أحكام الجنائز
سعيد بن وهف القحطاني
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخليله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فهذه رسالة في ((أحكام الجنائز)) بيّنت فيها بتوفيق الله تعالى: مفهوم الجنائز، والأمور التي ينبغي للمسلم العناية بها عناية فائقة؛ لاغتنام الأوقات والأحوال بالأعمال الصالحة قبل فوات الأوان، وذكرت الأمور التي تعين على الاستعداد للآخرة بالأعمال الصالحة، والاجتهاد في حال الصحة والفراغ في الأعمال الصالحة؛ لتكتب للمسلم في حال العجز والسقم، وذكرت أسباب حسن الخاتمة، وبيّنت آداب المريض الواجبة والمستحبة، وآداب زيارة المريض، والآداب الواجبة والمستحبة لمن حضر وفاة المسلم، وذكرت الأمور التي تجوز للحاضرين وغيرهم، والأمور الواجبة على أقارب الميت، والأمور المحرَّمة على أقارب الميت وغيرهم، وبيّنت النعي الجائز، والمحرَّم، ثم ذكرت العلامات التي تدل على حسن الخاتمة، وبيّنت فضائل الصبر والاحتساب على المصائب، ثم بيّنت أحكام غسل الميت، وتكفينه، والصلاة عليه، وأحكام حمل الجنازة واتباعها وتشييعها، وأحكام الدفن وآدابه، وآداب الجلوس والمشي في
المقابر، ثم ذكرت أحكام التعزية، وفضلها، وبيّنت أن القُرَب المهداة إلى أموات المسلمين تصل إليهم حسب الدليل، ثم ذكرت أحكام زيارة القبور وآدابها، وختمت ذلك بذكر أحكام إحداد المرأة على زوجها، وذكرت أصناف المعتدات، وقد اجتهدت أن ألتزم في ذلك بالدليل من الكتاب والسنة أو من أحدهما ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. وقد استفدت كثيراً من تقريرات شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - ومن كتب العلامة محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله - والعلامة محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله تعالى-. وقد أفردت هذه الرسالة من كتابي ((صلاة المؤمن)) ليسهل الانتفاع بها. والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به كل من انتهى إليه؛ وأن ينفعني به في حياتي وبعد مماتي؛ فإنه خير مأمول، وأكرم مسؤول، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله، وسلم، وبارك، على عبده ورسوله نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أبو عبد الرحمن سعيد بن علي بن وهف القحطاني حرر بعد مغرب يوم الثلاثاء الموافق 1/ 1/1424هـ
أولا: مفهوم الجنائز
صلاة الجنائز أولاً: مفهوم الجنائز: بفتح الجيم لا غير: جمع جِنَازة. والجنازة: بكسر الجيم وفتحها لغتان، والكسر أفصح. وقيل: ((الجَنَازَةُ)) بالفتح للميت، وبالكسر ((الجِنازةُ)) للنعش عليه ميت. وقيل: عكسه (¬1). قال الإمام ابن الأثير: ((والجنازة بالكسر والفتح: الميت بسريره، وقيل: بالكسر: السرير، وبالفتح: الميت)) (¬2). وقال الفيروزآبادي: ((الجِنَازةُ: الميت، ويفتح، أو بالكسر: الميت وبالفتح: السرير، أو عكسه، أو بالكسر: السرير مع الميت)) (¬3)، والله تعالى أعلم (¬4). قال الإمام النووي - رحمه الله -: ((الجنازة مشتقة من جنز إذا سُتِرَ)) (¬5). ثانياً: اغتنام الأوقات والأحوال بالأعمال الصالحة قبل فوات الأوان؛ لقول الله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى ¬
مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ الله وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (¬1). وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (¬2). وقال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ الله نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَالله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬3). فكل مفرِّط يندم عند الاحتضار يسأل طول المدة ولو شيئاً يسيرا؛ ليستعتب ويستدرك ما فاته، وهيهات كان ما كان، وأتى ما هو آتٍ، وكلٌّ بحسب تفريطه، أما الكفار فكما قال الله تعالى (¬4): {وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ} (¬5). وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي ¬
أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (¬1). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)) (¬2). وهذا يدل على أن من لم يستعمل نعمة الصحة والفراغ فيما ينبغي فقد غُبِنَ؛ لكونه باعهما بثمنٍ بخسٍ، ولم يُحمد رأيه في ذلك، ولاشكَّ أن المرء لا يكون فارغاً حتى يكون مكفياً صحيح البدن، فمن حصل له ذلك فليحرص على أن لا يُغبَن بأن يترك شكر الله على ما أنعم به عليه، ومن شُكْرِه امتثالُ أوامره واجتنابُ نواهيه، فمن فرَّط في ذلك فهو المغبون، والذي يوفَّق لذلك قليل من الناس، ومعلوم أن الإنسان قد يكون صحيحاً ولا يكون متفرِّغاً لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنياً ولا يكون صحيحاً، فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون، وتمام ذلك: أن الدنيا مزرعة الآخرة، وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط، ومن استعملها في معصية الله فهو المغبون؛ لأن الفراغ يعقبه الشغل، والصحة يعقبها السقم، ولو لم يكن إلا الهرم كما قيل: يسر الفتى طولُ السلامة والبقا ... فكيف ترى طول السلامة يفعل يُرد الفتى بعد اعتدال وصحةٍ ... ينوء إذا رام القيامَ ويحملُ (¬3) ¬
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل وهو يعظه: ((اغتنم خمساً قبل خمس: شبابَك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغِناك قبل فقرك، وفراغَك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)) (¬1). ورحم الله الإمام البخاري فقد أحسن حين قال: اغتنم في الفراغ فضل ركوع ... فعسى أن يكون موتك بغتة كم صحيح رأيت من غير سَقم ٍ ... ذهبت نفسه الصحيحة فلتة (¬2) وقد أحسن البستي – رحمه الله – حين قال: يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته ... أتطلب الربح فيما فيه خسران؟ أقبل على النفس واستكمل فضائلها ... فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان (¬3) ولا ريب أنه ينبغي الاستعداد لما بعد الموت بالأعمال الصالحة، والتوبة من جميع الذنوب؛ لأن الموت قد يأتي بغتة، قال الإمام البخاري – رحمه الله –: ((بابُ موتِ الفُجاءة (¬4): البغتة))، ثم ذكر حديث سعد بن عبادة ¬
- رضي الله عنه - حين قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أمي افتُلتت نفسها، وأظنها لو تكلمت تصدَّقتْ، فهل لها أجر إن تصدَّقتُ عنها؟ قال: ((نعم)) (¬1). وعن عبيد بن خالد السلمي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((موت الفَجْأَةِ أخذةُ أسَفٍ (¬2)) (¬3). وكره بعض السلف موت الفجأة (¬4)؛ لما في ذلك - والله أعلم - من خوف حرمان الوصية، وترك الاستعداد للمعاد بالتوبة، وغيرها من الأعمال الصالحة، وقد نقلت كراهة موت الفجاءة عن الإمام أحمد، وبعض الشافعية، ونقل الإمام النووي: أن جماعة من الأنبياء والصالحين ماتوا موت الفجأة؛ قال الإمام النووي - رحمه الله -: ((وهو محبوب للمراقبين)) (¬5).قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: ((وبذلك يجتمع ¬
القولان)) (¬1). وورد ما يؤيد عدم كراهة موت الفجاءة للمؤمن، فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: ((موت الفجاءة تخفيف على المؤمن، وأسف على الكافر)) هذا لفظ عبد الرزاق، والطبراني في المعجم الكبير، ولفظ ابن أبي شيبة: ((موت الفجاءة راحة على المؤمنين، وأسف على الكفار)) (¬2). ورُوي من حديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن موت الفجأة؟ فقال: ((راحة للمؤمن وأخذة أسَفٍ للفاجر)) (¬3). وعن عبد الله بن مسعود وعائشة رضي الله عنهما قالا: ((موت الفجاءة رأفة بالمؤمن، وأسف على الفاجر)) (¬4). وما أحسن ما استشهد به الإمام البيهقي – رحمه الله – في كتاب الجنائز، باب موت الفجاءة (¬5) من حديث أبي قتادة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬
مُرَّ عليه بجنازة فقال: ((مستريح ومستراح منه)) قالوا: يا رسول الله! ما المستريح والمستراح منه؟ فقال: ((العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا، والعبد الفاجر يستريح منه العباد، والبلاد، والشجر، والدواب)) (¬1). وثبت في الحديث: ((ما من عبد يموت له عند الله خير يسره أن يرجع إلى الدنيا وأن له الدنيا وما فيها إلا الشهيد؛ لما يرى من فضل الشهادة، فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى)) (¬2). فينبغي الاستعداد، قال شيخنا الإمام ابن باز - رحمه الله -: ((فينبغي الاستعداد؛ ولهذا كان من دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءَةِ نقمتك، وجميع سخطك (¬3)) (¬4). وما أجمل ما قاله محمود الوراق: مضى أمسُك الماضي شهيداً مُعدَّلاً ... وأعقبه يوم عليك جديدُ فإن كنت بالأمس اقترفت إساءةً ... فثنِّ بإحسانٍ وأنت حميدُ فيومك إن أعتَبتَه عاد نَفعُهُ ... عليك وماضي الأمس ليس يعودُ ولا تُرجِ فِعلَ الخير يوماً إلى غدٍ ... لعلَّ غداً يأتي وأنت فقيدُ (¬5) وقال آخر: ¬
ثالثا: الاجتهاد في حالة الصحة في الأعمال الصالحة
نسير إلى الآجال في كل لحظةٍ ... وأيامنا تطوى وهُنَّ مراحل ولم أرَ مثل الموتِ حقّاً كأنه ... إذا ما تخطته الأماني باطلُ وما أقبح التفريط في زمن الصبا ... فكيف به والشيب للرأس شاملُ ترحَّلْ من الدنيا بزادٍ من التقى ... فعُمْرُك أيامٌ وهنّ قلائلُ (¬1) وما أحسن ما قاله الشاعر الحكيم: من فاته الزرع في وقت البذار فما ... تراه يحصد إلا الهمّ والندما وقال آخر: نتوب من الذنوب إذا مرضنا ... ونرجع للذنوب إذا برينا وكم عاهدت ثم نقضت عهداً ... وأنت لكل معروف نسيتا ثالثاً: الاجتهاد في حالة الصحة في الأعمال الصالحة؛ لتكتب للمسلم في حال عجزه عن العمل؛ لحديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا مرض العبد أو سافر كُتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً)) (¬2). رابعاً: الأمور التي تعين على الاستعداد للآخرة بالأعمال الصالحة كثيرة منها: 1 - الإكثار من ذكر الموت والاستعداد للقاء الله تعالى: ينبغي للمسلم أن يكثر من ذكر الموت، ويبادر بالأعمال الصالحة قبل أن يأتيه الموت بغتة فيندم حين لا ينفع الندم؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أكثروا ذِكْرَ هاذِم اللذَّات)) (¬3) يعني الموت، وفي لفظ لابن حبان: ((أكثروا ¬
ذكر هاذِم اللذات، فما ذكره عبد قط وهو في ضيقٍ إلا وسَّعه عليه، ولا ذكره وهو في سعةٍ إلا ضيقه عليه)) (¬1)، وفي لفظ لابن حبان أيضاً: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول: ((أكثروا من ذكر هاذِم اللذات)) (¬2)، فالموت يقطع اللذات ويزيلها، والحديث دليل على أنه لا ينبغي للإنسان أن يغفل عن ذكر أعظم المواعظ وهو الموت، قال الإمام الصنعاني: ((وقد ذكر في آخر الحديث فائدة الذكر بقوله: ((فإنكم لا تذكرونه في كثير إلا قلَّلهُ، وقليل إلا كثَّره)) (¬3). وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءه رجل من الأنصار فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: يا رسول الله! أي المؤمنين أفضل؟ قال: ((أحسنهم خُلُقاً)) قال: فأي المؤمنين أكيس (¬4)؟ قال: ((أكثرهم للموت ذكراً، وأحسنهم لما بعده استعداداً، أولئك الأكياس)) (¬5). ¬
قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} (¬1). وقال جلَّ وعلا: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} (¬2). وقال - سبحانه وتعالى -: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} (¬3). وقال الله - عز وجل -: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ*وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ*وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لا تُبْصِرُونَ* فَلَوْلا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ*تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (¬4). وقال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬5). وقال تعالى: {كَلا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} (¬6). وقال الله - عز وجل -: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ ¬
الْغَفُورُ} (¬1). وقال الله - عز وجل -: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} (¬2). وقال سبحانه: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى الله مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} (¬3). قال زُهير بن أبي سلمى: ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو رام أسباب السماء بسلم (¬4) وقال آخر: الموت باب كل الناس داخله ... فليت شعري بعد الباب ما الدار الدار جنة خلدٍ إن عملت بما يرضي ... الإله، وإن فرطت فالنارُ وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((يا محمد عِشْ ما شئتَ فإنك ميتٌ، وأحببْ من شئتَ فإنك مفارقُه، واعملْ ما شئتَ فإنك مَجزيٌّ به))، ثم قال: ((يا محمد شرف المؤمن قيام الليل، وعزُّه استغناؤه عن الناس)) (¬5). ¬
2 - ذكر القبر والبلى
وما أحسن ما قال الشاعر الحكيم: وما هذه الأيام إلا مراحل ... يحثُّ بها داعٍ إلى الموت قاصداً وأعجب شيء لو تأملت أنها ... منازل تطوع والمسافر قاعد (¬1) وقال آخر: أيا ويح نفسي من نهار يقودها ... إلى عسكر الموت وليلٍ يذودُها (¬2) 2 – ذكر القبر والبلى؛ لحديث هانئ مولى عثمان - رضي الله عنه - قال: كان عثمان إذا وقف على قبرٍ بكى حتى يَبُلَّ لحيته، فقيل له: تُذكرُ الجنة والنارُ فلا تبكي وتبكي من هذا؟ فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينجُ منه فما بعده أشدُّ منه)) قال: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما رأيت منظراً قطُّ إلا والقبرُ أفظعُ (¬3) منه)) (¬4). والقبر أقرب شيء للإنسان، وشدته أمارة للشدائد كلها، وهو أشد وأشنع المناظر في الدنيا، وحيث خُصَّ بمناظر الدنيا اندفع ما يتوهم أن هذا ينافي قوله: ((فما بعده أشدُّ منه)) على أنه يمكن الجواب إذا عمم بأنه أفظع من جهة الوحشة، والوحدة، وغيره أشد عذاباً منه فلا إشكال (¬5). ¬
3 - قصر الأمل والاستعداد للموت بالأعمال الصالحة
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس شيء من الإنسان إلا يبلى إلا عظماً واحداً وهو عَجْبُ الذَّنب، ومنه يُركَّبُ الخلق يوم القيامة)) (¬1). 3 – قصر الأمل والاستعداد للموت بالأعمال الصالحة، قال الله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (¬2). قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ((ارتحلت الدنيا مدبرةً، وارتحلت الآخرة مقبلةً، ولكل واحدةٍ منها بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإن اليوم عملٌ ولا حساب، وغداً حسابٌ ولا عمل)) (¬3). وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: خطَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - خطّاً مربعاً، وخطَّ خطّاً في الوسط خارجاً منه، وخطَّ خُطَطاً صغاراً إلى الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: ((هذا الإنسان وهذا أجَلُهُ محيطٌ به – أو قد أحاط به – وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخُطَطُ الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا)) (¬4). وعن أنس - رضي الله عنه - قال: خطَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - خطوطاً فقال: ((هذا الأمل وهذا أجله، فبينما هو كذلك إذ جاءه الخط الأقرب)) (¬5). ¬
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)). وكان ابن عمر يقول: ((إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك)) (¬1). وقال بعض السلف: سبيلك في الدنيا سبيل مسافرٍ ... ولابد من زادٍ لكل مسافر ولابد للإنسان من حملِ عُدَّةٍ ... ولاسيما إن خاف صولة قاهرِ (¬2) وقال الألبيري – رحمه الله تعالى –: فليست هذه الدنيا بشيء ... تسؤك حِقبة وتسرُّك وقتَا وغايتُها إذا فكرت فيها ... كفيِّك أو كحلمك إذا حلمتا سُجنت بها وأنت لها محبُّ ... فكيف تُحبُّ ما فيه سُجنتا وتُُطعمكَ الطعام وعن قريبٍ ... ستطعم منك ما فيها طعِمتا وتشفق للمصرِّ على المعاصي ... وترحمه ونفسك ما رحمتا (¬3) وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يزال قلب الكبير شابّاً في اثنتين: في حب الدنيا وطول الأمل)) (¬4). وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يَكْبرُ ابنُ آدم ويكبَرُ معه ¬
اثنتان: حب المال وطول العمر)) ولفظ مسلم: ((يهرمُ ابن آدم وتشبُّ منه اثنتان: الحرص على المال والحرص على العمر)) (¬1). ومعناه أن قلب الشيخ كامل الحب للمال متحكم في ذلك كاحتكام قوة الشاب في شبابه، وسماه شابّاً إشارة إلى استحكام حبه للمال أو هو من باب المشاكلة والمطابقة (¬2). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز – رحمه الله – يقول: ((يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنان)) أي يقوى معه اثنان، هذه طبيعة الإنسان: حب الدنيا وطول الأمل إلا من رحم الله، فالواجب على المؤمن أن يحذر، وأن يعتبر هذه الدار مزرعة، فيجتهد في الزرع للآخرة، حتى يحصد يوم القيامة ما ينفعه)) (¬3). وما أحسن قول بعض السلف الصالح: إنّا لنفرح بالأيام نقطعها ... وكل يومٍ مضى يدني من الأجل فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً ... فإن الربح والخسران في العمل (¬4) وقال آخر: تزوّد للذي لابد منه ... فإن الموت ميقات العباد أترضى أن تكون رفيق قوم ... لهم زاد وأنت بغير زاد وقال آخر: تزود من التقى فإنك لا تدري ... إذا جنَّ ليلٌ هل تعيش إلى الفجر ¬
فكم من صحيحٍ مات من غير علةٍ ... وكم من عليل عاش حيناً من الدهر وقال أبو العتاهية: وما أدري وإن أمَّلت عُمراً ... لعلي حين أصبح لست أُمسي ألم تر أن كلَّ صباح يوم ... وعمرك فيه أقصر منه أمسِ (¬1) وقال آخر: يا من بدنياه اشتغل ... وغرَّه طولُ الأمل الموت يأتي فجأةً ... والقبر صندوقُ العمل عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، فتكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كالصَّرمة بالنار)) (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، فتكون السنة كالشهر، ويكون الشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كاحتراق السعفة أو الخوصة)) (¬3). وتقارب الزمان بقلّة البركة فيه، قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله –: ((قد وُجد في زماننا هذا من سرعة الأيام ما لم نكن نجده في العصر الذي قبل عصرنا هذا)) (¬4). وقيل: سرعة الزمان بسبب وسائل الاتصالات السريعة. ¬
4 - القناعة وغنى النفس والتوكل على الله
4 – القناعة وغنى النفس والتوكل على الله - عز وجل -؛لحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تُسدَّ فاقتُهُ، ومن نزلت به فاقةٌ فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجلٍ أو آجلٍ)) (¬1).ولفظ أبي داود: ((من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسدَّ فاقته، ومن أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى: إما بموتٍ عاجلٍ أو غِنىً عاجلٍ)) (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ليس الغنى عن كثرة العَرَضِ ولكن الغنى غنى النفس)) (¬3). وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((قد أفلح من أسلم، ورُزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه)) (¬4). وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن هذا المال خَضِرةٌ حُلوةٌ فمن أخذه بحقه ووضعه في حقه فنِعْمَ المعونةُ هُوَ، ومن أخذه بغير حقِّه كان كالذي يأكل ولا يشبع)) (¬5). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من يأخذ عني هؤلاء الكلمات فيعمل بهن أو يعلِّم من يعمل بهنَّ؟ فقال أبو هريرة: فقلت: أنا ¬
يا رسول الله، فأخذ بيدي فعدَّ خمساً، وقال: اتقِ المحارمَ تكنْ أعبدَ الناس، وارضَ بما قسم الله لك تكنْ أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمناً، وأحبَّ للناس ما تحبُّ لنفسك تكن مسلماً، ولا تكثر الضحكَ، فإن كثرةَ الضحكِ تميتُ القلبَ)) (¬1). وعن سلمةَ بنِ عُبيد الله بن مِحْصَن الأنصاري عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أصبح منكم آمناً في سربه (¬2)، معافىً في جسده، عنده قوتُ يومه، فكأنما حيزت (¬3) له الدنيا)) (¬4). وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن ناساً من الأنصار سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم حتى إذا نفد ما عنده قال: ((ما يكن عندي من خير فلن أدّخرَه عنكم، ومن يستعففْ يعفَّه الله، ومَن يستغنِ يُغنهِ الله، ومن يتصبَّر يُصَبِّرْهُ الله، وما أعطي أحدٌ عطاءً خيرٌ وأوسعُ من الصبر)) (¬5). ¬
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم)) (¬1). فينبغي أن ينظر المسلم إلى من هو فوقه في الدين فيقتدي به وينافسه في الطاعات، وينظر إلى من هو دونه في الدنيا فيحمد الله تعالى (¬2). ومن لم يقنع كان كالذي يأكل ولا يشبع، وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الطمع، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لو كان لابن آدم واديان من مالٍ لابتغى ثالثاً، ولا يملأُ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب)).وفي لفظ للبخاري: ((ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب)).وفي لفظ لمسلم: ((ولا يملأ نفس ابن آدم إلا التراب، والله يتوب على من تاب)) (¬3). وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه خطب في مكة فقال: ((يا أيها الناس، إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ((لو أن ابن آدم أعطي وادياً ملآن من ذهب أحب إليه ثانياً، ولو أعطي ثانياً أحب إليه ثالثاً، ولا يسدُّ جوف ¬
ابن آدم إلا التراب، ويتوبُ الله على من تاب)) (¬1). وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو أن لابن آدم وادياً من ذهب أحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب ويتوب الله على من تاب)). ولفظ مسلم: ((لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب)) (¬2). وفي حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -: ((لو كان لابن آدم واديان من مالٍ لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب)) (¬3). وسمعت شيخنا ابن باز – رحمه الله – يقول: ((والمقصود من هذا كله الحذر من الانشغال بالمال والفتنة بالمال، وأن المؤمن ينبغي أن يكون أكبر همه العمل للآخرة، وأن لا ينشغل بالدنيا وشهواتها، فهو لم يخلق لها، [وإنما] خلق ليعمل فيها للآخرة فلا ينبغي أن ينشغل بها عما خُلِقَ له)) (¬4). ويوضح ذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) (¬5). وفي حديث عمرو بن عوف الأنصاري - رضي الله عنه - في قصة قدوم أبي عبيدة من ¬
5 - الإكثار من التفكر في أحوال المحتضرين
البحرين: ((أظنكم قد سمعتم أنَّ أبا عبيدة قد جاء بشيء)) قالوا: أجل يا رسول الله، قال: ((فأبشِروا وأمِّلوا ما يسُّركم، فوالله لا الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسط عليكم الدنيا كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلكَكُم كما أهلكتهم)) وفي رواية: ((وتلهيكم كما ألهتهم)) (¬1). 5 – الإكثار من التفكر في أحوال المحتضرين. جاء في القرآن الكريم وفي السنة النبوية الشريفة بيان أحوال المحتضرين عند الموت، ومن ذلك على سبيل المثال ما يأتي: قال الله تعالى: {كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ، وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} (¬2) يعظ الله تعالى عباده بذكر حال المحتضر عند السياق، وأنه إذا بلغت روحه التراقي – وهي العظام المكتنفة لثغرة النحر، التي بين ثغرة النحر والعاتق – فحينئذ يشتد الكرب والأهوال ثبتنا الله هناك بالقول الثابت، وفي هذه الحال تُطلب كل وسيلة وسبب يُظن أنه يحصل بها شفاء، ولكن إذا جاء قضاء الله وقدره فلا مردَّ له (¬3). وقال الله تعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * ¬
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} (¬1). فقوله تعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ} الروح {الْحُلْقُومَ} أي الحلق وذلك حين الاحتضار، كما قال تعالى: {كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} ولهذا قال هاهنا: {وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} أي المحتضر وما يكابده من سكرات الموت {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} أي بعلمنا وملائكتنا، {وَلَكِن لا تُبْصِرُونَ} أي ولكن لا ترونهم، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى الله مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} (¬2) وقوله تعالى: {فَلَوْلا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} معناه: فهلا ترجعون هذه النفس التي قد بلغت الحلقوم إلى مكانها الأول ومقرها من الجسد {إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} يعني محاسبين، وقيل: {إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} يعني غير مصدقين أنكم تدانون وتبعثون وتجزون فردوا هذه النفس، وقيل: المعنى ¬
غير موقنين، وقيل: غير معذبين مقهورين (¬1). وقد ذكر الله - عز وجل - أحوال الطوائف الثلاث: المقربين، وأصحاب اليمين، والمكذبين الضالين في أول هذه السورة في دار القرار، ثم ذكر أحوالهم في آخرها عند الاحتضار، والموت وهي ثلاثة أحوال كذلك: * فقال: {فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} أي إن كان الميت من المقربين، وهم الذين فعلوا الواجبات، والمستحبات، وتركوا المحرمات، والمكروهات، وبعض المباحات {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} أي فلهم ((روح)) راحة، وطمأنينة، وسرور، وبهجة، ونعيم القلب والروح، ورحمة، وفرح، واستراحة، وراحة من الدنيا، ورخاء، ورزق، قال الإمام ابن كثير – رحمه الله تعالى –: ((وكل هذه الأقوال متقاربة)) (¬2)، {وَرَيْحَانٌ} هو اسم جامع لكل لذة بدنية من أنواع المآكل والمشارب وغيرهما، وقيل: الريحان: هو الطِّيب المعروف، فيكون تعبيراً بنوع الشيء عن جنسه العام (¬3)، وقوله: {وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} جامعة للأمرين كليهما، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فَبُشِّرَ المقربون عند الاحتضار بهذه البشارة التي تكاد تطير منها الأرواح من الفرح والسرور، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ ¬
تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} (¬1) ويفسر ذلك قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬2). وأن هذه البشارة المذكورة هي البشرى في الحياة الدنيا (¬3). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه))، قالت عائشة رضي الله عنها أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت؟ قال: ((ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بُشِّر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حُضِرَ بُشِّر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه، فكره لقاء الله وكره الله لقاءه)). وفي رواية مسلم: ((ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا بُشِّر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله، فأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا بُشِّر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه)). وفي لفظ لمسلم: ((والموت قبل لقاء الله)) (¬4). قال الإمام ابن كثير–رحمه الله–في قوله: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} أي فلهم روح وريحان، وتبشرهم الملائكة بذلك عند الموت، كما في ¬
حديث البراء: أن ملائكة الرحمة تقول: ((أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينه، اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان)) (¬1)، وحديث البراء - رضي الله عنه - له ألفاظ منها: ((إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن على وجوههم الشمس معهم أكفان من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت - عليه السلام - حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة [وفي رواية المطمئنة] اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ... )) الحديث وفيه: ((وإن العبد الكافر [وفي رواية: الفاجر] إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة [غلاظ شداد] سود الوجوه معهم المسوح [من النار] فيجلسون منه مدَّ البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب ... )) الحديث (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا حُضِرَ المؤمن أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء، فيقولون: اخرجي راضية مرضيّاً عنك إلى روح ¬
وريحان وربٍّ غير غضبان، فتخرج كأطيب ريح المسك، حتى إنه ليتناوله بعضهم بعضاً، حتى يأتون به السماء، فيقولون: ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض! فيأتون به أرواح المؤمنين، فَلَهُمْ أشد فرحاً به من أحدكم بغائبه يقدم عليه، فيسألونه: ما فعل فلان؟ ماذا فعل فلان؟ فيقولون: دَعُوه؛ فإنه كان في غمِّ الدنيا، فإذا قال: أما أتاكم؟ قالوا: ذُهِبَ به إلى أمِّهِ الهاوية، وإن الكافر إذا حُضِر أتته ملائكة العذاب بمسْحٍ، فيقولون: اخرجي ساخطة مسخوطاً عليك إلى عذاب الله - عز وجل -، فتخرج كأنتن ريح جيفة، حتى يأتون به باب الأرض، فيقولون: ما أنتن هذه الريح! حتى يأتون به أرواح الكفار)) (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه: ((إذا خرجت روح المؤمن تلقَّاها ملكان يصعدانها، فذكر من طيب ريحها وذكر المسك، ويقول أهل السماء: روح طيبة جاءت من قبل الأرض، صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه، فينطلق به إلى ربه - عز وجل -، ثم يقول: انطلقوا به إلى آخر الأجل، وإن الكافر إذا خرجت روحه وذكر من نتنها، وذكر لعناًً، ويقول أهل السماء: روح خبيثة جاءت من قبل الأرض، فيقال: انطلقوا به إلى آخر الأجل)) (¬2). قال الله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} (¬3)،قال الإمام ابن كثير – ¬
رحمه الله –: ((وهذا يقال لها عند الاحتضار وفي يوم القيامة أيضاً، كما أن الملائكة يبشرون المؤمن عند احتضاره وعند قيامه من قبره، فكذلك هاهنا)) (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أيضاً، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل صالحاً قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا يزال يقال لها، حتى تخرج، ثم يُعرج بها إلى السماء، فيُفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقولون: فلانٌ، فيقال: مرحباً بالنفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، ادخلي حميدة، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا يزال يُقال لها ذلك حتى يُنتهى بها إلى السماء التي فيها الله - عز وجل -، وإذا كان الرجل السوء قال: اخرجي أيتها النفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة، وأبشري بحميم وغسَّاق، وآخر من شَكْلِه أزواج، فلا يزال يُقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يُعرج بها إلى السماء، فلا يفتح لها، فيُقال: من هذا؟ فيُقال: فلان، فيُقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة، فإنها لا تفتح لك أبواب السماء، فيُرسل بها من السماء، ثم تصير إلى القبر)) (¬2). * {وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} وهم الذين أدَّوا الواجبات، وتركوا المحرمات، وإن حصل منهم بعض التقصير في بعض الحقوق ¬
التي لا تخل بتوحيدهم، وإيمانهم، فهذا المحتضر تبشِّره الملائكة بالسلامة، وأنه لا بأس عليه، وأنه من أصحاب اليمين، وأنه قد سلم من عذاب الله، وتُسلّم عليه الملائكة (¬1)، وقيل: سلام حاصل لك من إخوانك أصحاب اليمين: أي يسلمون عليه ويحيُّونه عند وصوله إليهم، ولقائهم له، أو يقال له: سلام لك من الآفات، والبليات، والعذاب؛ لأنك من أصحاب اليمين الذين سلموا من الذنوب الموبقات (¬2). * {وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} أي وأما إن كان المحتضر من المكذبين بالحق الضالين عن الهدى {فَنُزُلٌ} أي ضيافة، {مِّنْ حَمِيمٍ} وهو الماء المذاب الذي يُصهر به ما في بطونهم والجلود، ويُغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه، بئس الشراب وساءت مرتفقاً {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} التي تحيط به وتغمره من جميع جهاته، نسأل الله العافية (¬3). * وينبغي للمؤمن أن لا ينسى سكرات الموت وشدته، ويذكر ذلك دائماً حتى يكون على استعداد للقاء الله تعالى، فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يوعك (¬4) فمسسته بيدي، فقلت: يا رسول الله إنك توعك وعكاً شديداً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أجلْ إني أوعك كما ¬
يوعكُ رجلان منكم)) قال: فقلت: ذلك أن لك أجرين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أجل ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه [شوكة فما فوقها] إلا حطَّ الله بها سيئاته كما تَحطُّ الشجرة ورقها)) (¬1). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما رأيت أحداً أشدَّ عليه الوجع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (¬2). قالت عائشة رضي الله عنها: ((فلا أكره شدة الموت لأحد أبداً بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -)) (¬3). وفي حديث آخر عن عائشة رضي الله عنها وفيه: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند موته جعل يديه في إناء صغير فيه ماء يدخلهما في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول: لا إله إلا الله، إن للموت سكرات)). وفي لفظ مسلم: ((اللهم اغفر لي، وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى)) (¬4). ومن أشمل الأحاديث في ذلك حديث البراء بن عازب قال: ((خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولمَّا يُلحد، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[مستقبل القبلة]، وجلسنا حوله، وكأنَّ على رؤوسنا ¬
الطير، وفي يده عود ينكت في الأرض، [فجعل ينظر إلى السماء، وينظر إلى الأرض، وجعل يرفع بصره ويخفضه، ثلاثاً]، فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر، مرتين أو ثلاثاًً [ثم قال: اللهم إن أعوذ بك من عذاب القبر] [ثلاثاً]، ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه، كأنَّ وجوهَهم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحَنوط (¬1) من حَنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مدَّ البصر، ثم يجيء ملك الموت - عليه السلام - (¬2) حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة (وفي رواية: المطمئنة)، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها، (وفي رواية: حتى إذا خرجت روحه صلى عليه كل مَلَك بين السماء والأرض، وكل مَلَك في السماء، وفُتحت له أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله أن يُعرج بروحه من قبلهم)، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط [فذلك قوله تعالى: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ}، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، قال: فيصعدون بها فلا يمرّون – يعني – بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان ابن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، ¬
فيفتح لهم، فيشيعه من كل سماء مقربوها، إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي به إلى السماء السابعة، فيقول الله - عز وجل -: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} فيكتب كتابه في عليين، ثم يقال]: أعيدوه إلى الأرض، فإني [وعدتهم أني] منها خلقتهم، وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فـ[يرد إلى الأرض، و] تُعاد روحه في جسده، [قال: فإنه يسمع خفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه] [مدبرين]، فيأتيه مَلَكان [شديدا الانتهار] فـ[ينتهرانه، و] يُجلسانه فيقولان له: من ربُّك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك: فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجلُ الذي بُعث فيكم؟ فيقولُ: هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيقولان له: وما عِلْمُكَ؟ فيقول: قرأت كتاب الله، فآمنت به، وصدَّقت، فينتهره فيقول: مَن ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ وهي آخر فتنة تُعرض على المؤمن، فذلك حين يقول الله - عز وجل -: {يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد - صلى الله عليه وسلم -، فينادي مناد في السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، قال: [وفي رواية: يُمَثلُ له] رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرُّك، [أبشر برضوان من الله، وجناتٍ فيها نعيمٌ مقيمٌ]، هذا يومك الذي كنت تُوعَد، فيقول له: [وأنت فبشرّك الله بخير] من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقولُ: أنا عملك الصالح [فوالله ما علمتك إلا كنت سريعاً في طاعة الله، بطيئاً في معصية الله، فجزاك الله خيراً]، ثم يُفتح له باب من
الجنة، وباب من النار، فيقال: هذا منزلك لو عصيت الله، أبدلك الله به هذا، فإذا رأى ما في الجنة قال: رب عجِّلْ قيام الساعة، كيما أرجع إلى أهلي ومالي، [فيقال له: اسكنْ]. قال: وإن العبد الكافر (وفي رواية: الفاجر) إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة [غلاظ شداد]، سود الوجوه، معهم المسوح (¬1) [من النار]، فيجلسون منه مدَّ البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخطٍ من الله وغضبٍ، قال: فتفرَّق في جسده فينتزعها كما يُنتزع السُّفودُ [الكثير الشُّعب من الصوف المبلول، [فتُقطع معها العروق والعصب]، [فيلعنه كل مَلَك بين السماء والأرض، وكل مَلَك في السماء، وتُغلق أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله ألا تعرج روحه من قبلهم]، فيأخذها، فإذا أخذها، لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وُجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرُّون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان ابن فلان – بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهيَ به إلى السماء الدنيا، فيُستفتح له، فلا يُفتح له، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} (¬2) فيقول الله - عز وجل -:اكتبوا كتابه في سجِّين، في الأرض السفلى، [ثم يقال: أعيدوا عبدي إلى الأرض فإني ¬
وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى]، فتطرح روحه [من السماء] طرحاً [حتى تقع في جسده]، ثم قرأ: {وَمَن يُشْرِكْ بِالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} فتعاد روحه في جسده، [قال: فإنه ليسمع خفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه]. ويأتيه ملكان [شديدا الانتهار، فينتهرانه، و] يجلسانه، فيقولان له: مَن ربك؟ [فيقول: هاهْ، هاهْ (¬1) لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاهْ هاهْ لا أدري]،فيقولان: فما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فلا يهتدي لاسمه، فيقال: محمد! فيقولُ: هاهْ هاهْ لا أدري [سمعت الناس يقولون ذاك! قال: فيقال: لا دريت]،ولا تلوت]،فيُنادي منادٍ من السماء أن: كذب، فأفرشوا له من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه (وفي رواية: ويُمثل له) رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، مُنتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت تُوعَد، فيقول: [وأنت فبشَّرك الله بالشر] من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر! فيقول: أنا عملك الخبيث، [فوالله ما علمتُ إلا كنتَ بطيئاً عن طاعة الله، سريعاً إلى معصية الله]، [فجزاك الله شراً، ثم يُقيَّض له أعمى أصم أبكم في يده مرزبة! لو ضُرب بها جبل كان تراباً فيضربه ضربة حتى يصير بها تراباً، ثم يعيده الله كما كان، فيضربه ضربة أخرى، فيصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين، ثم يُفتح له باب من ¬
6 - التفكر في أحوال الظالمين عند الاحتضار
النار، ويمهد من فرش النار]، فيقول: ربِّ لا تقم الساعة (¬1) (¬2). 6 - التفكُّر في أحوال الظالمين عند الاحتضار وما تفعل بهم الملائكة نسأل الله العافية. قال الله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} (¬3). وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ} (¬4). وقال الله - عز وجل -: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} (¬5). ¬
7 - تذكر الحمل على الأكتاف وتشييع الناس له
وقال - سبحانه وتعالى -: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (¬1). قال ابن كثير رحمه الله: ((وذلك أن الكافر إذا احتضر بشَّرته الملائكة بالعذاب، والنكال، والأغلال، والسلاسل، والجحيم، والحميم، وغضب الرحمن الرحيم، فتفرق روحه في جسده، وتعصي، وتأبى الخروج، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم، وقد وردت الأحاديث المتواترة في كيفية احتضار المؤمن والكافر عند الموت، وهي مقررة عند قوله تعالى: {يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ (¬2)} (¬3). 7 – تَذَكُّر الحمل على الأكتاف وتشييع الناس له؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وُضِعَت الجنازةُ فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدِّموني قدِّموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كلُّ شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لَصَعِقَ)) (¬4). ¬
وفي رواية عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عند النسائي: ((إذا وضع الميت على السرير)) (¬1)، فدل على أن المراد بالجنازة في هذا الحديث: الميت، أما في غير هذا الحديث فلفظ الجنازة يُطلق على الميت، وعلى السرير الذي يُحمل عليه أيضاً، وقد يُطلق على السرير وعليه الميت معاً (¬2) , وقد قال الإمام البخاري - رحمه الله -: باب قول الميت وهو على الجنازة)) (¬3) أي السرير (¬4)، قال الإمام الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: ((قوله: ((إذا وُضعت الجنازة)) يحتمل أن يريد بالجنازة نفس الميت وبوضعه جعله في السرير، ويحتمل أن يريد السرير، والمراد وضعها على الكتف، والأول أولى؛ لقوله بعد ذلك: ((فإن كانت صالحة قالت ... ))، فإن المراد به الميت، ويؤيده رواية عبد الرحمن بن مهران عن أبي هريرة - رضي الله عنه - المذكورة بلفظ: ((إذا وُضع المؤمن على سريره يقول قدِّموني (¬5)) (¬6). قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: ((وظاهره أن قائل ذلك: هو الجسد المحمول على الأعناق، وقال ابن بطال: إنما يقول ذلك الروح، ورده ابن المنير بأنه لا مانع أن يرد ¬
8 - تذكر فتنة القبر وسؤال منكر ونكير
الله الروح إلى الجسد في تلك الحال؛ ليكون ذلك زيادة في بشرى المؤمن وبؤس الكافر)). ثم قال ابن حجر: ((ولا حاجة إلى دعوى إعادة الروح إلى الجسد قبل الدفن؛ لأنه يحتاج إلى دليل، فمن الجائز أن يُحدث الله النطق في الميت إذا شاء، وكلام ابن بطال فيما يظهر لي أصوب)) (¬1). ومما يدل على عظم الأمر حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((أسرعوا بالجنازة، فإن تكُ صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تكُ سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم))، ولفظ مسلم: ((وإن تكُ غير ذلك)) (¬2)، ويزيد الأمر اعتناءً حديث أبي قتادة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُرَّ عليه بجنازة فقال: ((مستريح ومُستراحٌ منه))، قالوا: يا رسول الله: ما المستريح والمستراح منه؟ فقال: ((العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا، والعبد الفاجر يستريح منه: العباد، والبلاد، والشجر، والدواب)) (¬3). 8 – تذكُّر فتنة القبر وسؤال منكر ونكير، وسماع قرع نعال الأصدقاء والأصحاب عندما يولّون مُدبرين؛ لحديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -:أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن العبد إذا وُضِعَ في قبره وتولى عنه أصحابه – وإنه يسمع قرع نعالهم – أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ لمحمد - صلى الله عليه وسلم -،فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله. فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار، قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة، فيراهما ¬
جميعاً)). [قال قتادة: وذُكر لنا أنه يفسح له في قبره، ثم رجع إلى حديث أنس قال]: ((وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس. فيُقال: لا دريتَ ولا تليتَ، ويُضرب بمطارق من حديد ضربةً فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين)) (¬1). ولفظ حديث أنس - رضي الله عنه - في سنن أبي داود: ((إن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - دخل نخلاً لبني النجار، فسمع صوتاً ففزع، فقال: ((من أصحاب هذه القبور؟)) قالوا: يا رسول الله ناس ماتوا في الجاهلية، فقال: ((تعوذوا بالله من عذاب النار، ومن فتنة الدجال)) قالوا: ومِمَّ ذاك يا رسول الله؟ قال: ((إن المؤمن إذا وُضِع في قبره أتاه ملك، فيقول له: ما كنت تعبد؟ فإنِ اللهُ هداه، قال: كنت أعبد الله، فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: هو عبد الله ورسوله، فما يسأل عن شيء غيرها، فيُنطلق به إلى بيت كان له في النار، فيقال له: هذا بيتك كان لك في النار، ولكن الله عصمك ورحمك فأبدلك به بيتاً في الجنة، فيقول: دعوني حتى أذهب وأبشر أهلي، فيقال له: اسكنْ. وإنَّ الكافر إذا وُضَع في قبره أتاه ملك، فينتهره فيقول له: ما كنت تعبد؟ فيقول: لا أدري: فيقال له: لا دريت ولا تليت، فيقال له: فما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: كنت أقول ما يقول الناس، فيضربه بمطرق ¬
من حديد بين أذنيه، فيصيح صيحة يسمعها الخلق غير الثقلين)). وفي لفظ: ((إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه يسمع قرع نعالهم فيأتيه مَلَكان فيقولان له ... وأما الكافر والمنافق فيقولان له ... يسمعها من يليه غير الثقلين)) (¬1). وفي حديث البراء - رضي الله عنه - أن العبد المؤمن تعاد روحه في جسده، وإنه يسمع خفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه مُدبرين، فيأتيه مَلَكان شديدا الانتهار فينتهرانه، ويُجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيقولان له: وما عِلْمُك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به، وصدَّقت، فينتهره فيقول: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ وهي آخر فتنة تُعرض على المؤمن، فذلك حين يقول الله - عز وجل -: {يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد - صلى الله عليه وسلم -، فينادي منادٍ في السماء: أنْ صدق عبدي فافرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، قال: فيأتيه من رَوحها وطيبها، ويُفسح له في قبره مَدَّ بصره ... ثم ذكر - صلى الله عليه وسلم - في الحديث أن العبد الكافر وفي رواية الفاجر: تُعاد روحه في جسده، فإنه يسمع خفق نعال أصحابه إذا ولَّوا عنه، ويأتيه مَلَكان شديدا الانتهار، فينتهرانه، ويُجلسانه فيقولان له: مَن ربك؟ فيقول: هاهْ، هاهْ لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاهْ هاهْ لا أدري، فيقولان: فما تقول في هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فلا يهتدي ¬
لاسمه، فيقال: محمد! فيقولُ: هاهْ هاهْ لا أدري، سمعت الناس يقولون ذلك، قال: فيقال: لا دريتَ، ولا تلوتَ، فيُنادي منادٍ من السماء أن: كذب عبدي فافرشوا له من النار وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرّها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه (¬1). وفي لفظ حديث البراء مختصراً في حديث مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: {يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} (¬2) قال: نزلت في عذاب القبر، يقال له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، ونبيي محمد - صلى الله عليه وسلم -، فذلك قوله - عز وجل -: {يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ}. ولفظه عند البخاري: ((إذا أُقعد المؤمن في قبره أُتي ثم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فذلك قوله: {يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} (¬3). وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيباً فذكر فتنة القبر التي يُفتتن فيها المرء، فلما ذكر ذلك ضجَّ المسلمون ضجة)) (¬4)، وفي سنن النسائي أن سبب ضجة الصحابة - رضي الله عنهم - قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ¬
((قد أوحي إليّ أنكم تُفتنون في القبور قريباً من فتنة الدجال)) (¬1). ولفظ حديث أسماء عن عائشة رضي الله عنهما عند البخاري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته بعد أن صلى الكسوف: ((ما من شيء لم أكن أُريته إلا [وقد] رأيته في مقامي هذا، حتى الجنة والنار، وإنه قد أُوحي إليَّ أنكم تُفتنون في القبور مثل أو قريباً من فتنة المسيح الدجال، يُؤتى أحدكم فيقال له: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن أو قال الموقن فيقال: ما علمك بهذا؟ فيقول: هو رسول الله، هو محمد - صلى الله عليه وسلم -، جاءنا بالبينات والهدى، فآمنا، وأجبنا، واتبعنا، وصدقنا، فيقال له: نَمْ صالحاً قد كنا نعلم أنك كنت لمؤمناً به، وأما المنافق أو قال المرتاب شك هشام فيقال له: ما علمك بهذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلتُهُ)) (¬2)، وفي لفظ لمسلم عن عائشة رضي الله عنها ترفعه: ((إني قد رأيتكم تُفتنون في القبور كفتنة الدجال ... )) قالت عائشة: فكنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك يتعوذ من عذاب النار وعذاب القبر)) (¬3). قال الإمام النووي – رحمه الله –: ((فيه إثبات عذاب القبر، وفتنته، وهو مذهب أهل الحق، ومعنى: تُفتنون: تُمتحنون، فيقال: ما علمك بهذا الرجل، فيقول المؤمن: هو رسول الله، ويقول المنافق: سمعت الناس ¬
يقولون شيئاً فقلت، هكذا جاء مُفسَّراً في الصحيح، وقوله: ((كفتنة الدجال)) أي فتنة شديدة جداً، وامتحاناً هائلاً، ولكن يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت)) (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قُبر الميت أو قال: أحدكم، أتاه ملكان، أسودان، أزرقان، يقال لأحدهما: المنكر، والآخر النكير، فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول ما كان يقول: هو عبد الله ورسوله، أشهدأن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً في سبعين ثم ينوَّر له فيه، ثم يقال له: نَمْ، فيقول أرجع إلى أهلي فأخبرهم؟ فيقولان: نَمْ كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحبُّ أهله إليه، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك، وإن كان منافقاً قال: سمعت الناس يقولون (¬2) فقلت مثله، لا أدري، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول ذلك، فيقال للأرض: التئمي عليه فتلتئم عليه فتختلف فيها أضلاعه، فلا يزال معذباً حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك)) (¬3). ورواية ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - لفظها: ((إن الميت إذا وُضع في قبره فإنه يسمعُ خفق نعالهم حين يولون عنه، فإن كان مؤمناً، كانت الصلاة عند رأسه، وكان الصيام عن يمينه، وكانت الزكاة عن شماله، ¬
وكان فعل الخيرات: من الصدقة، والصلة، والمعروف، والإحسان إلى الناس، عند رجليه. فيُؤتى من قبل رأسه، فتقول الصلاة: ما قبلي مدخل، ثم يُؤتى عن يمينه، فيقول الصيام: ما قِبلي مدخل، ثم يُؤتى عن يساره، فتقول الزكاة: ما قِبلي مدخل، ثم يُؤتى من قبل رجليه، فتقول فعل الخيرات: من الصدقة، والصلة، والمعروف، والإحسان إلى الناس: ما قِبلي مدخل، فيقال له: اجلس فيجلس، وقد مُثِّلَت له الشمس وقد أُدنيت للغروب، فيقال له: أرأيتك هذا الرجل الذي كان فيكم ما تقول فيه؟ وماذا تشهد به عليه؟ فيقول: دعوني حتى أصلي، فيقولون (¬1): إنك ستفعل، أخبرني عما نسألك عنه، أرأيتك هذا الرجل الذي كان فيكم ما تقول فيه، وماذا تشهد عليه؟ قال: فيقول: محمد أشهد أنه رسول الله، وأنه جاء بالحق من عند الله. فيقال له: على ذلك حييت وعلى ذلك مُتَّ، وعلى ذلك تبعث إن شاء الله، ثم يُفتح له باب من أبواب الجنة، فيقال له: هذا مقعدك منها، وما أعدَّ الله لك فيها، فيزداد غِبطةً وسروراً، ثم يُفتح له بابٌ من أبواب النار، فيقال له: هذا مقعدك منها وما أعد الله لك فيها لو عصيته، فيزداد غبطة وسروراً، ثم يُفسح له في قبره سبعون ذراعاً، ويُنوّر له فيه، ويُعاد الجسد لما بدأ منه، فتجعل نسمته في النَّسَم الطيب وهي طير يعلق في شجر الجنة، قال: فذلك قوله تعالى: {يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} (¬2). قال: وإن الكافر إذا أُتي من قبل رأسه، لم يوجد شيء، ثم أُتي عن يمينه، فلا يوجد شيء، ثم أُتي عن شماله، فلا يوجد ¬
شيء، ثم أُتي من قبل رجليه فلا يوجد شيء، فيُقال له: اجلس، فيجلس خائفاً مرعوباً، فيقال له: أرأيتك هذا الرجل الذي كان فيكم ماذا تقول فيه؟ وماذا تشهد به عليه؟ فيقول: أي رجل؟ فيقال: الذي كان فيكم، فلا يهتدي لاسمه حتى يقال له: محمد، فيقول: ما أدري سمعت الناس قالوا قولاً، فقلت كما قال الناس، فيُقال له: على ذلك حييت، وعلى ذلك مت، وعلى ذلك تبعث إن شاء الله، ثم يفتح له باب من أبواب النار فيُقال له: هذا مقعدك من النار، وما أعد الله لك فيها، فيزداد حسرة وثبوراً، ثم يفتح له باب من أبواب الجنة، فيُقال له: ذلك مقعدك من الجنة، وما أعد الله لك فيه لو أطعته فيزداد حسرةً وثبوراً، ثم يُضيَّقُ عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، فتلك المعيشة الضنكة التي قال الله: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (¬1)} (¬2). وأما رواية ابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلفظها: ((إن الميت يصير إلى القبر، فيُجلس الرجل الصالح في قبره غير فزع ولا مشعوف (¬3)، ثم يقال له: فيم كنت؟ فيقول: كنت في الإسلام، فيقال له: ما هذا ¬
9 - تذكر نعيم القبر وعذابه
الرجل؟ فيقول: محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه، فيقال له: هل رأيت الله؟ فيقول: ما ينبغي لأحد أن يرى الله، فيُفرج له فرجة قِبَل النار، فينظر إليها يحطم بعضها بعضاً، فيقال له: انظر إلى ما وقاك الله، ثم يُفرج له قبل الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها فيقال له: هذا مقعدك، ويقال له: على اليقين كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله، ويُجلس الرجل السوء في قبره فزعاً مشعوفاً، فيقال له: فيم كنت؟ فيقول: لا أدري، فيقال له: ما هذا الرجل؟ فيقول: سمعت الناس يقولون قولاً فقلته، فيُفرج له فرجة قبل الجنة، فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال له: انظر إلى ما صرف الله عنك، ثم يُفرج له فرجة قِبل النار، فينظر إليها يحطم بعضها بعضاً، فيقال له: هذا مقعدك، على الشك كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله تعالى (¬1). وفي حديث جابر عند ابن ماجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا دخل الميت القبر مُثِّلت له الشمس عند غروبها، فيجلس يمسح عينيه ويقول: دعوني أصلي)) (¬2)، والمقصود الميت المسلم، كما تقدم في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. 9 – تذكُّر نعيم القبر وعذابه؛ لأدلة قطعية كثيرة جدّاً، من القرآن الكريم (¬3) والأحاديث الشريفة التي بلغت حد التواتر (¬4) ومنها: ¬
حديث أبي طلحة: أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من قريش فقذفوا في طويٍّ (¬1) من أطواء بدر خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة (¬2) ثلاث ليالٍ، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشُدَّ عليها رحلها ثم مشى وتبعه أصحابه وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شَفةِ الركيِّ (¬3) فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: ((يا فلان ابن فلان، ويا فلان ابن فلان، أيَسرُّكم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقّاً، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقّاً؟)) قال: فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم)) قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله: توبيخاً، وتصغيراً، ونقمةً، وحسرةً وندماً)) (¬4). * واختلف العلماء – رحمهم الله تعالى – في سماع الأموات؛ لقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} (¬5). وقال تعالى في سورة الروم: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} (¬6). وقوله تعالى: {وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} (¬7). ¬
ذكر الإمام الشنقيطي – رحمه الله – أنه لا يصح في تفسير ذلك من أقوال العلماء إلا تفسيران: الأول: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} أي لا تسمع الكفار الذين أمات الله قلوبهم، إسماع هدى وانتفاع؛ لأن الله ختم على قلوبهم، فهم لا يسمعون الحق سماع اهتداء وانتفاع. الثاني: أن المراد بالموتى الذين ماتوا بالفعل، ولكن المراد بالسماع المنفي خصوص السماع المعتاد الذي ينتفع صاحبه به، وأن هذا مَثَلٌ ضربه الله للكفار، والكفار يسمعون الصوت ولكن لا يسمعون سماع قبول واتباع. ثم تكلم رحمه الله عن مسألة سماع الموتى في قبورهم وأطال رحمه الله، واختار أنهم يسمعون كلام مَنْ كلَّمهم، وقال: إنه الذي يقتضي الدليل رجحانه، وبيّن أنّ من استدل بقول عائشة رضي الله عنها فقد غلط، وبيّن أنّ سماع الموتى ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث صحيحة لا مطعن فيها، ولم يذكر - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك خاص بإنسان ولا بوقت، ولم يثبت في الكتاب ولا في السنة شيء يخالف ذلك، ثم ذكر رحمه الله: كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل بدر، وسلامه على الأموات كالأحياء، فدل ذلك على أنهم يسمعون التسليم عليهم، وذكر ما ذكره الإمام ابن القيم في كتابه الروح من الآثار الكثيرة التي تدل على معرفة الموتى بزيارة الأحياء، وردّ الله - عز وجل - أرواح الموتى عليهم أثناء سلام أقربائهم عليهم حتى يردوا عليهم السلام، وقد انتصر لسماع الموتى ابن تيمية رحمه الله (¬1) وتلميذه ابن القيم في كتابه ((الروح)) وغيره. ¬
والإمام ابن كثير في تفسيره حيث قال: ((والصحيح عند العلماء رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ لما لها من الشواهد على صحتها من وجوه كثيرة من أشهر ذلك ما رواه ابن عبد البر مصححاً له عن ابن عباس مرفوعاً: ((ما من أحد يمرُّ بقبر أخيه المسلم كان يعرفه في الدنيا فيسلّم عليه إلا ردّ الله عليه روحه حتى يردَّ عليه السلام)) ثم ذكر آثاراً كثيرة جدّاً عن الصحابة - رضي الله عنهم -،وعن التابعين رحمهم الله (¬1) والله ولي التوفيق (¬2). وسمعت شيخنا ابن باز – رحمه الله – يقول: الأقوال في سماع الأموات ثلاثة: القول الأول: يسمعون مطلقاً. القول الثاني: لا يسمعون مطلقاً. القول الثالث: التفصيل: يسمعون فيما جاءت به النصوص، ولا يسمعون في غير ذلك، وهذا القول هو الصواب، وأنهم يسمعون فيما جاءت به النصوص فقط، كسماع قرع النعال، وكقوله [- صلى الله عليه وسلم - لصناديد قريش] ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يجيبون، وعند الزيارة والسلام عليهم، وهذا القول جيد)) (¬3). وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: أن أرواح الأحياء إذا قُبضت تجتمع إلى أرواح الموتى (¬4)، وأن الأرواح العليا تنزل إلى الأرواح ¬
الدنيا، والأدنى يصعد إلى الأعلى، وأن الروح تُعاد إلى اللّحد أحياناً، كرد الروح إذا سُلِّم على القبر حتى يرد السلام على من سلم عليه (¬1)، وقد تجتمع الأرواح مع تباعد المدافن، وقد تفترق مع اجتماع المدافن (¬2). * والشهداء في حياة عظيمة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لمَّا أُصيب إخوانكم بأُحُد جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر، ترد أنهار الجنة، تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم، ومقيلهم، قالوا: من يبلِّغ إخواننا عنا أنَّا أحياء في الجنة نُرزق، لئلاّ يزهدوا في الجهاد، ولا يتَّكلوا عند الحرب؟ فقال الله سبحانه: أنا أبلّغهم عنكم. قال: فأنزل الله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (¬3)} (¬4). قال شيخ الإسلام رحمه الله: ((الصحيح الذي عليه الأئمة وجماهير أهل السنة: أن الحياة، والرزق، ودخول الأرواح الجنة ليس مختصّاً بالشهيد، كما دلّت على ذلك النصوص الثابتة، ويختصُّ الشهيد بالذكر؛ لكون الظانّ يظن أنه يموت فينكل عن الجهاد، فأخبر بذلك، ليزول المانع من الإقدام على الجهاد والشهادة)) (¬5). ¬
* وعذاب القبر ونعيمه حق لا شك فيه، وقد ظهر في هذا الحديث ما يدل على ذلك، فقد قال عمر - رضي الله عنه - للنبي - صلى الله عليه وسلم - حينما خاطب صناديد قريش بعد إلقائهم في قليب بدر: يا رسول الله ما تكُلِّم من أجساد لا أرواح لها))؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم)). قال قتادة: ((أحياهم الله حتى أسمعهم قوله: توبيخاً، وتصغيراً ونقمة، وحسرة، وندماً))، وهذا يؤكد أهمية بيان عذاب القبر؛ ولهذا خاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - صناديد قريش يُوبِّخُهم؛ لإعراضهم وعنادهم التام في الدنيا عن دين الإسلام، بل وقفوا في طريقه وقاتلوا أهله؛ ولأهمية التحذير من عذاب القبر ذكر الله - عز وجل - عذاب آل فرعون في البرزخ فقال - عز وجل -: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (¬1). وقال - عز وجل - في عذاب الكفار في الدنيا والبرزخ: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ * يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (¬2). وقد ذكر البراء بن عازب، وابن عباس، وعلي - رضي الله عنهم - أنّ قوله - عز وجل -: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} هو عذاب القبر، وقيل: هو الجوع في الدنيا والمصائب التي تصيبهم في الدنيا، ورجح الإمام الطبري –رحمه الله- أن ذلك يشمل الأمرين، وأن للذين ظلموا أنفسهم بكفرهم به عذاباً دون يومهم الذي فيه يصعقون، وذلك ¬
يوم القيامة، فعذاب القبر دون يوم القيامة؛ لأنه في البرزخ، والجوع، والمصائب التي تصيبهم في أنفسهم وأموالهم وأولادهم دون يوم القيامة، ولم يخُصص نوعاً من ذلك أنه لهم دون يوم القيامة دون نوعٍ بل عمَّ (¬1). * وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - للناس عذاب القبر في أحاديث كثيرة، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ أحدكم إذا مات، عُرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله عليه يوم القيامة)) (¬2). * وعن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - في حائط لبني النجار على بغلة له ونحن معه، إذ حادت به (¬3) فكادت تلقيه، وإذا أقْبُر ستة أو خمسة أو أربعة، فقال: ((من يعرف أصحاب هذه الأقبر))؟ قال رجل: أنا، قال: ((فمتى مات هؤلاء))؟ قال: ماتوا في الإشراك، فقال: ((إن هذه الأمة تُبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه))، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: ((تعوَّذوا بالله من عذاب القبر)) قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر، قال: ((تعوَّذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن)) قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ¬
قال: ((تعوَّذوا بالله من فتنة الدجال)) قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال)) (¬1). * وعن أبي أيوب - رضي الله عنه - قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدما غربت الشمس فسمع صوتاً فقال: ((يهودُ تُعذَّبُ في قبورها)) (¬2). * وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن العبد إذا وُضِعَ في قبره وتولى عنه أصحابه، إنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان فيُقعدانِهِ فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟)) محمد - صلى الله عليه وسلم - ((فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة، فيراهما جميعاً))، [قال قتادة: ((وذُكر لنا أنه يفسح له في قبره)) ثم رجع إلى حديث أنس قال] ((وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دريت ولا تليت، ويُضرب بمطارق من حديد ضربة، فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين)) (¬3). * وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا أُقعد المؤمن في قبره أُتي ثم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فذلك قوله: ¬
{يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} (¬1). * وفتنة القبر كانت تُحْدِثُ عند الصحابة خشوعاً لله وإقبالاً عظيماً إلى طاعته حينما يُذَكِّرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: ((قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيباً فذكر فتنة القبر التي يُفتتن بها المرء، فلما ذكر ذلك ضجَّ المسلمون ضجّةً)) (¬2). * والقبر له ضغطة لا ينجو منها أحد، لكن هذه الضغطة ضغطة سخط وغضب على المجرمين، وضغطة فرح وسرور للمؤمنين (¬3). فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((هذا الذي تَحرّك له العرش، وفُتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة، لقد ضُمَّ ضمةً ثم فُرج عنه)) (¬4) يعني سعدَ بن معاذ - رضي الله عنه - فينبغي للمسلم أن يسأل الله العافية؛ فإن للقبر ضغطة، فلو نجا أو سلم أحد منها لنجا سعد بن معاذ. * ومما يزيد الأمر وضوحاً في عذاب القبر قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أسرعوا بالجنازة، فإن تكُ صالحة فخيرٌ تقدمونها إليه، وإن تك غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم)) (¬5). ¬
* وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا وُضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت يا ويلها أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعه لَصَعِق)) (¬1). * ولهول عذاب القبر أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته بالاستعاذة منه دُبُرَ كل صلاة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جنهم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسح الدجال)) (¬2). * وكان هو - صلى الله عليه وسلم - يدعو في صلاته فيقول: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم)) فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم يا رسول الله؟ فقال: ((إن الرجل إذا غَرِمَ حدّث فكذب ووعد فأخلف)) (¬3). ¬
* ولاشك أن القبور لها ظلمة إلا من نوَّر الله قبره بالإيمان والعمل الصالح، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن امرأة سوداء كانت تقمّ المسجد، أو شابّاً، ففقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسأل عنها أو عنه فقالوا: مات، قال: ((أفلا آذنتموني)) فكأنهم صغَّروا أمرها أو أمره فقال: ((دلّوني على قبره)) فدلّوه فصلى عليها ثم قال: ((إن هذه القبور مملوءة ظلمةً على أهلها، وإن الله - عز وجل - ينوِّرها لهم بصلاتي عليهم)) (¬1). * ومن أعظم الأحاديث في عذاب القبر حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - وفيه أن العبد المؤمن يفسح له في قبره مد بصره، وأن العبد الفاجر يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه (¬2). * وعن هانئ مولى عثمان قال: كان عثمان إذا وقف على قبر بكى حتى يبلّ لحيته، فقيل له تُذْكَرُ الجنة والنار فلا تبكي وتبكي من هذا؟ فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينجُ منه فما بعده أشدُّ منه)) وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما رأيت منظراً قطّ إلا والقبر أفظع منه)) (¬3). ¬
* ومما يزيد المسلم يقيناً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عن أرواح المؤمنين في البرزخ: ((إنما نسمة المؤمن طائر يُعلق في شجر الجنة: حتى يرجعه الله تبارك وتعالى إلى جسده يوم يبعثه)) (¬1). * وأرواح الشهداء أعظم من ذلك: فإن ((أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل)) (¬2). * ولاشك أن أحكام الدنيا على الأبدان والأرواح تبع لها، وأحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبع لها، فإذا كان يوم القيامة كان الحكم والنعيم أو العذاب على الأرواح والأجساد جميعاً (¬3). * وعذاب القبر هو عذاب البرزخ، فكل من مات وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه، قُبِرَ أو لم يقبر، أو أكلته السباع، أو أُحرق حتى صار رماداً أُو نسف في الهواء؛ فإنه يصل إلى روحه وبدنه من النعيم أو العذاب ما يصل إلى القبور (¬4). * وأحاديث عذاب القبر ونعيمه وسؤال الملكين تبلغ حد التواتر؛ فقد بلغت الأحاديث في ذلك سبعين حديثاً (¬5). ¬
* ومما يجير من عذاب القبر معرفة الأسباب التي يُعذّب بها أصحاب القبور والابتعاد عنها، والأسباب المنجية من عذاب القبر والعمل بها. * أما أسباب عذاب القبر فمنها: الجهل بالله، وإضاعة أوامره، وارتكاب معاصيه، والنميمة، وترك الاستبراء من البول، والكذب الذي يبلغ الآفاق، وترك العمل بالقرآن والنوم عنه بالليل، والزنا، وأكل الربا، والتثاقل عن الصلاة المفروضة، وترك الزكاة المفروضة، وأكل لحوم الناس بالغيبة والوقوع في أعراضهم، وعذاب الميت بما نيح عليه، وغير ذلك من أسباب عذاب القبر التي ينبغي للمسلم أن يحذر منها. * وأما أسباب النجاة من عذاب القبر فكثيرة، منها: تجنب الأسباب التي تسبب عذاب القبر، ومن أنفع أسباب النجاة أن يجلس المسلم عندما يريد النوم فيحاسب نفسه فيما خسره وربحه في يومه، ثم يجدد له توبة نصوحاً فينام على تلك التوبة. * ومن أسباب النجاة من عذاب القبر: الموت مرابطاً في سبيل الله تعالى، والشهادة في سبيل الله تعالى، وغير ذلك من الأسباب النافعة (¬1). فينبغي للمسلم أن يذكر دائماً: عذاب القبر ونعيمه، اللهم عافني وسلمني وأعذني من عذاب القبر، ووالديَّ وذريتي، وأهلي، ومشايخي، وجميع المؤمنين. * ومما يوضح أسباب عذاب القبر ما ثبت في الأحاديث الصحيحة، ومنها حديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعنى مما يكثر ¬
أن يقول لأصحابه: ((هل رأى أحد منكم من رؤيا؟)) قال فيقص علينا ما شاء الله أن يقص، وإنه قال لنا ذات غداة: ((إنه أتاني الليلة آتيان وإنهما ابتعثاني وإنهما قالا لي: انطلق، وإني انطلقت معهما [وفي رواية: فأخذا بيدي فأخرجاني إلى الأرض المقدسة] [وفي رواية: أرض مقدسة] وإنا أتينا على رجل مضطجع، وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه فيتدهده الحجر هاهنا، فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان، ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل به المرة الأولى. قال: قلت لهما: سبحانه الله، ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا فأتينا على رجل مستلق لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلُّوبٍ من حديد، وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، قال: وربما قال أبو رجاء فيشق. قال: ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان، ثم يعود عليه فيفعل مثل ما فعل المرة الأولى. قال: قلت سبحان الله ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا فأتينا على مثل التنور، قال: وأحسب أنه كان يقول: فإذا فيه لغط وأصوات، [وفي رواية: أعلاه ضيِّق وأسفله واسع يتوقد تحته ناراً] قال: فاطَّلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللَّهب ضَوْضَوا قال: قلت لهما: ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق. قال: فانطلقنا فأتينا على نهر حسبت أنه كان يقول أحمر مثل الدم، [وفي رواية: فانطلقنا فأتينا على نهر من دم] وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع
عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة فيفغر له فاه فيلقمه حجراً فينطلق يسبح ثم يرجع إليه، كلما رجع إليه فغر له فاه فألقمه حجراً. قال: قلت لهما: ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق. قال: فانطلقنا فأتينا على رجل كريه المرآة كأكره ما أنت راء رجلاً مرآة، وإذا عنده نار يحشها ويسعى حولها، قال قلت لهما: ما هذا؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق. فانطلقنا فأتينا على روضة معتمة فيها من كل لون الربيع، وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولاً في السماء، وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قطُّ. قال: قلت لهما: ما هذا، وما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق. فانطلقنا فانتهينا إلى روضة عظيمة لم أر روضة قطُّ أعظمَ منها ولا أحسن. قال: قالا لي: ارقَ، فارتقيت فيها قال: فارتقينا فيها فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة، فأتينا باب المدينة فاستفتحنا ففُتح لنا، فدخلناها فتلقانا فيها رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء وشطر كأقبح ما أنت راء، قال: قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، قال: وإذا نهر معترض يجري كأن ماءه المحض من البياض فذهبوا فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة. قال: قالا لي: هذه جنة عدن، وهذاك منزلك. قال: فسما بصري صُعُداً فإذا قصر مثل الربابة البيضاء. قال: قالا لي: هذاك منزلك، قال: قلت لهما: بارك الله فيكما، ذراني فأدخله، قالا: أما الآن فلا، وأنت داخله [وفي رواية: فانطلقنا حتى أتينا على روضة خضراء فيها شجرة عظيمة وفي أصلها شيخ وصبيان فصعدا بي في الشجرة وأدخلاني داراً لم أرَ قطُّ أحسن
منها، فيها رجال شيوخ، وشباب، ونساء وصبيان ثم أخرجاني منها فصعدا بي الشجرة فأدخلاني داراً هي أحسن وأفضل فيها شيوخ وشبان] قال: قلت لهما: فإني قد رأيت منذ الليلة عجباً، فما هذا الذي رأيت؟ قال: قالا لي: أما إنا سنخبرك: * أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر فإنه الرجل يأخذ بالقرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة [وفي رواية: يفعل به إلى يوم القيامة]. * وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق [وفي رواية: يصنع به ما رأيت إلى يوم القيامة]. * وأما الرجال والنساء العراة الذين في مثل بناء التنور فهم الزناة والزواني. * وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويُلقم الحجر فإنه آكل الربا. * وأما الرجل الكريه المرآة الذي عند النار يحشها ويسعى حولها فإنه مالك خازن جهنم. * وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة. قال: فقال بعض المسلمين: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وأولاد المشركين [وفي رواية: والدار الأولى التي دخلت دار عامة المؤمنين وأما هذه الدار فدار الشهداء، وأنا جبريل، وهذا ميكائيل، فارفع رأسك فرفعت رأسي فإذا فوقي مثل السحاب، قالا: ذاك منزلك، قلت: دعاني أدخل منزلي،
قالا: إنه بقي لك عمر لم تستكمله، فلو استكملت أتيت منزلك]. * وأما القوم الذين كانوا شطر منهم حسناً وشطر قبيحاًًً فإنه قوم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً تجاوز الله عنهم)) (¬1). * ومن ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بحائط من حيطان المدينة أو مكة فسمع صوت إنسانين يُعذَّبان في قبورهما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يُعذَّبان وما يُعذَّبان في كبير)) ثم قال: ((بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة)) ثم دعا بجريدة فكسرها كسرتين فوضع على كل قبر منهما كسرة، فقيل له: يا رسول الله لم فعلت هذا؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لعله أن يخفف عنها ما لم تيبسا)) وفي لفظ لمسلم: ((وكان الآخر لا يستنزه عن البول، أو من البول)) (¬2). * وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أكثر عذاب القبر من البول)) (¬3)، وجاء من حديث أنس - رضي الله عنه - بلفظ: ((تنزَّهوا من البول فإن عامة ¬
10 - الحذر من التنافس في الدنيا والانشغال بها
عذاب القبر منه)) (¬1). 10 – الحَذَرُ من التنافس في الدنيا والانشغال بها عن طاعة الله - عز وجل -؛لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسط عليكم الدنيا كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتُهلككم كما أهلكتهم)) [وفي لفظ: ((وتُلهيكم كما ألهتهم))] (¬2)، قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في فوائد هذا الحديث: ((وفيه أن المنافسة في الدنيا قد تجر إلى هلاك الدين)) (¬3)؛ ((لأن المال مرغوب فيه فترتاح النفس لطلبه، فتمنع منه، فتقع العداوة المقتضية للمقاتلة، المفضية إلى الهلاك)) (¬4)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وتُلهيكم كما ألهتهم))، دليل على أن الانشغال بالدنيا فتنة، قال الإمام القرطبي – رحمه الله –: ((تُلهيكم)) أي تشغلكم عن أمور دينكم وعن الاستعداد لآخرتكم (¬5)، كما قال الله - عز وجل -: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} (¬6). وهذا يؤكد للمسلم أن التنافس في الدنيا والانشغال بها شر وخطر؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أكثر ما أخاف عليكم ما يُخرج الله لكم من بركات الأرض))، قيل: وما بركات الأرض؟ قال: ((زهرة الدنيا))، ثم قال: ((إن هذا المال خَضِرة حلوة ... من أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة ¬
هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع [ويكون عليه شهيداً يوم القيامة])) (¬1). وعن قيس بن حازم قال: دخلنا على خباب - رضي الله عنه - نعوده، فقال: ((إن أصحابنا الذين سلفوا مضوا ولم تنقصهم الدنيا، وإنا أصبنا ما لا نجد له موضعاً إلا التراب، ولولا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهانا أن ندعو بالموت لدعوتُ به))، ثم أتيناه مرة أخرى وهو يبني حائطاً له فقال: ((إن المسلم يؤجر في كل شيء ينفقه إلا في شيء يجعله في هذا التراب)) (¬2)، قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -: ((أي الذي يوضع في البنيان، وهو محمول على ما زاد على الحاجة)) (¬3)، وذكر – رحمه الله – آثاراً كثيرة في ذم البنيان ثم قال: ((وهذا كله محمول على ما لا تمس الحاجة إليه مما لابد منه للتوطن وما يقي البرد والحر)) (¬4)، وقد بين الله - عز وجل - حقيقة الدنيا فقال: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ ¬
نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (¬1). وقال - عز وجل -: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} (¬2). وقال - عز وجل -: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً} (¬3). ولا شك أن الإنسان إذا لم يجعل الدنيا أكبر همه وفقه الله وأعانه، فعن معقل بن يسار - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يقول ربكم تبارك وتعالى: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأْ قلبك غنى وأملأْ يديك رزقاً، يا ابن آدم لا تباعد عني فأملأُ قلبك فقراً وأملأُ يديك شغلاً)) (¬4). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله تعالى يقول: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأْ صدرك غنى وأسدَّ فقرك، وإن لم تفعل ملأتُ يديك شغلاً ولم أسدَّ فقرك)) (¬5). ¬
ولا شك أن كل عمل صالح يُبتغى به وجه الله فهو عبادة. وعن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من كانت الدنيا همه فرّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة)) (¬1). وقد ذم الله الدنيا إذا لم تُستخدم في طاعة الله - عز وجل - فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ألا إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله، وما والاه، وعالمٌ، أو متعلم)) (¬2). وهذا يؤكد أن الدنيا مذمومة مبغوضة من الله وما فيها، مبعدة من رحمة الله إلا ما كان طاعة لله - عز وجل - (¬3)؛ ولهوانها على على الله - عز وجل - لم يُبلِّغ ¬
11 - طلب حسن الخاتمة بالقول والعمل
رسولَه - صلى الله عليه وسلم - فيها وهو أحب الخلق إليه، فقد مات - صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير (¬1)، ومما يزيد ذلك وضوحاً وبياناً حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه - يرفعه: ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)) (¬2)، فينبغي للمسلم أن لا ينافس في الدنيا، ولا يحزن عليها، وإذا رأى الناس يتنافسون في الدنيا، فعليه تحذيرهم، وعليه مع ذلك أن ينافسهم في الآخرة. والله المستعان. 11 – طلب حسن الخاتمة بالقول والعمل: لا شك أن طلب حسن الخاتمة يكون بالدعاء، وبعمل جميع الأسباب المؤدية إلى حسن الختام؛ لأن من رغب في شيء وحرص عليه جَدَّ في طلبه بالدعاء والضراعة إلى الله - عز وجل - واجتهد في بذل الأسباب؛ قال الله - عز وجل -: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ الله لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (¬3). وقد ثبت في الحديث: أن الأعمال بالخواتيم؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وإنما الأعمال بخواتيمها)) (¬4). ومما يعين المسلم على طلب حسن الخاتمة معرفته بعض ما ثبت عن النبي ¬
- صلى الله عليه وسلم - في حسن الخاتمة وسوئها ومن ذلك: حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق: ((إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكاً بأربع كلمات: فيكتب عمله، وأجله، ورزقه، وشقي أم سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار)) (¬1). وقد يعمل الرجل الزمن الطويل بالطاعات ويبتعد عن المعاصي والسيئات ثم قبل موته يرتكب الجرائم والموبقات ويترك الواجبات، فيهجم عليه الموت فجأة فيختم له بخاتمة السوء، وبالعكس؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة، ثم يختم له عمله بعمل أهل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار، ثم يُختم له عمله بعمل أهل الجنة)) (¬2). قال الحافظ ابن رجب – رحمه الله – على حديث الباب: ((وقوله: ((فيما يبدو للناس)) إشارة إلى أن باطن الأمر يكون بخلاف ذلك وأن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس، من جهة عمل سيئ ¬
* السبب الأول: خوف الله - عز وجل -
ونحو ذلك فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت، وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار وفي باطنه خصلة خفية من خصال الخير، تغلب عليه تلك الخصلة في آخر عمره، فتوجب له حسن الخاتمة)) (¬1). وينبغي للمسلم أن يعمل بالأسباب التي توصل إلى حسن الخاتمة ويبتعد عن جميع الأسباب التي تنشأ عنها سوء الخاتمة، ومن ذلك ما يأتي: السبب الأول: خوف الله - عز وجل - والخشية من سوء الخاتمة، فقد كان السلف الصالح يخافون من سوء الخاتمة، فيحسنون العمل؛ لأن الخوف مع الرجاء يبعث على إحسان العمل؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ن خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة)) (¬2)؛ولهذا كان الصحابة - رضي الله عنهم - ومن بعدهم من السلف يخافون على أنفسهم النفاق، ويشتد قلقهم منه؛ لأن المؤمن يخاف على نفسه النفاق الأصغر، ويخاف أن يغلب عليه عند الخاتمة فيخرجه إلى النفاق الأكبر؛ لأن دسائس السوء من أسباب سوء الخاتمة (¬3). * وقد ذُكِرَ عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال لحذيفة - رضي الله عنه -: ((نشدتك بالله هل سمَّاني لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم))؟ - يعني من المنافقين - قال: لا، ولا ¬
* السبب الثاني: التوبة من جميع الذنوب والمعاصي
أبرئ بعدك أحداً، يعني لا يكون مفشياً سرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). * وقال عبد الله بن أبي مليكة: ((أدركت ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه، وما منهم من أحد يقول: إن إيمانه على إيمان جبريل وميكائيل)) (¬2). * وقال إبراهيم التيمي – رحمه الله -: ((ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذباً)) (¬3). * ويذكر عن الحسن: ((ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق)) (¬4). * ويذكر عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنه قال: ((لأن أستيقن أن الله تقبَّل لي صلاة واحدة أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها، إن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ} (¬5). السبب الثاني: التوبة من جميع الذنوب والمعاصي وإتباعها بالأعمال الصالحة؛ لأن التسويف في التوبة من أسباب سوء الخاتمة؛ ولهذا قال الله - سبحانه وتعالى -: {وَتُوبُوا إِلَى الله جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬6). وقال - سبحانه وتعالى -: {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ ¬
الْعَذَابُ الأَلِيمَ} (¬1). ولا شك أن: ((التائب من الذنب كمن لا ذنب له)) (¬2). ولابد مع التوبة من الأعمال الصالحة؛ لقوله - عز وجل -: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (¬3)، وقال - سبحانه وتعالى - بعد أن ذكر عقاب المشرك، وقاتل النفس بغير حق، والزاني: {إِلاّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا} (¬4). وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أراد الله بعبد خيراً استعمله)) فقيل: كيف يستعمله يا رسول الله؟ قال: ((يوفقه لعمل صالح قبل الموت)) (¬5). وعن عمرو بن الحَمَقِ - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا أراد الله بعبدٍ خيراً عَسَلَهُ)) قالوا: وكيف يعسله؟ قال: ((يفتح الله - عز وجل - له عملاً صالحاً بين يدي موته حتى يرضى عنه جيرانه، أو من حوله)) (¬6). ¬
* السبب الثالث: الدعاء بحسن الخاتمة وإظهار الافتقار إلى الله - عز وجل -
السبب الثالث: الدعاء بحسن الخاتمة وإظهار الافتقار إلى الله - عز وجل -، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُكثر الدعاء بالثبات على دين الله - عز وجل - فعن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:كان أكثر دعائه: ((يا مقلب القلوب ثبّتْ قلبي على دينك)) قالت: قلت: يا رسول الله ما أكثر دعاءك: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك؟ قال: ((يا أم سلمة إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام، ومن شاء أزاغ)) فتلا معاذ: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} (¬1). وعن أنس - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول: ((يا مقلب القلوب ثبّتْ قلبي على دينك))، فقلت: يا رسول الله، آمنا بك، وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: ((نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف شاء)) (¬2). وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬
* السبب الرابع: قصر الأمل
يقول: ((إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد، يصرفه حيث يشاء))، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم مُصرّف القلوب صرّف قلوبنا على طاعتك)) (¬1). وكان - صلى الله عليه وسلم - يدعو: ((اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة)) (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ من: ((جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء)) (¬3). فينبغي للمسلم أن يُكثر من هذه الأدعية التي هي من أسباب حسن الخاتمة، وعليه أن يُكثر من ((لا حول ولا قوة إلا بالله)) فعن عبد الله بن السبب الرابع: قصر الأمل من أسباب حسن الخاتمة، وطول الأمل ضد ذلك؛ قيس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا عبد الله بن قيس ألا أدلُّك على كنز من كنوز الجنة))؟ فقلت: بلى يا رسول الله، قال: ((قل لا حول ولا قوة إلا بالله)) (¬4).لأن قصر الأمل يَحثُّ صاحبه على اغتنام الأوقات والأعمال الصالحة؛ ويؤكد ذلك حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: أخذ رسول الله ¬
* السبب الخامس: بغض المعاصي والابتعاد عنها
- صلى الله عليه وسلم - بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك (¬1). وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: خطَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - خطّاً مربعاً، وخطَّ خطّاً في الوسط خارجاً منه، وخطَّ خُططاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: ((هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به، أو قد أحاط به، وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخُطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا)) (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يزال قلب الكبير شابّاً في اثنتين: في حب الدنيا وطول العمر)) (¬3). وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يهرم ابن آدم وتشبُّ منه اثنتان: الحرص على المال، والحرص على العمر)) (¬4). فينبغي للمسلم أن لا يركن إلى الدنيا؛ فإنها متاع زائل، والله المستعان. السبب الخامس: بغض المعاصي والابتعاد عنها من أسباب حسن الخاتمة، وضدّ ذلك حبها وإلفها. فينبغي للمسلم أن يُبغض كل ما حرمه ¬
* السبب السادس: الصبر عند المصائب
الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الإنسان إذا أصرَّ على المعاصي ومات على ذلك كان ذلك من أسباب سوء الخاتمة، وبُعِثَ على ما مات عليه؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من مات على شيء بعثه الله عليه)) (¬1). السبب السادس: الصبر عند المصائب من أسباب حسن الخاتمة، وضد ذلك الجزع أو الانتحار من أسباب سوء الخاتمة، أسأل الله العفو والعافية لي ولأهل بيتي وجميع المؤمنين. فينبغي للمسلم الصبر ابتغاء وجه الله - عز وجل - فعن صهيب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)) (¬2)، ولا شك أن المصائب تُكفِّر الخطايا والسيئات. فينبغي للعبد المسلم: الصبر، والثبات، واحتساب الأجر والثواب على الله - عز وجل - فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حطَّ الله به سيئاته كما تحطُّ الشجرة ورقها)) (¬3). وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما يصيب المؤمن من وصبٍ (¬4) ولا نصبٍ (¬5) ولا سقمٍ، ولا حزنٍ، حتى ¬
* السبب السابع: حسن الظن بالله - عز وجل -
الهمّ يهمّه إلا كُفِّر به من سيئاته)) (¬1). السبب السابع: حسن الظن بالله - عز وجل - من أسباب حسن الخاتمة، وسوء الظن بالله من أسباب سوء الخاتمة، فينبغي للعبد أن يعلم أن الله - عز وجل - لا يظلم مثقال ذرة، ولا يظلم الناس شيئاً، وهو عند ظن عبده به؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني ... )) (¬2). وعن جابر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل وفاته بثلاث يقول: ((لا يمُوتنَّ أحدكم إلا وهو يُحسن الظن بالله)) (¬3). السبب الثامن: معرفة ما أعده الله - عز وجل - من النعيم المقيم للمؤمنين، من أسباب حسن الخاتمة؛ لأن هذا العلم يَحثُّ على العمل، والاستقامة على طاعة الله - عز وجل - رغبة فيما عنده - عز وجل - من الثواب، قال الله - عز وجل -: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} (¬4). فينبغي للمسلم أن يعلم أن مستقر أرواح المؤمنين في الحياة البرزخية في الجنة، فعن عبد الله بن أحمد، عن أبيه، عن الشافعي، عن مالك، عن ¬
12 - معرفة قصر الحياة الدنيا
الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب، عن أبيه كعب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة، حتى يرجعه الله تبارك وتعالى إلى جسده يوم يبعثه)) (¬1). أما أرواح الشهداء فهي أعظم من ذلك، فقد ثبت في الصحيح أن: ((أرواحهم في جوف طير خضرٍ، لها قناديل معلّقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل ... )) (¬2). فينبغي للمسلم أن يعمل بهذه الأسباب الحسنة ويبتعد عن أسباب سوء الخاتمة. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحسن لنا جميعاً الخاتمة، وأن يوفقنا لِمَا يحبه ويرضاه. 12 - معرفة قصر الحياة الدنيا، وأنها كيوم أو بعض يوم مهما عاش الإنسان فحياته قصيرة جداً، قال الله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (¬3). وقال سبحانه: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} (¬4). ¬
وقال - عز وجل -: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاءِ الله وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} (¬1)، وهذا يدل على سرعة انقضاء الدنيا، وأن الناس إذا حشروا كأنَّه ما مر عليهم نعيم ولا بؤس وهم يتعارفون بينهم كحالهم في الدنيا، ففي هذا اليوم يربح المتقون ويخسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين إلى الصراط المستقيم والدين القويم (¬2). وقال الله - عز وجل -: {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} (¬3). وقال - عز وجل -: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (¬4). وقال - سبحانه وتعالى -: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} (¬5). وقال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} (¬6). ¬
وقال تعالى: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ المُجْرِمِينَ يَومَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُم إن لَّبِثْتُمْ إلاَّ عَشْرًا * نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُم طَرِيقَةً إن لَّبِثْتُمْ إلاَّ يَوْمًا} (¬1). وقال - عز وجل -: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} (¬2). وقال الله - عز وجل - في الساعة: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} (¬3). وقال - سبحانه وتعالى -: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً} (¬4). وقال - عز وجل -: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} (¬5). وعن المستورد أخي بني فهر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما مَثَل الدنيا في الآخرة إلا مَثَل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليمِّ فلينظرْ بمَ يرجع)) (¬6). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)) (¬7). ¬
فينبغي للعبد المسلم أن يزهد في هذه الدنيا القصيرة ويتزود بالأعمال الصالحة، ويعلم أنه مهما طال عمره فهو قصير، ولكن يغتنمه فيما يرفع منزلته عند الله - عز وجل -، ويقيه من عذابه، فإن طال عمره وهو ملتزم بطاعة الله - عز وجل - فهو خير له، فعن عبد الله بن بُسر - رضي الله عنه - أن أعرابيّاً قال: يا رسول الله! من خير الناس؟ قال: ((مَن طال عمره وحسن عمله)) (¬1). وعن أبي بكرة - رضي الله عنه -: أن رجلاً قال: يا رسول الله! أي الناس خير؟ قال: ((مَن طال عمره وحسن عمله)) قال: فأي الناس شر؟ قال: ((من طال عمره وساء عمله)) (¬2). وأعمار أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - قصيرة من الستين إلى السبعين لمن أطال الله عمره، وقليل من يجوز ذلك؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عمر أمتي من ستين سنة إلى سبعين سنة)). وفي لفظ: ((أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك)) (¬3). وهذا العمر حجة على من لم يستعمله في طاعة الله - عز وجل -، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أعذر الله إلى امرئ أخَّر أجله حتى بلّغه ستين سنة)) (¬4). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز –رحمه الله– يقول: ((وهذا ¬
13 - معرفة فضل البكاء من خشية الله تعالى
يوجب الحذر وأن المؤمن يأخذ حذره، ولا سيما إذا بلغ ستين)) (¬1). وما أحسن ما قاله الشاعر الحكيم: وما أقبح التفريط في زمن الصبا ... فكيف به والشيب للرأس شامل 13 - معرفة فضل البكاء من خشية الله تعالى يورث الخير الكثير؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم)) (¬2). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((عينان لا تمسّهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)) (¬3). وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون، أطَّت السماء وحُقَّ لها أن تئطَّ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا ومَلَك واضع جبهته ساجداً لله، والله لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله)) (¬4). ¬
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - خطبة ما سمعت مثلها قطُّ، قال: ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)) قال: فغطَّى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجوههم ولهم خنين، فقال رجل: من أبي؟ قال: ((أبوك فلان)). وفي رواية فقال عبد الله بن حذافة: من أبي؟ فقال: ((أبوك حذافة)) فلما أكثر - صلى الله عليه وسلم - من قوله: ((سلوني؟)) برك عمر فقال: رضينا بالله ربَّا وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً، فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: ((والذي نفسي بيده لقد عرضت عليَّ الجنة والنار آنفاً في عرض هذا الحائط فلم أرَ كاليوم في الخير والشر)) (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفس محمد بيده لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً)) (¬2). ولو لم يكن في فضل البكاء من خشية الله إلا أنه يدخل صاحبه في ظلّ الله يوم لا ظل إلا ظلّه لكفى؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه)) وذكر منهم: ((رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)) (¬3)، وقد ¬
خامسا: آداب المريض الواجبة والمستحبة
أثنى الله - عز وجل - على من بكى من خشيته في آيات كثيرة، ومن ذلك: قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (¬1). وقوله تعالى: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ} (¬2). وقوله تعالى في أهل العلم إذا سمعوا القرآن: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (¬3). وقوله تعالى في الأنبياء وممن هدى سبحانه: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (¬4). خامساً: آداب المريض الواجبة والمستحبة كثيرة منها: 1 - الصبر والاحتساب: يجب على المريض الصبر وهو: حبس النفس عن الجزع والتسخط، واللسان عن الشكوى إلى المخلوق، والجوارح عن عملها ما يقتضي التسخّط: كلطم الخدود، وشقّ الجيوب، وحثو التراب على الرؤوس، ونتف الشعر، والدعاء بدعوى الجاهلية، ونحو ذلك (¬5). أما الشكوى إلى الله فمطلوبة بإجماع المسلمين (¬6). ¬
قال الله - عز وجل -: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬1). وقال - عز وجل -: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (¬2). وقال - سبحانه وتعالى -: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (¬3). وقال - عز وجل -: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَالله لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (¬4). وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ الله وَمَن يُؤْمِن بِالله يَهْدِ قَلْبَهُ وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬5). وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ *أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (¬6). وقال تعالى: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (¬7). ¬
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ} (¬1). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الصبر ضياء)) (¬2). وعن صهيب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)) (¬3). وعن أنس - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله - عز وجل - قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة)) يريد عينيه (¬4). وعن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الطاعون فأخبرها ((أنه كان عذاباً يبعثه الله على من شاء فجعله رحمة للمؤمنين (¬5)، فليس من ¬
عبد يقع في الطاعون فيمكث في بلده صابراً محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد)) (¬1).وقال - صلى الله عليه وسلم -: (( ... إنما الصبر عند الصدمة الأولى)) (¬2). وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما يصيب المسلم من نَصَبٍ (¬3) ولا وَصَبٍ (¬4) ولا هَمٍّ، ولا حزْنٍ، ولا أذىً، ولا غمٍّ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه)) (¬5). وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حطَّ الله سيئاته كما تحطُّ الشجرة ورقها)) (¬6). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من مسلم يُشاك شوكةً فما فوقها، إلا كُتب له بها درجة ومُحيت عنه بها خطيئة)) (¬7). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من يُرد الله به خيراً ¬
2 - لا يسأل البلاء
يُصِبْ (¬1) منه)) (¬2). وعن أنس - رضي الله عنه - يرفعه: ((إن عِظم الجزاء من عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السُّخْط)) (¬3). وعن مصعب بن سعد عن أبيه - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: ((الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فيُبْتلَى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً، اشتدَّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقّةٌ ابتلي على حسب دينه، فما يبرحُ البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة)) (¬4). 2 - لا يُسأل البلاء؛ لحديث العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله علمني شيئاً أسأله الله؟ قال: ((سل الله العافية)) فمكثت أياماً ثم جئت فقلت: يا رسول الله علمني شيئاً أسأله الله، فقال لي: ((يا عباسُ يا عمَّ رسول الله: ((سل الله العافية في الدنيا والآخرة)) (¬5)؛ ¬
3 - الإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى
ولحديث أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال على المنبر: ((سلوا الله العفو والعافية؛ فإن أحداً لم يعط بعد اليقين خيراً من العافية)) (¬1)؛ ولحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان من دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوّل عافيتك، وفجأة نقمتك، وجميع سخطك)) (¬2)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((كان يتعوّذ من سوء القضاء، ومن درك الشقاء، ومن شماتة الأعداء، ومن جهد البلاء)) (¬3). 3 - الإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى. الإيمان بالقدر أصل من أصول الإيمان وركن من أركانه؛ لقول الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (¬4)؛ ولحديث عمر - رضي الله عنه - من حديث جبريل المشهور وفيه: (( ... أخبرني عن الإيمان؟ [فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -]: ((أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)) (¬5). ¬
* القدر في اللغة
والقدر في اللغة: بمعنى التقدير، وهو مصدر: قَدَر يَقْدُرُ قَدَراً، وقد تسكّن دالُه، وهو عبارة عما قضاه الله وحكم به من الأمور، ومنه ((ليلة القدر)) وهي الليلة التي تُقدَّرُ فيها الأرزاق وتُقضى، ومنه حديث الاستخارة: ((فاقدُرْه لي ويسِّره)) أي اقضِ لي به وهيِّئه (¬1). والقدر في الشرع: هو تقدير الله تعالى لكل شيء، بعلمه الأزلي الأبدي، الذي لا أول لابتدائه، ولا نهاية لانتهائه، وعلمه - عز وجل - أنها ستقع في أوقات معلومة عنده، وعلى صفات مخصوصة، وكتابته سبحانه لذلك، ومشيئته النافذة له، ووقعها على حسب ما قدرها، وأنه - عز وجل - الخالق لكل شيء القادر عليه (¬2). وأما معنى القضاء: فهو في اللغة: إحكام الأمر وإتقانه، وإنفاذه لجهته (¬3)، وأصل القضاء القطع والفصل، يقال: قضى يقضي فهو قاضٍ إذا حكم وفصل، وقضاء الشيء: إحكامه، وإمضاؤه، والفراغ منه، فيكون بمعنى الخلق. والقضاء في اللغة جاء على وجوه مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه، وكل ما أُحكم عمله، أو أُتمّ، أو خُتم، أو أدِّيَ، أو أُوجب، أو أُعلم، أو ¬
* العلاقة بين القضاء والقدر
أُنفذ، أو أُمضي، فقد قُضيَ، وقد جاءت هذه الوجوه كلها في الحديث (¬1). وأما العلاقة بين القضاء والقدر ففي ذلك أقوال: القول الأول: قال ابن الأثير رحمه الله: ((ومنه القضاء المقرون بالقدر: المراد بالقدر التقدير، وبالقضاء الخلق، فالقضاء والقدر أمران متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ لأن أحدهما بمنزلة الأساس، والآخر بمنزلة البناء، فمن رام الفصل بينهما، فقد رام هدم البناء ونقضه (¬2). القول الثاني: قيل: القضاء: هو الحكم الكلي الإجمالي في الأزل، والقدر: جزيئات ذلك الحكم وتفاصيله (¬3)، والمعنى: أن القضاء: هو العلم السابق الذي حكم الله به في الأزل، والقدر هو وقوع الخلق على وزن الأمر المقضي السابق (¬4) عكس القول الأول. القول الثالث: قيل: القضاء من الله تعالى أخص من القدر؛ لأنه الفصل بين التقدير، فالقدر هو التقدير والقضاء هو الفصل والقطع، وقد ذكر بعض العلماء: أن القدر بمنزلة المُعدِّ للكيل، والقضاء بمنزلة الكيل، وهذا يبين أن القدر ما لم يكن قضاءً فمرجوٌّ أن يدفعه الله، فإذا ¬
قضى فلا مدفع له (¬1). القول الرابع: قيل: القضاء والقدر: إذا اجتمعا افترقا، فيصبح لكل واحد منهما مفهوم، وإذا افترقا اجتمعا بحيث إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر، أي إذا افترقا فهما مترادفان، فإذا قيل: هذا قدر الله فهو شامل للقضاء، وإذا قيل: هذا قضاء الله، فهو شامل للقدر، أما إذا ذكرا جميعاً [هذا قدر الله وقضاؤه] فلكل واحد منهما معنى: فالتقدير: هو ما قدره الله في الأزل أن يكون في خلقه. وأما القضاء: فهو ما قضى به سبحانه في خلقه من إيجاد أو إعدام، أو تغيير، وعلى هذا يكون التقدير سابقاً. واختار هذا القول الرابع العلامة ابن عثيمين رحمه الله (¬2). (¬3) ¬
ومن الأدلة العظيمة التي تدل على عظم منزلة الإيمان بالقضاء والقدر ما ثبت عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - من قوله في القدرية: ((والذي يحلف به ابن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر .. )) (¬1). وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي يده كتابان، فقال: ((أتدرون ما هذان الكتابان))؟ فقلنا: لا يا رسول الله! إلا أن تخبرنا، فقال للذي في يده اليمنى: ((هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة، وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أُجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم، ولا ينقص منهم أبداً)). ثم قال للذي في شماله: ((هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل النار، وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم، فلا يزاد فيهم، ولا ينقص منهم أبداً)) فقال أصحابه: ففيمَ العمل يا رسول الله! إن كان أمرٌ قد فُرِغَ منه؟ فقال: ((سدِّدوا وقارِبوا، فإن صاحب الجنة يُختم له بعمل أهل الجنة، وإن عمل أيَّ عمل، وإن صاحب النار يُختَمُ له بعمل أهل النار، وإن عمل أيَّ عمل)) ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيديه فنبذهما ثم قال: ((فرغ ربكم من العباد: فريق في الجنة وفريق في السعير)) (¬2). ¬
وحديث ابن الديلمي، قال: وقع في نفسي شيء من هذا القدر (¬1)، خشيت أن يفسد عليَّ ديني وأمري، فأتيت أُبي بن كعب فقلت: أبا المنذر! إنه قد وقع في قلبي شيء من هذا القدر؛ فخشيت على ديني وأمري، فحدثني من ذلك بشيء، لعل الله أن ينفعني به، فقال: لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، ولو كان لك مثل جبل أحد ذهباً، أو مثل جبل أحد تنفقه في سبيل الله ما قُبِلَ منك حتى تؤمن بالقدر، فتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأنك إن مت على غير هذا دخلت النار، ولا عليك أن تأتي أخي عبد الله بن مسعود فتسأله، فأتيت عبد الله فسألته فذكر مثل ما قال أُبيّ. وقال لي: ولا عليك أن تأتي حذيفة، فأتيت حذيفة فسألته، فقال مثل ما قالا، وقال: ائتِ زيد بن ثابت فاسأله، فأتيت زيد بن ثابت فسألته، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لو أن الله عذَّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، ولو كان لك جبل أحد ذهباً – أو مثل جبل أحد ذهباً – تنفقه في سبيل الله ما قبله منك حتى تؤمن بالقدر كله، فتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك (¬2)، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأنك إن مُتَّ على غير هذا دخلت النار)) (¬3). ¬
وحديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه -: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التقى هو والمشركون فاقتتلوا، فلما مال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عسكره ومال الآخرون إلى عسكرهم، وفي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل لا يدع لهم شاذّة ولا فاذّة إلا اتبعها يضربها بسيفه، فقالوا: ما أجزأ مِنَّا اليوم أحد كما أجزأ فلان، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أما إنه من أهل النار))، فقال رجل من القوم: أنا صاحبه، قال: فخرج معه كلما وقف وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه، قال: فجُرِحَ الرجل جُرحاً شديداً، فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه في الأرض، وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه، فخرج الرجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أشهد أنك رسول الله، قال: ((وما ذاك))؟ قال: الرجل الذي ذكرت آنفاً أنه من أهل النار، فأعظمَ الناسُ ذلك، فقلت: أنا لكم به، فخرجت في طلبه، ثم جُرِحَ جُرحاً شديداً، فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل عليه فقتل نفسه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: ((إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة)) (¬1). وفي رواية: (( .. أيُّنا من أهل الجنة إذا كان هذا من أهل النار؟ فقال ¬
رجل من القوم لأتبعنه ... )) (¬1). وفي رواية: ((نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى رجل يقاتل المشركين - وكان من أعظم الناس غَنَاء عنهم - فقال: ((من أحبَّ أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا))، فتبعه رجل فلم يزل على ذلك حتى جُرح فاستعجل الموت، فقال بذبابة سيفه فوضعه بين ثدييه، فتحامل عليه حتى خرج من بين كتفيه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن العبد ليعمل – فيما يرى الناس – عمل أهل الجنة وإنه لمن أهل النار، ويعمل – فيما يرى الناس – عمل أهل النار وهو من أهل الجنة، وإنما الأعمال بخواتيمها)) (¬2). وفي رواية: ((وإنما الأعمال بالخواتيم)) (¬3). ظهر في هذا الحديث أهمية الإيمان بالقدر (¬4)؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل ظاهره الصلاح والشجاعة في الجهاد: ((إنه من أهل النار)) وقال: ((إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعلم عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة))، وهذا يدل على أن الله - عز وجل - قد قدَّر المقادير، فعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسةٍ إلا كُتِبَ مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة)) فقال رجل: يا رسول الله أفلا ¬
نتَّكل على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان منَّا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، وأما من كان منَّا من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة؟ قال: ((أما أهل السعادة فيُيَسَّرون لعمل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسَّرون لعمل الشقاوة، ثم قرأ {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (¬1).قال ابن رجب – رحمه الله –: ((ففي هذا الحديث أن السعادة والشقاوة قد سبق الكتاب بهما، وأن ذلك مقدّر بحسب الأعمال، وأن كلاًّ ميسر لما خُلِقَ له من الأعمال التي هي سبب السعادة أو الشقاوة)) (¬2). ولاشك أن الله - عز وجل - إنما يهدي من كان أهلاً للهداية، ويضل من كان أهلاً للضلالة، قال - عز وجل -: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ وَالله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (¬3). وقال - سبحانه وتعالى -: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ} (¬4). فبين سبحانه أن أسباب الضلالة لمن ضل إنما هي بسبب من العبد نفسه، والله - عز وجل - لا يظلم الناس شيئاً، ولكنّ الناس أنفسهم يظلمون، قال ¬
* المرتبة الأولى: العلم
- سبحانه وتعالى -: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} (¬1). وقال - عز وجل -: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (¬2). ويجمع الإيمان بالقضاء والقدر أربع مراتب إذا آمن بها العبد فقد استكمل الإيمان بهذا الأصل العظيم. المرتبة الأولى: العلم، فيؤمن العبد إيمانا جازماً أن علم الله محيط بكل شيء، وأنه يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، وأن الله - عز وجل - علم بما الخلق عاملون، بعلمه الأزلي، وعلم جميع أحوالهم وأعمالهم: من الطاعات، والمعاصي، والأرزاق، والآجال، وعلم حركاتهم، وسكناتهم، ومن منهم من أهل الجنة، ومن منهم من أهل النار، قال - سبحانه وتعالى -: {إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬3). وقال - عز وجل -: {وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (¬4) فبنى تقديره - سبحانه وتعالى - لمقادير الخلائق على هذا العلم السابق الأزلي، وقدّر مقادير الخلائق: من السعادة والشقاوة وغير ذلك بحسب الأعمال التي سبق علمه بها من خير وشر (¬5). المرتبة الثانية: كتابة الله - عز وجل - لجميع الأشياء والمقادير في اللوح المحفوظ: ¬
الدقيقة والجليلة، ما كان وما سيكون. قال - سبحانه وتعالى -: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (¬1)، وقد جمعت هذه الآية بين المرتبتين السابقتين. وقال - عز وجل -: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (¬2). وقال - سبحانه وتعالى -: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} (¬3). ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة)) قال: ((وكان عرشه على الماء)) (¬4). وقال عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - لابنه: يا بني، إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، قال: ربِّ وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة)) يا بني إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من مات على غير هذا فليس مني)) (¬5)، وفي لفظ للإمام أحمد: ((إن أول ما خلق الله تبارك ¬
* المرتبة الثالثة: مشيئة الله النافذة
وتعالى القلم، ثم قال اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة)) (¬1). المرتبة الثالثة: مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة التي لا يعجزها شيء فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وما في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله - سبحانه وتعالى -، قال الله - عز وجل -: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ الله رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬2). المرتبة الرابعة: الخلق، فالله - عز وجل - خالق كل شيء، وما سواه مخلوق له - سبحانه وتعالى -، لا إله غيره ولا رب سواه. قال - عز وجل -: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (¬3)، ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ونهاهم عن معصيته، وهو سبحانه يحب المحسنين، والمتقين، والمقسطين، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يحب الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد، وهو الحكيم العليم (¬4). وعلى العبد أن يبذل الأسباب، ويسأل الله التوفيق والهداية، ويعلم أنه ¬
4 - الابتعاد والحذر كل الحذر من الاغترار بالأعمال
لا يصيبه إلا ما كتب الله له، وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ولا يظلم مثقال ذرة، قال - سبحانه وتعالى -: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬1). فينبغي للمسلم أن يعقد قلبه على هذا الأصل معتمداً على الأدلة من الكتاب والسنة، ولا يخوض فيما لا علم له به، ويحث الناس على النشاط والقوة، والاستعانة بالله وتفويض المقادير إلى الله - عز وجل - وأن يتركوا العجز والكسل (¬2)، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا، ولكن قل: قَدَرُ الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان)) (¬3)، ولهذه العقيدة السليمة قال الله تعالى: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (¬4). 4 – الابتعاد والحذر كل الحذر من الاغترار بالأعمال: إن من الأمور التي ينبغي للمسلم أن يعتني بها ويوجه الناس إلى الحذر منها: الاغترار بالأعمال؛ ولهذا عندما قتل الرجل نفسه أعظم الصحابة - رضي الله عنهم - ذلك؛ لأنهم نظروا إلى شجاعته، وقتاله العظيم، ولم يعرفوا الباطن، ولا المآل فأعلم الله ¬
الخبيرُ العليمُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعاقبة هذا الرجل؛ لسوء مقصده وخبث نيته (¬1)، قال الإمام القرطبي – رحمه الله – في فوائد هذا الحديث: (( ... فيه التنبيه على ترك الاعتماد على الأعمال، والتعويل على فضل ذي العزة والجلال)) (¬2). وقال الإمام النووي – رحمه الله –: ((فيه التحذير من الاغترار بالأعمال، وأنه ينبغي للعبد أن لا يتكل عليها، ولا يركن إليها، مخافة انقلاب الحال للقدر السابق، وكذا ينبغي للعاصي أن لا يقنط ولغيره أن لا يُقنِّطه من رحمة الله)) (¬3)؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((سدِّدوا وقارِبوا، وأبشِروا، فإنه لن يُدخلَ الجنةَ أحداً عملُهُ)) قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا، إلا أن يتغمدَّنيَ الله منه برحمة. واعلموا أن أحبَّ العمل إلى الله أدومُه وإن قلَّ)) (¬4). وقد مدح الله الخائفين على أعمالهم الصالحة يخشون أن لا تقبل منهم، فقال - عز وجل -: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} (¬5)، قالت عائشة رضي الله عنها للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أهو الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر؟ قال: ((لا يا بنت أبي بكر [أو يا بنت الصِّدِّيق]، ولكنه الرجل يصوم، ويتصدق، ويصلي، ويخاف أن لا يتقبل منه)) (¬6). ¬
5 - الجمع بين الخوف والرجاء
فينبغي للمسلم أن يعلم أن الاعتماد على الله - عز وجل - في كل شيء، والطمع في رحمته مع إحسان العمل وإخلاصه لله - عز وجل - وعدم الغرور والإعجاب بالأعمال. والله المستعان. 5 – الجمع بين الخوف والرجاء: يظهر من الحديث السابق أنه ينبغي للمسلم أن يجمع بين الخوف والرجاء؛ لأن الإنسان لا يدري هل هو من أهل الجنة أو من أهل النار، وقد ذكر ابن حجر – رحمه الله – عن ابن بطال – رحمه الله – أنه قال: ((في تغييب خاتمة العمل عن العبد حكمة بالغة، وتدبير لطيف؛ لأنه لو علم وكان ناجياً أُعجب وكسل، وإن كان هالكاً ازداد عتوّاً، فحُجِب عنه ذلك؛ ليكون بين الخوف والرجاء)) (¬1). فالأمن من مكر الله - عز وجل - ينافي كمال التوحيد؛ ولهذا قال الله - عز وجل -: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} (¬2). وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رأيت الله يعطي العبدَ من الدنيا على معاصيه ما يحبُّ فإنما هو استدراج)) (¬3). ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬
{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} (¬1). والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله ينافي كمال التوحيد أيضاًًً؛ ولهذا قال الله - عز وجل -: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} (¬2). وقال - عز وجل -: {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (¬3). والقنوط: استبعاد الفرج واليأس منه، وهو يقابل الأمن من مكر الله، وكلاهما ذنب عظيم (¬4). وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الكبائر؟ فقال: ((الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله)) (¬5). وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: ((أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله)) (¬6). ومعنى الأمن من مكر الله: أي أمن الاستدراج بما أنعم الله به على عباده من صحة الأبدان، ورخاء العيش، وهم على معاصيهم (¬7). ¬
واليأس من روح الله: أي قطع الرجاء من رحمة الله ومن تفريجه للكربات (¬1). والقنوط من رحمة الله: هو أشدُّ اليأس (¬2). وهذا فيه التنبيه على الجمع بين الرجاء والخوف، فإذا خاف فلا يقنط ولا ييأس بل يرجو رحمة الله (¬3). وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على شاب وهو في الموت فقال: ((كيف تجدك؟)) قال: أرجو الله يا رسول الله، وأخاف ذنوبي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو، وآمنه مما يخاف)) (¬4). فينبغي للمسلم أن يكون بين الرجاء والخوف، وقد ذكر بعض علماء نجد أنه يغلِّب في الصحة جانب الخوف؛ لأنه إذا غلَّب الرجاء على الخوف فسد القلب، أما في حالة المرض فيغلِّب الرجاء، لكن مع الجمع بين الرجاء والخوف في جميع الأحوال (¬5). ولابد أن يكون الرجاء والخوف مع المحبة الكاملة؛ قال الحافظ ابن ¬
6 - يرضى بقدر الله وقضائه - سبحانه وتعالى -
رجب - رحمه الله -: ((وكان بعض السلف يقول: من عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حَروريٌّ، ومن عبده بالحب وحده فهو زِنديقٌ، ومن عبده بالخوف والرجاء والمحبة فهو موحِّد مؤمن، وسبب هذا أنه يجب على المؤمن أن يعبد الله بهذه الوجوه الثلاثة: المحبة, والخوف، والرجاء، ولابد له من جميعها، ومن أخل ببعضها فقد أخل ببعض واجبات الإيمان)) (¬1)، وكلام بعض الحكماء يدل على أن الحب ينبغي أن يكون أغلب من الخوف والرجاء (¬2). وأسأل الله - عز وجل - أن يرزقني وجميع المسلمين خشيته في السر والعلانية. 6 - يَرضى بقدر الله وقضائه - سبحانه وتعالى -: لاشك أن الرضا بالقضاء الذي هو وصف الله - عز وجل - واجب: كعلمه، وكتابته، ومشيئته، وخلقه؛ فإن الرضى بذلك من تمام الرضا بالله ربّاً، ومالكاًً، ومدبِّراً، وإلهاً؛ لأنه كله خير، وعدل، وحكمة يجب الرضى به كله (¬3). وأما القضاء الذي هو المقضي فهو نوعان: النوع الأول: ديني شرعي يجب الرضا به، وهو من لوازم الإسلام، كقول الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} (¬4). ¬
* النوع الثاني: الكوني القدري، فهذا النوع على ثلاثة أقسام
وكقوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (¬1). النوع الثاني: الكوني القدري، فهذا النوع على ثلاثة أقسام: القسم الأول: يجب الرضا به: كالنعم التي يجب شكرها ومن تمام شكرها الرضا بها. القسم الثاني: لا يجوز الرضا به: كالمعائب، والذنوب التي يسخطها الله. القسم الثالث: ما يُستحب الرضا به على الصحيح ولا يجب: كالمصائب، من مرض، أو فقر، أو حصول مكروه، أو فقد محبوب، أو نحو ذلك؛ فيجب الصبر على ذلك، أما الرضا الذي هو مع ذلك طمأنينة القلب وسكونه، وتسليمه عند المصيبة، وأن لا يكون فيه تمني أنها ما كانت فهذا لا يجب على الصحيح بل يستحب؛ لأن فيه صعوبة جداً على النفوس عند أكثر الخلق؛ فلهذا لم يوجبه الله ولا رسوله وإنما هو من الدرجات العالية، وهو مأمور به استحباباً (¬2). وهذا كله في الرضا بالقضاء الذي هو المقضي، وأما القضاء الذي هو وصفه سبحانه وفعله: كعلمه، وكتابته، وتقديره، ومشيئته، وخلقه، ¬
7 - لا ينسب الشر إلى الله - عز وجل -
فالرضا به من تمام الرضا به ربّاً، وإلهاً، ومالكاً، ومدبراً، فبهذا التفصيل يتبيّن الصواب، ويزول اللبس في هذه المسألة العظيمة التي هي مفرق طرق بين الناس (¬1) (¬2). قال شيخنا عبد العزيز بن عبد الله ابن باز –رحمه الله–: ((عند المصيبة ثلاثة أمور: الصبر وهو واجب، والرِّضى سُنّة، والشكر أفضل)) (¬3). 7 – لا يُنسب الشرُّ إلى الله - عز وجل -؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعاء الاستفتاح في صلاة الليل: ((وجهت وجي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي، ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعاً؛ إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، ¬
لبيك وسعديك، والخير كله بيديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك)) (¬1). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((والشر ليس إليك)) يبيّن أن الله - عز وجل - منزَّه عن الشر، وكل ما نسب إليه فهو خير، والشر إنما صار شرّاً، لانقطاع نسبته إليه، فلو أضيف إليه لم يكن شرّاً. وهو - سبحانه وتعالى - خالق الخير والشر، فالشر في بعض مخلوقاته لا في خلقه وفعله. وخلقه وفعله، وقضاؤه خير كله، فالقدر من حيث نسبته إلى الله لا شر فيه بوجه من الوجوه؛ لأنه علم الله، وكتابته، ومشيئته، وخلقه وذلك خير محض وكمال من كل وجه، فالشر ليس إلى الرب بوجه من الوجوه: لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وإنما الشر يدخل في بعض مخلوقاته فالشر في المقضي لا في القضاء (¬2). فالإيمان بالقدر خيره وشره يراد به المقدور خيره وشره. وقد يكون المقدور خيراً بالنسبة إلى محل، وشرّاً بالنسبة إلى محل آخر، وإن لم يعلم جهة الخير فيها كثير من الناس، مثال ذلك القصاص؛ وإقامة الحدود؛ فإن ذلك شر بالنسبة إليهم لا من كل وجه بل من وجه دون وجه، وخير بالنسبة إلى غيرهم؛ لما فيه من مصلحة الزجر، وكذلك الأمراض وإن كانت شروراً من وجه فهي خير من وجوهٍ عديدة (¬3). ¬
8 - يحمد الله على كل حال
والحاصل أن الشر لا ينسب إلى الله - عز وجل -. 8 – يحمد الله على كل حال؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى ما يحب قال: ((الحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات)) وإذا رأى ما يكره قال: ((الحمد لله على كل حال)) (¬1)؛ ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بعض بناته وهي في السَّوْق (¬2)، فأخذها ووضعها في حجره حتى قُبضت فدمعت عيناه فبكت أمُّ أيمن، فقيل لها: أتبكين عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالت: ألا أبكي ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبكي؟ قال: ((إني لم أبكِ، وهذه رحمة، إن المؤمن تخرج نفسه من بين جنبيه وهو يحمد الله - عز وجل - ((وفي لفظ: فصاحت أم أيمن، فقيل: أتبكين عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: ألست أراكَ تبكي يا رسول الله؟ قال: ((لست أبكي، إنما هي رحمة، إن المؤمن بكل خير على كل حال، إن نفسه تخرج من بين جنبيه وهو يحمد الله - عز وجل -)) (¬3). ¬
9 - يحسن الظن بالله تعالى
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((يقول الله - عز وجل -: إن عبدي المؤمن عندي بمنزلة كل خير (¬1) يحمدني، وأنا أنزع نفسه من بين جنبيه)) (¬2). 9 – يُحسن الظن بالله تعالى؛ لحديث جابر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل موته بثلاثة أيام يقول: ((لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله - عز وجل -)) (¬3)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي ... )) (¬4). وفي رواية لابن حبان: ((إن الله تعالى يقول: أنا عند ظن عبدي بي، إن ظن بي خيراً فله، وإن ظن شرّاً فله)) (¬5). ¬
10 - يطهر ثيابه ويختار أجملها
قال الإمام النووي – رحمه الله -: قال العلماء: هذا تحذير من القنوط وحث على الرجاء عند الخاتمة، ومعنى حسن الظن بالله تعالى: أن يظن أنه يرحمه ويعفو عنه، قالوا: وفي حالة الصحة يكون خائفاً راجياً، ويكون سواء، وقيل: يكون الخوف أرجح، فإذا دنت أمارات الموت غلَّب الرجاء أو محضه؛ لأن مقصود الخوف الانكفاف عن المعاصي والقبائح، والحرص على الإكثار من الطاعات والأعمال، وقد تعذر ذلك، أو معظمه في هذا الحال فاستحب إحسان الظن المتضمن للافتقار إلى الله تعالى، والإذعان له)) (¬1). ويؤيد ذلك حديث جابر الآخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((يُبعث كل عبدٍ على ما مات عليه)) (¬2). قال الإمام النووي – رحمه الله تعالى -: ((معناه يبعث على الحالة التي مات عليها)) (¬3). وعن جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من مات على شيء بعثه الله عليه)) (¬4). 10 - يُطهِّر ثيابه ويختار أجملها؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه لما حضره الموت، دعا بثياب جُدد، فلبسها، ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها)) (¬5). وقيل: الثياب المراد ¬
11 - لا يتمنى الموت لضر نزل به
بها هنا: الأعمال (¬1). 11 - لا يتمنى الموت لضرٍّ نزل به؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يتمنينَّ أحدُكم الموت لضر نزل به، فإن كان لابدَّ متمنياً للموت، فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)) (¬2). وعن قيس بن أبي حازم قال: دخلنا على خباب نعوده وقد اكتوى سبع كيَّات فقال: إن أصحابنا الذين سلفوا مضوا ولم تنقصهم الدنيا، وإنا أصبنا ما لا نجد له موضعاً إلا التراب، ولولا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهانا أن ندعوَ بالموت لدعوت به، ثم أتيناه مرة أخرى وهو يبني حائطاً له فقال: ((إن المسلم ليؤجر في كل شيء إلا في شيء يجعله في هذا التراب)) (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لن يُدْخِلَ أحداً عَمَلُهُ الجنة)) قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((لا، ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضلٍ ورحمة)) [وفي لفظ: إلا أن يتغمدني الله برحمةٍ منه وفضلٍ] [وفي لفظ: ((إلا أن يتغمدني الله بمغفرة منه ورحمة]، فسدِّدوا، وقاربوا، ولا يتمنى أحدكم الموت إما محسناً فلعلّه أن يزداد خيراً، وإما ¬
12 - لا بأس أن يتداوى المريض
مسيئاً فلعله أن يستعتب)) (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يتمنينَّ أحدكم الموت ولا يدعو به من قبل أن يأتيه، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً)) (¬2). وعن أم الفضل رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليهم، وعباس عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشتكي فتمنى عباس الموت، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا عمّ! لا تتمنَّ الموت، فإنك إن كنت محسناً فأن تؤخَّر تزدد إحساناً إلى إحسانك خير لك، وإن كنت مسيئاً فأن تؤخر فتستعتب من إساءتك خير لك، فلا تتمنى الموت)) (¬3). وفي حديث عمار - رضي الله عنه - يرفعه وفيه: ((اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي ... )) (¬4). 12 - لا بأس أن يتداوى المريض؛ لحديث جابر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لكل داءٍ دواءٌ فإذا أُصيب دواءُ الداء برأ بإذن الله تعالى)) (¬5)؛ ¬
ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاءً)) (¬1)؛ ولحديث أسامة بن شريك، قال: قالت الأعراب يا رسول الله: ألا نتداوى؟ قال: ((نعم يا عباد الله تداووا؛ فإن الله - عز وجل - لم يضع داءً إلا وضع له دواءً غير داءٍ واحدٍ)) قالوا: يا رسول الله! وما هو؟ قال: ((الهرم))، وفي لفظ لأحمد: ((تداووا عباد الله؛ فإن الله - عز وجل - لم ينزل داء إلا أنزل معه شفاء إلا الموت والهرم)). وفي لفظ لأحمد أيضاً: ((تداووا؛ فإن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، عَلِمَه من عَلِمَه، وجَهِلَهُ من جهله)).وفي لفظ لابن ماجه قالوا: يا رسول الله! ما خير ما أعطي العبد؟ قال: ((خلق حسن)) (¬2). وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يرفعه: ((ما أنزل داءً إلا قد أنزل له شفاء، عَلِمَهُ مَن عَلِمَهُ، وجَهِلَهُ مَن جَهِلَهُ)) (¬3). ولا شك أن الأدوية من قدر الله تعالى (¬4)، وقد قال أبو عبيدة بن الجراح لعمر حينما لم يدخل بالجيش الشام بسبب وجود الطاعون بها: ¬
((أفراراً من قدر الله؟)) فقال عمر - رضي الله عنه -: ((لو غيرك قالها يا أبا عبيدة – وكان عمر يكره خلافه، نعم نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله ... )) (¬1). قال الإمام ابن القيم – رحمه الله –: ((فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات وإبطال قول من أنكرها، ويجوز أن يكون قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لكل داء دواء)) على عمومه حتى يتناول الأدواء القاتلة، والأدواء التي لا يمكن الطبيب أن يبرئها، ويكون الله - عز وجل - قد جعل لها أدوية تبرئها، ولكن طوى علمها عن البشر، ولم يجعل لهم إليه سبيلاًًًًً؛ لأنه لا علم للخلق إلا ما علّمهم الله، وهذا أحسن المحملين في الحديث ... )) (¬2). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز – رحمه الله – يقول: ((هذه الأحاديث تدل على شرعية التداوي بالطرق المباحة، وهو خير مِنْ تَرْك الدواء؛ لأن الدواء يعينه على الطاعة، والمرض قد يعوقه عن الطاعات)) (¬3)، وقال رحمه الله: ((الله قدر الداء وقدَّر الدواء، فكلٌّ من قدر الله)) (¬4)، وسمعته أيضاً يقول: ((ترك الأسباب عجز، والتوكل هو الاعتماد على الله والعمل بالأسباب)) (¬5)، وقال: ((وتعطيل الأسباب فيه ¬
فساد الدين والدنيا، أما حديث السبعين [ألف] الذين يدخلون الجنة بغير حساب فهو من باب الأفضلية، وإذا احتاج إلى الاسترقاء، أو الكي فلا حرج)) (¬1). وكنت أسمعه يرجح أن التداوي يكون مستحبّاً فقط، ولا يكون واجباً على الصحيح. وذكر العلامة ابن عثيمين – رحمه الله تعالى – خلاف العلماء: القول الأول: منهم من قال: يجب التداوي. القول الثاني: منهم من قال: يستحب ولا يجب. القول الثالث: منهم من قال: ترك التداوي أفضل، ولا ينبغي أن يتداوى الإنسان. القول الرابع: قال بعض العلماء: إذا كان الدواء مما عُلِمَ أو غَلَبَ على الظن نفعه بحسب التجارب فهو أفضل، وإن كان من باب المخاطرة فتركه أفضل. قال: والصحيح أنه يجب إذا كان في تركه هلاك، مثل: السرطان الموضعي، والسرطان الموضعي بإذن الله إذا قُطِع الموضع الذي فيه السرطان، فإنه ينجو منه، لكن إذا تُرِك انتشر في البدن، وكانت النتيجة هي الهلاك، فهذا يكون دواء معلوم النفع؛ لأنه موضعي يُقطع ويزول، وقد خرق الخضر السفينة، لإنجاء جميعها، فكذلك البدن إذا قطع بعضه من أجل نجاة باقيه كان ذلك واجباً، وعلى ذلك فالأقرب أن يقال ما يلي: ¬
13 - يرقي نفسه
أ – أن ما عُلِمَ أو غلب على الظن نفعه مع احتمال الهلاك بعدمه فهو واجب. ب – أن ما غلب على الظن نفعه، ولكن ليس هناك هلاك محقق بتركه فهو أفضل؛ لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك؛ ولأنه من الأسباب النافعة، والإنسان ينتفع بوقته ولاسيما المؤمن المغتنم للأوقات كل ساعة تمر عليه تنفعه؛ ولأن المريض يكون ضيق النفس لا يقوم بما ينبغي أن يقوم به من الطاعات، وإذا عافاه الله انشرح صدره، وانبسطت نفسه، وقام بما ينبغي أن يقوم به من العبادات، فيكون الدواء إذاً مُراداً لغيره فيُسنُّ. ج – أن ما تساوى فيه الأمران فتركه أفضل؛ لئلا يُلقي الإنسانُ بنفسه إلى التهلكة من حيث لا يشعر (¬1). 13 – يرقي نفسه؛ لحديث عثمان بن أبي العاص - رضي الله عنه - أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعاً يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ضع يدك على الذي تألَّم من جسدك، وقل: بسم الله ثلاثاً، وقل سبع مرات: أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر)) (¬2). وعن عائشة رضي الله عنها ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينفث على نفسه في مرضه الذي مات فيه بالمعوذات، فلما ثَقُلَ كنت أنا أنفث عليه بهنَّ وأمسح بيد نفسه لبركتها)) قال الراوي: فسألت ابن شهاب الزهري: كيف كان ينفث؟ قال: كان ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه، ولفظ مسلم: ((أن النبي ¬
14 - يؤدي الحقوق لأصحابها
- صلى الله عليه وسلم - كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عنه بيده رجاء بركتها)) (¬1). 14 - يؤدِّي الحقوق لأصحابها إن تيسر له ذلك، وإلا كتبها، وأوصى بها واستعجل بذلك؛ لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره، ومن مات وعليه دين فليس ثَمَّ دينار ولا درهم ولكنها الحسنات والسيئات، ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه حُبِسَ في ردغة الخبال (¬2) حتى يأتي بالمخرج مما قال)) (¬3). وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما حضر أحدٌ دعاني أبي من الليل فقال: ما أراني إلا مقتولاً في أول من يقتل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإني لا أترك بعدي أعزَّ عليَّ منك غير نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن عليَّ ديناً فاقضِ واستوصِ بأخواتك خيراً، فأصبحنا فكان أول قتيل، ودفن معه آخر في قبرٍ ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع الآخر فاستخرجته بعد ستة أشهر فإذ هو كيوم وضعته هنيّةً غير أذنه [فجعلته في قبر على حدة] (¬4). ¬
ويستعجل في مثل هذه الوصية الواجبة في الحقوق التي تلزمه: كالحج إن لم يحج، والدَّين، والنذر، والكفَّارات، والودائع وغير ذلك؛ فإنه يلزمه أن يوصي بهذه الحقوق (¬1)؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده)) (¬2). والمعنى ما الحزم والاحتياط للمسلم إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده إذا كان له شيء يريد أن يوصي فيه؛ لأنه لا يدري متى تأتيه المنية فتحول بينه وبين ما يريد من ذلك (¬3)؛ ولهذا قال ابن عمر رضي الله عنهما: ((ما مرت عليَّ ليلة منذ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك إلا وعندي وصيتي (¬4). قال العلامة عبد الرحمن القاسم رحمه الله: ((والمعنى: لا ينبغي له أن يمضي عليه زمان وإن كان قليلاً إلا ووصيته مكتوبة عنده، وذكر الليلتين تأكيد لا تحديد، فلا ينبغي أن يمضي عليه زمان وإن كان قليلاً إلا ووصيته مكتوبة عنده؛ لأنه لا يدري متى يدركه الموت)) (¬5). فيجب على المسلم المريض وغيره أن يحذر الظلم؛ ولهذا قال عمر - رضي الله عنه - ¬
لمولاه: ((واتق دعوة المظلوم؛ فإن دعوة المظلوم مستجابة)) (¬1). وقد حذر الله - عز وجل - من الظلم فقال: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ} (¬2). وقال - عز وجل -: {يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (¬3). وقال - عز وجل -: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (¬4). وقال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (¬5). وعن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن الله تبارك وتعالى أنه قال: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ... )) (¬6). ¬
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)) (¬1). وقد ثبت عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرَّج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة)) (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أتدرون من المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال: ((إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار)) (¬3). والظالم يؤدي ما عليه من حقوق الخلق حتى البهائم يقتصُّ بعضها من بعض؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لتؤدَّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)) (¬4). ¬
والظلم للعباد يوجب النار وإن كان يسيراً، فعن أبي أمامة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من اقتطع حق امرئٍ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة)) فقال له رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ قال: ((وإن كان قضيباً من أراك)) (¬1). والله - عز وجل - وإن أمهل الظالم وذهبت الأيام والشهور، فإنه لا يغفل عنه ولا ينساه؛ ولهذا ثبت من حديث أبي موسى - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله - عز وجل - يملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته)) (¬2)، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (¬3). وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بنصر المظلوم، فقال: (( ... ولينصر الرجل أخاه ظالماً أو مظلوماً، إن كان ظالماً فلينهه فإنه له نصر، وإن كان مظلوماً فلينصره)) (¬4). وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)) قالوا: يا رسول الله هذا ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً؟ قال: ((تأخذ فوق يديه)) (¬5). وينبغي لكل مسلم أن يتحلل من كانت له عنده مظلمة قبل أن يكون ¬
الوفاء من الحسنات؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فَحُمِلَ عليه)) (¬1). وقد يكون الظلم للرعية أو الأهل والذرية فيستحق الظالم العقاب على ذلك، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) (¬2). وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من دعوة المظلوم، قال - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه -: (( ... واتق دعوة المظلوم؛ فإنها ليس بينها وبين الله حجاب)) (¬3). ومن أمثلة ذلك قصة سعيد بن زيد مع أروى بنت أُوَيس؛ فإنها ادَّعتْ عليه أنه أخذ شيئاً من أرضها، فخاصمته إلى مروان بن الحكم فقال: ((أنا كنت آخذ من أرضها شيئاً بعد الذي سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: وما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من أخذ شبراً من الأرض ظلماً طوّقه إلى سبع أرضين (¬4) يوم القيامة)) فقال له ¬
مروان: لا أسألك بينة بعد هذا، فقال: اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها، واقتلها في أرضها [وفي رواية: واجعل قبرها في دارها]، قال: فرأيتها عمياء تلتمس الجدر تقول: أصابتني دعوة سعيد بن زيد، فبينما هي تمشي في الدار [وفي رواية: تمشي في أرضها] مرت على بئر في الدار، فوقعت فيها، فكانت قبرها)) (¬1). ومن صور استجابة دعوة المظلوم على من ظلمه، قصة سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - فعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: ((شكا أهل الكوفة سعداً إلى عمر - رضي الله عنه - فعزله واستعمل عليهم عماراً، فشكوا حتى ذكروا أنه لا يُحسن يصلي، فأرسل إليه فقال: يا أبا إسحاق إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي، قال أبو إسحاق: أما أنا والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أخرِمُ عنها، أصلي صلاة العشاء فأركد في الأوليين وأخفف في الأخريين، قال: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق، فأرسل معه رجلاً أو رجالاً إلى الكوفة، فسأل عنه أهل الكوفة، ولم يدع مسجداً إلا سأل عنه، ويثنون معروفاً حتى دخل مسجداً لبني عبس فقام رجل منهم يقال له أسامة بن قتادة يُكنى أبا سعدة، قال: أما إذا نشدتنا فإن سعداً كان لا يسير في السرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية. قال سعد: أما والله لأدعون بثلاث: اللهم ¬
* القسم الأول: ظلم النفس، وهو نوعان:
إن كان عبدك هذا كاذباً قام رياء وسمعة فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن، وكان بعد إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد، قال عبد الملك: فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن (¬1). والأحاديث تؤكد على أن دعوة المظلوم مستجابة حتى ولو كان فاجراً فاسقاً، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه)) (¬2). وقد ذكر الإمام ابن عبر البر - رحمه الله - آثاراً كثيرة عن السلف الصالح يحذرون فيها من الظلم ويبينون فيها استجابة دعوة المظلوم، ثم قال - رحمه الله -: ولقد أحسن القائل: نامت جفونك والمظلوم منتبه ... يدعو عليك وعين الله لم تنم (¬3) والظلم في الحقيقة: وضع الأشياء في غير مواضعها (¬4)، وهو على قسمين: القسم الأول: ظلم النفس، وهو نوعان: النوع الأول: ظلم النفس بالشرك الذي لا يغفره الله إذا مات العبد ¬
النوع الثاني: ظلمها بالمعاصي
عليه قبل التوبة منه. النوع الثاني: ظلمها بالمعاصي التي يكون صاحبها تحت المشيئة إذا لم يتب منها، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه بقدر معصيته ثم يخرجه من النار ويدخله الجنة، بعد التطهير من إثم المعصية. القسم الثاني: ظلم العبد لغيره من الخلق وهذا لا يترك الله منه شيئاً بل يعطي المظلوم حقه من الظالم ما لم يستحلّه في الدنيا (¬1). والله - عز وجل - إذا عاقب الظالمين على ظلمهم لم يظلمهم؛ ولهذا قال - عز وجل -: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (¬2). وقال - عز وجل -: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} (¬3). وقال - سبحانه وتعالى -: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِّلْعَبِيدِ} (¬4). وقال سبحانه: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا} (¬5). أسأل الله العافية لي ولجميع المسلمين في الدنيا والآخرة. ¬
15 - يشرع له أن يوصي بالثلث فأقل لغير وارث
15 – يُشرع له أن يوصي بالثلث فأقل لغير وارث، ويُشهد على ذلك؛ ولاشك أن الصدقة في حال الصحة أعظم أجراً؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجراًً؟ قال: ((أن تَصدَّقَ وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر، وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان)) (¬1). وعن أبي حبيبة الطائي قال: أوصى إليَّ أخي بطائفة من ماله، فلقيت أبا الدرداء فقلت: إن أخي أوصى إلي بطائفة من ماله فأين ترى لي وضعه: في الفقراء، أو في المساكين، أو المجاهدين في سبيل الله؟ فقال: أما أنا فلو كنت لم أعدل بالمجاهدين، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مثل الذي يعتق عند الموت كمثل الذي يهدي إذا شبع))، ولفظ النسائي: ((مثل الذي يعتق أو يتصدق عند موته مثل الذي يهدي بعدما يشبع)) (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تصدَّق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة لكم في أعمالكم)) (¬3). ¬
ولا يزيد في الوصية على الثلث؛ لحديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: عادني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع من وجع أشفيت منه على الموت، قلت: يا رسول الله بلغ بي ما ترى من الوجع وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلث مالي؟ قال: ((لا))، قلت: أفأتصدق بشطره؟ قال: ((لا))، ثم قال: ((الثلث والثلث كبير))، أو كثير ((إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكفَّفون الناس، وإنك لن تُنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك)) (¬1). قال: قلت: يا رسول الله أُخلَّفُ بعد أصحابي؟ قال: ((إنك لن تُخلَّف فتعمل عملاً صالحاً تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة، ثم لعلك تخلّف حتى ينتفع بك أقوام ويضرُّ بك آخرون ... وفي لفظ لمسلم: ((عادني النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: أوصي بمالي كله؟ فقال: ((لا))، قلت: فالنصف؟ فقال: ((لا))، قلت: أبالثلث؟ فقال: ((نعم، والثلث كثير)). والأفضل أن يوصي بأقل من الثلث والثلث جائز؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: لو غضَّ الناس إلى الربع؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الثلث والثلث كثير)) (¬2). ولا وصية لوارث؛ لحديث أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬
يقول في خطبته عام حجة الوداع: ((إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث)) (¬1). أما الوصية للوالدين والأقربين الذين يرثون الموصي فهي منسوخة بآية الميراث، فعن ابن عباس رضي الله عنهما: {إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ} فكانت الوصية كذلك حتى نسختها آية الميراث)) (¬2). قال العلامة السعدي – رحمه الله –: ((واعلم أن جمهور المفسرين يرون أن هذه الآية منسوخة بآية المواريث، وبعضهم يرى أنها في الوالدين والأقربين غير الوارثين، مع أنه لم يدل على التخصيص بذلك دليل، والأحسن في هذا أن يقال: إن هذه الوصية للوالدين والأقربين مجملة ردَّها الله تعالى إلى العرف الجاري، ثم أن الله تعالى قدر للوالدين الوارثين وغيرهما من الأقارب الوارثين هذا المعروف في آيات المواريث بعد أن كان مجملاً، وبقي الحكم فيمن لم يرثوا من الوالدين الممنوعين من الإرث وغيرهما، ممن حجب بشخص أو وصف، فإن الإنسان مأمور بالوصية لهؤلاء، وهم أحق الناس ببره، وهذا القول تتفق عليه الأمة، ويحصل به الجمع بين القولين المتقدمين؛ لأن كلاًّ من القائلين بهما كل منهم لحظ ملحظاً واختلف المورد، ¬
16 - يحرم عليه الإضرار في الوصية
فبهذا الجمع يحصل الاتفاق والجمع بين الآيات، فإن أمكن الجمع كان أحسن من ادّعاء النسخ الذي لم يدلَّ عليه دليل صحيح)) (¬1). ويَشهد على وصيته رجلان عدلان من المسلمين، فإن لم يوجدا فرجلان من غير المسلمين، على أن يستوثق منهما عند الشك بشهادتهما حسبما جاء بيانه في قول الله تبارك وتعالى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِالله إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِالله لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا الله وَاسْمَعُواْ وَالله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (¬2). 16 – يحرم عليه الإضرار في الوصية؛ لقول الله تعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ الله وَالله عَلِيمٌ حَلِيمٌ} (¬3)؛ ولحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا ضرر ولا ضرار، من ضارَّ ضارَّه الله، ومن شاقَّ شاقَّ الله عليه)) (¬4). ¬
((والإضرار في الوصية من الكبائر)) (¬1)، قال الإمام الشوكاني: ((ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما (¬2) وقد جاء الوعيد لمن ضارّ في الوصية (¬3)، قال ابن الأثير – رحمه الله تعالى –: ((المضارّة: إيصال الضرر إلى شخص، ومعنى المضارة في الوصية: أن لا يمضيها، أو ينقص منها، أو يوصي لغير أهلها ونحو ذلك)) (¬4). ومن الإضرار بالوصية: الوصية بالمال كله؛ لحديث عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رجلاً أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجزأهم أثلاثاً ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين)) (¬5). وفي لفظ: ((فقال له قولاً شديداً)) (¬6). ¬
17 - يقلم أظفاره ويحلق عانته
وفي لفظ لأحمد: ((أن رجلاً أعتق عند موته ستة رَجْلَةٍ (¬1) فجاء ورثته من الأعراب فأخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما صنع، قال: ((أوفعل ذلك؟)) قال: ((لو علمنا إن شاء الله ما صلينا عليه)) قال: فأقرع بينهم فأعتق منهم اثنين (¬2). وعن أبي زيد الأنصاري ((أن رجلاً أعتق ستة أعبدٍ عند موته ليس له مال غيرهم، فأقرع بينهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأعتق اثنين وأرق أربعة)) (¬3). وزاد أبو داود: ((وقال: يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لو شهدته قبل أن يدفن لم يدفن في مقابر المسلمين)) (¬4). 17 – يُقلِّم أظفاره ويحلق عانته، ويأخذ من شاربه إن كان له شارب؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة خبيب، وفيه أن خبيباً - رضي الله عنه - عندما علم بأن المشركين أجمعوا على قتله استعار من ابنة الحارث موسى يستحد به، فأعارته ... )) (¬5). 18 – يجتهد أن يكون آخر كلامه: لا إله إلا الله، لعل الله أن يلهمه ذلك؛ لحديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من كان آخر ¬
سادسا: آداب زيارة المريض
كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة)) (¬1). وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أتاني آتٍ من ربي فأخبرني - أو قال: بشرني - أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة)) (¬2). وقيل لوهب بن منبه: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال: بلى، ولكن ليس مفتاح إلا له أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فُتح لك وإلا لم يُفتح)) (¬3). سادساً: آداب زيارة المريض كثيرة، منها ما يأتي: 1 - زيارة المريض حق على أخيه المسلم؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس))، وفي لفظ لمسلم: ((حق المسلم على المسلم ست)) قيل: ما هن يا رسول الله؟ قال: ((إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس حمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه)) (¬4). وعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع ونهانا عن ¬
2 - ينوي بعيادة المريض القيام بحق أخيه المسلم
سبع: أمرنا باتباع الجنائز، وعيادة المريض، وإجابة الداعي، ونصر المظلوم، وإبرار المقسم، ورد السلام، وتشميت العاطس، ونهانا عن آنية الفضة، وخاتم الذهب، والحرير، والديباج، والقسي، والإستبرق [وعن المياثر] (¬1). وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني)) (¬2). 2 – ينوي بعيادة المريض القيام بحق أخيه المسلم والحصول على الثواب العظيم؛ لحديث ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عائد المريض في مخرفة الجنة حتى يرجع))، وفي لفظ: ((من عاد مريضاً لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع))، وفي لفظ: ((إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع))، وفي لفظ: قيل: يا رسول الله! وما خرفة الجنة؟ قال: ((جناها)) (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله - عز وجل - يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم استطعمتك فلم ¬
تطعمني، قال: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما علمت أنك لو سقيته وجدت ذلك عندي)) (¬1). وجاء علي - رضي الله عنه - إلى الحسن يعوده فوجد عنده أبا موسى، فقال علي - رضي الله عنه - أعائداً جئت أم زائراً؟ قال: لا بل عائداً، فقال علي: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من مسلم يعود مسلماً غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة)) (¬2). ولفظ ابن ماجه: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من أتى أخاه المسلم عائداً مشى في خرافة الجنة حتى يجلس، فإذا جلس غمرته الرحمة، فإن كان غدوة صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن كان مساء صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح)) (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من عاد مريضاً نادى منادٍ ¬
3 - يدعو للمريض بالشفاء
من السماء: طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلاً)) (¬1). 3 - يدعو للمريض بالشفاء؛ لحديث ابن عباس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من عاد مريضاً لم يحضر أجله فقال عنده سبع مرات: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك: إلا عافاه الله من ذلك المرض)) (¬2). وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - في حديثه الطويل، وفيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء إليه يعوده ووضع يده على جبهته ثم مسح بيده على صدره وبطنه، ثم قال: ((اللهم اشف سعداً، اللهم اشف سعداً)) ثلاث مرار (¬3). وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على أعرابي يعوده، قال: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل على مريض يعوده قال: ((لا بأس، طهور إن شاء الله)) (¬4). 4 - يدعوه إلى التوبة وإحسان الظن بالله ويذكره الوصية؛ لما تقدم في إحسان الظن بالله - عز وجل -؛ولحديث سعد بن مالك قال: عادني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا مريض، فقال: ((أوصيت؟)) قلت: نعم، قال: ((بكم؟)) قلت: بمالي كله في سبيل الله، قال: ((فما تركت لولدك؟)) قلت: هم أغنياء بخير، قال: ((أوصِ بالعشر)) فما زلت أناقصه حتى قال: ((أوصِ بالثلث والثلث ¬
5 - يدعوه إلى الإسلام إن كان كافرا
كثير)) (¬1)؛ ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه، يبيت ليلتين، إلا ووصيته مكتوبة عنده)) (¬2). 5 – يدعوه إلى الإسلام إن كان كافراً؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - أن غلاماً من اليهود كان مَرِضَ فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: ((أسلم))، فنظر إلى أبيه، فقال له أبوه: أطع أبا القاسم، فأسلم، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: ((الحمد لله الذي أنقذه بي من النار)) (¬3). وقد عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمه أبا طالب في مرض الوفاة ودعاه إلى أن يقول: لا إله إلا الله، ولكنه أبى وقال: هو على ملة عبد المطلب. وأبى أن يقول هذه الكلمة العظيمة (¬4). 6 – يُبيِّن له فضل المرض وما يُكفِّر من السيئات؛ لحديث أم العلاء قالت: عادني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا مريضة، فقال: ((أبشري يا أم العلاء! فإن مرض المسلم يُذهب الله به خطاياه، كما تذهب النار خبث الذهب ¬
7 - يلقنه إذا كان في حالة النزع (لا إله إلا الله)
والفضة)) (¬1). وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة (¬2). 7 – يلقنه إذا كان في حالة النزع: ((لا إله إلا الله))؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لقنوا موتاكم لا إله إلا الله)) (¬3). ولحديث أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاد رجلاً من الأنصار، فقال: ((يا خال قل: لا إله إلا الله)) فقال: أخالٌ أم عمٌّ؟ فقال: ((بل خال)) فقال: فخيرٌ لي أن أقول: لا إله إلا الله؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم)) (¬4). 8 – لا يقول في حضور المريض إلا خيراً؛ لحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيراً، فإن الملائكة يؤمّنون على ما تقولون)) (¬5). 9 – يوجه المحتضر إلى القبلة إن تيسر؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن لكل شيء سيداً، وإن سيد المجالس قبالة القبلة)) (¬6)؛ ولحديث عمير بن قتادة الليثي – وكانت له صحبة – أن رجلاً سأله فقال: ¬
يا رسول الله! ما الكبائر؟ فقال: ((هُنَّ تِسعٌ ... )) فذكر معناه ... زاد ((وعقوق الوالدين المسلمين، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياءً وأمواتاً)) (¬1). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز – رحمه الله – يقول عن هذا الحديث: ((له شواهد، وهو دليل على توجيه المحتضر، ووضعه في قبره مستقبلاً القبلة)) (¬2). قال الإمام الشوكاني – رحمه الله –: ((والأولى الاستدلال لمشروعية التوجيه بما رواه الحاكم والبيهقي عن أبي قتادة أن البراء بن معرور أوصى أن يُوجَّه إلى القبلة إذا احتُضر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أصاب الفطرة)) (¬3). وروى البيهقي عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك في قصةٍ ذكرها، قال: وكان البراء بن معرور أول من استقبل القبلة حيّاً وميتاً (¬4). وجاء عن حذيفة - رضي الله عنه - أنه قال: ((وجِّهوني إلى القبلة)) (¬5). ¬
سابعا: الآداب الواجبة والمستحبة لمن حضر وفاة المسلم
ويذكر عن الحسن قال: ذكر عمر الكعبة، فقال: ((والله ما هي إلا أحجار نصبها الله قبلة لأحيائنا، ونوجه إليها موتانا)) (¬1). وسئل الإمام شيخنا عبد العزيز ابن باز - رحمه الله -: هل يشرع توجيه المحتضر إلى القبلة؟ فأجاب: ((نعم، يستحب ذلك عند أهل العلم، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((البيت الحرام قبلتكم أحياءً وأمواتاً (¬2)) (¬3)، وقال رحمه الله في كيفية توجيه المحتضر إلى القبلة: ((يجعل على جنبه الأيمن ووجه إلى القبلة كما يوضع في اللحد)) (¬4). سابعاً: الآداب الواجبة والمستحبة لمن حضر وفاة المسلم كثيرة، منها: 1 - يغمض إذا خرجت الروح ولا يقول من حضره إلا خيراً؛ لحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي سلمة وقد شق بصره، فأغمضه ثم قال: ((إن الروح إذا قُبض تبعه البصر)) فضج ناس من أهله فقال: ((لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون)) ثم قال: ((اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره، ونوِّر له فيه)) (¬5). 2 - يُدعى له؛ لما في حديث أم سلمة السابق فيقال: ((اللهم اغفر ¬
3 - يغطى بثوب يستر جميع بدنه
لفلان، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره ونوِّر له فيه)). 3 – يُغطَّى بثوب يستر جميع بدنه؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: سُجِّي (¬1) رسول الله حين مات بثوب حَبِرةٍ)) (¬2)، ولفظ البخاري: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين توفي سُجي ببردٍ حِبَرة)) (¬3). 4 – لا يُغطَّى رأس المحرم ولا وجهه؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما في الرجل الذي وقصته راحلته وهو محرم، وفيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اغسلوه بماء وسدر، وكفِّنوه في ثوبيه، ولا تُخمِّروا رأسه ولا وجهه؛ فإنه يُبعث يوم القيامة ملبياًً)) وفي رواية: ((ولا تُحنِّطوه)) وفي رواية: ((ولا تطيِّبوه)) (¬4). 5 – يُعجَّل بتجهيزه وإخراجه إذا بان موته، وقاموا بحقوقه: من الغسل، والتكفين، والصلاة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((أسرعوا بالجنازة فإن تكُ صالحةً فخير تقدمونها إليه، وإن تكُ سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم)) (¬5). 6 – يُدفنُ في البلد الذي مات فيه، ولا ينقل إلى غيره، لأن النقل ينافي الإسراع المأمور به في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - المتقدم. ¬
7 - لو مات في غير مولده دفن مكانه وكان خيرا له
وحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما كان يوم أحد جاءت عمتي بأبي لتدفنه في مقابرنا فنادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ردوا القتلى إلى مضاجعها)) وفي لفظ أبي داود: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمركم أن تدفنوا القتلى في مضاجعهم، فرددناهم)) (¬1). ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها لما مات أخٌ لها بوادي الحبشة فَحُمِلَ من مكانه: ((ما أجد في نفسي أو يحزنني في نفسي إلا أني وددت أنه كان دفن في مكانه)) (¬2). قال الإمام النووي في الأذكار كما ذكر الألباني في أحكام الجنائز (¬3): ((وإذا أوصى بأن ينقل إلى بلد آخر لا تنفذ وصيته، فإن النقل حرام على المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون وصرح به المحققون)). وكان شيخنا ابن باز - رحمه الله - يقول: ((حتى لو أوصى الميت أن ينقل إلى مكة أو المدينة لا تُنفذ وصيته؛ لأن الصحابة - رضي الله عنهم - لم يوصوا بذلك)) سمعت ذلك منه رحمه الله. 7 - لو مات في غير مولده دفن مكانه وكان خيراً له؛ لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: مات رجل بالمدينة ممن وُلد بها، فصلى عليه ¬
8 - يبادر بقضاء دينه بعد موته من ماله
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: ((يا ليته مات بغير مولده!)) قالوا: ولم ذلك يا رسول الله؟ قال: ((إن الرجل إذا مات بغير مولده قيس من مولده إلى منقطع أثره في الجنة)) (¬1). 8 – يُبادر بقضاء دينه بعد موته من ماله، فإن لم يكن له مال فعلى الدولة، فإن لم تقم به وتطوَّع به بعض الحاضرين جاز؛ لحديث سعد بن الأطول: أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم، وترك عيالاً قال: فأردت أن أنفقها على عياله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أخاك محتَبسٌ بدينه فاقضِ عنه))، فقال: يا رسول الله: قد أدَّيت عنه إلا دينارين ادَّعَتْهُما امرأة وليس لها بينة، قال: ((فأعطها فإنها مُحقّة)) (¬2). وعن سمرة بن جندب - رضي الله عنه -: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى على جنازة، فلما انصرف قال: ((أهاهنا أحد من آل فلان؟)) [فسكت القوم، وكان إذا ابتدأهم بشيء سكتوا] فقال ذلك مراراً [ثلاثاً لا يجيبه أحد] [فقال رجل: هو ذا] قال: فقام رجل يجرُّ إزاره من مؤخر الناس [فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما منعك في المرتين الأوليين أن تكون أجبتني؟] أما إني لم أُنوّه باسمك إلا لخير، إن فلاناً – لرجل منهم – مأسور بدينه [عن الجنة فإن شئتم فافدوه، وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله])) فلو رأيت أهله ومن يتحرَّون أمره قاموا فقضوا عنه [حتى ما أحد يطلبه شيء] (¬3). ¬
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ((مات رجل فغسلناه، وكفناه، وحنطناه، ووضعناه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث توضع الجنائز، عند مقام جبريل، ثم آذنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة، فجاء معنا [فتخطى] خُطىً، ثم قال: ((لعلَّ على صاحبكم ديناً؟)) قالوا: نعم ديناران، فتخلّف [قال: ((صلوا على صاحبكم))] فقال له رجل منا يقال له: أبو قتادة: يا رسول الله هما عليَّ، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((هما عليك، والميت منهما برئ؟)) فقال: نعم، فصلى عليه، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لقي أبا قتادة يقول: (وفي رواية: ثم لقيه من الغد فقال): ما صنعت الديناران؟ [قال: يا رسول الله إنما مات أمس] حتى كان آخر ذلك (وفي الرواية الأخرى: ثم لقيه من الغد فقال: (ما فعل الديناران؟) قال: قد قضيتهما يا رسول الله، قال: ((الآن حين بردت عليه جلده)) (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُؤتى بالرجل الميت عليه الدين، فيسأل: ((هل ترك لدينه من قضاء؟)) فإن حُدِّث أنه ترك وفاء صلى عليه، وإلا قال: ((صلُّوا على صاحبكم)) ولما فتح الله عليه الفتوح قال: ((أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي وعليه دين فعليَّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته)) (¬2). ¬
9 - تنفذ وصيته: الثلث فأقل
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين)) (¬1). 9 - تُنفَّذ وصيته: الثلث فأقل؛ لأن إنفاذ الوصية واجب، والإسراع بالتنفيذ إما واجب أو مستحب؛ لأن الوصية إن كانت في واجب، فللإسراع في إبراء ذمته، وإن كانت في تطوع فللإسراع في الأجر له، والوصية إما واجبة وإما تطوع، قال أهل العلم: فينبغي أن تنفذ قبل أن يدفن (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدَّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)) (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نفس المؤمن معلقة بدَيْنه حتى يُقضَى عنه)) (¬4). ثامناً: الأمور التي تجوز للحاضرين وغيرهم كثيرة، منها ما يأتي: 1 - كشف وجه الميت. 2 - تقبيله. 3 - البكاء عليه بدمع العين. ¬
وفي ذلك أحاديث منها على سبيل الإيجاز ما يأتي: الحديث الأول: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما أصيب أبي يوم أحد فجعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي وجعلوا ينهونني، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا ينهاني، قال: وجعلت فاطمة بنت عمرو تبكيه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تبكيه أو لا تبكيه، مازالت الملائكة تظلّه بأجنحتها حتى رفعتموه)) (¬1). الحديث الثاني: عن عائشة رضي الله عنها قالت: أقبل أبو بكر - رضي الله عنه - على فرسه من مسكنه بالسنح حتى نزل فدخل المسجد [وعمر يكلم الناس]، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة رضي الله عنها فتيمم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مُسجَّىً ببردة حبرة، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه، فقبل [بين عينيه]، ثم بكى فقال: بأبي أنت وأمي يا نبي الله، لا يجمع الله عليك موتتين: أما الموتة الأولى التي كتبت لك فقد متها))، وفي رواية: ((لقد مت الموتة التي لا تموت بعدها)) (¬2). الحديث الثالث: عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قّبَّل عثمان بن مظعون وهو ميت، وهو يبكي، أو قال: عيناه تذرفان. ولفظ ابن ماجه: ((قَبَّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان بن مظعون وهو ميِّتٌ، فكأني أنظر إلى دموعه تسيل على خدَّيه)) (¬3). ¬
4 - صنع الطعام لأهل الميت
الحديث الرابع: عن أنس - رضي الله عنه - قال: دخلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي أسيف القين (¬1) – وكان ظئراً (¬2) –لإبراهيم - عليه السلام - – فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إبراهيم فقبّله وشمه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك، وإبراهيم يجود بنفسه (¬3)، فجعلت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: وأنت يا رسول الله؟ فقال: ((يا ابن عوف إنها رحمة))، ثم أتبعها بأخرى، فقال: ((إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يَرْضَى ربُّنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)) (¬4). الحديث الخامس: حديث عبد الله بن جعفر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمهل آل جعفر – ثلاثاً – أن يأتيهم ثم أتاهم فقال: ((لا تبكوا على أخي بعد اليوم ... )) (¬5). 4 – صنع الطعام لأهل الميت؛ لحديث عبد الله بن جعفر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اصنعوا لآل جعفر طعاماً؛ فإنه قد أتاهم أمر يشغلهم)) (¬6). ¬
تاسعا: الأمور الواجبة على أقارب الميت وغيرهم
تاسعاً: الأمور الواجبة على أقارب الميت وغيرهم عديدة، منها ما يأتي: 1 - الصبر والرضا بالقدر لقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (¬1). وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ((مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بامرأة عند قبرٍ وهي تبكي، فقال لها: ((اتقي الله واصبري))، فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي! قال: ولم تعرفه! فقيل لها: هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذها مثل الموت، فأتت باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم تجدعنده بوابين، فقالت: يا رسول الله إني لم أعرفك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الصبر عند أول الصدمة)) (¬2). 2 - الاسترجاع، وهو أن يقول: ((إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها)) (¬3)، ويأتي التفصيل في ذلك في فضل الصبر على المصائب بعد صفحات إن شاء الله تعالى. ولا ينافي الصبر أن تمتنع المرأة من الزينة كلِّها، حداداً على وفاة ولدها أو غيره إذا لم تزد على ثلاثة أيام، إلا على زوجها، فتحد أربعة أشهر وعشراً؛ لحديث زينب بنت أبي سلمة قالت: ((دخلت على أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يحلُّ لامرأةٍ تؤمن بالله ¬
واليوم الآخر [أن] تحدَّ على ميِّتٍ فوق ثلاث، إلا على زوجٍ أربعة أشهر وعشراً)) ثم دخلت على زينب بنت جحش حين توفي أخوها فدعت بطيب فمست، ثم قالت: ما لي بالطيب من حاجة، غير أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ... )) فذكرت الحديث (¬1). ولكنها إذا لم تحد على غير زوجها، إرضاءً للزوج وقضاءً لوطره منها، فهو أفضل لها، ويُرجى لهما من وراء ذلك خير كثير كما وقع لأم سُليْمٍ وزوجها أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنهما ولا بأس من أن أسوق هنا قصتهما في ذلك – على طولها – لما فيها من الفوائد والعظات والعبر، قال أنس - رضي الله عنه -: ((قال مالك أبو أنس لامرأته أم سليم – وهي أم أنس – إن هذا الرجل – يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - يحرم الخمر – فانطلق حتى أتى الشام فهلك هناك فجاء أبو طلحة، فخطب أم سُليم، فكلمها في ذلك، فقالت: يا أبا طلحة! ما مثلك يرد، ولكنك امرؤ كافر، وأنا امرأة مسلمة لا يصح لي أن أتزوجك! فقال: ما ذاك دهرك! قالت: وما دهري! قال: الصفراء والبيضاء! قالت: فإني لا أريد صفراء ولا بيضاء، أريد منك الإسلام، [فإن تُسلِم فذاك مَهري، ولا أسألك غيره]، قال: فمن لي بذلك؟ قالت: لك بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فانطلق أبو طلحة يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في أصحابه، فلما رآه قال: جاءكم أبو طلحة غُرَّةُ الإسلام بين عينيه، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قالت أم سليم، فتزوجها على ذلك. قال ثابت (وهو البناني أحد رواة القصة عن أنس): فما بلغنا أن مَهْراً كان أعظم منه أنها رضيت الإسلام مهراً، فتزوجها وكانت امرأة مليحة ¬
العينين، فيها صغرٌ، فكانت معه حتى ولد له بُني، وكان يحبه أبو طلحة حبّاً شديداً، ومرض الصبي [مرضاً شديداً]، وتواضع أبو طلحة لمرضه أو تضعضع له، [وكان أبو طلحة يقوم صلاة الغداة يتوضأ، ويأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فيصلي معه، ويكون معه إلى قريب من نصف النهار، ويجيء يقيل ويأكل، فإذا صلى الظهر تهيأ وذهب، فلم يجئ إلى صلاة العتمة] فانطلق أبو طلحة عشية إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (وفي رواية: إلى المسجد) ومات الصبي فقالت أم سليم: لا ينعين إلى أبي طلحة أحد ابنه حتى أكون أنا الذي أنعاه له، فهيأت الصبي [فسجت عليه] ووضعته [في جانب البيت]، وجاء أبو طلحة من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى دخل عليها [ومعه ناس من أهل المسجد من أصحابه] فقال: كيف ابني؟ فقالت: يا أبا طلحة ما كان منذ اشتكى أسكن منه الساعة [وأرجو أن يكون قد استراح!] فأتته بعشائه [فقربته إليهم فتعشوا، وخرج القوم] [قال: فقام إلى فراشه، فوضع رأسه]، ثم قامت فتطيبت، [وتصنعت له أحسن ما كانت تَصَنَّع قبل ذلك]، [ثم جاءت حتى دخلت معه الفراش، فما هو إلا أن وجد ريح الطيب كان منه ما يكون من الرجل إلى أهله]، [فلما كان آخر الليل] قالت: يا أبا طلحة أرأيت لو أن قوماً أعاروا قوماً عارية لهم، فسألوهم إياها أكان لهم أن يمنعوهم؟ فقال: لا؛ قالت: فإن الله - عز وجل - كان أعارك ابنك عارية، ثم قبضه إليه، فاحتسب واصبر! فغضب ثم قال: تركتِني حتى إذا وقعت بما وقعت به نعيتِ إلي ابني! [فاسترجع، وحمد الله] [فلما أصبح اغتسل]، ثم غدا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[فصلى معه] فأخبره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بارك الله لكما في غابر ليلتكما))، فثقلت من ذلك الحمل،
وكانت أم سليم تسافر مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، تخرج إذا خرج، وتدخل معه إذا دخل، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا ولدت فأتوني بالصبي)). [قال: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر وهي معه، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى من سفر لا يطرقها طروقاً، فدنوا من المدينة، فضربها المخاض، واحتبس عليها أبو طلحة، وانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو طلحة: يا رب إنك لتعلم أنه يعجبني أن أخرج مع رسولك إذا خرج، وأدخل معه إذا دخل، وقد احتُبست بما ترى، قال: تقول أم سُليم: يا أبا طلحة ما أجد الذي كنت أجد فانطلقا، قال: وضربها المخاض حين قدموا] فولدت غلاماً، وقالت لابنها أنس: [يا أنس! لا يطعم شيئاً حتى تغدو به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، [وبعثت معه بتمرات]، قالت: فبات يبكي، وبت مجنحاً عليه (¬1)، أكالئه حتى أصبحت، فغدوت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -]، [وعليه بردة]، وهو يسم إبلاً أو غنماً [قدمت عليه]، فلما نظر إليه، قال لأنس: ((أولدت بنت ملحان؟)) قال: نعم، [فقال: ((رويدك أفرغ لك))]، قال: فألقى ما في يده، فتناول الصبي وقال: (([أمعه شيء؟)) قالوا: نعم، تمرات]، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم -[بعض] التمر [فمضغهن، ثم جمع بزاقه]، [ثم فغر فاه، وأوجره إياه]، فجعل يحنك الصبي، وجعل الصبي يتلمظ: [يمص بعض حلاوة التمر وريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان أول من فتح أمعاء ذلك الصبي على (¬2) ريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((انظروا إلى حب الأنصار التمر))، [قال: قلت: يا رسول الله: سمّه، قال:] [فمسح وجهه] وسماه عبد الله، [فما كان في ¬
عاشرا: الأمور المحرمة على أقارب الميت وغيرهم
الأنصار شاب أفضل منه]، [قال: فخرج منه رَجِل (¬1) كثير، واستشهد عبد الله بفارس])) (¬2). عاشراً: الأمور المحرمة على أقارب الميت وغيرهم كثيرة، منها ما يأتي: 1 - النياحة؛ لحديث أبي مالك الأشعري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أربعٌ في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركوهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة)) وقال: ((النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب)) (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اثنتان في الناس هما بهما كفر: الطعن في الأنساب والنياحة على الميت)) (¬4). وعن أم عطية رضي الله عنها قالت: أخذ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع البيعة ألا ننوح فما وفّت منا امرأة إلا خمس: أم سليم، وأم العلاء، وابنة أبي سبرة امرأة معاذ - أو ابنة أبي سبرة وامرأة معاذ)) (¬5). وعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: لما أصيب عمر - رضي الله عنه - أقبل صهيب من منزله ¬
حتى دخل على عمر، فقام بحياله يبكي، فقال له عمر: علام تبكي؟ أعليَّ تبكي؟ قال: إي والله لعليك أبكي يا أمير المؤمنين، فقال: والله لقد علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من يُبكى عليه يُعذَّب)) وفي رواية لمسلم عن أنس أن عمر بن الخطاب لما طُعِنَ عَوَّلَتْ عليه حفصة فقال: يا حفصة أما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((المُعوَّلُ عليه يعذب)) وعَوَّل عليه صهيبٌ فقال عمر: يا صهيب أما علمت: ((أن المعوَّل عليه يعذب)) وفي لفظ للبخاري: أن عمر لما أصيب دخل صهيب يبكي يقول: واأخاه، واصاحباه، فقال - رضي الله عنه -: يا صهيب أتبكي عليَّ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه))، وفي رواية للبخاري: ((إن الميت ليعذب ببكاء الحي)) (¬1). واختلف العلماء رحمهم الله في المراد بهذا الحديث، ومن ذلك قول الجمهور: وهو أن الحديث محمول على من أوصى بالنوح عليه، أو لم يُوصِ بتركه مع علمه بأن الناس يفعلونه عادة. وقيل: معنى ((يُعذَّب)) أي يتألَّم بسماعه بكاء أهله ويرق لهم ويحزن، وذلك في البرزخ، ونصر ابن تيمية وابن القيم هذا القول (¬2). وسمعت شيخنا ابن باز – رحمه الله – يقول: الميت يعذب ببكاء أهله، والله أعلم بالكيفية (¬3). ¬
2 - الدعاء بدعوى الجاهلية
2 – الدعوى بدعاء الجاهلية. 3 – ضرب الخدود. 4 – شق الجيوب؛ لحديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية)) وفي لفظ للبخاري: ((ليس منَّا من لطم الخدود ... )) (¬1). 5 – رفع الصوت عند المصيبة. 6 – حلق الشعر؛ لحديث أبي بردة عن أبي موسى قال: وجع أبو موسى وجعاً فغشي عليه ورأسه في حجر امرأته من أهله، فصاحت امرأةٌ من أهله، فلم يستطع أن يرد عليها شيئاً، فلما أفاق قال: أنا بَرِيءٌ مما برئ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بَرِئ من الصالقة، والحالقة، والشاقة)) (¬2). 7 – الويل والدعاء به. 8 – نشر الشعر؛ لحديث امرأة من المبايعات قالت: كان فيما أخذ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المعروف الذي أخذ علينا أن لا نعصيه فيه: أن لا تخمش وجهاً، ولا ندعو ويلاً، ولا نشق جيباً، ولا ننثر شَعراً)) (¬3). ¬
9 - النعي المحرم
9 - النعي المحرم، وهو ما كانت الجاهلية يفعلونه، فقد كانوا يرسلون من يعلن بخبر موت الميت على أبواب الأحياء والأسواق، أو يركب المخبر على دابة ويصيح في الناس (¬1)، قال ابن الأثير رحمه الله: ((يقال: نعى الميت ينعاه نعياً ونعيَّا: إذا أذاع موته وأخبر به، وإذا ندبه .. والمشهور في العربية أن العرب كانوا إذا مات منهم شريف، أو قُتِلَ بعثوا راكباً إلى القبائل ينعاه إليهم، يقول نعاءِ فلاناً، أو يا نعاء العرب: أي هلك فلان أو هلكت العرب بموت فلان)) (¬2). ومن ذلك أن الناعي يصعد على الجبل، أو السور المرتفع، أو على سطوح المنازل وينادي يصيح: أنعى فلاناً (¬3)، أو الإخبار بإتيان الآتي إلى الحي من الأحياء وصياحه: أنعى إليكم فلان بن فلان (¬4)، فهذا النعي محرم، ومن عادات الجاهلية، فلا يجوز للمسلم أن يعمل هذا العمل ولا يرضى به، وقد ظهر مما تقدم: أن النعاة: هم المخبرون بموت من مات، وأن الناعية: هي النائحة (¬5)، وأن المحرم من النعي ما كان على عادة الجاهلية، أما المباح من النعي فسيأتي بضوابطه إن شاء الله تعالى. الحادي عشر: النعي المباح الجائز: يجوز الإخبار بالوفاة إذا لم يقترن بذلك، ما يشبه نعي الجاهلية، وقد ¬
يجب إذا لم يكن عنده من يقوم بالواجب من حقوق الميت المسلم، من: الغسل، والتكفين، والصلاة عليه، ودفنه. ومن النصوص التي تدل على جواز هذا النعي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، خرج إلى المصلى فصفَّ بهم وكبَّر أربعاً. ولفظ مسلم: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه فخرج بهم إلى المصلى وكبر أربع تكبيرات))، وفي لفظ: ((نعى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النجاشي صاحب الحبشة في اليوم الذي مات فيه فقال: ((استغفروا لأخيكم)) (¬1). وعن جابر - رضي الله عنه - ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى على النجاشي فكنت في الصف الثاني أو الثالث)) وفي لفظ: (( ... أصحمة النجاشي)) وفي لفظ: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين مات النجاشي: ((مات اليوم رجل صالح فقوموا صلوا على أخيكم)). وفي لفظ لمسلم: ((فكبر عليه أربعاً)). وفي لفظ له: ((مات اليوم عبد لله صالح)). وفي لفظ: ((إن أخاً لكم مات فقوموا فصلوا عليه)) (¬2). وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبدالله بن رواحة فأصيب))، وإن عيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتذرفان، ((ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة ففُتِحَ له)) (¬3). ¬
وقد ترجم الإمام البخاري – رحمه الله – لحديث أبي هريرة وأنس، بقوله: ((باب الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه)). وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى على هذه الترجمة: ((وفائدة هذه الترجمة: الإشارة إلى أن النعي ليس ممنوعاً كله، وإنما نهى عما كان أهل الجاهلية يصنعونه، فكانوا يرسلون من يعلن بخبر موت الميت على أبواب الدور، والأسواق ... )) ثم قال: ((وقال ابن المرابط: مراده أن النعي الذي هو إعلام الناس بموت قريبهم مباح، وإن كان فيه إدخال الكرب والمصائب على أهله، لكن في تلك المفسدة مصالح جمة؛ لما يترتب على معرفة ذلك من المبادرة لشهود الجنازة، وتهيئة أمره، والصلاة عليه، والدعاء له، والاستغفار، وتنفيذ وصاياه، وما يترتب على ذلك من الأحكام)). ثم قال: قال ابن العربي: يؤخذ من مجموع الأحاديث ثلاث حالات: الأولى: إعلام الأهل والأصحاب فهذا سنة. الثانية: دعوة الحفل للمفاخرة فهذه تكره. الثالثة: الإعلام بنوع آخر: كالنياحة، ونحو ذلك فهذا حرام)) (¬1). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((مات إنسان كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوده، فمات بالليل فدفنوه ليلاً، فلما أصبح أخبروه فقال: ((ما منعكم أن تعلموني؟)) قالوا: كان الليل فكرهنا – وكانت ظلمة – أن نشق عليك، فأتى قبره فصلى عليه)) (¬2). ¬
وقد ترجم الإمام البخاري – رحمه الله – لهذا الحديث بقوله: ((باب الإذن بالجنازة)) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((والمعنى الإعلام بالجنازة إذا انتهى أمرها؛ ليُصلَّى عليها، قيل هذه الترجمة: تغاير التي قبلها من جهة: أن المراد بها الإعلام بالنفس وبالغير، قال الزين بن المنير: هي مرتبة على التي قبلها؛ لأن النعي إعلام من لم يتقدم له علم بالميت، والإذن إعلام بتهيئة أمره وهو حسن)) (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن امرأة سوداء كانت تقمُّ المسجد أو شابّاً فقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عنها أو عنه، فقالوا: مات، قال: ((أفلا كنتم آذنتموني)) قال فكأنهم صغروا أمرها أو أمره، فقال: ((دلّوني على قبره)) فدلوه فصلى عليها، ثم قال: ((إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها وإن الله - عز وجل - ينورها بصلاتي عليهم)) (¬2). ويستحب للمخبر أن يطلب من الناس أن يستغفروا للميت؛ لحديث أبي هريرة المتقدم في قصة النجاشي، وفي بعض رواياته: لما نعى للناس النجاشي قال: ((استغفروا لأخيكم)) (¬3). وحديث أبي قتادة في قصة إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتل زيد بن حارثة، وجعفر، وعبد الله بن رواحة، وفي القصة: ((ألا أخبركم عن جيشكم هذا الغازي؟ إنهم انطلقوا فلقوا العدوَّ فأصيب زيدٌ شهيداً، فاستغفروا له، ¬
فاستغفر له الناس، ثم أخذ اللواء جعفر بن أبي طالب فشدَّ على القوم حتى قُتِلَ شهيداً أشهد له بالشهادة، فاستغفروا له، ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة فأثبت قدميه حتى قتل شهيداً، فاستغفروا له، ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد ... )) (¬1) الحديث (¬2). وقال الإمام ابن الملقن – رحمه الله تعالى –: ((النعي على ضربين: أحدهما: مجرد إعلام؛ لقصد ديني كطلب كثرة الجماعة تحصيلاً للدعاء للميت، وتتميماً للعدد الذي وُعِدَ بقبول شفاعتهم له: كالأربعين، والمائة مثلاً، أو لتشييعه وقضاء حقه في ذلك، وقد ثبت في معنى ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ((هلا آذنتموني به)) (¬3)، ونعيه عليه الصلاة والسلام أهل مؤتة: جعفراً، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة (¬4). الثاني: فيه أمر محرم مثل: نعي الجاهلية المشتمل على ذكر مفاخر الميت، ومآثره، وإظهار التفجع عليه، وإعظام حال موته، فالأول مستحب، والثاني محرم، وعليه يُحمل نهيه عليه الصلاة والسلام عن النعي كما أخرجه الترمذي وصححه (¬5)، وهذا التفصيل هو الذي تقتضيه الأحاديث الصحيحة (¬6). ¬
الثاني عشر: العلامات التي تدل على حسن الخاتمة
الثاني عشر: العلامات التي تدل على حسن الخاتمة، كثيرة منها ما يأتي: 1 - نطقه بالشهادة عند الموت من أعظم البشارات بحسن الخاتمة؛ لحديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة)) (¬1). 2 - الموت برشح الجبين؛ لحديث بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه - أنه كان بخراسان فعاد أخاً له وهو مريض، فوجده بالموت، وإذا هو بعرق جبينه، فقال: الله أكبر سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((موت المؤمن بعرق الجبين)) (¬2)، وكلام بريدة في رواية الإمام أحمد صريح في أن العرق على ظاهره، وفي معنى الحديث قولان: أحدهما: أنه عبارة عما يكابده من شدة السياق الذي يعرق دون جبينه، وذلك تمحيصاً لذنوبه. والثاني: أنه كناية عن كدِّ المؤمن في طلب الحلال وتضييقه على نفسه بالصوم والصلاة حتى يلقى الله تعالى (¬3). 3 - الموت ليلة الجمعة أو نهارها، لما رُوي وذُكِرَ عن عبد الله بن عمرو ¬
4 - الاستشهاد في ساحة القتال
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر)) (¬1). 4 – الاستشهاد في ساحة القتال؛ لقول الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬2). وعن المقدام بن مَعْدِيكرب - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويُرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر، ويُحلَّى حلية الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويُشَفَّع في سبعين إنساناً من أقاربه)) (¬3). وهذه بشارة عظيمة، وعلامة على حسن الخاتمة، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن شهداء أمة النبي - صلى الله عليه وسلم - كثير: منهم من قتل في سبيل الله كما تقدم، ومنهم ما يأتي: ¬
5 - من مات في سبيل الله تعالى فهو شهيد
5 – من مات في سبيل الله تعالى فهو شهيد، يعني لم يباشر الحرب ولو لم يشاهده وبأي صفة مات. 6 – المطعون شهيد، وهو الذي يموت بالطاعون، وهو الوباء. 7 – المبطون شهيد، وهو الذي يموت من علة البطن، كالاستسقاء وهو انتفاخ الجوف، والإسهال، وقيل: هو الذي يموت بداء بطنه مطلقاً. 8 – الغَرِقُ شهيد، وهو الذي يموت غريقاً في الماء، يروى بغير ياء كحذِر، ويروى بالياء، وهو للمبالغة: كعليم. 9 – وصاحب الهدم شهيد، وهو الذي يموت تحت الهدم. 10 – والحريق شهيد، وهو الذي يموت بحرق النار، ومن فرط في هذه الثلاثة ولم يتحرز حتى أصابه شيء من ذلك فمات فهو عاصٍ وأمره إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه (¬1). 11 – صاحب ذات الجنب شهيد، وهي قرحة تكون في الجنب وورم شديد باطناً. 12 – المرأة تموت بُجمع شهيدة، ويقال بضم الجيم وكسرها وهي المرأة تموت حاملاً، وقد جمعت ولدها في بطنها، وقيل: هي البكر، وصحح القرطبي والنووي الأول (¬2). 13 – من قتل دون ماله فهو شهيد. 14 – من قتل دون أهله فهو شهيد. ¬
15 - من قتل دون دينه فهو شهيد
15 – من قتل دون دينه فهو شهيد. 16 – من قتل دون دمه فهو شهيد. 17 – من قتل دون مظلمته فهو شهيد. 18 – السِّلُّ شهادة، بكسر السين، وضمها وتشديد اللام، وهو داءٌ يحدث في الرئة يؤول إلى ذات الجنب، وقيل: زكام أو سعال طويل مع حمى هادية، وقيل: غير ذلك (¬1). فقد بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - الشهداء في غير المعركة في عدة أحوال، وخصال، وأدلة هذه الخصال ثابتة في السنة، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغَرِقُ، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله)) (¬2). وعن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((الطاعون شهادة لكل مسلم)) (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما تعدون الشهيد فيكم؟)) قالوا: يا رسول الله، من قتل في سبيل الله فهو شهيد، قال: ((إن شهداء أمتي إذاً لقليل)) قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: ((من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد)) وفي رواية: ((والغريق شهيد)) (¬4). ¬
وعن جابر بن عتيك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((الشهداء سبعة، سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد، والغَرِقُ شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، والحَرِقُ شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجُمعٍ شهيد)) (¬1). وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن في القتل شهادة، وفي الطاعون شهادة، وفي البطن شهادة، وفي الغرق شهادة، وفي النفساء يقتلها ولدها جمعاء شهادة)) (¬2). وعن راشد بن حبيش أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل على عبادة بن الصامت يعوده في مرضه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أتعلمون من الشهيد من أمتي؟)) فقال عبادة - رضي الله عنه -:يا رسول الله الصابر المحتسب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن شهداء أمتي إذاً لقليل: القتل في سبيل الله - عز وجل - شهادة، والطاعون شهادة، والبطن شهادة، والنفساء يجرها ولدها بسره إلى الجنة، والحرق، والسِّلُّ)) (¬3). وعن سعيد بن زيد - رضي الله عنه - يرفعه للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل ¬
19 - الموت مرابطا في سبيل الله تعالى
دون دمه فهو شهيد)) (¬1). وعن سويد بن مقرن يرفعه: ((من قتل دون مظلمته فهو شهيد)) (¬2). قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله –: ((والذي يظهر أنه - صلى الله عليه وسلم - أُعلِمَ بالأقل ثم أُعْلِمَ زيادة على ذلك، فذكرها في وقت آخر، ولم يقصد الحصر في شيء من ذلك، وقد اجتمع لنا من الطرق الجيدة أكثر من عشرين خصلة، فإن مجموع ماقدمته مما اشتملت عليه الأحاديث التي ذكرتها أربع عشرة خصلة)) (¬3). قلت: وهي التي اشتملت عليها هذه الأحاديث التي ذكرتها فيما تقدم. 19 – الموت مرابطاً في سبيل الله تعالى؛ لحديث سلمان - رضي الله عنه - قال: معت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأُجري عليه رزقه، وأمن الفتان)) (¬4). 20 – الموت على عمل صالح؛ لحديث حذيفة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من قال: لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة، ومن صام يوماً ابتغاء وجه الله خُتِمَ له بها دخل الجنة، ومن تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله ¬
21 - ثناء الناس على الميت
ختم له بها دخل الجنة)) (¬1). وعن أنس يرفعه: ((إذا أراد الله بعد خيراً استعمله)) فقيل: كيف يستعمله يا رسول الله؟ قال: ((يوفقه لعمل صالح قبل الموت)) (¬2). وعن عمر بن المحبق يرفعه: ((إذا أراد الله بعبد خيراً عسله)) قالوا: وكيف يعسله؟ قال: ((يفتح الله - عز وجل - له عملاً صالحاً بين يدي موته حتى يرضى عنه جيرانه أو من حوله)) (¬3). وعن جابر يرفعه: ((من مات على شيء بُعِثَ عليه)) (¬4). 21 – ثناء الناس على الميت؛ من جمع من المؤمنين الصادقين أقلهم اثنان من جيرانه العارفين به من ذوي الصلاح والعلم موجب له الجنة بفضل الله - عز وجل - ومن علامات حسن الخاتمة؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: مُرَّ على النبي - صلى الله عليه وسلم - بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال: ((وجبت)) ثم مرَّ بأخرى فأثنوا عليها شرّاً أو قال غير ذلك، فقال: ((وجبت)) فقيل: يا رسول الله! قلت لهذا: وجبت، ولهذا: وجبت، فقال: ((شهادة القوم للمؤمن شهادة الله في الأرض)). وفي لفظ: فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ما وجبت؟ قال: ((هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرّاً فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض)). ولفظ مسلم: ((وجبت، وجبت، وجبت، ¬
الثالث عشر: فضائل الصبر والاحتساب على المصائب
أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض)) (¬1). وفي حديث عمر - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة)) قلنا: وثلاثة: قال: ((وثلاثة)) قلنا: واثنان؟ قال: ((واثنان)) ثم لم نسأله عن الواحد (¬2). وفي حديث أنس زيادة عند الحاكم: ((ما من مسلم يموت يشهد له أربعة من أهل أبيات جيرانه الأقربين أنهم لا يعلمون منه إلا خيراً إلا قال الله تبارك وتعالى: قد قبلت قولكم أو قال: هادتكم وغفرت له ما لا تعلمون)) (¬3). وفي حديث أنس عند الحاكم أيضاً: (( ... إن لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من خير أو شر)) (¬4). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: (( ... الملائكة شهداء الله في السماء وأنتم شهداء الله في الأرض)) (¬5). والله - عز وجل - أكرم الأكرمين وهو أرحم الراحمين (¬6). الثالث عشر: فضائل الصبر والاحتساب على المصائب، كثيرة منها ما يأتي: 1 - صلوات الله ورحمته وهدايته للصابرين: قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ ¬
بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (¬1). {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} أي بشرهم بأنهم يُوفَّوْن أجورهم بغير حساب، فالصابرون هم الذين فازوا بالبشارة العظيمة، والمنحة الجسيمة، ثم وصفهم بقوله: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ} وهي كل ما يؤلم القلب أو البدن، أو كليهما، كما تقدم في الآيات، ومن ذلك موت الأحباب، والأولاد، والأقارب، والأصحاب، ومن أنواع الأمراض في بدن العبد أو بدن من يحبه، {قَالُواْ إِنَّا لِله} أي مملوكون لله، مدبرون تحت أمره، وتصريفه، فليس لنا من أنفسنا وأولادنا، وأموالنا شيء، فإذا ابتلانا بشيء فقد تصرف أرحم الراحمين بمماليكه وأموالهم فلا اعتراض عليه، بل من كمال عبودية العبد: علمه بأن وقوع البلية من المالك الحكيم الذي أرحم بعبده من نفسه ووالدته، فيوجب له ذلك الرضا عن الله، والشكر له على تدبيره؛ لما هو خير لعبده وإن لم يشعر بذلك، ومع أننا مملوكون لله فإنا إليه راجعون يوم المعاد، فمجاز كل عامل بعمله، فإن صبرنا واحتسبنا وجدنا أجرنا موفراً عنده، وإن جزعنا وسخطنا لم يكن حظنا إلا السخط وفوات الأجر، فكون العبد لله وراجع إليه من أقوى أسباب الصبر {أُولَئِكَ} الموصوفون بالصبر المذكور {عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ} أي ثناء من الله عليهم {وَرَحْمَةٌ} عظيمة، ومن رحمته إياهم أن وفقهم للصبر الذي ينالون به كمال الأجر {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} الذين ¬
2 - الاستعانة بالصبر من أسباب السعادة
عرفوا الحق، وهو في هذا الموضع علمهم بأنهم لله، وأنهم إليه راجعون، وعملوا به، وهو هنا: صبرهم لله (¬1). قال أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه -: ((نعم العدلان ونعمة العلاوة {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} فهذان العدلان، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} فهذه العلاوة، وهي ما توضع بين العدلين، وهي زيادة في الحمل، فكذلك هؤلاء أعطوا ثوابهم وزيدوا أيضا)) (¬2). 2 - الاستعانة بالصبر من أسباب السعادة، قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} (¬3). 3 - محبة الله للصابرين، قال الله - عز وجل -: {وَالله يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (¬4). 4 - معية الله للصابرين: قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ} (¬5). 5 - استحقاق دخول الجنة لمن صبر، قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا} (¬6). 6 - الصابرون يوفون أجورهم بغير حساب، فلا يوزن لهم، ولا يكال ¬
7 - جميع المصائب مكتوبة في اللوح المحفوظ
لهم إنما يغرف لهم غرفا، وبدون عدٍّ ولا حدٍّ، ولا مقدار (¬1)، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬2). 7 - جميع المصائب مكتوبة في اللوح المحفوظ، من قبل أن يخلق الله الخليقة ويبرأ النسمة، وهذا أمر عظيم لا تحيط به العقول بل تذهل عنده أفئدة أولي الألباب، ولكنه على الله يسير (¬3)، قال الله - عز وجل -: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَالله لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (¬4). 8 - ما أصاب من مصيبة في النفس، والمال والولد، والأحباب، ونحوهم إلا بقضاء الله وقدره، قد سبق بذلك علمه وجرى به قلمه، ونفذت به مشيئته، واقتضته حكمته، فإذا آمن العبد أنها من عند الله فرضي بذلك وسلم لأمره، فله الثواب الجزيل والأجر الجميل، في الدنيا والآخرة، ويهدي الله قلبه فيطمئن ولا ينزعج عند المصائب، ويرزقه الله الثبات عند ورودها، والقيام بموجب الصبر فيحصل له بذلك ثواب عاجل، مع ما يدخره الله له يوم الجزاء من الثواب (¬5)، قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ الله وَمَن يُؤْمِن بِالله يَهْدِ قَلْبَهُ وَالله بِكُلِّ ¬
9 - الله تعالى يجزي الصابرين بأحسن ما كانوا يعملون
شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬1)، قال علقمة عن عبد الله: {وَمَن يُؤْمِن بِالله يَهْدِ قَلْبَهُ} هو الرجل الذي أصابته مصيبة رضي بها وعرف أنها من الله)) (¬2). وما أحسن ما قال ابن ناصر الدين الدمشقي رحمه الله تعالى: سبحان من يبتلي أناساً ... أحبَّهم والبلاءُ عطاءُ فاصبرْ لبلْوى وكن راضياً ... فإن هذا هو الدواءُ سلِّم إلى الله ما قضاه ... ويفعل الله ما يشاءُ (¬3) 9 – الله تعالى يجزي الصابرين بأحسن ما كانوا يعملون، قال تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬4) قَسَمٌ من الرب تعالى مؤكَّدٌ باللام أنه يجازي الصابرين بأحسن أعمالهم: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة؛ فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً: أي ويتجاوز عن سيئاتهم (¬5)، ولله دَرُّ أبي يعلى الموصلي القائل: إني رأيت وفي الأيام تجربة ... للصبر عاقبة محمودة الأثر وقلّ من جدَّ في أمره يحاوله ... واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر (¬6) 10 – ما يقال عند المصيبة والجزاء والثواب والأجر العظيم على ذلك، ¬
11 - الأجر العظيم والثواب الكثير والفوز بالجنة
فعن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، اللهم أْجُرْني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها إلا أجره الله في مصيبته واخلف له خيراً منها)) قالت أم سلمة، فلما توفي أبو سلمة - رضي الله عنه - قلت كما أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخلف الله لي خيراً منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي لفظ: ((ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: ((إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، اللهم أْجُرْني في مصيبتي وأخلِفْ لي خيراً منها ... )) الحديث (¬1). وفي لفظ ابن ماجه: ((إنَّا لله وإنا إليه راجعون، اللهم عندك أحتسب مصيبتي فأْجُرْني فيها وعوِّضني خيراً منها)) (¬2). وحديث أبي موسى الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسمُّوه بيت الحمد)) (¬3). قال ابن ناصر الدين رحمه الله تعالى: يجري القضاء وفيه الخير نافلة ... لمؤمن واثق بالله لا لاهي إن جاءه فرحٌ أو نابه ترحٌ ... في الحالتين يقول الحمد لله (¬4) 11 – الأجر العظيم والثواب الكثير والفوز بالجنة لمن مات حبيبه ¬
12 - أشد الناس بلاء: الأنبياء
المصافي فصبر وطلب الأجر من الله تعالى، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول الله تعالى: ((ما لعبدي المؤمن عندي جزاءٌ إذا قبضت صفيَّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة)) (¬1)، قوله: ((جزاء)) أي ثواب وقوله: ((إذا قبضت صَفِيَّه))، وهو الحبيب المصافي: كالولد، والأخ، وكل ما يحبه الإنسان، والمراد بالقبض قبض روحه وهو الموت: ... وقوله: ((ثم احتسبه إلا الجنة)) والمراد: صبر على فقده راجياً من الله الأجر والثواب على ذلك. والاحتساب: طلب الأجر من الله تعالى خالصاً. ووجه الدلالة من هذا الحديث أن الصفي أعم من أن يكون ولداً أم غيره، وقد أفرد ورتب الثواب بالجنة لمن مات له فاحتسبه)) (¬2). وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يقول: ((صفيه: حبيبه: كولده، أو أبيه، أو أمه، أو زوجته)) (¬3). 12 – أشد الناس بلاءً: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل؛ لحديث مصعب بن سعد عن أبيه - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: ((الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل: يُبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صُلباً اشتدَّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقّةٌ ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة)) (¬4). ¬
13 - من كان بلاؤه أكثر فثوابه وجزاؤه أعظم وأكمل
أكثر وأصعب بلاء: أي محنة ومصيبة؛ لأنهم لو لم يبتلوا لتوهم فيهم الألوهية؛ وليتوهن على الأمة الصبر على البلية؛ ولأن من كان أشد بلاء كان أشد تضرعاً، والتجاء إلى الله تعالى، ((ثم الأمثل فالأمثل)) أي الفضلاء، والأشرف فالأشرف والأعلى فالأعلى رتبة ومنزلة، فكل من كان أقرب إلى الله يكون بلاؤه أشد؛ ليكون ثوابه أكثر، ((فإن كان في دينه صلباً)) أي قوياً شديدا ((اشتد بلاؤه)) أي كمية وكيفية، ((فما يبرح البلاء)) أي ما يفارق (¬1). ومما يزيد ذلك وضوحاً وتفسيراً، حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه: ((إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمل، فما يزال الله يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها)) (¬2). 13 - من كان بلاؤه أكثر فثوابه وجزاؤه أعظم وأكمل؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن عِظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)) (¬3). المقصود الحث على الصبر على البلاء بعد وقوعه، لا الترغيب في طلبه ¬
14 - ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة حتى يلقى الله وما عليه خطيئة
للنهي عنه، فمن رضي بما ابتلاه الله به فله الرضى منه تعالى وجزيل الثواب، ومن سَخِطَ: أي كره بلاء الله وفزع ولم يرض بقضائه تعالى، فله السخط منه تعالى وأليم العذاب، ومن يعمل سوءاً يُجز به (¬1). ولا شك أن الصبر ضياء كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((والصبر ضياء)) (¬2). والضياء: هو النور الذي يحصل فيه نوع حرارة وإحراق كضياء الشمس بخلاف القمر، فإنه نور محض فيه إشراق بغير إحراق، ولما كان الصبر شاقّاً على النفوس يحتاج إلى مجاهدة النفس، وحبسها، وكفها عما تهواه، كان ضياءً (¬3)؛ ولهذا والله أعلم يُوفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب، بفضل الله - عز وجل -. 14 - ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة حتى يلقى الله وما عليه خطيئة؛ لأنها زالت بسبب البلاء (¬4)؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة: في نفسه، وماله، وولده، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة)) (¬5). 15 - فضل من يموت له ولد فيحتسبه، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من الناس مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث (¬6) ¬
16 - من مات له ثلاثة من الولد
إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم)) (¬1).والولد يشمل الذكر والأنثى. وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما تعدّون الرّقوب (¬2) فيكم؟)) قال: قلنا: الذي لا يولد له. قال: ((ليس ذاك بالرقوب، ولكنه الرجل الذي لم يقدم من ولده شيئاً)) (¬3). 16 - من مات له ثلاثة من الولد كانوا له حجاباً من النار؛ ودخل الجنة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث كان له حجاباً من النار أو دخل الجنة)) (¬4). وفي مسلم أنه قال لامرأة مات لها ثلاثة من الولد: ((لقد احتظرت بحظار شديد (¬5) من النار)) (¬6)؛ ولحديث عتبة بن عبدٍ - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد، لم يبلغوا الحنث إلا تلقَّوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل)) (¬7). 17 - من قدم اثنين من أولاده دخل الجنة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن ¬
18 - من مات له واحد من أولاده فاحتسبه وصبر دخل الجنة
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لنسوة من الأنصار: ((لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد فتحتسبه إلا دخلت الجنة))، فقالت امرأة منهن: أو اثنين يا رسول الله؟ قال: ((أو اثنين)) (¬1)، قال النووي رحمه الله: ((وقد جاء في غير مسلم ((وواحد)) (¬2). وعن أبي صالح ذكوان عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا سول الله، ذهب الرجال بحديثك فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله، قال: ((اجتمعن يوم كذا وكذا))، فاجتمعن فأتاهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعلّمهن مما علّمه الله قال: ((ما منكن من امرأة تقدم بين يديها من ولدها ثلاثة إلا كانوا لها حجاباً من النار)) فقالت امرأة: واثنين، واثنين، واثنين؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((واثنين، واثنين، واثنين)) (¬3). 18 - من مات له واحد من أولاده فاحتسبه وصبر دخل الجنة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول الله تعالى: ((ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة)) (¬4). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((وهذا يدخل فيه الواحد فما فوقه وهو أصح ما ورد في ذلك، وقوله: ((فاحتسب)) أي صبر راضياً ¬
19 - من مات له ولد فاحتسبه وجده ينتظره عند باب الجنة
بقضاء الله راجياً فضله)) (¬1)، وذكر ابن حجر رحمه الله أنه يدخل في ذلك حديث قرة بن إياس، وسيأتي في الحديث الآتي (¬2). وسيأتي أيضاً حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - الذي فيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد)) فهو يدل على أن من مات له ولد واحد دخل الجنة (¬3). 19 - من مات له ولد فاحتسبه وجده ينتظره عند باب الجنة، بفضل الله - عز وجل - ورحمته؛ لحديث قرة بن إياس - رضي الله عنه - أن رجلاً كان يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه ابن له، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أتحبه؟)) فقال: يا رسول الله أحبك الله كما أحبه، ففقده النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((ما فعل ابن فلان؟)) قالوا: يا رسول الله مات، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبيه: ((أما تحب أن لا تأتي باباً من أبواب الجنة إلا وجدته ينتظرك؟)) فقال رجل: يا رسول الله: أله خاصة أو لكلنا؟ فقال: ((بل لكلكم))، ولفظ النسائي: ((ما يسرك أن لا تأتي باباً من أبواب الجنة إلا وجدته عنده يسعى يفتح لك)) (¬4). 20 - المؤمن إذا مات ولده سواء كان ذكراً أو أنثى وصبر واحتسب وحمد الله على تدبيره وقضائه بنى الله له بيتاً في الجنة وسماه بيت الحمد؛ ¬
21 - السقط يجر أمه بسرره إلى الجنة
لحديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا مات ولد العبد، قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد)) (¬1). وعن أبي سلمى راعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((بخ بخ - وأشار بيده لخمس - ما أثقلهن في الميزان: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، والولد الصالح يتوفى للمرء المسلم فيحتسبه)) (¬2). 21 - السقط يجرُّ أمَّه بسرره إلى الجنة؛ لحديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال: ((والذي نفسي بيده إن السقط ليجرُّ أُمَّهُ بسَرَرِه إلى الجنة إذا احتسبته)) (¬3). 22 - ومما يشرح صدر المسلم ويبرِّد حرَّ مصيبته أن أولاد المسلمين في الجنة، قال الإمام النووي رحمه الله بعد أن ساق الأحاديث في فضل من يموت له ولد فيحتسبه: ((وفي هذه الأحاديث دليل على كون أطفال المسلمين في الجنة، وقد نقل جماعة فيهم إجماع المسلمين))، ونقل عن المازري قوله: ((ونقل جماعة الإجماع في كونهم من أهل الجنة قطعاً؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا ¬
23 - من تصبر ودرب نفسه على الصبر صبره الله وأعانه وسدده
أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} (¬1) (¬2). ويدل عليه حديث أبي هريرة أن أولاد المسلمين في الجنة، ((وأن أحدهم يلقى أباه فيأخذ بثوبه أو بيده فلا يتركه حتى يدخله الله وأباه أو قال: أبويه الجنة)) (¬3). وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يقول: ((أجمع المسلمون على أن أولاد المسلمين في الجنة، أما أولاد الكفار ففيهم خلاف، وأصح ما قيل فيهم أنهم يمتحنون يوم القيامة، أو هم من أهل الجنة بدون امتحان وهو أصح)) (¬4). وهو الصواب (¬5)؛ لحديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه - في الحديث الطويل وفيه: ((وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم، وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة)) فقال بعض المسلمين: يا رسول الله: وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وأولاد المشركين)) (¬6). 23 - من تصبّر ودرّب نفسه على الصبر صبَّره الله وأعانه وسدّده؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: ((ومن يستعفف يعفّه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبَّر يصبّره الله، وما أعطي أحدٌ عطاءً خيراً وأوسع من الصبر)) (¬7). ¬
24 - من أراد الله به خيرا أصابه بالمصائب
24 - من أراد الله به خيراً أصابه بالمصائب؛ ليثيبه عليها (¬1)؛لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من يُرد الله به خيراً يُصِبْ منه)) (¬2).وسمعت شيخنا عبدالعزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله يقول: ((أي بالمصائب بأنواعها، وحتى يتذكر فيتوب، ويرجع إلى ربه)) (¬3). 25 - أمر المؤمن كله خير في السراء والضراء، وفي الشدة والرخاء؛ لحديث صهيب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاءُ شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراءُ صبر فكان خيراً له)) (¬4). 26 - المصيبة تحطُّ الخطايا حطّاً كما تحطّ الشجرة ورقها؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفَّر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها)) (¬5). وعن عبد الله - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به سيئاته كما تحطُّ الشجرة ورقها)) (¬6). وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما يُصيب ¬
27 - يجتهد المسلم في استكمال شروط الصبر
المؤمن من نصب، ولا وصب، ولا همّ، ولا حزن، ولا أذى، ولا غمٍّ حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)) (¬1)، وفي لفظ: ((ما يصيب المؤمن من وَصَب (¬2)، ولا نَصَب (¬3)، ولا سَقم ... )). 27 - يجتهد المسلم في استكمال شروط الصبر التي إذا عمل بها المسلم المصاب حصل على الثواب العظيم والأجر الجزيل، وتتلخص هذه الشروط في ثلاثة أمور: الشرط الأول: الإخلاص لله - عز وجل - في الصبر؛ لقول الله - عز وجل -: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} (¬4)، ولقوله - عز وجل - في صفات أصحاب العقول السليمة: {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} (¬5)، وهذا هو الإخلاص في الصبر المبرأ من شوائب الرياء وحظوظ النفس. الشرط الثاني: عدم شكوى الله تعالى إلى العباد؛ لأن ذلك ينافي الصبر ويخرجه إلى السخط والجزع؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قال الله تعالى: إذا ابتليت عبدي المؤمن ولم يشكني إلى عوّاده أطلقته من إساري، ثم أبدلته لحماً خيراً من لحمه، ودماً خيراً من دمه، ثم يستأنف العمل)) (¬6). ¬
الشرط الثالث: أن يكون الصبر في أوانه
والله در الشاعر الحكيم حيث قال: وإذا عرتك بليّة فاصبر لها ... صبر الكريم فإنه بك أعلم وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما ... تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم (¬1) الشرط الثالث: أن يكون الصبر في أوانه ولا يكون بعد انتهاء زمانه؛ لحديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بامرأة تبكي عند قبر فقال: ((اتقي الله واصبري)) [فقالت]: إليك عنِّي فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي، فأتت باب النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى)) (¬2).أي الصبر الكامل الذي يترتب عليه الأجر الجزيل؛ لكثرة المشقة فيه، وأصل الصدم الضرب في شيء صلب، ثم استعمل مجازاً في كل مكروه حصل بغتة (¬3). 28 - أمور لا تنافي الصبر ولا بأس بها ومنها: الأمر الأول: الشكوى إلى الله تعالى؛ فالتضرع إليه ودعاؤه في أوقات الشدة عبادة عظيمة، فإن الله أخبر عن يعقوب بقوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَالله الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (¬4). وقال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ ¬
الأمر الثاني: الحزن ودمع العين
الْحَكِيمُ} (¬1). وقال: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (¬2). وأيوب عليه الصلاة والسلام أخبر الله عنه {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (¬3). وقال الله تعالى عنه: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (¬4)، فإذا أصاب العبد مصيبة فأنزلها بالله وطلب كشفها منه فلا ينافي الصبر (¬5). الأمر الثاني: الحزن ودمع العين؛ فإن ذلك قد حصل لأكمل الخلق نبينا محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: دخلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي سيف القين (¬6) - وكان ظئراً (¬7) لإبراهيم - عليه السلام - - فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إبراهيم فقبَّله وشمَّهُ، ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه (¬8)، فجعلت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تذرفان (¬9)، فقال له عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: وأنت يا رسول ¬
الله (¬1)؟ فقال: ((يا ابن عوف إنها رحمة)) ثم أتبعها بأخرى (¬2)، فقال: ((إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يَرْضَى ربُّنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)) (¬3).قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((ووقع في حديث عبد الرحمن بن عوف نفسه: ((فقلت: يا رسول الله تبكي أو لم تنه عن البكاء؟ وزاد فيه: ((إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لهوٍ ولعبٍ ومزامير الشيطان، وصوت عند مصيبة: خمش وجوه، وشق جيوب، ورنة شيطان)). قال: ((إنما هذه رحمة، ومن لا يَرحم لا يُرحم)) (¬4). وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((هذا الحديث يفسِّر البكاء المباح، والحزن الجائز، وهو ما كان بدمع العين، ورقة القلب من غير سخط لأمر الله، وهو أبين شيء وقع في هذا المعنى، وفيه مشروعية تقبيل الولد وشمه، ومشروعية الرضاع، وعيادة الصغير، والحضور عند المحتضر، ورحمة العيال، وجواز الإخبار عن الحزن وإن كان الكتمان أولى، وفيه وقوع الخطاب للغير وإرادة غيره بذلك، وكل منهما مأخوذ من مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولده مع أنه في تلك الحالة لم يكن ممن يفهم الخطاب لوجهين: ¬
أحدهما: صغره، والثاني نزاعه. وإنما أراد بالخطاب غيره من الحاضرين إشارة إلى أن ذلك لم يدخل في نهيه السابق، وفيه جواز الاعتراض على من خالف فعله ظاهر قوله؛ ليظهر الفرق)) (¬1). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((اشتكى سعد بن عبادة شكوى له فأتاه النبي [- صلى الله عليه وسلم -] يعوده مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم -، فلما دخل عليه فوجده في غاشية أهله (¬2) فقال: ((قد قضى؟)) قالوا: لا يا رسول الله، فبكى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما رأى القوم بكاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بَكَوْا، فقال: ((ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذِّبُ بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا (¬3) – وأشار إلى لسانه – أو يرحم (¬4)، وإن الميت يعذَّب ببكاء أهله عليه)) (¬5)، وكان عمر - رضي الله عنه - يضرب فيه بالعصا، ويرمي بالحجارة، ويحثي بالتراب)) (¬6). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((في هذا إشعار بأن هذه القصة كانت بعد قصة إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن عبد الرحمن بن عوف كان معهم في هذه ¬
29 - الأمور التي تعين على الصبر على المصيبة
ولم يعترضه بمثل ما اعترض به هناك، فدل على أنه تقرر عنده العلم بأن مجرد البكاء بدمع العين من غير زيادة على ذلك لا يضر)) (¬1). وفي حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنه - في قصة لصبي لإحدى بنات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لرسول ابنته: ((ارجع إليها فأخبرها: إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبرْ ولتحتسب)) فأرسلتْ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقسمت عليه أن يحضر، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وقام معه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وأسامة معهم، وحينما رفع الصبي للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في النزع، فاضت عيناه، فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: ((هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء)) (¬2). وقد روى أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ((شهدنا بنتاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس على القبر، قال: فرأيت عينيه تدمعان)) (¬3). 29 - الأمور التي تعين على الصبر على المصيبة بفقد الأحباب كثيرة منها ما يأتي: الأمر الأول: معرفة جزاء المصيبة وثوابها وهذا من أعظم العلاج الذي يبرد حرارة المصيبة، وتقدمت الأدلة على ذلك. الأمر الثاني: العلم بتكفيرها للسيئات وحطها كما تحط الشجرة ورقها (¬4). ¬
* الأمر الثالث: الإيمان بالقدر السابق بها
الأمر الثالث: الإيمان بالقدر السابق بها وأنها مقدرة في أم الكتاب كما تقدم. الأمر الرابع: معرفة حق الله في تلك البلوى، فعليه الصبر والرضا، والحمد والاسترجاع والاحتساب. الأمر الخامس: أن يعلم أن الله قد ارتضاها له واختارها وقسمها، وأن العبودية تقتضي رضاه بما رضي له به سيده ومولاه، فإن لم يوفِ قدر المقام حقه فهو لضعفه، فلينزل إلى مقام الصبر عليها، فإن نزل عنه نزل إلى مقام الظلم وتعدي الحق. الأمر السادس: العلم بترتبها عليه بذنبه، فإن لم يكن له ذنب كالأنبياء والرسل فلرفع درجاته. الأمر السابع: أن يعلم أن هذه المصيبة دواء نافع ساقه إليه العليم بمصلحته الرحيم به، فليصبر ولا يسخط ولا يشكو إلى غير الله فيذهب نفعه باطلاً. الأمر الثامن: أن يعلم أن عاقبة هذا الدواء: من الشفاء والعافية والصحة وزوال الآلام ما لم تحصل بدونه، قال الله تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَالله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (¬1). وقال - عز وجل -: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (¬2). الأمر التاسع: أن يعلم أن المصيبة ما جاءت لتهلكه وتقتله، وإنما ¬
* الأمر العاشر: أن يعلم أن الله يربي عبده على السراء والضراء
جاءت لتمتحن صبره وتبتليه، فيتبين حينئذ: هل يصلح لاستخدامه وجعله من أوليائه وحزبه أم لا؟ وفضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. الأمر العاشر: أن يعلم أن الله يربي عبده على السراء والضراء، والنعمة والبلاء، فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال (¬1). الأمر الحادي عشر: معرفة طبيعة الحياة الدنيا على حقيقتها؛ فهي ليست جنة نعيم ولا دار مقام إنما ممر ابتلاء وتكليف؛ لذلك فالكيِّس الفطن لا يفجأ بكوارثها، ولله دَرُّ القائل: إن لله عباداً فطنا ... طلَّقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا ... أنها ليست لحيٍّ وطنا جعلوها لجةً واتخذوا ... صالح الأعمال فيها سفنا فالحياة الدنيا لا تستقيم على حال ولا يقر لها قرار، فيوم لك ويوم آخر عليك، قال الله تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ الله الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَالله لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (¬2). وقد أحسن أبو البقاء الرندي القائل: لكل شيء إذا ما تم نقصانُ ... فلا يغر بطيب العيش إنسانُ ¬
* الأمر الثاني عشر: معرفة الإنسان نفسه
هي الأيام كما شاهدتها دول ... فمن سره زمن ساءته أزمان (¬1) الأمر الثاني عشر: معرفة الإنسان نفسه؛ فإن الله هو الذي منح الإنسان الحياة فخلقه من عدم إلى وجود، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، فهو ملك لله أولاً وآخراً، وصدق لبيد بن ربيعة - رضي الله عنه - القائل: وما المال والأهلون إلا ودائعُ ... ولابد يوماً أن تُرَدَّ الودائعُ الأمر الثالث عشر: اليقين بالفرج، فنصر الله قريب من المحسنين، وبعد الضيق سعة، ومع العسر يسرٌ؛ لأن الله وعد بهذا ولا يخلف الميعاد، وقال سبحانه: {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (¬2). وقد أحسن القائل: ولرب نازلة يضيق بها الفتى ... ذرْعاً وعند الله منها المخرجُ ضاقت فلما استحكمت ... حلقاتها فُرجت وكنت أظنها لا تفرجُ وقد وعد الله - عز وجل - بحسن العوض عما فات؛ فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي الله مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (¬3). ولله دَرُّ القائل: ¬
* الأمر الرابع عشر: الاستعانة بالله
وكل كسر فإن الله يجبره ... وما لكسر قناة الدين جبران (¬1) الأمر الرابع عشر: الاستعانة بالله فما على العبد إلا أن يستعين بربه أن يعينه، ويجبر مصيبته، قال تعالى: {اسْتَعِينُوا بِالله وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِله يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (¬2)، ومن كانت معية الله معه فهو حقيق أن يتحمل ويصبر على الأذى. الأمر الخامس عشر: التأسي بأهل الصبر والعزائم، فالتأمل في سير الصابرين وما لاقوه من ألوان الابتلاء والشدائد يعين على الصبر ويطفئ نار المصيبة ببرد التأسي، قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} (¬3). الأمر السادس عشر: استصغار المصيبة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أيها الناس أيما أحدٍ من الناس أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعزَّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي)) (¬4). ¬
* الأمر السابع عشر: العلم أن المصيبة في غير الدين أهون
وكتب بعض العقلاء إلى أخ له يعزيه عن ابن له يقال له: محمد، فنظم الحديث الآنف شعراً فقال: اصبر لكل مصيبة وتجلد ... واعلم أن المرء غير مخلد (¬1) وإذا ذكرت محمداً ومصابَهُ ... فاذكر مصابك بالنبي محمد الأمر السابع عشر: العلم أن المصيبة في غير الدين أهون وأيسر عند المؤمن، ولله دَرُّ القائل: وكل كسر فإن الله يجبره ... وما لكسر قناة الدين جبران وذكر أن امرأة من العرب مرت بابنين لها وقد قتلوا فقالت: الحمد لله رب العالمين، ثم قالت: وكل بلوى تصيب المرء عافية ... ما يُصَبْ يوماً يلقى الله في النار (¬2) الأمر الثامن عشر: العلم بأن الدنيا فانية وزائلة، وكل ما فيها يتغير ويزول؛ لأنها إلى الآخرة طريق، وهي مزرعة للآخرة على التحقيق، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة: أما الأدلة من الكتاب: 1 - فقال الله تعالى: {وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكئوُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} (¬3). ¬
2 – وقال الله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (¬1). 3 – وقال - عز وجل -: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا} (¬2). 4 – وقال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} (¬3). 5 – وقال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (¬4). 6 – وقال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (¬5). 7 – وقال الله تعالى: {فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (¬6). ¬
- الأدلة من السنة المطهرة
8 - وقال سبحانه: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (¬1). 9 - وقال الله - عز وجل -: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (¬2). 10 - وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (¬3). 11 - وقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ *وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} (¬4). 12 - وقال تعالى ذاكراً لقول مؤمن آل فرعون: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} (¬5). وأما الأدلة من السنة المطهرة، فقد زهَّد النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس في الدنيا، ورغَّبهم في الآخرة، بفعله وقوله - صلى الله عليه وسلم -. 1 - أما فعله فمنه حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من الدنيا ولم يشبع من خبر الشعير)) (¬6). ¬
2 – وقالت: ((ما أكل آل محمد أكلتين في يوم إلا إحداهما تمر)) (¬1). 3 – وقالت: ((إنا كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أُوقِدت في أبيات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نارٌ، فقال عروة: ما كان يقيتكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء)) (¬2). 4 – وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لو كان لي مثل أُحد ذهباً ما يسرني أن لا يمر عليَّ ثلاث وعندي منه شيء إلا أرصُدُهُ لدَيْن)) (¬3). 5 – وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه اضطجع على حصير فأثَّر في جنبه، فدخل عليه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ولما استيقظ جعل يمسح جنبه فقال: يا رسول الله لو أخذت فراشاً أَوْثَرَ من هذا؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما لي وللدنيا، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها)) (¬4). 6 – وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: ((ما شبع آل محمد من طعام ثلاثة أيام حتى قُبض)) (¬5). والمقصود أنهم لم يشبعوا ثلاثة أيام متوالية، والظاهر أن سبب عدم شبعهم غالباً كان بسبب قلة الشيء عندهم، على أنهم قد يجدون ¬
ولكن يؤثرون على أنفسهم (¬1). 7 – وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أَدَم وحشوُهُ ليف)) (¬2). 8 – ومع هذا كان يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً)) (¬3). 9 – وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((قد أفلح من أسلم، ورُزِق كفافاً، وقنَّعَهُ الله بما آتاه)) (¬4). وأما قوله في التزهيد في الدنيا والتحذير من الاغترار بها، فكثير، ومنه: 10 – حديث مطرِّف عن أبيه - رضي الله عنه - قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} قال: ((يقول ابن آدم: مالي، مالي، وهل لك من مالك يا ابن آدم إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت أمضيت)) (¬5). 11 – وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يقول العبد: مالي مالي إنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى، [و] ما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس)) (¬6). 12 – وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة لأصحابه ((أيكم مال وراثه أحب إليه من ماله؟)) ¬
قالوا: يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه. قال: ((فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر)) (¬1). 13 - ودخل النبي - صلى الله عليه وسلم - السوق يوماً فمرَّ بجدي صغير الأذنين ميت، فأخذه بأذنه ثم قال: ((أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟)) قالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: ((أتحبون أنه لكم؟)) قالوا: والله لو كان حياً كان عيباً فيه؛ لأنه أسكُّ (¬2)، فكيف وهو ميت؟ فقال: ((فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم)) (¬3). 14 - وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)) (¬4). والدنيا مذمومة إذا لم تستخدم في طاعة الله - عز وجل -: 15 - فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ألا إن الدنيا ملعونةٌ، ملعون ما فيها إلا ذكرُ الله، وما والاهُ، وعالمٌ، أو متعلمٌ)) (¬5)، وهذا يؤكد أن الدنيا مذمومة، مبغوضة من الله وما فيها، مبعدة من رحمة ¬
الله إلا ما كان طاعة لله - عز وجل -؛ ولِهوانها على الله - عز وجل - لم يبلِّغ رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيها وهو أحب الخلق إليه. 16 – فقد مات ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير (¬1). وقوله: ((وما والاه)) أي ما يحبه الله من أعمال البر، وأفعال القرب، وهذا يحتوي على جميع الخيرات، والفاضلات، ومستحسنات الشرع، وقوله: ((وعالم أو متعلم)) العالم والمتعلم: العلماء بالله، الجامعون بين العلم والعمل، فيخرج منه الجهلاء، والعالم الذي لم يعمل بعلمه، ومن يعلم علم الفضول، وما لا يتعلق بالدين. والرفع في ((عالم أو متعلم)) على التأويل: كأنه قيل: الدنيا مذمومة لا يحمدُ مما فيها ((إلا ذكر الله وما والاه، وعالم أو متعلم)) (¬2)، فإذا رأى العاقل من ينافسه في الدنيا فعليه أن ينصحه ويحذره وينافسه في الآخرة (¬3). 17 – وفي قصة أبي عبيدة - رضي الله عنه - عندما قدم بمال من البحرين فجاءت الأنصار وحضروا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح، فلمَّا صلى بهم الفجر، تعرَّضوا له، فتبسَّم حين رآهم وقال: ((أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء؟)) قالوا: أجل يا رسول الله، قال: ((فأبشروا، وأمِّلوا ما يسرُّكم، فوالله لا الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسط ¬
عليكم الدنيا كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم))، وفي رواية: ((وتلهيكم كما ألهتهم)) (¬1). 18 – وفي حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض)) قيل: وما بركات الأرض؟ قال: ((زهرة الدنيا))، ثم قال: ((إن هذا المال خَضِرَة حلوة ... من أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع [ويكون عليه شهيداً يوم القيامة])) (¬2). 19 – وقال خبَّاب - رضي الله عنه -: ((إن المسلم يؤجر في كل شيء ينفقه إلا في شيء يجعله في هذا التراب)) (¬3). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((أي الذي يوضع في البنيان، وهو محمول على ما زاد على الحاجة)) (¬4). وذكر رحمه الله آثاراً كثيرة في ذم البنيان ثم قال: ((وهذا كله محمول على ما لا تمس الحاجة إليه مما لابد منه للتوطن وما يقي البرد والحر)) (¬5). والمسلم إذا لم يجعل الدنيا أكبر همه وفقه الله وأعانه. ¬
20 – فعن معقل بن ياسر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يقول ربكم تبارك وتعالى: يا ابن آدم تفرَّغ لعبادتي أملأ قلبك غنىً وأملأ يديك رزقاً، يا ابن آدم لا تباعد عني فأملأ قلبك فقراً وأملأ يديك شغلاً)) (¬1). 21 – وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله تعالى يقول: يا ابن آدم تفرَّغ لعبادتي أملأ صدرك غنىً وأسدُّ فقرك، وإن لم تفعل ملأت يديك شغلاً ولم أسدَّ فقرك)) (¬2). قال ذلك عندما تلا: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ} (¬3). ولاشك أن كل عمل صالح يُبتغى به وجه الله فهو عبادة، بل وحتى الأعمال المباحة. 22 – وعن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من كانت الدنيا همَّه فرَّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة)) (¬4). ¬
* الأمر التاسع عشر: العلم بأن الله تعالى يجمع بين المؤمن وذريته
23 - وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه؛ جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له)) (¬1). 24 - وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أحب دنياه أضرَّ بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى)) (¬2). 25 - وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أنه لما حضرته الوفاة قال: يا معشر الأشعريين ليُبلِّغِ الشاهد الغائب، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((حلاوة الدنيا مرةُ الآخرة، ومرةُ الدنيا حلاوة الآخرة)) (¬3). الأمر التاسع عشر: العلم بأن الله تعالى يجمع بين المؤمن وذريته، ووالديه وأهله، ومن يحب في الجنة، وهذا الاجتماع الذي لا فراق بعده؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} (¬4)، قال الإمام ابن كثير رحمه الله: ((يخبر الله ¬
تعالى عن فضله وكرمه، وامتنانه، ولطفه بخلقه، وإحسانه: أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذريتهم في الإيمان يُلحقهم بآبائهم في المنزلة وإن لم يبلغوا عملهم؛ لتقر أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه بأن يرفع الناقص العمل بكامل العمل ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته، للتساوي بينه وبين ذلك)) (¬1). وهذا فضله تعالى على الأولاد ببركة عمل الآباء، وأما فضله على الآباء ببركة دعاء الأولاد فثبت في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول: يا رب أنَّى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك)) (¬2)، قال العلامة السعدي رحمه الله: ((وهذا من تمام نعيم أهل الجنة أن ألحق الله بهم ذريتهم الذين اتبعوهم بإيمان: أي الذين لحقوهم بالإيمان الصادر من آبائهم فصارت الذرية تبعاً لهم بالإيمان، ومن باب أولى إذا تبعتهم ذريتهم بإيمانهم الصادر منهم أنفسهم، فهؤلاء المذكورون يُلحقهم الله بمنازل آبائهم في الجنة وإن لم يبلغوها جزاء لآبائهم وزيادة في ثوابهم، ومع ذلك لا ينقص الله الآباء من أعمالهم شيئاً)) (¬3).وهذا هو الفوز العظيم. نسأل الله تعالى أن يجمعنا في الفردوس الأعلى مع آبائنا، وذرياتنا، وأزواجنا، وجميع أهلينا، وأحبابنا إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. ولاشك أن من فارق ذريته وأهله، وأحبابه في الآخرة فقد خسر ¬
خسراناً مبيناً، كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (¬1)، أي تفارقوا فلا التقاء لهم أبداً، وسواء ذهب أهلوهم إلى الجنة وقد ذهبوا هم إلى النار، أو أن الجميع أسكنوا النار ولكن لا اجتماع لهم ولا سرور، وهذا هو الخسران المبين الظاهر الواضح)) (¬2). وقال الله - عز وجل -: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ} (¬3)، قال الإمام ابن كثير رحمه الله: ((أي ذُهِبَ بهم إلى النار فعدموا لذتهم في دار الأبد، وخسروا أنفسهم، وفُرِّق بينهم وبين أحبابهم، وأصحابهم، وأهاليهم، وقراباتهم فخسروهم)) (¬4). وقَدْ ذُكِرَ أن بعض الصالحين مات له ابن فجزع عليه جزعاً شديداً، حتى امتنع عن الطعام والشراب، فبلغ ذلك الإمام محمد بن إدريس الشافعي، فكتب إليه، ومما كتب إليه: إني معزِّيك لا أنِّي على ثقةٍ ... من الحياة ولكن سنة الدين فما المعزَّى بباقٍ بعد ميته ... ولا المعزِّي ولو عاشا إلى حين (¬5) ¬
الرابع عشر: غسل الميت
الرابع عشر: غسل الميت يراعى في تغسيل الميت الأمور الآتية: الأمر الأول: معرفة العلامات التي تدل على خروج الروح بالموت (¬1). 1 - شخوص البصر: أي انفتاحه؛ لحديث أمِّ سلمة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي سلمة وقد شق بصره، فأغمضه، ثم قال: ((إن الروح إذا قبض تبعه البصر)) (¬2). 2 - انخساف الصدغين؛ لارتخاء الفك السفلي؛ ولارتخاء الأعضاء عموماً. 3 - ميل الأنف إلى اليمين أو الشمال. 4 - انفصال الكفين؛ لاسترخاء عصب اليد فتبقى كأنها منفصلة. 5 - استرخاء الرجلين، فتلين وتسترسل بعد خروج الروح؛ لصلابتها قبله. 6 - سكون القلب ووقوف ضرباته تماماً. 7 - امتداد جلدة الوجه أحياناً (¬3) (¬4). ¬
الأمر الثاني: آداب يحتاج إليها الميت عقب موته
ويُغني عن ذلك كله شهادة الأطباء الثقات بأن فلاناً قد مات وخرجت روحه من جسده تماماً بلا شك ولا ريب. الأمر الثاني: آدابٌ يحتاج إليها الميت عقب موته، من أهمها: 1 - تغميض عينيه؛ لحديث أمِّ سلمة رضي الله عنها (¬1). 2 - يُدعى له؛ لحديث أمِّ سلمة السابق، فيقال: ((اللهم اغفر لفلان [باسمه] وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره ونوِّر له فيه)) (¬2). 3 - شد لحييه؛ لإقفال فمه، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((ويستحب شدُّ لحييه بعصابة عريضة يربطها من فوق رأسه؛ لأن الميت إذا كان مفتوح العينين والفم فلم يغمض حتى يبرد، بقي مفتوحاً فيقبح منظره، ولا يؤمن دخول الهوام فيه، والماء في وقت غسله)) (¬3) (¬4)، ومعلوم أنه بعد أن يبرد تبقى العينان مغمضتين والفم مغلقاً، فيحسن منظره. 4 - تليين مفاصله، مفاصل اليدين، والرجلين، وهو أن يرد ذراعيه ¬
5 - تخلع ثيابه ويستر بثوب يكون شاملا للبدن كله
إلى عضديه، وعضديه إلى جنبيه، ثم يردهما، ويرد ساقيه إلى فخذيه، وفخذيه إلى بطنه، ثم يردهما؛ ليكون ذلك أبقى للينه، فيكون ذلك أمكن للغاسل: من غسله، وتكفينه، وتمديده، وخلع ثيابه، وهذه الصفة تستحب في موضعين: عقب موته قبل قسوتها ببرودته، وإذا شُرِعَ في غسله، وإن شق ذلك لقسوة عظام الميت أو غيرها تركه؛ لأنه لا يؤمن أن تنكسر أعضاؤه ويصير به ذلك إلى المثلة (¬1). 5 - تخلع ثيابه ويستر بثوب يكون شاملاً للبدن كله، أما خلع الثياب؛ فلقول الصحابة - رضي الله عنهم - حينما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت عائشة رضي الله عنها: لما أرادوا غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: والله ما ندري أنجرِّدُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما نجرِّدُ موتانا؟ أم نغسله وعليه ثيابه؟ فلما اختلفوا، ألقى الله عليهم النوم، حتى ما منهم رجل إلا وذَقْنُهُ في صدره، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت، لا يدرون من هُوَ: أن اغسلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه ثيابه، فقاموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فغسلوه وعليه قميصُهُ، يصبون الماء فوق القميص، ويدلكونه بالقميص دون أيديهم، وكانت عائشة تقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه)) (¬2). قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((ويستحب خلع ثياب الميت؛ لئلا يخرج منه شيء يفسُدُ به، ويتلوث بها إذا نزعت عنه ... )) (¬3). ¬
6 - يوضع على بطنه شيء ثقيل
وأما ستره بثوب يغطي جميع بدنه؛ فلحديث عائشة رضي الله عنها، قالت: ((سُجِّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين مات بثوب حَبِرةٍ)) (¬1)،إلا المحرم، فلا يغطى رأسه ولا وجهه؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، وفيه: ((ولا تخمِّروا رأسه ولا وجهه ... )) (¬2). 6 - يوضع على بطنه شيء ثقيل، ليمنع انتفاخه إذا لم يعجل بتغسيله، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((ويُجعل على بطنه شيء من الحديد كمرآة أو غيرها؛ لئلا ينتفخ بطنه ... )) (¬3). وقد ورد ذلك في بعض الآثار عن أنس - رضي الله عنه -، وعن الشعبي رحمه الله (¬4)، ولكن إذا أُسرع بالجنازة في تجهيزها، أو وُضعت في ثلاجة وأُمِنَ من انتفاخ البطن فلا داعي لذلك (¬5). 7 - يُجعل على سرير غسله أو لوح؛ لأنه أحفظ له، ولا يُترك على الأرض؛ لئلا يُسرع إليه التغير، ويجعل منحدراً نحو رجليه (¬6)، قال الإمام البيهقي رحمه الله، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ((لما فُرغَ من جهاز ¬
الأمر الثالث: الإسراع بتجهيزه
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الثلاثاء وُضِعَ على سريره في بيته - صلى الله عليه وسلم -)) (¬1). الأمر الثالث: الإسراع بتجهيزه؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((أسرعوا بالجنازة فإن تكُ صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تكُ سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم)) (¬2)؛ ولحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وُضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدِّموني قدِّموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق)) (¬3). الأمر الرابع: معرفة الفضل والأجر العظيم، لمن تولَّى غسل الميت المسلم، وستر عليه ما يكره، وأخلص في ذلك ابتغاء وجه الله تعالى، لا يريد به جزاء ولا شكوراً إلا من الله - عز وجل -، ولا يريد شيئاً من أمور الدنيا؛ لحديث أبي رافع - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من غسل مسلماً فكتم عليه، غفر الله له أربعين مرة، ومن حفر له فأجنه أُجريَ عليه كأجر مسكن أسكنه إياه إلى يوم القيامة، ومن كفّنه كساه الله يوم القيامة من سندس وإستبرق الجنة)) (¬4). وهذا لفظ البيهقي، ولفظ الحاكم: ((من غسل ميتاً ¬
فكتم عليه غفر له أربعين مرة، ومن كفَّن ميتاً كساه الله من سندس وإستبرق الجنة، ومن حفر لميت قبراً فأجنه فيه أُجري له من الأجر كأجر مسكن أسكنه إلى يوم القيامة)). ولفظ الطبراني في المعجم الكبير: ((من غسل ميتاً فكتم عليه غفر له أربعين كبيرة، ومن حفر لأخيه قبراً حتى يجنه فكأنما أسكنه مسكناً مرة حتى يُبعث))؛ ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ... )) (¬1)؛ ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما وفيه: ((ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة فرَّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة)) (¬2)، وغير ذلك من الأدلة والآثار الواردة (¬3)، ولا بأس بالإخبار بما يشاهده الغاسل من علامات الخير: كبياض الوجه، أو التبسم، أو غير ذلك من العلامات ¬
الأمر الخامس: معرفة حرمة المسلم ومنزلته وكرامته حيا وميتا
التي تبشر بالخير، أما العلامات التي تدل على الشر فلا يخبر بها؛ لأن ذلك يحزن أهل الميت ويؤذيهم، وهو من الغيبة، لكن لو قال: إن بعض الأموات يكون أسودَ، أو غير ذلك فلا بأس (¬1). قال الإمام ابن قدامة – رحمه الله -: ((وإن رأى حسَناً مثل: أمارات الخير: من وضاءة الوجه، والتبسم، ونحو ذلك استحب إظهاره؛ ليكثر الترحُّم عليه، ويحصل الحث على مثل طريقته والتشبه بجميل سيرته ... )) (¬2). الأمر الخامس: معرفة حرمة المسلم ومنزلته وكرامته حيّاً وميتاً؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن كسر عظم المؤمن ميتاً مثل كسره حيّاً)). وهذا لفظ أحمد، ولفظ أبي داود وابن ماجه: ((كسر عظم الميت ككسره حيّاً)) (¬3). وهل يجوز للإنسان أن يتبرع بشيء من أعضائه في حياته أو يوصي بذلك مع موته؟ اختلف العلماء في ذلك (¬4). ¬
الأمر السادس: حكم تغسيل الميت: فرض كفاية
الأمر السادس: حكم تغسيل الميت: فرض كفاية إذا فعله من فيه كفاية سقط الإثم عن الباقين، وإن تركوه كلهم أثموا كلهم؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما في الذي وقصته راحلته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيه: ((اغسلوه بماءٍ وسدر)) (¬1)، والأمر يقتضي الوجوب، ومن المعلوم أنه لا يريد من كل واحد من المسلمين أن يغسل هذا الميت إنما يوجه الخطاب للعموم، فإذا قام به بعضهم كفى (¬2)؛ ولحديث أمِّ عطية رضي الله عنها وفيه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - للنساء اللاتي يغسلن ابنته ((اغسلنها ثلاثاً أو خمساً، أو سبعاً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك)) (¬3). الأمر السابع: لا يغسل الذكر إلا الرجال أو الزوجة والأمة، ولا يغسل الأنثى إلا النساء أو الزوج؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البقيع فوجدني وأنا أجد صُداعاً في رأسي، وأنا أقول: وارأساه! فقال: ((بل أنا يا عائشة وارأساه!)) ثم قال: ((ما ضرَّك لو مُتِّ قبلي فقمتُ عليك فغسَّلتك، وكفَّنتك، وصليتُ عليك، ودفنتك)) (¬4). وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((لو كنت استقبلت من أمري ما ¬
استدبرت ما غسَّل النبي - صلى الله عليه وسلم - غيرُ نسائه)) (¬1). قال الإمام الشوكاني رحمه الله: ((فيه دليل على أن المرأة يغسلها زوجها إذا ماتت وهي تغسله قياساً، وبغسل أسماء لأبي بكر لما تقدم، وعلي لفاطمة كما أخرجه الشافعي، والدارقطني، وأبو نعيم والبيهقي بإسناد حسن (¬2)،ولم يقع من سائر الصحابة إنكار على عليّ وأسماء فكان إجماعاً)) (¬3). وقال الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز–رحمه الله-: ((تغسيل المرأة زوجها أمر لا بأس به إذا كانت خبيرة بذلك، وقد غسل علي - رضي الله عنه - زوجته فاطمة، وغسلت أسماء بنت عميس زوجها أبا بكر الصديق - رضي الله عنه -)) (¬4). وقال: ((أما غير الزوجة كالأم والبنت فلا يجوز للرجل تغسيلهما ولا غيرهما من محارمه النساء، ويلحق بالزوجة المملوكة التي يباح له وطؤها فلا بأس بغسلها إذا ماتت؛ لأنها كالزوجة، وهكذا البنت الصغيرة التي دون السبع، لا حرج على الرجل في تغسيلها سواء كان محرماً أو أجنبيّاً عنها؛ لأنها لا عورة لها، وهكذا المرأة لها تغسيل الصبي الذي دون ¬
الأمر الثامن: شهيد المعركة الذي مات في موضعه لا يغسل
السبع)) (¬1). وإن مات رجل بين نساء له سبع سنين فأكثر، فإنهن لا يغسلنه إلا أن يكون معهن زوجة أو مملوكة، وكذلك لو ماتت امرأة بين رجال لها سبع سنين فأكثر؛ فإنهم لا يغسلونها إلا أن يكون أحد الرجال سيداً أو زوجاً، وكذلك لو تعذر تغسيل الميت؛ لكونه محترقاً، أو عند عدم الماء، ففي هذه الصور المتقدمة ييمم الميت؛ لأن التربة الطاهرة تقوم مقام الماء في تغسيل الميت في هذه الأحوال (¬2). الأمر الثامن: شهيد المعركة الذي مات في موضعه لا يغسل؛ لحديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم يقول: ((أيهما أكثر أخذاً للقرآن؟)) فإذا أشير له إلى أحدهما قدَّمه في اللحد، وقال: ((أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة))، وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلوا ولم يُصلِّ عليهم)).وفي رواية أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ادفنوهم في دمائهم)) يعني يوم أحد ولم يغسلهم (¬3).ولفظ أحمد: ((لا تغسلوهم؛ فإن كل جرح أو كل دم يفوح مسكاً يوم القيامة، ولم يصلَّ عليهم)) (¬4). وجريح المعركة إذا مات بعدها متأثراً بجراحه يُغَسَّل ويُكفَّن ويُصلَّى ¬
الأمر التاسع: المحرم لا يطيب ولا يحنط ولا يغطى رأسه ولا وجهه
عليه، وله أجر الشهيد إذا خلصت نيته، وكذلك المقتول ظلماً يغسل ويصلى عليه، وله أجر الشهيد، وفضل الله يؤتيه من يشاء (¬1). الأمر التاسع: المحرم لا يُطيَّب ولا يُحنَّط ولا يُغطَّى رأسه ولا وجهه؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته (¬2)، - أو قال: فأوقصته - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اغسلوه بماءٍ وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تحنِّطوه، ولا تخمِّروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبِّياً))، وفي لفظ لمسلم: (( ... ولا تخمِّروا رأسه ولا وجهه)) (¬3). الأمر العاشر: لا يَغْسِلُ الميت إلا: المسلم، العاقل، المميز، الأمين (¬4) الثقة، العارف بأحكام الغسل، والأولى به وصيه العدل (¬5)؛ لما رُوي أن ¬
أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - أوصى أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس رضي الله عنها فقامت بذلك (¬1)، وأوصى أنس أن يغسله محمد بن سيرين ففعل (¬2)، ويتولى غسله إن لم يكن له وصي من كان أعرف بسنة الغسل، لاسيما إذا كان من أهله وأقاربه؛ لأن الذين تولوا غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا كذلك، فقد قال سعيد بن المسيب، قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ((غسلت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذهبت أنظر ما يكون من الميت فلم أرَ شيئاً وكان طيِّباً حيّاً وميتاًً - صلى الله عليه وسلم -، وولي دفنه وإجنانه دون الناس أربعة: علي، والعباس، والفضل، وصالح مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولحد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحداً، ونصب عليه اللبن نصباًً)). ولفظ ابن ماجه: عن علي - رضي الله عنه - قال: لما غَسَّل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذهب يلتمس منه ما يلتمس من الميت فلم يجده، فقال: ((بأبي الطيِّبُ! طبتَ حيّاً وميتاًً)) (¬3). وفي مرسل الشعبي أنه غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع علي - رضي الله عنه -: الفضل – يعني ابن عباس – وأسامة بن زيد (¬4). ¬
الأمر الحادي عشر: صفة غسل الميت
الأمر الحادي عشر: صفة غسل الميت: المشتمل على الواجبات والسنن على النحو الآتي: 1 - يُجعل على سرير في مكان مستور عن جميع الأنظار (¬1)، ويكون المكان مسقوفاً بسقفٍ إن أمكن؛ ليكون أكمل في الستر فيكون في بيت أو خيمة، أو غرفة، أو نحو ذلك (¬2). 2 - لا يحضره إلا من يباشر تغسيله أو من يحتاج إليه المغسل؛ ليساعده؛ لأن الميت ربما كان به عيب يستره في حياته ولا يحب أن يطلع عليه الناس، وربما بدت عورة الميت من غير قصد الغاسل فيشاهدها من يحضر، فلا يحضره أحد أثناء التغسيل (¬3) إلا من يضطر المغسل إليه؛ ليساعده على التغسيل، وإذا ظهر عيب وجب أن يستره المغسل ومن يساعده، وإذا ظهرت علامات الخير استحب الإخبار بها؛ ليدعى له ويقتدى بصفاته الحسنة (¬4) (¬5). ¬
3 - يلين مفاصله، وهو أن يرد ذراعيه إلى عضديه، وعضديه إلى جنبيه
3 – يليِّن مفاصله، وهو أن يرد ذراعيه إلى عضديه، وعضديه إلى جنبيه، ثم يردهما، ويرد ساقيه إلى فخذيه، وفخذيه إلى بطنه، ثم يردهما؛ ليكون ذلك أبقى للينه، فيكون ذلك أمكن للغاسل: من تغسيله، وتمديده، وخلع ثيابه، وتكفينه، وقد ذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله: أن ذلك يستحب في موضعين: عقب موته قبل قسوتها وبرودته، وإذا شرع في غسله؛ وإن شق ذلك لقسوة الميت أو غيرها تركه؛ لأنه لا يؤمن أن تنكسر أعضاؤه، ويصير به ذلك إلى المثلة (¬1). 4 – يوضع على عورة الميت سِتر من سرته إلى ركبته تدخل من تحت ثيابه وتلف على عورته؛ لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يرفعه: ((وإذا أنكح أحدكم عبده أو أجيره فلا ينظر إلى شيء من عورته؛ فإنما أسفل من سرته إلى ركبته من عورته)) (¬2)، ولا ينظر إلى فخذ حي ولا ميت (¬3). 5 – يُجَرَّد من ثيابه بعد ستر عورته كما تقدم؛ لأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا حينما مات عليه الصلاة والسلام: ((والله ما ندري أنجرِّدُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما نُجرِّدُ موتانا أم نغسله وعليه ثيابه ... )) (¬4) فدل ذلك أنهم كانوا يجرِّدون الموتى وينزعون عنهم الثياب قبل التغسيل. 6 – تُقلّم أظفاره، ويقص شاربه؛ لأن هذا من تنظيف الميت إذا كانت ¬
طويلة؛ لأن هذا من نظافة الميت، وتجميله، وتحسينه، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((ويستحب تقليم أظفار الميت وقصّ شاربه؛ لأن ذلك سنة في حياته)) (¬1). وقال الإمام ابن باز رحمه الله: ((يستحب قص شاربه وقلم أظفاره، وأما حلق العانة ونتف الإبط فلا أعلم ما يدل على شرعيته، والأولى ترك ذلك؛ لأنه شيء خفي وليس بارزاً: كالظفر، والشارب)) (¬2) (¬3). ¬
7 - يبدأ فيحني الميت حنيا رفيقا لا يبلغ به الجلوس
7 - يبدأ فيحني الميت حنياً رفيقاً لا يبلغ به الجلوس، فيرفع رأسه إلى قرب جلوسه ويمرُّ بيده على بطنه فيعصره عصراً رفيقاً، لأجل أن يُخرج منه ما كان مستعدّاً للخروج من النجاسات؛ لئلا يخرج بعد الغسل أو بعد التكفين فيلوث الكفن ويفسد الغسل - ويكثر صب الماء حين العصر صبّاً كثيراً؛ ليذهب بما يخرج من النجاسات فلا تظهر رائحته، والأولى أن يكون في المكان الذي يغسل فيه الميت بخور مما يتدخن به الناس من عود ونحوه؛ لئلا يتأذى برائحة الخارج - إلا الحامل فلا يعصر بطنها؛ لئلا يؤذي الجنين (¬1). 8 - يلف الغاسل على يده اليسرى خرقةً أو قفازاً أو كيساً فينجِّيه بها فيغسل فرجه فيصب الماء من تحت الإزار أو المنشفة التي قد وضعت على جميع عورة الميت، ويبالغ في تنظيف الفرجين حتى ينقي ما بهما من ¬
9 - يلف الغاسل على يده خرقة أخرى أو ليفة أو نحوهما
نجاسة، ولا يمس عورته بغير حائل؛ لأن النظر إلى العورة يحرم، فلمسها أولى بالتحريم (¬1)، ثم يلقي هذه الخرقة أو القفاز. 9 - يلف الغاسل على يده خرقة أخرى أو ليفة أو نحوهما: كالقفاز؛ لأن الصحابة - رضي الله عنهم - غسلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه قميصه يصبون الماء فوق القميص ويدلكونه بالقميص دون أيديهم ... )) (¬2). 10 - يوضئه وضوءه للصلاة، ثم يبدأ بالميامن وأعضاء الوضوء والقفاز على يده؛ لحديث أم عطية رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها)) (¬3). فينوي القيام بالوضوء والغسل، ويقول: بسم الله، ثم يغسل يديه ثلاثاً، ثم يأخذ خرقة خشنة فيبلها بالماء ويجعلها على أصبعيه ثم يدخل أصبعيه بين شفتيه فيمسح أسنانه وينظفها، ويدخل أصبعيه في منخريه وينظف المنخرين ولا يدخل الماء في فمه ولا في منخريه، وإنما يكتفي ببل الخرقة وينظف بها أسنانه ومنخريه ثلاثاً؛ ليقوم ذلك مقام المضمضة والاستنشاق؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) (¬4). ويغسل وجهه ثلاثاً، ويغسل يديه: اليمنى إلى المرفق ثلاثاً، ثم اليسرى ثلاثاً، ويمسح رأسه إدباراً وإقبالاً، ثم يُحلّق بأصبعيه على أذنيه فيمسحهما، ويغسل رجله اليمنى إلى الكعب ثلاثاً، واليسرى ثلاثاً. ¬
11 - يؤتى بالسدر فيغسل رأسه برغوة السدر
11 - يُؤتى بالسدر فيغسل رأسه برغوة السدر، يبدأ بشق رأسه الأيمن ثم الأيسر، بعد أن يُخَضّ ويُرجّ حتى يكون له رغوة فيغسل رأسه ولحيته؛ يفعل ذلك ثلاث مرات؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبدأ بعد الوضوء بغسل رأسه في الجنابة (¬1). 12 - يبدأ بغسل جسد الميت فيبدأ بشقه الأيمن؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ابدأن بميامنها)) (¬2) فيغسل يده اليمنى وصفحة عنقه، وشق صدره الأيمن، وجنبه، وفخذه، وساقه، وقدمه فيكون الغسل من كتفه الأيمن حتى نهاية قدمه اليمنى، يدلكه باليد داخل القفاز مع صب الماء وإدخال اليد من تحت الساتر الذي يستر عورة الميت، ويكون الغسل بالماء والسدر مع ثفل السدر (¬3) (¬4)، ثم يقلبه على جنبه الأيسر ويغسل شق ظهره الأيمن ¬
وما يليه، وكل ما لم يغسله من هذا الجنب، ثم يقلبه فيعيده على ظهره ويغسل يده اليسرى وصفحة عنقه، وشق صدره الأيسر، وجنبه، وفخذه، وساقه، وقدمه، فيكون الغسل من كتفه اليسرى حتى نهاية قدمه اليسرى يدلكه باليد داخل القفازين مع صب الماء وإدخال اليد من تحت الساتر، ويكون الغسل بالماء والسدر كما تقدم، ثم يقلبه على جنبه الأيمن ويغسل شقه الأيسر مع شق ظهره وما يليه، وكل ما لم يغسله من هذا الجنب، ثم يعم سائر جسده بالماء، ويكرر هذا الغسل ثلاث مرات، أو خمس مرات أو سبعاً، أو أكثر من ذلك على حسب ما يرى الغاسل؛ فإن خرج شيء من بطنه أعاد إنجاءه وأعاد الوضوء والغسل، ولا يعد الوضوء إلا إذا خرج شيء، فإن استمر الخارج سد مكانه بالقطن، وأحكمه، ثم أعاد الوضوء والغسل، ويجعل في الغسلة الأخيرة كافوراً، ليشده ويطيبه ويبرده؛ لحديث أم عطية رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر))، قالت: قلت: وتراً؟ قال: ((نعم، واجعلن في الأخيرة كافوراً أو شيئاً من كافور ... )) (¬1). ¬
ويُنقض شعر الميت إن كان له شعر، ويُمشط، ويُضفر شعر المرأة ثلاثة قرون: قرنيها، وناصيتها، ويُلقى خلفها؛ لحديث أم عطية رضي الله عنها (¬1). وسمعت شيخنا الإمام عبدالعزيز ابن باز رحمه الله يقول: ((ويضفر الرأس ثلاثة قرون حتى ولو كان رجلاً ويجعل وراءه)) (¬2). وإذا فرغ الغاسل من غسل الميت نشفه بمنشفة ثم توضع هذه المنشفة المبللة خفيفاً على الأخرى الساترة للعورة فتسحب المنشفة المبللة كثيراً من تحتها فيكون الميت جاهزاً للتكفين (¬3). والسقط لأربعة أشهر أو أكثر يُغسل ويُصلى عليه؛ لحديث المغيرة بن شعبة يرفعه: (( ... والسّقط يُصلَّى عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة)) (¬4)، ويُكفّن ويُقبر في مقابر المسلمين، ويُسمَّى، ويُعَقُّ عنه؛ لأن الروح قد نفخت فيه، فهو إنسان)) (¬5). ¬
الأمر الثاني عشر: السنة الاغتسال من غسل الميت
الأمر الثاني عشر: السنة الاغتسال من غسل الميت؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من غسل الميت فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ)).ولفظ ابن ماجه: ((من غسل ميتاً فليغتسل)) (¬1)، وهذا الأمر للوجوب ولكن يصرف الوجوب إلى الاستحباب أحاديث أخرى، فقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((ليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه، فإن ميتكم ليس بنجس، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم)) (¬2)، وقول ابن عمر رضي الله عنهما: ((كنا نغسل الميت، فمنا من يغتسل ومنا من لم يغتسل)) (¬3). فيعمل بالأحاديث كلها، فيكون الغسل من غسل الميت سنة وليس بواجب (¬4). قال سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله: ((وقال: بعضهم إن الحكمة في ذلك – والله أعلم – جبر ما يحصل للغاسل من الضعف بسبب مشاهدة الميت، وذكر الموت، وما بعده، وهو معنى مناسب)) (¬5)، والله أعلم (¬6). ¬
الخامس عشر: تكفين الميت
الخامس عشر: تكفين الميت يراعى في تكفين الميت الأمور الآتية: الأمر الأول: حكم تكفين الميت المسلم، فرض كفاية، إذا فعله من فيه كفاية سقط الحرج والإثم عن الباقين، وإن تركوه كلهم أثموا كلهم؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما في قصة الرجل الذي وقصته راحلته؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيه: ((اغسلوه بماء وسدر، وكفّنوه في ثوبيه)) (¬1)، وهذا أمر والأصل في الأمر الوجوب. الأمر الثاني: معرفة الفضل والأجر العظيم لمن تولَّى تكفين الميت المسلم؛ لحديث أبي رافع، وفيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( ... ومن كفَّن ميتاً كساه الله من سندس وإستبرق الجنة ... )) (¬2). الأمر الثالث: الكفن أو ثمنه من مال الميت؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في المحرم: ((اغسلوه بماء وسدر، وكفّنوه في ثوبيه)) (¬3)؛ ولحديث خباب - رضي الله عنه - في قصة مصعب بن عمير - رضي الله عنه - وأنه كفن في نمرة له، وفي لفظ: بردة (¬4)، ولكن لو تبرع أحد بكفنه فلا بأس ¬
الأمر الرابع: يكفن المحرم في ثوبيه الذي مات فيهما
ولا حرج (¬1). الأمر الرابع: يُكفَّن المحرم في ثوبيه الذي مات فيهما ولا يُغطَّى رأسه، ولا وجهه، ولا يُطيَّب؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما في الذي وقصته راحلته: ((اغسلوه بماء وسدر وكفِّنوه في ثوبيه، ولا تحنِّطوه، ولا تخمِّروا رأسه فإنه يُبعث يوم القيامة ملبياً)). وفي لفظ لمسلم: ((ولا تخمِّروا رأسه ولا وجهه ... )) (¬2). الأمر الخامس: يكفن الشهيد في ثيابه التي قتل فيها، ويستحب تكفينه بثوب واحد أو أكثر فوق ثيابه، أما تكفينه في ثيابه التي مات فيها؛ فلحديث عبد الله بن ثعلبة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم أحد: ((زمِّلوهم في ثيابهم)) قال: وجعل يدفن في القبر الرهط، قال: وقال: ((قدِّموا أكثرهم قرآناً)). ولفظ النسائي: ((زمِّلوهم بدمائهم، فإنه ليس كَلْمٌ يُكْلَمُ إلا يأتي يوم القيامة يَدْمَى: لونه لون الدم، وريحه ريح المسك)) (¬3)؛ ولحديث جابر - رضي الله عنه -: ((وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلوا ولم يصلَّ ¬
عليهم)) (¬1). وأما استحباب تكفينه بثوب واحد أو أكثر فوق ثيابه التي قتل فيها؛ فلحديث شداد بن الهاد - رضي الله عنه - (¬2)، ولحديث الزبير بن العوام - رضي الله عنه - (¬3). ¬
الأمر السادس: يكون الكفن سابغا طائلا يستر جميع بدن الميت
الأمر السادس: يكون الكفن سابغاً طائلاً يستر جميع بدن الميت؛ لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب يوماً فذكر رجلاً من أصحابه قُبِضَ فكُفِّن في كفن غير طائل وقُبِرَ ليلاً فزجر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يُقبر الرجل بالليل حتى يُصلَّى عليه إلا أن يضطر الإنسان إلى ذلك، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه)) (¬1). الأمر السابع: إذا ضاق الكفن ستر به رأس الميت وما طال من جسده، ويجعل على الباقي المكشوف شيئاً من الإذخر أو الحشيش أو غيره؛ لحديث خباب - رضي الله عنه - في قصة مصعب بن عمير، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في نمرة أو بردة مصعب: ((غطّوا بها رأسه، واجعلو على رجليه من الإذخر)) أو قال: ((ألقوا على رجليه من الإذخر)). وفي لفظ: ((فأمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نغطي رأسه وأن نجعل على رجليه من الإذخر)) (¬2) (¬3). ¬
الأمر الثامن: إذا قلت الأكفان وكثر الموتى جاز تكفين الجماعة منهم
الأمر الثامن: إذا قلَّت الأكفان وكثر الموتى جاز تكفين الجماعة منهم في الكفن الواحد، ويقدم أكثرهم قرآناً إلى القبلة؛ لحديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ((أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حمزة يوم أحد، فوقف عليه، فرآه قد مُثِّل به، فقال: ((لولا أن تجدَ صفية في نفسها لتركته حتى تأكله العافية، حتى يحشر يوم القيامة في بطونها)). قال: ثم دعا بنمرة فكفنه فيها، فكانت إذا مُدَّت على رأسه بدت رجلاه، وإذا مُدَّت على رجليه بدا رأسه، قال: فكثر القتلى وقلَّت الثياب، قال: فكُفِّن الرجل والرجلان والثلاثة في الثوب الواحد، ثم يدفنون في قبر واحد، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل عنهم؛ أيهم أكثر قرآناً فيقدِّمه إلى القبلة، قال: فدفنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يصلِّ عليهم)) (¬1).وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أن معنى الحديث أنه كان يقسم الثوب الواحد بين الجماعة فيكفن كل واحد في بعضه للضرورة، وإن لم يستر إلا بعض بدنه، يدل عليه تمام الحديث أنه كان يسأل عن أكثرهم قرآناً فيقدِّمه في اللحد، فلو أنهم في ثوب واحد جملة لسأل عن أفضلهم قبل ذلك كيلا يؤدي إلى نقض التكفين وإعادته)) (¬2). الأمر التاسع: إحسان الكفن؛ لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا كفّن أحدكم أخاه فليحسن كفنه)) (¬3)؛ ولحديث أبي ¬
الأمر العاشر: يستحب في الكفن ما يأتي
قتادة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا ولي أحدكم أخاه فليحسن كفنه)) (¬1). الأمر العاشر: يستحب في الكفن ما يأتي: 1 - يستحب البياض؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم، وكفِّنوا فيها موتاكم، وإن خير أكحالكم الإثمد، يجلو البصر وينبت الشعر)) (¬2). 2 - يكون ثلاثة أثواب؛ لحديث عائشة رضي الله عنها ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كُفِّن في ثلاثة أثواب بيض سحولية، ليس فيها قميص ولا عمامة)) (¬3). 3 - تجمير الكفن ثلاثاً لغير المحرم، وهو التبخير بالعود أو غيره؛ لحديث جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أجمرتم الميت فأجمروه ثلاثاً)) (¬4). قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((وأوصى أبو سعيد، وابن عمر، وابن عباس أن تجمر أكفانهم بالعود، وقال أبو هريرة: يجمر الميت)) (¬5). ¬
الأمر الحادي عشر: لا يغالى في الكفن ولا يزاد فيه على ثلاثة أثواب
الأمر الحادي عشر: لا يغالى في الكفن ولا يزاد فيه على ثلاثة أثواب؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر نظر إلى ثوب عليه كان يمرض فيه به ردع من زعفران، فقال: اغسلوا ثوبي هذا وزيدوا عليه ثوبين فكفِّنوني فيها، قلت: إن هذا خلق؟ قال: إن الحيَّ أحقُّ بالجديد من الميت، إنما هو للمهلة)) (¬1). وسمعت شيخنا الإمام ابن باز يقول: ((يكفي الوسط المناسب ولا يتحرَّى أحسن شيء، ولا يتكلَّف؛ لأن مصيره إلى الدود والفناء والزوال في القبر، فيكفي الخام الأبيض)) (¬2). الأمر الثاني عشر: كفن الرجل والمرأة، الواجب فيه الثوب الساتر لجميع بدن الميت، والمستحب ثلاثة أثواب، وإذا كُفِّنت المرأة في خمسة أثواب فحسن: إزار، وخمار، وقميص، ولفافتين، فتؤز بالمئزر، ثم تلبس القميص، ثم تخمّر، ثم تلفّ باللفافتين، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((قال ابن المنذر: أكثر من نحفظ عنه من أهل العلم يرى أن تكفن المرأة في خمسة أثواب، وإنما استحب ذلك؛ لأن المرأة تزيد في حال حياتها على الرجل في الستر؛ لزيادة عورتها على عورته، فكذلك بعد الموت، ولما كانت تلبس المخيط في إحرامها وهو أكمل أحوال الحياة استحب إلباسها إياه بعد موتها، والرجل بخلاف ذلك، فافترقا في اللبس بعد الموت لافتراقهما فيه في الحياة، واستويا في الغسل بعد الموت لاستوائهما ¬
فيه في الحياة)) (¬1) (¬2). ¬
الأمر الثالث عشر: صفة تكفين الميت
الأمر الثالث عشر: صفة تكفين الميت: أولى الناس بتكفين الميت هو أولى الناس بغسله كما تقدم، وصفة التكفين الكامل المشتمل على الواجبات والسنن على النحو الآتي: 1 - تُقصُّ الأربطة من نفس عرض الكفن وتكون وترية: سبعة، أو خمسة، أو غير ذلك، ثم توضع على النعش بالتساوي. 2 - تجمّر الأكفان (¬1) ثلاث مرات بعد رشها بماء ورد أو غيره ليعلق فيها البخور والرائحة. 3 - يكفن الرجل في ثلاث لفائف بيض. 4 - تبسط اللفافة الأولى على النعش أو على سرير تكفين الميت، ثم يذرُّ عليها حنوطاً، وهو أخلاط من الطيب ويجعل عليها كافوراً. 5 - ثم يبسط فوق اللفافة الأولى اللفافة الثانية ويجعل فوقها حنوطاً وكافوراً. 6 - ثم يبسط فوق اللفافة الثانية اللفافة الثالثة ويجعل فوقها حنوطاً وكافوراً ولا يجعل فوق العليا من الظاهر وعلى النعش حنوطاً؛ لأن أبا بكر - رضي الله عنه - قال: ((لا تجعلوا على أكفاني حنوطاً)) (¬2). 7 - يوضع على اللفائف خرقة مثل التبان (¬3) مشقوقة الطرف من ¬
8 - ينقل الميت على الأكفان بساتر العورة الذي يستر عورته
الأعلى ومن الأسفل ويجعل عليها حنوطاً في قطن، وهذه الخرقة تمسك الحنوط المخلوط من المسك والكافور ليكون بين إليتي الميت. 8 - يُنقل الميت على الأكفان بساتر العورة الذي يستر عورته، ويجعل الزائد من أطراف الكفن عند رأسه أطول مما عند رجليه، ويجعل الميت مستلقياً على ظهره. 9 - يُؤتى بدهن العود أو المسك أو غير ذلك من الأطياب الطيبة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((والمسك أطيب الطيب)) (¬1)، ويجعل من الطيب على مواضع السجود: على ركبتيه، ويديه، وجبهته وأنفه، وأطراف قدميه تشريفاً وإكراماً لهذه الأعضاء؛ لسجودها لله تعالى، ويوضع من هذا الطيب على حلقه، وعلى عينيه، وأنفه، وتحت إبطيه، وعلى سرته، وعلى أذنيه؛ لأن ابن عمر رضي الله عنهما كان يتتبع مغابن الميت ومرافقه بالمسك)) (¬2). وإن طيب جسد الميت كله فلا بأس؛ لأن أنس بن مالك - رضي الله عنه - طُلي بالمسك (¬3)، وطلي ابن عمر ميتاً بالمسك (¬4). 10 - تُوضع يداه محاذيتين لجنبيه، ويربط التبان بأخذ شقه الأعلى ¬
11 - يبدأ بإحكام الكفن فيرد طرف اللفافة الأولى
والأسفل من اليمين، ثم يربط جيداً، ثم يؤخذ شقه الأعلى والأسفل من اليسار ثم يربط جيداً مثل ربط الحفائظ؛ لكي تمسك هذه الحفاظة الحنوط بين إليتي الميت، وتشد وتجمع مثانته وإليتيه؛ ليمنع ما ينزل من بطن الميت على الأكفان لو حصل ذلك حتى تستمر طهارتها إلى أن يوضع في قبره. ولا يطيب الميت بالورس ولا الزعفران؛ لأنهما إنما يستعملان للغذاء والزينة، وهو غير لائق بالميت؛ ولأنه ربما ظهر لونه على الكفن، ولا فرق في ذلك بين المرأة والرجل. 11 - يبدأ بإحكام الكفن فيرد طرف اللفافة الأولى التي من جانب الميت الأيسر على طرفها الذي على شق الميت الأيمن، ثم يُردّ طرفها الأيمن على شقه الأيسر، من رأسه إلى رجليه، قال ابن قدامة رحمه الله: ((وإنما استحب ذلك؛ لئلا يسقط عنه الطرف الأيمن إذا وضع على يمينه في القبر)) (¬1). ثم يسحب ساتر العورة، ثم يأخذ شق اللفافة الثانية الأيسر فيرده على شقه الأيمن، ثم يرد الأيمن على شقه الأيسر، ثم يأخذ شق اللفافة الثالثة الأيسر فيرده على الأيمن، ثم شقها الأيمن على شقه الأيسر، ويجعل أكثر الزائد عند رأسه كما تقدم؛ لأن رأسه أحق بالستر من رجليه؛ ولشرفه، ويدل على ذلك تكفين مصعب بن عمير كما تقدم. 12 - يبدأ بالأربطة، فيبدأ بالرباط على الرأس وما زاد من اللفائف يرد على وجه الميت، ويربط بالزائد من الرباط نفسه، ثم يربط ما تحت الرجلين، وما زاد من اللفائف يرد على رجليه ويربط بالزائد من الرباط نفسه، فإن كانت الأربطة سبعة، فالرباط الثالث على صدره، والرابع على بطنه، والخامس على إليتيه، ¬
13 - تكفن المرأة في خمسة أثواب بيض
والسادس على فخذيه، والسابع على ساقيه، وإن كانت خمسة أربطة أو ثلاثة فلا بأس، لكن توزع على أعلاه، ووسطه، وأسفله، قال الإمام ابن باز رحمه الله: ((ليس في ذلك حد، لكن الثلاثة تكفي في أعلاه، وأسفله، ووسطه، وإن اكتفي باثنين فلا بأس، لكن المهم ضبط الكفن حتى لا ينتشر)) (¬1). ويكون ربط الأربطة من ناحية جنبه الأيسر ربطاً يسهل حله إذا وضع في القبر على جنبه الأيمن. 13 - تكفن المرأة في خمسة أثواب بيض من قطن إن تيسر البياض: إزار، وخمار، وقميص، ولفافتين؛ لما تقدم، وإن كفنت كالرجل فلا بأس، لكن الأفضل أن تكفن في خمسة أثواب. والواجب ثوب يستر جميع جسد الميت، سواء كان كبيراً، أو صغيراً، ذكراً كان أو أنثى، وأما ما تقدم فهو الأفضل والأكمل (¬2). السادس عشر: الصلاة على الميت يراعى في الصلاة على الميت الأمور الآتية: الأمر الأول: حكم الصلاة على الميت: فرض كفاية؛ لمفهوم قول الله تعالى: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِالله وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ} (¬3)، فلما نهى عن الصلاة على المنافقين دلَّ على أن الصلاة على ¬
الأمر الثاني: فضل الصلاة على الميت
المؤمنين شريعة قائمة وهو كذلك (¬1)؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي على أموات المسلمين باستمرار، وكان يقول أحياناً: ((صلوا على صاحبكم)) (¬2). الأمر الثاني: فضل الصلاة على الميت، لقد تفضل الله - عز وجل - على عباده المؤمنين بأن وعدهم بالأجر العظيم على الصلاة على أموات المسلمين، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من اتّبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً وكان معه حتى يُصلَّى عليها، ويفرغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط)) (¬3). وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أنه كان قاعداً عند عبدالله بن عمر إذا طلع خباب صاحب المقصورة، فقال: يا عبدالله بن عمر، ألا تسمع ما يقول أبو هريرة؟ إنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من خرج مع جنازة من بيتها وصلى عليها، ثم تبعها حتى تدفن كان له قيراطان من أجر كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع كان له من الأجر مثل أحد)) فأرسل ابن عمر خباباً إلى عائشة يسألها عن قول أبي هريرة ثم يرجع إليه فيخبره ما قالت؟ وأخذ ابن عمر قبضة من حصباء المسجد يقلبها في يده حتى رجع إليه الرسول فقال: قالت عائشة: صدق أبو هريرة، فضرب ابن عمر بالحصى الذي كان في يده الأرض، ¬
الأمر الثالث: فضل الله - عز وجل - على عبده المسلم الميت بشرعية الصلاة عليه
ثم قال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة)).وفي لفظ: ((قيل لابن عمر: إن أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من تبع جنازة فله قيراط من الأجر)). فقال ابن عمر: أكثر أبو هريرة علينا، فبعث إلى عائشة فسألها فصدقت أبا هريرة، فقال ابن عمر، لقد فرطنا في قراريط كثيرة)) (¬1). وسئل شيخنا ابن باز رحمه الله عمن صلى على خمس جنائز فهل له بكل جنازة قيراط؟ فأجاب: نرجو له قراريط بعدد الجنائز، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان)) (¬2). وما جاء في معنى ذلك من الأحاديث وكلها دالة على أن القراريط تتعدد بعدد الجنائز .. وهذا من فضل الله سبحانه وجوده وكرمه على عباده فله الحمد والشكر لا إله غيره ولا رب سواه والله ولي التوفيق (¬3). وسئل شيخنا ابن باز رحمه الله عن حكم السفر لأجل الصلاة على الميت؛ فقال: ((لا حرج في ذلك)) (¬4). الأمر الثالث: فضل الله - عز وجل - على عبده المسلم الميت بشرعية الصلاة عليه، وقبول شفاعة إخوانه فيه؛ لحديث عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه)) (¬5)؛ ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ¬
الأمر الرابع: شهيد المعركة لا يصلى عليه
سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه)) (¬1). وقد جمع أهل العلم بين حديث المائة، والأربعين، فسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله يقول: ((قال أهل العلم في الجمع بين حديث المائة وحديث الأربعين: إن حديث المائة أولاً، ثم تفضل الله - عز وجل - وجعل الأربعين يقومون مقام المائة في قبول الشفاعة، وبكل حال فالحديثان يدلان على استحباب كثرة الجمع على الجنائز)) (¬2). الأمر الرابع: شهيد المعركة لا يُصلَّى عليه؛ لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وفيه: (( ... وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يُغسَّلوا ولم يصلَّ عليهم)) (¬3). أما الذي يُجرح في المعركة ثم يموت بعد ذلك فإنه يُصلّى عليه، وكذلك شهداء غير المعركة يُصلى عليهم، كالذي يموت بالهدم، والغرق، والسل، والمقتول ظلماً على الصحيح، وغيرهم من الشهداء ¬
الأمر الخامس: السقط والطفل يصلى عليهما
الذين يموتون في غير معركة الجهاد، يغسلون ويصلى عليهم. الأمر الخامس: السقط والطفل يصلى عليهما ويُدعى لوالديهما؛ لحديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - يرفعه وفيه: ((والسقط يُصلَّى عليه ويُدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة)). وفي لفظ: ((والطفل يُصلَّى عليه)) (¬1). الأمر السادس: الإمام الأعظم لا يصلِّي على الغال وقاتل نفسه، بل يصلي عليه سائر الناس؛ لحديث زيد بن خالد الجهني: أن رجلاً من المسلمين توفي بخيبر، وأنه ذُكِرَ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((صلّوا على صاحبكم)) قال: فتغيرت وجوه القوم لذلك، فلما رأى الذي بهم قال: ((إن صاحبكم غلَّ في سبيل الله)) ففتشنا متاعه فوجدنا فيه خرزاً من خرز اليهود ما يساوي درهمين)) (¬2)؛ ولحديث جابر بن سمرة، قال: أُتي النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصلِّ عليه)) (¬3). وسمعت الإمام ابن باز رحمه الله يقول عن حديث زيد بن خالد: ((دل الحديث على فوائد: أن ولي الأمر لا يصلي على الغال، وأنه يُصلِّي على ¬
الأمر السابع: يصلى على من قتل حدا
العاصي)) وقال عن حديث جابر: ((قاتل نفسه أتى جريمة عظيمة فلا يصلي عليه الإمام أو كبار البلد والجماعة ويصلي عليه غيرهم)) (¬1). الأمر السابع: يُصلى على من قُتل حدّاً؛ لحديث جابر - رضي الله عنه - أن رجلاً من أسلم جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاعترف بالزنا، فأعرض عنه حتى شهد على نفسه أربع مرات، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أبك جنون؟)) قال: لا. قال: ((أحصنت؟)) قال: نعم، فأمر به فرجم بالمصلى، فلما أذلفته الحجارة فرَّ، فأُدرِك فَرُجِم حتى مات، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - خيراً وصلّى عليه)) (¬2). وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه صلى على الغامدية (¬3)، وصلى على الجهنية (¬4). وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يقول عن هذا الحديث: ((يدل على أنه يُصلَّى على من أُقيم عليه الحد؛ لأن الحد قد طهره، ورواية من قال لم يصلِّ على ما عز أثبت منها من أثبت الصلاة عليه، فالصواب أنه صلى على ماعز)) (¬5). الأمر الثامن: الصلاة على الغائب بالنية، فيستقبل القبلة ويصلى عليه إن لم يصلَّ عليه أو كان له شأن في الإسلام، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على النجاشي؛ لحديث جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على النجاشي، فكنت في الصف الثاني أو الثالث، وفي لفظ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش فهلمَّ فصلُّوا عليه)). قال: فصففنا فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬
ونحن صفوف. وفي لفظ: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على أصحمة النجاشي فكبّر عليه أربعاً)). وفي لفظ: ((قوموا فصلوا على أخيكم أصحمة)) (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعى النجاشيَّ في اليوم الذي مات فيه، خرج إلى المصلى فصف بهم، وكبر أربعاً. وفي لفظ: ((نعى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النجاشي صاحب الحبشة في اليوم الذي مات فيه فقال: ((استغفروا لأخيكم)). وفي لفظ: ((وكبر عليه أربع تكبيرات)) (¬2). وعن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أخاكم قد مات فقوموا فصلوا عليه)) يعني النجاشي (¬3). وفي لفظ للترمذي: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أخاكم النجاشي قد مات، فقوموا فصلوا عليه)). قال: فقمنا فصففنا كما يصفُّ على الميت، وصلينا عليه كما يُصلَّى على الميت)) (¬4)، والأقرب والله تعالى أعلم: أنه يُصلَّى على الميت الغائب (¬5) في حالتين: ¬
الحالة الأولى: أن يموت في أرض ليس بها من يصلي عليه
الحالة الأولى: أن يموت في أرض ليس بها من يصلي عليه. الحالة الثانية: إذا كان فيه منفعة عظيمة للمسلمين: كالعالم الكبير الذي نفع الله بعلمه فانتفع به الناس، أو كالإمام الذي نفع الله به البلاد والعباد؛ فأقام العدل بين الناس وذَبَّ عن شريعة الإسلام، أو غير ذلك ممن نفع الله بهم الإسلام نفعاً ظاهراً، وهذا ما اختاره شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله فقد سمعته يقول: ((دلَّ ذلك على أنه يُصلى على الغائب صلاة الغائب على الخواص: كالعالم، أما من قال: إن الصلاة على النجاشي؛ لأنه لم يصلَّ عليه فهذا بعيد؛ لأنه ملك عظيم [فكيف] لا يصلي عليه أحد من رعيته، هذا من أبعد الأشياء، أو مستحيل، والمعروف والعادة أن الملوك إذا أسلموا تبعهم بعض خواصهم)) (¬1)،وسمعته رحمه الله يقول أيضاً: ((واختلف العلماء في الصلاة على الغائب: [فـ] منهم من قال: لا يُصلَّى على أحد إلا النجاشي، ومنهم من قال: يقاس على النجاشي من كان مثله، فيصلى على من له شأن في نصر الإسلام والمسلمين، وهذا عليه أئمة الدعوة)) (¬2) (¬3). ¬
الأمر التاسع: مشروعية الصلاة على القبر إلى شهر
قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((وتتوقف الصلاة على الغائب بشهر كالصلاة على القبر)) (¬1)، والله - عز وجل - أحكم الحاكمين والموفق للصواب (¬2). وصفة الصلاة على الغائب كصفة الصلاة على الجنازة الحاضرة. الأمر التاسع: مشروعية الصلاة على القبر إلى شهر، وحكم الصلاة على الجنازة وتكرارها؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((انتهى رسول ¬
الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قبر رطب، فصلَّى عليه، وصفوا خلفه، وكبر أربعاً)) (¬1)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -:أن امرأة سوداء كانت تقمّ المسجد - أو شاباً - ففقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عنها - أو عنه - فقالوا: مات، قال: ((أفلا كنتم آذنتموني؟)) قال: فكأنهم صغَّروا أمرها - أو أمره - فقال: ((دلوني على قبره)) فدلوه فصلى عليها ثم قال: ((إن هذه القبور مملوءة ظلمةً على أهلها، وإن الله - عز وجل - ينوِّرها لهم بصلاتي عليهم)) (¬2). وعن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبر (¬3). وعن سعيد بن المسيب - رضي الله عنه - ((أن أمَّ سعدٍ ماتت والنبي - صلى الله عليه وسلم - غائب، فلما قدم صلى عليها، وقد مضى لذلك شهر)) (¬4). وعن ابن عباس رضي الله عنهما ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبر بعد شهر)) (¬5). وعنه ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على ميت بعد ثلاث)) (¬6). وعن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -:أنهم خرجوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فرأى قبراً جديداً، فقال: ((ما هذا؟)) قالوا: هذه فلانة - مولاة بني فلان، فعرفها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - ماتت ظهراً وأنت نائم قائل، فلم نُحبَّ أن نوقظك بها، فقام ¬
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصف الناس خلفه وكبر عليها أربعاً، ثم قال: ((لا يموت فيكم ميت ما دمت بين أظهركم إلا آذنتموني به، فإن صلاتي له رحمة)) (¬1). قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((وجملة ذلك أن من فاتته الصلاة على الجنازة، فله أن يصلي عليها ما لم تدفن، فإن دفنت فله أن يصلي على القبر إلى شهر، هذا قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم، روي ذلك عن أبي موسى، وابن عمر، وعائشة - رضي الله عنهم - .... )) (¬2). وسمعت الإمام شيخنا ابن باز رحمه الله تعالى يقول عن الأحاديث السابقة: ((هذه الأحاديث فيها تحديد الصلاة على الميت بعد موته في حدود شهر، وفي ذلك تواضع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة على الميت أكثر من شهر، والصلاة توقيفية، أما رواية صلاته على الشهداء بعد ثمان سنوات فيقال: بأنه دعا لهم ولم يصلِّ عليهم)) (¬3)، وسمعته يقول: ((هذا يدل على رحمته - صلى الله عليه وسلم - بالمسلمين، وفيه فضل كناسة المساجد، ومشروعية الصلاة على القبر، وأكثر ما ورد في الصلاة على القبر شهر؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - صلى على أم سعدٍ بعد شهر، أما ما زاد فالأصل عدم ذلك، أما ما ذكر من صلاته على قتلى أحد، فيحتمل أنه دعا لهم كدعوات الجنازة، ويحتمل أن هذا خاص به يودع الأحياء والأموات)) (¬4). والله - عز وجل - أعلم (¬5). ¬
وأما إعادة الصلاة على الجنازة وتكرارها فالصواب من أقوال أهل العلم: ((إنه لا بأس ولا مانع من إعادة صلاة الجنازة لسببٍ، كمن يُصلِّيها مع الناس، ثم يعيدها مع من يصلِّيها؛ وهذا مثل من يصلِّي الفريضة في مسجد ثم يذهب لمسجدٍ آخر لحاجةٍ، فوجد الناس يصلُّون فيه؛ فإنه يعيدها معهم، وتكون له نافلة، فكذلك صلاة الجنازة، أما إعادة الفريضة بدون سببٍ فلا، وكذلك لا تعاد صلاة الجنازة بدون سببٍ على الصحيح)) (¬1) (¬2). ¬
الأمر العاشر: موقف الإمام من الرجل والمرأة في صلاة الجنازة
وصفة الصلاة على القبر كصفة الصلاة على الجنازة؛ لهذه الأحاديث. الأمر العاشر: موقف الإمام من الرجل والمرأة في صلاة الجنازة، يقف عند رأس الرجل ووسط المرأة؛ لحديث أبي غالب قال: صليت مع أنس بن مالك على جنازة رجل فقام حيال رأسه، ثم جاؤوا بجنازة امرأة من قريش، فقالوا: يا أبا حمزة صلِّ عليها، فقام حيال وسط السرير، فقال له العلاء بن زياد: هكذا رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - قام على الجنازة مقامك منها؟ ومن الرجل مقامك منه؟ قال: نعم، فلما فرغ قال: احفظوا)) (¬1). وعن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: ((صليت وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - على امرأة ماتت في نفاسها فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصلاة عليها وَسْطَهَا)) (¬2). قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقوم عند ¬
الأمر الحادي عشر: الصلاة على أنواع من الجنائز
رأس الرجل ووسط المرأة)) (¬1). الأمر الحادي عشر: الصلاة على أنواع من الجنائز، إذا اجتمعت جنائز عديدة من الرجال والنساء صُلِّي عليها صلاة واحدة، وجعلت الذكور ولو كانوا صغاراً مما يلي الإمام، وجنائز الإناث مما يلي القبلة؛ لحديث نافع أن ابن عمر صلى على تسع جنائز جميعاً فجعل الرجال يلون الإمام، والنساء يلين القبلة، فصفهن صفّاً واحداً، ووضعت جنازة أم كلثوم بنت علي، امرأة عمر بن الخطاب وابن لها يقال له زيد، وضعا جميعاً، والإمام يومئذ سعيد بن العاص، وفي الناس ابن عمر، وأبو هريرة، وأبو سعيد، وأبو قتادة، فوضِعَ الغلام مما يلي الإمام، فقال رجل فأنكرت ذلك، فنظرت إلى ابن عباس وأبي هريرة، وأبي سعيد، وأبي قتادة فقلت: ما هذا؟ قالوا: هي السنة)) (¬2). وعن عمار مولى الحارث بن نوفل ((أنه شهد جنازة أم كلثوم وابنها فجعل الغلام مما يلي الإمام، فأنكر ذلك، وفي القوم ابن عباس، وأبو سعيد الخدري، وأبو قتادة، وأبو هريرة، فقالوا: هذه السنة)) (¬3). وعن مالك بن أنس بلغه: أن عثمان بن عفان، وأبا هريرة، وابن عمر، كانوا يصلون على الجنائز بالمدينة: الرجال، والنساء، فيجعلون الرجال مما يلي الإمام، والنساء مما يلي القبلة (¬4). ¬
الأمر الثاني عشر: جواز الصلاة على الجنائز في المسجد
وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يقول عن هذه الأحاديث: ((أفادت هذه الأحاديث أن السنة أن يقف الإمام حذاء وسط المرأة ويصلي عند رأس الرجل، وإذا كانوا جماعة يجمعون: يجعل الرجل مما يلي الإمام، والصبي وراءه، والمرأة وراءهما، والطفلة الصغيرة وراء المرأة مما يلي القبلة، وكون سعيد سوَّى بين رأس الرجل والمرأة ليس بجيد وإنما الصواب أن يجعل رأس الرجل حذاء وسط المرأة حتى يقف الإمام منهما موقف السنة)) (¬1) (¬2). قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((ولا خلاف بين أهل العلم في جواز الصلاة على الجنائز دفعة واحدة، وإن أفرد كل جنازة بصلاة جاز)) (¬3). فإن كان الأموات نوعاً واحداً أي إذا تعدد الرجال مثلاً قدم إلى الإمام أفضلهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسأل الصحابة عن أكثر الشهداء أخذاً للقرآن فيقدمه في اللحد (¬4)، وهذا يؤخذ منه أن الأفضل أو العالم هو الذي يقدم مما يلي الإمام، ثم الأفضل فالأفضل (¬5). الأمر الثاني عشر: جواز الصلاة على الجنائز في المسجد؛ لحديث عائشة ¬
رضي الله عنها: أنها أمرت أن يُمرَّ بجنازة سعد بن أبي وقاص في المسجد فتصلي عليه، فأنكر الناس ذلك عليها، فقالت: ما أسرع ما نسي الناس، ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن البيضاء إلا في المسجد)). وفي لفظ: ((ما أسرع الناس إلى أن يعيبوا ما لا علم لهم به، عابوا علينا أن يُمرَّ بجنازة في المسجد، وما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن بيضاء إلا في جوف المسجد)). وفي لفظ: ((والله لقد صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ابني بيضاء في المسجد: سهيل وأخيه)) (¬1). قال الإمام ابن القيم رحمه الله: قال الخطابي: ((وقد ثبت أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما صُلِّي عليهما في المسجد، ومعلوم أن عامة المهاجرين والأنصار شهدوا الصلاة عليهما، وفي تركهم الإنكار دليل على جوازه)) (¬2)، وقال ابن القيم رحمه الله: ((ولم يكن من هديه - صلى الله عليه وسلم - الراتب الصلاة عليه في المسجد، وإنما كان يصلي على الجنازة خارج المسجد، وربما كان يصلي أحياناً على الميت في المسجد كما صلى على سهيل بن بيضاء وأخيه في المسجد، ولكن لم يكن ذلك سنته وعادته (¬3). ثم قال رحمه الله بعد ذكر بعض أقوال العلماء في ذلك: ((والصواب ما ذكرناه أولاً، وأن سنته وهديه الصلاة على الجنازة خارج المسجد إلا ¬
الأمر الثالث عشر: مشروعية تكثير الجمع والصفوف على صلاة الجنازة
لعذر، وكلا الأمرين جائز، والأفضل الصلاة عليها خارج المسجد، والله أعلم)) (¬1). وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يقول: ((لا بأس بالصلاة على الجنازة في المسجد لهذين الحديثين، لكن لو جعل مصلى واسع للصلاة على الجنائز والعيد كان أفضل إذا تيسر)) (¬2). وسمعته يقول عن حديث عائشة رضي الله عنها: ((هذا يدل على جواز الصلاة في المسجد وإن كان في الغالب يُصلَّى على الجنائز في المصلى كما يُصلَّى في مُصلَّى العيد، والسر في ذلك والله أعلم أن الجنائز قد يكثر فيها الأتباع، وصُلّي على النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، وعلى الصديق وعمر في المسجد، ولو جعل مصلى خارج المسجد أو في البلد فلا بأس)) (¬3)، والله تعالى الموفق للصواب (¬4). الأمر الثالث عشر: مشروعية تكثير الجمع والصفوف على صلاة الجنازة، أما تكثير الجمع في صلاة الجنازة؛ فلحديث عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه)) (¬5)؛ ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ¬
سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه)) (¬1). وأما تكثير الصفوف في صلاة الجنازة؛ فلحديث مالك بن هبيرة وفيه ابن إسحاق وقد عنعن كما تقدم: ((ما من مسلم يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا أوجب))، قال فكان مالك إذا استقل أهل الجنازة جزأهم ثلاثة صفوف للحديث (¬2). قال العلامة الألباني: ((ويستحب أن يصفوا وراء الإمام ثلاثة صفوف فصاعداً لحديثين رويا في ذلك: الأول عن أبي أمامة قال: ((صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جنازة ومعه سبعة نفر فجعل ثلاثة صفّاً، واثنين صفّاً، واثنين صفّاً)) (¬3)، والثاني عن مالك بن هبيرة. ثم ذكره كما قد تقدم وقد سبق أن حديث ابن هبيرة فيه ابن إسحاق وقد عنعن (¬4). وقال الإمام البخاري رحمه الله: ((باب الصفوف على الجنازة)) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله على هذه الترجمة: ((وأشار المصنف بصيغة ¬
الأمر الرابع عشر: تحريم الصلاة على الكفار والمنافقين
الجمع إلى ما ورد في استحباب ثلاثة صفوف وهو ما رواه أبو داود وغيره من حديث مالك بن هبيرة مرفوعاً: ((من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب))، وحسنه الترمذي وصححه الحاكم، وفي رواية له: ((إلا غفر له))، قال الطبري: ينبغي لأهل الميت إذا لم يخشوا عليه التغير أن ينتظروا به اجتماع قوم يقوم منهم ثلاثة صفوف لهذا الحديث)) انتهى كلام الحافظ رحمه الله (¬1). وقال الإمام الشوكاني رحمه الله: ((وأقل ما يسمى صفّاً رجلان، ولا حد لأكثره)) (¬2) (¬3)، والله - عز وجل - الموفق للصواب (¬4). الأمر الرابع عشر: تحريم الصلاة على الكفار والمنافقين؛ لقول الله تعالى: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِالله وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ} (¬5). وقد نزلت عندما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عبد الله بن أبي سلول المنافق المعروف (¬6). ¬
وعن سعيد بن المسيب عن أبيه أنه أخبره: أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب: ((يا عم قل: لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله)) فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أما والله لأستغفرنَّ لك ما لم أنه عنك)) فأنزل الله تعالى فيه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (¬1)، وأنزل الله تعالى في أبي طالب فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (¬2) (¬3). فلا يُصلَّى على المشركين ولا المنافقين، ولا يُدْعَى لهم بالرحمة ولا المغفرة، ولا يُتَرحّم عليهم، ويُلحَق بالمشركين والكفار من أتى بناقض من نواقض الإسلام ولم يتب منه ومات عليه، ولا يُصلَّى على تارك الصلاة متعمداً جاحداً لوجوبها بالإجماع، وكذلك على الصواب لا يُصلَّى على تارك الصلاة مطلقاً ولو لم يجحد وجوبها؛ لأن الصواب من أقوال أهل العلم: أن تارك الصلاة يكفر كفراً أكبر والعياذ بالله. ¬
الأمر الخامس عشر: وقت صلاة الجنازة يصلى على الجنازة في أي وقت إلا في ثلاثة أوقات
الأمر الخامس عشر: وقت صلاة الجنازة يُصلى على الجنازة في أي وقت إلا في ثلاثة أوقات: الأول: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع. والثاني: حين يقوم قائم الظهيرة - أي حال استواء الشمس في وسط السماء ومعناه حين لا يبقى للقائم في الظهيرة ظل في المشرق ولا في المغرب - حتى تميل الشمس إلى جهة الغروب. والثالث: حين يغيب حاجب الشمس حتى تغرب؛ لحديث عقبة بن عامر الجهني - رضي الله عنه - قال: ((ثلاث ساعات كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلي فيهن أو نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيَّف الشمس للغروب حتى تغرب)) (¬1). وهذه الأوقات الثلاثة قصيرة جداً لا يؤثر الانتظار فيها على الميت ولا يشق على الناس، أما أوقات النهي الأخرى: بعد صلاة الصبح، وبعد العصر فلا حرج في الصلاة على الجنازة فيها؛ لأن صلاة الجنازة من الصلوات ذوات الأسباب التي يجوز أن تصلى في أوقات النهي؛ ولهذا قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ((يصلى على الجنازة بعد الصبح، وبعد العصر، إذا صليتا لوقتهما)) (¬2). وثبت عن ابن عمر أيضاً أنه قال لأهل جنازة جيء بها بعد صلاة الصبح بغلس وكان الوقت يتسع للصلاة عليها ¬
قبل طلوع الشمس: ((إما أن تصلوا على جنازتكم الآن، وإما تتركوها حتى ترتفع الشمس)) (¬1)، وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يصلي إلا طاهراً ولا يصلي عند طلوع الشمس ولا غروبها ويرفع يديه)) (¬2). وعن ابن جريج قال: ((أخبرني زياد أن عليّاً أخبره أن جنازة وضعت في مقبرة أهل البصرة حين اصفرت الشمس فلم يُصلَّ عليها حتى غربت الشمس فأمر أبو برزة المنادي فنادى بالصلاة، ثم أقامها فتقدم أبو برزة فصلى بهم المغرب، وفي الناس أنس بن مالك، وأبو برزة من الأنصار، من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم صلوا على الجنازة)) (¬3). قال الإمام الخطابي رحمه الله ما ملخصه: ((واختلف الناس في جواز الصلاة على الجنازة والدفن في هذه الساعات الثلاث، فذهب أكثر أهل العلم إلى كراهية الصلاة عليها في هذه الأوقات، وروي عن ابن عمر وهو قول: عطاء، والنخعي، والأوزاعي، والثوري، وأصحاب الرأي، وأحمد، وإسحاق بن راهويه، وكان الشافعي يرى الصلاة والدفن أي ساعة من ليل أو نهار، وقول الجماعة أولى لموافقة الحديث)) (¬4). ¬
الأمر السادس عشر: أحق الناس بالإمامة في صلاة الجنازة
وقال شيخنا ابن باز رحمه الله عن حديث عقبة بن عامر في النهي عن الصلاة على الجنازة في الساعات الثلاث المذكورة في الحديث: (( ... لا تجوز الصلاة في هذه الأوقات على الميت ولا دفنه فيها؛ لهذا الحديث الصحيح)) (¬1) (¬2). وهذا يعمُّ الصلاة عليه في القبر، فلا يُصلَّى على القبر في هذه الأوقات الثلاثة، أما في وقت النهي الموسَّع فهي من ذوات الأسباب كما تقدم (¬3). الأمر السادس عشر: أحق الناس بالإمامة في صلاة الجنازة: وصيُّه الذي أوصى أن يصلِّي عليه ثم الوالي، أما الوصي؛ فلأنه إجماع الصحابة على ذلك، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((وأولى الناس بالصلاة عليه من أوصى إليه بذلك؛ لإجماع الصحابة على الوصية بها؛ فإن أبا بكر أوصى أن يصلي عليه عمر (¬4)، وعمر أوصى أن يصلي عليه صهيب (¬5)، [وقيل: أوصى عمر إلى الزبير فصلى عليه] (¬6)، وابن مسعود أوصى بذلك الزبير (¬7)، وأبو بكرة أوصى أبا برزة (¬8)، وأم سلمة أوصت به سعيد بن زيد (¬9)، وعائشة أوصت إلى أبي هريرة (¬10)، وأوصى به أبو سريحة إلى زيد بن أرقم فجاء ¬
عمر بن حريث وهو أمير الكوفة ليتقدم، فقال ابنه: أيها الأمير إن أبي أوصى أن يصلي عليه زيد بن أرقم فقدَّم زيداً (¬1)؛ولأنها حق للميت فقُدِّم وصيه بها كتفريق ثلثه)) (¬2)، وأوصى يونس بن جبير أن يصلي عليه أنس بن مالك (¬3). قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((وهذه قضايا انتشرت فلم يظهر لها مخالف فكان إجماعاً ... )) (¬4). وأما الوالي أو وكيله فيكون أولى الناس بالصلاة على الميت بعد الوصي، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((أكثر أهل العلم يرون تقديم الأمير على الأقارب في الصلاة على الميت ... )) (¬5)، قال أبو حازم: ((إني لشاهد يوم مات الحسن بن علي، فرأيت الحسين بن علي يقول لسعيد بن العاص – ويطعن في عنقه ويقول: تقدم فلولا أنها سنة ما قدمتك، [وسعيد أمير على المدينة يومئذ]، وكان بينهم شيء)) (¬6). وإن صلِّي عليه في المسجد فإمام المسجد الراتب أولى؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن الرجلُ الرجلَ في سلطانه)) (¬7)، وإمام المسجد سلطان في مسجده، قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: ((فإن كان في مكان غير المسجد ¬
الأمر السابع عشر: أركان صلاة الجنازة وشروطها
فأولى الناس به وصيه، فإن لم يكن له وصي فأقرب الناس إليه)) (¬1)، قلت: بشرط أن يكون القريب أعلم الحاضرين والله أعلم، وإلا صلى عليه الأعلم الأفقه ثم من يليه على حسب الترتيب في أولى الناس بالإمامة. وإمام المسجد أولى بالصلاة على الجنازة من الشخص الموصى له بأن يصلي على الميت. قال الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله: ((إمام المسجد أولى بالصلاة على الجنازة من الشخص الموصى له؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن الرجلُ الرجلَ في سلطانه)) (¬2)، وإمام المسجد هو صاحب السلطان في مسجده)) (¬3). الأمر السابع عشر: أركان صلاة الجنازة وشروطها: قال الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: ((الواجب في صلاة الجنازة: النية، والتكبيرات، والقيام، وقراءة الفاتحة، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأدنى دعاء للميت، وتسليمة واحدة، ويشترط لها شرائط المكتوبة إلا الوقت، وتسقط بعض واجباتها عن المسبوق ... )) (¬4). وقال العلامة مرعي بن يوسف في دليل الطالب: ((وشروطها ثمانية: النية والتكليف (¬5)، واستقبال القبلة، وستر العورة، واجتناب النجاسة، وحضور الميت إن كان بالبلد، وإسلام المصلي والمصلى عليه، وطهارتهما ولو ¬
الأمر الثامن عشر: صفة الصلاة على الجنازة
بتراب لعذر، وأركانها سبعة: القيام في فرضها، والتكبيرات الأربع، وقراءة الفاتحة، والصلاة على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والدعاء للميت، والسلام، والترتيب)) (¬1). وذكر ابن قدامة في الكافي: أن سننها سبع: رفع اليدين مع كل تكبيرة، والاستعاذة قبل القراءة، والإسرار بالقراءة، يدعو لنفسه ولوالديه وللمسلمين بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، يقف بعد التكبيرة الرابعة قليلاً، يضع يمينه على شماله على صدره، الالتفات على يمينه في التسليم)) (¬2). الأمر الثامن عشر: صفة الصلاة على الجنازة المشتملة على الواجبات والسنن على النحو الآتي: 1 - يتوضأ كما أمر الله تعالى؛ ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تُقبل صلاة بغير طهور)) (¬3). 2 - يقوم الإمام عند رأس رجل ووسط امرأة؛ لحديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه صلى عند رأس جنازة رجل وعند وسط امرأة، ورفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬4)؛ولحديث سمرة - رضي الله عنه - ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على امرأة فقام للصلاة عليها وسْطها)) (¬5). 3 - يصف المأمومون خلف الإمام كصفوف الصلاة المفروضة؛ ¬
4 - يسوي الإمام الصفوف لعموم الأدلة في ذلك
لحديث جابر - رضي الله عنه -: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى على النجاشي فكنت في الصف الثاني أو الثالث)). وفي لفظ: ((فصففنا فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن صفوف)) (¬1). 4 - يسوي الإمام الصفوف؛ لعموم الأدلة في ذلك (¬2). 5 - يستقبل القبلة والجنائز أمامه على الصفة المذكورة آنفاً (¬3). 6 - يكبر التكبيرة الأولى تكبيرة الإحرام قائماً قاصداً بقلبه فعل الصلاة على الجنازة أو الجنائز، متقرباً لله تعالى، قائلاً: ((الله أكبر)) رافعاً يديه مضمومتي الأصابع ممدودة إلى حذو منكبيه أو إلى حيال أذنيه؛ لما تقدم من الأدلة (¬4)؛ ولحديث أبي هريرة، وجابر ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على النجاشي وكبر عليه أربع تكبيرات)) (¬5). أما رفع اليدين في التكبيرة الأولى من صلاة الجنازة؛ فلحديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كبر على جنازة فرفع يديه في أول تكبيرة ووضع اليمنى على اليسرى)) (¬6). قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: ((وأجمعوا على أن المصلي على الجنازة ¬
7 - يضع يده على صدره بعد أن ينزلهما
يرفع يديه في أول تكبيرة يكبرها)) (¬1). 7 - يضع يده على صدره بعد أن ينزلهما من الرفع: اليمنى يقبضها على ظهر كفه اليسرى، والرسغ والساعد؛ لحديث أبي هريرة المذكور آنفاً؛ ولحديث وائل بن حُجر (¬2)، وحديث سهل بن سعد (¬3). 8 - يقول: ((أعوذ بالله من الشيطان الرجيم سرّاً؛ لقول الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (¬4). 9 - يقول: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) سرّاً؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - (¬5). 10 - يقرأ الفاتحة سرّاً؛ لحديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)) (¬6)؛ ولحديث أبي أمامة أنه قال: ((السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مخافتة، ثم يكبر ثلاثاً، والتسليم عند الآخرة)) (¬7)؛ ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما، ((قال طلحة بن عبد الله بن عوف قال: صليت خلف ابن عباس رضي الله عنهما على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب، قال: ¬
11 - يقرأ سورة قصيرة بعد الفاتحة، أو بعض الآيات القصيرة
لتعلموا أنها سنة)) (¬1). وقال شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله تعالى عن حكم قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة: ((واجبة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((صلوا كما رأيتموني أصلي ... )) (¬2). وقال عليه الصلاة والسلام: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)) متفق عليه)) (¬3). وقال رحمه الله عن الجهر بالفاتحة أحياناً: ((الجهر بها في بعض الأحيان لا بأس به، وإن قرأ معها سورة قصيرة فلا بأس أيضاً، بل هو أفضل؛ لأنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وإن اقتصر على الفاتحة كفى)) (¬4). 11 - يقرأ سورة قصيرة بعد الفاتحة، أو بعض الآيات القصيرة وهذه القراءة سنة؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال طلحة بن عبد الله بن عوف: صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة، وجهر حتى أسمعنا، فلما فرغ أخذت بيده فسألته فقال: ((سنة وحق)) (¬5). وقال شيخنا ابن باز رحمه الله تعالى في حكم قراءة سورة بعد الفاتحة في صلاة الجنازة: ((قراءة سورة بعد الفاتحة أفضل كما ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عباس رضي الله عنهما))، وقال في موضع آخر: ((الصلاة على الميت صفتها: أن يكبر الإمام ويتعوذ، ويسمي، ويقرأ الفاتحة، ويستحب ¬
12 - يكبر التكبيرة الثانية رافعا يديه حذو منكبيه أو حذو أذنيه
أن يقرأ معها سورة قصيرة مثل: الإخلاص، أو العصر، أو بعض الآيات ... )) (¬1). 12 - يكبر التكبيرة الثانية رافعاً يديه حذو منكبيه أو حذو أذنيه، ثم يردهما على صدره؛ لما تقدم من الأدلة؛ ولما رُوِيَ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى على الجنازة رفع يديه في كل تكبيرة)) (¬2). وأورد البخاري أن عبد الله بن عمر: كان يرفع يديه: أي في كل تكبيرة على الجنازة)) (¬3). وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((وقد صح عن ابن عباس أنه كان يرفع يديه في تكبيرات الجنازة، رواه سعيد بن منصور)) (¬4)، ورُوِيَ عن خلق من السلف أنهم كانوا يرفعون أيديهم في ¬
13 - يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يصلي في التشهد في صلاة الفريضة
كل تكبيرة في صلاة الجنازة (¬1) (¬2). وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله عن أثر ابن عمر: ((صح عن ابن عمر موقوفاً، وله حكم الرفع؛ لأن مثله لا يثبت بالاجتهاد)) (¬3). وقال شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله: ((السنة رفع اليدين مع التكبيرات الأربع كلها؛ لما ثبت عن ابن عمر، وابن عباس، أنهما كانا يرفعان مع التكبيرات كلها، ورواه الدارقطني مرفوعاً من حديث ابن عمر بسند جيد)) (¬4) (¬5). 13 - يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يصلي في التشهد في صلاة الفريضة؛ لحديث أبي أمامة - رضي الله عنه - أنه أخبره رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب، بعد التكبيرة الأولى سرّاً في نفسه، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات [الثلاث] لا يقرأ في شيء منهن، ثم يسلم تسليماً خفيّاً [حين ينصرف] [عن يمينه] والسنة أن يفعل من وراءه مثلما فعل إمامه])) (¬6). ¬
14 - يكبر التكبيرة الثالثة رافعا يديه حذو منكبيه أو حذو أذنيه
قال الإمام ابن باز رحمه الله: (( ... ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ما يصلي عليه في التشهد الأخير ... )) (¬1). 14 - يكبر التكبيرة الثالثة رافعاً يديه حذو منكبيه أو حذو أذنيه، ثم يرد يديه على صدره؛ لما تقدم من الأدلة. 15 - يدعو للميت بالدعاء المأثور ويخلص له الدعاء؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء)) (¬2)، فيقول: أ - ((اللهم اغفر لحيِّنا وميِّتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفَّه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تُضلَّنا بعده)) (¬3). ب - ((اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه، واعف عنه، وأكرم نُزُلَه، ووسِّعْ مُدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقِّهِ من الخطايا كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر ومن ¬
عذاب النار)) [وفي لفظ: [وقِهِ فتنةَ القبر] (¬1). ج – ((اللهم إن فلان بن فلان في ذمتك، وحبل جوارك، فقه من فتنة القبر، وعذاب القبر، وأنت أهل الوفاء والحق، اللهم اغفر له وارحمه إنك أنت الغفور الرحيم)) (¬2). د - ((اللهم عبدك، وابن أمتك، أحتاج إلى رحمتك، وأنت غني عن عذابه، إن كان محسناً فزد في إحسانه، وإن كان مسيئاً فتجاوز عنه)) [ثم يدعو ما شاء الله أن يدعو] (¬3). هـ - الدعاء للطفل في الصلاة عليه صلاة الجنازة، يقول: ((اللهم اغفر لحينا وميتنا، وحاضرنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأُنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده)) (¬4). * ((اللهم أعذه من عذاب القبر)) (¬5). ¬
16 - يكبر التكبيرة الرابعة رافعا يديه حذو منكبيه أو أذنيه
* ((اللهم اجعله لنا فرطاً (¬1) وسلفاً وأجراً)) (¬2). ((اللهم اغفر لوالديه وارحمهما)) (¬3). * وإن قال: ((اللهم اجعله فرطاً لوالديه، وذخراً، وسلفاً، وأجراً، وأفرغ الصبر على قلوبهما، ولا تفتنهما بعده، ولا تحرمهما أجره، اللهم ثقِّل به موازينهما، وأعظم به أجورهما، اللهم اجعله في كفالة إبراهيم، وألحقه بصالح سلف المؤمنين، وأجره برحمتك من عذاب الجحيم، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، اللهم اغفر لأسلافنا، وأفراطنا، ومن سبقنا بالإيمان)) (¬4) فحسن. 16 - يكبر التكبيرة الرابعة رافعاً يديه حذو منكبيه أو أذنيه، ويردهما على صدره؛ ¬
لعموم الأدلة؛ ولما تقدم من الأدلة (¬1). ¬
17 - يقف بعد التكبيرة الرابعة قليلا
17 - يقف بعد التكبيرة الرابعة قليلاً (¬1). ¬
18 - يسلم تسليمة واحدة عن يمينه قائلا: السلام عليكم ورحمة الله
18 - يسلم تسليمة واحدة عن يمينه قائلاً: ((السلام عليكم ورحمة الله))؛ لأن التسليمة الواحدة ثبتت عن عشرة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يسلمون في صلاة الجنازة تسليمة واحدة خفيفة عن يمينه، وهم: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وأبو هريرة، وواثلة بن الأسقع، وابن أبي أوفى، وزيد بن ثابت، وعلي بن أبي طالب، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وأبو أمامة بن سهل بن حنيف، قال الإمام ابن القيم: ((فهؤلاء عشرة من الصحابة)) - رضي الله عنهم - (¬1) وكان عبد الله بن عمر إذا صلى على ¬
الأمر التاسع عشر: المسبوق في صلاة الجنازة
الجنازة يسلم حتى يسمع من يليه)) (¬1). الأمر التاسع عشر: المسبوق في صلاة الجنازة، يستحب له أن يقضي ما فاته من صلاة الجنازة؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)) (¬2)، قال الإمام عبدالعزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله: (( ... فإذا أدرك الإمام في التكبيرة الثالثة كبر وقرأ الفاتحة، وإذا كبر الإمام الرابعة كبر بعده وصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا سلم الإمام كبر المأموم المسبوق ودعا للميت موجزاً، ثم يكبر الرابعة ويسلم)) (¬3). وإذا أدرك الإمام بين تكبيرتين كبر في الحال وقرأ الفاتحة، ثم يكبر بعد إمامه التكبيرة التي أدركها فيصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم إذا سلم الإمام يكبر ويدعو للميت بإيجاز، ثم يكبر ويسلم، وهكذا يعتبر ما أدركه هو أول صلاته، وما يقضيه هو آخرها؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)) (¬4) (¬5). ¬
السابع عشر: حمل الجنازة واتباعها وتشييعها:
السابع عشر: حمل الجنازة واتباعها وتشييعها: يراعى في حمل الجنازة واتباعها وتشييعها الأمور الآتية: الأمر الأول: حكم حمل الجنازة فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين (¬1). الأمر الثاني: أقسام اتباعها: ثلاثة أقسام: 1 - يصلي عليها ثم ينصرف، وله قيراط من الأجر؛ للحديث الآتي. ¬
2 - يتبعها إلى القبر ثم يقف حتى تدفن
2 - يتبعها إلى القبر ثم يقف حتى تدفن؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من خرج مع جنازة من بيتها وصلى عليها ثم تبعها حتى تدفن كان له قيراطان أجر كل قيراط مثل أُحُدٍ، ومن صلى عليها ثم رجع كان له مثل أحُدٍ)) (¬1). 3 - يقف بعد الدفن يستغفر للميت ويسأل الله له التثبيت؛ لحديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: ((استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل)) (¬2). والجمع بين هذه الأقسام أكمل في عظم الأجر واتباع السنة. الأمر الثالث: فضل اتباع الجنائز، فقد ثبت في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - السابق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً وكان معه حتى يُصلى عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن؛ فإنه يرجع بقيراط)) وفي لفظ: قيل: وما القيراطان؟ قال: ((مثل الجبلين العظيمين)). وفي لفظ لمسلم: ((قيل وما القيراطان؟ قال: ((أصغرهما مثل أحد)) (¬3)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أصبح اليوم منكم صائماً؟)) قالو أبو بكر: أنا. قال: ((فمن اتبع منكم اليوم جنازة؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ¬
الأمر الرابع: اتباع الجنازة حق على المسلم لأخيه المسلم
((فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟)) قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة)) (¬1). ولفظ البخاري في الأدب المفرد: ((ما اجتمعت هذه الخصال في رجل في يوم إلا دخل الجنة)) (¬2). الأمر الرابع: اتباع الجنازة حق على المسلم لأخيه المسلم؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((حق المسلم على المسلم ست))، قيل: ما هن يا رسول الله؟ قال: ((إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمِّتْه، وإذا مرض فعُدْه، وإذا مات فاتبعه)) (¬3). وعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع ونهانا عن سبع: ((أمرنا باتباع الجنائز، وعيادة المريض، وإجابة الداعي، ونصر المظلوم، وإبرار المقسم، ورد السلام، وتشميت العاطس ... )) الحديث (¬4)؛ ولحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - يرفعه: ((عودوا المريض، واتبعوا الجنائز تذكركم الآخرة)) (¬5). الأمر الخامس: يحمل الميت على حسب الحال والتيسير، ولا يتكلف ¬
الأمر السادس: لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار ولا بما يخالف الشرع
الإنسان ما لم يرد بذلك سنة صحيحة فالأمر فيه واسع (¬1). الأمر السادس: لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار ولا بما يخالف الشرع؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تُتبع جنازة معها ¬
الأمر السابع: القيام للجنازة إذا مرت مشروع
رانَّةٌ)) (¬1) (¬2). وعن أبي بردة قال: ((أوصى أبو موسى الأشعري حين حضره الموت فقال: لا تتَّبعوني بمجمرٍ، قالوا له: أسمعت فيه شيئاً؟ قال: نعم، من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (¬3). وأوصى عمرو بن العاص في وصيته: ((فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة، ولا نار)) (¬4) (¬5). وقال قيس بن عباد: ((كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يكرهون رفع الصوت عند الجنائز)) (¬6). الأمر السابع: القيام للجنازة إذا مرت مشروع؛ لحديث عبد الله بن عمر عن عامر بن ربيعة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا رأى أحدكم جنازة فإن لم يكن ماشياً معها فليقم حتى يخلِّفها أو تخلِّفَهُ أو توضع من قبل أن تُخلِّفه)). ¬
وفي لفظ: ((إذا رأيتم الجنازة فقوموا حتى تُخلِّفكم (¬1) أو توضع)) (¬2). وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا رأيتم الجنازة فقوموا، فمن تبعها فلا يقعد حتى توضع)) (¬3). وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: مر بنا جنازة، فقام لها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: يا رسول الله، إنها جنازة يهودي؟ قال: ((إذا رأيتم الجنازة فقوموا)) (¬4)، ولفظ مسلم: ((إن الموتَ فزعٌ فإذا رأيتم الجنازة فقوموا)). وعن سهل بن حنيف وقيس بن سعد بن أبي ليلى أنهما كانا قاعدين بالقادسية فمرُّوا عليهما بجنازة فقاما، فقيل لهما: إنها من أهل الأرض – أي من أهل الذمة – فقالا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرت به جنازة فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال: ((أليست نفساً)) (¬5). والصواب أن هذه الأحاديث تدل على مشروعية القيام للجنازة إذا مرت لمن كان قاعداً؛ لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك؛ ولفعله عليه الصلاة والسلام، أما حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((قام ثم قعد))، وفي لفظ: ¬
((رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فقمنا، وقعد فقعدنا –يعني في الجنازة–)) (¬1) فهذا يدل على أن الأمر بالقيام للجنازة للاستحباب، والقعود للجواز، قال الإمام النووي رحمه الله تعالى بعد أن ذكر خلاف العلماء: ((فيكون الأمر للندب والقعود بياناً للجواز، ولا يصح دعوى النسخ في مثل هذا؛ لأن النسخ إنما يكون إذا تعذر الجمع بين الأحاديث ولم يتعذر والله أعلم)) (¬2) (¬3). ورجح الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ما ذهب إليه الإمام النووي في الجمع بين الأحاديث (¬4). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله يقول: ((وهذا يدل على أن السنة القيام للجنازة ولو كانت كافرة؛ فإن للموت فزعاً، وهذا القيام سنة وليس بواجب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام وقعد، فدل ذلك ¬
الأمر الثامن: من تبع الجنازة فلا يجلس حتى توضع على الأرض
على أن القيام ليس بواجب وإنما هو سنة)) (¬1). الأمر الثامن: من تبع الجنازة فلا يجلس حتى توضع على الأرض؛ لحديث أبي سعيد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا رأيتم الجنازة فقوموا، فمن تبعها فلا يقعد حتى توضع)) (¬2). وقد فسّر الإمام البخاري رحمه الله قوله: ((حتى توضع)) فقال: ((باب من تبع جنازة حتى توضع عن مناكب الرجال فإن قعد أمر بالقيام)) (¬3)، وهذا يوضح أن معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((حتى توضع)) أي على الأرض قبل اللحد. وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله: ((والصواب أن الجنازة إذا وضعت في الأرض جلسوا: أي قبل اللحد)) (¬4). وحديث علي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام ثم قعد يدل على أن القيام حتى توضع للاستحباب. قال شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله: ((السنة لمن تبع الجنازة ألا يجلس حتى توضع من أعناق الرجال على الأرض، وأما الانصراف فإن المشروع لمتبعها ألا ينصرف حتى توضع في القبر ويفرغ من دفنها، وهذا كله على سبيل الاستحباب ... )) (¬5). ¬
الأمر التاسع: النساء لا يتبعن الجنائز؛ ويصلين عليها
الأمر التاسع: النساء لا يتبعن الجنائز؛ ويصلين عليها؛ لحديث أم عطية رضي الله عنها قالت: ((نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا)) (¬1). قال شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله: ((المقصود بالنهي: النهي عن اتباعها إلى المقبرة، أما الصلاة عليها فمشروعة للرجال والنساء، وكان النساء يصلين على الجنائز مع النبي - صلى الله عليه وسلم -،ويفهم [من قول أم عطية ولم يعزم علينا] أن النهي عندها غير مؤكد، والأصل في النهي التحريم؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)) (¬2).وذلك يدل على تحريم اتباع النساء للجنائز إلى المقبرة، أما الصلاة على الميت فإنها مشروعة لهن كالرجال، والله ولي التوفيق. الأمر العاشر: الإسراع بالجنازة من غير رمل مشروع؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((أسرعوا بالجنازة، فإن تكُ صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تكُ سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم)) (¬3)؛ ولحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدِّموني قدِّموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها أين تذهبون بها؟ يسمع ¬
الأمر الحادي عشر: الماشي يمشي مع الجنازة كيف شاء
صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق)) (¬1). قال الإمام شيخنا ابن باز رحمه الله في المقصود بالإسراع بالجنازة: ((المقصود: المشي، ويدخل ضمناً الصلاة عليها، وتغسيلها، والسرعة في تجهيزها، وظاهر الحديث يعم الجميع من حيث المعنى)) (¬2). وسمعته رحمه الله يقول: ((السنة الإسراع بالجنازة، ومعنى ذلك أن يكون مشياً قوياً دون الرمل؛ ليقدمها إلى الخير إن كانت صالحة)) (¬3). الأمر الحادي عشر: الماشي يمشي مع الجنازة كيف شاء، والراكب خلفها؛ لحديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((الراكب [يسير] خلف الجنازة، والماشي حيث شاء منها، [خلفها، وأمامها، وعن يمينها، وعن يسارها، قريباً منها]،والطفل يصلى عليه، [ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة])) (¬4). وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول: ((والسنة المشي لمن قدر عليه، ولا بأس بالركوب عند الحاجة، والراكب يمشي خلف الجنازة، والماشي أمامها، وعن يمينها، وعن شمالها، [ومن خلفها])) (¬5). الأمر الثاني عشر: المشي في تشييع الجنازة أفضل من الركوب؛ لحديث ثوبان - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُتي بدابة وهو مع الجنازة فأبى أن يركبها، فلما ¬
انصرف أُتي بدابة فركب، فقيل له؟ فقال: ((إن الملائكة كانت تمشي فلم أكن لأركب وهم يمشون فلما ذهبوا ركبت)) (¬1). ولا بأس بالركوب إذا انصرف من الجنازة؛ لحديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بفرس معروري (¬2) فركبه حين انصرف من جنازة أبي الدحداح ونحن نمشي حوله، وفي لفظ: ((صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي الدحداح ثم أُتي بفرس عُري، عقله (¬3) رجل فركبه فجعل يتوقّصُ به (¬4) ونحن نتبعه نمشي خلفه، قال: فقال رجل من القوم: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كم من عِذقٍ مُعلَّقٍ - أو مُدلًّى - في الجنة لابن الدحداح أو قال شعبة: لأبي الدحداح)) (¬5). وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول: ((والسنة المشي لمن قدر عليه، ولا بأس بالركوب عند الحاجة)) (¬6). فدل حديث ثوبان وحديث سمرة على أن الركوب بعد الانصراف عن الجنازة جائز (¬7). ¬
الأمر الثالث عشر: السنة حمل الجنازة على الأعناق إذا تيسر
الأمر الثالث عشر: السنة حمل الجنازة على الأعناق إذا تيسر ذلك، ويجوز حملها على السيارة لغرض صحيح كبعد المقبرة فتحصل بذلك مشقة؛ لأن حملها على السيارة أو غيرها من الوسائل يفوت الغاية المقصودة وهي حملها وتشييعها، وهي تذكر الآخرة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((واتَّبعوا الجنائز تذكركم الآخرة)) (¬1). قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى: ((الأفضل حملها على الأكتاف؛ لما في ذلك من المباشرة بحمل الجنازة؛ ولأنه إذا مرت الجنازة بالناس في الأسواق عرفوا أنها جنازة ودعوا لها؛ ولأنه أبعد عن الفخر والأبهة، إلا أن يكون هناك حاجة أو ضرورة فلا بأس أن تحمل على سيارة، مثل: أن تكون أوقات أمطار، أو حر شديد، أو برد شديد، أو قلة المشيعين)) (¬2). الأمر الرابع عشر: وضع المكبة التي توضع فوق المرأة على النعش وتغطى بثوب لتستر جسم المرأة عن أعين الناس، والمكبة تعمل من خشب، أو جريد، أو قصب مثل القبة فوقها ثوب تكون فوق السرير. قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((ويستحب أن يترك فوق سرير المرأة شيء من الخشب أو الجريد مثل القبة يترك فوقه ثوب، ليكون أستر لها، وقد روي أن فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول من صُنِعَ لها ذلك بأمرها (¬3) (¬4). ¬
الثامن عشر: دفن الميت من نعم الله على عباده
ونقل العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله كلام أهل المذاهب الأربعة وأنهم كلهم أعلنوا أنه أستر للمرأة وأن ذلك يستحب (¬1) (¬2). الثامن عشر: دفن الميت من نعم الله على عباده: يراعى في دفن الميت الأمور الآتية: الأمر الأول: حكم دفن الميت فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، وإن تركوه كلهم أثموا كلهم (¬3)؛ لقول الله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} (¬4) والمعنى أن الله - عز وجل - أكرمه بدفنه، ولم يجعله ملقى للسباع والطيور، وهذه مكرمة لبني آدم دون سائر الحيوانات، وقال الله - عز وجل -: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا *أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} (¬5)، وقد أرشد الله تعالى قابيل إلى دفن أخيه هابيل: {فَبَعَثَ الله غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} (¬6) فكانت سُنّة في بني آدم؛ ولأن في ¬
الأمر الثاني: فضل دفن الميت
ترك جثة ابن آدم أذىً وهتكاً لحرمته فوجب دفنه)) (¬1). الأمر الثاني: فضل دفن الميت؛ لحديث أبي رافع - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من غسل مسلماً فكتم عليه غفر الله له أربعين مرة، ومن حفر له فأجنه أجري عليه كأجر مسكن أسكنه إياه إلى يوم القيامة، ومن كفَّنه كساه الله يوم القيامة من سندس وإستبرق الجنة)) (¬2)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه: ((من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً وكان معه حتى يُصلَّى عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر بقيراطين كل قيراط مثل أحد ... )) (¬3). الأمر الثالث: لا يدفن الميت في أوقات النهي الثلاثة المضيَّقة إلا لضرورة؛ لحديث عقبة بن عامر يرفعه: ((ثلاث ساعاتٍ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمسُ بازغةً حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب)) (¬4). الأمر الرابع: لا يدفن مسلم مع كافر ولا كافر مع مسلم، بل يدفن المسلم في مقابر المسلمين والكافر يُوارى مع المشركين؛ لأحاديث منها: حديث أبي طلحة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من قريش فقذفوا في طويٍّ من أطواء بدر خبيث مخبث)) (¬5).وحديث بشير ¬
الأمر الخامس: السنة الدفن في المقبرة
مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: بينما أنا أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بقبور المشركين فقال: ((لقد سبق هؤلاء خيراً كثيراً)) ثلاثاًً، ثم مر بقبور المسلمين، فقال: ((لقد أدرك هؤلاء خيراً كثيراً)) وحانت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظرة فإذا رجل يمشي في القبور عليه نعلان فقال: ((يا صاحب السبتيتين ويحك ألق سبتيتيك)) فنظر الرجل فلما عرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلعهما فرمى بهما)) (¬1)؛ولحديث علي - رضي الله عنه - قال: قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم -:إن عمك الشيخ الضال مات فمن يواريه؟ قال: ((اذهب فوارِ أباك ولا تُحدثنَّ حدثاً حتى تأتيني)) فواريته ثم جئت فأمرني فاغتسلت، ودعا لي، وذكر دعاءً لم أحفظه)) (¬2). الأمر الخامس: السنة الدفن في المقبرة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدفن الموتى في مقبرة البقيع، كما تواترت بذلك الأخبار، ولم ينقل عن أحد من السلف أنه دفن في غير المقبرة، إلا ما تواتر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دفن في حجرته، وذلك من خصوصياته - صلى الله عليه وسلم - (¬3). الأمر السادس: الشهداء يدفنون في أماكن استشهادهم في أرض المعركة ولا ينقلون إلى المقابر؛ لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خرج رسول ¬
الأمر السابع: الدفن ليلا فيه تفصيل
الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى المشركين ليقاتلهم، وقال أبي عبد الله: يا جابر بن عبد الله لا عليك أن تكون في نِظاري أهل المدينة حتى تعلم إلى ما يصير أمرنا فإني والله لولا أني أترك بناتٍ لي بعدي لأحببت أن تقتل بين يديَّ، قال: فبينما أنا في النظارين إذ جاءت عمتي بأبي وخالتي عادلتهما (¬1) على ناضح فدخلت بهما المدينة؛ لتدفنهما في مقابرنا إذ لحق رجل ينادي: ألا إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمركم أن ترجعوا بالقتلى فتدفنوها في مصارعها حيث قتلت، فرجعنا بهما فدفناهما حيث قُتلا)) (¬2). الأمر السابع: الدفن ليلاً فيه تفصيل، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب يوماً فذكر رجلاً من أصحابه قُبض فكفِّن في كفنٍ غير طائل، وقُبِرَ ليلاً، فزجر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقبر الرجل بالليل حتى يُصلَّى عليه إلا أن يضطر الإنسان إلى ذلك، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه)) (¬3). وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: مات إنسان كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوده، فمات بالليل فدفنوه ليلاً، فلما أصبح أخبروه فقال: ((ما منعكم أن تعلموني؟)) قالوا: كان الليل فكرهنا - وكانت ظلمة - أن نشقَّ عليك فأتى قبره فصلَّى عليه)) (¬4). ¬
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما علمنا بدفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى سمعنا صوت المساحي من آخر الليل ليلة الأربعاء ... )) (¬1) قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: ((وقد اختلف العلماء في الدفن في الليل، فكرهه الحسن البصري إلا لضرورة، وقال جماهير العلماء من السلف والخلف: لا يكره، واستدلوا بأن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - وجماعة من السلف دفنوا ليلاً من غير إنكار، وبحديث المرأة السوداء، والرجل الذي كان يقم المسجد فتوفي ليلاً فدفنوه ليلاً، وسألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه فقالوا: توفي ليلاً فدفناه في الليل فقال: ((ألا آذنتموني؟)) قالوا: كانت ظلمة. ولم ينكر عليهم، وأجابوا عن هذا الحديث (¬2) أن النهي كان لترك الصلاة ولم ينه عن مجرد الدفن بالليل، وإنما نهى لترك الصلاة أو لقلة المصلين، أو عن إساءة الكفن أو عن المجموع كما سبق ... )) (¬3). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله يقول على مجموع الأحاديث التي وردت: ((هذه الأحاديث تدل على جواز الدفن ليلاً، وأما ما جاء في النهي عن ذلك فهذا إذا كان فيه تقصير في الصلاة عليه؛ ولهذا جاء في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الدفن ليلاً حتى يُصلى عليه. والخلاصة: أنه إذا كان هناك تقصير في حق الميت: من غسل، أو كفن، أو صلاة على الميت فلا يدفن ليلاً، أما إذا كملت حقوقه فلا بأس بدفنه ¬
الأمر الثامن: لا بأس بدفن الاثنين أو أكثر في قبر واحد عند الضرورة
ليلاً)) (¬1). وسمعته في موضع آخر يقول: ((أما رواية مسلم فزجر فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قبر الرجل حتى يُصلَّى عليه، فتأخير الميت ليصلى عليه إذا كان تأخيرها أفضل لكثرة الجمع، والحاصل أن مجموع الأحاديث تفيد أن الأفضل تأخير الصلاة عليه إذا كان تأخيرها أكمل، أما إذا صُلِّي عليه في العشاء أو المغرب فلا كراهة. ومما يدل على هذا ما جاء في مسلم: ((ثلاث ساعات كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول، وحين تتضيف الشمس للغروب حتى تغرب))، وهذا يدل على أنها إذا غابت زال النهي، وأن الصلاة عليه بعد الغروب والدفن بعده لا حرج فيه، وقد دفن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلاً، ودفن الصديق ليلاً، ودفن عمر ليلاً، ودفن عثمان ليلاً - رضي الله عنهم - (¬2). وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: ((يجوز دفن الأموات ليلاً إذا قام الإنسان بالواجب: من التغسيل، والتكفين، والصلاة عليه؛ فإنه يجوز أن يدفن بالليل)) (¬3) (¬4). الأمر الثامن: لا بأس بدفن الاثنين أو أكثر في قبر واحد عند الضرورة والحاجة الشديدة؛ لحديث جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين ¬
الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم يقول: ((أيهم أكثر أخذاً للقرآن)) فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد، وقال: ((أنا شهيد على هؤلاء)) وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصلِّ عليهم ولم يغسلهم)) (¬1). وعن هشام بن عامر قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، فقلنا: يا رسول الله! الحفر علينا لكل إنسان شديد؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((احفروا، وأعمقوا، وأحسنوا، وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد))، قالوا: فمن نقدِّم يا رسول الله؟ قال: ((قدِّموا أكثرهم قرآناً)) قال: فكان أبي ثالث ثلاثة في قبر واحد)) (¬2). وهذا عند الضرورة، وإذا دعت الحاجة الشديدة لذلك، ككثرة الموتى في القتل، أو الطاعون أو غير ذلك من أسباب الموت العام بكثرة، أما عند الاستطاعة والقدرة فيدفن كل إنسان في قبر لوحده (¬3). قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: ((المشروع أن يدفن كل إنسان في قبر وحده، كما جرت به سنة المسلمين قديماً وحديثاً، ولكن إذا دعت الحاجة أو الضرورة إلى جمع اثنين فأكثر في قبر واحد فلا بأس به ... قال بعض ¬
الأمر التاسع: جمع الأقارب في مقبرة واحدة حسن
الفقهاء: وينبغي أن يجعل بين كل اثنين حاجز من تراب)) (¬1)، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((ولا يدفن اثنان في قبر واحد إلا لضرورة)) (¬2). الأمر التاسع: جمع الأقارب في مقبرة واحدة حسن؛ لحديث المطلب قال: لما مات عثمان بن مظعون أُخرج بجنازته فدفن، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً أن يأتيه بحجر، فلم يستطع حمله، فقام إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحسر عن ذراعيه، قال كثير: قال المطلب: قال الذي يخبرني ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كأني أنظر إلى بياض ذراعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين حسر عنهما، ثم حملها فوضعها عند رأسه وقال: ((أتعلَّمُ بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي)) (¬3). قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((وجمع الأقارب في الدفن حسن؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دفن عثمان بن مظعون: ((أدفن إليه من مات من أهله)) (¬4)؛ ولأن ذلك أسهل لزيارتهم، وأكثر للترحم عليهم ... )) (¬5). الأمر العاشر: الموعظة عند القبر أمر لا بأس به؛ لحديث علي - رضي الله عنه -، قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقعد وقعدنا حوله، ومعه ¬
مخصرة (¬1) [وفي رواية: عود] (¬2) فنكس فجعل ينكت (¬3) [في الأرض] بمخصرته، ثم قال: ((ما منكم من أحد [و] (¬4) ما من نفس منفوسة إلا [وقد] (¬5) كتب مكانها من الجنة [أ] (¬6) ومن النار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة)). فقال رجل: يا رسول الله! أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل، فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، وأما من كان منا من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة، قال: (([لا] (¬7) [اعملوا فكل مسير لما خلق له] (¬8)، أما [من كان من] (¬9) أهل السعادة فسييسَّرون لعمل أهل السعادة، وأما [من كان من] أهل الشقاوة فسييسَّرون لعمل [أهل] الشقاوة)) ثم قرأ: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (¬10). ¬
وقد قال الإمام البخاري رحمه الله في ترجمة هذا الحديث: ((باب موعظة المحدث عند القبر وقعود أصحابه حوله)) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: كأنه يشير إلى التفصيل بين أحوال القعود، فإن كان لمصلحة تتعلق بالحي أو الميت لم يكره)) (¬1). ومما يدل على الموعظة عند القبر حديث البراء بن عازب الطويل وأوله: ((خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولمَّا يلحد، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستقبل القبلة وجلسنا حوله، وكأنَّ على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت في الأرض فجعل ينظر إلى السماء وينظر إلى الأرض، وجعل يرفع بصره ويخفضه ثلاثاً، فقال: ((استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثاً))، ثم قال: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ثلاثاً، ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال إلى الآخرة تنزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مدَّ البصر، ثم يجيء ملك الموت - عليه السلام - حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة [وفي لفظ] المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ... )) الحديث (¬2). قال الإمام شيخنا ابن باز رحمه الله: ((لقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مرة أنه وعظ الناس عند القبر وهم ينتظرون الدفن، وبذلك يعلم أن الوعظ عند ¬
الأمر الحادي عشر: تعميق القبر وتوسيعه
القبر أمر مشروع قد فعله النبي - صلى الله عليه وسلم -؛لما في ذلك من التذكير بالموت، والجنة والنار، وغير ذلك من أمور الآخرة، والحث على الاستعداد للقاء الله)) (¬1). وقال العلامة الألباني رحمه الله: ((ويجوز الجلوس عنده [أي القبر] أثناء الدفن بقصد تذكير الحاضرين بالموت وما بعده؛ لحديث البراء بن عازب ... )) (¬2). وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: (( ... وغاية ما ورد أنه - صلى الله عليه وسلم - أتى إلى البقيع وفيه قوم ينتظرون اللحد؛ ليدفنوا ميتهم، فجلس وجلس الناس حوله وجعل يذكرهم وهو جالس لا على سبيل الخطبة، وكذلك كان - صلى الله عليه وسلم - في المقبرة أيضاً فقال: ((ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار ... )) (¬3) (¬4). الأمر الحادي عشر: تعميق القبر وتوسيعه؛ لحديث هشام بن عامر قال: جاءت الأنصار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، فقالوا: أصابنا قرح وجهد! فكيف تأمرنا؟ قال: ((احفروا، وأوسعوا [وأعمقوا] واجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر)) قيل: فأيهم يُقدَّم؟ قال: ((أكثرهم قرآنا)) (¬5)؛ ولحديث رجل من الأنصار قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من الأنصار وأنا غلام مع أبي، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حفيرة القبر يوصي الحافر، ويقول: ((أوسع من قبل الرأس؛ وأوسع من قبل الرجلين ¬
الأمر الثاني عشر: اللحد أفضل من الشق إذا كانت التربة صلبة لا ينهال ترابها
لرب عذق له في الجنة)) (¬1). وذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله عن الإمام أحمد أن القبر يعمّق إلى الصدر، الرجل والمرأة في ذلك سواء، قال: وكان الحسن وابن سيرين يستحبان أن يعمق القبر إلى الصدر، وذكر أن عمر بن عبد العزيز لما مات ابنه أمرهم أن يحفروا قبره إلى السرة؛ فإن ما على ظهر الأرض أفضل مما سفل منها. وذكر أبو الخطاب أنه يعمق قدر قامة وبسطة وهو قول الشافعي، ثم قال ابن قدامة: ((والمنصوص عن أحمد أن المستحب تعميقه إلى الصدر؛ لأن التعميق قدر قامة وبسطة يشق ويخرج عن العادة)) (¬2). الأمر الثاني عشر: اللحد أفضل من الشق إذا كانت التربة صلبة لا ينهال ترابها، وإن كانت رخوة تنهار فالشق أفضل؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: لما توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بالمدينة رجل يَلْحدُ وآخر يُضرِّحُ (¬3) فقالوا: نستخيرُ ربنا ونبعث إليهما، فأيهما سُبق تركناه، فأُرسل إليهما فسبق صاحب اللحد فلحدوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -)) (¬4). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اختلفوا في اللحد والشق، حتى تكلّموا في ذلك وارتفعت أصواتهم، فقال عمر: لا ¬
تصخبوا (¬1) عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيّاً ولا ميتاً، أو كلمة نحوها، فأرسلوا إلى الشاقِّ واللاحد جميعاً، فجاء اللاحد، فلحد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم دفن - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وعن عامر بن سعد بن أبي وقاص أن سعد بن أبي وقاص قال في مرضه الذي هلك فيه: ((الحدوا لي لحداً، وانصبوا عليّ اللبن نصباً كما صنع برسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (¬3). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللحد لنا والشق لغيرنا)) (¬4). وعن جرير بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللحد لنا والشق لغيرنا)) (¬5). * واللحد: هو أن يحفر إذا بلغ قرار القبر في حائط القبر - جانبه مما يلي القبلة - مكاناً يسع الميت، ولا يعمق بحيث ينزل فيه جسد الميت كثيراً، بل بقدر ما يكون الجسد ملاصقاً للبن، هذا إذا كانت الأرض صلبة، وإن كانت الأرض رخوة اتخذ لها من الأحجار ونحوها ما يسندها ¬
الأمر الثالث عشر: يتولى إنزال الميت القبر الرجال
باللحد ولا يلحد منها؛ لئلا يخر القبر على الميت. * والشق أن يحفر في وسط القبر طولاً كالنهر ويُبْنَى جانباه باللبن وغيره أو يشق وسط القبر فيصير كالحوض ثم يوضع الميت فيه، ويسقف عليه بأحجار ونحوها، ويرفع السقف قليلاً بحيث لا يمس الميت (¬1). وهذه الأحاديث السابقة تدل على أن اللحد أفضل؛ لأن الله اختاره لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، والشق جائز عند الحاجة إليه، قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: ((واللحد معروف وهو الشق من الجانب القبلي من القبر، وفيه دليل لمذهب الشافعي والأكثرين في أن الدفن في اللحد أفضل من الشق إذا أمكن اللحد، وأجمعوا على جواز اللحد والشق ... )) (¬2). وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول عن حديث اللحد: ((يدل على أن اللحد أفضل؛ لأن الله اختاره لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ... )) وسمعته أيضاً يقول: (( ... وعمل الصحابة وعمل المسلمين يدل على أن اللحد والشق جائزان، وذكر النووي إجماع العلماء على جواز الأمرين، وقد كان في المدينة لاحِدٌ وشاقٌّ؛ لكن اللحد أفضل، وإذا احتيج إلى الشق جاز كما في الأرض الرخوة)) (¬3). الأمر الثالث عشر: يتولى إنزال الميت القبر الرجال؛ لأنه المعهود في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجرى عليه عمل المسلمين في كل عصر من الأعصار إلى يومنا ¬
الأمر الرابع عشر: يغطى قبر المرأة عند إدخالها في القبر
هذا؛ ولأن الرجال أقوى على ذلك؛ ولأن النساء لو تولته أفضى ذلك إلى انكشاف شيء من أبدانهن أمام الرجال الأجانب وهذا محرم (¬1). الأمر الرابع عشر: يُغطَّى قبر المرأة عند إدخالها في القبر؛ لئلا يظهر ولا يبرز من معالم جسمها شيء؛ لما روي وذكر في ذلك من الآثار عن عمر، وعلي، وأنس، وعبد الله بن يزيد، والحسن (¬2). قال الإمام الخرقي رحمه الله: ((والمرأة يخمّر قبرها بثوب)). قال الإمام ابن قدامة: ((لا نعلم في استحباب هذا بين أهل العلم خلافاً ... )) ثم قال بعد أن ذكر بعض الآثار: (( ... ولأن المرأة عورة ولا يؤمن أن يبدو منها شيء، فيراه الحاضرون)) (¬3). وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول: ((يوضع ثوب على المرأة عند ¬
الأمر الخامس عشر: أولياء الميت أحق بإنزاله
إدخالها القبر: بشت أو نحوه حتى لا يظهر من جسمها شيء)) (¬1).وبيَّن رحمه الله عندما سئل عن تغطية القبر بالنسبة للمرأة ما حكمه؟ فقال: ((هذا أفضل)) (¬2). وذكر العلامة ابن عثيمين رحمه الله: أن هذا مما فعله السلف واستحبه العلماء رحمهم الله؛ لأن هذا أستر لها؛ ولئلا تبرز معالم جسمها، ولكن هذا ليس بواجب، ويكون هذا التخمير أو التسجية إلى أن يصفّ اللبن عليها (¬3). الأمر الخامس عشر: أولياء الميت أحق بإنزاله؛ لعموم قول الله تعالى: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله} (¬4)؛ ولحديث علي - رضي الله عنه - قال: ((غسلت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذهبت لأنظر ما يكون من الميت فلم أر شيئاً، وكان طيِّباً - صلى الله عليه وسلم - حيّاً وميتاً))، وولي دفنه وإجنانه دون الناس أربعة: علي، والعباس، والفضل، وصالح مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولحد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحداً، ونصب عليه اللبن نصباً)) (¬5) (¬6). ¬
الأمر السادس عشر: لا بأس بإدخال الزوج زوجته قبرها
وعن عامر قال: غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: علي، والفضل، وأسامة بن زيد، وهم أدخلوه قبره، قال: حدثنا مرحب - أو أبو مرحب - أنهم أدخلوا معهم عبد الرحمن بن عوف، فلما فرغ علي قال: إنما يلي الرجل أهله)) (¬1). وعن عبد الرحمن بن أبزى قال: ((صليت مع عمر بن الخطاب على زينب بنت جحش بالمدينة فكبر أربعاً، ثم أرسل إلى أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من يأمرن أن يدخلها القبر؟ قال: وكان يعجبه أن يكون هو الذي يلي ذلك، فأرسلن إليه: انظر من كان يراها في حال حياتها فليكن هو الذي يدخلها القبر، فقال عمر: ((صدقن)) (¬2) (¬3). الأمر السادس عشر: لا بأس بإدخال الزوج زوجته قبرها؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اليوم الذي بُدئ فيه، فقلت: وارأساه، فقال: ((وَددتُ أن ذلك كان وأنا حيٌّ، فهيأتُك ودفنتك)) قالت: فقلت غَيْرَى: كأني بك في ذلك اليوم عَرُوساً ببعض نسائك، قال: ((وأنا وارأساه! ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتاباً فإني أخاف أن يقول قائل ويتمنَّى متمنٍّ: أنا أوْلىَ ويأبى الله - عز وجل - والمؤمنون إلا أبا بكر)) (¬4). ¬
الأمر السابع عشر: ينزل المرأة قبرها من لم يطأ في الليلة السابقة
الأمر السابع عشر: ينزل المرأة قبرها من لم يطأ في الليلة السابقة؛ لحديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: شهدنا بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس على القبر، فرأيتُ عينيه تدمعان، فقال: ((هل فيكم من أحد لم يقارف الليلة؟)) فقال أبو طلحة، أنا، قال: ((فانزل في قبرها)) [فنزل في قبرها] فقبرها ... )) (¬1). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: ((وفي هذا الحديث جواز البكاء كما ترجم له، وإدخال الرجال المرأة قبرها؛ لكونهم أقوى على ذلك من النساء، وإيثار البعيد العهد عن الملاذ في مواراة الميت - ولو كان امرأة - على الأب والزوج، وقيل: إنما آثره بذلك؛ لأنها كانت صنعته، وفيه نظر؛ فإن ظاهر السياق أنه - صلى الله عليه وسلم - اختاره لذلك؛ لكونه لم يقع منه تلك الليلة جماع، وعلَّل ذلك بعضهم بأنه حينئذٍ يأمن من أن يذكّره الشيطان بما كان منه في تلك الليلة، وحكى ابن حبيب أن السر في إيثار أبي طلحة على عثمان أن عثمان كان قد جامع بعض جواريه في تلك الليلة فتلطّف - صلى الله عليه وسلم - في منعه من النزول في قبر زوجته (¬2) بغير تصريح، ووقع في رواية حماد المذكورة فلم يدخل عثمان القبر، وفيه جواز الجلوس على شفير القبر عند الدفن)) (¬3). ¬
الأمر الثامن عشر: يدخل الميت من قبل رجلي القبر
الأمر الثامن عشر: يدخل الميت من قِبَل رجلي القبر؛ لحديث أبي إسحاق قال: أوصى الحارث أن يُصلِّي عليه عبد الله بن زيد، فصلى عليه ثم أدخله القبر من قبل رجلي القبر، وقال: ((هذا من السنة)) (¬1) (¬2).وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يقول: ((هذا أحسن ما ورد في ذلك، ورُوي في ذلك نوعان آخران: أحدهما سلَّه من جهة القبلة، والثاني سَلَّه من جهة رأس القبر، والأمر في هذا واسع، ولكن أحسن ما ورد ما رواه عبد الله بن زيد؛ لأن قوله من السنة في حكم المرفوع عند أهل العلم (¬3). الأمر التاسع عشر: يقول عند إدخال الميت القبر: ((بسم الله وعلى ملة ¬
الأمر العشرون: يجعل الميت في قبره على جنبه الأيمن، ووجهه قبالة القبلة
رسول الله))، أو يقول: ((بسم الله وعلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -))؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا وضع الميت في القبر قال: ((بسم الله وعلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)). وهذا لفظ أبي داود، ولفظ الترمذي: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أدخل الميت القبر - وقال أبو خالد مرة: إذا وضع الميت في لحده - قال: - مرة -: ((بسم الله وبالله، وعلى ملة رسول الله)). وقال مرة: ((بسم الله، وبالله، وعلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -))، ولفظ ابن ماجه: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أدخل الميت القبر قال: ((بسم الله وعلى ملة رسول الله)). وفي لفظ: ((إذا وضع الميت في لحده قال: بسم الله وعلى سنة رسول الله)). وفي لفظ: ((بسم الله، وفي سبيل الله، وعلى ملة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (¬1). الأمر العشرون: يجعل الميت في قبره على جنبه الأيمن، ووجهه قبالة القبلة، ورأسه إلى يمين القبلة، ورجلاه إلى يسار القبلة، وعلى هذا جرى عمل أهل الإسلام من عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا، وهكذا كل مقبرة على ظهر الأرض (¬2)، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((البيت الحرام قبلتكم أحياءً وأمواتاً)) (¬3). وينبغي أن يُدنى من حائط القبر القبلي الأمامي؛ لئلا ينكب على وجهه، وأن يسند من خلف ظهره بتراب؛ لئلا ¬
الأمر الواحد والعشرون: تحل عن الميت العقد إذا وضع الميت داخل القبر
ينقلب على ظهره (¬1) (¬2). الأمر الواحد والعشرون: تحل عن الميت العقد إذا وضع الميت داخل القبر على جنبه الأيمن (¬3)، قال الإمام الخرقي رحمه الله: ((وتحل العقد))، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((وأما حل العقد من عند رأسه ورجليه فمستحب؛ لأن عقدها كان للخوف من انتشارها وقد أُمن ذلك بدفنه، وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أدخل نعيم بن مسعود الأشجعي القبر نزع الأخلة بفيه (¬4). وعن ابن مسعود، وسمرة بن جندب نحو ذلك (¬5) (¬6). وقال شيخنا ابن باز رحمه الله في حل العقد عن الميت في القبر: ((هذا هو الأفضل لفعل الصحابة - رضي الله عنهم -)) (¬7) (¬8). ¬
الأمر الثاني والعشرون: ينصب على فتحة اللحد اللبن نصبا
الأمر الثاني والعشرون: ينصب على فتحة اللحد اللبن نصباً فيصف على فتحة اللحد من خلف الميت وينصب نصباً مرصوصاً، ويسد ما بين اللبن من خلل بقطع اللبن، فإذا أُحكم جعل الطين فوق ذلك حتى يسد الخلل بإحكام وإتقان؛ لئلا يصل التراب إلى الميت، فإن لم يكن لبن وضع حجر أو نحوه، وأُلحم بالطين حتى يلتحم (¬1). الأمر الثالث والعشرون: يُحثى بعد الفراغ من سد اللحد ثلاث حثيات على القبر؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على جنازة، ثم أتى قبر الميت فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثاًً)) (¬2). قال الإمام الصنعاني رحمه الله: ((وفيه دلالة على مشروعية الحثي على القبر ثلاثاً، وهو يكون باليدين معاً؛ لثبوته في حديث عامر بن ربيعة ففيه: ((حثى بيديه)) (¬3) (¬4). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله يقول: ((والحثي عليه في هذا الحديث من باب المشاركة إذا كان الناس كثيراً، وجاء في لفظ: ((بيديه)) (¬5)، وسمعته أيضاً يقول: ((هذا يدل على أنه يستحب لمن ¬
الأمر الرابع والعشرون: يرفع القبر عن الأرض قدر شبر
حضر الدفن أن يشارك مع الناس ولو بثلاث حثيات)) (¬1) (¬2). ويُهال على القبر التراب (¬3)، ولا يزاد عليه من غير ترابه، وإنما يجعل التراب الذي أخرج من القبر من غير زيادة (¬4). الأمر الرابع والعشرون: يرفع القبر عن الأرض قدر شبر؛ لأن تسويته بالأرض تعرضه للإهانة؛ ولأن رفعه عن الأرض بهذا القدر يجعله يتميَّز ولا يُهان؛ لحديث جابر - رضي الله عنه - ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُلحد له لحداً، ونصب عليه اللبن نصباً، ورفع قبره عن الأرض نحواً من شبر)) (¬5). قال العلامة الألباني رحمه الله: ((ويؤيده ما سيأتي من النهي عن الزيادة على التراب الذي أُخرج من اللحد الذي شغله جسم الميت وذلك يساوي القدر المذكور في الحديث)) (¬6). قال شيخنا ابن باز رحمه الله ما ملخصه: ((وإذا دفنوا القبر بتراب، جعلوا عليه حصباء، ورشوه بالماء حتى يثبت بها التراب فكل هذا لا بأس به؛ لأن فيه حفظاً لترابه، وبقاء له، والمشروع [في رفع القبر] شبر، أو ما حوله، أما رفعه كثيراً فلا يجوز؛ لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعلي - رضي الله عنه -: ((لا تدع صورة إلا ¬
طمستها ولا قبراً مشرِفاً إلا سويته)) (¬1) (¬2). وعن جابر - رضي الله عنه - قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُجصص القبر، أو يقعد عليه، وأن يُبنى عليه)) (¬3). ولفظ النسائي: ((أن يُبنى على القبر، أو يُزاد عليه، أو يُجصص، أو يكتب عليه)) (¬4). وفي سنن أبي داود: ((نهى أن يُقعد على القبر، وأن يُقصص، ويُبنى عليه، أو يزاد عليه، أو أن يُكتب عليه)) (¬5). ولفظ الترمذي: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن تجصص القبور، وأن يُكتب عليها، وأن يُبنى عليها، وأن تُوطأ)) (¬6). ولفظ ابن ماجه: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تجصيص القبور)) (¬7). وفي لفظ له: ((أن يُكتب على القبر شيء)) (¬8). ¬
الأمر الخامس والعشرون: يسنم القبر كهيئة سنام الجمل
وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول: ((والزيادة عليه من غير ترابه تُفضي إلى رفعه، فلا يُزاد عليه بل يكتفى بما أخذ من تراب لحده)) (¬1)، وسمعته في موضع آخر يقول: ((لا يجوز البناء على القبور، والتجصيص، ولا يقعد عليها، ولا البناء عليها، ولا توطأ، ولا يزاد عليها من غير ترابها)) (¬2).وجاء في ذلك آثار كثيرة أنه لا يزاد على تراب اللحد الذي أخذ من القبر، بل يكفي ذلك للدفن (¬3). الأمر الخامس والعشرون: يسنم القبر كهيئة سنام الجمل؛ لحديث سفيان التمار: ((أنه رأى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مسنماً)) (¬4). ولفظ ابن أبي شيبة: ((دخلت البيت الذي فيه قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فرأيت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقبر أبي بكر، وقبر عمر مسنمة)) (¬5). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((واستدل به على أن المستحب تسنيم القبور وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد، والمزني وكثير من الشافعية ... )) (¬6). قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((وتسنيم القبر أفضل من تسطيحه، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، والثوري ... )) (¬7). ¬
الأمر السادس والعشرون: توضع على القبر الحصباء
الأمر السادس والعشرون: توضع على القبر الحصباء؛ لحديث القاسم قال: دخلت على عائشة فقلت: يا أُمَّهْ! اكشفي لي عن قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه رضي الله عنهما فكشفت لي عن ثلاثة قبور: لا مُشرفة، ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرْصَةِ الحمراء)) قال أبو علي [اللؤلؤي] يقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُقدّمٌ، وأبو بكر عند رأسه، وعمر عند رجليه، رأسه عند رجلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (¬1). والبطحاء في هذا الحديث: هو الحصى الصغار، ويقال: بطحاء الوادي وأبطحه: هو حصاه اللين في بطن المسيل (¬2)، وقوله: ((ولا لاطئة)) يقال: لطئ بالأرض ولطأ بها إذا لزق)) (¬3)، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((والمشرف ما رفع كثيراً)) (¬4)، وقال رحمه الله: ((ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر؛ ليعلم أنه قبر، فيُتوقَّى، ويُتَرَحَّم على صاحبه)) (¬5)، وقد جاء آثار كثير تدل على وضع الحصباء على القبور، ومن ذلك ما رواه جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رشَّ على قبر إبراهيم ابنه الماء ووضع عليه حصباء)) (¬6)، وغير ذلك من الآثار (¬7). ¬
السابع والعشرون: يعلم القبر بحجر أو لبن، أو خشبة
ولا منافاة بين التسنيم للقبر وبين قوله: مبطوح ببطحاء العرصة الحمراء، فبطحاء العرصة هو الحصباء الصغير؛ ولهذا جمع الإمام ابن القيم رحمه الله بين حديث سفيان التمار في قوله: ((إنه رأى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مسنماً))،وحديث القاسم: ((لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء)) فقد جمع بين الحديثين فقال: ((وقبره - صلى الله عليه وسلم - مسنم مبطوح ببطحاء العرصة الحمراء لا مبني ولا مطيَّن، وهكذا كان قبر صاحبيه)) (¬1). وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول في الجمع بين الحديثين: ((السنة أن يكون القبر مسنماً، وحديث عائشة رضي الله عنها لا ينافي ذلك، فهو يكون مسنماً حتى يرد عنه الماء وتوضع عليه حصباء ويرش)) (¬2). السابع والعشرون: يُعلّم القبر بحجر أو لبن، أو خشبة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علَّم قبر عثمان بن مظعون - رضي الله عنه - بحجر وضعه عند رأسه وقال: ((أتعلَّم بها قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهلي)) (¬3). قال الإمام شيخنا عبد العزيز ابن باز رحمه الله: ((لا بأس بوضع علامة على القبر ليعرف: كحجر، أو عظم، أو حديد، من غير كتابة ولا أرقام؛ لأن الأرقام كتابة، وقد صح النهي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكتابة على القبر، أما وضع حجر على القبر، أو صبغ الحجر بالأسود أو الأصفر حتى ¬
الثامن والعشرون: رش القبر بالماء بعد الانتهاء من أعمال الدفن
يكون علامة على صاحبه فلا يضر)) (¬1). الثامن والعشرون: رشّ القبر بالماء بعد الانتهاء من أعمال الدفن، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((ويستحب أن يرش على القبر ماء؛ ليلتزق ترابه)) (¬2). وقد ورد في ذلك آثار كثيرة منها ما جاء عن جعفر بن محمد عن أبيه: ((أن الرش على القبر كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (¬3)، وغير ذلك من الآثار (¬4). قال الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله في حكم وضع الحصباء على القبر ورشه بالماء: ((هذا مستحب إذا تيسر ذلك؛ لأنه يثبِّت التراب ويحفظه، ويروى أنه وضع على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بطحاء، ويستحب أن يرش بالماء حتى يثبت التراب ويبقى القبر واضحاً معلوماً حتى لا يمتهن)) (¬5)، وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: ((لا بأس أن يرش؛ لأن الماء يمسك التراب فلا يذهب يميناً ويساراً)) (¬6). الأمر التاسع والعشرون: يقف الحاضرون بعد الفراغ من الدفن على القبر يدعون للميت بالتثبيت ويستغفرون له، ويؤمر جميع الحاضرين بذلك؛ حديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من دفن الميت وقف ¬
التاسع عشر: آداب الجلوس والمشي في المقابر كثيرة، منها:
عليه فقال: ((استغفروا لأخيكم، وسلُوا له التثبيت؛ فإنه الآن يُسأل)) (¬1). قال الإمام الشوكاني رحمه الله: ((فيه مشروعية الاستغفار للميت عند الفراغ من دفنه، وسؤال التثبيت له؛ لأنه يُسأل في تلك الحال، وفيه دليل على ثبوت حياة القبر، وقد ورد بذلك أحاديث كثيرة بلغت حد التواتر)) (¬2).وقد تقدمت الأدلة على فتنة القبر في أول الكتاب. أسأل الله لي ولجميع المؤمنين العفو والعافية والثبات في الحياة الدنيا وبعد الممات (¬3). التاسع عشر: آداب الجلوس والمشي في المقابر كثيرة، منها: 1 - استقبال القبلة في الجلوس لمن كان ينتظر دفن الجنازة؛ لحديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: ((خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولم يلحد بعد، فجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - مستقبلاً القبلة وجلسنا معه)) (¬4)، قال الإمام الشوكاني رحمه الله: ((فيه دليل استحباب ¬
2 - تحريم الجلوس على القبر
الاستقبال في الجلوس لمن كان منتظراً دفن الجنازة)) (¬1). 2 - تحريم الجلوس على القبر؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر)) (¬2). 3 - لا يُصلَّى إلى القبور؛ لحديث أبي مرثد الغنوي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها)) (¬3). 4 - لا يُتكأ على القبر؛ لحديث عمرو بن حزم الأنصاري - رضي الله عنه - قال: رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متكئاً على قبر فقال: ((لا تؤذِ صاحب هذا القبر - أو لا تؤذه -)) (¬4). 5 - لا يمشى بالنعال بين القبور إلا لضرورة؛ لحديث بشير مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يمشي بين القبور عليه نعلان فقال: ((يا صاحب السبتيتين: ويحك ألق سبتيتيك)) فنظر الرجل فلما عرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلعهما فرمى بهما)) (¬5). قال الإمام الشوكاني رحمه الله: ((وفي ذلك دليل على أنه لا يجوز المشي ¬
6 - تحريم الصلاة في المقبرة
بين القبور بالنعلين ... [و] سماع الميت لخفق النعال (¬1) لا يستلزم أن يكون المشي على قبر أو بين القبور فلا معارضة)) (¬2). وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول في حديث بشير: ((وهذا يدل على كراهة المشي بين القبور بالنعال، وإسناده جيد، لكن إذا دعت الحاجة إلى ذلك: كالحر وغيره زالت الكراهة، أما حديث: ((يسمع قرع نعالهم)) فلا يلزم بأنه على القبور، فيكون خارجاً، أو يقال: ذلك عند الحاجة)) (¬3). وأوضح العلامة ابن عثيمين رحمه الله: أن المشي بين القبور بالنعال مكروه وخلاف السنة إلا لحاجة، كشدة حر، أو يكون في المقبرة شوك، أو حصى يؤذي الرجل فلا بأس به (¬4). 6 - تحريم الصلاة في المقبرة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيّن أن القبور ليست من مواضع الصلاة، فقال: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) (¬5). وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً)).وفي لفظ: ((صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً)) (¬6)، والمعنى: صلوا فيها ولا تجعلوها كالقبور مهجورة من الصلاة (¬7). ¬
7 - المقابر ليست من المواضع التي يرغب في قراءة القرآن فيها
7 - المقابر ليست من المواضع التي يرغب في قراءة القرآن فيها؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة)) (¬1). 8 - لا تبنى عليها المساجد؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما حينما ذكرتا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنيسة في الحبشة فيها تصاوير قال: ((إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة)) (¬2). 9 - لا تتخذ مساجد؛ لحديث جندب - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس وهو يقول: ((إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك)) (¬3). وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لعنة الله على اليهود والنصارى ¬
10 - لا تبنى عليها القباب ولا ترفع أكثر من شبر
اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) قالت عائشة رضي الله عنها: يحذر ما صنعوا)) (¬1). 10 - لا تُبنى عليها القباب ولا تُرفع أكثر من شبر؛ لحديث أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألاّ تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سوّيته)) (¬2). 11 - لا تتخذ عليها السرج؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج)) (¬3)، ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لعن زوَّارات القبور)) (¬4). 12 - لا تُجصص القبور؛ لحديث جابر - رضي الله عنه -: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر، أو يقعد عليه، أو يُبنى عليه)) (¬5). 13 - لا يُقعد على القبر؛ لحديث جابر السابق. ¬
14 - لا يزاد عليها من غير ترابها
14 - لا يُزاد عليها من غير ترابها، لحديث جابر في لفظ عند النسائي (¬1). 15 - لا يُكتب عليها شيء؛ لحديث جابر في لفظ عند أبي داود (¬2)، والترمذي (¬3). 16 - لا تُوطأ؛ لحديث جابر في لفظ عند الترمذي (¬4). 17 - لا يبنى عليها؛ لحديث جابر في لفظ عند الترمذي (¬5)، وعند ابن ماجه (¬6). 18 - لا تتخذ القبور عيداً فيتردد إليها الناس في أوقات محددة وفي أزمان مؤرخة لا يأتونها إلا فيها؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) (¬7). 19 - لا تُشد الرحال إلى زيارتها؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى)) (¬8). 20 - لا يُذبح ولا يُنحر عند القبور؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - يرفعه: ((لا عقر ¬
21 - لا تكسر عظام أهل القبور
في الإسلام)) قال عبد الرزاق بن همام: كانوا يعقرون بقرة أو شاة (¬1)، هذا إذا كان الذبح أو النحر عند القبور يتقرب به إلى الله تعالى فهو بدعة، أما إذا كان الذبح لصاحب القبر فهو شرك أكبر يخرج صاحبه من الملة (¬2). 21 - لا تكسر عظام أهل القبور؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن كسر عظم المؤمن ميتاً مثل كسره حيًّا)) (¬3). 22 - لا يُسبُّ الأموات؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تسبُّوا الأموات؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا)) (¬4). وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول: ((وهذا هو الأصل؛ إلا إذا كان في سبهم مصلحة للناس، كمن قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وجبت)) عندما مُرَّ بجنازة فأثني عليها خيراًًًً، [ومُرَّ بأخرى فأثني عليها شرًّا] (¬5). العشرون: التعزية: العزاء يقال: تعزَّيتُ عنه: أي تصبَّرت، أصلها تعزَّزت، والاسم منه العزاء (¬6) والتعزِّي: التأسِّي والتصبّر عند المصيبة، وأن يقول: إنا لله وإنا ¬
الأمر الأول: فضل تعزية المصاب
إليه راجعون)) (¬1). والتعزية: التصبير على ما أصاب من المكروه (¬2)، والتعزية يُراعى فيها الأمور الآتية: الأمر الأول: فضل تعزية المصاب، جاء في ذلك فضل عظيم؛ لحديث عمرو بن حزم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من مؤمن يُعزِّي أخاه بمصيبة إلا كساه الله سبحانه من حلل الكرامة يوم القيامة)) (¬3). وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من عزّى أخاه المؤمن في مصيبة كساه الله حُلة خضراء يُحْبَرُ بها يوم القيامة)) قيل: يا رسول الله، ما يُحبرُ؟ قال: ((يغبط)) (¬4). الأمر الثاني: ألفاظ التعزية، وصفتها، يقوم المعزِّي بتعزية المصاب بما يسلِّيه، ويصبِّره، ويحمله على: الرضا، والصبر، واحتساب المصيبة عند الله تعالى، والثقة بالله سبحانه وأنه لا يخلف الميعاد، ويكون ذلك بما تيسر ¬
1 - ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابنته
من الترغيب في الأجر والثواب، والاحتساب من القرآن الكريم والسنة الصحيحة، أو بما تيسر من الكلام الذي يخفف المصيبة، ويبرِّد حرارتها (¬1) على حسب نوع المصيبة وحال المصاب، ومن ذلك ما يأتي: 1 - ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابنته حينما كان ولدها في الغرغرة: ((إن لله ما أخذ و [لله] ما أعطى، وكل شيء عنده إلى أجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب)) (¬2). 2 - يناسب أن يقال لمن فقد ولده ما ثبت في حديث قرة بن إياس، قال: كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس يجلس إليه نفر من أصحابه، وفيهم رجل له ابن صغير يأتيه من خلف ظهره فيقعده بين يديه، فهلك فامتنع الرجل أن يحضر الحلْقة لذكر ابنه، فحزن عليه، ففقده النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ما لي لا أرى فلاناً؟)) قالوا: يا رسول الله بُنيَّه الذي رأيته هلك، فلقيه النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن بُنيِّهُ؟ فأخبره أنه هلك فعزَّاه عليه ثم قال: ((يا فلان أيُّما كان أحبَّ إليك أن تمتَّع به عُمرك؟ أو لا تأتي غداً إلى باب من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه يفتح لك؟)) قال: يا نبي الله بل يسبقنى إلى باب الجنة فيفتحها لي؛ لهو أحبُّ إليَّ، قال: ((فذاك لك)) (¬3). 3 - مما يقال لمن فقد ولدين أو ثلاثة ما ثبت من حديث بريدة بن ¬
4 - قال النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما دخل على أم سلمة
الحصيب قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعهد الأنصار ويعودهم، ويسأل عنهم فبلغه عن امرأة من الأنصار مات ابنها وليس لها غيره وأنها جزعت عليه جزعاً شديداً، فأتاها النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه أصحابه، فلما بلغ باب المرأة، قيل للمرأة: إن نبي الله يريد أن يدخل يعزِّيها، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أما إنه بلغني أنكِ جزعتِ على ابنك))، فأمرها بتقوى الله وبالصبر، فقالت: يا رسول الله [ما لي لا أجزع] وإني امرأة رقوبٌ لا ألد، ولم يكن لي غيره؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الرقوب: الذي يبقى ولدها)) ثم قال: ((ما من امرئٍ أو امرأة مسلمة يموت لها ثلاثة أولاد [يحتسبهم] إلا أدخله الله بهم الجنة)) فقال عمر [وهو عن يمين النبي - صلى الله عليه وسلم -] بأبي أنت وأمي واثنين؟ قال: ((واثنين)) (¬1)، وقد ثبت في هذا أحاديث كثيرة: أن من مات له ثلاثة من الولد، أو اثنين، أو واحد، فصبر واحتسب إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم (¬2). 4 – قال النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما دخل على أم سلمة رضي الله عنها عقب موت أبي سلمة: ((اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره، ونوِّر له فيه)) (¬3). ¬
5 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعزيته عبد الله بن جعفر
فمن السنة أن يقال في التعزية: ((اللهم اغفر لفلان – ويذكر اسمه – وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره، ونوِّر له فيه)). 5 – وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعزيته عبد الله بن جعفر في أبيه: ((اللهم اخلف جعفراً في أهله، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه)) قالها ثلاث مرات (¬1). 6 – ومما يبرِّد حرارة المصيبة في التعزية في الأحباب على وجه العموم، سواء كان الميت من الأولاد، أو الآباء، أو الأمهات، أو الإخوة، أو الأخوات، أو الزوج، أو الزوجة، أو الحبيب المصافي والصديق المخلص، قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة)) (¬2). 7 – ولو قال: ((أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وغفر لميتك)) فلا بأس بذلك (¬3). الأمر الثالث: التعزية لا تحدد بثلاثة أيام لا تتجاوزها، بل متى رأى الفائدة في التعزية أتى بها، فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه عزَّى بعد الثلاثة في حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما (¬4) فما دامت حرارة المصيبة قائمة فلا بأس بالتعزية، ولو بعد وقتٍ طويل، فالأمر فيه واسع وفيه مواساة لأهل ¬
الأمر الرابع: السنة في العزاء أن يصنع أقرباء أهل الميت أو جيرانهم طعاما يشبعهم
الميت في مصابهم. قال شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله: ((العزاء ليس له أيام محدودة، بل يشرع من حين خروج الروح قبل الصلاة على الميت وبعدها، [وقبل الدفن وبعده]، وليس لغايته حد في الشرع المطهر، سواء كان ذلك ليلاً أو نهاراً، وسواء كان ذلك في البيت، أو في الطريق، أو في المسجد، أو في المقبرة، أو في غير ذلك من الأماكن)) (¬1).وقال رحمه الله تعالى: ((والمبادرة بها أفضل، وتجوز بعد ثلاث من موت الميت لعدم الدليل على التحديد)) (¬2). وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: ((وقت التعزية من حين ما يموت الميت أو تحصل المصيبة إذا كانت التعزية بغير الموت إلى أن تُنسى المصيبة وتزول عن نفس المصاب؛ لأن المقصود بالتعزية ليست تهنئةً أو تحيةً، إنما المقصود بها تقويةُ المصاب على تحمّل هذه المصيبة واحتساب الأجر)) (¬3). الأمر الرابع: السنة في العزاء أن يصنع أقرباء أهل الميت أو جيرانهم طعاماً يشبعهم؛ لحديث عبد الله بن جعفر - رضي الله عنه - قال: لما جاء نعي جعفر حين قُتِلَ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد أتاهم ما يشغلهم)) أو: ((أمر يشغلهم)) (¬4). ¬
وعن أسماء بنت عميس رضي الله عنها قالت: ((لما أصيب جعفر رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهله فقال: ((إن آل جعفر قد شغلوا بشأن ميتهم، فاصنعوا لهم طعاماً)) قال عبد الله: فما زالت سنة حتى كان حديثاً فتُرِكَ)) (¬1). قال الشافعي رحمه الله تعالى: ((وأحبُّ لجيران الميت أو ذي القرابة أن يعملوا لأهل الميت في يوم يموت وليلته طعاماً يشبعهم؛ فإن ذلك سنة، وذكر كريم، وهو من فعل أهل الخير قبلنا وبعدنا)) (¬2). وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((وجملته أنه يستحب إصلاح طعام لأهل الميت، يبعث به إليهم، إعانة لهم، وجبراً لقلوبهم، فإنهم ربما انشغلوا بمصيبتهم وبمن يأتي إليهم من إصلاح طعامٍ لأنفسهم)) (¬3). ثم بيّن ابن قدامة رحمه الله: أنها إذا دعت الحاجة لإصلاح أهل الميت للطعام جاز؛ فإنه ربما جاءهم من يحضر ميتهم من القرى والأماكن البعيدة ويبيت عندهم فلا يمكنهم أن لا يضيفوه (¬4). وقال رحمه الله: ((وتستحب تعزية جميع أهل المصيبة: كبارهم، وصغارهم، ويُخصُّ خيارهم، والمنظور إليه من بينهم، ليستنَّ به غيرُهُ، ¬
الأمر الخامس: البدع والمنكرات في العزاء كثيرة
وذا الضعيف منهم عن تحمل المصيبة؛ لحاجته إليها)) (¬1). وقال شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله: (( ... السنة التعزية لأهل المصاب من غير كيفية معينة ولا اجتماع معين .. وإنما يشرع لكل مسلم بأن يُعزِّي أخاه بعد خروج الروح في البيت، أو في الطريق، أو في المسجد، أو في المقبرة، سواء كانت التعزية قبل الصلاة أو بعدها، وإذا قابله شُرع له مصافحته والدعاء له بالدعاء المناسب ... وإذا كان الميت مسلماً، دعا له بالمغفرة والرحمة، وهكذا النساء فيما بينهن يعزي بعضهن بعضاً، ويعزي الرجل المرأة، والمرأة الرجل، لكن من دون خلوة ولا مصافحة إذا كانت المرأة ليست محرماً له)) (¬2). الأمر الخامس: البدع والمنكرات في العزاء كثيرة، لكن من أكثرها ظهوراً في بعض المجتمعات ما يأتي: 1 - اجتماع أهل الميت خارج المنزل في أماكن واسعة، سواء كانت: من الخيام الكبيرة المضاءة بالأنوار والمفروشة بالفرش؛ لاستقبال الناس فيها، أو من قصور الأفراح المجهزة بالإضاءة والفرش، أو فرش الساحات الخالية أمام المنزل وإنارتها استعداداً لاستقبال المعزين، أو إنارة الشوارع وإحضار من يقرأ القرآن، وإعداد القهوة والشاي، وبعض العصيرات والأطياب؛ لتقديمها للمعزين، وغير ذلك من المنكرات البدعية التي يجب على كل مسلم الابتعاد عنها والتزام السنة (¬3). وإذا ¬
2 - الاجتماع في منزل الميت للأكل
صنع الطعام للناس كان ذلك بدعة أخرى (¬1). 2 – الاجتماع في منزل الميت للأكل والشرب وقراءة القرآن، ودعوة الناس لحضور الطعام المقدم، وربما بعض المعزِّين يأتي بالأغنام، أو الإبل، أو البقر، بحجة تقديمها لهؤلاء المعزين، ولأهل البيت، ويدعو كل من قابله ممن يأتون للتعزية لحضور هذا الطعام، وهذا من البدع المنكرة؛ لحديث جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - قال: ((كنَّا نَعُدُّ الاجتماع إلى أهل الميت وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة)). ولفظ ابن ماجه: ((كنا نرى الاجتماع إلى أهل الميت، وصنعَةَ الطعام من النياحة)) (¬2). قال شيخنا ابن باز رحمه الله: ((والنياحة: هي رفع الصوت بالبكاء وهي محرمة، والميت يُعذب في قبره بما يناح عليه، كما صحت به السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أما البكاء فلا بأس به إذا كان بدمع العين فقط بدون نياحة)) (¬3). وقوله: ((كنا نعدّ)) أو ((كنا نرى)) قال السندي رحمه الله: ((هذا بمنزلة رواية إجماع الصحابة - رضي الله عنهم -، أو تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى الثاني فحكمه الرفع على التقديرين فهو حجة)). ثم قال: ((وبالجملة فهذا عكس الوارد أن ¬
الأمر السادس: مشروعية التلبينة للمحزون
يصنع الناس الطعام لأهل الميت، فاجتماع الناس في بيتهم حتى يتكلفوا لأجلهم الطعام قلب لذلك، وقد ذكر كثير من الفقهاء أن الضيافة لأهل الميت قلب للمعقول؛ لأن الضيافة حقها أن تكون للسرور لا للحزن)) (¬1). وقال شيخنا ابن باز رحمه الله: الاجتماع في بيت الميت للأكل والشرب وقراءة القرآن بدعة ... وإنما يؤتى أهل الميت للتعزية والدعاء والترحم على ميتهم، أما أن يجتمعوا لإقامة مأتم (¬2) بقراءة خاصة، أو أدعية خاصة، أو غير ذلك، ولو كان هذا خيراً لسبقنا إليه سلفنا الصالح، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - ما فعله، فقد قتل جعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، وزيد بن حارثة - رضي الله عنهم - في معركة مؤتة فجاءه الخبر عليه الصلاة والسلام من الوحي بذلك فنعاهم للصحابة، وأخبرهم بموتهم، وترضَّى عنهم، ودعا لهم، ولم يتخذ لهم مأتماً. وكذلك الصحابة من بعده لم يفعلوا شيئاً من ذلك، فقد مات الصديق - رضي الله عنه - ولم يتخذوا له مأتماً، وقتل عمر - رضي الله عنه - وما جعلوا له مأتماً، ولا جمعوا الناس ليقرأوا القرآن، وقُتل عثمان بعد ذلك وعلي رضي الله عنهما فما فعل الصحابة - رضي الله عنهم - لهما شيئاً من ذلك ... )) (¬3) (¬4). الأمر السادس: مشروعية التلبينة للمحزون؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أنها كانت تأمر بالتلبينة للمريض، والمحزون على الهالك، وكانت تقول: إني ¬
الواحد والعشرون: وصول ثواب القرب المهداة إلى أموات المسلمين
سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((التلبينة تُجِمُّ فؤاد المريض، وتُذهبُ ببعض الحزن)). وفي لفظ: ((أنها كانت إذا مات الميت من أهلها فاجتمع لذلك النساء ثم تفرقن - إلا أهلها وخاصتها - أمرت ببرمة من تلبينة فطبخت ثم صنع ثريد فصبت التلبينة عليها، ثم قالت: كلن منها، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((التلبينة مَجمَّةٌ لفؤاد المريض، تذهب ببعض الحزن)) (¬1). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((التَّلْبِيْنَة: طعام يُتخذ من دقيق أو نخالة وربما جعل فيها عسل، سميت بذلك لشبهها باللبن في البياض والرقة، والنافع منه ما كان رقيقاً نضيجاً لا غليظاً نيئاً ... وقوله: ((مَجَمَّة: أي مكان الاستراحة)) ورويت بضم الميم [مُجمَّةٌ] أي مريحة، والجِمام: الراحة، ((والثريد: الخبز بمرق اللحم وقد يكون معه اللحم)) (¬2). وقال ابن الأثير رحمه الله: ((التلبينة والتلبين: حساءٌ يُعمل من دقيق أو نُخالة وربما جُعل معه عسل سميت به تشبيهاً باللبن لبياضها ورقتها)) (¬3). وقال الحافظ رحمه الله: ((التلبينة: حساء كالحريرة يتخذ من دقيق أو نخالة سميت بذلك لشبهها باللبن في البياض)) (¬4). الواحد والعشرون: وصول ثواب القرب المهداة إلى أموات المسلمين، ينبغي أن ينظر في ذلك إلى أمرين: ¬
الأمر الأول: ما يلحق الميت من عمله
الأمر الأول: ما يلحق الميت من عمله؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقةٍ جاريةٍ، أو علم ينتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له)) (¬1). ويدخل في هذا الحديث حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علماً علمه ونشره، وولداً صالحاً تركه، ومصحفاً ورَّثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته، يلحقه من بعد موته)) (¬2)؛ ولحديث معاذ بن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من علَّم علماً فله أجر من عمل به، لا ينقص من أجر العامل)) (¬3). وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه -:أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: (( ... فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حُمْرُ النَّعم)) (¬4). وهذا يبين أهمية تعليم الناس الخير، ونشر العلم بينهم، قال الإمام الخطابي رحمه الله في معنى الحديث: ((لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير ¬
لك أجراً وثواباً من أن يكون لك حمر النعم، فتتصدق بها)) (¬1)، وقد ذكر القرطبي والأُبِّي والسنوسي رحمهم الله: ((إن في هذا الحديث الشريف حضّاً عظيماً على تعلم العلم وبثه في الناس، وعلى الوعظ والتذكير، ويعني أن ثواب تعليم رجل واحد وإرشاده أفضل من ثواب الصدقة بهذه الإبل النفيسة؛ لأن ثواب الصدقة بها ينقطع بموتها، وثواب العلم والهدى لا ينقطع إلى يوم القيامة)) (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من دلَّ على خير فله مثل أجر فاعله)) (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من سنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنةً فَعُمِل بها بعده كُتِبَ له مثلُ أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيءٌ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، فَعُمِلَ بها بعده، كُتِبَ عليه مثل وِزْر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيءٌ)) (¬4). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثلُ أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالةٍ كان عليه من الإثم مثلُ آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من ¬
الأمر الثاني: وصول ثواب القرب المهداة إلى أموات المسلمين
آثامهم شيئاً)) (¬1)، وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - يرفعه: ((فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم)) ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، لَيُصلُّون على مُعَلِّم الناس الخير)) (¬2). وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنه ليستغفر للعالم مَن في السموات ومَن في الأرض، حتى الحيتان في البحر)) (¬3). الأمر الثاني: وصول ثواب القرب المهداة إلى أموات المسلمين ثابت في الكتاب والسنة، لكن فيه تفصيل لأهل العلم. فَمِّما يدل على وصول ثواب الأعمال المهداة إلى أموات المسلمين من الكتاب والسنة الأدلة الآتية: 1 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (¬4). 2 - قوله - عز وجل -: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ¬
وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالله يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (¬1). 3 - وقوله تعالى عن قول نوح: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً} (¬2). 4 - وقوله تعالى عن قول إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} (¬3). 5 - وحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من مات وعليه صيام، صام عنه وليُّه)) (¬4). 6 - وحديث ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن امرأة ركبت البحر فنذرت، إن الله تبارك وتعالى أنجاها أن تصوم شهراً، فأنجاها الله - عز وجل -، فلم تصم حتى ماتت، فجاءت قَرابة لها [إما أختها أو ابنتها] إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت ذلك له، فقال: [أرأيتك لو كان عليها دين كنتِ تقضينه؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحقُّ أن يُقضى] [فـ] اقْضِ [عن أمك])) (¬5). ¬
7 - وحديث ابن عباس: ((أن سعد بن عبادة - رضي الله عنه - استفتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أمي ماتت وعليها نذر؟ فقال: ((اقضِهِ عنها)) (¬1). 8 - وحديث سعد بن الأطول - رضي الله عنه -: ((أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم، وترك عيالاً، قال: فأردت أن أُنفقها على عياله، قال: فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أخاك محبوسٌ بدينه [فاذهب] فاقضِ عنه)) [فذهبت فقضيت عنه، ثم جئت]، قال: يا رسول الله، قد قضيت عنه إلا دينارين ادَّعتهما امرأة، وليست لها بينة، قال: ((أعطِها فإنها مُحقة))، (وفي رواية: صادقة)) (¬2). 9 - وحديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه -: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على جنازة ¬
(وفي رواية: صلى الصبح)، فلما انصرف قال: ((أهاهنا من آل فلان أحد؟)) [فسكت القوم، وكان إذا ابتدأهم بشيء سكتوا] فقال ذلك مراراً [ثلاثاً لا يُجيبه أحدٌ]، [فقال رجل: هو ذا]، قال: فقام رجل يجرُّ إزاره من مؤخر الناس [فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما منعك في المرتين الأوليين أن تكون أجبتني؟] أما إني لم أنوِّه باسمك إلا لخير، إن فلاناً – لرجل منهم – مأسور بدينه [عن الجنة، فإن شئتم فافدوه، وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله]، فلو رأيت أهله ومن يتحرون أمره قاموا فقضوا عنه، [حتى ما أحدٌ يطلبه بشيء] (¬1) (¬2). 10 - وحديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: ((مات رجل، فغسلناه وكفناه وحنطناه، ووضعناه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث تُوضع الجنائز، عند مقام جبريل، ثم آذنّا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة عليه، فجاء معنا، [فتخطى] خطى، ثم قال: ((لعل على صاحبكم ديناً؟)) قالوا: نعم، ديناران، فتخلف، [قال: صلوا على صاحبكم]، فقال له رجل منا يُقال له: أبو قتادة: يا رسول الله هُما عَلَيّ، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: هما عليك وفي مالك، ¬
والميت منهما بريء؟ فقال: نعم، فصلى عليه فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لقي أبا قتادة يقول. (وفي رواية: ثم لقيه من الغد فقال:) ((ما صنعتِ الديناران؟)) [قال: يا رسول الله إنما مات أمس] حتى كان آخر ذلك (وفي الرواية الأخرى: ثم لقيه من الغد فقال: ((ما فعل الديناران؟)) قال: قد قضيتهما يا رسول الله، قال: ((الآن حين بَرَدَتْ عليه جلدُه)) (¬1) (¬2). 11 - وحديث جابر رضي الله عنهما أن أباه استشهد يوم أُحُد، وترك ست بنات، وترك عليه ديناً [ثلاثين وسْقاً]، [فاشتد الغرماء في حقوقهم]، فلما حضره جذاذ النخل، أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله قد علمت أن والدي استشهد يوم أحد، وترك عليه ديناً كثيراً، وإني أُحب أن يراك الغرماء، قال: ((اذهب فبيدر كل تمرٍ على حدة))، ففعلت، ثم دعوت، [فغدا علينا حين أصبح]، فلما نظروا إليه أغروا بي تلك الساعة، فلما رأى ما يصنعون أطاف حول أعظمها بيدراً ثلاثاً [ودعا في ثمرها بالبركة]، ثم جلس عليه، ثم قال: ((ادعُ أصحابك))، فما زال يكيل لهم، حتى أدى الله أمانة والدي (¬3)، وأنا والله راض أن يؤدي الله أمانة والدي، ولا أرجع إلى أخواتي بتمرة، فسلمت والله البيادر كلها حتى إني أنظر إلى البيدر الذي عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأنه لم ينقص تمرة واحدة، [فوافيت مع رسول ¬
الله - صلى الله عليه وسلم - المغرب، فذكرت ذلك له فضحك، فقال: ((ائت أبا بكر وعمر فأخبرهما))، فقالا: لقد علمنا إذ صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما صنع أن سيكون ذلك)) (¬1). 12 - وحديث جابر - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم فيخطب، فيحمد الله، ويُثني عليه بما هو أهل له، ويقول: ((من يهده الله فلا مضل له، ومَن يضلل فلا هادي له، إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، [وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار]، وكان إذا ذكر الساعة احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، كأنه منذر جيش [يقول:] صبحكم ومساكم، من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك ضياعاً (¬2) أو ديناً فعليَّ، وإليَّ، وأنا [أ] ولى [بـ] المؤمنين (وفي رواية: بكل مؤمن من نفسه)) (¬3). ¬
13 - وحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من حَمَل من أمتي ديناً، ثم جهد في قضائه فمات ولم يقضه فأنا وليه)) (¬1). 14 - ومما يلحقه ما يفعله الولد الصالح من الأعمال الصالحة، فإن لوالديه مثل أجره دون أن ينقص من أجره شيء؛ لأن الولد من سعيهما وكسبهما، والله - عز وجل - يقول: {وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى} (¬2)، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإنّ ولده من كسبه)) (¬3). 15 - وحديث عائشة رضي الله عنها: ((أن رجلاً قال: إن أمي افتلتت (¬4) نفسها [ولم تُوصِ]، وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجرٌ إن تصدقتُ عنها [ولي أجر]؟ قال: نعم، [فتصدَّق عنها])) (¬5). ¬
16 - وحديث ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن سعد بن عبادة – أخا بني ساعدة – توفيت أمه وهو غائب عنها، فقال: يا رسول الله إن أمي توفيت، وأنا غائب عنها، فهل ينفعها إن تصدقت بشيء عنها؟ قال: نعم، قال: فإني أشهدك أن حائطي المخراف (¬1) صدقةٌ عليها)) (¬2). 17 - وحديث سعد بن عبادة قال: قلت يا رسول الله: إن أمي ماتت، أفأتصدق عنها؟ قال: ((نعم)) قلت: فأي صدقة أفضل؟ قال: ((سقي الماء)) فتلك سقاية سعد بالمدينة (¬3). 18 - وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن أبي مات ¬
وترك مالاً ولم يُوصِ فهل يُكفِّر عنه أن أتصدق عنه؟ قال: نعم)) (¬1). 19 - وحديث عبد الله بن عمرو: ((أن العاص بن وائل السهمي أوصى أن يُعتق عنه مائة رقبة، فأعتق ابنه هشام خمسين رقبة، وأراد ابنه عمرو أن يعتق عنه الخمسين الباقية، قال: حتى أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن أبي أوصى أن يُعتق عنه مائة رقبة، وإن هشاماً أعتق عنه خمسين، وبقيت عليه خمسون، أفأعتق عنه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنه لو كان مسلماً فأعتقتم أو تصدقتم عنه، أو حججتم عنه بلغه ذلك، (وفي رواية): فلو كان أقرّ بالتوحيد فصُمت وتصدقت عنه نفعه ذلك)) (¬2). 20 - وحديث الشِّرِّيد بن سويد الثقفي قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إن أمي أوصت أن تعتق عنها رقبة، وإن عندي جارية نوبية أفيجزئ عني أن أعتقها عنها؟ قال: ((ائتني بها)) فأتيته بها فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن ربك؟)) قالت: الله، قال: ((مَن أنا؟)) قالت: أنت رسول الله، قال: ((اعتقها فإنها مؤمنة)) (¬3). 21 - وحديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة من خثعم قالت: يا ¬
رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: ((نعم)) وذلك في حجة الوداع. وفي رواية لمسلم: ((فحجي عنه)) (¬1). 22 - حديث أبي رزين أنه قال: يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج، ولا العمرة، ولا الظعن، قال: ((فحج عن أبيك واعتمر)) (¬2). 23 - وحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: أمرت امرأة سنان بن عبد الله الجهني أن يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أمها ماتت ولم تحج أفيجزئ عن أمها أن تحج عنها؟ قال: ((نعم، لو كان على أمها دين فقضته عنها أكان يجزئ عنها؟)) قال: نعم، قال: ((فلتحج عن أمها)) (¬3). 24 - وحديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فماتت قبل أن تحج أفأحج عنها؟ قال: ¬
((نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟)) قالت: نعم. قال: ((اقضوا الله فالله أحق بالوفاء)) (¬1). وفي رواية: ((فاقضوا الله الذي له؛ فإن الله أحق بالوفاء)) (¬2). وفي رواية: أن رجلاً قال: إن أختي نذرت أن تحج وإنها ماتت فقال: ((فاقض الله فهو أحق بالقضاء)) (¬3). 25 - وحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من شبرمة؟)) قال: أخ لي أو قريبٌ لي، قال: ((حججت عن نفسك؟)) قال: لا. قال: ((حج عن نفسك ثم عن شبرمة)) (¬4). 26 - وحديث عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يضحي اشترى كبشين، عظيمين، سمينين، أقرنين، أملحين، موجوءين، فذبح أحدهما عن أمته، لمن شهد لله بالتوحيد وشهد له بالبلاغ، وذبح الآخر عن محمد وعن آل محمد - صلى الله عليه وسلم -)) (¬5). ¬
27 - وحديث أبي رافع - رضي الله عنه - قال: ((ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكبشين، أملحين، موجبين (¬1)، خصيين، فقال: أحدهما لمن شهد بالتوحيد، وله بالبلاغ، والآخر عنه وعن أهل بيته، قال: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كفانا))، وفي رواية لأحمد: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ضحى اشترى كبشين، سمينين، أقرنين، أملحين، فإذا صلى وخطب الناس أتي بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية ثم يقول: ((اللهم إن هذا عن أمتي جميعاً ممن شهد لك بالوحدانية، وشهد لي بالبلاغ))، ثم يؤتى بالآخر فيذبحه بنفسه ويقول: ((هذا عن محمد وآل محمد))، فيطعمها جميعاً المساكين، ويأكل هو وأهله منهما، فمكثنا سنين ليس رجل من بني هاشم يضحي قد كفاه الله المؤنة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والغُرْمَ)) (¬2). قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((وأيُّ قربة فعلها، وجعل ثوابها للميت المسلم نفعه ذلك، إن شاء الله، أما الدعاء، والاستغفار، والصدقة، وأداء الواجبات فلا أعلم فيه خلافاً، إذا كانت الواجبات مما تدخله النيابة، وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (¬3)، وقال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالله يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (¬4)، ودعا ¬
النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي سلمة حين مات (¬1)، وللميت الذي صلى عليه في حديث عوف بن مالك (¬2)، ولكل ميت صلى عليه، ولذي النجادين حين دفنه (¬3)، وشرع الله ذلك لكل من صلى على ميت، وسأل رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت، فينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: ((نعم)) رواه أبو داود (¬4)، وروي ذلك عن سعد بن عبادة (¬5)، وجاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: ((أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته؟)) قالت: نعم، قال: ((فدين الله أحق أن يُقضى)) (¬6) وقال للذي سأله: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأصوم عنها؟ قال: ((نعم)) (¬7)، وهذه أحاديث صحاح، وفيها دلالة على انتفاع الميت بسائر القرب؛ لأن الصوم، والحج، والدعاء، والاستغفار عبادات بدنية، وقد أوصل الله نفعها إلى الميت، فكذلك ما سواها ... وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعمرو بن العاص: ((لو كان أبوك مسلماً فأعتقتم عنه، أو تصدقتم عنه، أو حججتم ¬
عنه بلغه ذلك)) (¬1). وهذا عام في حج التطوع وغيره؛ ولأنه عمل برٍّ وطاعةٍ، فوصل نفعه وثوابه، كالصدقة، والصيام، والحج الواجب ... )) (¬2)، ثم رد رحمه الله على من قال: لا يصل إلى الميت إلا الواجب، والصدقة، والدعاء، والاستغفار، وبين أن المسلمين يهدون الثواب إلى أمواتهم من غير نكير؛ ولأن الحديث صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه)) (¬3)، والله أكرم من أن يوصل عقوبة المعصية إليه ويحجب عنه المثوبة؛ ولأن الموصل لثواب ما سلموه، قادر على إيصال ثواب ما منعوه، والآية مخصوصة بما سلموه {وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى} وما اختلفنا فيه في معناه فنقيسه عليه (¬4)، وقال: ولا حجة لهم في الخبر الذي احتجوا به ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة)) فإنما يدل على انقطاع عمله، وليس هذا من عمله فلا دلالة فيه عليه ... )) (¬5). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((الصحيح أنه ينتفع الميت بجميع العبادات البدنية: من الصلاة، والصوم، والقراءة، كما ينتفع بالعبادات المالية: من الصدقة، والعتق، ونحوها باتفاق الأئمة ... )) (¬6). وبين الإمام ابن القيم رحمه الله أن أرواح الموتى تنتفع من سعي ¬
الأحياء بأمرين: الأمر الأول: ما تسبب إليه الميت في حياته. الأمر الثاني: دعاء المسلمين له، واستغفارهم، والصدقة، والحج ... واختلفوا في العبادات البدنية: كالصوم، والصلاة، وقراءة القرآن، والذكر، فذهب الإمام أحمد وجمهور السلف إلى وصولها وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة ثم قال: ((والدليل على انتفاعه بغير ما تسبب فيه: القرآن، والسنة، والإجماع، وقواعد الشرع)) (¬1) ثم ساق رحمه الله الأدلة على وصول ثواب الدعاء للميت، ووصول ثواب الصدقة، والصوم، والحج، ورد على المخالفين في ذلك، ثم قال: ((هذه النصوص متظاهرة على وصول ثواب الأعمال إلى الميت إذا فعلها الحي عنه وهذا محض القياس؛ فإن الثواب حق للعامل فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يُمنع من ذلك، كما لم يُمنع من هبة ماله في حياته وإبرائه له من بعد موته)) (¬2). وقال في الروض: ((وأيُّ قربة: من دعاء، واستغفار، وصلاة، وصوم، وحج، وقراءة وغير ذلك فعلها مسلم وجعل ثوابها لميت مسلم أو حي نفعه ذلك)) (¬3) (¬4)، قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: ((لكن بشرط أن ¬
أربعة أنواع من العبادات تصل إلى الميت بالإجماع وهي:
يكون المحجوج عنه [أي الحي] عاجزاً عجزاً لا يرجى زواله)) (¬1). وقال: ((هناك أربعة أنواع من العبادات تصل إلى الميت بالإجماع وهي: الأول: الدعاء. الثاني: الواجب الذي تدخله النيابة. الثالث: الصدقة. الرابع: العتق، وما عدا ذلك فإنه موضع خلاف بين أهل العلم، فمن العلماء من يقول: إن الميت لا ينتفع بثواب الأعمال الصالحة إذا أهدي له غير هذه الأمور الأربعة، ولكن الصواب أن الميت ينتفع بكل عمل صالح جُعِلَ له إذا كان الميت مؤمناً ... )) (¬2)، ثم قال: أما قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى} (¬3) المراد والله أعلم: أن الإنسان لا يستحق من سعي غيره شيئاً، كما لا يحمل من وزر غيره شيئاً، وليس المراد أنه لا يصل إليه ثواب سعي غيره كثرة النصوص الواردة في وصول ثواب سعي الغير إلى غيره وانتفاعه به إذا قصده به)) (¬4)، ثم ساق رحمه الله تعالى الأدلة على وصول ثواب: الدعاء، والصدقة عن الميت، والصيام، والحج، والأضحية، ثم رد على من خصص ذلك بالولد، وبين أنه قد جاء ما يدل على جواز الحج عن الغير حتى من غير الولد، وذلك أنه سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من شبرمة؟)) قال: ¬
أخ لي أو قريب لي، قال: ((أحججت عن نفسك؟)) قال: لا. قال: ((حج عن نفسك ثم عن شبرمة)) (¬1) (¬2). وبين أنه يجوز أن يحج عن الميت الفرض والنفل لهذا الحديث؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل هذا الرجل عن حجه عن شبرمة هل نفل أو فرض؟ وهل كان شبرمة حيًّا أو ميتاً، قالوا: وإذا جاز أن يحج عن الميت الفرض بالنص الصحيح الصريح فما المانع من النفل؟ (¬3). وذكر شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله: أن الميت تصل إليه الصدقة، والدعاء، والاستغفار، والحج، والعمرة، وقضاء الدين (¬4). ويرجح رحمه الله أنه يقتصر على ما ورد به النص في وصول ثوابه إلى الميت؛ لأن العبادات توقيفية لا يجوز منها إلا ما دل عليه الشرع (¬5). وبين أن الصدقة تنفع الحي والميت، والدعاء، والحج، والعمرة، لكن الحي يحج عنه ويعتمر إذا كان عاجزاً. وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول: ((هذه الأحاديث تدل على انتفاع الميت بالقربات: من الصدقات، والحج، والصوم، والدعاء، وغير ذلك، فهذا كله ينتفع به المسلم، أما غير المسلم فلا يدعى له، ولا يتصدق ¬
عنه، والأقرب والله أعلم أن قراءة القرآن عن الميت، والصلاة عنه لا تفعل عنه؛ لأن العبادات توقيفية، وإنما يقتصر على ما شرع الله: كالدعاء، والحج، والعمرة، والصدقة، والصوم وغير ذلك)) (¬1). وما ذهب إليه شيخنا ابن باز رحمه الله تعالى: هو أرجح وأن العبادات توقيفية، وقد جاءت الأدلة في إهداء ثواب: - الدعاء. - والحج: الفرض والنفل. - والعمرة: الفرض والنفل. - والصدقة مطلقاً. - والصوم: الفرض، والنفل كذلك. - والعتق. - والواجبات على الميت: كالنذور، والكفارات، وغير ذلك من العبادات التي جاء بها النص، والله - عز وجل - أعلم (¬2). ¬
الثاني والعشرون: زيارة القبور
الثاني والعشرون: زيارة القبور، يراعى فيها الأمور الآتية: الأمر الأول: مشروعية زيارة القبور للرجال؛ لحديث بريدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)) زاد الترمذي: ((فإنها تذكركم الآخرة))، وعند أبي داود: ((فإن في زيارتها تذكرة)). ولفظ النسائي: ((نهيتكم عن زيارة القبور، فمن أراد أن يزور فليزر، ولا تقولوا هُجراً)) (¬1). وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إني نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإن فيها عبرة [ولا تقولوا ما يسخط الرب])) (¬2). وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها فإنها ترق القلب وتدمعُ العين، وتذكر الآخرة، ولا تقولوا هُجراً)) (¬3) (¬4). وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يقول: ((وفي لفظ: تُذكِّر الآخرة، وفي لفظ: تزهِّد في الدنيا، والحديث جمع بين الناسخ والمنسوخ، والنهي كان أولاً؛ لأنهم كانوا حدثاء عهد بكفر وشرك، وتعلق بالقبور، ثم شرع الله الزيارة بعد ذلك؛ لأنها تذكر الآخرة، ويدعى للأموات ¬
الأمر الثاني: زيارة الرجال للقبور بدون سفر
فيها)) (¬1). الأمر الثاني: زيارة الرجال للقبور بدون سفر؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تُشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى)) (¬2). فدخل في هذا النهي شدّ الرحال لزيارة القبور والمشاهد، وهو الذي فهمه الصحابة - رضي الله عنهم - من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا عندما ذهب أبو هريرة - رضي الله عنه - إلى الطور، فلقيه بصرة بن أبي بصرة الغفاري، فقال: من أين جئت؟ قال: من الطور. فقال: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت إليه، سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد ... )) (¬3). ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((وقد اتفق الأئمة على أنه لو نذر أن يسافر إلى قبره - صلى الله عليه وسلم - أو غيره من الأنبياء والصالحين لم يكن عليه أن يوفي بنذره، بل ينهى عن ذلك)) (¬4). الأمر الثالث: الزيارة للقبور للرجال دون النساء؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((لعن زوَّارات القبور)) (¬5). ¬
وعن حسان بن ثابت - رضي الله عنه - قال: ((لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوَّارات القبور)) (¬1). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوَّارات القبور)) (¬2). وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يقول: ((وهذه الأحاديث الثلاثة (¬3) تدل على عدم زيارة النساء للقبور، وأما حديث عائشة رضي الله عنهما أنها قالت: يا رسول الله: ما أقول عند زيارة القبور، فقال: ((قولي السلام عليكم ... )) الحديث، فهذا والله أعلم كان قبل نهي النساء؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن زيارة القبور ثم أذن مطلقاً: أي للرجال والنساء، ثم جاء نهي النساء عن زيارة القبور)) (¬4). وذكر العلامة ابن عثيمين رحمه الله أن زيارة عائشة رضي الله عنها لقبر أخيها (¬5) اجتهاد منها رضي الله عنها، وأن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعارض بقول أحد كائناً من كان، وأن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة رضي الله عنها: ((قولي السلام عليكم ¬
دار قوم مؤمنين)) (¬1)، يدل على أن المرأة إذا مرت بدون قصد على المقبرة فلا حرج أن تسلم على أهل القبور وتدعو لهم؛ فإنه يفرق بين خروجها من أجل الزيارة، ومرورها من غير قصد للزيارة، وأما لفظ: ((لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوَّارات القبور)) بصيغة المبالغة، ولفظ: ((لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور))، فإن كان لفظ: ((زوَّارات)) للنسبة فلا إشكال، وإن كان للمبالغة، فإن لفظ زائرات فيه زيادة علم فيؤخذ به؛ لأن ((زائرات)) يصدق بزيارة واحدة، و ((زوَّارات)) في الكثير للمبالغة، ومعلوم أن الوعيد إذا جاء معلقاً بزيارة واحدة ومعلقاً بزيارات متعددة، فإن مع المعلق بزيارة واحدة زيادة علم؛ لأنه يلحق الوعيد على من زار مرة واحدة على لفظ ((زائرات)) دون لفظ: ((زوَّارات))، ولو أخذنا بلفظ ((زوَّارات)) ألغينا دلالة ((زائرات))، وقد تكلم شيخ الإسلام رحمه الله على هذه المسألة كلاماً جيداًً (¬2) (¬3). قال شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله: ((الصحيح أن زيارة النساء للقبور لا تجوز))، ثم قال: ((فالصواب أن الزيارة من النساء للقبور محرمة لا مكروهة فقط ... )) (¬4)، أما حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي قال فيه للمرأة التي وجدها تبكي على صبي لها فقال لها: ((اتقي الله واصبري)) (¬5) حينما وجدها عند القبر فرجح شيخنا ابن باز رحمه الله أن هذا لعله كان في ¬
الأمر الرابع: الزيارة لأهل القبور أنواع على النحو الآتي:
وقت الإذن العام منه - صلى الله عليه وسلم - للرجال والنساء في الزيارة؛ لأن أحاديث النهي عن الزيارة للنساء محكمة ناسخة لما قبلها)) (¬1). الأمر الرابع: الزيارة لأهل القبور أنواع على النحو الآتي: النوع الأول: زيارة شرعية يقصد بها ما يأتي: 1 - السلام على الموتى والدعاء لهم، والترحم عليهم؛ فقد انقطعت أعمالهم. 2 - تذكر الموت، والآخرة، وحصول رقة القلب ودمع العين. 3 - إحياء سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه زار القبور وأمر بزيارتها. النوع الثاني: زيارة بدعية وشركية (¬2)، وهذا النوع ثلاثة أنواع: 1 - من يسأل الميت حاجته، وهؤلاء من جنس عُبَّاد الأصنام، ويخرجون من الإسلام. 2 - من يسأل الله تعالى بالميت، كمن يقول: أتوسل إليك بنبيك، أو بحق الشيخ فلان، وهذا من البدع المحدثة في الإسلام، ولا يصل إلى الشرك الأكبر، فهو لا يُخرج عن الإسلام، كما يخرج الأول. 3 - من يظن أن الدعاء عند القبور مُستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد، وهذا من المنكرات بالإجماع (¬3). قال الإمام ابن القيم رحمه الله في مشروعية زيارة القبور: ((وكان هديه ¬
الأمر الخامس: جواز زيارة قبور المشركين للعبرة والعظة
- صلى الله عليه وسلم - أن يقول ويفعل عند زيارتها، من جنس ما يقوله عند الصلاة على الميت: من الدعاء، والترحم، والاستغفار، فأبى المشركون إلا دعاء الميت، والإشراك به، والإقسام على الله به، وسؤاله الحوائج، والاستعانة به والتوجه إليه، بعكس هديه - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه هدي توحيد وإحسان إلى الميت، وهدي هؤلاء شرك وإساءة إلى نفوسهم وإلى الميت، وهم ثلاثة أقسام: إما أن يدعو الميت، أو يدعو به، أو عنده، ويرون الدعاء عنده أوجب وأولى من الدعاء في المساجد، ومن تأمل هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه تبين له الفرق بين الأمرين وبالله التوفيق)) (¬1). الأمر الخامس: جواز زيارة قبور المشركين للعبرة والعظة فقط؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي)) وفي لفظ: ((زار - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور؛ فإنها تذكركم الموت)) (¬2). وقد نهى الله - عز وجل - عن الاستغفار للمشركين والدعاء لهم، وعن الصلاة عليهم (¬3)، فلا يجوز للمسلم أن يدعو لهم، ولا يستغفر لهم، وإنما إذا زار قبورهم فللتذكر والاعتبار وتذكر الموت. الأمر السادس: كيفية السلام على أهل القبور من المسلمين على النحو ¬
الآتي: 1 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من بيتها في ليلتها حتى جاء البقيع، فقام فأطال القيام ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم رجع إليها وأخبرها أن الله أمره أن يأتي أهل البقيع فيستغفر لهم، قالت قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله! قال قولي: ((السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بهم لاحقون))، وفي لفظ: قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلما كان ليلتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: ((السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون، غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد)) (¬1). 2 - وفي حديث بريدة عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر فكان قائلهم يقول: ((السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، [أنتم لنا فرط ونحن لكم تبع] أسأل الله لنا ولكم العافية)) وفي لفظ: ((السلام على أهل الديار)) (¬2). 3 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقبور المدينة ¬
فأقبل عليهم بوجهه فقال: ((السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر)) (¬1). وهل يستقبل الزائر وجه الميت أثناء السلام عليه كما في هذا الحديث؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((ومذهب الأئمة: مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وغيرهم من أئمة الإسلام أن الرجل إذا سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأراد أن يدعو لنفسه، فإنه يستقبل القبلة، واختلفوا في وقت السلام عليه: فقال الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد: يستقبل الحجرة ويسلم عليه من تلقاء وجهه، وقال أبو حنيفة: لا يستقبل الحجرة وقت السلام كما لا يستقبلها وقت الدعاء، ثم في مذهبه قولان: قيل: يستدبر الحجرة، وقيل: يجعلها عن يساره)) (¬2) (¬3). 4 - وهل يسمع أهل القبور سلام من يسلم عليهم أثناء زيارتهم؟ هذه مسألة اختلف أهل العلم فيها، وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية، ¬
الأمر السابع: زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - على النحو الآتي:
وتلميذه ابن القيم، والإمام ابن كثير في تفسيره، والعلامة الشنقيطي في أضواء البيان: أن الأموات يسمعون سلام الزائر لهم، ويرد الله عليهم أرواحهم حتى يردوا عليه السلام (¬1). قال الإمام ابن كثير رحمه الله: ((والصحيح عند العلماء رواية عبد الله بن عمر لما لها من الشواهد على صحتها من وجوهٍ كثيرة من أشهر ذلك ما رواه ابن عبد البر مصححاً له عن ابن عباس مرفوعاًً: ((ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام)) ثم ذكر آثاراً كثيرة جداً عن الصحابة - رضي الله عنهم -، وعن التابعين رحمهم الله، والله تعالى أعلم (¬2). الأمر السابع: زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - على النحو الآتي: 1 - تستحب زيارة مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي مشروعة في أي وقت، وفي أي زمان، وليس لها وقت محدد، وليست من أعمال الحج، ولا يجوز شدُّ الرحال والسفر من أجل زيارة القبر؛ فإن شدَّ الرحال على وجه التعبد لا يكون لزيارة القبور، وإنما يكون للمساجد الثلاثة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تُشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد ¬
2 - إذا دخل المسجد النبوي الشريف استحب له أن يقدم رجله اليمنى
الأقصى)) (¬1)، فالبعيد عن المدينة ليس له شد الرحال بقصد زيارة القبر، ولكن يشرع له شد الرحال بقصد زيارة المسجد النبوي الشريف، فإذا وصله زار قبره - صلى الله عليه وسلم - وقبور أصحابه، فدخلت الزيارة لقبره تبعاً لزيارة مسجده - صلى الله عليه وسلم -؛ لما في زيارة المسجد من الثواب العظيم. قال - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)) (¬2)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه)) (¬3). 2 – إذا دخل المسجد النبوي الشريف استحب له أن يُقدِّم رجله اليمنى عند دخوله ويقول: ((أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم. بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم افتح لي أبواب رحمتك)) (¬4)، كما يقول ذلك عند دخول سائر المساجد. 3 – يصلي ركعتين تحية المسجد، أو يصلي ما شاء، ويدعو في صلاته بما شاء، والأفضل أن يفعل ذلك في الروضة الشريفة، وهي ما بين منبر ¬
4 - ثم بعد الصلاة إن أراد زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف أمام قبره
النبي - صلى الله عليه وسلم - وحجرته؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي)) (¬1). أما صلاة الفريضة فيبنغي للزائر وغيره أن يحافظ عليها في الصف الأول. 4 – ثم بعد الصلاة إن أراد زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف أمام قبره: بأدب، ووقار، وخفض الصوت، ثم يسلم عليه - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: ((السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، اللهم صَلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد)).أو يقول: ((السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته))؛لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من أحدٍ يسلم عليَّ إلا ردَّ الله عليَّ روحي حتى أردَّ عليه السلام)) (¬2)، وإن قال: أشهد أنك رسول الله حقًّا، وأنك قد بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، وجاهدت في الله حق جهاده، ونصحت الأمة، فجزاك الله عن أمتك أفضل ما جزى نبيًّا عن أمته. فلا بأس؛ لأن هذا كله من أوصافه - صلى الله عليه وسلم -. 5 – ثم يأخذ ذات اليمين قليلاً فيسلّم على أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، ويدعو له بما يناسبه، ثم يأخذ ذات اليمين قليلاً أيضاً فيسلّم على عمر بن الخطاب، ويترضى عنه، ويدعو له، وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا سلَّم على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه لا يزيد غالباً على قوله: السلام عليك يا رسول ¬
6 - يستحب لزائر المدينة أثناء وجوده بها
الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه، ثم ينصرف (¬1). ولا يجوز لأحد أن يتقرب إلى الله بمسح الحجرة، أو الطواف بها، ولا يسأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - قضاء حاجته، أو شفاء مريضه، ونحو ذلك؛ لأن ذلك كله لا يطلب إلا من الله وحده. والمرأة لا تزور قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا قبر غيره؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لعن زوَّارات القبور (¬2). لكن تزور المسجد، وتتعبد لله فيه رغبة فيما فيه من مضاعفة الصلاة، وتسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي في مكانها فيبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي في أي مكان كانت؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراًًً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلُّوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام)) (¬4). 6 – يستحب لزائر المدينة أثناء وجوده بها أن يزور مسجد قباء ويصلي فيه؛ ((لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأتيه راكباً وماشياً ويصلي فيه ركعتين)) (¬5)، وعن سهل بن حنيف قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من تطهر في بيته ثم أتى مسجد ¬
7 - ويسن للرجال زيارة قبور البقيع
قباء فصلى فيه صلاة كان له كأجر عمرة)) (¬1)، وقال أسيد بن ظهير الأنصاري - رضي الله عنه - يرفعه: ((صلاة في مسجد قباء كعمرة)) (¬2). 7 – ويسن للرجال زيارة قبور البقيع – وهي مقبرة المدينة – وقبور الشهداء، وقبر حمزة - رضي الله عنهم -؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يزورهم ويدعو لهم؛ ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((زوروا القبور فإنها تذكركم بالموت)) (¬3). ويقول إذا زارهم: ((السلام عليكم أهل الديار، من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون [ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين] نسأل الله لنا ولكم العافية)) (¬4). ولاشك أن المقصود بزيارة القبور هو تذكر الآخرة والإحسان إلى الأموات بالدعاء لهم، واتباع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذه هي الزيارة الشرعية. وأما زيارتهم لقصد الدعاء عند قبورهم، أو سؤالهم قضاء الحاجات، أو شفاء المرضى، أو سؤال الله بهم، أو بجاههم، ونحو ذلك فهذه زيارة بدعية منكرة لم يشرعها الله ولا رسوله، ولا فعلها السلف الصالح. ¬
الثالث والعشرون: الإحداد
وبعض هذه الأمور المذكورة بدعة وليس بشرك: كدعاء الله عند القبور، وسؤال الله بحق الميت، أو جاهه، ونحو ذلك. وبعضها بدعة من الشرك الأكبر: كدعاء الموتى، والاستعانة بهم، وسؤالهم النصر، أو المدد. فتنبه واحذر واسأل ربك التوفيق والهداية للحق فهو سبحانه الموفق، والهادي، لا إله غيره، ولا رب سواه (¬1). الثالث والعشرون: الإحداد ينبغي أن يراعى في الإحداد الأمور الآتية: الأمر الأول: مفهوم الإحداد: الإحداد لغة: مأخوذ من حَدَّ: الحاء والدال أصلان: الأول: المنع، والثاني طرف الشيء، فالحد الحاجز بين الشيئين، وفلان محدود: إذا كان ممنوعاً، ويقال: حدَّت المرأة على زوجها وأحدّت، وذلك إذا منعت نفسها الزينة والخضاب (¬2). وقيل: إحداد المرأة على زوجها: ترك الزينة، وقيل: هو إذا حزنت عليه ولبست ثياب الحزن وتركت الزينة والخضاب (¬3). والحادُّ والمحِدُّ: تاركة الزينة للعدة (¬4)، قال ابن الأثير رحمه الله: ¬
الإحداد شرعا:
((أحدت المرأة على زوجها تحِدُّ، فهي محِدُّ، وحَدَّت تَحُدَّ وتحِدُّ فهي حادٌّ: إذا حزنت عليه ولبست ثياب الحزن وتركت الزينة)) (¬1). فعُلِمَ أن الإحداد لغة: منع المرأة نفسها عن الزينة، والخضاب، وما نُهِيت عنه، إظهاراً للحزن. الإحداد شرعاً: قيل: الإحداد: اجتناب الزينة، والطيب، والتحسين. وقيل: اجتناب ما يدعو إلى جماعها، ويرغب في النظر فيها من الزينة والطيب، والتحسين، والحناء، والحلي والكحل. وقيل: ترك زينة، وطيب، ولبس حلي، وتحسين بحناء، وكحل بأسود. وقيل: اجتناب الزينة وما يدعو إلى المباشرة (¬2). وقيل: تربّصٌ تجتنب فيه المرأة ما يدعو إلى جماعها، أو يرغب في النظر إليها من الزينة وما في معناها مدة مخصوصة في أحوال مخصوصة (¬3). والمختار: ((تربُّصٌ تمتنع فيه المرأة عن كل ما يرغب في النظر إليها، مدة مخصوصة، في أحوال مخصوصة، في مكان مخصوص)). أو يقال: ((تربُّصٌّ تمتنع فيه المرأة عن الزينة، والطيب، والحلي، مدة مخصوصة، في أحوال مخصوصة، في مكان مخصوص)). الأمر الثاني حكم الإحداد الشرعي: الإحداد الشرعي نوعان: ¬
النوع الأول: الإحداد في عدة الوفاة
النوع الأول: الإحداد في عدة الوفاة: يجب على الزوجة مدة عدة الوفاة؛ لحديث أم عطية رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تُحِدُّ امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً، ولا تلبس ثوباً مصبوغاً، إلا ثوب عَصْبٍ، ولا تكتحل، ولا تمسّ طيباً إلا إذا طهرت نبذة من قُسْطٍ أو أظفار)) (¬1)، زاد أبو داود: ((ولا تختضب)) (¬2). وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاثٍ إلا على زوجها)) (¬3). قال الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: ((ولا نعلم بين أهل العلم خلافاً في وجوبه على المتوفى عنها زوجها إلا عن الحسن؛ فإنه قال: لا يجب الإحداد، وهو قول شذ به عن أهل العلم وخالف به السنة، فلا يعرج عليه)) (¬4). قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((وأجمعت الأمة على وجوبه على المتوفَّى عنها زوجها إلا ما حُكي عن الحسن والحكم بن عتبة ... )) (¬5). النوع الثاني: حكم إحداد المرأة على غير زوجها: اتفق العلماء رحمهم الله تعالى على جواز إحداد المرأة على غير زوجها ثلاثة أيام؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على ¬
الأمر الثالث: مدة الإحداد نوعان:
زوج أربعة أشهر وعشراً)) (¬1). وهذا يبين أن الإحداد على الزوج واجب وعزيمة، وعلى غير الزوج جائز ورخصة؛ لكن لا يجوز للمرأة أن تزيد على ثلاثة أيام على غير الزوج، وظاهر الأحاديث جواز إحداد المرأة على كل ميت ثلاثة أيام فأقل - غير الزوج، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((فإن الإحداد على الزوج واجب وعلى غيره جائز))، وقال: ((فالإحداد على الزوج عزيمة وعلى غيره رخصة)) (¬2). وقال العيني رحمه الله: ((قال ابن بطال: أجمع العلماء على أن من مات أبوها أو ابنها، وكانت ذات زوج وطالبها زوجها في الثلاثة أيام التي أبيح لها الإحداد فيها أنه يُقضى له عليها بالجماع فيها)) (¬3). الأمر الثالث: مدة الإحداد نوعان: النوع الأول: مدة الإحداد على الزوج قسمان: القسم الأول: عدة المرأة الحائل وهي غير الحامل، أربعة أشهر وعشراً؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا ¬
فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (¬1)؛ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً)) (¬2). والحائل إما أن تكون مدخولاً بها أو غير مدخول بها وكلا الصنفين عدته من الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيام؛ لعموم الآية، فظاهر الآية والحديث يشملهما فلا فرق بينهما، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((وأما عدة الوفاة فتجب بالموت سواء دخل بها أو لم يدخل اتفاقاً كما دل عليه عموم القرآن والسنة)) (¬3)؛ لحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - في عدة غير المدخول بها عند وفاة الزوج، أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقاً ولم يدخل بها حتى مات، فقال ابن مسعود: ((لها مثل صداق نسائها لا وكس ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث))، فقام معقل بن سنان - رضي الله عنه - فقال: ((قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بروع بنت واشق امرأة منا: مثل الذي قضيت))، ففرح بها ابن مسعود - رضي الله عنه -)) (¬4). قال ابن المنذر رحمه الله: ((وأجمعوا أن عدة الحرة المسلمة التي ليست بحامل من وفاة زوجها أربعة أشهر وعشراً، مدخولاً بها أو غير ¬
مدخول، صغيرة لم تبلغ أو كبيرة قد بلغت)) (¬1). القسم الثاني: عدة المرأة الحامل: أجلها أن تضع حملها، ولو بعد الوفاة بوقت يسير، قال ابن المنذر رحمه الله: ((وأجمعوا أنها لو كانت حاملاً لا تعلم بوفاة زوجها أو طلاقه فوضعت حملها أن عدتها منقضية)) (¬2)، وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((وأجمعوا أيضاً على أن المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملاً أجلها وضع حملها، إلا ابن عباس، وروي عن علي من وجه منقطع أنها تعتد بأقصى الأجلين، وقاله أبو السنابل بن بعكك في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - فردَّ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله، وقد روي أن ابن عباس رجع إلى قول الجماعة لما بلغه حديث سبيعة)) (¬3). قال الله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (¬4). فدلت الآية على أن كل حامل أجلها وضع الحمل؛ ولما روت سبيعة بنت الحارث الأسلمية رضي الله عنها أنها كانت تحت سعد بن خولة وتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلَّت من نفاسها تجملت للخطاب فدخل عليها أبو السنابل بن بعككٍ فقال لها: ما لي أراك متجملة؟ لعلك ترجين النكاح؟ إنك والله ما أنت بناكح حتى تمرَّ عليك أربعة أشهر وعشر، قالت: سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت عليًّ ثيابي حين أمسيت ¬
الأمر الرابع: الحكمة من الإحداد
فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألته عن ذلك؟ فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزوج إن بدا لي))، قال ابن شهاب: فلا أرى بأساً أن تتزوج حين وضعت وإن كانت في دمها، غير أنه لا يقربها زوجها حتى تطهر (¬1). الأمر الرابع: الحكمة من الإحداد: يجب على كل مسلم أن ينقاد لشرع الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإن عرف الحكمة فزيادة علم وحكمة، وإن حُجبت عنه فلا يُسأل عنها، وإنما يلزمه العمل بما أمر والابتعاد عما نهي عنه. وقد ذكر بعض أهل العلم بعض الحكم من حكمة الإحداد، ومنها على سبيل الإيجاز: 1 - تعظيم أمر الله والعمل بما يرضيه تعالى. 2 - تعظيم حق الزوج وحفظ عشرته. 3 - أهمية عقد النكاح ورفع قدره. 4 - تطييب نفس أقارب الزوج ومراعاة شعورهم. 5 - سد ذريعة تطلع المرأة للنكاح في هذه المدة وتطلع الرجال إليها. 6 - الإحداد من مكملات عدة الوفاة ومقتضياتها. 7 - تألم على فوات نعمة النكاح الجامعة بين خيري الدنيا والآخرة. 8 - موافقة الطباع البشرية؛ فإن النفس تتفاعل مع المصائب فأباح الله لها حدًّا تستطيع من خلاله التعبير عن مشاعر الحزن والألم بالمصاب مع الرضا التام بما قضى الله - عز وجل - وقدر، والصبر على أقدار الله المؤلمة، والرغبة ¬
الأمر الخامس: يلزم الحادة على زوجها ستة أحكام على النحو الآتي:
فيما عنده سبحانه من الأجر لمن صبر واحتسب، وانتظار ما وعد الله سبحانه من الخير لمن حمده واسترجع وسأل الله أن يجيره في مصيبته ويخلفه خيراً منها (¬1). الأمر الخامس: يلزم الحادة على زوجها ستة أحكام على النحو الآتي: 1 - تلزم بيتها الذي مات زوجها وهي ساكنة فيه، ولا تخرج منه إلا لحاجة أو ضرورة، كمراجعة المستشفى عند المرض، وأخذ بعض حوائجها من السوق إذا لم يكن لديها من يقوم بذلك، ومن الأدلة الواضحة في ذلك حديث زينب بنت كعب بن عجرة عن الفريعة بنت مالك بن سنان - وهي أخت أبي سعيد الخدري - أخبرتها أنها جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة؛ فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أَبِقُوا حتى إذا كانوا بطرف القدوم لحقهم فقتلوه، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أرجع إلى أهلي؛ فإني لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة، قالت: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم)) قالت: فخرجت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني أو أمرني فدعيت له، فقال: ((كيف قلت؟)) فرددت عليه القصة التي ذكرت من شأن زوجي، قالت: فقال: ((امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله))، قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً، قالت: فلما كان عثمان أرسل إلي فسألني عن ذلك، ¬
فأخبرته فاتبعه وقضى به)) (¬1). قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: وهو حديث صحيح قضى به عثمان في جماعة الصحابة، فلم ينكروه، إذا ثبت هذا فإنه يجب الاعتداد في المنزل الذي مات زوجها وهي ساكنة به، سواء كان مملوكاً لزوجها، أو بإجارة، أو عارية؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للفريعة: ((امكثي في بيتك)) ولم يكن في بيت يملكه زوجها، وفي بعض ألفاظه: ((اعتدي في البيت الذي أتاك فيه نعي زوجك)) وفي لفظ: ((اعتدي حيث بلغك الخبر))، فإن أتاها الخبر في غير مسكنها رجعت إلى مسكنها فاعتدت فيه)) (¬2). وقال رحمه الله: ((فإن خافت هدماً، أو غرقاً، أو عدوًّا، أو نحو ذلك، أو حوَّلها صاحب المنزل؛ لكونه عارية رجع فيه، أو بإجارة انقضت مدتها، أو منعها السكن تعدِّياً، أو امتنع من إجارته، أو طلب به أكثر من أجرة المثل، أو لم تجد ما تكتري به أو لا تجد إلا من مالها، فلها أن تنتقل؛ لأنها حال عُذرٍ، ولا يلزمها بذل أجر المسكن، وإنما الواجب عليها فعل السكنى، لا تحصيل المسكن، وإذا تعذرت السكنى سقطت ولها أن ¬
2 - تمتنع الحادة عن الملابس الجميلة وتلبس ما سواها
تسكن حيث شاءت ... )) (¬1). وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((وللمعتدّة الخروج في حوائجها نهاراً، سواء كانت مطلقة أو متوفى عنها)) (¬2)، لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: طُلقت خالتي فأرادت أن تجذ نخلها فزجرها رجل أن تخرج، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((بلى جذي نخلك، فإنك عسى أن تصدقي أو تفعلي معروفاً)) (¬3)، وذكر ابن قدامة رحمه الله أن المرأة الحادَّة ليس لها المبيت في غير بيتها وليس لها الخروج ليلاً إلا لضرورة؛ لأن الليل مظنة الفساد بخلاف النهار؛ فإنه مظنة قضاء الحوائج والمعاش وشراء ما يحتاج إليه (¬4) (¬5). 2 - تمتنع الحادة عن الملابس الجميلة وتلبس ما سواها، وقد ذكر ابن المنذر الإجماع على منعها من لبس المعصفر (¬6)، فتحرم عليها الثياب المصبغة للتحسين: كالمعصفر، والمزعفر، وسائر اللون للتحسين (¬7)؛ لحديث أم عطية رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً، ولا تلبس ثوباً مصبوغاً، إلا ¬
3 - تمتنع عن جميع أنواع الطيب
ثوب عصبٍ، ولا تكتحل، ولا تمس طيباً إلا إذا طهرت نبذة من قسطٍ أو أظفار)) (¬1) زاد أبو داود: ((ولا تختضب)) (¬2). 3 - تمتنع عن جميع أنواع الطيب، ونحوها، إلا إذا طهرت من حيضها، فلا بأس أن تتبخر بالبخور؛ لحديث أم عطية رضي الله عنها، وفيه: ((ولا تمس طيباً إلا إذا طهرت نبذة من قسطٍ أو أظفار)) (¬3). قال الإمام النووي رحمه الله في شرح القسط والأظفار: ((نوعان معروفان من البخور، وليس من مقصود الطيب، رخص فيه للمغتسلة من الحيض لإزالة الرائحة الكريهة تتبع به أثر الدم لا للتطيب، والله تعالى أعلم)) (¬4). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ولا تمس طيباً)) يشمل جميع أنواع الأطياب، والأدهان المطيبة، والمياه المعتصرة من الأدهان المطيبة، فهذه كلها من الطيب الممنوع (¬5). ولا يدخل فيه الزيت، ولا السمن، ولا تمتنع من الأدهان التي ليس فيها طيب (¬6). 4 - تمتنع الحادة من الحلي: الذهب، الفضة، والماس وغيرها، سواء ¬
5 - تمتنع الحادة عن الخضاب بالحناء
كان ذلك قلائد، أو أسورة، أو خرصان، أو خواتم، أو غير ذلك؛ لحديث أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب، ولا الممشقة، ولا الحليَّ، ولا تختضب، ولا تكتحل)) (¬1). قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: ((وأجمعوا على منع المرأة المحدة من لبس الحلي)) (¬2)؛ ولأن الحلي يزيد في حسنها ويدعو إلى مباشرتها)) (¬3). 5 - تمتنع الحادة عن الخضاب بالحناء ونحوه؛ لحديث أم عطية رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تحدُّ امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً، ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عصب، ولا تكتحل، ولا تمس طيباً إلا إذا طهرت نبذة من قُسْطٍ أو أظفار)) زاد أبو داود: ((ولا تختضب)) (¬4)؛ ولحديث أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: ((ولا تختضب)) (¬5). قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((فيحرم عليها الخضاب، والنقش، والتطريف، والحمرة؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نصَّ على الخضاب منبهاً به على هذه ¬
6 - تمتنع الحادة عن الكحل
الأنواع)) (¬1). 6 - تمتنع الحادَّة عن الكحل؛ لحديث أم عطية رضي الله عنها وفيه: (( ... ولا تكتحل)) (¬2). وحديث أم سلمة رضي الله عنها وفيه: ((ولا تكتحل)) (¬3). وفي حديث أم سلمة رضي الله عنها تقول: ((جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفتكحلها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا)) مرتين أو ثلاثاً، كل ذلك يقول: ((لا))، ثم قال: ((إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول ... )) (¬4). قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((قال طائفة من أهل العلم من السلف والخلف، منهم أبو محمد ابن حزم: ((لا تكتحل ولو ذهبت عيناها لا ليلاً ولا نهاراً))، وبين رحمه الله أنه يساعدهم حديث أم سلمة السابق، ثم قال رحمه الله: ((وأما جمهور أهل العلم: كمالك، وأحمد، وأبي حنيفة، والشافعي، وأصحابهم، فقالوا: إن اضطرت إلى الكحل بالإثمد تداوياً لا زينة، فلها أن تكتحل به ليلاً وتمسحه نهاراً وحجتهم حديث أم سلمة رضي الله عنها)) (¬5). ولفظ الحديث عن أم حكيم بن أسيد عن أمها أن زوجها توفي ¬
وكانت تشتكي عينيها فتكتحل بالجلاء، - قال أحمد (أحد الرواة) الصواب: بكحل الجلاء – فأرسلت مولاة لها إلى أم سلمة فسألتها عن كحل الجلاء؟ فقالت: لا تكتحلي به إلا من أمر لابد منه يشتدُّ عليك: فتكتحلين بالليل وتمسحينه بالنهار، ثم قالت عند ذلك أم سلمة: دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين توفي أبو سلمة وقد جعلت على عيني صبراً فقال: ((ما هذا يا أم سلمة؟)) فقلت: إنما هو صبر يا رسول الله، ليس فيه طيب، قال: ((إنه يشب الوجه فلا تجعليه إلا بالليل وتنزعيه بالنهار، ولا تمتشطي بالطيب، ولا بالحناء؛ فإنه خضاب))، قالت: قلت: بأي شيء أمتشط يا رسول الله؟ قال: ((بالسدر تغلفين به رأسك)) (¬1). وقد بين الإمام ابن عبد البر رحمه الله وتبعه الإمام ابن القيم: أن هذا الحديث ثابت، والجمع بينه وبين الحديث الآخر لأم سلمة وفيه: ((قوله: ((لا)) ثلاثاً لمن استأذنته في الكحل: أن الشكاة التي قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - ((لا)) لم تبلغ والله أعلم منها مبلغاً لابد لها فيه من الكحل فلذلك نهاها، ولو كانت محتاجة مضطرة تخاف ذهاب بصرها لأباح لها ذلك كما فعل بالتي قال لها: ((اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار))، والنظر يشهد لهذا التأويل؛ لأن الضرورات تنقل المحظورات إلى حال المباح في الأصول؛ ولهذا جعل مالك فتوى أم سلمة رضي الله عنها تفسيراً للحديث المسند في الكحل؛ لأن أم سلمة رضي الله عنها روته ¬
الأمر السادس: أصناف المعتدات سبعة أصناف على النحو الآتي:
وما كانت لتخالفه إذا صح عندها، وهي أعلم بتأويله ومخرجه ... )) (¬1). وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول: ((الكحل ممنوع للحادة إلا من أجل العلاج؛ فإنه يجعل بالليل ويمسح بالنهار)) (¬2). قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((ولا تمتنع من التنظف، بتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق الشعر المندوب إلى حلقه، ولا من الاغتسال بالسدر، والامتشاط به)) (¬3)، ولها أن تكلم من شاءت من محارمها وتجلس معهم، وتقدم الطعام والشراب، ونحو ذلك، ولها أن تعمل في بيتها وأسطح بيتها ليلاً ونهاراً، وفي جميع أعمالها البيتية: كالطبخ، والخياطة، وكنس البيت، وغسل الملابس (¬4)، ولكن عليها أن تلتزم بالستة الأمور المذكورة آنفاً. والله الموفق للصواب - سبحانه وتعالى -. الأمر السادس: أصناف المعتدات سبعة أصناف على النحو الآتي: الصنف الأول: الحامل وعدتها من موت زوجٍ أو طلاق هي: وضع كامل الحمل؛ لقوله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (¬5). الصنف الثاني: المتوفى عنها زوجها من غير حمل، فعدتها أربعة أشهر ¬
الصنف الثالث: المرأة ذات الحيض
وعشرة أيام من حين موته؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (¬1). الصنف الثالث: المرأة ذات الحيض، وعدتها من طلاق وفسخ هي ثلاثة قروء؛ لقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} (¬2). الصنف الرابع: المرأة التي لا تحيض إما لصغر أو كبر فعدتها ثلاثة أشهر؛ لقوله تعالى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} (¬3). الصنف الخامس: المرأة التي ارتفع حيضها بسبب كالرضاع، والمرض، ونحوه، تتربص حتى يعود الحيض ثم تعتدُّ به؛ لأنها من ذوات القروء، والعارض الذي منع الدم يزول، فتنتظر زواله. الصنف السادس: المرأة التي ارتفع حيضها ولم تدر ما رفعه فعدتها سنة: تسعة أشهر تتربص فيها؛ لتعلم براءتها من الحمل؛ لأنها غالب مدته، ثم تعتدّ بعد ذلك ثلاثة أشهر؛ لقول الشافعي هذا قضاء عمر بين المهاجرين والأنصار لا ينكره منهم منكِر علمناه، فكان إجماعاً من الصحابة - رضي الله عنهم -. الصنف السابع: امرأة المفقود، وتعتد بعد مدة التربص أربعة أشهر وعشراً عدة الوفاة. ¬
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. حرر في يوم الأربعاء الموافق 2/ 1/1424هـ ¬