أحكام العيدين
علي بن حسن الحلبي
حقوق الطبع محفوظة للمكتبة الإسلامية الطبعة الثانية 1414 هـ - 1993 مـ رقم الإيداع لدى مديرية المكتبات والوثائق الوطنية 449/11/1984 المكتبة الإسلامية ص. ب. (113) الجبيهة - هاتف 2887 84 عمّان - الأردن دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - ص. ب: 6366/14
مقدمة الطبعة الثانية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حق حَمْدِهِ، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّه وَعَبْدِه، وعلى آله وصحبهِ وَوَفْده. أمّا بعد: فهذه هي الطبعة الثانية مِنْ كتابي "أحكام العيدين في السنّة المطهّرة" أقدمها للإخوةِ القرّاءِ بعد نَفَادِ الطبعة الأولى بسنواتٍ. ولقد زدتُ في هذه الطبْعةِ زياداتٍ عدَةً تُفيد الراغبين، وتنفعُ المُتَّبِعينَ، عسى أن يُعْظِمَ اللهُ سبحانه لي بها الأجرَ والمَثوبةَ. واللَهُ وليُّ التوفيقِ.
مقدمة الطبعة الأولى بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده اللهُ فلا مضل له، ومَن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن الإسلامَ هو دينُ الله العظيمُ الذي ارتضاه للبشرية، ليُصلحَ به كل شأنٍ من شؤون حياتها على مرِّ الزمن وتقلب الدهر: (ألاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَطِيْفُ الخَبيرُ) [الملك: 14] .
ولقد كانت الأمةُ الإِسلاميةُ خيرَ أمة أُخرجت للناس، لتشرفها بحمل هذه الرسالة، والقيام بتوصيلها لغيرها من الأمم، وظلت كذلك إلى يوم ابتعادها عن كتاب رَبِّها سبحانه وتعالى، وسنة نبيّها عليه الصلاة والسلام، فكان الواجب على المسلمين جميعاً في أنحاء هذه البسيطة كلّها أن يرجعوا إلى كتاب الله جل شأنه وتبارك اسمه، وإلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متحدين، واعين، متفقهين، عالمين بشؤون إسلامهم، وبأحكام عبادتهم. وقد أيقنتُ أنّ من الأسباب التي يطويها الإِسلامُ في غُضونه، وهي في مقدمة أصوله، وفي الذروة من تعاليمه، تكثيره من أسباب وحدة المسلمين وربط بعضهم ببعض. فمن ذلك أن أوجب فيهم الجماعة (1) في كل يومٍ
خمس مَرّات، يربطون قلوبهَم جميعاً بإمامٍ واحدٍ يَتَرسَّمُون خطاه وأعماله واحداً واحداً، مُراقبينَ ربهم، عاملين على القيام بما جعلهم مستَخلفين فيه، يرحم بعضُهم بعضاً، ويعطف بعضهم على بعض، مبتعدين عن البغي والفساد في الأرض، ثم ألزمهم بالاجتماعِ في كل مقدار يمكن أن يوقع إبليسُ في قلوبهم شيئاَ مِن همزه ونفخه ونفثه (1) ، أو تُحْدِث بهجةُ الدنيا وبريقُها في أنفسهم اقتراباً منها، وركوناً إلى سرابها، وذلك يوم الجمعة (2) ، وجعله يومَ عيدٍ لهم، يجتمعون
فيه، فَيُذكِّرُهم المذكِّرُ بآيِ ربهم وآلائه، حتى يستمروا على نقاء وصفاء، مرتبطة قلوبُ بعضهم ببعض، ثم جعل لهم يومَين في كل عام ينظرون فيهما مصالحهم العامة ومرافقهم المشتركة ويؤكدون فيهما أسباب المودة والمحبة، فجعل فيهم عيد الفطر الذي يعقب العبادة الرمضانية (1) ، وأنفسهم إذ ذاك مصفّاة، خالصة إلى الفضيلة وعمل الخير، وجعل فيهم أيضأ عيد الأضحى حيث يكون العباد حينئذ في حرم الله الآمِن، وفي ذلك البلد الطيب الذي انبعث منه نورُ النبوة، وبزغت في جَنَباته شمسُ السعادة العامة، وهم إذ ذاك العباد المخلصون الذي لا يبغون عملاً سوى ما يُقرب إلى الله عز وجل، ولا يبغون عنه حِوَلاً (2) .
لهذا كلِّه، رأيتُ أن أكتب رسالةً مفردةً في عيد الفطر وعيد الأضحى (1) ، وما يتعلق بهما من أحكام،
وذلك بالرغم مما ألمّ بالمسلمين من بلايا ورزايا، وهزائم ومصائب، وما هذا- فيهم- إلا بسبب بعدهم عن النبع الصافي والمنهج الرشيد الذي بينه الله سبحانه في كتابه، وَوَضحه رسولُه - صلى الله عليه وسلم - في سيرته وسنته. لكنّ معرفةَ الأحكام الشرعية، والمسائل الفقهية لا يوقفها أمرٌ، ولا يُؤثر فيها شيءٌ، بل هي تحثُّ المسلمين على العلم والعمل ونشر الخير والدعوة إلى الله تبارك وتعالى. وآثرتُ فيما كتبتُ التيسيرَ والاختصارَ، لكي تكونَ الرسالةُ سهلة الفهم، سريعة القراءة، وافيةً
بالمطلوب، مؤديةً للمرغوب، وحرصتُ على إيراد أصحِّ الأقوال في المسألة، مبتعداً عن الخلاف المذهبي، مؤكداً القول الراجح بدليله. فإن أصبتُ فبتوفيق الله تعالى، وإن أخطأت، فمن اللهِ المغفرةُ والرحمةُ. وأخيراً فإنني أسألُ اللَه أن يوفقني إلى إخلاص النية في هذا العمل، وأن يعم المسلمين بنفعه، إنه سميع مجيب. وَكَتَبَ أبو الحارثِ علي بنُ حَسَنِ بنِ علي
العيد:
-1- الْعِيدُ: هو كلُّ يومٍ فيه جَمْعٌ، واشتقاقه من: عاد يعود، كأنهم عادوا إليه، وقيل: اشتقاقه من: العادة، لأنهم اعتادوه، والجمع أعياد. ويقال: عَيَّدَ المسلمون: شهدوا عِيدهم. قال ابنُ الأعرابيّ: سُمي العيدُ عيداً لأنه يعود كل سنة بفرح مُجدد (1) . قال العلامة ابنُ عابدين: سُمِّي العيدُ بهذا الاسم، لأن لله تعالى فيه عوائدَ الِإحسان، أي: أنواع الِإحسان العائدة على عباده في كل يوم، منها: الفطر بعد المنع عن الطعام، وصدقة
الفطر، وإتمام الحج بطواف الزيارة، ولحوم الأضاحي، وغير ذلك، ولأن العادة فيه الفرح والسرور، والنشاط والْحُبُور (1) .
رحمة الله للأمة المحمدية بالعيدين
-2- رَحمَةُ اللهِ للأمّةِ المُحَمَّدِيةِ بالعِيديْن عن أنَس رضي الله عنه قال: قَدِمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولأهل المدينة يومان يلعبون فيهما في الجاهلية (1) ، فقال: "قَدِمْتُ عليكم ولكم يومانِ تلعبون فيهما في الجاهلية، وقد أبدلَكُم اللهُ بهما خيراً منهما: يوم النحر ويوم الفطر" (2) . قال الشيخ أحمد عبد الرحمن البنَّا: أي: لأنّ يومي الفطرِ والنحرِ بتشريع الله تعالى، واختياره لخلقه، ولأنهما يعقبان أداء ركنين عظيمين من أركان الِإسلام، وهما: الحج والصيام، وفيهما
الإذن بسماع الدف من الجويريات
يغفر الله للحجاج والصائمين، وينشر رحمته على جميع خلقه الطائعين، أما النيروز والمهرجان، فإنهما باختيار حُكماء ذاك الزمان، لما فيهما من اعتدال الزمن والهواء ونحو ذلك من المزايا الزائلة، فالفرق بين المَزِيّتَيْنِ ظاهر لمن تأمل ذلك (1) . -3- الِإذْنُ بسماع الدُّفِّ من الجُوَيْريَات عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عَليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعندي جاريتان تُغَنِّيان (2) بغناء بُعاث، فاضطجع على الفراش وحَوّل وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند النبي - صلى الله عليه وسلم -!؟ فأقبل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "دعهما"، فلما غفل غمزتُهما، فخرجتا.
وفي روايةٍ أخرى: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا بكر، إن لكل قوم عيداً، وهذا عيدنا" (1) . قال الإمام البغوي في "شرح السنة" (4/322) : بُعاث (2) يومٌ مشهور من أيام العرب، كانت فيه مقتلةٌ عظيمةٌ للأوس على الخزرج، وبقيت الحربُ بينهما مئة وعشرون سنة، إلى أن قام الإسلامُ، وكان الشعرُ الذي تُغَنَِّيان به في وصف الحرب والشجاعة، وفي ذِكْرِه معونةٌ لأمر الدين. فاما الغناءُ بذكر الفواحش، والابتهارِ (3) بالحُرَمِ، والمجاهرةِ بالمنكر من القول، فهو المحظورُ من
الغناء، وحاشاه أن يَجْري شيءٌ من ذلك بحضرته عليه الصلاة والسلام، فَيُغفل النكيرَ له.. وقولُه: هذا عيدنا؛ يعتذرُ به عنها أن إظهارَ السرورِ في العيدين شعارُ الدين، وليس هو كسائر الأيام. اهـ. وقال الحافظ ابن حَجَر: وفي هذا الحديثِ من الفوائد: مشروعيّةُ التوسعةِ على العيال في أيام الأعياد بأنواعِ ما يُحَصِّل لهم بسط النفس وترويح البدن من كلف العبادة، وأنَّ الإعراضَ عن ذلك أَوْلى، وفيه أنَّ إظهار السرور في الأعياد مِن شعار الدين (1) .
التجمل في العيد
-4- التَّجَمُّلُ في العيدِ عن ابن عُمر رضي الله عنهما قال: أخذ عمر جُبَّةً من إستبرق تُباع في السوق، فأخذها، فأتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، ابْتَع هذه، تَجمَّل بها للعيد والوفود، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما هذه لباس من لا خَلاق له"، فلبث عمر ما شاء الله أن يلبث، ثم أرسل إليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِجُبَّةِ ديباج، فأقبل بها عمر فأتى بها رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، إنك قلت: "إنما هذه لباس من لا خَلاق له"، وأرسلتَ إليّ بهذه الجُبّة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تبيعها أو تُصيب بها حاجتك" (1) .
قال العلّامة السِّنديُّ: منه عُلم أنَّ التجمُّلَ يوم العيد كان عادة متقررة بينهم، ولم ينكرها النبى - صلى الله عليه وسلم - فعُلم بقاؤها (1) . وقال الحافظ ابن حجر: روى ابنُ أبي الدُنيا والبيهقي بإسناد صحيح إلى ابن عمر: أنه كان يلبس أحسن ثيابه في العيدين (2) . وقال أيضاً: وجهُ الاستدلال به من جهةِ تقريره - صلى الله عليه وسلم - لِعُمَرَ على أصلِ التجمُّل للجمعة، وقَصَرَ الإنكارَعلى لُبْسِ مثل تلك الحُلّة، لكونِها كانت حريراً (3) .
وقال ابنُ قُدامة في "المُغْني" (2/228) : وهذا يدلُّ على أن التَجمُّلَ عندهم في هذه المواضعِ كان مشهورأ. قال مالكٌ: سمعتُ أهل العلم يستحبُّون الطيبَ والزينةَ في كل عيد. وقال ابنُ القيم في "زاد المعاد" (1/441) : وكان يلبسُ للخروج إليهما أجملَ ثيابه، فكان له حُلّةٌ يلبسُها للعيدين والجمعة، ومرةً كان يلبس بُردين أخضرين، ومرة بُرداً أحمر (1) ، وليس هو أحمر مُصْمَتاً (2) كما يظنُّه بعض الناس، فإِنه لو كان كذلك، لم يكن بُرداً، وإنما فيه خُطوطٌ حُمْرٌ كالبرودِ اليمنيّة..
الخروج إلى المصلى
-5- الخروجُ إلى المُصَلَّى عن أبي سعيد الخُدريّ رضي الله عنه، قال: "كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المُصلى، فأوّلُ شيءٍ يبدأ به الصلاةُ.." (1) . قال العلامةُ ابن الحاجِّ المالكي: والسُّنَّةُ الماضية في صلاة العيدين أن تكون في المُصَلّى، لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة في مسجدي هذا أفضل مِن ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام " (2) ، ثم هو مع هذه الفضيلةِ العظيمةِ، خرجَ - صلى الله عليه وسلم - وتَرَكَهُ (3) ..
وقال الِإمام ابن قُدامة المقدسي (1) : السنة أن يُصَلّى العيد في المُصلّى، أمَرَ بذلك عليٌّ رضي الله عنه واسْتَحْسَنه الأوزاعيُ وأصحابُ الرّأيِ، وهو قولُ ابنِ المنذر (2) . فمن ضَعُفَ عن الخُروج إلى المصفى لِمَرَضٍ أو كِبَرِ سِنٍّ، صلّى في المسجدِ، ولا حَرَج عليه إنْ شاء الله (3) . وها هُنا تنبيهٌ لا بُدَّ منه، وهو أن الهَدَفَ مِن الصلاةِ في المُصَلّى اجتماعُ عُظْمِ المسلمين في مكانٍ واحدٍ.
الذهاب والإياب إلى المصلى
بينما الذي نراه اليومَ في كثيرٍ من البلاد تعدُد (المُصَلَّيات) ولو مِن غير حاجةٍ، وهذا أمر قد نبَّه العُلَماءُ على كراهيتهِ (1) . بل قد أصبحتْ بعضُ (المُصَلَّيات) منابرَ حزبيَّةً لتفريق كلمةِ المسلمين. ولا حول ولا قوة إلّا باللهِ. -6- الذهابُ والِإياب إلى المُصَلَّى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يوم عيدٍ خالَفَ الطريقَ" (2) . قال الإمام ابن قيم الجَوْزِيَّة: وكان - صلى الله عليه وسلم - يخالف الطريق يوم العيد، فيذهب في
طريق، ويرجع في آخر، فقيل: ليُسلّم على أهل الطريقين، وقيل: لينال بركتَه الفريقان، وقيل: ليقضي حاجةَ من له حاجةٌ منهما، وقيل: ليُظهر شعائر الِإسلام ... وقيل - وهو الأصح-: إنه لذلك كلِّه، ولغيره من الحِكَم التي لا يخلو فعله - صلى الله عليه وسلم - منها (1) . وقال الِإمام النووي رحمه الله بعد أن ذكر الأقوال السابقة: وإذا لم يُعلم السبب، استُحبَّ التأسي قطعاً، والله أعلم (2) . تنبيهان: أولاً: قال الإمامُ البغويُّ في "شرح السنة" (4/302- 303) : "ويُستحبُّ أن يَغْدُوَ الناسُ إلى المُصَلّى بعدما صَلَّوُا الصبحَ لأخذ مجالسهم،
التكبير في العيدين
ويُكَبِّرون، ويكونُ خروجُ الإمامِ في الوقت الذي يُوافي فيه الصلاة". ثانياً: روى الترمذي (530) وابن ماجه (161) عن عليٍّ رضي الله عنه قال: "مِن السُّنَّة أن تَخْرُج إلى العيد ماشياً" (1) . -7- التَّكْبيرُ في العِيدَيْنِ يقولُ اللهُ تعالى: (وَلِتُكْملوا العِدَّةَ ولِتُكَبِّروا اللهَ على ما هداكم ولعلّكم تَشْكُرون) . وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كان يخرج يوم الفطر،. فَيُكَبِّر حتى يأتي
المُصلى، وحتى يقضيَ الصلاة، فإذا قضى الصلاةَ قطع التكبير" (1) . قال المحدِّث الألبانيُّ: "وفي الحديث دليلٌ على مشروعيّةِ ما جرى عليه عملُ المسلمين من التكبير جهراً في الطريق إلى المصلى، وإنْ كان كثير منهم بدؤوا يتساهلون بهذه السنَّة حتى كادت تصبح في خبر كان.. وممّا يَحْسُنُ التذكيرُ به بهذه المناسبة، أن الجهر بالتكبير هنا لا يُشرع فيه الاجتماع عليه بصوت واحد كما يفعله البعض، وكذلك كل ذِكْرٍ يُشرع فيه رفع الصوت أو لا يشرع، فلا يُشرع فيه الاجتماع
المذكور، فلنكن على حَذَرٍ من ذلك (1) ، وَلْنَضَعْ نُصْبَ أعْيُينَا داثماً أنَ خيرَ الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم - ". وسُئل شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميّة عن وقت التكبير في العيدين، فقال رحمه الله: الحمدُ للهِ، أصحُّ الأقوال في التًكْبيرِ، الذي عليه جمهورُ السّلَف والفُقَهاء من الصحابة والأئمة: أن يُكَبِّر من فجر يوم عرفة، إلى آخر أيام التشريق، عَقِبَ كل صلاة، وُيشْرَعُ لكل أحد أن يجهر بالتكبير عند الخروج إلى العيد، وهذا باتفاقِ الأئمةِ الأربعةِ (2) . قلتُ: قولُه رحمه الله: "عَقِبَ كُل صلاةٍ" - خُصوصاً-
لا دليلَ عليه، والصوابُ أنَّه في كُل وقتٍ، ودون تخصيص. ويَدُلُّ على ذلك ما قاله الإمامُ البخاريُّ في كتاب العيدين من "صحيحه " (2/461) : بابُ التكبير أيام منى، وإذا غدا الى عرفة. وكان عمر- رضي الله عنه- يُكَبّر في قُبَّتِه بمنى، فيسمعُه أهلُ المسجد فَيُكَبِّرون، ويُكَبِّر أهل الأسواق حتى ترتجّ منىً تكبيراً. وكان ابنُ عمر يُكَبِّر بمنى تلك الأيامَ وخَلْفَ الصلوات، وعلى فراشِه، وفي فِسْطاطِه، ومجلسِه، وممشاه تلك الأيام جميعاً. وكانت ميمونةُ تُكَبِّر يوم النحر، وكُن النساءُ يُكَبّرن خلف أبانَ بن عثمان وعمر بن عبد العزيز لياليَ التشريقِ مع الرجالِ في المسجدِ. وكان ابنُ عمر إذا غدا يوم الفطر، ويوم
الأضحى، يجهر بالتكبير حتى يأتي المصلى، ثم يكبر حتى يأتي الإِمامُ (1) . ولم يَصِحّ حديثٌ نبوي في كيفيّةِ التكبيرِ- فيما أعلمُ-، إنما ورد عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم: فكان ابن مسعود يقول: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد (2) . وكان ابن عباس يقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر وأجلُّ، الله أكبر على ما هَدَانا (3) . وأخرج عبدُ الرزّاق (4) - ومِن طريقهِ البيهقيُّ في
متى يأكل في العيدين؟
"السنن الكبرى" (3/316) - بسند صحيح عن سَلْمان الخير رضي اللهُ عنه قال: "كبِّروا اللهَ: اللهُ أكبر، اللهُ أكبر، اللهُ أكبر كبيراً". ولقد خالَفَ كثير من العامّةِ هذا الذكْرَ الواردَ عن السَّلَف بأذكارٍ، وزياداتٍ، ومُخترعاتٍ لا أصل لها، مِمّا جعل الحافظ ابن حجر- رحمه الله- يقول في "فتح الباري" (2/536) : "وقد أُحدث في هذا الزمان زيادةٌ (1) في ذلك لا أصلَ لها". -8- متى يأْكُلُ في العيدَيْنِ؟ عن أنس رضي اللُه عنه قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات" (2) .
قال الإمام المُهَلَّب: الحكمة في الأكل قبل الصلاة: أن لا يَظُنَّ ظانٌّ لزومَ الصومِ حتى يُصَلِّي العيد، فكأنه أراد سدَّ هذه الذريعةِ (1) . وعن بُريدة رضي الله عنه قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخرج يوم الفطر حتى يَطْعَم، ويوم النحر: لا يأكل حتى يرجع فيأكل من نسيكته " (2) . قال العلامة ابن القيم: .. وأما في عيد الأضحى، فكان لا يَطْعَمُ حتى يرجعَ من المُصلّى، فيأكل من أضحيته (3) .
قال العلاّمةُ الشوكاني (1) : والحكمة في تأخير الفطر يوم الأضحى أنّه يومٌ تُشرع فيه الأضحية والأكل منها، فشرع له أن يكون فطره على شيء منها، قاله ابن قدامة (2) . وقال الزينُ ابن المُنَيِّر (3) : وقع أكله - صلى الله عليه وسلم - في كلٍّ من العيدين في الوقت المشروع لِإخراج صدقتهما الخاصة بهما، بإخراج صدقة الفطر قبل القدوم إلى المُصلى، وإخراج صدقة الأضحية بعد ذبحها.
الغسل قبل العيد
-9- الغُسْلُ قبلَ العيدِ عن نافع: أن عبد الله بن عمر كان يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو إلى المُصلى (1) . وقال الإمام سعيد بن المسيِّب: "سُنّة الفِطْرِ ثلاثٌ: المَشْيُ إلى المُصلّى، والأكلُ قبل الخروج، والاغتسال" (2) . قلتُ: لعلّه يُريدُ مِن سُنّة الصحابة، أي: طريقتِهم وهَدْيهِم، وإلا فلم يصحّ عنه - صلى الله عليه وسلم - سُنّةٌ في ذلك.
وقال الإمام ابن قُدامة: يُستحب أن يتطهّر بالغسل للعيد، وكان ابنُ عمر يغتسل يوم الفطر، ورُوي ذلك عن علي رضي الله عنه، وبه قال علقمة، وعروة، وعطاء، والنخعي، والشعبي، وقتادة، وأبو الزِّنَاد، ومالك، والشافعي، وابن المنذر (1) ... وأمّا الذي رُوي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فهو ضعيفٌ (2) .
هل يصلى قبل صلاة العيد أو بعدها؟
-10- هل يُصَلَّى قبلَ صلاة العيد أو بعدَها؟ عن ابن عباس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى يوم الفطر ركعتين، لم يُصَلِّ قبلَها ولا بعدها ... " (1) . وقال ابنُ القيم رحمه الله (2) : ولم يكن هو [صلى الله عليه وسلم] ، ولا أصحابُه يُصَلّون إذا انتهوا إلى المُصلَّى قبل الصلاة ولا بعدها. وقال الحافظ ابن حجر (3) : والحاصل أن صلاة العيد لم يثبت لها سُنَّةٌ قبلَها ولا بعدها، خلافاً لمن قاسها على الجمعة (4) .
حكم صلاة العيدين
-11- حكم صلاة العيدين قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ... ولهذا رَجَّحنا أن صلاةَ العيد واجبةٌ على الأعيان، كقول أبي حنيفة (1) وغيره، وهو أحد أقوال الشافعي، وأحد القولين في مذهب أحمد. وقولُ مَن قال: لا تجب؛ في غاية البُعد، فإنها من أعظم شعائر الإسلام، والناس يجتمعون لها أعظم من الجمعة، وقد شُرع فيها التكبير، وقولُ مَن قال: هي فرضٌ على الكفاية، لا ينضبط. 00 (2) . وقال العلامة الشوكاني في "السيل الجرّار" (1/315) (3) :
اعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لَازَمَ هذه الصلاةَ في العيدين، ولم يتركها في عيد من الأعياد، وأمر الناس بالخروج إليها، حتى أمَرَ بخروج النساء العواتق (1) ، وذوات الخدور، والحُيَّض، وأمر الحُيَّض أنْ يعتزلن الصلاة، وَيَشْهَدْنَ الخير ودعوة المسلمين، حتى أمر مَن لا جلباب لها أن تُلبِسَها صاحبتُها (2) . وهذا كله يدل على أن هذه الصلاة واجبة وجوباً مؤكداً على الأعيان لا على الكفاية، والأمر بالخروج يستلزم الأمر بالصلاة لمن لا عذر له، بفحوى
الخطاب، لأن الخروج وسيلة إليها، ووجوب الوسيلة يستلزم وجوب المتوسل إليه. والرجال أوْلى من النساء بذلك. ثم قال رحمه الله: ومن الأدلة على وجوبها: أنها مُسقِطةٌ للجمعة إذا اتفقتا في يوم واحد (1) ، وما ليس بواجب لا يُسقِط ما كان واجباً، وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - لازمها جماعة منذ شُرعت إلى أن مات، وانضم إلى هذه الملازمةِ الدائمةِ أمرُهُ للناس بان يخرجوا إلى الصلاة (2) .
وقت صلاة العيد
وقال شيخُنا الألباني في "تمام المنّة" (ص 344) بعد إيرادهِ حديثَ أُمّ عطيّة: "فالأمرُ المذكورُ يدلُّ على الوجوب، وإذا وجب الخروجُ وجبت الصلاةُ مِن باب أوْلى كما لا يخفى، فالحق وجوبُها لا سُنيَّتُها فَحَسْبُ..". -12- وَقْتُ صلاةِ العْيدِ. عن عبد الله بن بُسْرٍ صاحبِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه خرج مع الناس يومَ فطرٍ أو أضحى، فأنكر إبطاءَ الإِمام، وقال: إنا كنا قد فرغنا ساعتنا هذه، وذلك حين التسبيح (1) .
وهذا أصحُّ (1) ما في الباب، وُيروى غَيْرُه لكنّه لا يثبت من حيث إسنادُهُ. وقال ابنُ القَيِّم: وكان [صلى الله عليه وسلم] ، يُؤخِّر صلاة عيد الفطر ويُعجِّل الأضحى، وكان ابن عمر- مع شدة اتباعه للسنة- لا يخرج حتى تطلع الشمس (2) . وقال صِدِّيق حَسن خان: وقتهما بعد ارتفاع الشمس قِيْدَ رمح إلى الزوال، وقد وقع الإجماع على ما أفادته الأحاديثُ - وإنْ كانت لا تقوم بمثلها الحجة- وأما آخر وقتهما، فزوال الشمس (3) .
وقال الشيخُ أبو بكرٍ الجزائريُّ: ووقتهما: من ارتفاع الشمس قِيْدَ رمحٍ إلى الزوال، والأفضل أن تُصلى الأضحى في أول الوقت ليتمكن الناس من ذبح أضاحيهم، وأن تؤخر صلاة الفطر ليتمكن الناس من إخراج صدقاتهم (1) . تنبيه: إذا لم يُعْلَم يومُ العيد إلا في وقت مُتأخّرٍ صُلِّيَت صلاةُ العيد مِن الغَدِ: فقد روى أبو داود (1157) والنسائي (3/ 180) وابن ماجه (1653) بسند صحيحٍ عن أبي عُمير بن أنَس، عن عُمومةٍ له مِن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يشهدون أنهم رَأَوُا الهلال بالأمس، فامرهم أن يُفطروا، وإذا أصبحوا أن يَغدوا إلى مُصَلاهم.
لا أذان ولا إقامة للعيدين
-13- لا أذان ولا إقامةَ لِلْعيدَيْنِ عن جابر بن سَمُرة رضي الله عنه قال: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العيدين غير مَرة، ولا مرتين، بغير أذان ولا إقامة (1) . وفي ابن عباس وجابر رضي الله عنهما، قالا: لم يكن يُؤذَّن يوم الفطر ولا يوم الأضحى (2) . قال ابن القيم: وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا انتهى إلى المصلى أخذ في الصلاة من غير أذان، ولا إقامة، ولا قول: الصلاة جامعة، والسنةُ أنه لا يُفعل شيءٌ من ذلك (3) .
صفة صلاة العيد
وقال الإمام الصّنْعَانِي مُعَلِّقاً على آثار الباب: وهو دليل على عدم شرعيتهما في صلاة العيد، فإنهما بدعة (1) . -14- صِفَةُ صَلاةِ الْعيدِ أولاً: هي ركعتانِ، لروايةِ عُمَرَ رضي اللهُ عنه: "صلاةُ السفر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، تمامٌ غيرُ قَصْرٍ، على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - " (2) . ثانياً: تبدأ الركعة الأولى- كسائر الصلوات- بتكبيرة الإحرام، ثم يُكَبّر فيها سبع تكبيرات، وفي
الركعة الثانية خمس تكبيرات، سوى تكبيرة الانتقال. عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر في الفطر والأضحى: في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمساً، سوى تكبيرتي الركوع (1) . قال الإِمام البَغَويُّ: وهذا قول أكثر أهل العلم مِن الصحابة فَمَن
بَعدَهم، أنه يكبر في صلاة العيد في الأولى سبعاً سوى تكبيرة الافتتاح، وفي الثانية خمساً سوى تكبيرة القيام قبل القراءة، رُوي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وعلي، و 000 (1) . ثالثاً: لم يصحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يرفع يديه مع تكبيرات العيد (2) ، لكنْ قال ابنُ القيم: وكان ابنُ عمر- مع تَحَرِّيهِ للاتِّباع- يرفع يديه مع كل تكبيرة (3) . قلت: وخير الهدي هديُ محمد - صلى الله عليه وسلم -. قال شيخُنا الألباني في "تمام المنة" (ص 348) :
وكونُه رُوي عن عُمَرَ وابنهِ لا يجعلُه سُنّةً، ولا سيّما أن رواية عمر وابنه ها هنا لا تصحُّ. أما عن عمر: فرواه البيهقي بسند ضعيف. وأما عن ابنهِ فلم أقِف عليها الآن ". وقال شيخُنا في "أحكام الجنائز" (ص 148) في مسألةٍ قريبةِ الحكم مِن هذه: "فمن كان يَظُنُّ أنَّه- أي ابن عمر- لا يفعل ذلك إلا بتوقيفٍ مِن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فله أنْ يَرْفَعَ ". رابعاً: لم يصحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذِكرٌ معين بين تكبيرات العيد، لكنْ ثبت (1) عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال عن صلاة العيد: "بين كل تكبيرتين حمدٌ لله عز وجل، وثناءٌ على الله ".
قال ابن القَيِّم رحمه الله: [وكان - صلى الله عليه وسلم -] يسكت بين كُلِّ تكبيرتين سكتةً يسيرة، ولم يُحْفَظْ عنه ذِكْرٌ مُعَيًّنٌ بين التكبيرات. قلتُ: وما قلتُه في مسألةِ رفع اليدين مع التكبيرات أقولُه فى هذه المسألةِ أيضاً. خامس: فإذا أتَمّ التكبيرَ، أخذ في القراءةِ بفاتحة الكتاب، ثم يقرأُ بعدها: (ق. وَالقُرْآنِ المَجيْد) في إحدى الركعتين، وفي الأخرى: (اقْتَرَبَت السَّاعَةُ وَانْشَق القَمَر) (1) . وكان رُبَّما قرأ فيهما: (سَبحِ اسْمَ ربّكَ الأعْلَى) و: (هَلْ أتَاكَ حَدِيْثُ الغَاشِيةِ) (2) .
قال ابن القيم رحمه الله: صَحَّ عنه هذا وهذا، ولم يصحَّ عنه غير ذلك (1) . سادساً: وباقي هيئاتها، كغيرها من الصلوات المعتادة، لا تختلف عنها شيئاً (2) . سابعاً: مَن فاتته صلاة العيد جماعة، يُصَلّي ركعتين. قال الِإمام البخاري رحمه الله:
"باب إذا فاته العيد يُصلي ركعتين " (1) . قال الحافظ ابن حَجَر في "الفتح " (2/550) تعقيباً على الترجمةِ: "في هذه الترجمةِ حُكمان: أ- مشروعيّة استدراك صلاة العيد إذا فاتت مع الجماعة، سواءٌ كانت بالاضطرار أو بالاختيار. ب- وكونها تقضى ركعتين ". وقال عطاء: إذا فاته العيد صَلّى ركعتين (2) . وقال العلامة وليّ الله الدهلوي: هذا هو مذهب الشافعي، أن الرجل إذا فاتته الصلاة مع الإمام، صلى ركعتين حتى يدرك فضيلة صلاة العيد، وإن فاتته فضيلة الجماعة مع الإمام.
وأما عند الحنفية، فلا قضاء (1) لصلاة العيد عندهم، ولو فاتته مع الِإمام فاتته رأساً (2) . وقال الإمام مالك في "الموطأ" (3) : "وكُلُّ مَن صلّى لنفسهِ العيدَين مِن رجلٍ أو امرأةٍ فإني أرى أن يُكَبِّر في الأولى سبعاً، قبلَ القراءةِ، وخمساً في الآخرة قبلَ القراءةِ". والمتأخِّر عن صلاة العيد، يُصَلّي ما فاته على صِفَتِهِ، كسائر الصلوات (4) . ثامناً: التكبيرُ سُنّةٌ لا تَبْطُلُ الصلاةُ بتركهِ عَمْداً أو
الخطبة بعد الصلاة
سَهْواً بلا خلافٍ (1) ، وتارِكُه- لا شَكَّ- مخالفٌ لسُنة النبي - صلى الله عليه وسلم -. -15- الْخُطْبَةُ بَعدَ الصَّلاةِ والسُّنَّةُ في خطبة العيد أن تكون بعد الصلاة، وبَوًب البخاريُّ في "صحيحه " (2) : "باب الخطبة بعد العيد". عن ابن عباس قال: "شهدتُ العيد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فكلهم كانوا يُصَلُّون قبل الخُطبة" (3) .
وعن ابن عمر: "إن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكرٍ، وعمر، كانوا يُصَلُّون العيدين قبل الخُطبةِ" (1) . قال وليُّ الله الدهلوي معلقاً على تبويب البخاريّ السابق (2) : يعني أن سنةَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعمولَ الخلفاء الراشدين ذلك، وما وقع من التغيير- أعني تقديم الخطبة على الصلاة قياسأ على الجمعة- فهو بدعةٌ صدرت من مروان (3) .
الخطبة والتخيير بحضورها
وقال الإمام الترمذي (1) : والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم: أن صلاة العيدين قبل الخطبة، ويقال: إنَّ أول مَن خطب قبل الصلاة مروانُ بن الحكم (2) . -16- الْخُطْبَةُ والتَّخْييرُ بِحُضورِها عن أبي سعيد الخُدري قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج يوم العيد والأضحى إلى المصلى، فاول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف، فيقوم مقابلَ الناس-
والناس جلوسٌ على صفوفهم- فَيَعَظُهم ويوصيهم ويأمرهم (1) .. وخطبةُ العيد كسائر الخُطَب، تُفتتح بالحمد والثناء على الله جل جلاله: قال ابن القيم رحمه الله: وكان [صلى الله عليه وسلم] يفتتحُ خُطَبَهُ كلَّها بالحمدِ للهِ، ولم يُحفظ عنه في حديثٍ واحدٍ أنه كان يفتتح خطبتي العيدين بالتكبير، وإنما روى ابنُ ماجه في "سننه " (2) عن سعد القرظ مؤذن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يُكثر التكبير بين أضعاف الخطبة، ويُكثر التكبير في خطبتي
العيدين، وهذا لا يدل على أنه كان يفتتحها ْبه (1) ... ولمْ يصحَّ في السُّنَّة أنً خُطبةَ العيد خُطبتان يفصلُ بينهما بِجِلسةٍ! والواردُ في ذلك حديث ضعيفٌ جدّاً رواه البزّار في "مسنده" (رقم: 53 - مسند سعد) عن شيْخهِ عبد الله بن شَبِيب بسنده عن سَعْدٍ رضي الله عنه أنّ النبى - صلى الله عليه وسلم -.. كان يخطُبُ خُطبتين، يفصلُ بينَهما بِجِلْسَةٍ. وعبدُالله بن شَبِيب قال البخاريُّ فيه: "مُنكر الحديث". فتبقى خُطبةُ العيد واحدةً على الأصل. وحضورُ الخطبة ليس واجباً كالصلاة، لما ورد عن عبد الله بن السائب، قال: شهدتُ العيد مع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فلما قضى الصلاة قال: "إنَا نخطب، فمن
اجتماع الجمعة والعيد
أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب" (1) . قالِ ابن القيم رحمه الله (2) : ورخَّص - صلى الله عليه وسلم - لمن شهد العيد أن يجلس للخطبة أو أن يذهب (3) . -17- اجتماعُ الجُمعةِ والعيدِ روى أبو دا ود (1070) والنًسائي (3/ 194) وا بن ماجه (1310) وا بن خُزيمة (1464) والدارمي (1620) وأحمد (4/372) عن إياس بن أبي رَمْلَةَ الشاميّ قال:
شهدتُ معاويةَ بن أبي سفيان وهو يسألى زَيْدَ بن أرقم قال: أشهدتَ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عيدينِ اجْتَمعَا في يوم؟ قال: نعم. قال: فكيف صَنعَ؟ قال: صفى العيد ثم رخَّص في الجمعة، فقال: "مَن شاء أن يُصَلِّي فَليُصَلّ " (1) . وفي الباب عن أبي هريرة وغيره، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وهذا ما عمل به الصحابةُ رضي الله عنهم: فقد روى عبد الرزَاق في "المصنف" (3/305) وابن أبي شيبة في "المصنف" (2/187) بسند صحيحٍ عن علي رضي الله عنه، أنَه اجتمع عيدان
في يوم، فقال: "مَن أراد أن يُجَمِّعَ فَلْيُجَمِّع، ومَن أراد أن يجلسَ فليجلسْ ". وفي "صحيح البخاري " (5251) نحوُهُ عن عثمان رضي الله عنه. وفي "سنن أبي داود" (1072) ، و"مصنف عبد الرزّاق" (رقم: 5725) بسندٍ صحيح عن ابن الزبير أنّه قال: "عيدان اجتمعا في يوم واحدٍ، فجمعهما جميعاً بِجَعْلِهما واحداً، وصلّى يوم الجمعة ركعتين بُكرةً صلاةَ الفِطْر، ثم لم يَزِد حتى صلّى العصر.. ". وقال الشوكاني في "نيل الأوطار" (3/384) تعقيباً على هذه الروايةِ: "ظاهرُهُ أئه لم يُصَل الظهرَ. وفيه أن الجمعةَ إذا سقطت بوجهٍ منِ الوجوهِ
التهنئة بالعيد
المُسوِّغة لم يجب على مَن سقطت عنه أن يُصَلِّيَ الظهرَ؛ وإليه ذهب عطاءٌ. والظاهرُ أنه يقولُ بذلك القائلون بأن الجمعةَ الأصلُ، وأنت خبيرٌ بأنَ الذي افترضه الله تعالى على عباده في يوم الجمعةِ هو صلاة الجمعةِ، فإيجابُ صلاةِ الظهر على مَن تركها لعذرٍ أو لغير عذرٍ محتاجٌ إلى دليل، ولا دليل يَصْلُحُ للتمسّك به على ذلك فيما أعلم". -18- التّهْنِئةُ بالْعِيدِ سُئل شيخ الِإسلام ابن تيمية عن التهنئة فأجاب (1) : أما التهنئة يوم العيد، بقول بعضهم لبعض إذا
لقيه بعد صلاة العيد: تقبّل اللهُ منا ومنكم، و: أحالَ اللهُ عليك، ونحو ذلك، فهذا قد رُوي عن طائفة من الصحابة أنهم كانوا يفعلونه، ورخَّص فيه الأئمة، كأحمدَ وغيرِه، لكن قال أحمد: أنا لا أبتدىء أحداً، فإن ابتدأني أحدٌ أجبتُه، وذلك لأنّ جوابَ التحية واجبٌ، وأما الابتداء بالتهنئة فليس سنة مأموراً بها، ولا هو أيضاً مما نُهي عنه، فَمَن فعله فله قدوة، ومن تركه فله قدوة، والله أعلم (1) . قال الحافظ ابن حجر (2) : وَرُوِّينا في "المَحَامِليّات" بإسناد حسن عن جُبير
ابن نُفير قال: "كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض: تقبّلَ الله منا ومنك ". وذكر ابنُ قُدامة في "المُغْني " (2/259) أنّ محمد بن زياد قال: "كنتُ مع أبي أمامة الباهلي وغيره من أصحابِ النبي - صلى الله عليه وسلم - فكانوا إذا رَجَعُوا من العيد يقولُ بعضُهم لبعض: تقبّل اللهُ منا ومنك ". قال أحمدُ: إسنادُ حديثِ أبي أُمامة جيد (1) . وأمّا قولُ عامّةِ الناسِ بعضِهم لبعض: "كل عام وأنتم بخير" وما أشْبَهَهُ!! فهو مردودٌ غيرُ مقبولٍ، بل هو مِن بابِ قوله سبحانه: (أتستبدلون الذي هُوَ أدنى بالّذي هُوَ خَيْر) .
الأضحية
-19- الأُضحيةُ هي شاةٌ تذبح بعد صلاة عيد الأضحى، تقرُّباً إلى الله تعالى، إذ يقول سبحانه وتعالى: (قُلْ إِنَّ صلاَتي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتي للهِ رَبِّ العَالَمِين لا شَرِيْكَ لَهُ) [الأنعام: 162] ، والنُّسُكُ هنا هو: الذبح تقرباً إليه جلَّ شأنه (1) . واختلف العلماءُ في حكمها، والذي يترجّحُ من الأدلةِ المختلفةِ هو الوجوبُ، وإليك- أخي المسلم- الأحاديثَ التي استدل بها الموجبون: الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن كان له سَعَةٌ ولم يُضحِّ فلا يقربَنّ مُصلانا" (2) .
ووجه الاستدلال به: أنه لما نهى مَن كان ذا سعة عن قربان المُصَلى إذا لم يُضَحّ، دَلّ على أنه قد ترك واجباً، فكأنه لا فائدة مِن التقرّب إلى الله مع ترك هذا الواجب. الثاني: عن جُنْدُب بن عبد الله البَجَلي، قال: شهدتُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر، قال: "مَن ذبح قبل أن يصلي فليُعد مكانها أخرى، ومَن لم يذبح فليذبح " (1) . والأمرُ ظاهر في الوجوبِ، ولم يَأتِ (2) ما يصرفُهُ عن ظاهره. الثالث: عن مِخْنَف بنِ سُلَيم أنه شهد النبي - صلى الله عليه وسلم -
يخطب يوم عرفة، قال: "على أهل كل بيت في كل عام أضحية وعَتيرة (1) ، أتدرون ما العَتيرة؟ هذه التي يقول عنها الناسً: رَجَبِيَّة" (2) . وهذا فيه الأمر بالوجوب، أما العَتيرة فهي منسوخة، وَنَسْخها لا يستلزم نسخ الأضحية، فهي باقية على الأصل. قال ابن الأثير:
والعَتيرة منسوخة، وإنما كان ذلك في صدر الإسلام (1) . أما المخالفون، فإنّ أكبَر شبهاتهم على أن الأضحية سنة هي قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دخل العشر، فأراد أحدكم أن يُضحي فلا يمسَّ من شعره، ولامن بشره شيئاً" (2) . فقالوا (3) :
فيه دليل على أنّ الأضحية غير واجبة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "فإذا أراد أحدكم أن يضحي.. " ولو كانت واجبة لم يُفوِّض إلى إرادته. وقد ردّ على هذه الشبهة شيخُ الِإسلام ابنُ تيمية رحمه الله بعد أن رجح الوجوب قائلًا (1) : ونفاةُ الوجوب ليس معهم نصٌّ، فإنَّ عمدتهم قولُه - صلى الله عليه وسلم -: ((من أراد أن يضحي.. " قالوا: والواجب لا يُعلَّق بالِإرادة! وهذا كلام مجمل، فإن الواجب لا يُوَكّل إلى إرادة العبد فيقال: إن شئت فافعله، بل قد يُعلّق الواجب بالشرط لبيان حكم من الأحكام، كقوله: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَلَاةِ فَاْغْسِلُوا) [المائدة: 6] ، وقد قدّروا فيه: إذا أردتم القيام، وقَدّروا: إذا أردت القراءةَ فاستعذ، والطهارة واجبة، والقراءة في الصلاة واجبة، وقد قال: إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أنْ يَسْتَقيمَ) [التكوير:27] ، ومشيئة الاستقامة واجبة. ثم قال رحمه الله (1) : وأيضاً فليس كل أحد يجب عليه أن يُضحي، وإنما تجب على القادر، فهو الذي يريد أن يُضحي، كما قال: "من أراد الحجّ فليتعجل، فإنه قد تضل الضالة، وتعرض الحاجة" (2) ، والحج فرض على المستطيع، فقوله: "مَن أراد أن يُضحي.." كقوله: "من أراد الحج.. "..
وقد أجاب على استدلالهم المذكور، الإمامُ العينيّ (1) رحمه الله- شارحاً قولَ صاحب "الهداية" (2) - وهو: "والمراد بالِإرادة فيما رُوي- والله أعلم- ما هو ضد السهو، لا التخيير" فقال العيني رحمه الله: أي: ليس المراد التخيير بين الترك والِإباحة، فصار كأنه قال: مَن قَصَدَ أن يضحي منكم، وهذا لا يدل على نفي الوجوب، كما في قوله: "من أراد الصلاة فليتوضأ" (3) ، وقوله: "من أراد منكم الجمعة
فليغتسل " (1) أي: مَن قَصدَ، ولم يُرد التخيير، فَكَذا هذا. اما استدلالُ عدمِ الموُجبين بتضْحيةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أُمّته- كما في "سنن أبي داود" (2810) و "سنن الترمذي" (1574) و "مسند أحمد" (3/356) بالسند الصحيح عن جابر- فليس هو استدلالاً قائماً؛ إذ يُحمل هذا- جَمْعاً بين الأدلة- على غير القادِر مِن الأمّةِ. ومَن كان غيرَ قادرٍ على التضحيةِ سَقَطَ عنه حُكْمُ الوجوب أصْلًا، واللهُ أعلمُ.
أحكام الأضحية
-20- أحكام الأضحية هناك أحكامٌ متعلّقة بالأضاحي، يَجْدُرُ بالمسلم أن يعرفها ليكون على علم في عبادته، وعلى بيّنةٍ من أمره، ألَخصها بما يأتي ذِكْرُهُ إن شاء الله: أولاً: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يضحي بكبشين (1) ، وكان ينحرهما بعد صلاة العيد، وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن: "مَن ذبح قبل الصلاة فليس مِن النسك في شيء، وإنما هو لحم قَدَّمه لأهله" (2) . ثانياً: وكان - صلى الله عليه وسلم - يأمر أصحابه أن يذبحوا الجَذَع من الضَأن، والثَنِيّ مما سواه (3) .
عن مُجاشِع بن مسعود رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الجذع من الضأن يوفي مما يوفي منه الثنيّ من المعز" (1) . ثالثاً: ويجوز تأخير الذبح لليوم الثاني والثالث بعد العيد، لِمَا ثبت عن النبي فًيِ أنه قال: "كل أيام التشريق ذبح " (2) .
قال ابن القيم: هذا مذهب أحمد، ومالك، وأبي حنيفة رحمهم الله، قال أحمد: هو قول غير واحد من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذكره الأثرم عن ابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم (1) . رابعاً: ومن هديه - صلى الله عليه وسلم - أن من أراد التضحية، ودخل أولُ يومٍ من أيامِ العَشْرِ من ذي الحجةِ، فلا يأخُذْ من شعره وبَشَرهِ شيئاً، ثبت النهي عن ذلك (2) .
قال النووي في "شرح مسلم" (13/13- 139) : والمرادُ بالنهيِ عن أخْذِ الظُّفُرِ والشعرِ النهيُ عن إزالةِ الظُفُرِ بقَلْم، أو كسرٍ، أو غيرهِ، والمنعُ من إزالةِ الشعر، بحَلْقٍ، أو تقصيرٍ، أو نَتْفٍ، أو إحراقٍ، أو أخذه بِنُوْرةٍ (1) ، أو غير ذلك، وسواءٌ شعرُ الإبطِ، والشاربِ، والعانةِ، والرأسِ، وغيرِ ذلك من شعور بَدَنهِ. وقال ابن قُدامة في "المُغني" (11/96) : فإنْ فَعَل استغفر الله- تعالى- ولا فديةَ فيه إجماعاً، سواءٌ فعله عَمْداً أو نسياناً. قلتُ: وهذا منه- رحمه الله- إشارة إلى تحريم ذلك، ومَنْعهِ بتاتاً، وهو الظاهرُ في أصلِ النهْيِ النبويّ.
خامساً: وكان - صلى الله عليه وسلم - يختار الأضحيةَ سليمةً من العيوب، وكان يستحسنها، ونهى أن يُضحى بمقطوعة الأذن ومكسورة القَرن (1) . وأمر بالنظر إلى سلامة الأضحية، وأن لا يُضحى بعوراء، ولا مقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء، ثبت النهي عن هذا كُلِّه (2) . وأمّا الكبشُ الموجودُ (3) فيجوزُ التضحية بهِ، لِمَا
وَرَدَ مثلُه عنه - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو يعلى (1792) والبيهقي (2689/268) بسند حسّنه الهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/22) -. سادساً: وكان - صلى الله عليه وسلم - يُضحي بالمُصلى (1) . سابعاً: وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - أن الشاة تجزىء عن الرجل، وعن أهل بيته، ولو كَثُر عددهم، كما قال عطاء بن يسار (2) : سالت أبا أيوب الأنصاري: كيف كانت الضحايا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: إنْ كان الرجل يضحي بالشاةِ عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويُطعمون (3) .
ثامنأ: ويُستحب التكبير والتسمية عند الذبح، لما ثبت عن أنس أنه قال: "ضَحَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده، وسَمًى وكَبَّر، ووضع رجله على صِفَاحِهما" (1) . تاسعاً: وأفضل الأضحية ما كانت كبشاً أقرن فحلاً أبيض يخالطه سواد حول عينيه وفي قوائمه، إذ هذا هو الوصف الذي استحبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضَحَّى به. عاشراً: ويُستحب أن يباشر المسلم أضحيته بنفسه، وإن أناب غيره في ذبحها جاز ذلك بلا حرج (3) .
حادي عشر: ويُستحب لأهل البيت الذين ضَحَّوا أن يأكلوا منها، وأن يهدوا منها، وأن يتصدقوا منها، ويجوز لهم أن يَدّخروا، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كلوا وادّخروا وتصدّقوا" (1) . ثاني عشر: تُجزىءُ البَدَنةُ عن سبعةٍ، ومثلُها البَقَرةُ، فقد روى مسلمٌ في "صحيحهِ " (355) عن جابر رضي الله عنه قال: (نَحَرْنا بالحُديبية مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - البَدَنَةَ عن سبعةٍ، والبقرةَ عن سبعةٍ ". ثالث عشر: ولا يُعطى الجازرُ أجرة عمله من الأضحية، لما ثبت عن على رضي الله عنه أنه قال: "أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقوم على بُدنِهِ، وأن أتصدق
بلحومها وجلودها وحلالها (1) ، وأن لا أعطي الجازر منها شيئاً، قال: ونحن نعطيه من عندنا" (2) . رابع عشر: مَن عجز عن الأضحية من المسلمين، ناله أجر المُضَحِّين من أمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عند ذبحه لأحد الكبشين: "اللهم هذا عني، وعمّن لم يُضحِّ من أمتي " (3) . خامس عشر: قال ابن قدامة في "المغني " (11/95) : وقد ضحّى النبي - صلى الله عليه وسلم - والخُلَفاء الرّاشِدون بعَده، ولو عَلِمُوا أنَّ الصدقةَ أفضلُ لَعَدلُوا إليها.. ولأنّ إيثارَ الصَدَقةِ على الأضحيةِ يُفْضي إلى تَرْكِ سنّةٍ سنَّها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -.
منكرات العيد
-21- منكرات العيد: اعلم أخي المسلم- فقهني الله وإياك- أن السرور الذي يحصل في الأعياد، قد جعل كثيراً من الناس ينسون أو يتناسون أمور دينهم، وأحكام إسلامهم، فتراهم يرتكبون المعاصي، ويفعلون المنكرات، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً!! هذا كلُّه دفعني لأن أضيف على رسالتي هذه، هذا المبحثَ المفيد، لما له من أثر في تذكير المسلمين بمانَسَوه، وتنبيههم على ماقد غفلوا عنه (1) ، فَمِن هذه المنكرات: أولأ: التزيُّنُ بحلق اللحية، وهو الأمر الذي عليه كثير من الناس، وحلق اللحية مُحَرّمٌ في دين الله سبحانه، دل على ذلك الأحاديث الصحيحة، التي
فيها الأمر بإعفائها، إما مقروناً بعلة التشبه بالمشركين، ومِن ثَمّ مخالفتهم، أو ليس مقروناً بذلك، وهي أيضاً من الفطرة التي لا يجوز لنا تغييرها، والتنصيص على حرمة حلقها موجود في كتب المذاهب الأربعة (1) ، فليعلم ذلك. ثانياً: مصافحة النساء الأجنبيّات- غير المُحَرّمات-، وهذا مما تعم به البلوى، ولم يَنْجُ منه إلا من رحم اللهُ، وهومُحَرّمٌ، لقوله عليه الصلاة
والسلام: "لأن يُطعن في رأس رجل بمخيط من حديد، خير من أن يمس امرأة لا تحل له " (1) ، وهذا التحريم منصوص عليه في كتب المذاهب الأربعة (2) ، فتنبه. ثالثاً: التشبّه بالكفار والغربيين في الملابس واستماع المعازف وغيرهما من المنكرات، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من تشبه بقوم فهو منهم" (3) .
ولقوله عليه الصلاة والسلام: "ليكونن من أمَّتي أقوام يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب عَلَم يروح عليهم بسارحةٍ لهم، يأتيهم- يعني الفقير- لحاجة فيقولوا: ارجع إلينا غداً، فَيُبَيّتُهم الله، ويَضَعُ العَلَمَ، ويمسخُ آخرينَ قردة وخنازير إلى يوم القيامة" (1) .
رابعاً: الدخول على النساء، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إياكم والدخول على النساء"، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو؟ قال: " الحموُ الموتُ" (1) . قال العلامة الزمخشري شارحأ كلمة "الحَمْو": [الجمع] أحماء: أقرباء الزوج كالأب (2) والأخ
والعم وغيرهم،.. وقوله: "الحموُ الموتُ"، معناه: أنَ حماها [هو] الغايةُ في الشر والفساد، فشبّهه بالموت، لأنه قصارى كل بلاء وشدة، وذلك أنه شر من الغريب من حيث إنه آمِن مُدِلّ، والأجنبي متخوف مترقب، وُيحتمل أن يكون دعاءً عليها، أي: كأنَّ الموتَ منها بمنزلة الحَمِ الداخل عليها إن رضيت بذلك (1) . خامساً: تبرُّج النساء، وخروجهن إلى الأسواق وغيرها، وهذا مُحرم في شريعة الله، يقول الله تعالى: (وَقَرْنَ في بُيُوتِكُن وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيةِ الأوْلَى وَأقِمْنَ الضَلاَةَ وَآتِيْنَ الزكَاةَ) [الأحزاب: 33] ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((صنفان من أهل النار لم أرهما: ...
ونساء كاسيات عاريات مائلات (1) ، رؤوسهن كأسْنِمَةِ البخت (2) المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا" (3) . سادساً: تخصيص زيارة القبور يوم العيد، وتوزيع الحلويات والمأكولات فيها، والجلوس على القبور، والاختلاط، والسفور الماجن، والنياحة على الأموات، وغير ذلك من المنكرات الظاهرة (4) .
سابعاً: الِإسراف والتبذير فيما لا طائل تحته، ولا مصلحة فيه، ولا فائدة منه، يقول الله تعالى: (وَلا تُسْرِفُوا إنهُ لا يُحبّ المُسْرِفين) [الأنعام: 141] و [الأعراف: 31] ويقول جل شانه: (وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إنً المُبَذرينَ كانوا إِخْوَانَ الشياطين) [الإِسراء: 26، 27] . ويقول - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يُسأل عن ... وماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه" (1) . ثامناً: تركُ كثير من الناسِ الصلاةَ في المسجد
من غير عذر شرعي، واقتصار البعض على صلاة العيد دون سائر الصلوات! تالله إنها لِإحدى الكُبر. تاسعاً: توافُدُ كثيرٍ من العامّةِ على المقابر بعد فجر يوم العيد، تاركين صلاة العيد، مُتَلَبّسين ببدعةِ تخصيص زيارة القُبور يومَ العيد (1) . ويزيدُها بعضُهم بوضع سُعُفِ النًخْل (2) ، وفروعِ الأشجار!! وكل هذا لا أصل له في السُنَّة. عاشراً: عدم التعاطف مع الفقراء والمساكين، فيُظهِرُ أبناءُ الأغنياءِ السرورَ والفرح، ويأكلون
المأكولات الشهية، يفعلون هذا كله أمام الفقراء وأبنائهم، دون شعور بالعطف أو التعاون أو المسؤولية، مع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" (1) . حادي عشر: البدع التي يفعلها كثير من المُتمشيخين بدعوى التقرب إلى الله، مع أنها لا أصل لها في دين الله تعالى، وهي بدع كثيرة (2) ، ولن أذكر منها إلا شيئاً واحداً- لئلا تخرج الرسالة عن مقصودها،- فإِن كثيراً من الخطباء والوعاظ يلهجون به، وهو التقرب إلى الله سبحانه بإحياء ليلتي العيد، ولا يفعلون ذلك فحسب، بل ينسبون ذلك لرسول
فهل هذا هو العيد؟
الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أحيى ليلة الفطر والأضحى، لم يمت قلبه يوم تموت القلوب" (1) ، ولا تجوز نسبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -. -22- فهل هذا هو العيد؟ ما العيدُ إلا أن نعودَ لديننا ... حتى يعودَ قدسُنا المفقودُ ما العيدُ إلا أن نكون أمةً ... فيها محمدُ لا سواه عميدُ ما العيدُ إلا أن نعدّ نفوسَنا ... للحرب حيث بها هناك نَجُودُ ما العيدُ إلا أن تكون قلوبُنا ... نحو العدوّ كأنها جلمودُ (2)
كونوا أشداءً على أعدائكم ... واللهِ إن عدوّكم لعنيدُ فالمسلمونَ مُكَلّفون بواجب ... لم يُلههم عنه هوىً وجمودُ والمسلمونَ كبيرُهم وصغيرُهم ... بين الخلائق عالَمٌ محمودُ (1) .
الخاتمة
-23- الخاتِمَة هذا آخر ما يَسَّر الله لي جمعَه وترتيبَه في العيدين وأحكامهما وما يتعلق بهما من فقه لا يستغني عنه المسلم العامي، فضلاً عن طالب العلم، أقدمها تذكرة للمسلمين جميعاً، حتى يُصححوا عباداتهم، وُيقوِّموا قُرُباتهم، اتقاءً لله، وخوفاً من الله، ومحبة في الله، فإن أخطات فمن نفسي ومن الشيطان، وإن أصبت فمن الله وحده. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وكتب: أبو الحارث علي بن حسن بن علي، الزرقاء، الأردن، في الخامس عشر من شهر صفر
الخير من السنة الرابعة بعد الأربع مئة والألف من الهجرة النبوية. ثم أعدتُ النَّظَرَ فيه، وزدتُ عليه، في مجالسَ متعدّدة مِن غُرّة شعبان سنة ثلاث عشرةَ وأربع مئةٍ وألف للهجرة.