهَذَا مَنْ رَأَى إسْقَاطَ الْخُنْثَى، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الشُّورَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَقَرِينَتَهَا إنَّمَا خَرَجَتَا مَخْرَجَ الْغَالِبِ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ هُنَا لَك، فَلْيَجْتَزِئْ بِهِ اللَّبِيبُ فَإِنَّهُ وَفَّى بِالْمَقْصُودِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

[سورة الدهر فيها ست آيات]

[سُورَةُ الدَّهْرِ فِيهَا سِتُّ آيَاتٍ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنْ الدَّهْر] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1]. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْحِينِ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ، فَلْيُنْظَرْ فِي سُورَةِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى إنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ] ِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 2]. بِمَعْنَى أَخْلَاطٍ. مَاءُ الرَّجُلِ غَلِيظٌ أَبْيَضُ، وَمَاءُ الْمَرْأَةِ رَقِيقٌ أَصْفَرُ، فَيَجْمَعُهُمَا الْمَلَكُ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَتَنْقُلُهُمَا الْقُدْرَةُ مِنْ تَطْوِيرٍ إلَى تَطْوِيرٍ، حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَى مَا دَبَّرَهُ مِنْ التَّقْدِيرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا] } [الإنسان: 7] فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7]: فِيهِ أَقْوَالٌ، لُبَابُهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا يُوفُونَ بِمَا افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ.

[مسألة النذر مكروه]

الثَّانِي: يُوفُونَ [بِمَا اعْتَقَدُوهُ وَ] بِمَا عَقَدُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَلَا ثَنَاءَ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا كَمَا أَنَّهُ لَا فِعْلَ أَفْضَلُ مِنْهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَلْزَمَ عَبْدَهُ وَظَائِفَ، وَرُبَّمَا جَهِلَ الْعَبْدُ عَجْزَهُ عَنْ الْقِيَامِ بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَنْذُرُ عَلَى نَفْسِهِ نَذْرًا، فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ أَيْضًا، فَإِذَا قَامَ بِحَقِّ الْأَمْرَيْنِ؛ وَخَرَجَ عَنْ وَاجِبِ النَّذْرَيْنِ كَانَ لَهُ مِنْ الْجَزَاءِ مَا وَصَفَ اللَّهُ فِي آخِرِ السُّورَةِ. وَعَلَى عُمُومِ الْأَمْرَيْنِ كُلُّ ذَلِكَ حَمَلَهُ مَالِكٌ، وَرَوَى عَنْهُ أَشْهَبُ أَنَّهُ قَالَ: " يُوفُونَ بِالنَّذْرِ " هُوَ نَذْرُ الْعِتْقِ، وَالصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ. وَرَوَى عَنْهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ قَالَ: النَّذْرُ هُوَ الْيَمِينُ. [مَسْأَلَة النَّذْرُ مَكْرُوهٌ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ النَّذْرُ مَكْرُوهٌ بِالْجُمْلَةِ؛ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَأْتِي النَّذْرُ عَلَى ابْنِ آدَمَ بِشَيْءٍ لَمْ أَكُنْ قَدَّرْته لَهُ؛ إنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ» وَذَلِكَ لِفِقْهٍ صَحِيحٍ؛ وَهُوَ أَنَّ الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَعَدَ بِالرِّزْقِ عَلَى الْعَمَلِ؛ وَمِنْهُ مَفْرُوضٌ، وَمِنْهُ مَنْدُوبٌ، فَإِذَا عَيَّنَ الْعَبْدُ لِيَسْتَدِرَّ بِهِ الرِّزْقَ، أَوْ يَسْتَجْلِبَ بِهِ الْخَيْرَ، أَوْ يَسْتَدْفِعَ بِهِ الشَّرَّ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ بِهِ، فَإِنْ وَصَلَ فَهُوَ لِبُخْلِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا] } [الإنسان: 8]: فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ} [الإنسان: 8] تَنْبِيهٌ عَلَى الْمُوَاسَاةِ؛ وَمِنْ أَفْضَلِ الْمُوَاسَاةِ وَضْعُهَا فِي هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ؟ قَالَ:

[الآية الخامسة قوله تعالى واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا]

تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتُقْرِئُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْت وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ» وَهَذَا فِي الْفَضْلِ لَا فِي الْفَرْضِ مِنْ الزَّكَاةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: {عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8]. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ: {مِسْكِينًا} [الإنسان: 8]. الْمِسْكِينُ قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَهَذَا مِثَالُهُ مَا رُوِيَ فِي شَأْنِ الْأَنْصَارِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَا قِصَّتَهُ فِي سُورَةِ الْحَشْرِ، عِنْدَ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] فَهَذَا هُوَ ذَلِكَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ: {وَيَتِيمًا} [الإنسان: 8]. وَإِنَّمَا أَكَّدَ بِالْيَتِيمِ؛ لِأَنَّهُ مِسْكِينٌ مَضْعُوفٌ بِالْوَحْدَةِ وَعَدَمِ الْكَافِلِ مَعَ عَجْزِ الصِّغَرِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]. وَفِي إطْعَامِهِ ثَوَابٌ عَظِيمٌ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَإِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُهُ. وَقَدْ تَعَيَّنَ بِالْعَهْدِ إطْعَامُهُ، وَلَكِنْ مِنْ الْفَضْلِ فِي الصَّدَقَةِ، لَا مِنْ الْأَصْلِ فِي الزَّكَاةِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمَسْجُونُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْحَقَّ قَدْ حَبَسَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ وَأَسَرَهُ فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِ، فَقَدْ صَارَ لَهُ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُطْلَقِ حَقٌّ زَائِدٌ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَنْعِ [عَنْ التَّمَحُّلِ فِي] الْمَعَاشِ أَوْ التَّصَرُّفِ فِي الطَّلَبِ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا خَلَصَتْ فِيهِ النِّيَّةُ لِلَّهِ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ دُونَ تَوَقُّعِ مُكَافَأَةٍ، أَوْ شُكْرٍ مِنْ الْمُعْطِي، فَإِذَا لَمْ يُشْكَرْ فَسَخِطَ الْمُعْطِي يَحْبَطُ ثَوَابُهُ. [الْآيَة الْخَامِسَة قَوْله تَعَالَى وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّك بُكْرَةً وَأَصِيلًا] } [الإنسان: 25].

[الآية السادسة قوله تعالى ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا]

فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ الْبُكْرَةُ وَقْتٌ مِنْ أَوْقَاتِ النَّهَارِ، وَهُوَ أَوَّلُهُ، وَمِنْهُ بَاكُورَةُ الْفَاكِهَةِ. وَالْأَصِيلُ: هُوَ الْعَشِيُّ. وَهَذِهِ الْإِشَارَةُ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَصَلَاةِ الْعَصْرِ؛ وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى ذَلِكَ، وَأَنَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ»، وَمَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَلَّا تُغْلَبُوا عَنْ صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا وَقَرَأَ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130]». وَقَدْ قَسَّمَ أَرْبَابُ اللُّغَةِ سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَسَاعَاتِ النَّهَارِ عَلَى تَفَاصِيلَ وَأَسْمَاءٍ عُرْفِيَّةٍ فِي اللُّغَةِ، وَمُؤَلِّفُوهَا مُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ؛ لَكِنَّ الْغُدُوَّ وَالْعَشِيَّ وَالظَّهِيرَةَ مِنْ أُمَّهَاتِ ذَلِكَ الَّذِي لَا كَلَامَ فِيهِ. وَالضُّحَى يَلْحَقُ بِهِ وَالْإِشْرَاقُ مِثْلُهُ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ مَعْنَاهُ وَكَبِّرْ، فَكَانَ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا بَعْدَ الصُّبْحِ وَثَلَاثًا بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَلَا يَصِحُّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة السَّادِسَة قَوْله تَعَالَى وَمِنْ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا] } [الإنسان: 26] هَذِهِ الْآيَةُ مُحْتَمِلَةٌ لِلْفَرْضِ؛ وَهُوَ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، فَإِنَّهُمَا وَقْتَانِ مِنْ أَوْقَاتِ الْمُصَلَّى، وَصَلَاتُهُمَا مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا} [الإنسان: 26] فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا خِطَابًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْدَهُ، فَيَبْقَى الْأَمْرُ بِهِ عَلَيْهِ مُفْرَدًا، وَالْوُجُوبُ يَلْزَمُ لَهُ خَاصَّةً. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُرَادُ بِهِ الْجَمِيعُ، ثُمَّ نُسِخَ عَنَّا، وَبَقِيَ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ؛ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.

[سورة المرسلات فيها ثلاث آيات]

[سُورَة الْمُرْسَلَاتِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا] ٍ] وَهِيَ مِنْ غَرَائِبِ الْقُرْآنِ عَلَى مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ؛ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَحْتَ الْأَرْضِ. وَرَوَى الصَّحِيحَانِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَارٍ، فَنَزَلَتْ: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} [المرسلات: 1] فَإِنَّا لَنَتَلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ رَطْبَةً إذْ خَرَجَتْ حَيَّةٌ مِنْ جُحْرِهَا، فَابْتَدَرْنَاهَا لِنَقْتُلَهَا، فَسَبَقَتْنَا فَدَخَلَتْ جُحْرَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا.» الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات: 25]: فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْكِفَاتُ: الضَّمُّ وَالْجَمْعُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ، يُقَالُ: كَفَتَهُ يَكْفِتُهُ كَفْتًا وَكِفَاتًا مِثْلُ كَتَبَ يَكْتُبُ كَتْبًا وَكِتَابًا، أَيْ يَجْمَعُهُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، وَكُلُّ شَيْءٍ ضَمَمْته فَقَدْ كَفَتَّهُ، فَإِذَا حَلَّ الْعَبْدُ فِي مَوْضِعِهِ فَهُوَ كِفَاتُهُ، وَهُوَ مَنْزِلُهُ، وَهُوَ دَارُهُ، وَهُوَ حِرْزُهُ، وَهُوَ حَرِيمُهُ، وَهُوَ حِمَاهُ، كَانَ يَقْظَانَ أَوْ نَائِمًا. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ «صَفْوَانَ قَالَ: كُنْت نَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ عَلَى خَمِيصَةٍ لِي بِثَمَنِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا؛ فَجَاءَ رَجُلٌ فَاخْتَلَسَهَا مِنِّي، فَأَخَذَ الرَّجُلَ، فَأَتَى بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَ بِهِ لِيُقْطَعَ قَالَ: فَقُلْت لَهُ: أَتَقْطَعُهُ مِنْ أَجْلِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، أَنَا أَبِيعُهُ إيَّاهَا، وَأُنْسِئُهُ ثَمَنَهَا. قَالَ: هَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ، فَكَانَتْ نَفْسُهُ حِيَازَةَ مَوْضِعِهِ وَحِرْزِهِ وَحَرِيمِهِ وَمَنَعَتِهِ وَحِصْنِهِ.»

[مسألة قوله تعالى ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا]

[مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات: 25] {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 26] يَقْتَضِي أَنْ يُدْفَنَ فِيهَا الْمَيِّتُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ كُلِّهَا مِنْ شَعْرٍ، وَظُفْرٍ، وَثِيَابٍ، وَمَا يُوَارِيهِ عَلَى التَّمَامِ، وَمَا اتَّصَلَ بِهِ وَمَا بَانَ عَنْهُ، وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ مِنْ الْمَسَائِلِ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ احْتَجَّ عُلَمَاؤُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي قَطْعِ النَّبَّاشِ لِأَنَّهُ سَرَقَ مِنْ حِرْزٍ مَكْفُوتٍ، وَحِمًى مَضْمُومٍ، وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَقَرَّرْنَا أَنْ يُنْظَرَ فِي دُخُولِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنْ نَقُولَ: هَذَا حِرْزٌ كِفَاتٌ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات: 25] {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 26] فَجَعَلَ حَالَ الْمَرْءِ فِيهَا بَعْدَ الْمَمَاتِ فِي كَفْتِهَا لَهُ وَضَمِّهَا لِحَالِهِ كَحَالَةِ الْحَيَاةِ وَمَا تَحْفَظُهُ وَتَحْرُزُ حَيًّا، كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا فَهَذَا أَصْلٌ ثَبَتَ بِالْقُرْآنِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي دُخُولِهِ تَحْتَ قَوْلِهِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وَذَلِكَ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ اللُّغَةِ، فَإِنَّ السَّارِقَ فِيهَا هُوَ آخِذُ الْمَالِ عَلَى طَرِيقِ الْخِفْيَةِ وَمُسَارَقَةِ الْأَعْيُنِ، وَهَذَا فِعْلُهُ فِي الْقَبْرِ كَفِعْلِهِ فِي الدَّارِ، ثُمَّ يُنْظَرُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَنَّ الَّذِي سُرِقَ مَالٌ؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ: إنَّ الْكَفَنَ لَيْسَ بِمَالٍ؛ لِأَنَّهُ مُعَرَّضٌ لِلْإِتْلَافِ، وَقُلْنَا نَحْنُ: هُوَ مُعَرَّضٌ لِلْإِتْلَافِ فِي مَنْفَعَةِ الْمَالِكِ، كَالْمَلْبُوسِ فِي الْحَيَاةِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِمَالِكٍ، فَإِنَّ الْمَيِّتَ مَالِكٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ نَصَبَ شَبَكَةً فِي حَالِ حَيَاتِهِ، فَوَقَعَ فِيهَا صَيْدٌ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ، تُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ، وَتَنْفُذُ فِيهِ وَصَايَاهُ. وَحَقِيقَةُ الْمِلْكِ مَوْجُودَةٌ فِي الْكَفَنِ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِهِ وَمُحْتَاجٌ إلَيْهِ، فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْأَرْكَانُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْمَعْنَى ثَبَتَ الْقَطْعُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى إنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ] ِ} [المرسلات: 32]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:

[مسألة ادخار القوت والحطب والفحم]

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: فِيهَا سِتَّةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أُصُولُ الشَّجَرَةِ الثَّانِي الْجَبَلُ الثَّالِثُ الْقَصْرُ مِنْ الْبِنَاءِ الرَّابِعُ خَشَبٌ طُولُهُ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ الْخَامِسُ أَعْنَاقُ الدَّوَابِّ السَّادِسُ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَرَأَهَا الْقَصَرُ، وَفَسَّرَهَا بِأَعْنَاقِ الْإِبِلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَمَّا (ق ص ر) فَهُوَ بِنَاءٌ يَنْطَلِقُ عَلَى مُخْتَلِفَاتٍ كَثِيرَةٍ، يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا انْطِلَاقًا وَاحِدًا. وَالْمَعْنَى مُخْتَلِفٌ فِي ذَلِكَ. وَالصَّحِيحُ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: {تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} [المرسلات: 32] قَالَ: كُنَّا نَرْفَعُ الْخَشَبَ بِقَصَرٍ ثَلَاثَ أَذْرُعٍ أَوْ أَقَلَّ، فَنَرْفَعُهُ لِلشِّتَاءِ، فَنُسَمِّيهَا الْقَصَرَ. [مَسْأَلَة ادِّخَارُ الْقُوت والْحَطَبِ وَالْفَحْمِ] . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ أَمَّا ادِّخَارُ الْقُوتِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ أَمَّا ادِّخَارُ الْحَطَبِ وَالْفَحْمِ فَمُسْتَفَادٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْقُوتِ فَإِنَّهُ مِنْ مَصَالِحِ الْمَرْءِ، وَمَغَانِي مَفَاقِرِهِ؛ وَذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي النَّظَرَ أَنْ يَكْتَسِبَهُ فِي غَيْرِ وَقْتِ حَاجَتِهِ، لِيَكُونَ أَرْخَصَ، وَحَالَةُ وُجُودِهِ أَمْكَنَ، كَمَا «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَّخِرُ الْقُوتَ فِي وَقْتِ عُمُومِ وُجُودِهِ مِنْ كَسْبِهِ وَمَالِهِ»، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اكْتَسَبَهُ فِي وَقْتِ رُخْصِهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ وَكَّلَ وَكِيلًا يَبْتَاعُ لَهُ فَحْمًا فَابْتَاعَهُ لَهُ فِي الصَّيْفِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ وَقْتٌ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِيهِ. وَعِنْدِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي يَبْتَاعُ فِيهِ لِيَدَّخِرَهُ الْعَبْدُ

[الآية الثالثة قوله تعالى وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون]

لِوَقْتِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِذَلِكَ مَا يُوجِبُ تَخْصِيصَهُ بِحَالٍ فَيُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ الْمُقْتَضَى بِالِاسْتِدْلَالِ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ] َ} [المرسلات: 48] فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الرُّكُوعُ مَعْلُومٌ لُغَةً، مَعْلُومٌ شَرْعًا حَسْبَمَا قَرَّرْنَاهُ؛ فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهِ كَرَاهِيَةَ التَّطْوِيلِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَى وُجُوبِ الرُّكُوعِ وَإِنْزَالِهِ رُكْنًا فِي الصَّلَاةِ، وَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ، وَظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي الْقِيَامَةِ، وَلَيْسَتْ بِدَارِ تَكْلِيفٍ، فَيَتَوَجَّهُ فِيهَا أَمْرٌ يَكُونُ عَلَيْهِ وَيْلٌ وَعِقَابٌ، وَإِنَّمَا يُدْعَوْنَ إلَى السُّجُودِ كَشْفًا لِحَالِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا، فَمَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ تَمَكَّنَ مِنْ السُّجُودِ، وَمَنْ كَانَ يَسْجُدُ رِئَاءً لِغَيْرِهِ صَارَ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا. [مَسْأَلَة الْقُرْآنَ فِي مَحَلِّ نُزُولِهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ: «بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَارٍ إذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} [المرسلات: 1]» الْحَدِيثَ إلَخْ فَمِنْ الْفَوَائِدِ الْعَارِضَةِ هَاهُنَا أَنَّ الْقُرْآنَ فِي مَحَلِّ نُزُولِهِ وَوَقْفِهِ عَشْرَةُ أَقْسَامٍ: سَمَاوِيٌّ، وَأَرْضِيٌّ، وَمَا تَحْتَ الْأَرْضِ، وَحَضَرِيٌّ، وَسَفَرِيٌّ، وَمَكِّيٌّ، وَمَدَنِيٌّ، وَلَيْلِيٌّ، وَنَهَارِيٌّ، وَمَا نَزَلَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ سَمِعَتْهُ وَهُوَ يَقْرَأُ: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} [المرسلات: 1] فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ، لَقَدْ أَذْكَرْتنِي بِقِرَاءَتِك هَذِهِ السُّورَةَ، إنَّهَا لَآخِرُ مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ بِهَا فِي الْمَغْرِبِ، ثُمَّ مَا صَلَّى لَنَا حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ». وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ قَرَأَ بِالطُّورِ فِي الْمَغْرِبِ، فِي طَرِيقٍ أُخْرَى. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِطُولَى الطُّولَيَيْنِ.

[سورة النبأ فيها آيتان]

[سُورَة النَّبَأِ فِيهَا آيَتَانِ] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا] ِ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} [النبأ: 10] امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْخَلْقِ بِأَنْ جَعَلَ اللَّيْلَ غَيْبًا يُغَطِّي بِسَوَادِهِ كَمَا يُغَطِّي الثَّوْبُ لَابِسَهُ، وَيَسْتُرُ كُلَّ شَيْءٍ كَمَا يَسْتُرُهُ الْحِجَابُ. قَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ؛ فَظَنَّ بَعْضُ الْغَافِلِينَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا صَلَّى عُرْيَانًا لَيْلًا فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ أَنَّ صَلَاتَهُ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ الظَّلَامَ يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ؛ وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا؛ فَإِنَّ النَّاسَ بَيْنَ قَائِلَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فَرْضٌ إسْلَامِيٌّ لَا يَخْتَصُّ وُجُوبُهُ بِالصَّلَاةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ، وَكِلَاهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ لِلصَّلَاةِ فِي الظُّلْمَةِ كَمَا هُوَ فِي النُّورِ، إثْبَاتًا بِإِثْبَاتٍ، وَنَفْيًا بِنَفْيٍ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهُ يَجِبُ فِي النُّورِ وَيَسْقُطُ فِي الظُّلْمَةِ اجْتِزَاءً بِسَتْرِهَا عَنْ سَتْرِ ثَوْبٍ يَلْبَسُهُ الْمُصَلِّي فَلَا وَجْهَ لِهَذَا بِحَالٍ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. [الْآيَةُ الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا] الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا} [النبأ: 15] {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} [النبأ: 16]: امْتَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ بِإِنْزَالِهِ الْمَاءَ الْمُبَارَكَ مِنْ السَّمَاءِ، وَبِإِخْرَاجِهِ الْحَبَّ وَالنَّبَاتَ وَلَفِيفَ الْجَنَّاتِ وَكُلُّ مَا امْتَنَّ اللَّهُ بِهِ مِنْ النِّعَمِ؛ فَفِيهِ حَقُّ الصَّدَقَةِ بِالشُّكْرِ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الصَّدَقَةَ شُكْرَ نِعْمَةِ الْمَالِ، كَمَا جَعَلَ الصَّلَاةَ شُكْرَ نِعْمَةِ الْبَدَنِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا، وَحَقَّقْنَا تَفْصِيلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَمَحِلَّهَا وَمِقْدَارَهَا بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ لِظُهُورِهِ وَشُمُولِهِ فِي الْبَيَانِ بِمَوْضِعَيْنِ

[سورة عبس فيها آيتان]

[سُورَة عَبَسَ فِيهَا آيَتَانِ] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى عَبَسَ وَتَوَلَّى] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس: 1] فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى لَا خِلَافَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى، وَقَدْ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ قَالَ مَالِكٌ: إنَّ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ حَدَّثَهُ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ: «نَزَلَتْ {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس: 1] فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ؛ عَلِّمْنِي مِمَّا عَلَّمَك اللَّهُ، وَعِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ مِنْ عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْرِضُ عَنْهُ وَيُقْبِلُ عَلَى الْآخَرِ، وَيَقُولُ: يَا فُلَانُ، هَلْ تَرَى بِمَا أَقُولُ بَأْسًا، فَيَقُولُ: لَا، مَا أَرَى بِمَا تَقُولُ بَأْسًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس: 1]». قَالَتْ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ عُلَمَائِنَا: اسْمُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ عَمْرٌو، وَيُقَالُ عَبْدُ اللَّهِ، وَالرَّجُلُ مِنْ عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَيُكَنَّى أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مُسْنَدًا قَالَ: أَنْبَأَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: هَذَا مَا عَرَضْنَا عَلَى هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: نَزَلَتْ {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس: 1] فَذَكَرَ مِثْلَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام: 52]. وَمَعْنَاهُ نَحْوُهُ حَيْثُمَا وَقَعَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا قَصَدَ تَأَلُّفَ الرَّجُلِ الطَّارِئِ ثِقَةً بِمَا

[الآية الثانية قوله تعالى في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة]

كَانَ فِي قَلْبِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ مِنْ الْإِيمَانِ، كَمَا قَالَ: «إنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ». وَأَمَّا قَوْلُ عُلَمَائِنَا: إنَّهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إنَّهُ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، فَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ وَجَهْلٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ لَمْ يَتَحَقَّقُوا الدِّينَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ أُمَيَّةَ وَالْوَلِيدَ كَانَا بِمَكَّةَ، وَابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ بِالْمَدِينَةِ، مَا حَضَرَ مَعَهُمَا وَلَا حَضَرَا مَعَهُ، وَكَانَ مَوْتُهُمَا كَافِرَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَالْآخَرُ فِي بَدْرٍ وَلَمْ يَقْصِدْ قَطُّ أُمَيَّةُ الْمَدِينَةَ، وَلَا حَضَرَ عِنْدَهُ مُفْرَدًا وَلَا مَعَ أَحَدٍ. [الْآيَةُ الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ] الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} [عبس: 13] {مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} [عبس: 14]. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ عِنْدَ ذِكْرِنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77] {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 78] {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] فَلْيَنْظُرْ هُنَالِكَ فِيهِ مَنْ احْتَاجَ إلَيْهِ هَاهُنَا. وَقَدْ قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: إنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} [عبس: 15] {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 16] يَعْنِي أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الْقَاضِي: لَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ كِرَامًا بَرَرَةً، وَلَكِنْ لَيْسُوا بِمُرَادِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلَا قَارَبُوا الْمُرَادِينَ بِهَا؛ بَلْ هِيَ لَفْظَةٌ مَخْصُوصَةٌ بِالْمَلَائِكَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَلَا يُشَارِكُهُمْ فِيهَا سِوَاهُمْ، وَلَا يَدْخُلُ مَعَهُمْ فِي مُتَنَاوَلِهَا غَيْرُهُمْ. رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَمَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ يَتَعَاهَدُهُ وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيدٌ فَلَهُ أَجْرَانِ». وَقَوْلُهُ: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} [عبس: 25] قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي أَنَّهَا نَزَلَتْ وَأَمْثَالُهَا فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ، وَتَحَقَّقَ الْقَوْلُ فِيهَا.

[سورة المطففين فيها آيتان]

[سُورَة الْمُطَفِّفِينَ فِيهَا آيَتَانِ] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رَوَى النَّسَائِيّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ كَانُوا مِنْ أَخْبَثِ النَّاسِ كَيْلًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] فَأَحْسَنُوا الْكَيْلَ بَعْدَ ذَلِكَ.» الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي تَفْسِيرِ اللَّفْظِ: قَالَ عُلَمَاءُ اللُّغَةِ: الْمُطَفِّفُونَ هُمْ الَّذِينَ يَنْقُصُونَ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ. وَقِيلَ لَهُ الْمُطَفِّفُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يَسْرِقُ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ إلَّا الشَّيْءَ الطَّفِيفَ، مَأْخُوذٌ مِنْ طَفِّ الشَّيْءِ وَهُوَ جَانِبُهُ. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «كُلُّكُمْ بَنُو آدَمَ طَفُّ الصَّاعِ» يَعْنِي بَعْضُكُمْ قَرِيبٌ مِنْ بَعْضٍ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ فَضْلٌ إلَّا بِالتَّقْوَى. وَفِي الْمُوَطَّأِ: قَالَ مَالِكٌ: [يُقَالُ]: لِكُلِّ شَيْءٍ وَفَاءٌ وَتَطْفِيفٌ، وَالتَّطْفِيفُ ضِدُّ التَّوْفِيَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَقَدْ خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى خَيْبَرَ، فَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ سِبَاعَ بْنَ عَرْفَطَةَ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَوَجَدْنَاهُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَقَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى " كهيعص " وَقَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] قَالَ أَبُو

[مسألة معنى قوله تعالى وإذا كالوهم]

هُرَيْرَةَ: فَأَقُولُ فِي صَلَاتِي: " وَيْلٌ لِأَبِي فُلَانٍ، لَهُ مِكْيَالَانِ، إذَا اكْتَالَ اكْتَالَ بِالْوَافِي، وَإِذَا كَالَ كَالَ بِالنَّاقِصِ ". [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَإِذَا كَالُوهُمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ} [المطففين: 3] يَعْنِي كَالُوا لَهُمْ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَفْعَالِ يَأْتِي كَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ: شَكَرْت فُلَانًا وَشَكَرْت لَهُ، وَنَصَحْت فُلَانًا وَنَصَحْت لَهُ، وَاخْتَرْت أَهْلِي فُلَانًا وَاخْتَرْت مِنْ أَهْلِي فُلَانًا، سَوَاءٌ كَانَ الْفِعْلُ فِي التَّعَدِّي مُقْتَصِرًا أَوْ مُتَعَدِّيًا أَيْضًا؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 3]؛ فَبَدَأَ بِالْكَيْلِ قَبْلَ الْوَزْنِ؛ وَالْوَزْنُ هُوَ الْأَصْلُ، وَالْكَيْلُ مُرَكَّبٌ عَلَيْهِ، وَكِلَاهُمَا لِلتَّقْدِيرِ، لَكِنَّ الْبَارِئَ سُبْحَانَهُ وَضَعَ الْمِيزَانَ لِمَعْرِفَةِ الْأَشْيَاءِ بِمَقَادِيرِهَا؛ إذْ يَعْلَمُهَا سُبْحَانَهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَلَا مُقَدِّرٍ. ثُمَّ قَدْ يَأْتِي الْكَيْلُ عَلَى الْمِيزَانِ بِالْعُرْفِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمِكْيَالُ مِكْيَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالْمِيزَانُ مِيزَانُ أَهْلِ مَكَّةَ» فَالْأَقْوَاتُ وَالْأَدْهَانُ يُعْتَبَرُ فِيهَا الْكَيْلُ [دُونَ الْوَزْنِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِثَ وَهِيَ تُكْتَالُ بِالْمَدِينَةِ فَجَرَى فِيهَا الْكَيْلُ]، وَكَذَلِكَ الْأَمْوَالُ الرِّبَوِيَّةُ يُعْتَبَرُ فِيهَا الْمُمَاثَلَةُ بِالْكَيْلِ دُونَ الْوَزْنِ، حَاشَا النَّقْدَيْنِ، حَتَّى أَنَّ الدَّقِيقَ وَالْحِنْطَةَ يُعْتَبَرُ فِيهِمَا الْكَيْلُ، وَلَيْسَ لِلْوَزْنِ فِيهِمَا طَرِيقٌ، وَإِنْ ظَهَرَ بَيْنَهُمَا زَيْغٌ فَهُوَ كَظُهُورِهِ بَيْنَ الْبُرَّيْنِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَرَأَ: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] [مَرَّتَيْنِ قَالَ: مَسَحَ الْمَدِينَةَ مِنْ التَّطْفِيفِ وَكَرِهَهُ كَرَاهِيَةً شَدِيدَةً. وَرَوَى أَشْهَبُ قَالَ: قَرَأَ مَالِكٌ: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1]]، فَقَالَ: لَا تُطَفِّفْ وَلَا تَجْلِبْ وَلَكِنْ أَرْسِلْ وَصُبَّ عَلَيْهِ صَبًّا، حَتَّى إذَا اسْتَوَى أَرْسِلْ يَدَك وَلَا تُمْسِكْ.

[مسألة التطفيف في كل شيء]

وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ التَّطْفِيفِ» وَقَالَ: إنَّ الْبَرَكَةَ فِي رَأْسِهِ. قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ كَيْلَ فِرْعَوْنَ كَانَ طِفَافًا مَسْحًا بِالْحَدِيدَةِ. [مَسْأَلَة التَّطْفِيفُ فِي كُلِّ شَيْءٍ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَالَ عُلَمَاءُ الدِّينِ: التَّطْفِيفُ فِي كُلِّ شَيْءٍ فِي الصَّلَاةِ وَالْوُضُوءِ وَالْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: كَمَا أَنَّ السَّرِقَةَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَأَسْوَأُ السَّرِقَةِ مَنْ يَسْرِقُ صَلَاتَهُ؛ فَلَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ] َ} [المطففين: 6] فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى رَوَى مَالِكٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، حَتَّى أَنَّ أَحَدَهُمْ لَيَغِيبُ فِي رَشْحِهِ إلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ». وَعَنْهُ أَيْضًا، «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَقُومُ مِائَةَ سَنَةٍ» الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الْقِيَامُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ حَقِيرٌ بِالْإِضَافَةِ إلَى عَظَمَتِهِ وَحَقِّهِ؛ فَأَمَّا قِيَامُ النَّاسِ بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ إلَى جَعْفَرٍ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَاعْتَنَقَهُ» وَقَامَ طَلْحَةُ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ يَوْمَ تِيبَ عَلَيْهِ. «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأَنْصَارِ حِينَ طَلَعَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: قُومُوا لِسَيِّدِكُمْ».

وَقَالَ أَيْضًا: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ». وَقَدْ بَيَّنَّا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ أَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى حَالِ الرَّجُلِ وَنِيَّتِهِ، فَإِنْ انْتَظَرَ لِذَلِكَ وَاعْتَقَدَهُ لِنَفْسِهِ حَقًّا فَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْبَشَاشَةِ وَالْوَصْلَةِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ، وَخَاصَّةً عِنْدَ الْأَسْبَابِ، كَالْقُدُومِ مِنْ السَّفَرِ وَنَحْوِهِ.

[سورة الانشقاق فيها آية واحدة]

[سُورَةُ الِانْشِقَاقِ فِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ] [قَوْله تَعَالَى فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ] ٌ قَوْله تَعَالَى: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} [الانشقاق: 16] فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي الشَّفَقِ: قَالَ أَشْهَبُ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَغَيْرُهُمْ، وَكَثِيرٌ عَدَدُهُمْ، عَنْ مَالِكٍ: الشَّفَقُ: الْحُمْرَةُ الَّتِي تَكُونُ فِي الْمَغْرِبِ، فَإِذَا ذَهَبَتْ الْحُمْرَةُ فَقَدْ خَرَجَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ، وَوَجَبَتْ صَلَاةُ الْعِشَاءِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ: الشَّفَقُ: الْحُمْرَةُ فِيمَا يَقُولُونَ، وَلَا أَدْرَى حَقِيقَةَ ذَلِكَ، وَلَكِنِّي أَرَى الشَّفَقَ الْحُمْرَةَ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ قَالَ مَالِكٌ وَإِنَّهُ لَيَقَعُ فِي قَلْبِي. وَمَا هُوَ إلَّا شَيْءٌ فَكَّرْت فِيهِ مُنْذُ قَرِيبٍ: أَنَّ الْبَيَاضَ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ حُمْرَةِ الشَّفَقِ أَنَّهُ مِثْلُ الْبَيَاضِ الَّذِي يَكُونُ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَكَمَا لَا يُمْنَعُ طَعَامًا وَلَا شَرَابًا مَنْ أَرَادَ الصِّيَامَ، فَلَا أَدْرِي هَذَا يَمْنَعُ الصَّلَاةَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَقَتَادَةُ، وَشَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُعَاذٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ التَّابِعِينَ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ الْبَيَاضُ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٍ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُهُ. وَقَدْ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ اللُّغَةِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَاعْتَضَدَ بَعْضُهُمْ بِالِاشْتِقَاقِ وَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الرِّقَّةِ، وَاَلَّذِي يُعَضِّدُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحِ «وَقْتُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ مَا

[مسألة قوله تعالى وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون]

لَمْ يَسْقُطْ نُورُ الشَّفَقِ»، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَى حَالَيْنِ: كَثِيرٍ وَقَلِيلٍ، وَهُوَ الَّذِي تَوَقَّفَ فِيهِ مَالِكٌ مِنْ جِهَةِ اشْتِقَاقِهِ، وَاخْتِلَافِ إطْلَاقِهِ، ثُمَّ فَكَّرَ فِيهِ مُنْذُ قَرِيبٍ، وَذَكَرَ كَلَامًا مُجْمَلًا، تَحْقِيقُهُ أَنَّ الطَّوَالِعَ أَرْبَعَةٌ: الْفَجْرُ الْأَوَّلُ، وَالثَّانِي، وَالْحُمْرَةُ، وَالشَّمْسُ. وَكَذَلِكَ الْغَوَارِبُ أَرْبَعَةٌ: الْبَيَاضُ الْآخَرُ، وَالْبَيَاضُ الَّذِي يَلِيهِ، الْحُمْرَةُ، الشَّفَقُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: كَمَا يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ بِالطَّالِعِ الثَّانِي مِنْ الْأَوَّلِ فِي الطَّوَالِعِ، كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالْغَارِبِ مِنْ الْآخَرِ، وَهُوَ الْبَيَاضُ. وَقَالَ عُلَمَاؤُهُمْ الْمُحَقِّقُونَ: وَكَمَا قَالَ {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5] فَكَانَ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِالْفَجْرِ الثَّانِي، كَذَلِكَ إذَا قَالَ حَتَّى يَغِيبَ الشَّفَقُ بِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالشَّفَقِ الثَّانِي؛ وَهَذِهِ تَحْقِيقَاتٌ قَوِيَّةٌ عَلَيْنَا. وَاعْتَمَدَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ» وَالْحُكْمُ يَتَعَلَّقُ بِأَوَّلِ الِاسْمِ، وَكَذَلِكَ كُنَّا نَقُولُ فِي الْفَجْرِ، إلَّا أَنَّ النَّصَّ قَطَعَ بِنَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَيْسَ الْفَجْرُ أَنْ يَكُونَ هَذَا وَرَفَعَ يَدَهُ إلَى فَوْقٍ، وَلَكِنَّهُ أَنْ يَكُونَ هَكَذَا وَبَسَطَهَا وَقَالَ: لَيْسَ الْمُسْتَطِيلُ، وَلَكِنَّهُ الْمُسْتَطِيرُ يَعْنِي الْمُنْتَشِرَ، وَلِأَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ قَالَ: «أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِوَقْتِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّيهَا لِسُقُوطِ الْقَمَرِ لِثُلُثَيْهِ» وَقَالَ الْخَلِيلُ: رَقَبْت مَغِيبَ الْبَيَاضِ فَوَجَدْته يَتَمَادَى إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: رَأَيْته يَتَمَادَى إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ فَلَمَّا لَمْ يَتَحَدَّدْ وَقْتُهُ مِنْهُ سَقَطَ اعْتِبَارُهُ. [مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21] ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَرَأَ: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] فَسَجَدَ فِيهَا، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَ فِيهَا» وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: إنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مِنْهُ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْمَدَنِيِّينَ عَنْهُ. وَقَدْ اعْتَضَدَ فِيهَا الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَمَّا أَمَمْت بِالنَّاسِ تَرَكْت قِرَاءَتَهَا؛ لِأَنِّي إنْ سَجَدْت أَنْكَرُوهُ، وَإِنْ تَرَكْتهَا كَانَ تَقْصِيرًا مِنِّي، فَاجْتَنَبْتهَا إلَّا إذَا صَلَّيْت وَحْدِي. وَهَذَا تَحْقِيقُ وَعْدِ الصَّادِقِ

بِأَنْ يَكُونَ الْمَعْرُوفُ مُنْكَرًا وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا. وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ لَوْلَا حِدْثَانُ عَهْدِ قَوْمِك بِالْكُفْرِ لَهَدَمْت الْبَيْتَ وَرَدَدْته عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ.» وَقَالَ كَانَ شَيْخُنَا أَبُو بَكْرٍ الْفِهْرِيُّ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ، وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَتَفْعَلُهُ الشِّيعَةُ، فَحَضَرَ عِنْدِي يَوْمًا بِمُحْرِسٍ ابْنُ الشَّوَّاءِ بِالثَّغْرِ مَوْضِعُ تَدْرِيسِي عِنْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ مِنْ الْمُحْرِسِ الْمَذْكُورِ، فَتَقَدَّمَ إلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ وَأَنَا فِي مُؤَخَّرِهِ قَاعِدٌ عَلَى طَاقَاتِ الْبَحْرِ، أَتَنَسَّمُ الرِّيحَ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَمَعَهُ فِي صَفٍّ وَاحِدٍ أَبُو ثَمْنَةَ رَئِيسُ الْبَحْرِ وَقَائِدُهُ، مَعَ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ، وَيَتَطَلَّعُ عَلَى مَرَاكِبَ تَحْتَ الْمِينَاءِ، فَلَمَّا رَفَعَ الشَّيْخُ يَدَيْهِ فِي الرُّكُوعِ وَفِي رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْهُ قَالَ أَبُو ثَمْنَةَ وَأَصْحَابُهُ: أَلَا تَرَوْنَ إلَى هَذَا الْمَشْرِقِيِّ كَيْفَ دَخَلَ مَسْجِدَنَا؟ فَقُومُوا إلَيْهِ فَاقْتُلُوهُ وَارْمُوا بِهِ فِي الْبَحْرِ، فَلَا يَرَاكُمْ أَحَدٌ. فَطَارَ قَلْبِي مِنْ بَيْنِ جَوَانِحِي، وَقُلْت: سُبْحَانَ اللَّهِ، هَذَا الطُّرْطُوشِيُّ فَقِيهُ الْوَقْتِ. فَقَالُوا لِي: وَلِمَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ؟ فَقُلْت: كَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي رِوَايَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَنْهُ. وَجَعَلْت أُسَكِّنُهُمْ وَأُسْكِتُهُمْ، حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَقُمْت مَعَهُ إلَى الْمَسْكَنِ مِنْ الْمُحْرِسِ، وَرَأَى تَغَيُّرَ وَجْهِي، فَأَنْكَرَهُ، وَسَأَلَنِي فَأَعْلَمْته فَضَحِكَ، وَقَالَ: وَمِنْ أَيْنَ لِي أَنْ أُقْتَلَ عَلَى سُنَّةٍ، فَقُلْت لَهُ: وَلَا يَحِلُّ لَك هَذَا فَإِنَّك بَيْنَ قَوْمٍ إنْ قُمْت بِهَا قَامُوا عَلَيْك، وَرُبَّمَا ذَهَبَ دَمُك. فَقَالَ: دَعْ هَذَا الْكَلَامَ وَخُذْ فِي غَيْرِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: «صَلَّيْت خَلْفَ أَبِي هُرَيْرَةَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ يَعْنِي الْعَتَمَةَ فَقَرَأَ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] فَسَجَدَ فِيهَا، فَلَمَّا فَرَغَ قُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، وَإِنَّ هَذِهِ السَّجْدَةَ مَا كُنَّا نَسْجُدُهَا. قَالَ: سَجَدَهَا أَبُو الْقَاسِمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا خَلْفَهُ، فَلَا أَزَالُ أَسْجُدُهَا حَتَّى أَلْقَى أَبَا الْقَاسِمِ». وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَسْجُدُ فِيهَا مَرَّةً، وَمَرَّةً لَا يَسْجُدُ، كَأَنَّهُ لَا يَرَاهَا مِنْ الْعَزَائِمِ عَزَائِمِ الْقُرْآنِ وَقَدْ بَيَّنَّا الصَّحِيحَ فِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بِغَيْبِهِ وَأَحْكُمُ].

[سورة البروج فيها آيتان]

[سُورَةُ الْبُرُوجِ فِيهَا آيَتَانِ] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ] ِ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 3]: فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الشَّاهِدُ فَاعِلٌ مِنْ شَهِدَ، وَالْمَشْهُودُ مَفْعُولٌ مِنْهُ، وَلَمْ يَأْتِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ بِعَيْنِهِ، فَيَجِبُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى كُلِّ شَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ. وَقَدْ رَوَى عَبَّادُ بْنُ مَطَرٍ الرَّهَاوِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيَّادٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ، «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 3] قَالَ: الشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ». وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الشَّاهِدُ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ اللَّهَ وَرُسُلَهُ وَالْمَلَائِكَةَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْحَجَرَ الْأَسْوَدَ. وَقَدْ يَكُونُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانَ، وَالْمَشْهُودُ فِيهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ، وَيَوْمَ النَّحْرِ، وَأَيَّامَ الْمَنَاسِكِ كُلَّهَا، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَيْسَ إلَى التَّخْصِيصِ سَبِيلٌ بِغَيْرِ أَثَرٍ صَحِيحٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ إذَا كَانَ الشَّاهِدُ اللَّهَ فَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَاهُ وَمُتَعَلَّقَهُ فِي الْأَمَدِ الْأَقْصَى، وَإِذَا كَانَ الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] وَهَذَا إذَا تَتَبَّعْته بِالْأَخْبَارِ وَجَدْته كَثِيرًا فِي جَمَاعَةٍ. وَأَمَّا الْمَشْهُودُ فَعَلَّقَهُ بِكُلِّ مَشْهُودٍ فِيهِ، وَمَشْهُودٍ عَلَيْهِ، وَمَشْهُودٍ بِهِ، حَسْبَ مُتَعَلِّقَاتِ الْفِعْلِ بِأَقْسَامِ الْمَفْعُولِ فَإِنَّهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ صَحِيحٌ سَائِغٌ لُغَةً وَمَعْنًى، فَاحْمِلْهُ عَلَيْهِ وَعَمِّمْهُ فِيهِ.

[الآية الثانية قوله تعالى قتل أصحاب الأخدود]

[الْآيَةُ الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ] ِ} [البروج: 4]: فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ثَبَتَ عَنْ صُهَيْبٍ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ: قَدْ كَبِرْت، فَابْعَثْ لِي غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ؛ فَبَعَثَ إلَيْهِ غُلَامًا يُعَلِّمُهُ، فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ إذَا سَلَكَ رَاهِبٌ قَعَدَ إلَيْهِ، وَسَمِعَ كَلَامَهُ، وَأَعْجَبَهُ، فَكَانَ إذَا أَتَى السَّاحِرُ مَرَّ بِالرَّاهِبِ، فَقَعَدَ إلَيْهِ، وَإِذَا أَتَى السَّاحِرُ ضَرَبَهُ، فَشَكَا ذَلِكَ إلَى الرَّاهِبِ، فَقَالَ: إذَا خَشِيت السَّاحِرَ فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي، وَإِذَا خَشِيت أَهْلَك فَقُلْ حَبَسَنِي السَّاحِرُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتْ النَّاسَ، فَقَالَ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ السَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمْ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ، فَأَخَذَ حَجَرًا وَقَالَ: اللَّهُمَّ إنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إلَيْك مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ، حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ، فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا، وَمَضَى النَّاسُ؛ فَأَتَى إلَى الرَّاهِبِ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: أَيْ بُنَيَّ، أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي، قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِك مَا أَرَى، وَإِنَّك سَتُبْتَلَى، فَإِنْ اُبْتُلِيت فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ؛ فَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الْأَدْوَاءِ، فَسَمِعَ بِهِ جَلِيسُ الْمَلِكِ وَكَانَ قَدْ عَمِيَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ، فَقَالَ: لَك مَا هُنَالِكَ أَجْمَعُ إنْ شَفَيْتنِي قَالَ: إنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا، إنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ، فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاَللَّهِ دَعَوْت لَك فَشَفَاك. فَآمَنَ بِاَللَّهِ؛ فَشَفَاهُ اللَّهُ. فَأَتَى الْمَلِكُ فَجَلَسَ إلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَنْ رَدَّ عَلَيْك بَصَرَك؟ قَالَ: رَبِّي. قَالَ: وَلَك رَبٌّ غَيْرِي، قَالَ: رَبِّي وَرَبُّك اللَّهُ. فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ. فَجِيءَ بِالْغُلَامِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: أَيْ بُنَيَّ، قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِك مَا تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ، فَقَالَ: إنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ. فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ، فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ، فَقِيلَ لَهُ:

ارْجِعْ عَنْ دِينِك، فَأَبَى، فَدَعَا بِالْمِنْشَارِ، فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ، حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ، فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِك، فَأَبَى، فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ؛ ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلَامِ فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِك فَأَبَى، فَدَفَعَهُ إلَى نَفَرٍ، مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ إلَى جَبَلِ كَذَا كَذَا، فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاطْرَحُوهُ، فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْت، فَرَجَفَ بِهِمْ الْجَبَلُ، فَسَقَطُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُك؟ فَقَالَ: كَفَانِيهِمْ اللَّهُ. فَدَفَعَهُ إلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ، فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاقْذِفُوهُ. فَذَهَبُوا بِهِ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْت، فَانْكَفَأَتْ بِهِمْ السَّفِينَةُ، فَغَرِقُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إلَى الْمَلِكِ؛ فَقَالَ لَهُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُك؟ فَقَالَ: كَفَانِيهِمْ اللَّهُ. فَقَالَ لِلْمَلِكِ: إنَّك لَسْت بِقَاتِلِي، حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُك بِهِ. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعْ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: بِسْمِ اللَّهِ، رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ ارْمِنِي؛ فَإِنَّك إذَا فَعَلْت ذَلِكَ قَتَلْتنِي. فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ. فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، فَأَتَى الْمَلِكُ، فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيْت مَا كُنْت تَحْذَرُ؟ قَدْ وَاَللَّهِ نَزَلَ بِك حَذَرُك، قَدْ آمَنَ النَّاسُ بِرَبِّ الْغُلَامِ؛ فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ؛ فَخُدَّتْ، وَأَضْرَمَ النَّارَ، وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا، أَوْ قِيلَ لَهُ:

اقْتَحِمْ فَفَعَلُوا، حَتَّى جَاءَتْ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا، فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقَالَ الْغُلَامُ: يَا أُمَّهُ، اصْبِرِي، فَإِنَّك عَلَى الْحَقِّ، فَاقْتَحَمَتْ». الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ هُمْ الَّذِينَ حَفَرُوهُ مِنْ الْكُفَّارِ، وَهُمْ الَّذِينَ رَمَوْا فِيهِ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَانَ لَفْظُ الصُّحْبَةِ مُحْتَمَلًا، إلَّا أَنَّهُ بَيَّنَهُ وَخَصَّصَهُ آخِرَ الْقَوْلِ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ لَهَا وَالرَّابِعَةِ مِنْهَا، وَهُمَا قَوْلُهُ: {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} [البروج: 6] {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج: 7]. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ هَذَا الْحَدِيثُ سَتَرَوْنَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَفْسِيرَهُ فِي مُخْتَصَرِ النَّيِّرَيْنِ، وَاَلَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ هَهُنَا أَنَّ الْمَرْأَةَ وَالْغُلَامَ صَبَرَا عَلَى الْعَذَابِ مِنْ الْقَتْلِ، وَالصَّلْبِ، وَإِلْقَاءِ النَّفْسِ فِي النَّارِ، دُونَ الْإِيمَانِ. وَهَذَا مَنْسُوخٌ عِنْدَنَا حَسْبَمَا تَقَرَّرَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ.

[سورة الطارق فيها ثلاث آيات]

[سُورَةُ الطَّارِقِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى فَلْيَنْظُرْ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ] ٍ الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق: 5] {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6]: فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى مَحَلَّ الْمَاءِ الَّذِي يُنْتَزَعُ مِنْهُ، وَأَنَّهُ بَيْنَ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ، تُزْعِجُهُ الْقُدْرَةُ، وَتُمَيِّزُهُ الْحِكْمَةُ، وَقَدْ قَالَ الْأَطِبَّاءُ: إنَّهُ الدَّمُ الَّذِي تَطْبُخُهُ الطَّبِيعَةُ بِوَاسِطَةِ الشَّهْوَةِ، وَهَذَا مَا لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ أَبَدًا إلَّا بِخَبَرٍ صَادِقٍ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِيهِ، وَالنَّظَرُ الْعَقْلِيُّ لَا يُنْتَهَى إلَيْهِ، وَكُلُّ مَا يَصِفُونَ فِيهِ دَعْوَى يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ حَقًّا، بَيْدَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى تَعْيِينِهَا كَمَا قَدَّمْنَا؛ وَلَا دَلِيلَ عَلَى تَخْصِيصِهَا حَسْبَمَا أَوْضَحْنَا. وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْخَبَرِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12] {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون: 13] {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} [المؤمنون: 14] وَهِيَ الدَّمُ؛ فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الدَّمَ هُوَ الطَّوْرُ الثَّالِثُ، وَعِنْدَ الْأَطِبَّاءِ أَنَّهُ الطَّوْرُ الْأَوَّلُ، وَهَذَا تَحَكُّمٌ مِمَّنْ يَجْهَلُ. فَإِنْ قِيلَ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فَلِمَ قُلْتُمْ: إنَّهُ نَجِسٌ؟ قُلْنَا: قَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ مَقْنَعٌ، وَأَخَذْنَا مَعَهُمْ

[الآية الثانية قوله تعالى يوم تبلى السرائر]

فِيهِ كُلَّ طَرِيقٍ، وَمَلْكنَا عَلَيْهِمْ بِثَبْتِ الْأَدِلَّةِ كُلَّ ثَنِيَّةٍ لِلنَّظَرِ. فَلَمْ يَجِدُوا لِلسُّلُوكِ إلَى مَرَامِهِمْ مِنْ أَنَّهُ طَاهِرٌ سَبِيلًا، وَأَقْرَبُهُ أَنَّهُ يَخْرُجُ عَلَى ثَقْبِ الْبَوْلِ عِنْدَ طَرَفِ الْكَمَرَةِ فَيَتَنَجَّسُ بِمُرُورِهِ عَلَى مَحَلٍّ نَجِسٍ. [الْآيَةُ الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ] ُ} [الطارق: 9]: فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 9] يَعْنِي تُخْتَبَرُ الضَّمَائِرُ، وَتَكْشِفُ مَا كَانَ فِيهَا. وَالسَّرَائِرُ تَخْتَلِفُ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ التَّكْلِيفِ وَالْأَفْعَالِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَمَّا السَّرَائِرُ فَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ عَنْهُ وَسَأَلَهُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 9] أَبَلَغَك أَنَّ الْوُضُوءَ مِنْ السَّرَائِرِ؟ قَالَ: قَدْ بَلَغَنِي ذَلِكَ فِيمَا يَقُولُ النَّاسُ، فَأَمَّا حَدِيثٌ أَخَذْته فَلَا. وَالصَّلَاةُ مِنْ السَّرَائِرِ، وَالصِّيَامُ مِنْ السَّرَائِرِ، إنْ شَاءَ قَالَ: صَلَّيْت وَلَمْ يُصَلِّ. وَمِنْ السَّرَائِرِ مَا فِي الْقُلُوبِ يَجْزِي اللَّهُ بِهِ الْعِبَادَ. قَالَ الْقَاضِي: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ إلَّا الْأَمَانَةَ، وَالْوُضُوءُ مِنْ الْأَمَانَةِ، وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ مِنْ الْأَمَانَةِ، الْوَدِيعَةُ مِنْ الْأَمَانَةِ، وَأَشَدُّ ذَلِكَ الْوَدِيعَةُ، تُمَثَّلُ لَهُ عَلَى هَيْئَتِهَا يَوْمَ أَخَذَهَا، فَيُرْمَى بِهَا فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ، فَيُقَالُ لَهُ: أَخْرِجْهَا فَيَتْبَعُهَا فَيَجْعَلُهَا فِي عُنُقِهِ، فَإِذَا رَجَا أَنْ يَخْرُجَ بِهَا زَلَّتْ مِنْهُ وَهُوَ يَتْبَعُهَا، فَهُوَ كَذَلِكَ دَهْرَ الدَّاهِرِينَ. وَقَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ. مِنْ الْأَمَانَةِ أَنْ ائْتُمِنَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى فَرْجِهَا. قَالَ أَشْهَبُ: قَالَ لِي سُفْيَانُ: فِي الْحَيْضَةِ وَالْحَمْلِ إذَا قَالَتْ: لَمْ أَحِضْ، وَأَنَا حَامِلٌ، صَدَقَتْ مَا لَمْ تَأْتِ بِمَا يُعْرَفُ فِيهِ أَنَّهَا كَاذِبَةٌ. وَفِي الْحَدِيثِ: «غُسْلُ الْجَنَابَةِ مِنْ الْأَمَانَةِ». الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ كُلُّ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ.

[الآية الثالثة قوله تعالى إنه لقول فصل وما هو بالهزل]

[الْآيَةُ الثَّالِثَة قَوْله تَعَالَى إنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ] الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} [الطارق: 13] {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق: 14]: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ هَزْلٌ، وَإِنَّمَا هِيَ جَدٌّ كُلُّهَا؛ فَلَا يَهْزِلُ أَحَدٌ بِعَقْدٍ أَوْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ إلَّا وَيُنَفَّذُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ فِي قَوْلِهِ هَزْلًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْهَزْلَ مَحَلٌّ لِلْكَذِبِ، وَلِلْبَاطِلِ يُفْعَلُ، وَلِلَّعِبِ يُمْتَثَلُ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْغَرَضَ فِي الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِيهِ وَفِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ.

[سورة الأعلى فيها أربع آيات]

[سُورَةُ الْأَعْلَى فِيهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى سَنُقْرِئُك فَلَا تَنْسَى] ٍ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى: 6]: فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ: {سَنُقْرِئُكَ} [الأعلى: 6] أَيْ سَنَجْعَلُك قَارِئًا، فَلَا تَنْسَى مَا نُقْرِئُك. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: سَأَلْت مَالِكًا عَنْ قَوْلِهِ: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى: 6] قَالَ: فَتَحْفَظُ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يُرِيدُ مَالِكٌ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِتَرْكِ النِّسْيَانِ؛ إذْ كَانَ لَيْسَ مِنْ اسْتِطَاعَتِهِ، وَلَكِنَّهُ قَدَّمَ لَهُ تَرْكَهُ، وَحَكَمَ لَهُ بِأَنَّهُ لَا يَنْسَى مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ تَكْلِيفَ النَّاسِي فِي حَالِ نِسْيَانِهِ أَنْ يَصْرِفَ نِسْيَانَهُ لَا يُعْقَلُ قَوْلًا، فَكَيْفَ يَكُونُ مُكَلَّفًا بِهِ فِعْلًا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]. قُلْنَا. مَعْنَاهُ لَا تَتْرُكْ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النِّسْيَانَ هُوَ التَّرْكُ لُغَةً. وَالتَّرْكُ عَلَى قِسْمَيْنِ: تَرْكٌ بِقَصْدٍ، وَتَرْكٌ بِغَيْرِ قَصْدٍ. وَالتَّكْلِيفُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَا يَرْتَبِطُ بِالْقَصْدِ مِنْ التَّرْكِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة قِرَاءَة سُورَة الْأَعْلَى والْغَاشِيَة فِي الْعِيدَيْنِ] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ثَبَتَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ ب {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] وَ {هَلْ

[الآية الثانية قوله تعالى قد أفلح من تزكى]

أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1]» مِنْ طَرِيقِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ. خَرَّجَهُ النَّسَائِيّ، وَغَيْرُهُ زَادَ النُّعْمَانُ: فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ. وَفِي الصَّحِيحِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلَّذِي طَوَّلَ صَلَاتَهُ بِالنَّاسِ: اقْرَأْ ب {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] وَنَحْوِ ذَلِكَ». [الْآيَةُ الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى] } [الأعلى: 14]: فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: نَزَلَتْ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ يُزَكِّي ثُمَّ يُصَلِّي. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي سَرْدِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ: قَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ أُقَدِّمُ زَكَاتِي بَيْنَ يَدِي صَلَاتِي. فَقَالَ سُفْيَانُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15]. وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ، قَالَ: كَتَبَ إلَيْنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: إنَّ هَذَا الرَّجْفَ شَيْءٌ يُعَاقِبُ اللَّهُ بِهِ الْعِبَادَ، وَقَدْ كَتَبْت إلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ أَنْ يَخْرُجُوا فِي يَوْمِ كَذَا مِنْ شَهْرِ كَذَا، فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَصَدَّقَ فَلْيَفْعَلْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَخْطُبُ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: قَدِّمُوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] وَكَذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ بِهَا وَيُخْرِجُهَا. وَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: إنَّ هَذَا الرَّجْفَ شَيْءٌ يُعَاقِبُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَعْنِي الزَّلَازِلَ.

[الآية الثالثة قوله تعالى وذكر اسم ربه فصلى]

[الْآيَة الثَّالِثَة قَوْله تَعَالَى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى] } [الأعلى: 15]: فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الذِّكْرَ حَقِيقَتُهُ إنَّمَا هُوَ فِي الْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ النِّسْيَانِ الَّذِي هُوَ ضِدُّهُ، وَالضِّدَّانِ إنَّمَا يَتَضَادَّانِ فِي الْمَحَلِّ الْوَاجِبِ؛ فَأَوْجَبَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ النِّيَّةَ فِي الصَّلَاةِ خُصُوصًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ اقْتَضَاهَا عُمُومًا قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]. وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ». وَالصَّلَاةُ أُمُّ الْأَعْمَالِ، وَرَأْسُ الْعِبَادَاتِ، وَمَحَلُّ النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ مَعَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ؛ فَإِنَّ الْأَفْضَلَ فِي كُلِّ نِيَّةٍ بِفِعْلٍ أَنْ تَكُونَ مَعَ الْفِعْلِ لَا قَبْلَهُ؛ وَإِنَّمَا رُخِّصَ فِي تَقْدِيمِ نِيَّةِ الصَّوْمِ لِأَجْلِ تَعَذُّرِ اقْتِرَانِ النِّيَّةِ فِيهِ بِأَوَّلِ الْفِعْلِ عِنْدَ الْفَجْرِ، لِوُجُودِهِ وَالنَّاسُ فِي غَفْلَةٍ، وَبَقِيَتْ سَائِرُ الْعِبَادَاتِ عَلَى الْأَصْلِ وَتَوَهَّمَ بَعْضُ الْقَاصِرِينَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ أَنَّ تَقْدِيمَ النِّيَّةِ عَلَى الصَّلَاةِ جَائِزٌ بِنَاءً عَلَى مَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا مِنْ تَجْوِيزِ تَقْدِيمِ النِّيَّةِ عَلَى الْوُضُوءِ فِي الَّذِي يَمْشِي إلَى النَّهْرِ فِي الْغُسْلِ؛ فَإِذَا وَصَلَ وَاغْتَسَلَ نَسِيَ أَنْ يُجْزِئَهُ قَالَ: فَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ. وَهَذَا الْقَائِلُ مِمَّنْ دَخَلَ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ} [الملك: 22]؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يُعْتَرَى فِيهِ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ الصَّلَاةَ أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي وُجُوبِ النِّيَّةِ، وَالْوُضُوءَ فَرْعٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَكَيْفَ يُقَاسُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَيُحْمَلُ الْأَصْلُ عَلَى الْفَرْعِ؟ [مَسْأَلَة الذَّكَرَ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَان] . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15]. [إذَا قُلْنَا: إنَّهُ] الذِّكْرُ الثَّانِي بِاللِّسَانِ الْمُخْبِرُ عَنْ ذِكْرِ الْقَلْبِ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي الصَّلَاةِ مُفْتَتَحٌ بِهِ فِي أَوَّلِهَا بِاتِّفَاقٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ؛ لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ كُلُّ ذِكْرٍ حَتَّى لَوْ قَالَ: " سُبْحَانَ اللَّهِ " بَدَلَ التَّكْبِيرِ أَجْزَأَهُ، بَلْ لَوْ قَالَ بَدَلَ (اللَّهُ أَكْبَرُ): بِزْرك خداي لَأَجْزَأَهُ، مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُجْزِئُهُ " اللَّهُ الْكَبِيرُ " وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، وَاَللَّهُ الْأَكْبَرُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُجْزِئُهُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَاَللَّهُ الْأَكْبَرُ. [وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُجْزِئُهُ إلَّا قَوْلُهُ:] اللَّهُ أَكْبَرُ. فَأَمَّا تَعَلُّقُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الذِّكْرِ بِالْعَجَمِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى} [الأعلى: 18] {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 19] فَيَأْتِي ذِكْرُ وَجْهِ التَّقَصِّي عَنْهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهُ الذِّكْرُ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ الْعَامِّ: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] فَهَذَا الْعَامُّ قَدْ عَيَّنَهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلُهُ؛ أَمَّا قَوْلُهُ فَهُوَ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ: «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ». وَأَمَّا الْفِعْلُ فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ كُلِّهَا: اللَّهُ أَكْبَرُ. وَأَمَّا التَّعَلُّقُ لِلشَّافِعِيِّ بِقَوْلِهِ: إنَّ زِيَادَةَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِيهِ لَا تُغَيِّرُ بِنَاءَهُ وَلَا مَعْنَاهُ. فَالْجَوَابُ أَنَّ التَّعَبُّدَ إذَا وَقَعَ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَبَّرَ عَمَّا شُرِعَ فِيهِ بِمَا لَا يُغَيِّرُ؛ لِأَنَّهَا شِرْعَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ، وَاعْتِبَارٌ مِنْ غَيْرِ اضْطِرَارٍ؛ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَجَوَابٌ ثَانٍ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ تَدْخُلُ لِلْجِنْسِ وَلِلْعَهْدِ، وَكِلَاهُمَا مَمْنُوعٌ هَاهُنَا، أَمَّا الْجِنْسُ فَإِنَّ الْبَارِئَ تَعَالَى لَا جِنْسَ لَهُ. وَأَمَّا الْعَهْدُ فَلِأَنَّ التَّعْبِيرَ بِالْكُبْرِيَّةِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَصْفٌ، فَلَا مَعْنَى لِلزِّيَادَةِ فِيهِ حَيْثُ لَا تُتَصَوَّرُ الزِّيَادَةُ. وَإِذَا بَطَلَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَمَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ أَبْطَل. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] عُمُومٌ فِي كُلِّ ذِكْرٍ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللَّهُ أَكْبَرُ فِي الصَّلَاةِ تَخْصِيصٌ لِبَعْضِ ذَلِكَ الْعُمُومِ، فَيُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ لَوْ كَانَ بَيَانًا لِمُجْمَلٍ وَاحِدٍ. وَهَذَا سُؤَالٌ قَوِيٌّ لِأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ تَقَصَّيْنَا عَنْهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَنُعَوِّلُ الْآنَ هُنَا عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي». وَهُوَ إنَّمَا كَانَ يُكَبِّرُ وَلَا يَتَعَرَّضُ لِكُلِّ ذِكْرٍ، فَتَعَيَّنَ التَّكْبِيرُ بِأَمْرِهِ بِاتِّبَاعِهِ فِي صَلَاتِهِ، فَهُوَ الْمُبَيِّنُ لِذَلِكَ كُلِّهِ.

[الآية الرابعة قوله تعالى إن هذا لفي الصحف الأولى]

[الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى إنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى] } [الأعلى: 18] {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 19]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي مَعْنَاهُ: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ الْقُرْآنُ. الثَّانِي أَنَّهُ مَا قَصَّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا يَعْنِي أَحْكَامَ الْقُرْآنِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ تَحْقِيقُ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى} [الأعلى: 18] يَعْنِي الْقُرْآنَ مُطْلَقًا قَوْلٌ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ بَاطِلٌ قَطْعًا. وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ فِيهِ أَحْكَامُهُ فَإِنْ أَرَادَ مُعْظَمَ الْأَحْكَامِ فَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الشورى: 13]. وَأَمَّا إنْ أَرَادَ بِهِ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَهُوَ الْأَوْلَى مِنْ الْأَقْوَالِ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ بِالْعَجَمِيَّةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ تَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ فِي جَوَازِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ بِالْعَجَمِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى} [الأعلى: 18] {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 19]. قَالُوا: فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ كِتَابَهُ وَقُرْآنَهُ فِي صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى بِالْعِبْرَانِيَّةِ؛ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْإِخْبَارِ بِهَا عَنْهُ وَبِأَمْثَالِهَا مِنْ سَائِرِ الْأَلْسُنِ الَّتِي تُخَالِفُهُ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّا نَقُولُ: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ الْكُتُبَ، وَمَا بَعَثَ اللَّهُ

مِنْ رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ، كَمَا أَخْبَرَ، وَمَا أَنْزَلَ مِنْ كِتَابٍ إلَّا بِلُغَتِهِمْ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4]؛ كُلُّ ذَلِكَ تَيْسِيرٌ مِنْهُ عَلَيْهِمْ، وَتَقْرِيبٌ لِلتَّفْهِيمِ إلَيْهِمْ، وَكُلٌّ مُفْهِمٌ بِلُغَتِهِ، مُتَعَبِّدٌ بِشَرِيعَتِهِ، وَلِكُلِّ كِتَابٍ بِلُغَتِهِمْ اسْمٌ؛ فَاسْمُهُ بِلُغَةِ مُوسَى التَّوْرَاةُ، وَاسْمُهُ بِلُغَةِ عِيسَى الْإِنْجِيلُ، وَاسْمُهُ بِلُغَةِ مُحَمَّدٍ الْقُرْآنُ، فَقِيلَ لَنَا: اقْرَءُوا الْقُرْآنَ، فَيَلْزَمُنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ بِمَا يُسَمَّى قُرْآنًا. الثَّانِي: هَبْكُمْ سَلَّمْنَا لَكُمْ أَنْ يَكُونَ فِي صُحُفِ مُوسَى بِالْعِبْرَانِيَّةِ فَمَا الَّذِي يَقْتَضِي أَنَّهُ تَجُوزُ قِرَاءَتُهُ بِالْفَارِسِيَّةِ؟ فَإِنْ قِيلَ: بِالْقِيَاسِ. قُلْت: لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ لَا سِيَّمَا عِنْدَكُمْ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ عَلَى التَّمَامِ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

[سورة الغاشية فيها آية واحدة]

[سُورَةُ الْغَاشِيَةِ فِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ] [قَوْله تَعَالَى فَذَكِّرْ إنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ] ٌ] وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية: 21] {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية: 22]: فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْمُسَيْطِرُ هُوَ الْمُسَلَّطُ الَّذِي يَقْهَرُ وَيَغْلِبُ عَلَى مَا يَقُولُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ مُعَرِّفًا بِرِسَالَتِهِ، مُذَكِّرًا بِنُبُوَّتِهِ، يَدْعُو الْخَلْقَ إلَى اللَّهِ، وَيُذَكِّرُهُمْ عَهْدَهُ، وَيُبَشِّرُهُمْ وَعْدَهُ، وَيُحَذِّرُهُمْ وَعِيدَهُ، وَيُعَرِّفُهُمْ دِينَهُ، حَتَّى وَضَحَتْ الْمَحَجَّةُ، وَقَامَتْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ الْحُجَّةُ؛ فَلَمَّا اسْتَمَرَّ الْخَلْقُ عَلَى فَسَادِ رَأْيِهِمْ، وَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ وَغُلَوَائِهِمْ، أَمَرَهُ اللَّهُ بِالْقِتَالِ، وَسَوْقِ الْخَلْقِ إلَى الْإِيمَانِ قَسْرًا، وَنَسَخَ هَذِهِ الْآيَةَ وَأَمْثَالَهَا حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا. وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ، ثُمَّ قَرَأَ: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية: 21] {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية: 22]»: بِمُسَلَّطٍ عَلَى سَرَائِرِهِمْ، مُفَسِّرًا مَعْنَى الْآيَةِ، وَكَاشِفًا خَفِيَّ الْخَفَاءِ عَنْهَا. الْمَعْنَى إذَا قَالَ النَّاسُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَلَسْت بِمُسَلَّطٍ عَلَى سَرَائِرِهِمْ، وَإِنَّمَا عَلَيْك بِالظَّاهِرِ، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يُطَالَبُ لَا بِالظَّاهِرِ وَلَا بِالْبَاطِنِ، فَلَمَّا اسْتَوْلَى اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَتَكْلِيفِهِ الْقِتَالَ عَلَى الظَّاهِرِ، وَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إلَيْهِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ [صَحِيحُ السَّنَدِ]، صَحِيحُ الْمَعْنَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[سورة الفجر فيها خمس آيات]

[سُورَةُ الْفَجْرِ فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى وَالْفَجْرِ] ٍ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {وَالْفَجْرِ} [الفجر: 1]: فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْفَجْرُ: هُوَ أَوَّلُ أَوْقَاتِ النَّهَارِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ قِسْمَيْ الزَّمَانِ؛ وَهُوَ كَمَا قَدَّمْنَا فَجْرَانِ: أَحَدُهُمَا الْبَيَاضُ الَّذِي يَبْدُو أَوَّلًا ثُمَّ يَخْفَى؛ وَهُوَ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَرَبِ ذَنَبَ السِّرْحَانِ لِطُرْآنِهِ ثُمَّ إقْلَاعِهِ. وَالثَّانِي: هُوَ الْبَادِي مُتَمَادِيًا؛ وَيُسَمَّى الْأَوَّلُ الْمُسْتَطِيلَ؛ لِأَنَّهُ يَبْدُو كَالْحَبْلِ الْمُعَلَّقِ مِنْ الْأُفُقِ أَوْ الرُّمْحِ الْقَائِمِ فِيهِ؛ وَيُسَمَّى الثَّانِي الْمُسْتَطِيرَ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَشِرُ عَرْضًا فِي الْأُفُقِ، وَيُسَمَّى الْأَوَّلُ الْكَاذِبَ؛ وَلَيْسَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ. وَيُسَمَّى الثَّانِي الصَّادِقَ لِثُبُوتِهِ؛ وَبِهِ تَتَعَلَّقُ الْأَحْكَامُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَمْنَعُكُمْ مِنْ السُّحُورِ أَذَانُ بِلَالٍ، وَلَا الصُّبْحُ الْمُسْتَطِيلُ، وَلَكِنْ الْمُسْتَطِيرُ بِالْأُفُقِ». الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامٍ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَلِأَجْلِهِ قَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَأَشْهَبَ عَنْهُ: الْفَجْرُ أَمْرُهُ بَيِّنٌ، وَهُوَ الْبَيَاضُ الْمُعْتَرِضُ فِي الْأُفُقِ.

[الآية الثانية قوله تعالى وليال عشر]

[الْآيَةُ الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى وَلَيَالٍ عَشْرٍ] ٍ} [الفجر: 2]: فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي تَعْيِينِهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهَا عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ؛ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَهُ جَابِرٌ، وَرَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَصِحَّ. الثَّانِي: عَشْرُ الْمُحَرَّمِ؛ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ. الرَّابِعُ أَنَّهَا الْعَشْرُ الَّتِي أَتَمَّهَا اللَّهُ لِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي مِيقَاتِهِ مَعَهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَمَّا كُلُّ مَكْرُمَةٍ فَدَاخِلَةٌ مَعَهُ فِي هَذَا اللَّفْظِ بِالْمَعْنَى لَا بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ؛ لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ فِي إثْبَاتٍ، وَالنَّكِرَةُ فِي الْإِثْبَاتِ لَا تَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَلَا تُوجِبُ الشُّمُولَ؛ وَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْعُمُومِ مَعَ النَّفْيِ؛ فَهَذَا الْقَوْلُ يُوجِبُ دُخُولَ لَيَالٍ عَشْرٍ فِيهِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ، فَرَبُّك أَعْلَمُ بِمَا هِيَ؛ لَكِنْ تَبْقَى هَاهُنَا نُكْتَةٌ؛ وَهِيَ أَنْ تَقُولَ: فَهَلْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى تَعْيِينِهَا وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قُلْنَا: نَحْنُ نُعَيِّنُهَا بِضَرْبٍ مِنْ النَّظَرِ، وَهِيَ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّا لَمْ نَرَ فِي هَذِهِ اللَّيَالِي الْمُعْتَبَرَاتِ أَفْضَلَ مِنْهَا، لَا سِيَّمَا وَفِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ؛ فَلَا يُعَادِلُهَا وَقْتٌ مِنْ الزَّمَانِ.

[الآية الثالثة قوله تعالى والشفع والوتر]

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 2]؛ قَالَ: الْأَيَّامُ مَعَ اللَّيَالِي، وَاللَّيْلُ قَبْلَ النَّهَارِ، وَهُوَ حِسَابُ الْقَمَرِ الَّذِي وَقَّتَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْعِبَادَاتِ كَمَا رَتَّبَ عَلَى حِسَابِ الشَّمْسِ الَّذِي يَتَقَدَّمُ فِيهِ النَّهَارُ عَلَى اللَّيْلِ بِالْعَادَاتِ فِي الْمَعَاشِ وَالْأَوْقَاتِ. وَقَدْ ذَكَرَ شَيْخُ اللُّغَةِ وَحَبْرُهَا أَبُو عَمْرٍو الزَّاهِدُ أَنَّ مِنْ الْعَرَبِ مَنْ يَحْسِبُ النَّهَارَ قَبْلَ اللَّيْلِ، وَيَجْعَلُ اللَّيْلَةَ لِلْيَوْمِ الْمَاضِي، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ «قَوْلُ عَائِشَةَ فِي حَدِيثِ إيلَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ نِسَائِهِ، فَلَمَّا كَانَ صَبِيحَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَعُدُّهُنَّ عَدًّا دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَمْ تَكُنْ آلَيْت شَهْرًا فَقَالَ: إنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ»، وَلَوْ كَانَتْ اللَّيْلَةُ لِلْيَوْمِ الْآتِي لَكَانَ قَدْ غَابَ عَنْهُنَّ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَهَذَا التَّفْسِيرُ بَالِغٌ طَالَمَا سُقْتُهُ سُؤَالًا لِلْعُلَمَاءِ بِاللِّسَانِ وَتَقْلِيبًا لِلدَّفَاتِرِ بِالْبَيَانِ حَتَّى وَجَدْت أَبَا عَمْرٍو وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا؛ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ لُغَةً نَقَلَهَا، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ نُكْتَةً أَخَذَهَا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَاسْتَنْبَطَهَا. وَالْغَالِبُ فِي أَلْسِنَةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ غَلَبَةُ اللَّيَالِي لِلْأَيَّامِ، حَتَّى إنَّ مِنْ كَلَامِهِمْ: " صُمْنَا خَمْسًا " يُعَبِّرُونَ بِهِ عَنْ اللَّيَالِي، وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ فِي النَّهَارِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَةُ الثَّالِثَة قَوْله تَعَالَى وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ] ِ} [الفجر: 3]: فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى لِلْعُلَمَاءِ فِي تَعْيِينِهَا ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الصَّلَاةَ شَفْعٌ كُلُّهَا، وَالْمَغْرِبَ وَتْرٌ؛ قَالَهُ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ]. الثَّانِي: أَنَّ الشَّفْعَ أَيَّامُ النَّحْرِ، وَالْوَتْرَ يَوْمُ عَرَفَةَ، رَوَاهُ جَابِرٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الثَّالِثُ: أَنَّ الشَّفْعَ يَوْمُ مِنًى، وَالْوَتْرَ: الثَّالِثُ مِنْ أَيَّامِ مِنًى، وَهُوَ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ.

[مسألة المراد بالصلاة في قولة تعالى والشفع والوتر]

الرَّابِعُ أَنَّ الشَّفْعَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ، وَالْوَتْرَ أَيَّامُ مِنًى لِأَنَّهَا ثَلَاثَةٌ. الْخَامِسُ الشَّفْعُ: الْخَلْقُ، وَالْوَتْرُ اللَّهُ تَعَالَى؛ قَالَهُ قَتَادَةُ. السَّادِسُ أَنَّهُ الْخَلْقُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ مِنْهُ شَفْعًا وَمِنْهُ وَتْرًا. السَّابِعُ أَنَّهُ آدَم؛ وَتْرٌ شَفَعَتْهُ زَوْجَتُهُ، فَكَانَتْ شَفْعًا لَهُ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ. الثَّامِنُ أَنَّ الْعَدَدَ مِنْهُ شَفْعٌ، وَمِنْهُ وَتْرٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ هَذِهِ الْآيَةُ خِلَافُ الَّتِي قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الشَّفْعِ كَانَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْعَهْدِ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، مَا لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ عَهْدٌ؛ وَلَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ كُلَّ شَفْعٍ وَوَتْرٍ مِمَّا ذُكِرَ وَمِمَّا لَمْ يُذْكَرْ، وَإِنْ كَانَ مَا ذُكِرَ يَسْتَغْرِقُ مَا تُرِكَ فِي الظَّاهِرِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ لَكِنْ إنْ قُلْنَا: إنَّ اللَّيَالِيَ الْعَشْرَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ، فَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ يَوْمَ النَّحْرِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذُكِرَ فِي الْقِسْمِ الْمُتَقَدِّمِ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الْخَامِسُ فَوَجْهُ الْقَسَمِ فِيهِ وَحَقِّ الْخَلْقِ وَالْخَالِقِ لَهُمْ. وَأَمَّا الْقَوْلُ السَّادِسُ فَمَعْنَاهُ وَحَقِّ الْخَلْقِ. وَوَجْهُ الْقَوْلِ السَّابِعِ وَحَقِّ آدَمَ وَزَوْجَتِهِ. وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّامِنِ أَنَّهُ قَالَ: وَحَقِّ الْعَدَدِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ قِوَامَ الْخَلْقِ وَتَمَامًا لَهُمْ، حَتَّى لَقَدْ غَلَا فِيهِ الْغَالُونَ حَتَّى جَعَلُوهُ أَصْلَ التَّوْحِيدِ وَالتَّكْلِيفِ، وَسِرَّ الْعَالَمِ وَتَفَاصِيلَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهِ، وَهُوَ هَوَسٌ كُلُّهُ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ. [مَسْأَلَة الْمُرَاد بِالصَّلَاةِ فِي قولة تَعَالَى وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ] . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ إذَا قُلْنَا إنَّ الْمُرَادَ بِهِ الصَّلَاةُ فَمِنْهَا شَفْعٌ، وَهِيَ الصَّلَوَاتُ الْأَرْبَعُ، وَمِنْهَا وَتْرٌ وَهِيَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّهَا لَا تُعَادُ فِي جَمَاعَةٍ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لِأَنَّهَا لَوْ

[مسألة أقل النفل]

طُلِبَ بِهَا فَضْلُ الْجَمَاعَةِ لَانْقَلَبَتْ شَفْعًا، حَتَّى تَنَاهَى عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ فَقَالُوا: لَوْ أَعَادَهَا رَجُلٌ [فِي جَمَاعَةٍ] غَفْلَةً لَقِيلَ لَهُ: أَعِدْهَا ثَالِثَةً؛ حَتَّى تَكُونَ وَتْرًا تِسْعَ رَكَعَاتٍ، وَهَذَا بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ الْمَغْرِبَ لَوْ صَارَتْ بِالْإِعَادَةِ فِي الْجَمَاعَةِ شَفْعًا لَصَارَتْ الظُّهْرُ بِإِعَادَتِهَا ثَمَانِيًا، وَيَعُودُ ذَلِكَ فِي حَالِ التَّخْلِيطِ الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فَيُقَالُ فِيهِ: فَوَاَللَّهِ مَا أَدْرِي إذَا مَا ذَكَرْتهَا ... أَثِنْتَيْنِ صَلَّيْت الضُّحَى أَمْ ثَمَانِيًا فَكَمَا لَا تَتَضَاعَفُ الظُّهْرُ بِالْإِعَادَةِ، فَكَذَلِكَ لَا تَتَضَاعَفُ الْمَغْرِبُ، وَأَشَدُّهُ الصَّلَاةُ الثَّالِثَةُ، فَإِنَّهُ مِنْ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ. [مَسْأَلَة أَقَلَّ النَّفْلِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ لَمَّا قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّ أَقَلَّ النَّفْلِ رَكْعَتَانِ. قُلْنَا: إنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالشَّفْعِ} [الفجر: 3] يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الصَّلَوَاتِ كُلَّهَا فَرْضَهَا وَنَفْلَهَا. وقَوْله تَعَالَى: {وَالْوَتْرِ} [الفجر: 3] يَنْطَلِقُ عَلَى الْوَتْرِ وَحْدَهُ الَّذِي هُوَ فَرْدٌ. وَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ: «الِاسْتِجْمَارُ وَتْرٌ، وَالطَّوَافُ وَتْرٌ، وَالْفَرْدُ كَثِيرٌ»، وَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ يَكْفِي فِيهِ. [الْآيَةُ الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى وَاللَّيْلِ إذَا يَسْرِ] ِ} [الفجر: 4]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى أَقْسَمَ اللَّهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، كَمَا أَقْسَمَ بِسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ عُمُومًا وَخُصُوصًا، وَجُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَخَصَّهُ هَاهُنَا بِالسُّرَى لِنُكْتَةٍ هِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [يونس: 67].

[الآية الخامسة قوله تعالى ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد]

وَقَالَ: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} [النبأ: 10] {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 11] وَأَشَارَ هَاهُنَا إلَى أَنَّ اللَّيْلَ قَدْ يُتَصَرَّفُ فِيهِ لِلْمَعَاشِ، كَمَا يَتَصَرَّفُ فِي النَّهَارِ، وَيَتَقَلَّبُ فِي الْحَالِ فِيهِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ. وَفِي الصَّحِيحِ «أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَيْلٍ، فَقَالَ لَهُ: السُّرَى يَا جَابِرُ». وَخَاصَّةً الْمُسَافِرُ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ كُنْت قَدْ قَيَّدْت فِي فَوَائِدِي بِالْمَنَارِ أَنَّ الْأَخْفَشَ قَالَ لِمُؤَرِّجٍ: مَا وَجْهُ مَنْ حَذَفَ مِنْ عَدَا ابْنَ كَثِيرٍ الْيَاءَ مِنْ قَوْلِهِ: يَسْرِي؟ فَسَكَتَ عَنْهَا سَنَةً، ثُمَّ قُلْنَا لَهُ: نَخْتَلِفُ إلَيْك نَسْأَلُك مُنْذُ عَامٍ عَنْ هَذِهِ. الْمَسْأَلَةِ فَلَا تُجِيبُنَا؟ فَقَالَ: إنَّمَا حَذَفَهَا لِأَنَّ اللَّيْلَ يُسْرَى فِيهِ وَلَا يَسْرِي. فَعَجِبْت مِنْ هَذَا الْجَوَابِ الْمُقَصِّرِ مِنْ غَيْرِ مُبْصِرٍ؛ فَقَالَ لِي بَعْضُ أَشْيَاخِي: تَمَامُهُ فِي بَيَانِهِ أَنَّ ذَلِكَ لِفِقْهٍ، هُوَ أَنَّ الْحَذْفَ يَدُلُّ عَلَى الْحَذْفِ، وَهُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ. وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ. [الْآيَة الْخَامِسَة قَوْله تَعَالَى أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّك بِعَادٍ إرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ] الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} [الفجر: 6] {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر: 7]: فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى أَمَّا " عَادٌ " فَمَعْلُومَةٌ قَدْ جَرَى ذِكْرُهَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا، وَعَظُمَ أَمْرُهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: إرَمَ فِيهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ اسْمُ جَدِّ عَادٍ؛ قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ. الثَّانِي: إرَمُ: أُمَّةٌ مِنْ الْأُمَمِ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ اسْمُ قَبِيلَةٍ مِنْ عَادٍ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ وَهُوَ: الرَّابِعُ هُوَ إرَمُ بْنُ عَوْصِ بْنُ سَامِ بْنُ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. الْخَامِسُ أَنَّ إرَمَ الْهَلَاكُ: يُقَالُ: أَرَمَ بَنُو فُلَانٍ أَيْ هَلَكُوا. السَّادِسُ أَنَّهُ اسْمُ الْقَرْيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَالَ الْقَاضِي: لَوْ أَنَّ قَوْلَهُ: إرَمَ يَكُونُ مُضَافًا إلَى عَادٍ لَكَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إلَى جَدِّهِ أَوْ إلَى إرَمَ. فَأَمَّا قَوْلُهُ عَادٌ مُنَوَّنٌ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ جَدِّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا زَائِدًا لِعَادٍ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا أُمَّةٌ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ قَبِيلَةً مِنْهَا، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ اسْمَ الْقَرْيَةِ. وَيُحْتَمَلُ إذَا كَانَ بِمَعْنَى الْهَلَاكِ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا، لَوْلَا أَنَّ الْمَصْدَرَ فِيهَا إرْمٌ بِكَسْرِ الْفَاءِ. فَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَحْتَ ذَلِكَ مِنْ الْخَفَاءِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ: {ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر: 7]: فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ عَمُودٍ يَنْتَجِعُونَ الْقَطْرَ. الثَّانِي: أَنَّهُ الطُّولُ، كَانُوا أَطْوَلَ أَجْسَامًا وَأَشَدَّ قُوَّةً. وَزَعَمَ قَتَادَةُ أَنَّ طُولَ الرَّجُلِ مِنْهُمْ اثْنَا عَشَرَ ذِرَاعًا. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي الْهَوَاءِ، فَلَمْ يَزَلْ الْخَلْقُ يَنْقُصُ إلَى الْآنَ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْعِمَادَ الْقُوَّةُ، وَيَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ. الرَّابِعُ أَنَّهُ ذَاتُ الْبِنَاءِ الْمُحْكَمِ، يُقَالُ: إنَّ فِيهَا أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ عَمُودٍ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ فِي تَعْيِينِهَا: وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ أَنَّ أَشْهَبَ قَالَ عَنْ مَالِكٍ: هِيَ دِمَشْقُ؛ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ: هِيَ

الْإِسْكَنْدَرِيَّة. وَتَحْقِيقُهَا أَنَّهَا دِمَشْقُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَ فِي الْبِلَادِ مِثْلُهَا وَقَدْ ذَكَرْت صِفَتَهَا وَخَبَرَهَا فِي كِتَابِ تَرْتِيبِ الرِّحْلَةِ لِلتَّرْغِيبِ فِي الْمِلَّةِ، وَإِلَيْهَا أَوَتْ مَرْيَمُ، وَبِهَا كَانَ آدَم، وَعَلَى الْغُرَابِ جَبَلِهَا دَمُ هَابِيلَ فِي الْحَجَرِ جَارٍ لَمْ تُغَيِّرْهُ اللَّيَالِي، وَلَا أَثَّرَتْ فِيهِ الْأَيَّامُ، وَلَا ابْتَلَعَتْهُ الْأَرْضُ، بَاطِنُهَا كَظَاهِرِهَا، مَدِينَةٌ بِأَعْلَاهَا، وَمَدِينَةٌ بِأَسْفَلِهَا، تَشُقُّهَا تِسْعَةُ أَنْهَارٍ؛ لِلْقَصَبَةِ نَهْرٌ، وَلِلْجَامِعِ نَهْرٌ، وَبَاقِيهَا لِلْبَلَدِ، وَتَجْرِي الْأَنْهَارُ مِنْ تَحْتِهَا كَمَا تَجْرِي مِنْ فَوْقِهَا، لَيْسَ فِيهَا كِظَامَةٌ وَلَا كَنِيفٌ، وَلَا فِيهَا دَارٌ، وَلَا سُوقٌ، وَلَا حَمَّامٌ، إلَّا وَيَشُقُّهُ الْمَاءُ لَيْلًا وَنَهَارًا دَائِمًا أَبَدًا، وَفِيهَا أَرْبَابُ دُورٍ قَدْ مَكَّنُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ سَعَةِ الْأَحْوَالِ بِالْمَاءِ، حَتَّى إنَّ مُسْتَوْقَدَهُمْ عَلَيْهِ سَاقِيَةٌ، فَإِذَا طُبِخَ الطَّعَامُ وُضِعَ فِي الْقَصْعَةِ، وَأُرْسِلَ فِي السَّاقِيَةِ؛ فَيُجْرَفُ إلَى الْمَجْلِسِ فَيُوضَعُ فِي الْمَائِدَةِ، ثُمَّ تُرَدُّ الْقَصْعَةُ مِنْ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى إلَى الْمُسْتَوْقَدِ فَارِغَةً، فَتُرْسَلُ أُخْرَى مَلْأَى، وَهَكَذَا حَتَّى يَتِمَّ الطَّعَامُ. وَإِذَا كَثُرَ الْغُبَارُ فِي الطُّرُقَاتِ أَمَرَ صَاحِبُ الْمَاءِ أَنْ يُطْلَقَ النَّهْرُ عَلَى الْأَسْوَاقِ وَالْأَرْبَاضِ فَيَجْرِي الْمَاءُ عَلَيْهَا، حَتَّى يَلْجَأَ النَّاسُ فِي الْأَسْوَاقِ وَالطُّرُقَاتِ إلَى الدَّكَاكِينِ، فَإِذَا كُسِحَ غُبَارُهَا سَكَّرَ السَّاقِيَانِيُّ أَنْهَارَهَا، فَمَشَيْت فِي الطُّرُقِ عَلَى بَرْدِ الْهَوَاءِ وَنَقَاءِ الْأَرْضِ، وَلَهَا بَابُ جَيْرُونِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ؛ وَعِنْدَهُ الْقُبَّةُ الْعَظِيمَةُ والمِيقَاتَاتُ لِمَعْرِفَةِ السَّاعَاتِ، عَلَيْهَا بَابُ الْفَرَادِيسِ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ مِثْلُهُ، عِنْدَهُ كَانَ مَقَرِّي، وَإِلَيْهِ مِنْ الْوَحْشَةِ كَانَ مَفَرِّي، وَإِلَيْهِ كَانَ انْفِرَادِي لِلدَّرْسِ وَالتَّقَرِّي. وَفِيهَا الْغُوطَةُ مَجْمَعُ الْفَاكِهَاتِ، وَمَنَاطُ الشَّهَوَاتِ، عَلَيْهَا تَجْرِي الْمِيَاهُ، وَمِنْهَا تُجْنَى الثَّمَرَاتُ؛ وَإِنَّ فِي الْإِسْكَنْدَرِيَّة لَعَجَائِبَ لَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا الْمَنَارُ فَإِنَّهَا مَبْنِيَّةُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ عَلَى الْعُمُدِ، وَلَكِنْ لَهَا أَمْثَالٌ، فَأَمَّا دِمَشْقُ فَلَا مِثَالَ لَهَا. وَقَدْ رَوَى مَعْنٌ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ كِتَابًا وُجِدَ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فَلَمْ يُدْرَ مَا هُوَ، فَإِذَا فِيهِ: أَنَا شَدَّادُ بْنُ عَادٍ الَّذِي رَفَعَ الْعِمَادَ، بَنَيْتهَا حِينَ لَا شَيْبَ وَلَا مَوْتَ قَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانَ لَتَمُرُّ بِهِمْ مِائَةُ سَنَةٍ لَا يَرَوْنَ بِهَا جِنَازَةً. وَذُكِرَ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا شَدَّادُ بْنُ عَادٍ، أَنَا الَّذِي رَفَعْت الْعِمَادَ، أَنَا الَّذِي كَنَزْت كَنْزًا عَلَى سَبْعَةِ أَذْرُعٍ، لَا يُخْرِجُهُ إلَّا أُمَّةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

[مسألة التطاول في البنيان]

[مَسْأَلَة التَّطَاوُلِ فِي الْبُنْيَانِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ فِيهَا مِنْ طَرِيقِ الْأَحْكَامِ التَّحْذِيرُ مِنْ التَّطَاوُلِ فِي الْبُنْيَانِ، وَالتَّعَاظُمِ بِتَشْيِيدِ الْحِجَارَةِ، وَالنَّدْبُ إلَى تَحْصِيلِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُوصِلُ إلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَمِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ التَّطَاوُلُ فِي الْبُنْيَانِ، «وَقَدْ عُرِضَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُنْيَانُ مَسْجِدِهِ، فَقَالَ: عَرِيشٌ كَعَرِيشِ مُوسَى». وَالْبُنْيَانُ أَهْوَنُ مِنْ ذَلِكَ. وَلَقَدْ تُوُفِّيَ وَمَا وَضَعَ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ، ثُمَّ تَطَاوَلْنَا فِي بُنْيَانِنَا، وَزَخْرَفْنَا مَسَاجِدَنَا، وَعَطَّلْنَا قُلُوبَنَا وَأَبْدَانَنَا. وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

[سورة البلد فيها ثلاث آيات]

[سُورَةُ الْبَلَدِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ] ٍ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 1]: فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي قِرَاءَتِهَا: قَرَأَ الْحَسَنُ، وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ كَثِيرٍ: لَأُقْسِمُ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ زَائِدَةٍ عَلَى اللَّامِ إثْبَاتًا. وَقَرَأَهَا النَّاسُ بِالْأَلِفِ نَفْيًا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اخْتَلَفَ النَّاسُ إذَا كَانَ حَرْفُ " لَا " مَخْطُوطًا بِأَلِفٍ عَلَى صُورَةِ النَّفْيِ، هَلْ يَكُونُ الْمَعْنَى نَفْيًا كَالصُّورَةِ أَمْ لَا؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: تَكُونُ صِلَةً فِي اللَّفْظِ، كَمَا تَكُونُ " مَا " صِلَةً فِيهِ؛ وَذَلِكَ فِي حَرْفِ " مَا " كَثِيرٌ؛ فَأَمَّا حَرْفُ لَا فَقَدْ جَاءَتْ [كَذَلِكَ] فِي قَوْلِ الشَّاعِر: تَذَكَّرْت لَيْلَى فَاعْتَرَتْنِي صَبَابَةٌ ... وَكَادَ ضَمِيرُ الْقَلْبِ لَا يَتَقَطَّعُ أَيْ يَتَقَطَّعُ، وَدَخَلَ حَرْفُ " لَا " صِلَةً. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: [يَكُونُ] تَوْكِيدًا، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: لَا وَاَللَّهِ، وَكَقَوْلِ أَبِي كَبْشَةَ [امْرِئِ الْقَيْسِ]: فَلَا وَأَبِيكِ ابْنَةَ الْعَامِرِيِّ ... لَا يَدَّعِي الْقَوْمُ أَنِّي أَفِرُّ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ: وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهَا رَدٌّ لِكَلَامِ مَنْ أَنْكَرَ الْبَعْثَ، ثُمَّ ابْتَدَأَ

الْقَسَمَ؛ فَقَالَ: أُقْسِمُ، لِيَكُونَ فَرْقًا بَيْنَ الْيَمِينِ الْمُبْتَدَأَةِ وَبَيْنَ الْيَمِينِ الَّتِي تَكُونُ رَدًّا؛ قَالَهُ الْفَرَّاءُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ أَمَّا كَوْنُهَا صِلَةً فَقَدْ ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ: {مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ أَنَّهُ صِلَةٌ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي ص: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ} [ص: 75] وَالنَّازِلَةُ وَاحِدَةٌ، وَالْمَقْصُودُ وَاحِدٌ، وَالْمَعْنَى سَوَاءٌ؛ فَالِاخْتِلَافُ إنَّمَا يَعُودُ إلَى اللَّفْظِ خَاصَّةً. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ تَوْكِيدٌ فَلَا مَعْنَى لَهُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ التَّوْكِيدَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا ظَهَرَ الْمُؤَكِّدُ؛ كَقَوْلِهِ: لَا وَاَللَّهِ لَا أَقُومُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُؤَكِّدٌ فَلَا وَجْهَ لِلتَّأْكِيدِ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ: فَلَا وَأَبِيكِ ابْنَةَ الْعَامِرِيِّ ... لَا يَدَّعِي الْقَوْمُ أَنِّي أَفِرُّ [كَيْفَ] أَكَّدَ النَّفْيَ وَهُوَ لَا يَدِّعِي بِمِثْلِهِ. وَمِنْ أَغْرَبِ هَذَا أَنَّهُ قَدْ تُضْمَرُ وَيُنْفَى مَعْنَاهَا، كَمَا قَالَ أَبُو كَبْشَةَ: فَقُلْت يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا ... وَلَوْ قَطَعُوا رَأْسِي لَدَيْك وَأَوْصَالِي فِي قَوْلٍ. وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي رِسَالَةِ الْإِلْجَاءِ لِلْفُقَهَاءِ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ الْأُدَبَاء. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا رَدٌّ فَهُوَ قَوْلٌ لَيْسَ لَهُ رَدٌّ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ بِهِ الْمَعْنَى، وَيَتَمَكَّنُ اللَّفْظُ وَالْمُرَادُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَأَمَّا مَنْ قَرَأَهَا: لَأُقْسِمُ فَاخْتَلَفُوا؛ فَمِنْهُمْ مَنْ حَذَفَهَا فِي الْخَطِّ كَمَا حَذَفَهَا فِي اللَّفْظِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ فَإِنَّ خَطَّ الْمُصْحَفِ أَصْلٌ ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَكْتُبُهَا وَلَا أَلْفِظُ بِهَا، كَمَا كَتَبُوا " لَا إلَى الْجَحِيمِ ". و " لَا إلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ " بِأَلِفٍ، وَلَمْ يَلْفِظُوا بِهَا، وَهَذَا يَلْزَمُهُمْ فِي قَوْلِهِ: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة: 75] وَشِبْهِهِ، وَلَمْ يَقُولُوا بِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا تَكُونُ صِلَةً فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ، كَقَوْلِهِ: {لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [الحديد: 29] وَقَوْلِهِ: {أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] وَنَحْوِهِ؛ فَأَمَّا فِي ابْتِدَاءِ الْكَلَامِ فَلَا يُوصَلُ بِهَا إلَّا مَقْرُونَةً بِأَلِفٍ، كَقَوْلِهِ: {أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [يونس: 55]. فَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنْ قَالُوا: إنَّ الْقُرْآنَ كَكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوا؛ لِأَنَّهُ لَوْ وُصِلَ بِهَا مَا قَبْلَهَا لَكَانَتْ: أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَهَذَا لَا يَجُوزُ، حَتَّى إنَّ قَوْمًا كَرِهُوا فِي الْقِرَاءَةِ أَنْ يَصِلُوهَا بِهَا، وَوَقَفُوا حَتَّى يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لِيَقْطَعُوا الْوَصْلَ الْمُتَوَهَّمَ. وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ أَنْ نَقُولَ: إنَّ الصِّلَةَ بِهَا فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ كَصِلَةِ آخِرِهِ بِهَا، كَذِكْرِهَا فِي أَثْنَائِهِ؛ بَلْ ذِكْرُهَا فِي أَثْنَائِهِ أَبْلَغُ فِي الْإِشْكَالِ، كَقَوْلِهِ: {مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] وَلَوْ كَانَ هَذَا كُلُّهُ خَارِجًا عَنْ أُسْلُوبِ الْبَلَاغَةِ، قَادِحًا فِي زَيْنِ الْفَصَاحَةِ، مُثَبِّجًا قَوَانِينَ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي طَالَ الْقُرْآنُ بِهَا أَنْوَاعَ الْكَلَامِ، وَلَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِهِ الْفُصَحَاءُ الْبُلَّغُ، وَالْعَرَبُ الْعُرْبُ، وَالْخُصَمَاءُ اللُّدُّ، فَلَمَّا سَلَّمُوا فِيهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ عَلَى أُسْلُوبِهِمْ جَارٍ، وَفِي رَأْسِ فَصَاحَتِهِمْ مَنْظُومٌ، وَعَلَى قُطْبِ عَرَبِيَّتِهِمْ دَائِرٌ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ مُحَقِّقِي الْمُفَسِّرِينَ، فَقَالُوا: قَوْلُهُ: {لا أُقْسِمُ} [البلد: 1] قَسَمٌ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ أَقْسَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِغَيْرِهِ. قُلْنَا: هَذَا قَدْ بَيَّنَّا الْجَوَابَ عَنْهُ عَلَى الْبَلَاغِ فِي كِتَابِ قَانُونِ التَّأْوِيلِ، وَقُلْنَا: لِلْبَارِي تَعَالَى أَنْ يُقْسِمَ بِمَا شَاءَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ تَعْظِيمًا لَهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ مَنَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْقَسَمِ بِغَيْرِ اللَّهِ؟ قُلْنَا: لَا تُعَلَّلُ الْعِبَادَاتُ. وَلِلَّهِ أَنْ يُشَرِّعَ مَا شَاءَ، وَيَمْنَعَ مَا شَاءَ [وَيُبِيحَ مَا شَاءَ]، وَيُنَوِّعَ الْمُبَاحَ وَالْمُبَاحَ لَهُ، وَيُغَايِرَ بَيْنَ الْمُشْتَرَكِينَ، وَيُمَاثِلَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ، وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِيمَا كَلَّفَ مِنْ ذَلِكَ، وَحَمَّلَ فَإِنَّهُ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. فَإِنْ قِيلَ. فَلِمَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَصَّ عَلَيْهِ دَعَائِمَ

[الآية الثانية قوله تعالى وأنت حل بهذا البلد]

الْإِسْلَامِ وَفَرَائِضَ الْإِيمَانِ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ: أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إنْ صَدَقَ. [قُلْت: قَدْ رَأَيْته فِي نُسْخَةٍ مَشْرِقِيَّةٍ فِي الْإِسْكَنْدَرِيَّة: أَفْلَحَ وَاَللَّه إنْ صَدَقَ، وَيُمْكِنُ] أَنْ يَتَصَحَّفَ قَوْلُهُ: وَاَللَّهِ بِقَوْلِهِ: وَأَبِيهِ. جَوَابٌ آخَرُ بِأَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: «إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ». جَوَابٌ آخَرُ إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا نَهَى عَنْهُ عِبَادَةً، فَإِذَا جَرَى ذَلِكَ عَلَى الْأَلْسُنِ عَادَةً فَلَا يُمْنَعُ، فَقَدْ كَانَتْ الْعَرَبُ تُقْسِمُ فِي ذَلِكَ بِمَنْ تَكْرَهُ، فَكَيْفَ بِمَنْ تُعَظِّمُ؛ قَالَ ابْنُ مَيَّادَةَ: أَظَنَّتْ سِفَاهًا مِنْ سَفَاهَةِ رَأْيِهَا ... لَأَهْجُوهَا لَمَا هَجَتْنِي مُحَارِبُ فَلَا وَأَبِيهَا إنَّنِي بِعَشِيرَتِي ... وَنَفْسِي عَنْ هَذَا الْمُقَامِ لَرَاغِبُ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَحَدُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ: لَعَمْرُ أَبِي الْوَاشِينَ أَيَّانَ نَلْتَقِي ... لَمَا لَا تُلَاقِيهَا مِنْ الدَّهْرِ أَكْثَرُ يَعُدُّونَ يَوْمًا وَاحِدًا إنْ لَقِيتهَا ... وَيَنْسَوْنَ أَيَّامًا عَلَى النَّأْيِ تَهْجُرُ وَقَالَ آخَرُ: لَعَمْرُ أَبِي الْوَاشِينَ لَا عَمْرَ غَيْرُهُمْ ... لَقَدْ كَلَّفَتْنِي خُطَّةً لَا أُرِيدُهَا وَقَالَ آخَرُ: فَلَا وَأَبِي أَعْدَائِهَا لَا أَزُورُهَا وَإِذَا كَانَ هَذَا شَائِعًا كَانَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ سَائِغًا. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ] ِ} [البلد: 2]: فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي قَوْلِهِ: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 2]: فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا وَأَنْتَ سَاكِنٌ، تَقْدِيرُ الْكَلَامِ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ الَّذِي أَنْتَ [فِيهِ لِكَرَامَتِك عَلَيَّ، وَحُبِّي لَك؛ وَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى نَحْوِ الْحَالِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ] فِيهِ. الثَّانِي: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ يَحِلُّ لَك فِيهِ الْقَتْلُ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا تُحَلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا حُلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ». الثَّالِثُ: وَيَرْجِعُ إلَى الثَّانِي أَنَّهُ يَحِلُّ لَك دُخُولُهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ؛ «دَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، وَلَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا». الرَّابِعُ قَالَ مُجَاهِدٌ: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ لَيْسَ عَلَيْك مَا عَلَى النَّاسِ فِيهِ مِنْ الْإِثْمِ: يُرِيدُ أَنَّ اللَّهَ عَصَمَك. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَمَّا قَوْلُهُ: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 2] أَيْ سَاكِنٌ فِيهِ؛ فَيُحْتَمَلُ اللَّفْظُ، وَتَقْتَضِيهِ الْكَرَامَةُ، وَيَشْهَدُ لَهُ عِظَمُ الْمَنْزِلَةِ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي جَوَازِ الْقَتْلِ بِمَكَّةَ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ فِيهَا فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا؛ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ. وَأَمَّا دُخُولُهُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ. وَأَمَّا دُخُولُ النَّاسِ مَكَّةَ فَعَلَى قِسْمَيْنِ: إمَّا لِتَرَدُّدِ الْمَعَاشِ، وَإِمَّا لِحَاجَةٍ عَرَضَتْ؛ فَإِنْ كَانَ لِتَرَدُّدِ الْمَعَاشِ فَيَدْخُلُهَا حَلَالًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كُلِّفَ الْإِحْرَامَ فِي كُلِّ وَقْتٍ لَمْ يُطِقْهُ، وَقَدْ رُفِعَ تَكْلِيفُ هَذَا عَنَّا. وَأَمَّا إنْ كَانَ لِحَاجَةٍ عَرَضَتْ فَلَا يَخْلُو؛ إمَّا أَنْ تَكُونَ حَجَّةً أَوْ عُمْرَةً أَوْ غَيْرَهُمَا؛ فَإِنْ كَانَ حَجَّةً أَوْ عُمْرَةً فَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْإِحْرَامِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُمَا فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ؛ فَفِي الْمَشْهُورِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْإِحْرَامِ، وَرُوِيَ عَنْهُ تَرْكُهُ.

[مسألة معنى قوله تعالى بهذا البلد]

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ مِثْلَ هَذَا الِاخْتِلَافِ. وَالصَّحِيحُ وُجُوبُ الْإِحْرَامِ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَمْ تُحَلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا تُحَلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ». وَهَذَا عَامٌّ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى بِهَذَا الْبَلَدِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ: {بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 1] مَكَّةَ بِاتِّفَاقٍ مِنْ الْأُمَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَقَدْ أَشَارَ لَهُ رَبُّهُ بِهَذَا، وَذَكَرَ لَهُ الْبَلَدَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ؛ فَاقْتَضَى ذَلِكَ [ضَرُورَةً] التَّعْرِيفَ الْمَعْهُودَ. وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مَكَّةُ. وَالثَّانِي أَنَّهُ الْحَرَمُ كُلُّهُ. وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْبَلَدَ بِحَرِيمِهِ، كَمَا أَنَّ الدَّارَ بِحَرِيمِهَا، فَحَرِيمُ الدَّارِ مَا أَحَاطَ بِجُدْرَانِهَا، وَاتَّصَلَ بِحُدُودِهَا، وَحَرِيمُ بَابِهَا مَا كَانَ لِلْمَدْخَلِ وَالْمَخْرَجِ، وَحَرِيمُ الْبِئْرِ فِي الْحَدِيثِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَعِنْدَ عُلَمَائِنَا يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَرَاضِي فِي الصَّلَابَةِ وَالرَّخَاوَةِ، وَلَهَا حَرِيمُ السَّقْيِ بِحَيْثُ لَا تَخْتَلِطُ الْمَاشِيَةُ بِالْمَاشِيَةِ مِنْ الْبِئْرِ الْأُخْرَى فِي الْمَسْقَى وَالْمَبْرَكِ، وَمَنْ حَازَ حَرِيمًا أَوْ مُنَاخًا قَبْلَ صَاحِبِهِ فَهُوَ لَهُ. وَحَرِيمُ الشَّجَرَةِ مَا عَمُرَتْ بِهِ فِي الْعَادَةِ وَفِي كِتَابِ أَبِي دَاوُد؛ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «اخْتَصَمَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلَانِ فِي حَرِيمِ نَخْلَةٍ، فَأَمَرَ بِهَا» وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: «فَأَمَرَ بِجَرِيدَةٍ مِنْ جَرَائِدِهَا فَذُرِعَتْ، فَوُجِدَتْ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ». وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْضًا: «خَمْسَةَ أَذْرُعٍ فَقَضَى بِذَلِكَ». وَاَلَّذِي يَقْضِي بِهِ مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ يَأْخُذُ حَقَّهُ فِي الْعِمَارَةِ التَّامَّةِ مِنْ نَاحِيَةِ الْأَرْضِ، وَيَأْخُذُ دَوْحَتَهَا فِي الْهَوَاءِ، إلَّا أَنْ تَسْتَرْسِلَ أَغْصَانُهَا عَلَى أَرْضِ رَجُلٍ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ مِنْهَا مَا أَضَرَّ بِهِ. [الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَة] َ} [البلد: 11]: فِيهَا ثَمَانِ مَسَائِلَ:

[مسألة قوله تعالى وما أدراك ما العقبة]

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْعَقَبَةُ: فِيهَا خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا طَرِيقُ النَّجَاةِ؛ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. الثَّانِي جَبَلٌ فِي جَهَنَّمَ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ. الثَّالِثُ: عَقَبَةٌ فِي جَهَنَّمَ هِيَ سَبْعُونَ دَرَجَةً، قَالَهُ كَعْبٌ. الرَّابِعُ أَنَّهَا نَارٌ دُونَ الْحَشْرِ. الْخَامِسُ أَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَهُ وَهَوَاهُ وَعَدُوَّهُ الشَّيْطَانَ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ: عَقَبَةٌ وَاَللَّهِ شَدِيدَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الْعَقَبَةُ فِي اللُّغَةِ هِيَ الْأَمْرُ الشَّاقُّ، وَهُوَ فِي الدُّنْيَا بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ وَالطَّاعَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْمُقَاسَاةِ لِلْأَهْوَالِ وَتَعْيِينُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِخَبَرِ الصَّادِقِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ " اقْتَحَمَ " مَعْنَاهُ قَطَعَ الْوَادِيَ بِسُلُوكِهِ فِيهِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: هُوَ رَمْيُهُ فِي وَهْدَةٍ بِنَفْسِهِ. وَقَالَ عَلِيٌّ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْتَحِمَ جَرَاثِيمَ جَهَنَّمَ فَلِيَقْضِ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ. وَإِنَّمَا فَسَّرْنَاهُ بَعْدَ الْعَقَبَةِ لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ تَقَدَّمَ فِي الشَّرْحِ عَلَى الصِّفَةِ بِحُكْمِ النَّظَرِ الْحَقِيقِيِّ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. [مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى وَمَا أَدْرَاك مَا الْعَقَبَةُ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ اخْتَارَ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا التَّقْسِيمِ قَوْلَ مُجَاهِدٍ: إنَّهُ لَمْ يَقْتَحِمْ الْعَقَبَةَ فِي الدُّنْيَا؛ وَإِنَّمَا اخْتَارَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} [البلد: 12]. ثُمَّ قَالَ فِي الْآيَةِ الرَّابِعَةِ: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13]. وَفِي الْآيَةِ الْخَامِسَةِ: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد: 14]. ثُمَّ قَالَ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ: {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد: 15]. ثُمَّ قَالَ فِي الْآيَةِ السَّابِعَةِ: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16]، فَهَذِهِ الْأَعْمَالُ إنَّمَا تَكُونُ فِي الدُّنْيَا. الْمَعْنَى فَلَمْ يَأْتِ فِي الدُّنْيَا بِمَا يُسَهِّلُ لَهُ سُلُوكَ الْعَقَبَةِ فِي الْآخِرَةِ.

تَحْقِيقُهُ: وَمَا أَدْرَاك مَا الْعَقَبَةُ؛ أَيُّ شَيْءٍ يَقْتَحِمُ بِهِ الْعَقَبَةَ؛ لِأَنَّ الِاقْتِحَامَ يَدُلُّ عَلَى مُقْتَحَمٍ بِهِ، وَهُوَ مَا فَسَّرَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ: أَوَّلُهَا فَكُّ رَقَبَةٍ. وَالْفَكُّ هُوَ حَلُّ الْقَيْدِ، وَالرِّقُّ قَيْدٌ، وَسُمِّيَ الْمَرْقُوقُ رَقَبَةً لِأَنَّهُ كَالْأَسِيرِ الَّذِي يُرْبَطُ بِالْقَيْدِ فِي عُنُقِهِ قَالَ حَسَّانُ: كَمْ مِنْ أَسِيرٍ فَكَكْنَاهُ بِلَا ثَمَنٍ ... وَجَزِّ نَاصِيَةٍ كُنَّا مَوَالِيهَا وَفَكُّ الْأَسِيرِ مِنْ الْعَدُوِّ مِثْلُهُ؛ بَلْ أَوْلَى مِنْهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا قَبْلُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا كَانَ فِكَاكَهُ مِنْ النَّارِ». وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ حَتَّى الْفَرْجَ بِالْفَرْجِ». وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَظِيمٌ فِي تَكْفِيرِ الزِّنَا بِالْعِتْقِ. وَفِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ «أَنَّ وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ سَأَلَ أَنْ يُحَدِّثَ بِحَدِيثٍ لَا وَهْمَ فِيهِ وَلَا نُقْصَانَ، فَغَضِبَ وَاثِلَةُ، وَقَالَ: الْمَصَاحِفُ تُجَدِّدُونَ فِيهَا النَّظَرَ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً وَأَنْتُمْ تَهُمُّونَ تَزِيدُونَ وَتُنْقِصُونَ، ثُمَّ قَالَ: جَاءَ نَاسٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَاحِبُنَا هَذَا قَدْ أَوْجَبَ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مُرُوهُ فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً؛ فَإِنَّ لَهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْ الْمُعْتَقِ عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ». وَرَوَى الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عُلَيَّةَ، حَدَّثَهُمْ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الدِّيلِيُّ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ بِنَحْوِ مِثْلِهِ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَالَ أَصْبَغُ: الرَّقَبَةُ الْكَافِرَةُ ذَاتُ الثَّمَنِ أَفْضَلُ فِي الْعِتْقِ مِنْ الرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ الْقَلِيلَةِ الثَّمَنِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ سُئِلَ أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَغْلَاهَا ثَمَنًا، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا». وَالْمُرَادُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا»، «وَمَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً»، وَمَا ذَكَرَهُ أَصْبَغُ وَهْلَةً. وَإِنَّمَا نُظِرَ إلَى تَنْقِيصِ الْمَالِ، وَالنَّظَرُ إلَى تَجْرِيدِ الْمُعْتَقِ لِلْعِبَادَةِ؛ وَتَفْرِيغِهِ لِلتَّوْحِيدِ أَوْلَى. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الصَّرِيحِ مِنْ مُخْتَصَرِ النَّيِّرَيْنِ.

[مسألة إطعام الطعام]

[مَسْأَلَة إطْعَامُ الطَّعَامِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ إطْعَامُ الطَّعَامِ قَدْ بَيَّنَّا فَضْلَهُ، وَهُوَ مَعَ السَّغَبِ الَّذِي هُوَ الْجُوعُ أَفْضَلُ مِنْ إطْعَامِهِ لِمُجَرَّدِ الْحَاجَةِ، أَوْ عَلَى مُقْتَضَى الشَّهْوَةِ. وَإِطْعَامُ الْيَتِيمِ الَّذِي لَا كَافِلَ لَهُ أَفْضَلُ مِنْ إطْعَامِ ذِي الْأَبَوَيْنِ لِوُجُودِ الْكَافِلِ وَقِيَامِ النَّاصِرِ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ. [مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى ذَا مَقْرَبَةٍ] وَالْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى: {ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد: 15] يُفِيدُ أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْقَرِيبِ أَفْضَلُ مِنْهَا عَلَى الْبَعِيدِ؛ وَلِذَلِكَ بَدَأَ بِهِ قَبْلَ الْمِسْكِينِ، وَذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ فِي النَّفَلِ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ مَعَ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] وَالْمَتْرَبَةُ: الْفَقْرُ الْبَالِغُ الَّذِي لَا يَجِدُ صَاحِبُهُ طَعَامًا إلَّا التُّرَابَ وَلَا فِرَاشًا سِوَاهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[سورة الشمس فيها آية واحدة]

[سُورَةُ الشَّمْسِ فِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ] [قَوْله تَعَالَى وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا] ٌ] قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس: 15]: رَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَا: أَخْرَجَ إلَيْنَا مَالِكٌ مُصْحَفًا لِجَدِّهِ زَعَمَ أَنَّهُ كَتَبَهُ فِي أَيَّامِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، حِينَ كَتَبَ الْمَصَاحِفَ، مِمَّا فِيهِ: وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا بِالْوَاوِ، وَهَكَذَا قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو مِنْ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ وَغَيْرُهُ. فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَقْرَأْ بِهِ نَافِعٌ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: السُّنَّةُ قِرَاءَةُ نَافِعٍ. قُلْنَا: لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلَا كُلُّ سَامِعٍ يَفْهَمُ عَنْهُ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ الْهَمْزَ وَحَذْفَهُ، وَالْمَدَّ وَتَرْكَهُ، وَالتَّفْخِيمَ وَالتَّرْقِيقَ، وَالْإِدْغَامَ وَالْإِظْهَارَ، فِي نَظَائِرَ لَهُ مِنْ الْخِلَافِ فِي الْقِرَاءَاتِ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ السُّنَّةَ فِي تَوَسُّعِ الْخَلْقِ فِي الْقِرَاءَةِ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ مِنْ غَيْرِ ارْتِبَاطٍ إلَى شَيْءٍ مَخْصُوصٍ مِنْهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ»، وَقَدْ ثَبَتَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاذٍ: لَا تَكُنْ فَتَّانًا، اقْرَأْ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] وَنَحْوَهُمَا»، فَخَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ.

[سورة الليل فيها آيتان]

[سُورَةُ اللَّيْلِ فِيهَا آيَتَانِ] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى] ِ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [الليل: 3]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي مَعْنَى الْقَسَمِ فِيهَا: وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: إنَّ مَعْنَاهُ وَرَبِّ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. وَهَذَا الْمَحْذُوفُ مُقَدَّرٌ فِي كُلِّ قَسَمٍ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْقَسَمِ بِهَا. الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [الليل: 3] وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ كَمَا تَقَدَّمَ يَعْنِي آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَآدَمُ خُلِقَ وَحْدَهُ قَبْلَ خَلْقِ حَوَّاءَ حَسْبَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ وَصُورَةُ الْمُصْحَفِ {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [الليل: 3] وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ وَابْنَ مَسْعُودٍ، كَانَا يَقْرَآنِ: وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. قَالَ إبْرَاهِيمُ: قَدِمَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ فَطَلَبَهُمْ فَوَجَدَهُمْ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَقْرَأُ عَلَى قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالُوا: كُلُّنَا. قَالَ تَقْرَءُونَ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1]؟ قَالَ عَلْقَمَةُ: وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. قَالَ: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ هَكَذَا، وَهَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ أَنْ أَقْرَأَ: وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، وَاَللَّهِ لَا أُتَابِعُهُمْ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا مِمَّا لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ بَشَرٌ، إنَّمَا الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مَا فِي الصُّحُفِ؛ فَلَا

[الآية الثانية قوله تعالى فأما من أعطى واتقى]

تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ لِأَحَدٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَقَعُ النَّظَرُ فِيمَا يُوَافِقُ خَطَّهُ مِمَّا لَمْ يَثْبُتْ ضَبْطُهُ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ بِنَقْلِ الْوَاحِدِ، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا؛ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالتَّوَاتُرِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الْعِلْمُ، وَيَنْقَطِعُ مَعَهُ الْعُذْرُ وَتَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى الْخَلْقِ. [الْآيَةُ الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى] } [الليل: 5] {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 6] {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 7] {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} [الليل: 8] {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 9] {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 10] فِيهَا ثَمَانِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رُوِيَ فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ: الرِّوَايَةُ الْأُولَى عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ شَمْسُهُ إلَّا وَبِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ، يَسْمَعُهُمَا خَلْقُ اللَّهِ كُلُّهُمْ إلَّا الثَّقَلَيْنِ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَأَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا»؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل: 5] {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 6] {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 7] الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ يُعْتِقُ عَلَى الْإِسْلَامِ بِمَكَّةَ، وَكَانَ يُعْتِقُ نِسَاءً وَعَجَائِزَ؛ فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: أَيْ بُنَيَّ، أَرَاك تُعْتِقُ أُنَاسًا ضُعَفَاءَ، فَلَوْ أَنَّك أَعْتَقْت رِجَالًا جَلْدًا يَقُومُونَ مَعَك، وَيَدْفَعُونَ عَنْك، وَيَمْنَعُونَك، فَقَالَ: أَيْ أَبَتِ؛ إنَّمَا أُرِيدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ. قَالَ: فَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ بَيْتِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل: 5]. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: {مَنْ أَعْطَى} [الليل: 5]: حَقِيقَةُ الْعَطَاءِ هِيَ الْمُنَاوَلَةُ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ وَالِاسْتِعْمَالِ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ نَفْعٍ أَوْ ضَرٍّ يَصِلُ مِنْ الْغَيْرِ إلَى الْغَيْرِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْأَمَدِ الْأَقْصَى وَغَيْرِهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّقَى} [الليل: 5]: وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي حَقِيقَةِ التَّقْوَى، وَأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ حِجَابٍ مَعْنَوِيٍّ يَتَّخِذُهُ الْعَبْدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِقَابِ، كَمَا أَنَّ الْحِجَابَ الْمَحْسُوسَ يَتَّخِذُهُ الْعَبْدُ مَانِعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَكْرَهُهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 6]: فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا الْخَلَفُ مِنْ الْمُعْطِي؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّانِي: أَنَّهَا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا. الثَّالِثُ: أَنَّهَا الْجَنَّةُ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ فِي الْمُخْتَارِ: كُلُّ مَعْنًى مَمْدُوحٍ فَهُوَ حُسْنَى، وَكُلُّ عَمَلٍ مَذْمُومٍ فَهُوَ سُوأَى وَعُسْرَى، وَأَوَّلُ الْحُسْنَى التَّوْحِيدُ، وَآخِرُهُ الْجَنَّةُ؛ وَكُلُّ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ بَيْنَهُمَا فَهُوَ حُسْنَى، وَأَوَّلُ السُّوأَى كَلِمَةُ الْكُفْرِ، وَآخِرُهُ النَّارُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا فَهُوَ مِنْهُمَا وَمُرَادٌ بِاللَّفْظِ الْمُعَبِّرِ عَنْهُمَا. وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ الْحُسْنَى الْخَلَفُ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى الثَّوَابِ الَّذِي هُوَ الْجَنَّةُ. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَوْلُهُ: {فَسَنُيَسِّرُهُ} [الليل: 7] يَعْنِي نُهَيِّئُهُ بِخَلْقِ أَسْبَابِهِ، وَإِيجَادِ مُقَدِّمَاتِهِ، ثُمَّ نَخْلُقُهُ بَعْدَ ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ حَسَنًا سُمِّيَ يُسْرَى، وَإِنْ مَذْمُومًا سُمِّيَ عُسْرَى، وَالْبَارِي سُبْحَانَهُ خَالِقُ الْكُلِّ، فَإِنْ أَرَادَ السَّعَادَةَ هَيَّأَ أَسْبَابَهَا لِلْعَبْدِ وَخَلَقَهَا فِيهِ، وَإِنْ أَرَادَ الشَّقَاءَ هَيَّأَ أَسْبَابَهُ لِلْعَبْدِ، وَخَلَقَهَا فِيهِ؛ وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ طَرِيقِ صَحِيحَةٍ، يُعَضِّدُ مَا قَامَتْ عَلَيْهِ أَدِلَّةُ الْقَوْلِ، وَيَعْتَضِدُ بِالشَّرْعِ الْمَنْقُولِ، مِنْهُ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ: «كُنَّا فِي جِنَازَةٍ بِالْبَقِيعِ، فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَلَسَ، وَجَلَسْنَا، وَمَعَهُ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِي الْأَرْضِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إلَّا كُتِبَ مَدْخَلُهَا. فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا؟ فَقَالَ: بَلْ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَإِنَّهُ يُيَسَّرُ لِعَمَلِ

أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَإِنَّهُ يُيَسَّرُ لِعَمَلِ الشَّقَاءِ. ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل: 5] {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 6] {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 7] {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} [الليل: 8] إلَى قَوْلِهِ: {لِلْعُسْرَى} [الليل: 10]». «وَسَأَلَ غُلَامَانِ شَابَّانِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَا: الْعَمَلُ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ، وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ أَمْ فِي شَيْءٍ يُسْتَأْنَفُ؟ فَقَالَ: بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ. فَقَالَا: فَفِيمَ الْعَمَلُ إذَنْ؟ قَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِعَمَلِهِ الَّذِي خُلِقَ لَهُ. قَالَا: فَالْآنَ نَجِدُّ وَنَعْمَلُ». الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ قَوْلُهُ: {بَخِلَ} [الليل: 8]: قَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ الْبُخْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّهُ مَنْعُ الْوَاجِبِ؛ وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ.» الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ قَوْلُهُ: {وَاسْتَغْنَى} [الليل: 8]: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اسْتَغْنَى عَنْ اللَّهِ، وَهُوَ كُفْرٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ، وَهُمْ فُقَرَاءُ إلَيْهِ، وَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ اسْتَغْنَى بِالدُّنْيَا عَنْ الْآخِرَةِ، فَرَكَنَ إلَى الْمَحْسُوسِ، وَآمَنَ بِهِ، وَضَلَّ عَنْ الْمَعْقُولِ، وَكَذَّبَ بِهِ، وَرَأَى أَنَّ رَاحَةَ النَّقْدِ خَيْرٌ مِنْ رَاحَةِ النَّسِيئَةِ، وَضَلَّ عَنْ وَجْهِ النَّجَاةِ، وَرِبْحِ التِّجَارَةِ الَّتِي اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَى طَلَبِهَا بِإِسْلَامِ دِرْهَمٍ إلَى غَنِيٍّ وَفِيٍّ لِيَأْخُذَ عَشْرَةً فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَاَللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَهُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَالْخَلْقُ مِلْكُهُ، أَمَرَ بِالْعَمَلِ وَنَدَبَ إلَى النَّصَبِ، وَوَعَدَ عَلَيْهِ بِالثَّوَابِ؛ فَالْحَرَامُ مَعْقُولًا، وَالْوَاجِبُ مَنْقُولًا امْتِثَالَ أَمْرِهِ، وَارْتِقَابَ وَعْدِهِ، وَهَذَا مُنْتَهَى الْحُكْمِ فِي الْآيَةِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْبَيَانِ مَا يَخْرُجُ عَنْ الْمَقْصُودِ فَأَرْجَأْته إلَى مَكَانِهِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ.

[سورة الضحى فيها ثلاث آيات]

[سُورَةُ الضُّحَى فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى وَالضُّحَى] ٍ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {وَالضُّحَى} [الضحى: 1]: فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ: {وَالضُّحَى} [الضحى: 1]: هُوَ ضَوْءُ النَّهَارِ حِينَ تُشْرِقُ الشَّمْسُ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ، يُقَالُ: ارْتَفَعَتْ الضُّحَى، وَمَعْنَاهَا هُوَ الضَّوْءُ مُذَكَّرٌ، وَتَصْغِيرُهُ ضُحَيَّا، فَإِذَا فَتَحْت مَدَدْت، قَالَ الشَّاعِرُ: أُعَجِّلُهَا أَقْدُحِي الضَّحَاءَ ضُحًى ... وَهِيَ تُنَاصِي ذَوَائِبَ السِّلْمِ يَصِفُ أَنَّهُ نَامَ عَنْ إبِلٍ، فَأَخَذَهَا ضُحًى قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ الضَّحَاءُ. وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الضَّحَاءَ بَعْدَ الضُّحَى، حَقٌّ إنَّهُ لِيَتَمَادَى إلَى نِصْفِ النَّهَارِ، فَفِي الْحَدِيثِ: «إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِمَ الْمَدِينَةَ حِينَ هَاجَرَ، وَقَدْ اشْتَدَّ الضَّحَاءُ، وَكَادَتْ الشَّمْسُ تَزُولُ». الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُمِيَ بِالْحَجَرِ فِي إصْبَعِهِ فَدَمِيَتْ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ أَنْتِ إلَّا إصْبَعٌ دَمِيَتْ. وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيت. قَالَ: فَمَكَثَ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا لَا يَقُومُ، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ؛ مَا أَرَى شَيْطَانَك إلَّا قَدْ تَرَكَك؛ فَنَزَلَتْ السُّورَةُ». الثَّانِي: رَوَى جُنْدُبُ بْنُ سُفْيَانَ فِي الصَّحِيحِ قَالَ: «اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَقُمْ

[مسألة قيام الليل]

لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ، إنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ شَيْطَانُك قَدْ تَرَكَك». وَفِي رِوَايَةٍ: مَا أَرَى صَاحِبَك إلَّا أَبْطَأَك، فَنَزَلَتْ. وَهَذَا أَصَحُّ. [مَسْأَلَة قِيَامِ اللَّيْلِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ بَوَّبَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ " تَرْكُ الْقِيَامِ لِلْمَرِيضِ " وَأَدْخَلَ الْحَدِيثَ لِيَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ وُجُوبُ قِيَامِ اللَّيْلِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ الْمُحَقَّقَ فِيهِ فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فَرْضًا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْدَهُ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ الْحَدِيثُ «بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشْتَكَى، فَتَرَكَ الْقِيَامَ» صَحِيحٌ وَذِكْرُهُ فِيهِ: «هَلْ أَنْتِ إلَّا إصْبَعٌ دَمِيَتْ. وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ». غَيْرُ صَحِيحٍ [وَقَوْلُهُ: «فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ» أَسْقَطَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْبُخَارِيُّ فِي كِتَابَيْهِمَا، وَهُوَ صَحِيحٌ، خَرَّجَهُ الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي صَرِيحِ الصَّحِيحِ]. [الْآيَةُ الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ] ْ} [الضحى: 10]: فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهَا قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: وَأَمَّا السَّائِلَ [لِلْبِرِّ] فَلَا تَنْهَرْ أَيْ رُدَّهُ بِلِينٍ وَرَحْمَةٍ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ. الثَّانِي: سَائِلُ الدِّينِ لِلْبَيَانِ لَا تَنْهَرْهُ بِالْجَفْوَةِ وَالْغِلْظَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ سَائِلُ الْبِرِّ فَقَدْ قَدَّمْنَا وُجُوهَ السُّؤَالِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَكَيْفِيَّةَ الْعَمَلِ فِيهِ، وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى، فَكَيْفَ بِالْأَذَى دُونَ الصَّدَقَةِ. وَأَمَّا السَّائِلُ عَنْ الدِّينِ فَجَوَابُهُ فَرْضٌ عَلَى الْعَالِمِ عَلَى الْكِفَايَةِ كَإِعْطَاءِ سَائِلِ الْبِرِّ سَوَاءً،

[الآية الثالثة قوله تعالى وأما بنعمة ربك فحدث]

وَقَدْ كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَنْظُرُ إلَى أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَيَبْسُطُ رِدَاءَهُ لَهُمْ، وَيَقُولُ: مَرْحَبًا بِأَحِبَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كُنَّا إذَا أَتَيْنَا أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَقُولُ: مَرْحَبًا بِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ النَّاسَ لَكُمْ تَبَعٌ، وَإِنَّ رِجَالًا يَأْتُونَكُمْ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ يَتَفَقَّهُونَ، فَإِذَا أَتَوْكُمْ فَاسْتَوْصُوا بِهِمْ خَيْرًا». وَفِي رِوَايَةٍ: «يَأْتِيكُمْ رِجَالٌ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ» فَذَكَرَهُ. [الْآيَةُ الثَّالِثَة قَوْله تَعَالَى وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّك فَحَدِّثْ] ْ} [الضحى: 11]: فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي قَوْلِهِ: [وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّك فَحَدِّثْ] ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّهَا النُّبُوَّةُ. الثَّانِي: أَنَّهَا الْقُرْآنُ. الثَّالِثُ: إذَا أَصَبْت خَيْرًا أَوْ عَمِلْت خَيْرًا فَحَدِّثْ بِهِ الثِّقَةَ مِنْ إخْوَانِك؛ قَالَهُ الْحَسَنُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَمَّا مَنْ قَالَ إنَّهَا النُّبُوَّةُ فَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادِ بْنُ الْهَادِ، قَالَ: «جَاءَ جِبْرِيلُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اقْرَأْ. قَالَ: وَمَا أَقْرَأُ؟ قَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] حَتَّى بَلَغَ {عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5] فَقَالَ لِخَدِيجَةَ: يَا خَدِيجَةُ؛ مَا أَرَانِي إلَّا قَدْ عُرِضَ لِي. فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلًّا وَاَللَّهِ، مَا كَانَ رَبُّك لِيَفْعَلَ ذَلِكَ بِك، وَمَا أَتَيْتَ فَاحِشَةً قَطُّ. قَالَ: فَأَتَتْ خَدِيجَةُ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ؛ فَقَالَ وَرَقَةُ: إنْ تَكُونِي صَادِقَةً فَزَوْجُك نَبِيٌّ، وَلَيَلْقِيَنَّ مِنْ أُمَّتِهِ شِدَّةً، فَاحْتَبَسَ جِبْرِيلُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: يَا مُحَمَّدُ، مَا أَرَى رَبَّك إلَّا قَدْ قَلَاك، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالضُّحَى} [الضحى: 1]» يَعْنِي السُّورَةَ. فَهَذَا حَدِيثُهُ بِالنُّبُوَّةِ. وَأَمَّا حَدِيثُهُ بِالْقُرْآنِ فَتَبْلِيغُهُ إيَّاهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: لَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَاتِمًا مِنْ الْوَحْيِ شَيْئًا لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37]. وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا كَتَمَ شَيْئًا مِنْ الْوَحْيِ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ، وَاَللَّهُ يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67]. وَأَمَّا تَحَدُّثُهُ بِعَمَلٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ بِإِخْلَاصٍ مِنْ النِّيَّةِ عِنْدَ أَهْلِ الثِّقَةِ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا خَرَجَ إلَى الرِّيَاءِ، وَأَسَاءَ الظَّنَّ بِسَامِعِهِ. وَقَدْ رَوَى أَيُّوبُ؛ قَالَ: دَخَلْت عَلَى أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ، فَقَالَ: لَقَدْ رَزَقَ اللَّهُ الْبَارِحَةَ خَيْرًا، صَلَّيْت كَذَا وَسَبَّحْت كَذَا. قَالَ: قَالَ: أَيُّوبُ: فَاحْتَمَلْت ذَلِكَ لِأَبِي رَجَاءَ. وَمِنْ الْحَدِيثِ بِالنِّعْمَةِ إظْهَارُهَا بِالْمَلْبَسِ وَالْمَرْكَبِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ إذَا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدٍ بِنِعْمَةٍ أَحَبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ»؛ وَإِظْهَارُهَا بِالْمَلْبَسِ وَالْمَرْكَبِ. وَإِظْهَارُهَا بِالْجَدِيدِ وَالْقَوِيِّ مِنْ الثِّيَابِ النَّقِيِّ، وَلَيْسَ بِالْخَلِقِ الْوَسِخِ، وَفِي الْمَرْكَبِ اقْتِنَاؤُهُ لِلْجِهَادِ أَوْ لِسَبِيلِ الْحَلَالِ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.

[سورة الانشراح فيها ثلاث آيات]

[سُورَةُ الِانْشِرَاحِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى أَلَمْ نَشْرَحْ لَك صَدْرَكَ] ٍ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1]: شَرْحُهُ حَقِيقَةٌ حِسِّيَّةٌ، وَذَلِكَ حِينَ كَانَ عِنْدَ ظِئْرِهِ، وَحِينَ أُسْرِيَ بِهِ، وَشَرَحَهُ مَعْنًى حِينَ جَمَعَ لَهُ التَّوْحِيدَ فِي صَدْرِهِ وَالْقُرْآنَ، وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ، وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَظِيمًا، وَشَرَحَهُ حِينَ خَلَقَ لَهُ الْقَبُولَ لِكُلِّ مَا أَلْقَى إلَيْهِ وَالْعَمَلَ بِهِ، وَذَلِكَ هُوَ تَمَامُ الشَّرْحِ وَزَوَالُ التَّرَحِ. [الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى وَرَفَعْنَا لَك ذِكْرَك] َ} [الشرح: 4]: يَعْنِي قَرَنَّاهُ بِذِكْرِنَا فِي التَّوْحِيدِ وَالْأَذَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. [الْآيَةُ الثَّالِثَة قَوْله تَعَالَى فَإِذَا فَرَغْت فَانْصَبْ] ْ} [الشرح: 7]: فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى اتَّفَقَ الْمُوَحِّدُونَ وَالْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: إذَا فَرَغْت مِنْ الصَّلَاةِ فَانْصَبْ لِلْأُخْرَى بِلَا فُتُورٍ وَلَا كَسَلٍ، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهِمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ إذَا فَرَغْت مِنْ الْفَرَائِضِ فَتَأَهَّبْ لِقِيَامِ اللَّيْلِ.

الثَّانِي: إذَا فَرَغْت مِنْ الصَّلَاةِ فَانْصَبْ لِلدُّعَاءِ. الثَّالِثُ: إذَا فَرَغْت مِنْ الْجِهَادِ فَاعْبُدْ رَبَّك. الرَّابِعُ إذَا فَرَغْت مِنْ أَمْرِ دُنْيَاك فَانْصَبْ لِأَمْرِ آخِرَتِك. وَمِنْ الْمُبْتَدِعَةِ مَنْ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فَأَنْصِبْ بِكَسْرِ الصَّادِ وَالْهَمْزِ فِي أَوَّلِهِ، وَقَالُوا: مَعْنَاهُ أَنْصِبْ الْإِمَامَ الَّذِي يُسْتَخْلَفُ؛ وَهَذَا بَاطِلٌ فِي الْقِرَاءَةِ، بَاطِلٌ فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْتَخْلِفْ أَحَدًا. وَقَرَأَهَا بَعْضُ الْجُهَّالِ فَانْصَبَّ بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ مَعْنَاهُ إذَا فَرَغْت مِنْ الْغَزْوِ فَجُدَّ إلَى بَلَدِك. وَهَذَا بَاطِلٌ أَيْضًا قِرَاءَةً لِمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ، لَكِنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ، يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ، فَإِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ الرُّجُوعَ إلَى أَهْلِهِ». وَأَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا وَأَسْوَأَهُمْ مَآبًا وَمَبَاءً مَنْ أَخَذَ مَعْنًى صَحِيحًا، فَرَكَّبَ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ قِرَاءَةً أَوْ حَدِيثًا، فَيَكُونُ كَاذِبًا عَلَى اللَّهِ، كَاذِبًا عَلَى رَسُولِهِ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا. أَمَّا أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ يَلْعَبُونَ يَوْمَ عِيدٍ، فَقَالَ: مَا بِهَذَا أَمَرَ الشَّارِعُ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّ «الْحَبَشَ كَانُوا يَلْعَبُونَ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْعِيدِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْظُرُ». «وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ بَيْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عَائِشَةَ وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ مِنْ جِوَارِي الْأَنْصَارِ تُغَنَّيَانِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَ: دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ». وَلَيْسَ يَلْزَمُ الدَّءُوبَ عَلَى الْعَمَلِ، بَلْ هُوَ مَكْرُوهٌ لِلْخَلْقِ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.

[سورة التين فيها خمس آيات]

[سُورَةُ التِّينِ فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ] ٍ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين: 1]: قِيلَ: هُوَ حَقِيقَةٌ. وَقِيلَ: عَبَّرَ بِهِ عَنْ دِمَشْقَ أَوْ جَبَلِهَا، أَوْ مَسْجِدِهَا، وَلَا يُعْدَلُ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَإِنَّمَا أَقْسَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالتِّينِ لِيُبَيِّنَ فِيهِ [وَجْهَ] الْمِنَّةِ الْعُظْمَى، فَإِنَّهُ جَمِيلُ الْمَنْظَرِ، طَيِّبُ الْمَخْبَرِ، نَشِرُ الرَّائِحَةِ، سَهْل الْجَنْيِ، عَلَى قَدْرِ الْمُضْغَةِ، وَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ فِيهِ: اُنْظُرْ إلَى التِّينِ فِي الْغُصُونِ ضُحًى ... مُمَزَّقَ الْجِلْدِ مَائِلَ الْعُنُقِ كَأَنَّهُ رَبُّ نِعْمَةٍ سُلِبَتْ ... فَعَادَ بَعْدَ الْجَدِيدِ فِي الْخَلَقِ أَصْغَرُ مَا فِي النُّهُودِ أَكْبَرُهُ ... لَكِنْ يُنَادَى عَلَيْهِ فِي الطُّرُقِ وَلِامْتِنَانِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ، وَتَعْظِيمِ النِّعْمَةِ فِيهِ، فَإِنَّهُ مُقْتَاتٌ مُدَّخَرٌ، فَلِذَلِكَ قُلْنَا بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ. وَإِنَّمَا فَرَّ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ التَّصْرِيحِ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ تَقِيَّةَ جَوْرِ الْوُلَاةِ فَإِنَّهُمْ يَتَحَامَلُونَ فِي الْأَمْوَالِ الزَّكَائِيَّةِ، فَيَأْخُذُونَهَا مَغْرَمًا، حَسْبَمَا أَنْذَرَ بِهِ الصَّادِقُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَرِهَ الْعُلَمَاءُ أَنْ يَجْعَلُوا لَهُمْ سَبِيلًا إلَى مَالٍ آخَرَ يَتَشَطَّطُونَ فِيهِ. وَلَكِنْ يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ نِعْمَةِ رَبِّهِ بِأَدَاءِ حَقِّهِ. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ أَوْ غَيْرِهَا: لَا زَكَاةَ فِي الزَّيْتُونِ. وَالصَّحِيحُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهِمَا. [الْآيَةُ الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ] ِ} [التين: 3]:

[الآية الثالثة والرابعة قوله تعالى لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم]

[يَعْنِي مَكَّةَ لِمَا خَلَقَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ الْأَمْنِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي آلِ عِمْرَانَ وَالْعَنْكَبُوتِ وَغَيْرِهِمَا]، وَبِهَذَا احْتَجَّ مَنْ قَالَ: إنَّهُ أَرَادَ بِالتِّينِ دِمَشْقَ، وَبِالزَّيْتُونِ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَأَقْسَمَ اللَّهُ بِجَبَلِ دِمَشْقَ؛ لِأَنَّهُ مَأْوَى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَبِجَبَلِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ؛ لِأَنَّهُ مَقَامُ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ، وَبِمَكَّةَ؛ لِأَنَّهُ أَثَرُ إبْرَاهِيمَ وَدَارُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ -. [الْآيَة الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]: قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى خَلْقٌ هُوَ أَحْسَنُ مِنْ الْإِنْسَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ حَيًّا عَالِمًا، قَادِرًا، مُرِيدًا، مُتَكَلِّمًا، سَمِيعًا، بَصِيرًا، مُدَبِّرًا، حَكِيمًا، وَهَذِهِ صِفَاتُ الرَّبِّ، وَعَنْهَا عَبَّرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَوَقَعَ الْبَيَانُ بِقَوْلِهِ: «إنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ»، يَعْنِي عَلَى صِفَاتِهِ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا. وَفِي رِوَايَةٍ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ. وَمِنْ أَيْنَ تَكُونُ لِلرَّجُلِ صِفَةٌ مُشَخَّصَةٌ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ تَكُونَ مَعَانِيَ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى الْحَدِيثِ فِي مَوْضِعِهِ بِمَا فِيهِ بَيَانُهُ. وَقَدْ أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْأَزْدِيُّ، أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ الْقَاضِي الْمُحْسِنُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ عِيسَى بْنُ مُوسَى الْهَاشِمِيُّ يُحِبُّ زَوْجَهُ حُبًّا شَدِيدًا قَالَ لَهَا يَوْمًا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ لَمْ تَكُونِي أَحْسَنَ مِنْ الْقَمَرِ، فَنَهَضَتْ وَاحْتَجَبَتْ عَنْهُ، وَقَالَتْ: طَلَّقَنِي. وَبَاتَ بِلَيْلَةٍ عَظِيمَةٍ. وَلَمَّا أَصْبَحَ غَدًا إلَى دَارِ الْمَنْصُورِ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ [وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنْ تَمَّ عَلَيَّ طَلَاقُهَا تَصَلَّفَتْ نَفْسِي غَمًّا، وَكَانَ الْمَوْتُ أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ الْحَيَاةِ]؛ وَأَظْهَرَ لِلْمَنْصُورِ جَزَعًا عَظِيمًا، فَاسْتَحْضَرَ الْفُقَهَاءَ، وَاسْتَفْتَاهُمْ، فَقَالَ جَمِيعُ مَنْ حَضَرَ: قَدْ طَلُقَتْ، إلَّا رَجُلًا وَاحِدًا مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ كَانَ سَاكِتًا، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: مَالَك لَا تَتَكَلَّمُ؟ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين: 1] {وَطُورِ سِينِينَ - وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين: 2 - 3] {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الْإِنْسَانُ أَحْسَنُ الْأَشْيَاءِ، وَلَا شَيْءَ أَحْسَنُ مِنْهُ [فَقَالَ الْمَنْصُورُ لِعِيسَى بْنِ مُوسَى: الْأَمْرُ كَمَا قَالَ؛ فَأَقْبِلْ عَلَى زَوْجِك]، فَأَرْسَلَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ إلَى زَوْجِهِ أَنْ أَطِيعِي زَوْجَك، وَلَا تَعْصِيهِ، فَمَا طَلَّقَك.

[الآية الخامسة قوله تعالى أليس الله بأحكم الحاكمين]

فَهَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ أَحْسَنُ خَلْقِ اللَّهِ بَاطِنًا وَ [هُوَ أَحْسَنُ خَلْقِ اللَّهِ] ظَاهِرًا جَمَالَ هَيْئَةٍ، وَبَدِيعَ تَرْكِيبٍ: الرَّأْسُ بِمَا فِيهِ، وَالصَّدْرُ بِمَا جَمَعَهُ، وَالْبَطْنُ بِمَا حَوَاهُ، وَالْفَرْجُ وَمَا طَوَاهُ، وَالْيَدَانِ وَمَا بَطَشَتَاهُ، وَالرِّجْلَانِ وَمَا احْتَمَلَتَاهُ؛ وَلِذَلِكَ قَالَتْ الْفَلَاسِفَةُ: إنَّهُ الْعَالَمُ الْأَصْغَرُ؛ إذْ كُلُّ مَا فِي الْمَخْلُوقَاتِ أُجْمِعَ فِيهِ هَذَا عَلَى الْجُمْلَةِ وَكَيْفَ عَلَى التَّفْصِيلِ، بِتَنَاسُبِ الْمَحَاسِنِ، فَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ بِالْعَيْنَيْنِ جَمِيعًا. وَقَدْ بَيَّنَّا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ، وَبِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْجَلِيلَةِ الَّتِي رُكِّبَ عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ اسْتَوْلَى عَلَى جَمَاعَةٍ الْكُفْرَانُ، وَغَلَبَ عَلَى طَائِفَةٍ الطُّغْيَانُ، حَتَّى قَالَ: أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى، وَحِينَ عَلِمَ اللَّهُ هَذَا مِنْ عَبْدِهِ، وَقَضَاؤُهُ صَادِرٌ مِنْ عِنْدِهِ، رَدَّهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ وَهِيَ: الْآيَةُ الرَّابِعَةُ بِأَنْ جَعَلَهُ مَمْلُوءًا قَذِرًا، مَشْحُونًا نَجَاسَةً، وَأَخْرَجَهَا عَلَى ظَاهِرِهِ إخْرَاجًا مُنْكَرًا عَلَى وَجْهِ الِاخْتِيَارِ تَارَةً، وَعَلَى وَجْهِ الْغَلَبَةِ أُخْرَى، حَتَّى إذَا شَاهَدَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ رَجَعَ إلَى قَدْرِهِ. [الْآيَة الْخَامِسَة قَوْله تَعَالَى أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ] َ} [التين: 8]: قَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا قَرَأَ أَحَدُكُمْ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 8] فَلْيَقُلْ: بَلَى، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنْ الشَّاهِدِينَ». وَمِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ: «إذَا قَرَأَ أَحَدُكُمْ أَوْ سَمِعَ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ، أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى فَلْيَقُلْ: بَلَى». وَهَذِهِ أَخْبَارٌ ضَعِيفَةٌ، أَمَا إنَّ ذَلِكَ يَتَعَيَّنُ فِي الِاعْتِقَادِ لِأَجْلِ مَا يَلْزَمُ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ

مِنْ الِانْتِقَادِ. وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَتَمَةَ، فَصَلَّى فِيهَا بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ»، وَهُوَ صَحِيحٌ. وَفِي الْبُخَارِيِّ: سَمِعْت الْبَرَاءَ يَقُولُ: «إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي سَفَرٍ، فَقَرَأَ فِي إحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ»، فَفَسَّرَ الْمَعْنَى الَّذِي أَوْجَبَ قِرَاءَتَهَا مَعَ قَصْرِهَا فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَهُوَ السَّفَرُ.

[سورة العلق فيها خمس آيات]

[سُورَةُ الْعَلَقِ فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك الَّذِي خَلَقَ] ٍ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]: فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ. الْقَوْلُ: فِي أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ، وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: هَذِهِ السُّورَةُ؛ قَالَتْهُ عَائِشَةُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَغَيْرُهُمْ. الثَّانِي: أَنَّهُ نَزَلَ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1]؛ قَالَهُ جَابِرٌ. الثَّالِثُ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151]. الرَّابِعُ قَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ الْهَمْدَانِيُّ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ. وَالصَّحِيحُ مَا رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -؛ قَالَتْ: «كَانَ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إلَيْهِ الْخَلَاءُ، فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءَ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ. وَالتَّحَنُّثُ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، حَتَّى فَجِئَهُ الْوَحْيُ، وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 2] إلَى قَوْلِهِ: {عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5]. فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

[الآية الثانية قوله تعالى خلق الإنسان من علق]

وَفُؤَادُهُ يَرْجُفُ؛ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ، فَقَالَ: زَمِّلُونِي، فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ: أَيْ خَدِيجَةُ، مَا لِي؟ لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي. فَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلًّا، أَبْشِرْ. فَوَاَللَّهِ لَا يُخْزِيك اللَّهُ أَبَدًا، فَوَاَللَّهِ إنَّك لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخُو أَبِيهَا، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، وَيَكْتُبُ الْإِنْجِيلَ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: يَا بْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيك. قَالَ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي، مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَبَرَ مَا رَأَى. فَقَالَ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى، لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إذْ يُخْرِجُك قَوْمُك. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ، قَالَ وَرَقَةُ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِمَا جِئْتَ بِهِ إلَّا أُوذِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُك حَيًّا أَنْصُرْك نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً، حَتَّى حَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْت صَوْتًا، فَرَفَعْت رَأْسِي، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي قَدْ جَاءَنِي بِحِرَاءَ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَفَزِعْت مِنْهُ، فَرَجَعْت فَقُلْت: زَمِّلُونِي، دَثِّرُونِي، فَدَثَّرُوهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] {قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 2] {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5]». قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَهِيَ الْأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَعْبُدُهَا، ثُمَّ تَتَابَعَ الْوَحْيُ. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ] ٍ} [العلق: 2]: فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ مَخْلُوقٌ مِنْ الْعَلَقِ، وَأَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ عَلَقَةً لَيْسَ بِإِنْسَانٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.

[الآية الثالثة قوله تعالى الذي علم بالقلم]

[الْآيَةُ الثَّالِثَة قَوْله تَعَالَى الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ] ِ} [العلق: 4]: فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْأَقْلَامُ فِي الْأَصْلِ ثَلَاثَةٌ: الْقَلَمُ الْأَوَّلُ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ، فَقَالَ لَهُ: اُكْتُبْ، فَكَتَبَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ إلَى يَوْمِ السَّاعَةِ، فَهُوَ عِنْدَهُ فِي الذِّكْرِ فَوْقَ عَرْشِهِ». الْقَلَمُ الثَّانِي: مَا جَعَلَ اللَّهُ بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ يَكْتُبُونَ بِهِ الْمَقَادِيرَ وَالْكَوَائِنَ وَالْأَعْمَالَ، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار: 11] {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 12] خَلَقَ اللَّهُ لَهُمْ الْأَقْلَامَ، وَعَلَّمَهُمْ الْكِتَابَ بِهَا. الْقَلَمُ الثَّالِثُ أَقْلَامُ النَّاسِ، جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِأَيْدِيهِمْ يَكْتُبُونَ بِهَا كَلَامَهُمْ، وَيَصِلُونَ بِهَا إلَى مَآرِبِهِمْ، وَاَللَّهُ أَخْرَجَ الْخَلْقَ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا، وَخَلَقَ لَهُمْ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالنُّطْقَ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ قَانُونِ التَّأْوِيلِ، ثُمَّ رَزَقَهُمْ مَعْرِفَةَ الْعِبَادَةِ بِاللِّسَانِ عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ [وَجْهًا، وَقِيلَ] حَرْفًا يَضْطَرِبُ بِهَا اللِّسَانُ بَيْنَ الْحَنَكِ وَالْأَسْنَانِ فَيَتَقَطَّعُ الصَّوْتُ تَقْطِيعًا يَثْبُتُ عَنْهُ مُقَطَّعَاتُهُ عَلَى نِظَامٍ مُتَّسِقٍ قُرِنَتْ بِهِ مَعَارِفُ فِي أَفْرَادِهَا وَفِي تَأْلِيفِهَا، وَأَلْقَى إلَى الْعَبْدِ مَعْرِفَةَ أَدَائِهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113]. ثُمَّ خَلَقَ اللَّهُ الْيَدَ وَالْقُدْرَةَ، وَرَزَقَهُ الْعِلْمَ [وَالرُّتْبَةَ]، وَصَوَّرَ لَهُ حُرُوفًا تُعَادِلُ لَهُ الصُّوَرَ الْمَحْسُوسَةَ فِي إظْهَارِ الْمَعْنَى الْمَنْقُولِ فِي النُّطْقِ، فَيُقَابِلُ هَذَا مَكْتُوبًا ذَلِكَ الْمَلْفُوظَ، وَيُقَابِلُ الْمَلْفُوظُ مَا تَرَتَّبَ فِي الْقَلْبِ، وَيَكُونُ الْكُلُّ سَوَاءً، وَيَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ، {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان: 11]. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ جَعَلَ اللَّهُ هَذَا كُلَّهُ مُرَتَّبًا لِلْخَلْقِ، وَنِظَامًا لِلْآدَمِيِّينَ، وَيَسَّرَهُ فِيهِمْ؛ فَكَانَ أَقَلَّ الْخَلْقِ

بِهِ مَعْرِفَةً الْعَرَبُ، وَأَقَلَّ الْعَرَبِ بِهِ مَعْرِفَةً [الْحِجَازِيُّونَ، وَأَعْدَمُ الْحِجَازِيِّينَ بِهِ مَعْرِفَةً] الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[صَرَفَهُ] عَنْ عِلْمِهِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَثْبَتَ لِمُعْجِزَتِهِ، وَأَقْوَى فِي حُجَّتِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ تَقْطِيعٌ فِي الْأَصْوَاتِ عَلَى نِظَامٍ يُعَبِّرُ عَمَّا فِي النَّفْسِ، وَلَهُمْ صُورَةٌ فِي الْخَطِّ تُعَبِّرُ عَمَّا يَجْرِي بِهِ اللِّسَانُ، وَفِي اخْتِلَافِ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى رَبِّكُمْ الْقَادِرِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ الْحَاكِمِ؛ وَأُمُّ اللُّغَاتِ وَأَشْرَفُهَا الْعَرَبِيَّةُ، لِمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ إيجَازِ اللَّفْظِ، وَبُلُوغِ الْمَعْنَى، وَتَصْرِيفِ الْأَفْعَالِ وَفَاعِلِيهَا وَمَفْعُولِيّهَا، كُلُّهَا عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ، الْحُرُوفُ وَاحِدَةٌ، وَالْأَبْنِيَةُ فِي التَّرْتِيبِ مُخْتَلِفَةٌ، وَهَذِهِ قُدْرَةٌ وَسِيعَةٌ وَآيَةٌ بَدِيعَةٌ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ لِكُلِّ أُمَّةٍ حُرُوفٌ مُصَوَّرَةٌ بِالْقَلَمِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْمُوَافَقَةِ لِمَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ الْكَلِمِ، عَلَى حَسْبِ مَرَاتِبِ لُغَاتِهِمْ، مِنْ عِبْرَانِيٍّ، وَيُونَانِيٍّ، وَفَارِسِيٍّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ اللُّغَاتِ أَوْ عَرَبِيٍّ؛ وَهُوَ أَشْرَفُهَا، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِمَّا عَلَّمَ اللَّهُ لِآدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَسْبَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]؛ فَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ إلَّا وَعَلَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ آدَمَ اسْمَهُ بِكُلِّ لُغَةٍ، وَذَكَرَهُ آدَم لِلْمَلَائِكَةِ كَمَا عُلِّمَهُ، وَبِذَلِكَ ظَهَرَ فَضْلُهُ، وَعَظُمَ قَدْرُهُ، وَتَبَيَّنَ عِلْمُهُ، وَثَبَتَتْ نُبُوَّتُهُ، وَقَامَتْ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَحُجَّتُهُ، وَامْتَثَلَتْ الْمَلَائِكَةُ لَمَّا رَأَتْ مِنْ شَرَفِ الْحَالِ، وَرَأَتْ مِنْ جَلَالِ الْقُدْرَةِ، وَسَمِعَتْ مِنْ عَظِيمِ الْأَمْرِ، ثُمَّ تَوَارَثَتْ ذَلِكَ ذُرِّيَّتُهُ خَلَفًا بَعْدَ سَلَفٍ، وَتَنَاقَلُوهُ قَوْمًا عَنْ قَوْمٍ، تَحْفَظُهُ أُمَّةٌ وَتُضَيِّعُهُ أُخْرَى، وَالْبَارِئُ سُبْحَانَهُ يَضْبِطُ عَلَى الْخَلْقِ بِالْوَحْيِ مِنْهُ مَا شَاءَ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْ الْأُمَمِ عَلَى مَقَادِيرِهَا وَمَجْرَى حُكْمِهِ فِيهَا، حَتَّى جَاءَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْ جِيرَتِهِ جُرْهُمًا، وَزَوَّجُوهُ فِيهِمْ، وَاسْتَقَرَّ بِالْحَرَمِ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ فَعَلَّمَهُ الْعَرَبِيَّةَ غَضَّةً طَرِيَّةً، وَأَلْقَاهَا إلَيْهِ صَحِيحَةً فَصَيْحَةً سَوِيَّةً، وَاسْتَطْرَبَ عَلَى الْأَعْقَابِ فِي الْأَحْقَابِ إلَى أَنْ وَصَلَنَا إلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَشَرُفَ وَشَرُفَتْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَأُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلَامِ، وَظَهَرَتْ حِكْمَتُهُ وَحُكْمُهُ، وَأَشْرَقَ عَلَى الْآفَاقِ فَهْمُهُ وَعِلْمُهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.

[مسألة أول من وضع الخط]

[مَسْأَلَةٌ أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ الْخَطَّ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَالَ أَبُو الْمُنْذِرِ هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنُ السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ: أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ الْخَطَّ نَفَرٌ مِنْ طَيِّئٍ، وَهُمْ صُوَارُ بْنُ مُرَّةَ؛ وَيُقَالُ مِرَارُ بْنُ مُرَّةَ، وَأَسْلَمُ بْنُ سُدْرَةَ، وَعَامِرُ بْنُ خُدْرَةَ فَسَارُوا إلَى مَكَّةَ، فَتَعَلَّمَهُ مِنْهُمْ شَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ، وَهِشَامُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، ثُمَّ أَتَوْا الْأَنْبَارَ فَتَعَلَّمَهُ نَفَرٌ مِنْهُمْ، ثُمَّ أَتَوْا الْحِيرَةَ، فَعَلَّمُوهُ جَمَاعَةً، مِنْهُمْ: سُفْيَانُ بْنُ مُجَاشِعِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَارِمٍ، وَوَلَدُهُ، يُسَمَّوْنَ بِالْكُوفَةِ بَنِي الْكَاتِبِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْكَلْبِيُّ مُتَّهَمٌ لَا يُؤَثِّرُ نَقْلُهُ، وَلَا يَصِحُّ مَا ذَكَرَهُ بِلَفْظِهِ مِنْ طَرِيقٍ يُعَوَّلُ عَلَيْهَا أَنَّ اللَّهَ عَلَّمَ الْخَطَّ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَنَقَلَهُ الْكَافَّةُ فَالْكَافَّةُ حَتَّى انْتَهَى إلَى الْعَرَبِ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ أَوَّلَ مَنْ نَقَلَ الْخَطَّ إلَى بِلَادِ الْعَرَبِ فُلَانٌ. وَأَمَّا أَنْ يُقَالَ: أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ الْخَطَّ فُلَانٌ، فَالْخَطُّ لَيْسَ بِمَوْضُوعٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مَنْقُولٌ، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ طَيِّئٍ بِمَا لَا يُحْصَى مِنْ السِّنِينَ عَدَدًا، فَأَمَّا وَضْعُهُ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ كَعْبٍ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ كَتَبَ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ وَالسُّرْيَانِيَّ وَالْمُسْنَدَ، وَهُوَ كِتَابُ حِمْيَرَ، كَتَبَهُ آدَم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَوَضَعَهَا فِي الطِّينِ وَطَبَخَهَا فَلَمَّا أَصَابَ الْأَرْضَ الْغَرَقُ، وَانْجَلَى، وَخَلَقَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ خَلْقٍ وَجَدَتْ كُلُّ أُمَّةٍ كِتَابَهَا، فَأَصَابَ إسْمَاعِيلُ كِتَابَ الْعَرَبِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ وَضَعَ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ إسْمَاعِيلُ عَلَى لَفْظِهِ وَمَنْطِقِهِ كِتَابًا وَاحِدًا، مِثْلَ الْأُصُولِ فَتَعَرَّفَهُ وَلَدُهُ مِنْ بَعْدِهِ وَرُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ: أَوَّلُ مَا وَضَعَ أَبْجَدِ هَوَّزْ حُطِّي كَلَمُنْ سعفص قَرَشَتْ، وَأُسْنِدَ إلَى عَمْرٍو. وَهَذِهِ كُلُّهَا رِوَايَاتٌ ضَعِيفَةٌ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِيهَا، وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ خَوْضٌ فِيمَا لَا يُعْتَمَدُ، وَلَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ حُكْمٌ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فَائِدَةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَإِنَّمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ لِيَعْلَمَ الطَّالِبُ مَا جَرَى، وَيَفْهَمَ مِنْ ذَلِكَ الْأَوْلَى بِالدِّينِ وَالْأَحْرَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إسْمَاعِيلَ إنَّمَا تَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْ جُرْهُمٍ، حَسْبَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، وَاَللَّهُ

[الآية الرابعة قوله تعالى أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى]

أَعْلَمُ، فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ لِقِصَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - وَذَكَرَهُ إلَى قَوْلِهِ: «فَكَانَتْ كَذَلِكَ هَاجَرُ حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمٍ مُقْبِلِينَ مِنْ طُرُقِ كَدَاءٍ أَوْ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ طَرِيقِ كَدَاءٍ، أَوْ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ جُرْهُمٍ، نَزَلُوا فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ، فَرَأَوْا طَائِرًا عَلَيْهِمَا فَقَالُوا: إنَّ هَذَا الطَّائِرَ يَدُورُ عَلَى مَاءٍ لَعَهْدُنَا بِهَذَا الْوَادِي وَمَا فِيهِ مَاءٌ، فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ، فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ فَأَقْبَلُوا. قَالَ وَأُمُّ إسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عِنْدَ الْمَاءِ، فَقَالُوا: أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَك؟ قَالَتْ: نَعَمْ، ولَكِنْ لَا حَقَّ لَكُمْ فِي الْمَاءِ. قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَالَتْ ذَلِكَ أُمُّ إسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُحِبُّ الْإِنْسَ، فَنَزَلُوا وَأَرْسَلُوا إلَى أَهْلِيهِمْ، فَنَزَلُوا مَعَهُمْ، حَتَّى إذَا كَانُوا بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ، وَشَبَّ الْغُلَامُ، وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ وَأَنْفَسَهُمْ وَأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ، فَلَمَّا أَدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأَةً مِنْهُمْ» وَسَاقَ الْحَدِيثَ. [الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى أَرَأَيْت الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إذَا صَلَّى] الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} [العلق: 9] {عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 10]: فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ لَمَّا قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَئِنْ رَأَيْت مُحَمَّدًا لَأَطَأَنَّ عَلَى عُنُقِهِ. فَقَالَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ فَعَلَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عِيَانًا» خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي، فَجَاءَ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: أَلَمْ أَنْهَك عَنْ هَذَا؟ أَلَمْ أَنْهَك عَنْ هَذَا؟ فَانْصَرَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَزَبَرَهُ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: إنَّك لَتَعْلَمُ مَا بِهَا نَادٍ أَكْثَرَ مِنِّي، فَنَزَلَتْ: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} [العلق: 17] {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق: 18] فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَاَللَّهِ لَوْ دَعَا نَادِيَهُ لَأَخَذَتْهُ زَبَانِيَةُ اللَّهِ».

[مسألة رأى الماء وهو في أثناء الصلاة متيمما]

[مَسْأَلَةٌ رَأَى الْمَاءَ وَهُوَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ مُتَيَمِّمًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ تَعَلَّقَ بِهَا بَعْضُ النَّاسِ فِي مَسَائِلَ مِنْهَا: لَوْ رَأَى الْمَاءَ وَهُوَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ [مُتَيَمِّمًا]؛ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ: يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَمَادَى عَلَيْهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ يَدْخُلُ فِي الذَّمِّ فِي قَوْلِهِ: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} [العلق: 9] {عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 10]. وَهَذَا غَيْرُ لَازِمٍ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ هَلْ يَكُونُ فِي صَلَاةٍ إذَا رَأَى الْمَاءَ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الذَّمُّ إلَّا إذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ بَاقِيَةً، وَنَحْنُ قُلْنَا لَهُمْ: إذَا أَمَرْتُمُوهُ بِقَطْعِهَا بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ فَقَدْ دَخَلْتُمْ فِي الْعُمُومِ الْمَذْمُومِ. قَالُوا: لَا نَدْخُلُ؛ لِأَنَّا نَرْفَعُ الطَّهَارَةَ بِالتُّرَابِ بِمُعَارِضِهَا وَهُوَ رُؤْيَةُ الْمَاءِ. قُلْنَا: لَا تَكُونُ رُؤْيَةُ الْمَاءِ مُعَارِضَةً لِلطَّهَارَةِ بِالتُّرَابِ، إلَّا إذَا كَانَتْ الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ مُقَارِنَةً لِلرُّؤْيَةِ، وَلَا قُدْرَةَ مَعَ الصَّلَاةِ، وَلَا تَبْطُلُ الطَّهَارَةُ إلَّا بِرُؤْيَةٍ مَعَ قُدْرَةٍ، فَمَانِعٍ فَبَقِيَتْ الصَّلَاةُ بِحَالِهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْمَسْأَلَةَ قَطْعِيَّةٌ؛ لِأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ. [الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى كَلًّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ] ْ} [العلق: 19]: فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ: {وَاسْجُدْ} [العلق: 19] فِيهَا طَرِيقَةُ الْقُرْبَةِ، فَهُوَ يَتَأَكَّدُ عَلَى الْوُجُوبِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، لَكِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سُجُودَ الصَّلَاةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سُجُودَ التِّلَاوَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ سُجُودُ الصَّلَاةِ، لِقَوْلِهِ: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} [العلق: 9] {عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 10] إلَى قَوْلِهِ: (كَلًّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)، لَوْلَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَنْ «أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: سَجَدْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] وَفِي: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] سَجْدَتَيْنِ»، فَكَانَ هَذَا نَصًّا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ سُجُودُ التِّلَاوَةِ.

وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: عَزَائِمُ السُّجُودِ أَرْبَعٌ: {الم - تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2] و {حم - تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت: 1 - 2] و {وَالنَّجْمِ} [النجم: 1] و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1]. وَهَذَا إنْ صَحَّ يَلْزَمُهُ عَلَيْهِ السُّجُودُ الثَّانِي مِنْ سُورَةِ الْحَجِّ، وَإِنْ كَانَ مُقْتَرِنًا بِالرُّكُوعِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ مَعْنَاهُ ارْكَعُوا [فِي مَوْضِعِ الرُّكُوعِ]، وَاسْجُدُوا فِي مَوْضِعِ السُّجُودِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: {وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]: الْمَعْنَى اكْتَسِبْ الْقُرْبَ مِنْ رَبِّك فِي السُّجُودِ فَإِنَّهُ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ فِي سُجُودِهِ؛ لِأَنَّهَا نِهَايَةُ الْعُبُودِيَّةِ وَالذِّلَّةِ لِلَّهِ، وَلِلَّهِ غَايَةُ الْعِزَّةِ، وَلَهُ الْعِزَّةُ الَّتِي لَا مِقْدَارَ لَهَا، فَلَمَّا بَعُدْت مِنْ صِفَتِهِ قَرُبْت مِنْ جَنَّتِهِ، وَدَنَوْت مِنْ جِوَارِهِ فِي دَارِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِيهِ فِي الدُّعَاءِ؛ فَإِنَّهُ قَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ». وَقَدْ قَالَ ابْنُ نَافِعٍ، وَمُطَرِّفٌ: وَكَانَ مَالِكٌ يَسْجُدُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِخَاتِمَةِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَابْنُ وَهْبٍ يَرَاهَا مِنْ الْعَزَائِمِ.

[سورة القدر فيها ثلاث آيات]

[سُورَةُ الْقَدْرِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ] ٍ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]: فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ وَقِسْمِ الْأَفْعَالِ مِنْ الْأَمَدِ الْأَقْصَى مَعْنَى النُّزُولِ فِي الْقُرْآنِ، وَأَنَّ الْمَلِكَ عَلِمَهُ فِي الْعُلُوِّ وَأَنْهَاهُ فِي السُّفْلِ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالنُّزُولِ مَجَازًا فِي الْمَعْنَى عَنْ الْحِسِّ إلَى الْعَقْلِ؛ إذْ الْمَحْسُوسُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَالْمَعْقُولُ هُوَ الرُّتَبُ عَلَيْهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي تَمْيِيزِ الْمُنَزَّلِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ، وَلَكِنَّهُ وَقَعَ لِلْمُخَاطَبِينَ بِهِ الْعِلْمُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32] وَمِنْهُ كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيهِ: {حم} [الدخان: 1] {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ - إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدخان: 2 - 3]. [مَسْأَلَة نُزُول الْقُرْآن فِي لَيْلَة] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ {فِي لَيْلَةِ} [القدر: 1] قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ لَيْلًا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فِي رَمَضَانَ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]، وَأَنْزَلَهُ مِنْ الشَّهْرِ فِي اللَّيْلَةِ الْمُبَارَكَةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ

[مسألة قوله تعالى ليلة القدر]

[مَسْأَلَة قَوْلُهُ تَعَالَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ: {لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] قِيلَ: لَيْلَةُ الشَّرَفِ وَالْفَضْلِ. وَقِيلَ: لَيْلَةُ التَّدْبِيرِ وَالتَّقْدِيرِ. وَهُوَ أَقْرَبُ لِقَوْلِهِ: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] وَيَدْخُلُ فِيهِ الشَّرَفُ وَالرِّفْعَةُ. وَمِنْ شَرَفِهَا نُزُولُ الْقُرْآنِ فِيهَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا جُمْلَةً، وَمِنْ شَرَفِهَا بَرَكَتُهَا وَسَلَامَتُهَا الَّتِي يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَيَانُهَا. وَمَعْنَى التَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ فِيهَا أَنَّ اللَّهَ قَدْ دَبَّرَ الْحَوَادِثَ وَالْكَوَائِنَ قَبْلَ خَلْقِهَا بِغَيْرِ مُدَّةٍ، وَقَدَّرَ الْمَقَادِيرَ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ، وَعَلِمَ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ حُدُوثِهَا بِغَيْرِ أَمَدٍ؛ وَمِنْ جَهَالَةِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ السَّفَرَةَ أَلْقَتْهُ إلَى جِبْرِيلَ فِي عِشْرِينَ لَيْلَةً وَأَلْقَاهُ جِبْرِيلُ إلَى مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - فِي عِشْرِينَ سَنَةً. وَهَذَا بَاطِلٌ لَيْسَ بَيْنَ جِبْرِيلَ وَبَيْنَ [اللَّهِ وَاسِطَةٌ. وَلَا بَيْنَ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَاسِطَةٌ]. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فَيُحْدِثُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي رَمَضَانَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ كُلَّ شَيْءٍ يَكُونُ فِي السَّنَةِ مِنْ الْأَرْزَاقِ وَالْمَصَائِبِ، وَمَا يُقَسَّمُ مِنْ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَالْمَطَرِ وَالرِّزْقِ، حَتَّى يَكْتُبَ فُلَانٌ يَحُجُّ فِي الْعَامِ، وَيَكْتُبَ ذَلِكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ. وَقَالَ آخَرُونَ: يَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ، وَالْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ، فَقَدْ فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ، وَنَسَخَ لِمَلَكِ الْمَوْتِ مَنْ يَمُوتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إلَى مِثْلِهَا، فَتَجِدُ الرَّجُلَ يَنْكِحُ النِّسَاءَ، وَيَغْرِسُ الْغُرُوسَ، وَاسْمُهُ فِي الْأَمْوَاتِ مَكْتُوبٌ. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ] ٍ} [القدر: 3]: فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ هِبَتِهَا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَالْمِنَّةِ عَلَيْهِمْ، وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ فَضْلٌ مِنْ رَبِّك. الثَّانِي أَنَّهُ «ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا أَرْبَعَةً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ، فَقَالَ: عَبَدُوا اللَّهَ ثَمَانِينَ عَامًا لَمْ يَعْصُوهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَذَكَرَ أَيُّوبَ وَزَكَرِيَّا، وَحِزْقِيلَ بْنَ الْعَجُوزِ، وَيُوشَعَ بْنَ نُونٍ، فَعَجِبَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ ذَلِكَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، عَجِبَتْ أُمَّتُك مِنْ عِبَادَةِ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ ثَمَانِينَ سَنَةً لَمْ يَعْصُوا اللَّهَ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْك خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَرَأَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] وَهَذَا أَفْضَلُ مِمَّا عَجِبْت أَنْتَ وَأُمَّتُك مِنْهُ. قَالَ: فَسُرَّ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». الثَّالِثُ: قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَغَيْرِهِ عَنْهُ: سَمِعْت مَنْ أَثِقُ بِهِ يَقُولُ: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُرِيَ أَعْمَارَ الْأُمَمِ قَبْلَهُ، فَكَأَنَّهُ تَقَاصَرَ أَعْمَارَ أُمَّتِهِ أَلَّا يَبْلُغُوا مِنْ الْعَمَلِ مِثْلَ مَا بَلَغَ غَيْرُهُمْ فِي طُولِ الْعُمُرِ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَجَعَلَهَا خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ». قَالَ الْقَاضِي: وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ، وَلَقَدْ أُعْطِيت أُمَّةُ مُحَمَّدٍ مِنْ الْفَضْلِ مَا لَمْ تُعْطَهُ أُمَّةٌ فِي طُولِ عُمُرِهَا، فَأَوَّلُهَا أَنْ كُتِبَ لَهَا خَمْسُونَ صَلَاةً بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ، وَكُتِبَ لَهَا صَوْمُ سَنَةٍ بِشَهْرِ رَمَضَانَ، بَلْ صَوْمُ سَنَةٍ بِثَلَاثِينَ سَنَةً فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَحَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الصَّحِيحِ، وَطُهِّرَ مَالُهَا بِرُبْعِ الْعُشْرِ، وَأُعْطِيَتْ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَنْ قَرَأَهَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ يَعْنِي عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، وَكُتِبَ لَهَا أَنَّ مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ لَيْلَةً، وَمَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ لَيْلَةٍ. فَهَذِهِ لَيْلَةٌ وَنِصْفٌ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ؛ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ تَعْدَادُهُ. وَمِنْ أَفْضَلِ مَا أُعْطُوا لَيْلَةُ الْقَدْرِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ؛ وَهَذَا فَضْلٌ [لَا يُوَازِيهِ فَضْلٌ]، وَمِنَّةٌ لَا يُقَابِلُهَا شُكْرٌ.

[مسألة قوله تعالى ليلة القدر خير من ألف شهر]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ رُوِيَ فِيهَا قَوْلٌ رَابِعٌ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ مَحْمُودَ بْنَ غَيْلَانَ حَدَّثَهُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ الْحُدَّانِيُّ عَنْ يُوسُفَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: «قَامَ رَجُلٌ إلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ بَعْدَمَا بَايَعَ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: سَوَّدْت وُجُوهَ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ يَا مُسَوِّدَ وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: لَا تُؤَنِّبْنِي رَحِمَك اللَّهُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُرِيَ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى مِنْبَرِهِ، فَسَاءَهُ ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] يَعْنِي نَهْرًا فِي الْجَنَّةِ، وَنَزَلَتْ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر: 2] {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] يَمْلِكُهَا بَنُو أُمَيَّةَ يَا مُحَمَّدُ، قَالَ الْقَاسِمُ: فَعَدَدْنَاهَا فَإِذَا هِيَ أَلْفٌ لَا تَزِيدُ يَوْمًا وَلَا تَنْقُصُ يَوْمًا». [مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ؛ لِأَنَّهَا [لَا يَصِحُّ أَنْ] تَكُونَ خَيْرًا مِنْ نَفْسِهَا، وَتَرَكَّبَ عَلَى هَذَا قَوْلُ النُّحَاةِ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ: زَيْدٌ أَفْضَلُ إخْوَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْإِخْوَةِ، يُرِيدُونَ وَلَا [يَجُوزُ أَنْ] يَكُونَ الشَّيْءُ أَفْضَلَ مِنْ نَفْسِهِ. وَهَذَا تَدْقِيقٌ لَا يَئُولُ إلَى تَحْقِيقٍ. أَمَّا لَيْلَةُ الْقَدْرِ فَإِنَّهَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، فَيَكُونُ الْعَمَلُ فِيهَا خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ هِيَ مِنْ جُمْلَتِهَا، فَإِذَا عَمَّرَ الرَّجُلُ بَعْدَ الْبُلُوغِ عَامًا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ أَلْفَ شَهْرٍ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَلَا يَكْتُبُ لَهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَأَلْفَ شَهْرٍ زَائِدًا عَلَيْهَا، وَرُكِّبَ عَلَى هَذَا بَقِيَّةُ الْأَعْوَامِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: زَيْدٌ أَفْضَلُ إخْوَتِهِ فَهَذَا تَجَوُّزٌ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ قَدْ سَحَبَتْ عَلَى هَذَا الْغَرَضِ ذَيْلَ الْغَلَطِ، وَأَجْرَتْهُ عَلَى مَسَاقِ الْجَوَازِ فِي النُّطْقِ، فَإِنَّهَا تَقُولُ الِاثْنَانِ نِصْفُ الْأَرْبَعَةِ؛ تَتَجَوَّزُ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ مِنْ الْأَرْبَعَةِ.

[الآية الثالثة قوله تعالى سلام هي حتى مطلع الفجر]

وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي نِسْبَتِهَا لِشَيْءٍ تَرَكَّبَ مِثْلُهُ، وَفِي قَوْلِهِمْ: الْوَاحِدُ ثُلُثُ الثَّلَاثَةِ شَيْءٌ تَرَكَّبَ مِثْلَيْهِ، وَهَكَذَا إلَى آخِرِ النَّسَبِ، وَلَكِنَّهَا لَمْ تَتَحَاشَ عَنْ هَذَا الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ مَنْظُومٌ، وَالْمَعْنَى مَفْهُومٌ؛ وَوَجْهُ الْمَجَازِ فِيهِ ظَاهِرٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ] ِ} [القدر: 5]: فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {سَلامٌ هِيَ} [القدر: 5]، فَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ هَاهُنَا ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلَ إنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ سَلَامَةٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، لَا يَحْدُثُ فِيهَا حَدَثٌ، وَلَا يُرْسَلُ فِيهَا شَيْطَانٌ. الثَّانِي إنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ هِيَ كُلُّهَا خَيْرٌ وَبَرَكَةٌ. الثَّالِثَ إنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتُسَلِّمُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إلَى مَطْلَعِ الْفَجْرِ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ. وَذَلِكَ كُلُّهُ صَحِيحٌ فِيهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ الْعُمُومِ فِي الْإِثْبَاتِ إذَا كَانَ مَصْدَرًا أَوْ مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ؛ بِخِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَعْلَامِ، فَإِنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ الْعُمُومَ بِالْإِثْبَاتِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ. [مَسْأَلَة تَحْرِير لَيْلَة الْقَدْر] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: " هِيَ " نَزَعَ بِذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهَا فِي لَيْلَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ؛ لِأَنَّهُمْ عَدُّوا حُرُوفَ السُّورَةِ، فَلَمَّا بَلَغُوا إلَى قَوْلِهِمْ: (هِيَ) وَجَدُوهَا سَبْعَةً وَعِشْرِينَ حَرْفًا، فَحَكَمُوا عَلَيْهِ بِهَا، وَهُوَ أَمْرٌ بَيِّنٌ، وَعَلَى النَّظَرِ بَعْدَ التَّفَطُّنِ لَهُ هَيِّنٌ، وَلَا يَهْتَدِي لَهُ إلَّا مَنْ كَانَ صَادِقَ الْفِكْرِ، شَدِيدَ الْعِبْرَةِ، وَقَدْ أَشْبَعْت الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ شَرْحِ

الصَّحِيحَيْنِ. وَلُبَابُهُ اللَّائِقُ بِالْأَحْكَامِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي تَحْرِيرِهَا عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَوْلًا: الْأَوَّلُ أَنَّهَا فِي الْعَامِ كُلِّهِ. سُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ؛ فَقَالَ: مَنْ يَقُمْ الْحَوْلَ يُصِبْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ. الثَّانِي أَنَّهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ دُونَ سَائِرِ شُهُورِ الْعَامِ؛ قَالَهُ سَائِرُ الْأَئِمَّةِ عَدَا مَا سَمَّيْنَاهُ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ الشَّهْرِ؛ قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ. الرَّابِعُ أَنَّهَا لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ. الْخَامِسُ أَنَّهَا لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ. السَّادِسُ أَنَّهَا لَيْلَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ. السَّابِعُ أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ. الثَّامِنُ أَنَّهَا لَيْلَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ. التَّاسِعُ أَنَّهَا فِي الْأَشْفَاعِ لِلْأَفْرَادِ الْخَمْسَةِ؛ فَإِذَا أَضَفْتهَا إلَى الثَّمَانِيَةِ الْأَقْوَالِ اجْتَمَعَ فِيهَا ثَلَاثَةَ عَشْرَ قَوْلًا، أُصُولُهَا هَذِهِ التِّسْعَةُ الَّتِي أَشَرْنَا إلَيْهَا. تَوْجِيهُ الْأَقْوَالِ وَأَدِلَّتُهَا: أَمَّا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ إنَّهَا فِي الْعَامِ كُلِّهِ، فَنَزَعَ إلَى أَنَّهَا مَوْجُودَةٌ شَرْعًا، مُخْبَرٌ عَنْهَا قَطْعًا وَلَمْ يَتَعَيَّنْ لِتَوْقِيتِهَا دَلِيلٌ، فَبَقِيَتْ مُتَرَقَّبَةً فِي الزَّمَانِ كُلِّهِ، وَقَدْ رَآهُ ابْنُ مَسْعُودٍ مَعَ فِقْهِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ بِهِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَلِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأُوَلَ يَطْلُبُهَا، وَاعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ»، وَلَوْ كَانَتْ مُخَصَّصَةً بِجُزْءٍ مِنْهُ مَا تَقَلَّبَ فِي جَمِيعِهِ يَطْلُبُهَا فِيهِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ نَزَعَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا

أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: 41] وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهَا إحْدَى وَعِشْرِينَ فَمُعَوَّلُهُ عَلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُجَاوِزُ الْعَشْرَ الَّتِي فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ، ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَاسِطَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ عَلَى سُدَّتِهَا حَصِيرٌ، ثُمَّ قَالَ: إنِّي أُوتِيت، وَقِيلَ لِي: إنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَإِنِّي رَأَيْتهَا لَيْلَةَ وِتْرٍ، وَكَأَنِّي أَسْجُدُ صَبِيحَتَهَا فِي مَاءٍ وَطِينٍ. فَأَصْبَحَ مِنْ لَيْلَةِ إحْدَى وَعِشْرِينَ، وَقَدْ صَلَّى الصُّبْحَ، فَمَطَرَتْ السَّمَاءُ، وَوَكَفَ الْمَسْجِدُ؛ فَخَرَجَ حِينَ فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَجَبِينُهُ وَأَرْنَبَةُ أَنْفِهِ فِيهِمَا أَثَرُ الطِّينِ وَالْمَاءِ». وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا لَيْلَةُ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ فَلِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مُرْنِي بِلَيْلَةٍ أَنْزِلُ فِيهَا إلَيْك. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: انْزِلْ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ». وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إنِّي رَأَيْت أَنِّي أَسْجُدُ فِي صَبِيحَتِهَا فِي مَاءٍ وَطِينٍ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ: فَرَأَيْته فِي صَبِيحَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَجَدَ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ، كَمَا أَخْبَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا لَيْلَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ؛ فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، وَفِي خَامِسَةٍ تَبْقَى»، زَادَ النَّسَائِيّ عَلَى مُسْلِمٍ «أَوْ ثُلُثِ آخِرِ لَيْلَةٍ». وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ فَاحْتَجَّ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي مُسْلِمٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، «قَالَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ: سَأَلْت أُبَيِّ بْنَ كَعْبٍ، فَقُلْت: إنَّ أَخَاك ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَنْ يَقُمْ الْحَوْلَ يُصِبْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ. فَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَرَادَ أَلَّا يَتَّكِلَ النَّاسُ، أَمَّا إنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَأَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ حَلَفَ لَا يَسْتَثْنِي أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ. فَقُلْت: بِأَيِّ شَيْءٍ تَقُولُ ذَلِكَ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ؟

فَقَالَ: بِالْعَلَامَةِ الَّتِي أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي الشَّمْسِ مِنْ صَبِيحَتِهَا أَنَّهَا تَطْلُعُ يَوْمَئِذٍ لَا شُعَاعَ لَهَا». وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا لَيْلَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ فَنَزَعَ بِحَدِيثِ النَّسَائِيّ الْمُتَقَدِّمِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا فِي الْأَشْفَاعِ فَنَزَعَ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَشْرَ الْأَوَاسِطَ مِنْ رَمَضَانَ، يَلْتَمِسُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ قَبْلَ أَنْ تُبَانَ لَهُ، فَلَمَّا انْقَضَيْنَ أَمَرَ بِالْبِنَاءِ فَقُوِّضَ، ثُمَّ أُبِينَتْ لَهُ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَأَمَرَ بِالْبِنَاءِ فَأُعِيدَ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ؛ إنَّهُ كَانَتْ أُبِينَتْ لِي لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَإِنِّي خَرَجْت لِأُخْبِرَكُمْ بِهَا، فَجَاءَ رَجُلَانِ يَخْتَصِمَانِ مَعَهُمَا الشَّيْطَانُ، فَنَسِيتهَا، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، الْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ». قَالَ أَبُو نَضْرَةَ رَاوِي الْحَدِيثِ: قُلْت لِأَبِي سَعِيدٍ: إنَّكُمْ أَعْلَمُ بِالْعَدَدِ مِنَّا. قَالَ: أَجَلْ، نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْكُمْ. قَالَ: فَقُلْت: فَمَا التَّاسِعَةُ وَالسَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ؟ قَالَ: إذَا مَضَتْ وَاحِدَةٌ وَعِشْرُونَ فَاَلَّتِي تَلِيهَا اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ فَهِيَ التَّاسِعَةُ، وَإِذَا مَضَتْ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ فَاَلَّتِي تَلِيهَا السَّابِعَةُ، وَإِذَا مَضَتْ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ فَاَلَّتِي تَلِيهَا وَهِيَ الْخَامِسَةُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي الصَّحِيحِ فِيهَا وَتَرْجِيحِ سُبُلِ النَّظَرِ الْمُوصِلَةِ إلَى الْحَقِّ مِنْهَا: وَذَلِكَ أَنَّا نَقُولُ: إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] فَأَفَادَ هَذَا بِمُطْلَقِهِ، لَوْ لَمْ يَكُنْ كَلَامٌ سِوَاهُ أَنَّهَا فِي الْعَامِ كُلِّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] فَأَنْبَأَنَا أَنَّهُ أَنْزَلَهُ فِي لَيْلَةٍ مِنْ الْعَامِ. فَقُلْنَا: مَنْ يَقُمْ الْحَوْلَ يُصِبْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، ثُمَّ نَظَرْنَا إلَى قَوْله تَعَالَى {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] فَأَفَادَنَا ذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ هِيَ لَيْلَةٌ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ؛ لِإِخْبَارِ اللَّهِ أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ فِيهَا، فَقُلْنَا: مَنْ يَقُمْ شَهْرَ رَمَضَانَ يُصِبْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَقَدْ طَلَبَهَا الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوَّلِهِ وَفِي أَوْسَطِهِ وَفِي آخِرِهِ رَجَاءَ الْحُصُولِ. وَقَالَ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا

[مسألة قال لزوجته أنت طالق في ليلة القدر]

غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»؛ وَلَمْ يَعُمَّهُ بِالطَّلَبِ لِمَا كَانَ يَظُنُّهُ مِنْ التَّخْصِيصِ، وَرَجَاءَ أَلَّا يَشُقَّ عَلَى أُمَّتِهِ، ثُمَّ أَنْبَأَهُ اللَّهُ بِهَا، فَخَرَجَ لِيُخْبِرَ بِهَا فَأُنْسِيَهَا لِشُغْلِهِ مَعَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ، لَكِنْ بَقِيَ لَهُ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي كَانَ أُخْبِرَ بِهِ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، ثُمَّ أَخْبَرَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ. [وَتَوَاطَأَتْ رِوَايَاتُ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ]، كَمَا قَالَ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاقْتَضَتْ رُؤْيَاهُ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي لَيْلَةِ إحْدَى وَعِشْرِينَ. [وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ أَنَّهَا لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ]؛ ثُمَّ أَنْبَأَ عَنْهَا بِعَلَامَةٍ، وَهِيَ طُلُوعُ الشَّمْسِ بَيْضَاءَ لَا شُعَاعَ لَهَا يَعْنِي مِنْ كَثْرَةِ الْأَنْوَارِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَوَجَدَ ذَلِكَ الصَّحَابَةُ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَلَمْ نَصْلُحْ لِرُؤْيَةِ ذَلِكَ النُّورِ لِكَثْرَةِ ظُلْمَةِ الذُّنُوبِ، فَإِنْ رَآهَا أَحَدٌ مِنْ الْمُذْنِبِينَ فَحُجَّةٌ عَلَيْهِ إنْ مَاتَ وَنِقْمَةٌ مِنْهُ إنْ بَقِيَ كَمَا كَانَ، ثُمَّ خَصَّ السَّبْعَ الْأَوَاخِرَ مِنْ جُمْلَةِ الشَّهْرِ، فَحَثَّ عَلَى الْتِمَاسِهَا فِيهَا، ثُمَّ وَجَدْنَاهَا بِالرُّؤْيَا الْحَقِّ لَيْلَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ فِي عَامٍ، ثُمَّ وَجَدْنَاهَا بِالرُّؤْيَا الصِّدْقِ فِي لَيْلَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ فِي عَامٍ، ثُمَّ وَجَدْنَاهَا بِالْعَلَامَةِ الْحَقِّ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ؛ فَعَلِمْنَا أَنَّهَا تَنْتَقِلُ فِي الْأَعْوَامِ، لِتَعُمَّ بَرَكَتُهَا مِنْ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ جَمِيعَ الْأَيَّامِ، وَخَبَّأَهَا عَنْ التَّعْيِينِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْرَكَ عَلَى الْأُمَّةِ فِي الْقِيَامِ فِي طَلَبِهَا شَهْرًا أَوْ أَيَّامًا، فَيَحْصُلُ مَعَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ ثَوَابُ غَيْرِهَا، كَمَا خَبَّأَ الْكَبَائِرَ فِي الذُّنُوبِ وَسَاعَةَ الْجُمُعَةِ فِي الْيَوْمِ حَسْبَمَا قَدَّمْنَاهُ. فَهَذِهِ سُبُلُ النَّظَرِ الْمُجْتَمِعَةُ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ أَجْمَعُ، فَتَبَصَّرُوهَا لَمَمًا، وَاسْلُكُوهَا أُمَمًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَسْأَلَة قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ مَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ لَا تَطْلُقُ حَتَّى يَتِمَّ الْعَامُ مِنْ أَوَّلِ يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي الْعَامِ، فَلَا يَبْطُلُ [يَقِينُ] النِّكَاحِ بِالشَّكِّ فِي الطَّلَاقِ إجْمَاعًا مِنْ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ. الثَّانِي إذَا كَانَ آخِرُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ طَلُقَتْ؛ لِأَنَّهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كَمَا ثَبَتَ فِي الْآثَارِ؛ وَلَا يَتَعَيَّنُ تَعْيِينُهَا إلَّا بِدُخُولِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، فَلَا يَقَعُ يَقِينُ الْفِرَاقِ الَّذِي يَرْتَفِعُ بِهِ يَقِينُ النِّكَاحِ إلَّا حِينَئِذٍ.

الثَّالِثُ: أَنَّهَا تَطْلُقُ فِي حِينِ قَوْلِهِ ذَلِكَ قَالَهُ مَالِكٌ وَلَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى الطَّلَاقِ بِالشَّكِّ؛ فَإِنَّ مَالِكًا لَمْ يُطَلِّقْ قَطُّ بِشَكٍّ، وَلَا يَرْفَعُ الشَّكُّ عِنْدَهُ الْيَقِينَ بِحَالٍ. وَقَدْ جَهِلَ ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا تَطْلُقُ عِنْدَ مَالِكٍ بِأَنَّ مَنْ عَلَّقَ طَلَاقَ زَوْجَتِهِ عَلَى أَجَلٍ آتٍ لَا مَحَالَةَ فَإِنَّهَا تَطْلُقُ الْآنَ؛ لِأَنَّ الْفُرُوجَ لَا تَقْبَلُ تَأْقِيتًا؛ وَلِذَلِكَ أَبْطَلَ الْعُلَمَاءُ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ. وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي شَهْرٍ قَبْلَ مَا بَعْدَ قَبْلِهِ رَمَضَانَ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي جُزْءٍ مُنْفَرِدٍ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي هَاهُنَا.

[سورة البينة فيها آيتان]

[سُورَةُ الْبَيِّنَةِ فِيهَا آيَتَانِ] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ] ِ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 1]. الْآيَةُ فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي قِرَاءَتِهَا: قَرَأَهَا أُبَيٌّ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البينة: 1]؛ وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَمْ يَكُنِ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ مُنْفَكِّينَ. وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ عَلَى التَّفْسِيرِ؛ وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي مَعْرِضِ الْبَيَانِ، لَا فِي مَعْرِضِ التِّلَاوَةِ؛ فَقَدْ قَرَأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحِ: «فَطَلِّقُوهُنَّ لِقُبُلِ عِدَّتِهِنَّ»، وَهُوَ تَفْسِيرٌ؛ فَإِنَّ التِّلَاوَةَ مَا كَانَ فِي خَطِّ الْمُصْحَفِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ بْنِ بِشْرٍ الْكَاهِلِيُّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البينة: 1] لَعَطَّلُوا الْأَهْلَ وَالْمَالَ، وَلَتَعَلَّمُوهَا». وَهَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ؛ وَإِنَّمَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: إنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْك {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البينة: 1] وَقَالَ: وَسَمَّانِي لَك؟ قَالَ: نَعَمْ، فَبَكَى».

[الآية الثانية قوله تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ: {مُنْفَكِّينَ} [البينة: 1] يَعْنِي زَائِلِينَ عَنْ دِينِهِمْ، حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ بِبُطْلَانِ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَتِلْكَ الْبَيِّنَةُ هِيَ: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} [البينة: 2]، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَالُوا: {مُطَهَّرَةً} [البينة: 2] مِنْ الشِّرْكِ، وَقَالُوا: مُطَهَّرَةً بِحُسْنِ الذِّكْرِ، وَقَلْبٌ مُطَهَّرٌ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْآيَةِ الَّتِي فِي {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس: 1]: {مُكَرَّمَةٍ} [عبس: 13] {مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} [عبس: 14] إنَّهَا الْقُرْآنُ وَإِنَّهُ لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ؛ وَهَذِهِ الْآيَةُ تُوَافِقُ [ذَلِكَ وَتُؤَكِّدُهُ فَلَا يَمَسُّهَا إلَّا طَاهِرٌ شَرْعًا وَدِينًا، فَإِنْ وُجِدَ غَيْرُ ذَلِكَ فَبَاطِلٌ لَا يُنْفَى] ذَلِكَ فِي كَرَامَتِهَا، وَلَا يُبْطِلُ حُرْمَتَهَا، كَمَا لَوْ قَتَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ تَبْطُلْ نُبُوَّتُهُ، وَلَا أَسْقَطَ ذَلِكَ حُرْمَتَهُ، وَلَا اقْتَضَى ذَلِكَ تَكْذِيبَهُ؛ بَلْ يَكُونُ زِيَادَةً فِي مَرْتَبَتِهِ فِي الدَّارَيْنِ. [الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ] َ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]: فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى أَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِعِبَادَتِهِ، وَهِيَ أَدَاءُ الطَّاعَةِ لَهُ بِصِفَةِ الْقُرْبَةِ، وَذَلِكَ بِإِخْلَاصِ النِّيَّةِ بِتَجْرِيدِ الْعَمَلِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا لِوَجْهِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الْإِخْلَاصُ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ إذَا ثَبَتَ هَذَا فَالنِّيَّةُ وَاجِبَةٌ فِي التَّوْحِيدِ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ؛ فَدَخَلَتْ تَحْتَ هَذَا الْعُمُومِ دُخُولَ الصَّلَاةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ خَرَجَتْ عَنْهُ طَهَارَةُ النَّجَاسَةِ، وَذَلِكَ يَعْتَرِضُ عَلَيْكُمْ فِي الْوُضُوءِ؟ قُلْنَا: إزَالَةُ النَّجَاسَةِ مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهَا إزَالَةُ الْعَيْنِ، لَكِنْ بِمُزِيلٍ

مَخْصُوصٍ، فَقَدْ جَمَعَتْ عَقْلَ الْمَعْنَى وَضَرْبًا مِنْ التَّعَبُّدِ، كَالْعِدَّةِ جَمَعَتْ بَيْنَ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَالتَّعَبُّدِ، حَتَّى صَارَتْ عَلَى الصَّغِيرَةِ وَالْيَائِسَةِ الَّتِي تُحَقِّقُ بَرَاءَةَ رَحِمِهِمَا قَطْعًا، لَا سِيَّمَا وَمَا غَرَضٌ نَاجِزٌ؛ وَهُوَ النَّظَافَةُ؛ فَيَسْتَقِلُّ بِهِ، وَلَيْسَ فِي الْوُضُوءِ [غَرَضٌ نَاجِزٌ] إلَّا مُجَرَّدُ التَّعَبُّدِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَكْمَلَ الْوُضُوءَ وَأَعْضَاؤُهُ تَجْرِي بِالْمَاءِ وَخَرَجَ مِنْهُ رِيحٌ بَطَلَ وُضُوءُهُ، وَقَدْ حَقَّقْنَا الْقَوْلَ فِيهَا فِي كِتَابِ تَخْلِيصِ التَّلْخِيصِ.

[سورة الزلزلة]

[سُورَةُ الزَّلْزَلَةِ] ِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: [إنَّهَا مَكِّيَّةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ]: إنَّهَا مَدَنِيَّةٌ: وَفَضْلُهَا كَثِيرٌ، وَتَحْتَوِي عَلَى عَظِيمٍ؛ قَالَ إبْرَاهِيمُ التَّمِيمِيُّ: لَقَدْ أَدْرَكْت سَبْعِينَ شَيْخًا فِي مَسْجِدِنَا هَذَا، أَصْغَرُهُمْ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْد، وَسَمِعْته يَقْرَأُ: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ} [الزلزلة: 1]، حَتَّى إذَا بَلَغَ إلَى قَوْلِهِ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] بَكَى ثُمَّ قَالَ: إنَّ هَذِهِ لَإِحْكَامٌ شَدِيدٌ. وَلَقَدْ رَوَى الْعُلَمَاءُ الْأَثْبَاتُ أَنَّ «هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ؛ فَأَمْسَكَ؛ فَقَالَ؛ يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَوَإِنَّا لَنَرَى مَا عَمِلْنَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ؟ قَالَ: أَرَأَيْت مَا تَكْرَهُ فَهُوَ مَثَاقِيلُ ذَرِّ الشَّرِّ، وَيَدَّخِرُ لَكُمْ مَثَاقِيلَ ذَرِّ الْخَيْرِ حَتَّى تُعْطَوْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». قَالَ أَبُو إدْرِيسَ: إنَّ مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]. وَرَوَى الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَفَعَ رَجُلًا إلَى رَجُلٍ يُعَلِّمُهُ حَتَّى إذَا بَلَغَ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] قَالَ: حَسْبِي. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دَعُوهُ، فَإِنَّهُ قَدْ فَقِهَ». وَرَوَى كَعْبُ الْأَحْبَارِ أَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ آيَتَيْنِ أَحْصَتَا مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ أَلَا تَجِدُونَ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ

ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] قَالَ جُلَسَاؤُهُ: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّهُمَا قَدْ أَحْصَتَا مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى قَوْلِهِ: «فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْحُمُرِ، فَقَالَ: مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهَا شَيْءٌ إلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8]». وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ الْقَائِلُونَ بِالْعُمُومِ وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ مَا فَسَّرْنَا بِهِ أَنَّ الرُّؤْيَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الدُّنْيَا بِالْبَلَاءِ كَمَا تَكُونُ فِي الْآخِرَةِ بِالْجَزَاءِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ. قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ سَرَدْنَا مِنْ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَا سَرَدْنَا، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ، وَمِنْ تَمَامِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ الْحُمُرِ، وَسَكَتَ عَنْ الْبِغَالِ، وَالْجَوَابُ فِيهِمَا وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْبَغْلَ وَالْحِمَارَ لَا كَرَّ فِيهِمَا وَلَا فَرَّ. فَلَمَّا ذَكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا فِي الْخَيْلِ مِنْ الْأَجْرِ الدَّائِمِ وَالثَّوَابِ الْمُسْتَمِرِّ سَأَلَ السَّائِلُ عَنْ الْحُمُرِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ يَوْمَئِذٍ بَغْلٌ، وَلَا دَخَلَ الْحِجَازَ مِنْهَا [شَيْءٌ] إلَّا بَغْلَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[الدُّلْدُلُ] الَّتِي أَهْدَاهَا لَهُ الْمُقَوْقَسُ، فَأَفْتَاهُ فِي الْحَمِيرِ بِعُمُومِ الْآيَةِ، وَإِنَّ فِي الْحِمَارِ مَثَاقِيلَ ذَرٍّ كَثِيرَةً. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَجْهَ هَذَا الدَّلِيلِ وَنَوْعَهُ، وَأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ أَوْ غَيْرِهِ وَتَحْقِيقُهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ.

[سورة العاديات]

[سُورَةُ الْعَادِيَاتِ] ِ أَقْسَمَ اللَّهُ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ {يس} [يس: 1] {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس: 2]. وَأَقْسَمَ بِحَيَاتِهِ، فَقَالَ: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]. وَأَقْسَمَ بِخَيْلِهِ وَصَهِيلِهَا وَغُبَارِهَا وَقَدْحِ حَوَافِرِهَا الدَّارِّ مِنْ الْحَجَرِ، فَقَالَ: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} [العاديات: 1] الْآيَاتُ الْخَمْسُ. وَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ: {إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات: 6]. {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] وَهُوَ الْمَالُ. وَقَدْ تَبَيَّنَ فِيمَا تَقَدَّمَ [حَالُ الْمَالِ] فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالنَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَالْفَائِدَةِ وَالْخَيْبَةِ.

[سورة التكاثر فيها آيتان]

[سُورَةُ التَّكَاثُرِ فِيهَا آيَتَانِ] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ] ِ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1]: فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إنَّهَا مَكِّيَّةٌ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ، وَلَنْ يَمْلَأَ فَاهُ إلَّا التُّرَابُ. وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ». فَقَالَ ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أُبَيٍّ قَالَ: كُنَّا نَرَى هَذَا مِنْ الْقُرْآنِ حَتَّى نَزَلَتْ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1]. وَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ مَلِيحٌ غَابَ عَنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ، فَجَهِلُوا وَجَهَّلُوا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى الْمَعْرِفَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ كُنَّا أَمْلَيْنَا فِيهَا مِائَةً وَثَمَانِينَ مَجْلِسًا، وَذَكَرْنَا أُنْمُوذَجَهَا فِي قَانُونِ التَّأْوِيلِ فَلْيُنْظَرْ فِيهِ، فَهُوَ مَدْخَلٌ عَظِيمٌ.

[الآية الثانية قوله تعالى ثم لتسألن يومئذ عن النعيم]

[الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ] ِ} [التكاثر: 8]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي النَّعِيمِ أَقْوَالًا كَثِيرَةً، لُبَابُهَا خَمْسَةٌ: الْأُولَى: الْأَمْنُ وَالصِّحَّةُ. الثَّانِي: السَّلَامَةُ. الثَّالِثُ: لَذَّةُ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ؛ قَالَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. الرَّابِعُ: الْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ. الْخَامِسُ: شِبَعُ الْبَطْنِ، وَشُرْبُ الْمَاءِ الْبَارِدِ. [مَسْأَلَة تَحْقِيقُ مَعْنَى النَّعِيمِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ تَحْقِيقُ النَّعِيمِ مِنْ النِّعَمِ، وَبِنَاءُ (نَ عَ مَ) لِلْمُوَافَقَةِ، وَأَعْظَمُهَا مُوَافَقَةً مَا قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رِوَايَةِ كَادِحِ بْنِ رَحْمَةَ أَنَّهُ صِحَّةُ الْبَدَن وَطِيبُ النَّفْسِ، وَقَدْ أَخَذَهُ الشَّاعِرُ، فَقَالَ: إذَا الْقُوتُ يَأْتِي لَك وَالصِّحَّةُ وَالْأَمْنُ ... وَأَصْبَحْت أَخَا حُزْنٍ فَلَا فَارَقَك الْحُزْنُ وَقَدْ كَانَ هَذَا يَتَأَتَّى قَبْلَ الْيَوْمِ، فَأَمَّا فِي هَذَا الزَّمَانِ فَإِنَّهُ عَسِيرُ التَّكْوِينِ، وَقَلِيلُ الْوُجُودِ. وَيَرَى [كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ] أَنَّ مَالِكًا أَخَذَهُ مِنْ حِكَمِ لُقْمَانَ؛ فَفِيهَا أَنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ قَالَ لِابْنِهِ: لَيْسَ غِنًى كَصِحَّةٍ، وَلَا نَعِيمٌ كَطِيبِ نَفْسٍ. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ، عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] قَالَ الزُّبَيْرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنْ أَيِّ نَعِيمٍ نُسْأَلُ، وَإِنَّمَا هُمَا الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ؟ قَالَ: أَمَا إنَّهُ سَيَكُونُ». وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ

النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ عَنْ أَيِّ النَّعِيمِ نُسْأَلُ؟ فَإِنَّمَا هُمَا الْأَسْوَدَانِ؛ وَالْعَدُوُّ حَاضِرٌ، وَسُيُوفُنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا؟ قَالَ: أَمَا إنَّهُ سَيَكُونُ». قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ، نَزَلَتْ بَعْدَ شَرْعِ الْقِتَالِ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: بَلَغَنِي «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَوَجَدَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالَا: أَخْرَجَنَا الْجُوعُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَأَنَا أَخْرَجَنِي الْجُوعُ؛ فَذَهَبُوا إلَى أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيْهَانِ، فَأَمَرَ لَهُمْ بِشَعِيرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِلَ، وَقَامَ فَذَبَحَ لَهُمْ شَاةً، وَاسْتَعْذَبَ لَهُمْ مَاءً، فَعُلِّقَ فِي نَخْلَةٍ، ثُمَّ أُتُوا بِذَلِكَ الطَّعَامِ، فَأَكَلُوا مِنْهُ، وَشَرِبُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَتُسْأَلُنَّ عَنْ نَعِيمِ هَذَا الْيَوْمِ». قَالَ الْقَاضِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَالْحَدِيثُ مُسْنَدٌ مَشْهُورٌ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا ، وَهَذَا نَعِيمُ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ، وَأَصْلُهُ الَّذِي لَا تَنَعُّمَ فِيهِ جِلْفُ الْخُبْزِ وَالْمَاءِ، «وَحَسْبُ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٍ يُقِمْنَ صُلْبَهُ»، هَكَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ يَكُونُ النَّعِيمُ فِي الْخَادِمِ كَمَا حَدَّثَ الْهُجَيْعُ بْنُ قَيْسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ لَهُ: مَا يَكْفِي ابْنَ آدَمَ مِنْ الدُّنْيَا؟ قَالَ: مَا أَشْبَعَ جَوْعَتَك، وَسَتَرَ عَوْرَتَك؛ فَمَنْ كَانَ لَهُ خَادِمٌ فَهُنَاكَ النَّعِيمُ، فَهُنَاكَ النَّعِيمُ». وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ النَّعِيمِ أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَلَمْ أَصِحَّ جِسْمَك؟ أَلَمْ أَرْوِك مِنْ الْمَاءِ الْبَارِدِ». خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ: إنَّ «أَبَا الْهَيْثَمِ بْنَ التَّيْهَانِ قَالَ: إنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَعَمَدَ نَحْوَهُ، فَوَقَفَ فَسَلَّمَ فَرَدَّ عُمَرُ عَلَيْهِ السَّلَامَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَخْرَجَك هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قَالَ: وَأَنْتَ مَا أَخْرَجَك هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا سَأَلْت قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَنِي. قَالَ: أَخْرَجَنِي الْجُوعُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَنَا أَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَك. فَجَلَسَا يَتَحَدَّثَانِ، فَطَلَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَمَدَ نَحْوَهُمَا حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِمَا، فَسَلَّمَ فَرَدَّا عَلَيْهِ السَّلَامَ فَقَالَ: مَا أَخْرَجَكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ؟ فَنَظَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ لَيْسَ مِنْهُمَا وَاحِدٌ إلَّا يَكْرَهُ

أَنْ يُخْبِرَهُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: خَرَجَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَخَرَجْت بَعْدَهُ، فَسَأَلْته مَا أَخْرَجَك هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتَ مَا أَخْرَجَك هَذِهِ السَّاعَةَ؟ فَقُلْت: أَنَا سَأَلْتُك قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَنِي. قَالَ: أَخْرَجَنِي الْجُوعُ. قَالَ: فَقُلْت لَهُ: أَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَك. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَأَنَا أَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا. قَالَ: ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تَعْلَمَانِ مِنْ أَحَدٍ نُضِيفُهُ الْيَوْمَ؟ قَالَا: نَعَمْ، أَبُو الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيْهَانِ حَرِيٌّ إنْ جِئْنَاهُ أَنْ نَجِدَ عِنْدَهُ فَضْلًا مِنْ تَمْرٍ يُعَالِجُ جِنَانَهُ هُوَ وَامْرَأَتُهُ لَا يَبِيعَانِ مِنْهُ شَيْئًا. قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَاحِبَاهُ حَتَّى دَخَلُوا الْحَائِطَ، فَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَسَمِعَتْ أُمُّ الْهَيْثَمِ تَسْلِيمَهُ فَفَدَتْهُ بِالْأَبِ وَالْأُمِّ، وَأَخْرَجَتْ حِلْسًا لَهَا مِنْ شَعْرٍ، فَطَرَحَتْهُ، فَجَلَسَ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْنَ أَبُو الْهَيْثَمِ؟ قَالَتْ: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنْ الْمَاءِ. قَالَ: فَطَلَعَ أَبُو الْهَيْثَمِ بِالْقِرْبَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ ظَهْرَانَيْ النَّخْلِ أَسْنَدَهَا إلَى جِذْعٍ، وَأَقْبَلَ يَفْدِي بِالْأَبِ وَالْأُمِّ، فَلَمَّا رَأَى وُجُوهَهُمْ عَرَفَ الَّذِي بِهِمْ. فَقَالَ لِأُمِّ الْهَيْثَمِ: هَلْ أَطْعَمْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَاحِبَيْهِ شَيْئًا؟ فَقَالَتْ: إنَّمَا جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّاعَةَ. قَالَ: فَمَا عِنْدَك؟ قَالَتْ: عِنْدِي حَبَّاتٌ مِنْ شَعِيرٍ. قَالَ: كَرْكِرِيهَا وَاعْجِنِي، وَاخْبِزِي، إذْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ الْخَمِيرَ. وَأَخَذَ شَفْرَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إيَّاكَ وَذَوَاتِ الدَّرِّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّمَا أُرِيدُ عَنَاقًا فِي الْغَنَمِ. قَالَ: فَذَبَحَ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ بِذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَاحِبَاهُ قَالَ: فَشَبِعُوا شِبْعَةً لَا عَهْدَ لَهُمْ بِمِثْلِهَا، فَمَا مَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا يَسِيرًا، حَتَّى أُتِيَ بِأَسِيرٍ مِنْ الْيَمَنِ، فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَشْكُو إلَيْهِ الْعَمَلَ وَتُرْبَةَ يَدِهَا، وَتَسْأَلُهُ إيَّاهُ. قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَعْطِيهِ أَبَا الْهَيْثَمِ، فَقَدْ رَأَيْت مَا لَقِيَهُ هُوَ وَمِرْيَتُهُ يَوْمَ ضِفْنَاهُمْ. قَالَ: فَأَرْسَلَ إلَيْهِ فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ، فَقَالَ: خُذْ هَذَا الْغُلَامَ يُعِينُك عَلَى حَائِطِك، وَاسْتَوْصِ بِهِ خَيْرًا. قَالَ: فَمَكَثَ الْغُلَامُ عِنْدَ أَبِي الْهَيْثَمِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ، ثُمَّ قَالَ: يَا غُلَامُ، لَقَدْ كُنْت مُسْتَقِلًّا وَأَنَا وَصَاحِبَتِي بِحَائِطِنَا، اذْهَبْ، فَلَا رَبَّ لَك إلَّا اللَّهُ. قَالَ: فَخَرَجَ الْغُلَامُ إلَى الشَّامِ». وَرَوَى «عِكْرَاشُ بْنُ ذُؤَيْبٍ: قَالَ بَعَثَنِي بَنُو مُرَّةَ بْنِ عُبَيْدٍ بِصَدَقَاتِ أَمْوَالِهِمْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدِمْت عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ، فَوَجَدْته جَالِسًا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَانْطَلَقَ بِي إلَى بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَ: هَلْ مِنْ طَعَامٍ؟ فَأَتَيْنَا بِجَفْنَةٍ كَثِيرَةِ

الثَّرِيدِ وَالْوَدَكِ، وَأَقْبَلْنَا نَأْكُلُ مِنْهَا، فَخَبَطْت بِيَدِي فِي نَوَاحِيهَا، وَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، فَقَبَضَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى عَلَى يَدِي الْيُمْنَى، ثُمَّ قَالَ: يَا عِكْرَاشُ؛ كُلْ مِنْ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ طَعَامٌ وَاحِدٌ. ثُمَّ أُتِينَا بِطَبَقٍ فِيهِ أَلْوَانُ الرُّطَبِ؛ أَوْ مِنْ عُبَيْدِ اللَّهِ شَكٌّ قَالَ: فَجَعَلْت آكُلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ، وَجَالَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الطَّبَقِ وَقَالَ: يَا عِكْرَاشُ؛ كُلْ مِنْ حَيْثُ شِئْت، فَإِنَّهُ مِنْ غَيْرِ لَوْنٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ أُتِينَا بِمَاءٍ، فَغَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَيْهِ، وَمَسَحَ بِبَلَلِ يَدَيْهِ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَرَأْسَهُ، وَقَالَ: يَا عِكْرَاشُ؛ هَذَا الْوُضُوءُ مِمَّا غَيَّرَتْ النَّارُ». وَقَالَ الْقَاضِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْءِ أَنْ يَتَوَسَّعَ فِي الطَّعَامِ وَيَتَلَذَّذَ، وَيُسَمِّيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَيَحْمَدَهُ، وَلَا يَصْرِفَ قُوَّتَهُ الْمُسْتَفَادَةَ بِذَلِكَ فِي مَعْصِيَتِهِ، فَإِنْ سُئِلَ وَجَذَبَتْهُ سَعَادَتُهُ فَسَيُوَفَّقُ لِلْجَوَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.

[سورة العصر فيها آية واحدة]

[سُورَة الْعَصْر فِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ] [قَوْله تَعَالَى وَالْعَصْرِ] ٌ] وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {وَالْعَصْرِ} [العصر: 1]: قَالَ مَالِكٌ: مَنْ حَلَفَ أَلَّا يُكَلِّمَ رَجُلًا عَصْرًا لَمْ يُكَلِّمْهُ سَنَةً، وَلَوْ حَلَفَ أَلَّا يُكَلِّمَهُ الْعَصْرَ لَمْ يُكَلِّمْهُ أَبَدًا؛ لِأَنَّ الْعَصْرَ هُوَ الدَّهْرُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: بِنَاءُ (ع ص ر) يَنْطَلِقُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمَعَانِي، فَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالزَّمَانِ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: الْعَصْرُ الدَّهْرُ. الثَّانِي: اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ. [قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَنْ يَلْبَثَ الْعَصْرَانِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ... إذَا طَلَبَا أَنْ يُدْرِكَا مَا تَيَمَّمَا الثَّالِثُ الْعَصْرُ: الْغَدَاةُ وَالْعَشِيُّ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَأَمْطُلُهُ الْعَصْرَيْنِ حَتَّى يَمَلَّنِي ... وَيَرْضَى بِنِصْفِ الدَّيْنِ وَالْأَنْفُ رَاغِمٌ وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْعَصْرَ مِثْلُ الدَّهْرِ]؛ قَالَ الشَّاعِرُ: سَبِيلُ الْهَوَى وَعْرٌ وَبَحْرُ الْهَوَى غَمْرٌ ... وَيَوْمُ الْهَوَى شَهْرٌ وَشَهْرُ الْهَوَى دَهْرٌ يُرِيدُ عَامًا. الرَّابِعُ أَنَّ الْعَصْرَ [سَاعَةٌ مِنْ] سَاعَاتِ النَّهَارِ قَالَهُ مُطَرِّفٌ، وَقَتَادَةُ.

قَالَ الْقَاضِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّمَا حَمَلَ مَالِكٌ يَمِينَ الْحَالِفِ أَلَّا يُكَلِّمَ امْرَأً عَصْرًا عَلَى السَّنَةِ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا قِيلَ فِيهِ، وَذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي تَغْلِيظِ الْمَعْنَى فِي الْأَيْمَانِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُبَرُّ بِسَاعَةٍ إلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ؛ وَبِهِ أَقُولُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَالِفُ عَرَبِيًّا، فَيُقَالُ لَهُ: مَا أَرَدْت؟ فَإِذَا فَسَّرَهُ بِمَا يُحْتَمَلُ قُبِلَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْأَقَلَّ، وَيَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا يُفَسِّرُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[سورة الفيل]

[سُورَةُ الْفِيلِ] ِ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْفِيلِ. [وَقَالَ قَيْسُ بْنُ مَخْرَمَةَ: وُلِدْت أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْفِيلِ]. وَقَدْ رَوَى النَّاسُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ مِنْ مُرُوءَةِ الرَّجُلِ أَنْ يُخْبِرَ بِسِنِّهِ؛ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ صَغِيرًا اسْتَحْقَرُوهُ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا اسْتَهْرَمُوهُ. وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ مَالِكًا لَا يُخْبِرُ بِسِنِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَكْتُمُ سِنَّهُ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْعُلَمَاءِ قُدْوَةً بِهِ؛ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُخْبِرَ الْإِنْسَانُ بِسِنِّهِ، كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا. قِيلَ لِبَعْضِ الْقُضَاةِ: كَمْ سِنُّك؟ قَالَ: سِنُّ عَتَّابِ بْنِ أُسَيْدٍ حِينَ وَلَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ، وَكَانَتْ سِنُّهُ يَوْمَئِذٍ دُونَ الْعِشْرِينَ.

[سورة قريش فيها آية واحدة]

[سُورَةُ قُرَيْشٍ فِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ] [قَوْله تَعَالَى إيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ٌ] وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} [قريش: 2]: فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ {لإِيلافِ} [قريش: 1] وَهُوَ مَصْدَرُ أَلِفَ يَأْلَفُ عَلَى غَيْرِ الْمَصْدَرِ، وَقِيلَ: آلَفَ يُؤَالِفُ؛ قَالَهُ الْخَلِيلُ، وَإِيلَافِهِمْ هَذَا يَدُلُّ مِنْ الْأَوَّلِ عَلَى مَعْنَى الْبَيَانِ. وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} [قريش: 3]، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالسُّورَةِ الْأُخْرَى، وَقَدْ قُطِعَ عَنْهُ بِكَلَامٍ مُبْتَدَإٍ وَاسْتِئْنَافِ بَيَانٍ، وَسَطْرٍ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [فَقَدْ تَبَيَّنَ] وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ جَوَازُ الْوَقْفِ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ تَمَامِ الْكَلَامِ، وَلَيْسَتْ الْمَوَاقِفُ الَّتِي تَنْزِعُ بِهَا الْقُرَّاءُ شَرْعًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرْوِيًّا، وَإِنَّمَا أَرَادُوا بِهِ تَعْلِيمَ الطَّلَبَةِ الْمَعَانِيَ، فَإِذَا عَلِمُوهَا وَقَفُوا حَيْثُ شَاءُوا؛ فَأَمَّا الْوَقْفُ عِنْدَ انْقِطَاعِ النَّفَسِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَلَا تَعُدَّ مَا قَبْلَهُ إذَا اعْتَرَاك ذَلِكَ، وَلَكِنْ ابْدَأْ مِنْ حَيْثُ وَقَفَ بِك نَفَسُك، [هَذَا رَأْيِي فِيهِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى مَا قَالُوهُ بِحَالٍ، وَلَكِنِّي أَعْتَمِدُ الْوَقْفَ عَلَى] التَّمَامِ، كَرَاهِيَةَ الْخُرُوجِ عَنْهُمْ، وَأَطْرُقُ الْقَوْلَ مِنْ عِيٍّ.

[مسألة حلف ألا يكلم امرأ حتى يدخل الشتاء]

[مَسْأَلَة حَلَفَ أَلَّا يُكَلِّمَ امْرَأً حَتَّى يَدْخُلَ الشِّتَاءُ] الْمَسْأَلَة الثَّالِثَةُ قَالَ مَالِكٌ: الشِّتَاءُ نِصْفُ السَّنَةِ، وَالصَّيْفُ نِصْفُهَا. وَلَمْ أَزَلْ أَرَى رَبِيعَةَ بْنَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَنْ مَعَهُ لَا يَخْلَعُونَ عَمَائِمَهُمْ حَتَّى تَطْلُعَ الثُّرَيَّا، وَهُوَ يَوْمُ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ بَشَنْسَ، وَهُوَ يَوْمُ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ مِنْ عَدَدِ الرُّومِ أَوْ الْفُرْسِ، وَأَرَادَ بِطُلُوعِ الثُّرَيَّا أَنْ يَخْرُجَ السُّعَاةُ وَتَسِيرَ النَّاسُ بِمَوَاشِيهِمْ إلَى مِيَاهِهِمْ. وَأَنَّ طُلُوعَ الثُّرَيَّا قُبُلُ الصَّيْفِ وَدُبُرُ الشِّتَاءِ، وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ عَنْهُ. وَقَالَ أَشْهَبُ عَنْهُ وَحْدَهُ: إذَا سَقَطَتْ الْهَقْعَةُ نَقَصَ اللَّيْلُ، فَلَمَّا جَعَلَ طُلُوعَ الثُّرَيَّا أَوَّلَ الصَّيْفِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَطْرُ السَّنَةِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، ثُمَّ يَسْتَقْبِلَ الشِّتَاءَ مِنْ بَعْدِ ذَهَابِ الصَّيْفِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ. وَقَدْ سُئِلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَمَّنْ حَلَفَ أَلَّا يُكَلِّمَ امْرَأً حَتَّى يَدْخُلَ الشِّتَاءُ. فَقَالَ: لَا يُكَلِّمُهُ حَتَّى يَمْضِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ هَاتُورَ. وَلَوْ قَالَ: حَتَّى يَدْخُلَ الصَّيْفُ لَمْ يُكَلِّمْهُ حَتَّى يَمْضِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ بَشَنْسَ؛ فَهُوَ سَهْوٌ؛ إنَّمَا هُوَ تِسْعَةَ عَشَرَ مِنْ بَشَنْسَ؛ لِأَنَّك إذَا حَسَبْت الْمَنَازِلَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ ثَلَاثَ عَشْرَ لَيْلَةً كُلَّ مَنْزِلَةٍ، عَلِمْت أَنَّ مَا بَيْنَ تِسْعَ عَشْرَةَ مِنْ هَاتُورَ لَا تَنْقَضِي مَنَازِلُهُ إلَّا بِتِسْعَ عَشْرَةَ مِنْ بَشَنْسَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة أَقْسَام الزَّمَان] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَالَ قَوْمٌ: الزَّمَانُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: شِتَاءٌ [وَرَبِيعٌ، وَصَيْفٌ، وَخَرِيفٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ شِتَاءٌ] وَصَيْفٌ، وَقَيْظٌ، وَخَرِيفٌ. وَاَلَّذِي قَالَ مَالِكٌ أَصَحُّ لِأَجْلِ قِسْمَةِ اللَّهِ الزَّمَانَ قِسْمَيْنِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمَا ثَالِثًا. وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ لَمَّا امْتَنَّ اللَّهُ عَلَى قُرَيْشٍ بِرِحْلَتَيْنِ: [رِحْلَةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ؛ رِحْلَةُ الشِّتَاءِ] إلَى

الْيَمَنِ؛ لِأَنَّهَا بِلَادٌ حَامِيَةٌ، وَرِحْلَةُ الصَّيْفِ إلَى الشَّامِ؛ لِأَنَّهَا بِلَادٌ بَارِدَةٌ، وَقِيلَ بِتَنَقُّلِهَا بَيْنَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ إلَى مَكَّةَ وَالطَّائِفِ كَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ تَصَرُّفِ الرَّجُلِ فِي الزَّمَانَيْنِ بَيْنَ مَحَلَّيْنِ يَكُونُ حَالُهُمَا فِي كُلِّ زَمَانٍ أَنْعَمَ مِنْ الْآخَرِ، كَالْجُلُوسِ فِي الْمَجْلِسِ الْبَحْرِيِّ فِي الصَّيْفِ، وَفِي الْقِبْلِيِّ فِي الشِّتَاءِ، وَفِي اتِّخَاذِ البادهنجات وَالْخَيْشِ لِلتَّبْرِيدِ، وَاللِّبَدِ وَالْيَانُوسَةِ لِلدِّفْءِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[سورة الماعون فيها ثلاث آيات]

[سُورَةُ الْمَاعُونِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ] ٍ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5]: فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النِّسْيَانَ هُوَ التَّرْكُ، وَقَدْ يَكُونَ بِقَصْدٍ، وَقَدْ يَكُونَ بِغَيْرِ قَصْدٍ؛ فَإِنْ كَانَ بِقَصْدٍ فَاسْمُهُ الْعَمْدُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ قَصْدٍ فَاسْمُهُ السَّهْوُ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَكْلِيفٌ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فَإِنَّ تَكْلِيفَ السَّاهِي مُحَالٌ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَعْقِلُ الْخِطَابَ كَيْفَ يُخَاطَبُ؟ فَإِنْ قَالَ: فَكَيْفَ ذَمَّ مَنْ لَا يَعْقِلُ الذَّمَّ؛ أَوْ كَلَّفَ مَنْ لَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّكْلِيفُ؟ قُلْنَا: إنَّمَا ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنْ يَعْقِدَ نِيَّتَهُ عَلَى تَرْكِهَا، فَيَتَعَلَّقُ بِهِ الذَّمُّ إذَا جَاءَ الْوَقْتُ. وَإِنْ كَانَ حِينَئِذٍ غَافِلًا أَوْ لِمَنْ يَكُونُ التَّرْكُ لَهَا عَادَتَهُ، فَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الذَّمُّ دَائِمًا، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يَسْهُو فِي صَلَاتِهِ وَهِيَ:

[الآية الثانية قوله تعالى الذين هم يراءون ويمنعون الماعون]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ لِأَنَّ السَّلَامَةَ عَنْ السَّهْوِ مُحَالٌ فَلَا تَكْلِيفَ. وَقَدْ سَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَلَاتِهِ وَالصَّحَابَةُ، وَكُلُّ مَنْ لَا يَسْهُو فِي صَلَاتِهِ فَذَلِكَ رَجُلٌ لَا يَتَدَبَّرُهَا وَلَا يَعْقِلُ قِرَاءَتَهَا، وَإِنَّمَا هَمُّهُ فِي إعْدَادِهَا وَهَذَا رَجُلٌ يَأْكُلُ الْقُشُورَ وَيَرْمِي اللُّبَّ، وَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْهُو فِي صَلَاتِهِ إلَّا لِفِكْرَتِهِ فِي أَعْظَمَ مِنْهَا، اللَّهُمَّ إلَّا أَنَّهُ قَدْ يَسْهُو فِي صَلَاتِهِ مَنْ يُقْبِلُ عَلَى وَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ إذَا قَالَ لَهُ: اُذْكُرْ كَذَا [لَمَّا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُهُ] حَتَّى يُضِلَّ الرَّجُلَ أَنْ يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى. [الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ] الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون: 6] {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7]. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: هُمْ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يُرَاءُونَ بِصَلَاتِهِمْ؛ يُرِي الْمُنَافِقُ النَّاسَ أَنَّهُ يُصَلِّي طَاعَةً وَهُوَ يُصَلِّي تَقِيَّةً، وَالْفَاسِقُ أَنَّهُ يُصَلِّي عِبَادَةً وَهُوَ يُصَلِّي لِيُقَالَ إنَّهُ يُصَلِّي. وَحَقِيقَةُ الرِّيَاءِ طَلَبُ مَا فِي الدُّنْيَا بِالْعِبَادَاتِ، وَأَصْلُهُ طَلَبُ الْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ؛ فَأَوَّلُهَا تَحْسِينُ السَّمْتِ؛ وَهُوَ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ، وَيُرِيدُ بِذَلِكَ الْجَاهَ وَالثَّنَاءَ. ثَانِيهِمَا الرِّيَاءُ بِالثِّيَابِ الْقِصَارِ وَالْخَشِنَةِ، لِيَأْخُذَ بِذَلِكَ هَيْئَةَ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا. ثَالِثُهُمَا الرِّيَاءُ بِالْقَوْلِ بِإِظْهَارِ التَّسَخُّطِ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا، وَإِظْهَارِ الْوَعْظِ وَالتَّأَسُّفِ عَلَى مَا يَفُوتُ مِنْ الْخَيْرِ وَالطَّاعَةِ. رَابِعُهُمَا الرِّيَاءُ بِإِظْهَارِ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ، أَوْ بِتَحْسِينِ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ رُؤْيَةِ النَّاسِ، وَذَلِكَ يَطُولُ؛ وَهَذَا دَلِيلُهُ.

[الآية الثالثة قوله تعالى ويمنعون الماعون]

[الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ] َ} [الماعون: 7]: فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي تَحْقِيقِ الْكَلِمَةِ: الْمَاعُونَ: مَفْعُولٌ مِنْ أَعَانَ يُعِينُ، وَالْعَوْنُ هُوَ الْإِمْدَادُ بِالْقُوَّةِ وَالْآلَةِ وَالْأَسْبَابِ الْمُيَسِّرَةِ لِلْأَمْرِ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ، وَذَلِكَ سِتَّةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ مَالِكٌ: هِيَ الزَّكَاةُ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْمُنَافِقُ يَمْنَعُهَا. وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون: 4] {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5] {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون: 6] {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7] قَالَ: إنَّ الْمُنَافِقَ إذَا صَلَّى صَلَّى لَا لِلَّهِ، بَلْ رِيَاءً، وَإِنْ فَاتَتْهُ لَمْ يَنْدَمْ عَلَيْهَا؛ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ: الزَّكَاةَ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: لَوْ خُفِّفَتْ لَهُمْ الصَّلَاةُ كَمَا خُفِّفَتْ لَهُمْ الزَّكَاةُ مَا صَلَّوْهَا. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: الْمَاعُونُ الْمَالُ. الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ مَا يَتَعَاطَاهُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ. الرَّابِعُ هُوَ الْقِدْرُ وَالدَّلْوُ وَالْفَأْسُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ الْخَامِسُ هُوَ الْمَاءُ وَالْكَلَأُ. السَّادِسُ هُوَ الْمَاءُ وَحْدَهُ، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ: يَمُجُّ صَبِيرُهُ الْمَاعُونَ صَبًّا

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَاعُونَ مِنْ الْعَوْنِ كَانَ كُلُّ مَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِهِ عَوْنًا، وَأَعْظَمُهُ الزَّكَاةُ إلَى الْمِحْلَابِ، وَعَلَى قَدْرِ الْمَاعُونِ وَالْحَاجَةِ إلَيْهِ يَكُونُ الذَّمُّ فِي مَنْعِهِ، إلَّا أَنَّ الذَّمَّ إنَّمَا هُوَ عَلَى مَنْعِ الْوَاجِبِ، وَالْعَارِيَّةُ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ عَلَى التَّفْصِيلِ؛ بَلْ إنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ؛ لِأَنَّ الْوَيْلَ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَنْ مَنَعَ الْوَاجِبَ، فَاعْلَمُوهُ وَتَحَقَّقُوهُ.

[سورة الكوثر فيها آيتان]

[سُورَةُ الْكَوْثَرِ فِيهَا آيَتَانِ] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ] ِ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1]: ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1]». وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَيْسَتْ آيَةً مِنْ الْفَاتِحَةِ وَلَا مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا هِيَ وَاحِدَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ النَّمْلِ قَوْلُهُ: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30] {أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 31] بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ هَاهُنَا، وَاسْتَوْفَيْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ مِنْ التَّلْخِيصِ وَالْإِنْصَافِ. [الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فَصَلِّ لِرَبِّك وَانْحَرْ] الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {فَصَلِّ} [الكوثر: 2] فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلِ اُعْبُدْ. الثَّانِي: صَلِّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ. الثَّالِثِ: صَلِّ يَوْمَ الْعِيدِ. الرَّابِعِ: صَلِّ الصُّبْحَ بِجَمْعٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: {وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] فِيهِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا اجْعَلْ يَدَك عَلَى نَحْرِك إذَا صَلَّيْت. الثَّانِي: انْحَرْ الْبُدْنَ وَالضَّحَايَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي تَحْقِيقِ الْمُرَادِ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ لِهَذِهِ الْآيَةِ: أَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا الْعِبَادَةُ فَاحْتَجَّ بِأَنَّهَا أَصْلُ الصَّلَاةِ لُغَةً وَحَقِيقَةً عَلَى كُلِّ مَعْنَى، وَبِكُلِّ اشْتِقَاقٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَاعْبُدْ رَبَّك وَلَا تَعْبُدْ غَيْرَهُ، وَانْحَرْ لَهُ وَلَا تَنْحَرْ لِسِوَاهُ مِنْ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ وَالْأَنْصَابِ حَسْبَمَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ وَقُرَيْشٌ فِي جَاهِلِيَّتِهَا. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فَلِأَنَّهَا رُكْنُ الْعِبَادَاتِ، وَقَاعِدَةُ الْإِسْلَامِ، وَأَعْظَمُ دَعَائِمِ الدِّينِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا صَلَاةُ الصُّبْحِ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَلِأَنَّهَا مَقْرُونَةٌ بِالنَّحْرِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَا صَلَاةَ فِيهِ قَبْلَ النَّحْرِ غَيْرَهَا، فَخَصَّصَهَا مِنْ جُمْلَةِ الصَّلَوَاتِ لِاقْتِرَانِهَا بِالنَّحْرِ، فَأَمَّا مَالِكٌ فَقَالَ: مَا سَمِعْت فِيهِ شَيْئًا. وَاَلَّذِي يَقَعُ فِي نَفْسِي أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ صَلَاةُ الصُّبْحِ يَوْمَ النَّحْرِ وَالنَّحْرُ بَعْدَهَا. قَالَ الْقَاضِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قَدْ سَمِعْنَا فِيهِ أَشْيَاءَ، وَرَوَيْنَا مَحَاسِنَ: قَالَ عَلِيٌّ: قَوْلُهُ: فَصَلِّ لِرَبِّك وَانْحَرْ. قَالَ: ضَعْ يَدَك الْيُمْنَى عَلَى سَاعِدِك [الْيُسْرَى] ثُمَّ ضَعْهُمَا عَلَى نَحْرِك قَالَهُ [ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَهُ] أَبُو الْجَوْزَاءِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قَوْلُهُ: {وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] يَوْمَ النَّحْرِ. وَقَالَ الْحَكَمُ: قَوْلُهُ: {لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] صَلَاةُ الْفَجْرِ وَالنَّحْرِ. وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الصَّلَاةُ الصَّلَاةُ، النَّحْرُ النَّحْرُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الصَّلَاةُ رَكْعَتَانِ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى ثُمَّ اذْبَحْ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَوْقِفُهُمْ بِجَمْعِ صَلَاتِهِمْ، وَالنَّحْرُ النَّحْرُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: النَّحْرُ لَنَا وَالذَّبْحُ لِبَنِي إسْرَائِيلَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: إنْ شَاءَ ذَبَحَ، وَإِنْ شَاءَ نَحَرَ. وَقَالَ عَطَاءٌ أَيْضًا: فَصَلِّ لِرَبِّك وَانْحَرْ: إذَا صَلَّيْت الصُّبْحَ فَانْحَرْ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ: إنَّا أَعْطَيْنَاك الْكَوْثَرَ فَلَا تَكُنْ صَلَاتُك وَلَا نَحْرُك إلَّا لِلَّهِ. وَرَوَى أَبُو مُعَاوِيَةَ الْبَجَلِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْآيَةِ «يَوْمُ الْحُدَيْبِيَةِ؛ أَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: انْحَرْ وَارْجِعْ. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَطَبَ خُطْبَةَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى، ثُمَّ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى الْبُدْنِ فَنَحَرَهَا؛ فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]». قَالَ قَتَادَةُ: صَلَاةُ الْأَضْحَى وَالنَّحْرُ نَحْرُ الْبُدْنِ. فَهَذِهِ أَقْوَالُ أَقْرَانِ مَالِكٍ وَمُتَقَدِّمِيهِ فِيهَا كَثِيرٌ. وَقَدْ تَرَكْنَا أَمْثَالَهَا. وَاَلَّذِي أَرَادَ مَالِكٌ أَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ الْأَقْرَانِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالنَّحْرِ، وَلَا يَقْرُنَانِ إلَّا يَوْمَ النَّحْرِ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْقُرْآنِ ضَعِيفٌ فِي نَفْسِهِ مَا لَمْ يَعْتَضِدْ بِدَلِيلٍ مِنْ غَيْرِهِ. وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ أَرَادَ: اُعْبُدْ رَبَّك وَانْحَرْ لَهُ، وَلَا يَكُنْ عَمَلُك إلَّا لِمَنْ خَصَّك بِالْكَوْثَرِ، وَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْعَمَلِ يُوَازِي هَذِهِ الْخَصِيصَةَ مِنْ الْكَوْثَرِ، وَهُوَ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ الَّذِي أَعْطَاك اللَّهُ إيَّاهُ، أَوْ النَّهْرُ الَّذِي طِينَتُهُ مِسْكٌ، وَعَدَدُ آنِيَتِهِ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ، أَمَّا أَنْ يُوَازِيَ هَذَا صَلَاةَ يَوْمِ النَّحْرِ وَذَبْحَ كَبْشٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ بَدَنَةٍ فَذَلِكَ بَعِيدٌ فِي التَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ وَمُوَازَنَةِ الثَّوَابِ لِلْعِبَادِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَا بُدَّ أَنْ نَفْرُغَ عَلَى قَالَبِ الْقَوْلَيْنِ وَنَنْسِجَ عَلَى مِنْوَالِ الْفَرِيقَيْنِ، فَنَقُولَ: أَمَّا إذَا قُلْنَا إنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّحْرُ يَوْمَ الضُّحَى فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَسَبَبُهُ فِي سُورَةِ " وَالصَّافَّاتِ " وَغَيْرِهَا. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قِصَّةُ إبْرَاهِيمَ فِي وَلَدِهِ إسْمَاعِيلَ، وَمَا بَيَّنَّهُ اللَّهُ فِيهِ لِلْأُمَّةِ، وَجَعَلَهُ لَهُمْ قُدْوَةً، وَشَرَعَ تِلْكَ الْمِلَّةَ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَابْنُ حَبِيبٍ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إنْ اشْتَرَاهَا وَجَبَتْ. وَهُوَ الثَّانِي. الثَّالِثِ أَنَّهَا سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ؛ قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ. الرَّابِعِ أَنَّهَا سُنَّةٌ مُسْتَحْسَنَةٌ، وَهُوَ أَشْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدَنَا. وَقِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: الْأُضْحِيَّةُ وَاجِبَةٌ هِيَ؟ فَقَالَ: ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضَحَّى الْمُسْلِمُونَ، كَمَا قَالَ: أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَوْتَرَ الْمُسْلِمُونَ.

وَتَعَلَّقَ مَنْ أَوْجَبَهَا بِقَوْلِهِ: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]، وَبِقَوْلِهِ: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78]. وَقَدْ تَقَرَّبَ بِدَمٍ وَاجِبٍ فِي يَوْمِ النَّحْرِ، فَلْيَتَقَرَّبْ كُلُّ مَنْ كَانَ عَلَى مِلَّتِهِ بِدَمٍ وَاجِبٍ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ قَدْ أُلْزِمَ الْمِلَّةَ الْمَذْكُورَةَ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: «عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَيْتٍ أَضْحَاةٌ وَعَتِيرَةٌ». وَالْعَتِيرَةُ هِيَ الرَّجَبِيَّةُ. «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ حِينَ ذَبَحَ الْجَذَعَةَ فِي الْأُضْحِيَّةِ: تَجْزِيَك، وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك». وَلَا يُقَالُ تَجْزِي إلَّا فِي الْوَاجِبِ. قُلْنَا: أَمَّا قَوْلُهُ: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] فَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ النَّاسِ فِيهِ، وَمَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ ذَلِكَ فَلِاحْتِمَالِهِ تَسْقُطُ الْحُجَّةُ مِنْهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ} [الحج: 78] فَمِلَّةُ أَبِينَا إبْرَاهِيمَ تَشْتَمِلُ عَلَى فَرَائِضَ وَفَضَائِلَ وَسُنَنٍ، وَلَا بُدَّ فِي تَعْيِينِ كُلِّ قِسْمٍ مِنْهَا مِنْ دَلِيلٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «تَجْزِيك وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك»، فَكَذَلِكَ يُقَالُ تَجْزِيَك فِي السُّنَّةِ كَمَا يُقَالُ فِي الْفَرْضِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ شَرْعُهُ، وَفِيهِ شَرْطُهُ، وَمِنْهُ إجْزَاؤُهُ أَوْ رَدُّهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: «عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَيْتٍ أَضْحَاةٌ وَعَتِيرَةٌ» فَيُعَارِضُهُ حَدِيثُ شُعْبَةَ عَنْ مَالِكٍ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يَحْلِقَنَّ شَعْرًا، وَلَا يَقْلِمَنَّ ظُفْرًا حَتَّى يَنْحَرَ ضَحِيَّتَهُ». فَعَلَّقَ الْأُضْحِيَّةَ بِالْإِرَادَةِ، وَالْوَاجِبُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا؛ بَلْ هُوَ فَرْضٌ أَرَادَ الْمُكَلَّفُ أَوْ لَمْ يُرِدْ. وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيّ، وَأَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أُمِرْت بِيَوْمِ الْأَضْحَى، عِيدٌ جَعَلَهُ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ. قَالَ رَجُلٌ: أَرَأَيْت إنْ لَمْ أَجِدْ إلَّا مَنِيحَةَ أَهْلِي أُضَحِّي بِهَا؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ تَأْخُذُ مِنْ شَعْرِك وَأَظَافِرِك، وَتَقُصُّ شَارِبَك، وَتَحْلِقُ عَانَتَك؛ فَذَلِكَ تَمَامُ أُضْحِيَّتِك». قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَرَبِيُّ: أَنْبَأَنَا قِرَاءَةً عَلَيْهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ الْبَغْدَادِيِّ

[مسألة الأضحية قبل الصلاة]

عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدَ، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْت أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَهُمَا يُضَحِّيَانِ عَنْ أَهْلِهِمَا خَشْيَةَ أَنْ يُسْتَنَّ بِهِمَا. قَالَ: فَلَمَّا جِئْت بِلَادَكُمْ هَذِهِ حَمَلَنِي أَهْلِي عَلَى الْجَفَاءِ بَعْدَ مَا عَلِمْت السُّنَّةَ، فَقَدْ تَعَارَضَتْ الْأَدِلَّةُ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَهَذَا مُحَقَّقٌ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. [مَسْأَلَة الْأُضْحِيَّة قَبْلَ الصَّلَاةِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ مِنْ عَجِيبِ الْأَمْرِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: إنَّ مَنْ ضَحَّى قَبْلَ الصَّلَاةِ أَجْزَأَهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ النَّحْرِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: «أَوَّلُ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ؛ مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَصَابَ نُسُكَنَا، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلُ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لِأَهْلِهِ، لَيْسَ مِنْ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ». وَأَصْحَابُهُ يُنْكِرُونَهُ، وَحَبَّذَا الْمُوَافَقَةُ؛ وَبَقِيَّةُ مَسَائِلِ الْأَضَاحِيّ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَشَرْحِ الْحَدِيثِ. [مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى وَانْحَرْ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَأَمَّا [إنْ قُلْنَا] إنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] ضَعْ يَدَك عَلَى نَحْرِك، فَقَدْ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلِ لَا تُوضَعُ فِي فَرِيضَةٍ وَلَا نَافِلَةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِاعْتِمَادِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْفَرْضِ، وَلَا يُسْتَحَبُّ فِي النَّفْلِ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهَا فِي الْفَرِيضَةِ، وَيَفْعَلُهَا فِي النَّافِلَةِ، اسْتِعَانَةً، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ تَرَخُّصٍ. الثَّالِثِ يَفْعَلُهَا فِي الْفَرِيضَةِ وَفِي النَّافِلَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ وَائِلِ بْنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ «رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْفَعُ يَدَيْهِ حِينَ يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ حِيَالَ أُذُنَيْهِ، ثُمَّ الْتَحَفَ بِثَوْبِهِ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى» الْحَدِيثَ.

وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ، «عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ». قَالَ أَبُو حَازِمٍ: لَا أَعْلَمُهُ يَنْمِي ذَلِكَ إلَّا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

[سورة النصر فيها آية واحدة]

[سُورَةُ النَّصْرِ فِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ] [قَوْله تَعَالَى فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك وَاسْتَغْفِرْهُ] ٌ] قَوْله تَعَالَى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 3]. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ نَفْسَهُ، فَقَالَ: لِمَ يَدْخُلُ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: إنَّهُ مَنْ قَدْ عَلِمْتُمْ. فَدَعَانِي ذَاتَ يَوْمٍ فَأَدْخَلَنِي مَعَهُمْ، فَمَا رَأَيْت أَنَّهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إلَّا لِيُرِيَهُمْ، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1]؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ، وَنَسْتَغْفِرَهُ إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ، وَفَتَحَ عَلَيْنَا. وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ، فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا. فَقَالَ لِي: كَذَلِكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ قُلْت: لَا. قَالَ: فَمَا تَقُولُ؟ قُلْت: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَمَهُ بِهِ؛ قَالَ لَهُ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] فِي ذَلِكَ عَلَامَةُ أَجَلِك، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا. فَقَالَ: لَا أَعْلَمُ مِنْهَا إلَّا مَا تَقُولُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ قَالَتْ: «مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةً بَعْدَ إذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] إلَّا يُكْثِرَ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي».

[مسألة استغفار النبي]

وَعَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ». «وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي. قَالَ: قُلْ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك، رَبِّي إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِك، وَارْحَمْنِي إنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ». [مَسْأَلَة اسْتِغْفَار النَّبِيِّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ مَاذَا يُغْفَرُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ رَوَى الْأَئِمَّةُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ: «رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي كُلِّهِ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَئِي وَعَمْدِي وَجَهْلِي وَهَزْلِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت وَمَا أَخَّرْت، وَمَا أَسْرَرْت وَمَا أَعْلَنْت، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ». قَالَ الْقَاضِي: وَأَنَا أَقُولُ: كُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي مُضَاعَفٌ، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ بَرِيءٌ. وَلَكِنْ كَانَ يَسْتَقْصِرُ نَفْسَهُ لِعَظِيمِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَيَرَى قُصُورَهُ عَنْ الْقِيَامِ بِحَقِّ ذَلِكَ ذُنُوبًا؛ فَأَمَّا أَنَا فَإِنَّمَا ذُنُوبِي بِالْعَمْدِ الْمَحْضِ، وَالتَّرْكِ التَّامِّ، وَالْمُخَالَفَةِ الْبَيِّنَةِ، وَاَللَّهُ يَفْتَحُ بِالتَّوْبَةِ وَيَمُنُّ بِالْعِصْمَةِ بِمَنِّهِ وَفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، لَا رَبَّ سِوَاهُ.

[سورة تبت]

[سُورَةُ تَبَّتْ] [مَسْأَلَةُ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا] ْ [وَفِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ]. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ [عَنْهُ] قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] وَرَهْطَك مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا وَهَتَفَ: يَا صَبَاحَاهُ فَقَالُوا: مَنْ هَذَا؟ فَاجْتَمَعُوا إلَيْهِ، فَقَالَ: أَنَا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا تَخْرُجُ مِنْ سَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ، وَأَنَّ الْعَدُوَّ مُصْبِحُكُمْ أَوْ مُمْسِيكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ قَالُوا: مَا جَرَّبْنَا عَلَيْك كَذِبًا. قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ. فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: أَلِهَذَا جَمَعْتنَا؟ تَبًّا لَك، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1]. إلَى آخِرِهَا». هَكَذَا قَرَأَهَا الْأَعْمَشُ عَلَيْنَا يَوْمَئِذٍ، زَادَ الْحُمَيْدِيُّ وَغَيْرُهُ: «فَلَمَّا سَمِعَتْ امْرَأَتُهُ مَا نَزَلَ فِي زَوْجِهَا وَفِيهَا مِنْ الْقُرْآنِ، أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ مِنْ حِجَارَةٍ، فَلَمَّا وَقَفَتْ عَلَيْهِ أَخَذَ اللَّهُ بِبَصَرِهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ تَرَ إلَّا أَبَا بَكْرٍ. فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَيْنَ صَاحِبُك؟ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ يَهْجُونِي، فَوَاَللَّهِ لَوْ وَجَدْته لَضَرَبْت بِهَذَا الْفِهْرِ فَاهُ، وَاَللَّهِ إنِّي لَشَاعِرَةٌ: مُذَمَّمًا عَصَيْنَا ... وَأَمْرُهُ أَبَيْنَا وَدِينُهُ قَلَيْنَا ثُمَّ انْصَرَفَتْ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَا تَرَاهَا رَأَتْك؟ قَالَ: مَا رَأَتْنِي، لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ بِبَصَرِهَا عَنِّي».

وَكَانَتْ قُرَيْشٌ إنَّمَا تُسَمِّي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُذَمَّمًا، ثُمَّ يَسُبُّونَهُ، فَكَانَ يَقُولُ: أَلَا تَعْجَبُونَ لِمَا يَصْرِفُ اللَّهُ عَنِّي مِنْ أَذَى قُرَيْشٍ يَسُبُّونَ وَيَهْجُونَ مُذَمَّمًا وَأَنَا مُحَمَّدٌ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1]: اسْمُهُ عَبْدُ الْعُزَّى، وَاسْمُ امْرَأَتِهِ الْعَوْرَاءُ أُمُّ جَمِيلٍ، أُخْتُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، فَظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَكْنِيَةِ الْمُشْرِكِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ طَه فِي قَوْلِهِ: {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا} [طه: 44] " يَعْنِي كَنِّيَاهُ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ. وَهَذَا بَاطِلٌ؛ إنَّمَا كَنَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِمَعَانٍ أَرْبَعَةٍ: الْأَوَّلِ أَنَّهُ [لَمَّا] كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ الْعُزَّى، فَلَمْ يُضِفْ اللَّهُ الْعُبُودِيَّةَ إلَى صَنَمٍ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ. الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ تَكْنِيَتُهُ أَشْهُرُ مِنْهُ بِاسْمِهِ؛ فَصَرَّحَ بِهِ. الثَّالِثِ أَنَّ الِاسْمَ أَشْرَفُ مِنْ الْكُنْيَةِ، فَحَطَّهُ اللَّهُ عَنْ الْأَشْرَفِ إلَى الْأَنْقَصِ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْخِيَارِ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ دَعَا اللَّهُ أَنْبِيَاءَهُ بِأَسْمَائِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ. وَيَدُلُّك عَلَى شَرَفِ الِاسْمِ [عَلَى الْكُنْيَةِ] أَنَّ اللَّهَ يُسَمِّي وَلَا يُكَنِّي وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِظُهُورِهِ وَبَيَانِهِ وَاسْتِحَالَةِ نِسْبَةِ الْكُنْيَةِ إلَيْهِ لِتَقَدُّسِهِ عَنْهَا. الرَّابِعِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُحَقِّقَ نَسَبَهُ بِأَنْ يُدْخِلَهُ النَّارَ، فَيَكُونَ أَبًا لَهَا، تَحْقِيقًا لِلنَّسَبِ، وَإِمْضَاءً لِلْفَأْلِ وَالطِّيَرَةِ الَّتِي اخْتَارَ لِنَفْسِهِ [لِذَلِكَ]. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ أَهْلَهُ إنَّمَا كَانُوا سَمَّوْهُ أَبَا لَهَبٍ لِتَلَهُّبِ وَجْهِهِ وَحُسْنِهِ؛ فَصَرَفَهُمْ اللَّهُ عَنْ أَنْ يَقُولُوا لَهُ: أَبُو نُورٍ، وَأَبُو الضِّيَاءِ، الَّذِي هُوَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ وَأَجْرَى عَلَى أَلْسِنَتهمْ أَنْ يُضِيفُوهُ إلَى اللَّهَبِ الَّذِي هُوَ مَخْصُوصٌ بِالْمَكْرُوهِ وَالْمَذْمُومِ، وَهُوَ النَّارُ، ثُمَّ تَحَقَّقَ ذَلِكَ فِيهِ بِأَنْ جَعَلَهَا مَقَرَّهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ مَرَّتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قِرَاءَتَانِ: إحْدَاهُمَا قَوْلُهُ: " وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَك الْأَقْرَبِينَ. وَرَهْطَك مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ ". وَالثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَقَدْ تَبَّ. وَهُمَا شَاذَّتَانِ، وَإِنْ كَانَ الْعَدْلُ رَوَاهُمَا عَنْ الْعَدْلِ، وَلَكِنَّهُ كَمَا بَيَّنَّا لَا يُقْرَأُ إلَّا بِمَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْإِسْلَامِ.

[سورة الإخلاص]

[سُورَةُ الْإِخْلَاصِ] [مَسْأَلَةُ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا] ِ [وَقِيلَ] التَّوْحِيدُ. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مَقْطُوعًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلًا أَنَّهُ قَالَ: «أَتَى رَهْطٌ مِنْ يَهُودَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، هَذَا اللَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ. فَمَنْ خَلَقَهُ؟ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى انْتَقَعَ لَوْنُهُ، ثُمَّ سَاوَرَهُمْ غَضَبًا لِرَبِّهِ، فَجَاءَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَسَكَّنَهُ، فَقَالَ: خَفِّضْ عَلَيْك يَا مُحَمَّدُ، وَجَاءَهُ مِنْ اللَّهِ بِجَوَابِ مَا سَأَلُوهُ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] السُّورَةَ». وَفِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ بَاطِلَةٌ هَذَا أَمْثَلُهَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي فَضْلِهَا، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ «أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] يُرَدِّدُهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَتَقَالُّهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ»، فَهَذَا فَضْلُهَا، وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَالْمُشْكِلَيْنِ. [مَسْأَلَة تَكْرَارُ سُورَةٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ رُوِيَ أَنَّ «رَجُلًا كَانَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ، فَيَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فَذَكَرَ ذَلِكَ قَوْمُهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَرْسَلَ إلَيْهِ فَقَالَ: إنِّي أُحِبُّهَا، فَقَالَ لَهُ: حُبُّك إيَّاهَا أَدْخَلَك الْجَنَّةَ». فَكَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَكْرَارُ سُورَةٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. وَقَدْ رَأَيْت عَلَى بَابِ الْأَسْبَاطِ فِيمَا يَقْرُبُ مِنْهُ إمَامًا مِنْ جُمْلَةِ الثَّمَانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ إمَامًا كَانَ فِيهِ يُصَلِّي التَّرَاوِيحَ فِي رَمَضَانَ بِالْأَتْرَاكِ، فَيَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، حَتَّى يُتِمَّ التَّرَاوِيحَ تَخْفِيفًا عَلَيْهِمْ وَرَغْبَةً فِي فَضْلِهَا. وَلَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ خَتْمُ الْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ، حَسْبَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَالْمَسَائِلِ.

[سورة الفلق والناس]

[سُورَةُ الْفَلَقِ وَالنَّاسِ] [مَسْأَلَةُ فِي سَبَبِ نُزُولِهِمَا] ِ [فِيهِمَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ]: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهِمَا: رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُحِرَ حَتَّى كَانَ يُخَيَّلَ إلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَلَا يَفْعَلُهُ، فَمَكَثَ كَذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ، ثُمَّ قَالَ: يَا عَائِشَةُ، أَشْعَرْت أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْته فِيهِ؟ أَتَانِي مَلَكَانِ، فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلِيَّ قَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلَّذِي عِنْدَ رِجْلِي: مَا شَأْنُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ. قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ. فَقَالَ: فَبِمَاذَا؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ، فِي جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ، تَحْتَ رَاعُوفَةٍ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ. فَجَاءَ الْبِئْرَ وَاسْتَخْرَجَهُ». انْتَهَى الصَّحِيحُ زَادَ غَيْرُهُ: «فَوَجَدَ فِيهَا إحْدَى عَشْرَ عُقْدَةً، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ إحْدَى عَشْرَ آيَةً، فَجَعَلَ كُلَّمَا قَرَأَ آيَةً انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، حَتَّى انْحَلَّتْ الْعُقَدُ، وَقَامَ كَأَنَّمَا أَنْشَطُ مِنْ عِقَالٍ». أَفَادَنِيهَا شَيْخُنَا الزَّاهِدُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَحْمَدَ بْنُ عَلِيِّ بْنُ بَدْرَانَ الصُّوفِيُّ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق: 3]: رُوِيَ أَنَّهُ الذَّكَرُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ اللَّيْلُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ الْقَمَرُ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَوَجْهُ أَنَّهُ الذَّكَرُ أَوْ اللَّيْلُ لَا يَخْفَى. وَوَجْهُ أَنَّهُ الْقَمَرُ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْجَهْلِ وَعِبَادَتِهِ وَاعْتِقَادِ الطَّبَائِعِيِّينَ أَنَّهُ يَفْعَلُ الْفَاكِهَةَ أَوْ تَنْفَعِلُ عَنْهُ، أَوْ لِأَنَّهُ إذَا طَلَعَ بِاللَّيْلِ انْتَشَرَتْ عَنْهُ الْحَشَرَاتُ بِالْإذَايَاتِ، وَهَذَا يَضْعُفُ لِأَجْلِ انْتِشَارِهَا بِاللَّيْلِ أَكْثَرَ مِنْ انْتِشَارِهَا بِالْقَمَرِ. وَفِيمَا ذَكَرْنَا مَا يُغْنِي عَنْ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَاتٌ لَمْ أَرَ مِثْلَهُنَّ، فَذَكَرَ السُّورَتَيْنِ: الْفَلَقَ، وَالنَّاسَ» صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَفِي الصَّحِيحِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَنْفُثُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْمَرَضِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَمَّا ثَقُلَ كُنْت أَنْفُثُ عَلَيْهِ بِهِنَّ، وَأَمْسَحُ بِيَدِ نَفْسِهِ لِبَرَكَتِهَا». قُلْت لِلزُّهْرِيِّ: كَيْفَ يَنْفُثُ؟ قَالَ: يَنْفُثُ عَلَى يَدَيْهِ وَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: هُمَا مِنْ الْقُرْآنِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ. قَالَ الْإِمَامُ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قَدْ أَتَيْنَا عَلَى مَا شَرَطْنَا فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ حَسَبَ الْإِمْكَانِ عَلَى حَالِ الزَّمَانِ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى عَوَارِضَ لَا تُعَارِضُ مَا بَيْنَ مَعَاشٍ [يُرَاشُ]، وَمُسَاوَرَةِ عَدُوٍّ أَوْ هَرَاشٍ، وَسَمَاعٍ لِلْحَدِيثِ لَيْسَ لَهُ دِفَاعٌ، وَطَالِبٍ لَا بُدَّ مِنْ مُسَاعَدَتِهِ فِي الْمَطَالِبِ، إلَى هِمَمٍ لِأَهْلِ هَذِهِ الْأَقْطَارِ قَاصِرَةٍ، وَأَفْهَامٍ مُتَقَاصِرَةٍ، وَتَقَاعُدٍ عَنْ الِاطِّلَاعِ إلَى بَقَاءِ الِاسْتِبْصَارِ، وَاقْتِنَاعٍ بِالْقِشْرِ عَنْ اللُّبَابِ، وَإِقْصَارٍ وَاجْتِزَاءٍ بِالنُّفَايَةِ عَنْ النُّقَاوَةِ، وَزُهْدٍ فِي طَرِيقِ الْحَقَائِقِ، بِيَدِ أَنَّهُ لَمْ يَسَعْنَا وَالْحَالَةَ هَذِهِ إلَّا نَشْرُ مَا جَمَعْنَاهُ، وَنَثْرُ مَا وَعَيْنَاهُ، وَالْإِمْسَاكُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِمْ وَلَا تَبْلُغُهُ إحَاطَتُهُمْ. وَكَمُلَ الْقَوْلُ الْمُوجَزُ فِي التَّوْحِيدِ وَالْأَحْكَامِ، وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، مِنْ عَرِيضِ بَيَانِهِ، وَطَوِيلِ تِبْيَانِهِ، وَكَثِيرِ بُرْهَانِهِ، وَبَقِيَ الْقَوْلُ فِي عِلْمِ التَّذْكِيرِ وَهُوَ بَحْرٌ لَيْسَ لِمَدِّهِ حَدٌّ، وَمَجْمُوعٍ لَا يَحْصُرُهُ الْعَدُّ، وَقَدْ كُنَّا أَمْلَيْنَا عَلَيْكُمْ فِي ثَلَاثِينَ سَنَةً مَا لَوْ قُيِّضَ لَهُ تَحْصِيلٌ

لَكَانَتْ لَهُ جُمْلَةٌ تَدُلُّ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَلَمَّا ذَهَبَ [بِهِ] الْمِقْدَارُ، فَسَيَعْلَمُ الْغَافِلُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارُ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنْ الْحَمَدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. [قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: انْتَهَى الْقَوْلُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا كَمَا هُوَ أَهْلُهُ].

§1/1