أحكام الجراحة الطبية والآثار المترتبة عليها

محمد المختار الشنقيطي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فقد أذنت لإخوانى القائمين على مكتبة الصحابة بإعادة طباعة رسالتي للدكتوراه بعنوان: [أحكام الجراحة الطبية والآثار المترتبة عليها] وقد أذنت لهم بذلك على أن يلتزموا بتكاليف الطباعة وصف الكتاب من جديد, ونشره بمعرفتهم في دور النشر, وتكون لهم نسبه معينه يتفقون عليها بين الطرفين, على أنني لا أريد من الكتاب وقيمته شيئاً سوى الأجر والمثوبة من الله, حرر ذلك والله على ما نقول وكيل, على أن تكون هذة النسخة هي الطبعة الموافق عليها من قبلي دون غيرها حالياً. كتبه د/ محمد بن المختار بن محمد الشنقيطي 25/ 12/1414 جمادى * * * حقوق الطبع محفوظة الطبعة الثانية 1415 هـ - 1994 م

شكر وتقدير

بسم الله الرحمن الرحيم شكر وتقدير الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن تبعه وبعد: فلا يسعني بعد إكمال هذه الرسالة إلا أن أحمد الله تبارك وتعالى وأشكره على عظيم نعمته، وجليل منَّته، وأسأله تعالى أن يبارك لي فيها وأن يجعلها عوناً لي على طَاعَته، ومحبته، ومرضاته وإنني لأشكر بعد شكر الله الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية على عظيم ما تقدمه من تعليم وتوجيه، سائلاً المولى أن يبقيها صرحاً من صروح العلم والإيمان، ومعقلاً من معاقل المعرفة والبيان. ثم إنني أتوجه بخالص شكري إلى فضيلة شيخي الجليل الدكتور محمد بن حمود الوائلي، الذي أفادني كثيرًا من علمه، وآرائه القيمة، سائلاً الله عز وجل أن يحفظه وأن يبارك في علمه، وأن يجزيه عنا خير الجزاء. كما أتوجه بالشكر إلى لجنة المناقشة على ما أبدوه من ملاحظات وتوجيهات.

وإلى أصحاب الفضيلة العلماء جزيل الشكر على ما أفادوني به من آراء واقتراحات قيمة، وأخص منهم صاحب الفضيلة الشيخ بكر بن عبد الله أبا زيد الذي أفادني بآرائه القيمة، ومؤلفاته المفيدة، فله مني جزيل الشكر، ومن الله عظيم المثوبة والأجر. كما أتوجه بالشكر إلى جميع الأطباء ومساعديهم، وكل من أفادني برأي، أو معلومة سائلاً الله تعالى أن يجزي الجميع خيرًا. وإلى الإخوة القائمين على مكتبة الصحابة بمدينة جدة جزيل الشكر على قيامهم بطبع الرسالة ونشرها. وختامًا أسأل الله العظيم أن يتقبل مني هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، موجبًا للفوز بجنانه ورضوانه العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه.

المقدمة

المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فإن من أهم المهمات، وآكد الفرائض والواجبات، أن يعرف العبد حكم رب العالمين، ويتفقه فيما نزل به من مسائل الشرع والدين، حتى يعبد الله على بصيرة المهتدين، فيكون بذلك على نهج الأنبياء والمرسلين: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف (108)]. والناس في حاجة ماسة إلى من يعينهم على ذلك من العلماء والباحثين، فيسهل لهم السبيل إلى معرفة حكم الشرع في المسائل، خاصة فيما جدَّ منها من نوازل.

أهمية الموضوع وسبب اختياره:

أهمية الموضوع وسبب اختياره: ولقد وجدت الفرصة مناسبة، حينما أكرمني الله تعالى بفضله؛ فالتحقت بشعبة الفقه من قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية في مرحلة الدكتوراة، فأحببت أن يكون لي نصيب، وإن كنت لا أرى نفسي أهلاً لذلك، ولا من فرسان تلك المسالك، ولكن من الله أستمد العون، وأستلهم الصواب والتوفيق، وهو حسبي ونعم الوكيل. ولقد نظرت في مسائل الفقه بغية اختيار موضوع منها، فوجدت موضوع الجراحة الطبية من أهم تلك المسائل، وتتعلق به مباحث، كثيرًا ما سمعت من الأطباء والمختصين أنهم بحاجة ماسة إلى جمع شتاتها وبيان حكم الشرع فيها. فاستشرت من يوثق بعلمه، فحثَّني على ذلك وحضَّني، واستخرت الله تعالى فانشرح لذلك صدري، فعزمت مستعينًا بالله عز وجل على اختياره والكتابة فيه، وقد تلخصت دوافع الاختيار فيما يلي: أولاً: حاجة الناس عامةً، والأطباء خاصة، إلى معرفة حكم الشرع في كثير من مسائل الجراحة الطبية الحديثة. ثانيًا: أنني لم أجد، حسب علمي واطلاعي، مَنْ أفردَ أحكام الجراحة الطبية ببحث مستقل على الوجه المطلوب.

خطة البحث:

ثالثاً: أن الأطباء إذا لم تتوفر لهم الدراسات والبحوث الشرعية المتعلقة بهذا الموضوع وأمثاله؛ فإنهم سيلجئون إلى القوانين الوضعية، والعرف الطبي طلبًا للخروج من المشاكل التي يعانون منها. رابعًا: أن طرْقَ مثل هذا الموضوع، والعناية ببيان أحكامه الشرعية فيه معونة على البر والتقوى، وذلك مندوب إليه شرعًا. خامسًا: تحقق الفائدة العلمية المرجوة في طَرْقِ هذا الموضوع نظرًا لما يشتمل عليه من مسائل وقواعد وأصول يستفيد الباحث من دراستها وبيانها. خطة البحث: قسمت مادة هذا البحث إلى مقدمة، وأربعة أبواب، وخاتمة. أما المقدمة فقد بينت فيها أسباب اختياري للموضوع، وأهميته وخطَّة البحث، ومنهجي فيه، وأهم الصعوبات التي واجهتني. وأما الأبواب الأربعة فهي مشتملة على ما يلي: الباب الأول: في التعريف بالجراحة الطبية، وفيه ثلاثة

فصول: الفصل الأول: في تعريف الجراحة الطبية، وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: في تعريف الجراحة لغة واصطلاحًا. المبحث الثاني: في تعريف الطب لغة واصطلاحًا. المبحث الثالث: في تعريف الجراحة الطبية الحديثة. الفصل الثاني: في تاريخ الجراحة الطبية، وفيه مبحثان: المبحث الأول: في الجراحة الطبية في العصور القديمة. المبحث الثاني: في فضل علماء الطب المسلمين في تطوير الجراحة ونماذج من إسهاماتهم. الفصل الثالث: في مشروعية الجراحة الطبية، وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: في موقف الشريعة الإسلامية من تعلم الطب والجراحة الطبية. المبحث الثاني: في الأدلة الشرعية على جواز الجراحة الطبية. المبحث الثالث: في شروط جواز الجراحة الطبية.

الباب الثاني: في الجراحة المشروعة، والجراحة المحرمة، وفيه فصلان: الفصل الأول: في الجراحة المشروعة، وفيه ستة مباحث: المبحث الأول: في الجراحة العلاجية. المبحث الثاني: في جراحة الكشف. المبحث الثالث: في جراحة الولادة. المبحث الرابع: في جراحة الختان. المبحث الخامس: في جراحة التشريح. المبحث السادس: في جراحة التجميل الحاجية. الفصل الثاني: في الجراحة المحرمة، وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: في جراحة التجميل التحسينية. المبحث الثاني: في جراحة تغيير الجنس. المبحث الثالث: في الجراحة الوقائية. الباب الثالث: في أحكام الممهدات والعمل الجراحي، وفيه فصلان: الفصل الأول: في أحكام المراحل الممهدة للعمل الجراحي، وفيه أربعة مباحث:

المبحث الأول: في أحكام الفحص الطبي. المبحث الثاني: في أحكام التشخيص. المبحث الثالث: في أحكام الإذن بفعل الجراحة. المبحث الرابع: في أحكام التخدير. الفصل الثاني: في أحكام العمل الجراحي، وفيه أحد عشر مبحثًا: المبحث الأول: في القطع. المبحث الثاني: في الاستئصال. المبحث الثالث: في الشق. المبحث الرابع: في نقل وزرع الأعضاء. المبحث الخامس: في الثَّقْب. المبحث السادس: في الكحْت وتوسيع الرحم. المبحث السابع: في إعادة العضو المبتور. المبحث الثامن: في زرع الأعضاء المصنوعة. المبحث التاسع: في الرَّتْق. المبحث العاشر: في الكَيّ. المبحث الحادي عشر: في الخياطة.

الباب الرابع: في المسئولية والمسائل الجراحية، وفيه فصلان: الفصل الأول: في المسئولية عن الجراحة، وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: في أركان المسئولية، وأقسامها، ومشروعيتها. المبحث الثاني: في المسئولية الأخلاقية في الجراحة. المبحث الثالث: في المسئولية المهنية في الجراحة. الفصل الثاني: في مسائل الجراحة الطبية، وفيه ستة مباحث: المبحث الأول: في رخص العبادات. المبحث الثاني: في مسائل الشروط. المبحث الثالث: في مسائل الطواريء. المبحث الرابع: في مسائل الأعضاء. المبحث الخامس: في مسائل التخدير. المبحث السادس: في مسائل الإجارة. وأما الخاتمة فإنها تشتمل على أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال البحث.

منهجى فى البحث:

منهجى فى البحث: أولاً: اعتنيت ببيان نوعي الجراحة، المشروع والمحرم، ثم فصَّلت فيهما ببيان صور كل منهما مع الأمثلة، والأدلة على المشروعية، والحرمة. ثانيًا: بينت مراتب الحاجة الداعية إلى فعل الجراحة في النوع المشروع، وقسّمتها إلى مرتبة ضرورية، وحاجية، وصُغرى، مع التمثيل لها، وبيان حكمها. ثالثًا: اعتنيت بالتمهيد لكل مرحلة من مراحل الجراحة الطبية بما يعين على تصوّرها؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وقد استفدت كثيرًا من ذلك التمهيد، ثم بينت تلك المراحل مرتبة على حسب واقع الجراحة حتى يسهل على الأطباء الرجوع إلى الأحكام المتعلقة بكل مرحلة. رابعًا: اعتنيت بتخريج المهمات والأعمال الجراحية على القواعد الفقهية المقررة عند أهل العلم، رحمهم الله، عند تعذر وجود النصوص الشرعية الدالة على حكمها. خامساً: اعتنيت ببيان المسائل الخلافية المتعلقة بجزئيات البحث، سواء كانت من المسائل القديمة التي اشتهر فيها الخلاف بين أهل العلم رحمهم الله أو كانت من المسائل النازلة

التي جدت، وطرأت في العصر الحاضر. وأعتني عند بيانها بذكر الأقوال مع النسبة، ثم أذكر الأدلة مع بيان وجه دلالتها، ثم القول الراجح وسبب رجحانه. وأعتني بمناقشة القول المرجوح عند بيان سبب الترجيح إلا في مسألة نقل وزرع الأعضاء الأَدمية حيث اعتنيت بذكرها قبل الترجيح وبعد الأدلة. سادسًا: اعتنيت ببيان المهمات المتعلقة بالعمل الجراحي، واخترت منها ما كان مشهورًا، ويعتبر أصلاً لغيره، ثم ذكرت المسائل الخلافية المتعلقة به. سابعًا: وأما آثار الجراحة فقد تعرضت لها في مباحث المسائل والمسئولية، فبينت ما يتعلق منها بالعبادات كالرخص وإيجاب القضاء للصلوات، وإسقاط المؤاخذة عن المريض أثناء تخديره، ومصير الأعضاء بعد بترها، وآثار عقد الإجارة عليها، من حيث اللزوم، والفسخ، واستحقاق الأجرة. ثامنًا: وأما المسئولية فقد تكلمت على نوعيها: الأدبي، والمهني، واعتبرت النوع المهني أساسًا لها، نظرًا لعناية العلماء رحمهم الله به، فذكرت فيه الجهة المسئولة ومشروعية إثبات الموجب، والآثار المترتبة على ثبوته من إيجاب القصاص والضمان والتعزير.

تاسعًا: اعتنيت بعزو الآيات القرآنية بذكر اسم السورة، ورقمها في الترتيب، ورقم الآية المستشهد بها. عاشراً: اعتنيت بتخريج الأحاديث النبوية من مصادرها، فإن كان الحديث متفقًا عليه أو في أحد الصحيحين اعتنيت بعزوه إليهما أو إلى أحدهما دون ذكر لكتب السنة الأخرى التي أخرجته، وأما إن كان في غيرهما فإنني أعتني ببيان من أخرجه، وقد أشير إلى حكم العلماء رحمهم الله عليه من حيث الصحة والضعف. حادي عشر: اعتنيت بتعريف الألفاظ والمصطلحات الطبية في أكثر المواضع، وقد يفوتني شيء من ذلك، لعدم تيسر المصادر التي اعتنت بتعريفه، وقد رجعت في تلك التعريفات إلى كتب الموسوعات الطبية في الغالب. ثاني عشر: إذا عزوت القول بالحكم في مسألة اعتنيت بأخذه من مصادره المعتمدة ككتب المؤلف أو الأبحاث التي اعتنت بنقله، ولا أذكر قولاً بدون بيان مصدره المثبت لصحة نسبته. ثالث عشر: اعتنيت بذكر تراجم الأعيان والأشخاص المذكورين في صلب الرسالة ماعدا رواة الأحاديث من الصحابة، وأعتني بذكر ترجمة العَلَم الوارد في غير النقل، وقد

أهم الصعوبات التى واجهتني:

أعتني بترجمته إذا ورد في النقل ولا ألتزم بذلك. رابع عشر: اعتنيت بالنقل الحرفي لإثبات صحة النسبة؛ نظراً إلى أن هذا الموضوع ليس كغيره من المواضيع الشرعية التي يمكن الاقتصار فيها على العزو دون ذكر النص، ثم اعتنيت بالتعليق لإيضاح موضع الشاهد نظراً لحاجة المستفيدين من الأطباء إلى ذلك. أهم الصعوبات التى واجهتني: لقد واجهتني في كتابة البحث صعوبات أهمها ما يلي: أولاً: عدم وجود كتابات سابقة خاصة من المؤلفين المتأخرين؛ فتعبت كثيرًا في تحديد معالم الموضوع ومجال الكتابة فيه. ثانيًا: عدم وجود مراجع عربية متخصصة في المملكة العربية السعودية، مما دفعني إلى السفر إلى الخارج حيث انتدبت من قبل الجامعة الإسلامية للسفر إلى جمهورية مصر العربية؛ بغية الحصول على ما تيسر منها هناك، وأما المراجع الموجودة بداخل المملكة العربية السعودية فقد تعبت كثيرًا في البحث عنها وجمعها. ثالثًا: التزمت بالنقل من الكتب والمصادر دون الاعتماد

على الأقوال الشخصية، نظراً لاختلاف الأطباء؛ وهذا الأمر دفعني إلى كثرة القراءة في الكتب الطبية، ثم الرجوع إلى الأطباء المختصين لإثبات المعلومة التي توصلت إليها بعد فهمها بواسطتهم. فوجدت في ذلك صعوبة كبيرة خاصة في مسألة الحكم على كون صورة الجراحة أو العمل من الصور الضرورية، أو الحاجية، وقد أخذ ذلك مني وقتًا طويلاً .. رابعًا: تفرق المادة العلمية في الكتب الشرعية، وقد مكثت قرابة نصف العام، في بداية البحث، لجمعها، ولمِّ شتاتها. ونظرًا لاختلاف مناهج العلماء رحمهم الله في ذكرها في المظانِّ؛ فقد تعبت كثيرًا في التوصل إليها، ثم في تقسيمها على جزئيات البحث ومسائله. خامساً: عدم وجود بحوث في المسائل المستجدة كمسألة أحوال التشخيص، ومخالفة الواقع لنتيجته، ومصير الأعضاء، وغيرها من المسائل التي لم أجد من تكلم عليها وأشار إلى حكمها؛ فاضطررت إلى بيان حكمها، ويعلم الله كم ترددت في ذلك، ولولا خوف كتمان العلم لما جرؤت على بيان تلك الأحكام المتعلقة بها. وأحمد الله تبارك وتعالى على ما منَّ به عليَّ من التيسير والتسهيل، وأسأله جل وعلا أن يتجاوز عن زللي وخطئي وأن

يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم نافعًا يوم العرض عليه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

الباب الأول في (التعريف بالجراحة الطبية)

الباب الأول في (التعريف بالجراحة الطبية) ويشتمل هذا الباب على ثلاثة فصول: الفصل الأول: فى تعريف الجراحة الطبية. الفصل الثانى: في الجراحة الطبية قديماً وحديثاً. الفصل الثالث: في مشروعية الجراحة الطبية.

الفصل الأول في (تعريف الجراحة الطبية)

الفصل الأول في (تعريف الجراحة الطبية)

تمهيد

تمهيد يشتمل المعرَّف "الجراحة الطبية" على صفة وموصوف؛ لذلك لابد من تعريف الصفة ثم الموصوف، ثم بعد ذلك يمكن تعريفهما باللقب. والتعريف اللقبي سيكون مرتبطًا بمعنى الجراحة الطبية في العصر الحديث. وبعد إيراد هذه التعاريف سأتكلم على بعض الجوانب التي يمكن معها تصور معالم موضوع الرسالة، سائلاً المولى جلت قدرته أن يمدني بالتوفيق والسداد. وبيان جميع ما تقدم في مباحث ثلاثة على النحو التالي: المبحث الأول: تعريف الجراحة لغة واصطلاحًا. المبحث الثاني: تعريف الطب لغة واصطلاحًا. المبحث الثالث: تعريف الجراحة الطبية الحديثة. وبيان هذه المباحث فيما يلي:

المبحث الأول في (تعريف الجراحة لغة واصطلاحا)

المبحث الأول في (تعريف الجراحة لغة واصطلاحًا) ويشتمل هذا المبحث على مطلبين: المطلب الأول: في تعريف الجراحة لغة. المطلب الثاني: في تعريف الجراحة اصطلاحًا. وبيان كل منهما يتضح فيما يلي:

المطلب الأول في (تعريف الجراحة في اللغة)

المطلب الأول في (تعريف الجراحة في اللغة) الجراحة في اللغة مأخوذة من الجرح، يقال: جَرَحَهُ، يَجْرَحُه، جَرْحًا، إذا أثر فيه بالسلاح، وهي اسم للضربة؛ والطَّعنة، وجمعها جراح كدجاجة جمعها دجاج، وتجمع على جراحات أيضًا (¬1). وتستعمل مادة جرح في الدلالة على معنى الكسب، فيقال: جرح الشيء، واجترحه بمعنى كسبه (¬2)، ومنه قولهم: " فلان جارح أهله" بمعنى كاسبهم (¬3). وفي التنزيل: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُِِم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ... } (¬4). أي يعلم ما كسبتم من الأعمال بالنهار (¬5). ¬

_ (¬1) الصحاح للجوهري 1/ 358، لسان العرب لابن منظور 2/ 422، وترتيب القاموس للزاوي 1/ 470. (¬2) لسان العرب لابن منظور 2/ 423، وتاج العروس للزبيدي 2/ 130، والمصباح المنير للفيومي 1/ 95. (¬3) لسان العرب لابن منظور 2/ 423. (¬4) سورة الأنعام (6) آية 60. (¬5) تفسير الطبري 7/ 137.

كما يستعمل الجرح بمعنى العيب، والانتقاص، فيقال: جرحه بلسانه جرحًا أي عابه وانتقصه، ومنه جرحت الشاهد إذا أظهرت فيه ما ترد به شهادته (¬1). إلا أن هذا الاستعمال الأخير -أعني العيب والانتقاص- يعتبر من قبيل المجاز فهو جرح معنوي، وليس بحسي كجرح السلاح (¬2). والمعنى الأول للجرح وهو أثر السلاح هو المعنى المناسب لعنوان هذه الرسالة وذلك لأن الجراحة الطبية مشتملة على شق الجلد، واستئصال الداء، وبتر الأعضاء وقطعها بمبضع الجراح وآلته التي هي في حكم السلاح وأثرها كأثره ... والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) لسان العرب لابن منظور 2/ 422، المصباح المنير للفيومي 1/ 95. (¬2) تاج العروس للزبيدي 2/ 130.

المطلب الثانى في (تعريف الجراحة اصطلاحا)

المطلب الثانى في (تعريف الجراحة اصطلاحًا) تعتبر الجراحة عند الأطباء فرعًا مستقلاً من الفروع الطبية، يشتمل على مهام معينة، ويتقيد بضوابط محدودة؛ لذلك اصطلح الأطباء على تعريف الجراحة بتعريف مستقل يحدد المفهوم منها عند أهل الاختصاص، وقد أشار ابن القف (¬1) إلى ذلك التعريف بقوله: "صناعة ينظر بها في تعريف أحوال بدن الإنسان من جهة ما يعرض لظاهره من أنواع التفرق في مواضع مخصوصة، وما يلزمه" (¬2). اهـ. ثم شرح هذا التعريف بقوله: قولنا: "صناعة": يجري مجرى الجنس (¬3) لجميع الصنائع. وقولنا: "في تعريف": لأن المدرك منها أمور جزئية. ¬

_ (¬1) هو أمين الدولة أبو الفرج يعقوب بن موفق الدين بن إسحاق المعروف بابن القف، ولد بالكرك، وذلك في سنة ثلاثين وستمائة للهجرة، وكان نصرانيًا، توفي بدمشق سنة خمس وثمانين وستمائة للهجرة، ويعتبر من أطباء العرب المشهورين، وكتابه العمدة في الجراحة الطبية من أنفس المؤلفات المكتوبة فيها، وفيه يقول ابن أبي أصبعيه: "كتاب العمدة في صناعة الجراح عشرون مقالة علم، وعمل يذكر فيه جميع ما يحتاج إليه الجرائحي بحيث لا يحتاج إلى غيره" اهـ. ومن مؤلفاته: (جامع الغرض في حفظ الصحة ودفع المرض)، (الأصول لشرح الفصول لبقراط)، (الشافي في الطب). عيون الأنباء لابن أبي أصبعيه 2/ 767، 768، ومعجم المؤلفين لعمر كحالة 3/ 16، 13/ 245. (¬2) العمدة في الجراحة لابن القف 1/ 4، 5. (¬3) الجنس: كلي مقول على كثيرين مختلفين بالحقيقة في جواب ما هو من حيث هو كذلك. التعريفات للجرجاني 53، 54.

وقولنا: "ينظر بها في تعريف أحوال بدن الإنسان" تمييز لها عن التي لا ينظر بها في أحوال بدن الإنسان (¬1). وقولنا: "من جهة ما يعرض لظاهره من أنواع التفرق" تمييز لها عن نظر الطبائعي (¬2) في أحوال بدن الإنسان الغير التفرقية، والتفرقية الباطنية كدبيلات الكبد (¬3). والمعدة، وقرحة الرئة، وغيرها مما قد عرف في صناعة الطب (¬4). ¬

_ (¬1) مراده أن هذه العبارة تعتبر قيدًا في التعريف يخرج الصنائع التي لا علاقة لها ببدن الإنسان كصنعة الحدادة والنجارة وغيرها، وإنما أورد هذا القيد لما سبق في التعريف من قوله "صناعة" يعتبر جنسًا تندرج تحته الصنائع المختلفة سواء تعلقت ببدن الإنسان أم لم تتعلق. (¬2) للأطباء في العصور القديمة مسميات يطلقونها على الأطباء بحسب اختلاف مجالات الطب وفروعه الموجودة في عصورهم، ومن تلك المسميات: الطبائعي والجرائحي، والكحال، والفاصد ... وقد بين مرادهم بها الإمام ابن القيم رحمه الله وذلك بقوله: "والطبيب في هذا الحديث يتناول من يطبه بوصفه وقوله وهو الذي يخص باسم الطبائعي وبمروده وهو الكحال، ويمبضعه ومراهمه وهو الجرائحي، وبموساه وهو الخاتن، وبريشته وهو الفاصد، وبمحاجمه ومشرطه وهو الحجام، وبخلعه ووصله ورباطه وهو المجبر، وبمكواته وناره وهو الكواء، وبقربته وهو الحاقن .. " أهـ. الطب النبوي لابن القيم 112. (¬3) الدبيلات: أورام تتولد عن البلغم الغليظ العفن. الاستسقاء والإبرام في علاج الجراحات والاورام للقربلياني - تحقيق محمد العربي الخطابي ص 67. (¬4) مراد المصنف بقوله: "تمييز لها عن نظر الطبائعي ... إلخ" أن جملة "من جهة ما يعرض لظاهره من أنواع التفرق" تشتمل على قيدين: أحدهما: يخرج النظر في الجراحات التي تحدث في داخل الجسد كقرحة الرئة، وهو قوله: "من جهة ما يعرض لظاهره" حيث قصر النظر على العرض (وهو المرض) على الظاهر ومفهومه يخرج العرض الباطن من الأمراض الجراحية. الثاني: يخرج النظر في غير الجراحات وهو النظر في أمراض البدن كالصداع وألم البطن، وضيق النفس ونحو ذلك مما لا يعالج بالجراحة، وعبر عن هذا القيد بقوله: "من أنواع التفرقة"، والتفرق مختص بالجرح لافتراق طرفيه عن بعضهما، ولذلك تعرف الجروح عند الأطباء بأنها: "تفرق اتصال بالنسج محدث بعوامل =

وقولنا: "في مواضع مخصوصة": تمييز لها عن نظر الكحال في تفرقات العين. وقولنا: "وما يلزمه": أي من معرفة المفردات (¬1) والمركبات (¬2) التي لا تتم معالجته إلا بمعرفتها " (¬3).اهـ. وفي هذا التعريف وشرحه بيان لاختصاص الجراحة بالتفرقات الظاهرة في مواضع مخصوصة، وهذا إنما كان في العصور القديمة حيث لم تكن الجراحة بالشكل المتطور حاليًا، فلم يكن هناك تدخل جراحي لعلاج كثير من الأمراض الجراحية التي في داخل جسد الإنسان، وإنما كان ذلك من اختصاص الطبائعي الذي يقتصر على علاجها بالعقاقير. كما دل التعريف وشرحه على خروج نظر الكحال الذي كان من اختصاصه علاج جراحات العين وتفرقاتها، على عكس الجراحة الطبية الحديثة التي تشمل ضمن اختصاصاتها جراحة العيون. * * * ¬

_ = العنف الخارجي ". الجراحة العامة لمجموعة الأطباء ص 3. وإنما احتاج لإيراد هذين القيدين؛ لأن النظر في تعريف أحوال بدن الإنسان الذي نص عليه في الجملة السابقة يشمل نظر الطبائعي والجرائحي والكحال، فلزم إخراج نظر كل من الطبائعي والكحال، فأخرج نظر الأول بهذين القيدين، وأخرج نظر الثاني بالقيد التالي وهو قوله: "في مواضع مخصوصة". (¬1) المفردات المراد بها الأدوية المفردة وهي المشتملة على مادة واحدة كالعشب المعين الذي لم يخلط بغيره. (¬2) المركبات: المراد بها الأدوية المركبة وهي التي تشتمل على أكثر من مادة يتم تركيبها بالخلط والمزج. (¬3) العمدة في الجراحة لابن القف 1/ 4، 5.

المبحث الثاني في (تعريف الطب لغة واصطلاحا)

المبحث الثاني في (تعريف الطب لغة واصطلاحًا) يشتمل هذا المبحث على مطلبين: المطلب الأول: تعريف الطب لغة. المطلب الثاني: تعريف الطب اصطلاحًا. وبيان كل منهما يتضح فيما يلي:

المطلب الأول في (تعريف الطب فى اللغة)

المطلب الأول في (تعريف الطب فى اللغة) الطب: بطاء مثلثة هو علاج الجسم، والنفس، يقال: طَبَّهُ، طبّاً إذا داواه (¬1). وأصل الطب الحذق في الأشياء، والمهارة فيها، ولذلك يقال لمن حذق بالشيء وكان عالمًا به: طبيباً (¬2). وجمع الطبيب أطباء، وأطبَِّة، الأول جمع كثرة، والثاني جمع قلة (¬3). وتستعمل مادة طب في اللغة بمعنى سحر فيقال: فلان مطبوب: أي مسحور (¬4). وهذا على سبيل التفاؤل، فإن العرب تطلق بعض الألفاظ الدالة على السلامة، وتستعملها فيما يضادها من باب الفأل، فسموا اللديغ سليماً، والمهلكة مفازة، تفاؤلاً بالسلامة والفوز، وهكذا هنا سموا المسحور مطبوبًا. كما تستعمل مادة طب في الدلالة على الشأن، والعادة، والدهر، فيقال: ما ذاك بطبي، أي بشأني، وعادتي، ودهري، وهو استعمال مجازي أيضًا (¬5). ¬

_ (¬1) لسان العرب لابن منظور 1/ 553، وتاج العروس للزبيدي 1/ 351، والمصباح المنير للفيومي 2/ 368. (¬2) لسان العرب لابن منظور 1/ 554. (¬3) المطلع للبعلي 267. (¬4) لسان العرب لابن منظور 1/ 554، وتاج العروس للزبيدي 1/ 351. (¬5) المصدرين السابقين.

وقد تستعمل مادة طب في الدلالة على نية الإنسان وإرادته كما ورد ذلك في قول الشاعر: " إن يكُنْ طِبُّكِ الفِرَاقَ فَإِن البَـ ... ـيْنَ أنْ تَعْطِفِي صُدور الجمَال " (¬1) أي أن تكن نيتُك، وإرَادتُك. والمعنى المتعلق من هذه المعاني بعنوان البحث هو المعنى الأول، وهو علاج الجسم، والنفس ... والله تعالى أعلم. * * * ¬

_ (¬1) لسان العرب لابن منظور 1/ 554.

المطلب الثاني في (تعريف الطب اصطلاحا)

المطلب الثاني في (تعريف الطب اصطلاحا) اختلف الأطباء فى بيان حد الطب، وتعريفه الاصطلاحي على ثلاثة أقوال هي: القول الأول: هو "علم يعرف منه أحوال بدن الإنسان من جهة ما يعرض لها من صحة وفساد" (¬1). ونُسب هذا القول لقدماء الأطباء، ولابن رشد الحفيد (¬2). القول الثاني: هو "علم بأحوال بدن الإنسان يحفظ به حاصل الصحة، ويسترد زائلها" (¬3). ونسب هذا القول لجالينوس (¬4)، ................... ¬

_ (¬1) النزهة المبهجة في تشحيذ الأذهان وتعديل الأمزجة للأنطاكي 1/ 34. (¬2) هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي ولد بقرطبة عام 520 هـ، ونشأ بها ودرس الفقه والطب والمنطق وغيرها، توفي بمراكش عام 595 هـ، من مؤلفاته: بداية المجتهد، الكليات في الطب، مختصر المستصفى. معجم المؤلفين- عمر كحالة 8/ 313. (¬3) النزهة المبهجة للأنطاكي 1/ 34، 35. (¬4) كلوديوس جالينوس (ومعناه الهاديء): وهو من قدماء الأطباء المبرزين ولد في مدينة (برغمش) من أرض اليونان في خريف عام 130 بعد الميلاد وقيل 59، قال عنه ابن جلجل الأندلسي: "لولاه ما بقي الطب ولدرس ودثر من العالم جملة، ولكنه أقام أوده وشرح غامضه، وبسط مستصعبه" اهـ. =

واختاره داود الأنطاكي (¬1) في تذكرته (¬2). القول الثالث: هو "علم يعرف منه أحوال بدن الإنسان من جهة ما يصح، ويزول عن الصحة ليحفظ الصحة حاصلة، ويستردها زائلة". وهذا القول لابن سينا (¬3). وهذه التعريفات وإن اختلفت ألفاظها وعباراتها، إلا أنها متقاربة في المعنى والمضمون، لكن يؤخذ على التعريف الأول أنه اعتبر الصحة والمرض فرعين عارضين، والحقيقة والواقع بخلاف ذلك، فإن الصحة تعتبر أصلاً والمرض وحده هو الفرع والعارض الذي يطرأ ¬

_ = وقال عنه ابن أبي أصبعيه: " ... كان خاتم الأطباء الكبار المعلمين، وهو الثامن منهم، وأنه ليس يدانيه أحد في صناعة الطب فضلاً عن أن يساويه ... ولم يجيء بعده من الأطباء إلا من هو دون منزلته ومتعلم منه" اهـ. وقد ألف في الطب مؤلفات كثيرة منها: كتاب في العصب/العلل والأمراض، مات في صقلية نحو سنة 200 بعد الميلاد وقيل عاش ثمانيًا وثمانين سنة. طبقات الأطباء لابن جلجل ص 41 - 44، عيون الأنباء لابن أبي أصبعيه ص ْ109 - 142، وتاريخ الطب وآدابه وأعلامه أحمد الشطي ص 88. (¬1) هو داود بن عمر البصير الأنطاكي ولد بأنطاكية، واشتغل بالطب وعلومه، توفي بمكة عام 1008 هـ، وله مؤلفات منها: تذكرة أولي الألباب، النزهة المبهجة في تشحيذ الأذهان وتعديل الأمزجة، وزينة الطروس في أحكام العقول والنفوس. معجم المؤلفين عمر كحالة 4/ 140. (¬2) تذكرة أولي الألباب للأنطاكي 1/ 9. (¬3) هو الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا البلخي ثم البخاري ولد بخرميش من قرئ بخارى في صفر عام 370 هـ، كان شاعرًا مشاركًا في علوم عديدة وبرز في الطب واشتهر به، ومن مؤلفاته: القانون في الطب، والموجز الكبير في المنطق، لسان العرب في اللغة. معجم المؤلفين، عمر كحالة 4/ 20، انظر قوله في كتابه القانون في الطب 1/ 3.

عليها (¬1). وقد اعتبر هذا أصحاب التعريف الثاني والثالث وسلموا من ورود الاعتراض عليهم فأشاروا إلى أن الصحة أصل بقولهم: "يحفظ به حاصل الصحة، ويسترد زائلها"، وقولهم: "ليحفظ الصحة حاصلة، ويستردها زائلة". وهذه ميزة لكلا التعريفين الثاني والثالث على التعريف الأول. وامتاز التعريف الثالث بالجمع بين دلالة التعريفين الأول والثاني دون ما اعتراض به على التعريف الأول. كما امتاز على التعريف الثاني بتحديد وجهة التعرف على أحوال بدن الإنسان حيث خصها بقوله: "من جهة ما يصح، ويزول عن الصحة"، وهذا أبلغ لأنه قيد في المعرف كما سيأتي عند شرح هذا التعريف -إن شاء الله تعالى- ولهذا فإنه من المناسب اختيار هذا التعريف دونهما لشرح مفرداته وبيان محترزاته وبالله التوفيق. * * * ¬

_ (¬1) أشار إلى هذا الاعتراض داود بن عمر الأنطاكي حيث قال بعد ذكره للتعريف الأول: "وفيه فرعية كل من الصحة والمرض" اهـ. النزهه المبهجة، للأنطاكي 1/ 34.

شرح التعريف المختار: قوله: "علم يتعرف منه": العلم ضد الجهل، ومعناه إدراك الشيء على حقيقته وهو هنا شامل لفرعي الطب: النظري، والعملي لأنه جنس (¬1). قوله: "يتعرف": أي يتوصل به إلى المعرفة، وهي ضرب من العلم. وقوله: "منه": أي بسببه، والضمير عائد إلى العلم، فكأنه قال: "علم يتوصل بسببه إلى معرفة ... ". وقوله: "أحوال بدن الإنسان": الأحوال: جمع حال، وحال الشيء طبعه وصفته (¬2). والمراد به هنا: الصحة والمرض كما درج عليه صاحب التعريف (¬3)، ويكون جمعها من باب إطلاق الجمع على الاثنين. وقيل: أحوال بدن الإنسان ثلاثة: صحة، ومرض، وحالة متوسطة بينهما (¬4). والمراد بهذه العبارة بيان محل المعرفة، وهي قيد تخرج به العلوم ¬

_ (¬1) القانون لابن سينا 1/ 3، الوجيز في الطب لابن النفيس 31. (¬2) المصباح المنير للفيومي 1/ 157. (¬3) القانون لابن سينا 1/ 3. (¬4) عيون المسائل من أعيان الرسائل للحسيني 230.

الأخرى التي لا تتعلق ببدن الإنسان. وقوله: "من جهة": أي من ناحية. وقوله: "ما يصح": أي صحته، فما مصدرية، والصحة ضد المرض، وهي هيئة بدنية تكون الأفعال بها لذاتها سليمة (¬1). وقوله: "ويزول عن الصحة": أي ينحرف ويميل عنها، لأن الزوال عن الشيء معناه الميل عنه (¬2). والمراد بهذه العبارة القسم الثاني من أقسام أحوال بدن الإنسان وهو المرض الذي يعرض للبدن فيخرجه عن حال الاعتدال والصحة (¬3). وهذه العبارة إن قيل: إن أحوال بدن الإنسان حالان فلا إشكال، لأنها دالة على الحالة الثانية المقابلة لحالة الصحة التي أشار لها المعرف في الجملة السابقة، وهي على هذا التقدير موافقة لمذهب المعرف الذي يرى أن أحوال بدن الإنسان حالتان الصحة والمرض (¬4). وإن قيل إن أحوال بدن الإنسان ثلاثة فإنها تكون متضمنة للحالتين ¬

_ (¬1) المصدر السابق ص 231. (¬2) ومنه زالت الشمس: أي مالت عن كبد السماء. المطلع للبعلي 14. (¬3) ولذلك يعرف المرض بقولهم: "هو ما يعرض للبدن فيخرجه عن الاعتدال الخاص". التعريفات للجرجاني ص 142. (¬4) القانون في الطب لابن سينا 1/ 3، وذهب غيره إلى أن أحوال بدن الانسان ثلاثة: صحة، ومرض، وحالة متوسطة بينهما. عيون المسائل من أعيان الرسائل للحسيني 230.

الباقيتين وهما: المرض، والحالة المتوسطة بين الصحة والمرض. ووجه تضمنها: أن كلتا الحالتين يصح وصفهما بالزوال عن الصحة، وبهذا يندفع الاعتراض الوارد على المعرف من قبل مخالفيه الذين يقولون إن أحوال بدن الإنسان ثلاثة (¬1). وخرج بقيد: "من جهة ما يصح ويزول عن الصحة": النظر في بدن الإنسان من حيث طبيعته وهو ما يسمى بالنظر في الطبيعيات (¬2). وقوله: "ليحفظ الصحة حاصلة": اللام للتعليل، أي من أجل حفظ الصحة. وحفظ الصحة: صيانتها ببذل الأسباب الموجبة لبقائها بإذن الله تعالى. وحاصلة: حال، أي حفظ الصحة حال وجودها. وقوله: "ويستردها زائلة": يستردها: يسترجعها، وذلك ببذل الأسباب الموجبة لرجوعها بإذن الله تعالى، والضمير في "يستردها" عائد إلى الصحة. وزائلة: حال من قوله يستردها، وزوال الصحة عبارة عن فقدها، والمعنى: يسترد الصحة حال فقدها. ¬

_ (¬1) قال ابن سينا: " ... ثم إنه إن كان هذا التثليث: -أي انقسام أحوال بدن الإنسان إلى ثلاث حالات- واجباً، فإن قولنا: الزوال عن الصحة يتضمن المرض، والحالة الثالثة التي جعلوها ليس لها حد الصحة ... ". القانون في الطب لابن سينا 1/ 3. (¬2) أشار إلى هذا القيد الأنطاكي في كتابه النزهة المبهجة 1/ 34.

والمقصود بعبارة: "ليحفظ الصحة حاصلة، ويستردها زائلة". بيان الغاية من النظر في بدن الإنسان وهي المحافظة على صحة الإنسان حال وجودها، والسعي في ردها حال فقدها، وكل ذلك بتعاطي الأسباب المؤثرة والموجبة لذلك بإذن الله تعالى، وهذه هي غاية الطب وهدفه. * * *

المبحث الثالث في (تعريف الجراحة الطبية الحديثة)

المبحث الثالث في (تعريف الجراحة الطبية الحديثة) الجراحة الطبية الحديثة أو ما يسمى في عرف الأطباء والناس اليوم باسم "العملية الجراحية" تعتبر إحدى فروع الطب المختصة بعلاج الأمراض بالعمل الجراحي, وما يستلزمه من عناية بعده (¬1). وقد جاء تعريفها في الموسوعة الطبية التي أشرف على تأليفها مجموعة من الأطباء المختصين بما يلي: "إجراء جراحي بقصد إصلاح عاهة، أو رَتْقِ تَمَزُّق، أو عطب أو بقصد إفراغ صديد أو سائلٍ مَرَضيٍّ آخر أو لاستئصَال عضو مريض، أو شاذ" (¬2). شرح التعريف: قولهم " إجراء جراحي": أي عمل جراحي، وقد تقدم تعريف الجراحة (¬3). وقولهم "جراحي": قيد يخرج الفروع الطبية الأخرى التي يتم فيها علاج الأمراض بغير الجراحة. وقولهم " بقصد إصلاح عاهة": الباء للتعليل، أي لقصد، وقصد الشيء طلبه (¬4)، والإصلاح ضد الإفساد، والعاهة الآفة (¬5). ¬

_ (¬1) الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 3/ 450. (¬2) المصدر السابق 5/ 982. (¬3) انظر ص 21. (¬4) المصباح المنير للفيومي 2/ 504. (¬5) المصدر السابق 2/ 441.

والمراد بهذه العبارة بيان جزء من هدف الإجراء الجراحي المتقدم وهو علاج الآفة التي تصيب موضعاً من جسد الإنسان مثل القرحة التي تصيب المعدة، ويتم علاجها بالجراحة (¬1). قولهم " أو رتق تمزق": أو للتنويع، والمراد بهذا الإشارة إلى نوع آخر من مقاصد الجراحة، والرتق: الضم والالتحام (¬2)، والتمزق: التفرق (¬3)، وعلى هذا يكون المراد برتق التمزق ضم ما تفرق من العضو المصاب بجرح ونحوه، ومن أمثلة ذلك جروح الأسلحة التي يقوم الطبيب الجراح بعلاجها، وذلك بتنظيفها ثم ضم أطرافها وخياطتها لتلتحم ببعضها فيرجع الموضع المصاب لحالته الطبيعية (¬4). ويدخل في رتق التمزق رتق الفتوق (¬5) كما هو حادث في علاج فتوق البطن التي تقع بسبب ضعف أنسجة جدار البطن وتمزقها (¬6). قولهم "أو عطب": هكذا في النسخة المطبوعة، ولعل الصواب أو عصب لتعذر إرادة معنى العطب الذي هو الهلاك (¬7) في هذا الموضع، ومن رتق العصب بالجراحة ما يجري في علاج الفتوق المؤثرة على الجهاز العصبي كفتق النواة اللبية الرقبية، وفتق النواة اللبية القطنية (¬8). ¬

_ (¬1) الشفاء بالجراحة د. محمود فاعور ص 44، 45، جراحة البطن د. اللبابيدي، د. الشامي 2/ 18، 19. (¬2) المفردات للراغب الأصفهاني 187. (¬3) المصباح المنير للفيومي 2/ 570. (¬4) الجراحة الصغرى د. البابولي، د. الدولي 126، 127. (¬5) يقال رتقت الفتق: أي سددته. المصباح المنير للفيومي1/ 2218. (¬6) جراحة البطن د. اللبابيدي، د. الشامي 23. (¬7) المصباح المنير للفيومي 2/ 416. (¬8) الجراحة العصبية د. هشام بكداش 185، 200.

قولهم "أو بقصد إفراغ صديد، أو سائل مرضي آخر": الإفراغ: الإخلاء يقال فرغ الشيء إذا خلا (¬1)، والصديد: هو السائل الأصفر المائع الذي يوجد داخل الأنسجة الملتهبة (¬2). وقولهم "أو سائل مرضي ... ": معطوف على صديد، أي إفراغ سائل مرضي آخر. والمراد بقولهم "أو بقصد إفراغ صديد ... إلخ": الإشارة إلى نوع آخر من مقاصد الجراحة وهو إفراغ السوائل المرضية سواء كانت صديدًا أو غيره. ومن أمثلة هذا النوع من الجراحة ما يجري في تنظيف الجروح الملتهبة المشتملة على القيح والصديد حيث يقوم الطبيب الجراح بإفراغها من تلك المواد المضرة وتنظيف الجروح منها، وخياطتها بعد ذلك (¬3). ومن أمثلته في الجراحة التي في داخل الجسد الأكياس المائية التي تسمى بالأكياس الكلبية وهي تشتمل على مادة سائلة شبيهة بالماء، وتعتبر مرضًا من الأمراض التي لا تعالج إلا بالجراحة (¬4). وقولهم "أو لاستئصال عضو مريض أو شاذ": أو للتنويع، كما ¬

_ (¬1) المصباح المنير للفيومي 2/ 47. (¬2) الموسوعة الطبية العربية د. البيرم 214. (¬3) الجراحة الصغرى د. البابولي، د. الدولي 126، 127، جراحة الحرب الطارئة، كتاب الحلف الأطلسي عن الجراحة العسكرية ترجمة د. ياسر الياغي 198 - 202. (¬4) تقع هذه الأكياس في الكبد، والقلب، والرئتين، والطحال، والعظام. انظر: الشفاء بالجراحة د. محمود فاعور 147 - 156، والموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 6/ 1128.

تقدم وهذه الجملة تشتمل على مقصد آخر من مقاصد الجراحة. واستئصال الشيء قلعه من أصوله (¬1)، والعضو: كل عضو وافر من الجسد (¬2) ومريض صفة لعضو وقد تقدم تعريف المرض (¬3). ومن أمثلة استئصال العضو المريض استئصال الزائدة الملتهبة، والعضو الشاذ (¬4) مثل الناب الزائد إذا تضرر منه صاحبه .... والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) المصباح المنير للفيومي 1/ 16. (¬2) المصدر السابق 2/ 416. (¬3) انظر ص 33 هامش (3). (¬4) أصل الشاذ المنفرد. المصباح المنير للفيومي 1/ 307. ووصف العضو بالشذوذ إنما هو من جهة كونه انفرد عن بقية الأعضاء بالخروج عن المطرد المعروف في الغالب.

الفصل الثاني في (الجراحة الطبية قديما وحديثا)

الفصل الثاني في (الجراحة الطبية قديمًا وحديثاً)

تمهيد

تمهيد لما كان المقصود من هذا الباب إعطاء صورة واضحة عن الجراحة الطبية يمكن من خلالها التعرف عليها وعلى مراحلها، كان من المناسب بيان شيء من تاريخها، مع العناية بإبراز فضل علماء الطب المسلمين في تطوير علم الجراحة، والوسائل التي يتم بها تطبيقه. ثم يتبع ذلك الحديث عن الجراحة الطبية الحديثة، والذي يشتمل على بيان اختصاصاتها، ومهمة الفريق الجراحي التي يقوم بها، والمراحل التي تمر بها الجراحة، حتى يتسنى بعد ذلك بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بها. فالحديث في هذا الفصل عن جميع ما تقدم سيكون في المبحثين التاليين: المبحث الأول: الجراحة الطبية في العصور القديمة، وفضل علماء الطب المسلمين في تطويرها. المبحث الثاني: الجراحة الطبية في العصر الحديث.

المبحث الأول في [الجراحة الطبية في العصور القديمة وفضل علماء الطب المسلمين فى تطويرها]

المبحث الأول في [الجراحة الطبية في العصور القديمة وفضل علماء الطب المسلمين فى تطويرها] يشتمل هذا المبحث على مطلبين: المطلب الأول: الجراحة الطبية في العصور القديمة. المطلب الثاني: فضل علماء الطب المسلمين في تطوير الجراحة ونماذج من إسهاماتهم.

المطلب الأول في (الجراحة الطبية في العصور القديمة)

المطلب الأول في (الجراحة الطبية في العصور القديمة) من المعلوم بداهة أن الإنسان في مختلف العصور معرض للإصابة بالآفات والأمراض الجراحية المختلفة، وذلك بسبب وجود الأشياء الموجبة لحدوثها من حروب، وحوادث، وحيوانات مفترسة، لذلك فإنه يحتاج إلى علاجها وتدبيرها بالجراحة اللازمة. وقد ذكرت بعض المراجع العلمية التي تحدثت عن تاريخ الطب أن الإنسان في العصور القديمة كان له إلمام بالجراحة الطبية، وأنه قام بتطبيقها، ولكن بصورة تعتبر بداية لما وصلت إليه الجراحة في العصر الحاضر من رقي وازدهار (¬1). وقد استندت هذه المراجع في إثبات ذلك على جملة من الدلائل التي توصل إليها من خلال الآثار القديمة التي تم اكتشافها. فقد تبين منها أن الإنسان في تلك العصور قام بفعل عدد من الجراحات لعلاج بعض الآفات الجراحية التي تصيب العين، والأنف، والأذن، والجمجمة، وغيرها من أجزاء الجسم. ففي مصر اكتشفت بعض الآثار المنقوشة، والصور المنحوتة تبين من خلالها أن قدماء المصريين كانوا على معرفة ببعض المهام الجراحية خاصة ما يتعلق منها بجراحة الأسنان، حيث وصفت تلك الآثار عملية ¬

_ (¬1) تاريخ الطب للشطي 7، لمحة من تاريخ الطب بلاكسلاند ستنبز 1 ,2، ترجمة الدكتور أحمد زكي.

تصريف خراجات الأسنان عن طريق الثقب، وعملية حشو الأسنان، وزرعها التي يعتبر قدماء المصريين هم أول من عرفها ووصفها ثم أخذها عنهم اليونانيون بعد ذلك، كما وصفت تلك الآثار عملية تثبيت الأسنان بالأسلاك وجراحة الأسنان التعويضية (¬1). كما عرف قدماء الهنود الجراحة الطبية حيث وصفوا عددًا من مهامها في كتبهم، ومن أشهر ما وصفوا عملية التربنة المشهورة، وهي إزالة جزء من عظم القحف نتيجة إصابة الرأس. وكذلك اعتنوا بوصف عملية إصلاح الأنف، والأذن المقطوعة، واليد المتآكلة بسبب الآفة المرضية (¬2). وكذلك وجدت بعض الآثار القديمة التي ترجع إلى العصر البابلي، ومن جملتها بعض القوانين المكتوبة تشتمل بعض موادها على أحكام تتعلق بالجراحة، ومنها أن الطبيب الجراح لو عالج مريضًا بالجراحة ثم مات ذلك المريض أو تلف عضو من أعضائه بسبب الجراحة فإنه يعاقب بقطع يده. وكذلك اشتملت بعض فقرات تلك القوانين على بيان حد الأجرة التي تعطى للطبيب الجراح إذا عالج مريضًا بالجراحة ثم شفي ذلك المريض من علته (¬3). ¬

_ (¬1) تاريخ الطب للشطي 18 - 20، انتفاع الإنسان بأعضاء جسم آخر حيًا أو ميتاً. د. الباز 2 من بحوث مجمع الفقه الإسلامي. (¬2) مختصر تاريخ الطب العربي د. السامرائي 1/ 68. (¬3) الطب القضائي د. ضياء الدين نوري، 398، لمحة من تاريخ الطب، بلاكسلاند ستبز 6، 7 ترجمة د. أحمد زكي.

ومن خلال هذه العبارات تبين أن الجراحة الطبية كانت موجودة في تلك العصور، وأنها لقيت بعض الاهتمام نظرًا لما يترتب عليها من المصالح والمنافع ... وفي العهد اليوناني كانت الجراحة الطبية موجودة، واعتنى أطباء اليونان بتطويرها وأسهموا في تآليفهم ببيانها والحديث عن بعض أنواعها التي لم يسبقوا إلى معرفتها وتطبيقها، ومن أشهر الأطباء المبرزين الذين ساهموا في الكتابة عن الجراحة في مؤلفاتهم "أبقراط" (¬1) حيث اعتنى في مؤلفاته الطبية بالكتابة عن عدد من المهام الجراحية، فتكلم عن علاج الأورام بالجراحة خاصة الأورام الموجودة في الأنف وكذلك اعتنى بالحديث عن علاج الكسور بالجراحة، وأفرد جانبًا من جوانب الجراحة بالتأليف المستقل وهو علاج القروح، والجروح الموجودة في الرأس، فألف كتابه المسمى "بالقروح وجراحات الرأس"، كما ألف كتابًا آخر في الخلع والجبر (¬2). وكذلك اعتنى غيره من أطباء اليونان بالكتابة عن بعض أنواع ¬

_ (¬1) هو أبقراط بن إيراقليدس بن أبقراط بن غنو سيد يقوس، كان شريفًا في قومه فاضلاً عاش بمدينة "قو" (وهي على شاطيء الأناضول من آسيا الصغرى)، وبلغ خمسًا وتسعين سنة أمضى منها تسعًا وسبعين سنة في تعليم الطب، قال عنه الشهرستاني: "أبقراط واضع الطب الذي قال بفضله الأوائل والأواخر، كان أكثر حكمته في الطب، وشهر به" اهـ. وأثنى عليه ابن أبي أصبعيه، وابن جلجل في الطبقات، ألف في الطب مؤلفات كثيرة منها الكتب التالية: الفصل، الأخلاط، الأمراض الحادة. عيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصبعيه 1/ 43 - 56، وطبقات الأطباء والحكماء لابن جلجل 16 - 20، والملل والنحل للشهرستاني 3/ 24 - 27. (¬2) طبقات الأطباء لابن جلجل 16، وقصة الطب جوزيف جارلند 48، 56، ترجمة الدكتور سعيد عبده.

الجراحة التي لم تسبق الكتابة عنها في العصور السابقة للعصر اليوناني، ومن تلك الأنواع التي أسهموا في بيانها والكتابة عنها جراحة المسالك، والفتوق، وكذلك جراحة البتر (¬1). ولما جاء جالينوس اعتنى عناية فائقة بالطب فألف فيه التآليف التي سار عليها من بعده، واعتنى بعلم الجراحة الطبية، فكان أول من كتب في علم التشريح الذي هو من أهم العلوم التي تعين على فهم الجراحة وتطبيقها (¬2). * * * ¬

_ (¬1) تاريخ الطب للشطي: 44 - 47. (¬2) قال ابن جلجل في ترجمته: "لم يسبقه أحد إلى علم التشريح، وألف سبع عشرة مقالة في تشريح الموتى، وألف في تشريح الأحياء كتابًا" اهـ. طبقات الأطباء والحكماء لابن جلجل 42.

المطلب الثاني فضل علماء الطب المسلمين في تطوير الجراحة ونماذج من إسهاماتهم

المطلب الثاني فضل علماء الطب المسلمين في تطوير الجراحة ونماذج من إسهاماتهم عاشت أوربا في العصور الوسطى سنوات طويلة في ظلام دامس من الجهل وتعتبر هذه الفترة فترة ركود حضاري بالنسبة لها. وفي الوقت نفسه كانت البلاد الإسلامية تعيش حياة علمية مزدهرة، حتى أصبحت في ذلك الحين محط الرحل لطلاب العلم والمعرفة الذين يقصدونها، خاصة من البلاد الأوربية طمعًا في الحصول على المعارف والفنون التي نبغ المسلمون فيها نبوغًا عظيمًا. وتفجرت ينابيع المعرفة على أيدي جهابذة العلماء المسلمين في شتى العلوم والمعارف، حتى شمل ذلك علوم الطب، والحساب، والفلك، وغيرها من العلوم الأخرى. وأمسكت تلك الأيدي الأمينة بزمام الحضارة العلمية، وقادتها بعقولها الفذة التي صقلتها روحانية الكتاب، والسنة، فسمت بها إلى ذروة المجد والعلياء. وكان من ضمن ما نبغ فيه علماء المسلمين في تلك العصور المزدهرة علم الطب على اختلاف تخصصاته، والتي من ضمنها

الجراحة الطبية. فقد كانت الجراحة الطبية في العصور الإسلامية الأولى تعتبر صنعة ممتهنة، وكان علماء الطب المسلمين من الأوائل يترفعون عن القيام بها وأدائها، وكانوا يسمونها "عمل اليد"، وكانت آنذاك من مهمة الحجامين الذين يقومون بالكي، والفصد والحجامة، وبتر الأعضاء تحت إشراف الأطباء وإرشاداتهم (¬1). ثم لم تمضِ مدة حتى نبغ علماء الطب المسلمون في تطوير الجراحة الطبية والإسهام في تقدمها حتى وصلت إلى درجة عالية من الدقة والمهارة، وذلك بفضل الله تعالى، ثم بفضل جهودهم المخلصة التي تمثلت في جوانب عديدة ساعدت على الوصول إلى هذه الغاية. فقد كانوا أول من أفرد علم الجراحة الطبية بالكتابة عنه في مواضع مخصوصة من كتبهم الطبية، ثم بالتأليف المستقل الذي يجمع شتاته، ويعتني بصياغته في أسلوب علمي بديع، وقد اعتنوا في تلك المؤلفات ببيان عدد من أنواع الجراحة الطبية التي لم يسبقوا إلى معرفتها، وقاموا بوصف مراحلها في كتبهم لأول مرة في التاريخ، ومن تلك الأنواع التي بينوها ما يلي: (1) عملية تفتيت الحصى الموجود في المثانة. (2) عملية تجبير الكسور الموجودة في الأنف. ¬

_ (¬1) أعلام العرب المسلمين في الطب، د. علي عبد الله الدفاع 51، 52، الطب الإسلامي، د. أحمد طه 63، ودراسات في تاريخ العلوم عند العرب حكمت نجيب عبد الرحمن 57.

(3) عملية فتح القصبة الهوائية (¬1). (4) عملية استئصال اللوزتين (¬2). (5) عملية فتح الخراج الموجود في اللهاة (¬3) (6) عملية قطع اللحم النابت في الأذن. (7) عملية ثقب الأذن المسدود. ومع اكتشافهم لهذه الأنواع ووصفهم لها لأول مرة في التاريخ نجدهم أيضًا قد تكلموا على بعض المعلومات المهمة جدًا في علم الجراحة، وكانوا أول من نبه عليها، ومن تلك المعلومات تفريقهم بين الأورام الخبيثة (السرطانية) (¬4) والزوائد اللحمية، حيث وضعوا بعض الأمارات والعلامات التي يمكن للطبيب أن يستهدي بها لمعرفة نوعية الورم هل هو خبيث فيتجنبه، أم هو من الزوائد اللحمية التي يمكن استئصالها ومداواتها بالجراحة. ¬

_ (¬1) القصبة الهوائية: هي المسلك الهوائي الممتد من الحلق والحنجرة إلى الشعبتين الرئيسيتين، وطولها عشرة سنتيمترات، وعرضها سنتيمتر ونصف السنتيمتر تقريبًا. الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 5/ 1061. (¬2) اللوزتين: مثنى لوزة، والمراد بها اللوزتان الحنكيتان، ومكانهما في جانبي الحلق، وشكلهما بيضي، وهما جزء من الجهاز اللمفاوي. المصدر السابق 7/ 1140. (¬3) اللهاة: اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى الفم. المصباح المنير للفيومي2/ 559. (¬4) الورم السرطاني: ورم خبيث ناتج من تحول، أو تغير خبيث يصيب الخلايا البشرية، أو الأبنيليومية، ولا يعرف على وجه التحديد سبب هذا التغير في نمو الخلايا، وتكاثرها. الموسوعة الطبية العربية د. البيروم 176.

ويعتبر عبد الملك بن زهر -رحمه الله- (¬1) أول طبيب جراح قام بوصف جراحة الجهاز التنفسي، وذلك في كتابه الفريد في الطب "التيسير في المداواة والتدبير" (¬2). كما كان الرازي -رحمه الله- (¬3) أول من تكلم على الفوارق التي يميز بها بين نوعي النزيف (النزيف الشرياني، والوريدي)، كما تكلم على جراحة الكسور والجبائر فجاء بآراء في غاية الصحة. كما نبه على الطرق التي يمكن بواسطتها إيقاف النزيف الشرياني والسيطرة عليه. وكان أيضًا أول من استعمل الفتائل في أثناء العمل الجراحي، وكذلك الأنابيب التي يمر فيها الصديد والقيح، والإفرازات السامة. ¬

_ (¬1) هو أبو مروان عبد الملك بن أبي العلاء زهر بن زهر الأيادي، ولد رحمه الله في أشبيلية ما بين عام 484 وعام 487 هـ، وهو من أسرة مشهورة بالنبوغ في الطب، لكنه يعتبر أعظم أطبائها بلا نزاع، توفي رحمه الله في عام 557 هـ وله مؤلفات منها: التيسير، الأغذية عيون الأنباء لابن أبي أصبعيه: 2/ 517، 519. (¬2) تأثير الحضارة الإسلامية الطبية والجراحية على الحضارة الغربية، د. محمد عبد الله سيد محمد خليفة، من بحوث المؤتمر الطبي العربي الرابع والعشرون بالقاهرة، ملخص الأبحاث 171، 172. (¬3) هو أبو بكر محمد بن زكريا الرازي، ولد رحمه الله بالري سنة 251 هـ، ونشأ بها، ثم سافر إلى بغداد بعد الثلاثين من عمره، وعكف على تعلم الطب وغيره من العلوم، حتى نبغ واشتهر في علم الطب شهرة عظيمة، وتولى تدبير مارستان الري، ثم رئاسة المارستان العضدي في بغداد، توفي رحمه الله ببغداد سنة 311 هـ. وله مؤلفات كثيرة بلغت مائتين وثلاثين كتابًا ورسالة في العلوم الطبية، وغيرها، ومنها الحاوي، منافع الأغذية ودفع مضارها، الأطباء. عيون الأنباء لابن أبي أصبعيه: 414 - 427، ومعجم العلماء العرب للورد 1/ 144، 145.

ويعتبر الأطباء المسلمون أول من استعمل التخدير في الجراحة الطبية، حيث اخترعوا الأسفنجة المخدرة (¬1)، وكذلك كانوا أول من استعمل الخيوط المصنوعة من أمعاء الحيوان في تخييط الجروح (¬2). وإضافة إلى ما سبق فإننا نجد الأطباء المسلمين قد اعتنوا بجانب آخر له أهمية كبيرة في علم الجراحة الطبية، ويعتبر مفتاحًا لفهمها، وإتقانها، وهو جانب التشريح الذي إذا تعلمه الطبيب، وأتقنه تمكن من أداء مهمة الجراحة بيسر وسهولة دون أن يعرض حياة المريض للخطر، ولذا قال الزهراوي (¬3) -رحمه الله- "من لا يبرع في التشريح لابد أن ¬

_ (¬1) الأسفنجة المخدرة: هي قطعة من الأسفنج توضع في عصير الحشيش، والأفيون والزوان، وست الحسن، ثم تجفف في الشمس، وعند الحاجة إلى استعمالها ترطب بالماء، ثم توضع على أنف المريض فتمتص الأنسجة المخاطية الموجودة في أنفه تلك المواد المخدرة، فيتخدر بها. التخدير الموضعي د. شفيق الأيوني 12، أعلام العرب والمسلمين في الطب د. علي عبد الله الدفاع ص 58. (¬2) يقول الدكتور محمود الحاج قاسم: "يجمع المؤرخون على أن الرازي كان أول من أدخل استعمال الخيوط المصنوعة من أمعاء الحيوانات في خياطة الجروح والأنسجة تحت الجلد" اهـ. الطب عند العرب والمسلمين د. محمود الحاج قاسم ص 149، وانظر: الطب عند العرب حنيفة الخطيب ص 30. وقد أشارت إلى هذه المعلومات الجراحية التي لم يسبق إليها أطباء المسلمين المصادر التالية: أعلام العرب والمسلمين في الطب، الدكتور علي عبد الله الدفاع 51 - 58 الطب عند العرب والمسلمين تاريخ ومساهمات، الدكتور محمود الحاج قاسم محمد 105 - 153. الطب عند العرب حنيفة الخطيب 27 - 39. نشأة الطب للدكتور عبد الله عبد الرزاق السعيد 74 - 83. تاريخ الطب وآدابه وأعلامه أحمد شوكت الشطي 278 - 299. شمس العرب تسطع على الغرب زيغريد هونكه 277 - 281. (¬3) هو أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي قال عنه الحميدي في الجذوة: "من أهل الفضل والدين والعلم، وعلمه الذي بسق فيه علم الطب، وله فيه كتاب مشهور كثير الفائدة محذوف الفضول سماه كتاب التصريف ... مات بالأندلس بعد =

يقع في خطأ قد يؤدي بحياة المريض" اهـ (¬1). ويعتبر الزهراوي أحد أعلام الجراحة الطبية المبرزين، الذين كانت لهم الخبرة الواسعة في معلوماتها وتطبيقاتها وكان علم الجراحة قبل ظهوره من العلوم الممتهنة، حتى كان الأطباء يترفعون عن أداء بعض المهام ويكلونها إلى الحجامين، والحلاقين، ويقتصرون على الإشراف والتوجيه، وكانوا يسمون مهمته: (بعمل اليد) (¬2) وقد أشار الزهراوي -رحمه الله- إلى ذلك بقوله: " ... رأيت أن أكمله لكم بهذه المقالة التي هي جزء من العمل باليد، لأن العمل باليد مخسة في بلادنا، وفي زماننا معدوم البتة حتى كاد أن يندرس عمله وينقطع أثره ... " (¬3) اهـ. ولكن ما إن ظهر كتابه "التصريف" حتى احتل علم الجراحة الصدارة بين الفروع والعلوم الطبية الأخرى، وكان لمؤلفه الزهراوي فضل السبق إلى إحيائه بعد أن كاد أن يدرس رسمه، وينقطع أثره (¬4). ¬

_ = الأربعمائة"اهـ. جذوة المقتبس للحميدي ص 208، 209. (¬1) التصريف لمن عجز عن التأليف للزهراوي 1/ 2، الإنجازات الجراحية لأبي القاسم الزهراوي د. أحمد عبد الحي من بحوث المؤتمر العالمي الثاني عن الطب الإسلامي، ثبت المؤتمر 4/ 554. (¬2) الطب عند العرب والمسلمين د. محمود الحاج قاسم ص 105, أعلام العرب والمسلمين في الطب د. الدفاع ص 52. (¬3) التصريف لمن عجز عن التأليف للزهراوي 1/ 2. الطب عند العرب حنيفة الخطيب 31. (¬4) الطب عند العرب والمسلمين. د. محمود الحاج قاسم ص105، 106.

نماذج من إسهامات الزهراوي في علم الجراحة الطبية:

قال الشيخ أحمد بن محمد المقري (¬1) -رحمه الله-: "وكتاب التصريف لأبي القاسم خلف بن عياش الزهراوي، وقد أدركناه وشاهدناه، ولئن قلنا: إنه لم يؤلف في الطب أجمع منه، ولا أحسن للقول، والعمل في الطبائع لنصدقن" اهـ (¬2). ونظرًا لما له من الفضل الكبير بعد الله تعالى في تقدم الجراحة الطبية من بعده، رأيت من المناسب الكلام على نماذج من إسهاماته في علم الجراحة الطبية. نماذج من إسهامات الزهراوي في علم الجراحة الطبية: إن الحديث عن هذا العَلَم الإسلامي، وذكر نماذج من إسهاماته في علم الجراحة الطبية ليس هو من باب التعصب والحياد، ولكنه من باب المعرفة أولاً، ثم من باب إظهار فضل ذي الفضل، لكي يعرف بفضله فينصف بإعطائه قدره، وحقه خاصة إذا جحد الأعداء ذلك الفضل، وغمطوه حقه حسدًا، ونسبوه إلى أنفسهم زورًا وبهتانًا فحينئذ يكون الحديث عن فضله فيه إظهار للحق، وإبطال للباطل، وكشف عن زيف الأعداء وكذبهم حتى لا ينخدع به أبناء المسلمين (¬3). ¬

_ (¬1) هو الشيخ أحمد بن محمد بن أحمد بن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي العيش بن محمد المالكي التلمساني، ولد رحمه الله في تلمسان سنة 992 من الهجرة، وتوفي بالقاهرة في سنة 1041 هـ، وله مؤلفات كثيرة منها: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، العاطر الأنفاس في ذكر من لقيته من أعلام مراكش وفاس، والبدأة والنشأة في النظم والأدب. معجم المؤلفين لكحالة 2/ 78. (¬2) نفح الطيب للمقري 4/ 167. (¬3) فعلى سبيل المثال: كان الزهراوي -رحمه الله- أول من قام بعملية إيقاف النزف =

وإضافة إلى ما سبق فإن إظهار فضل علماء الطب المسلمين في هذا الجانب أو غيره إنما هو في الحقيقة إظهار لفضل الإسلام نفسه وفيه دعوة للتمسك به، والالتزام الكامل لمبادئه وآدابه وشرائعه، لأن السلف -رحمهم الله- إنما نبغوا وفاقوا غيرهم بسبب ذلك. وقد كان للزهراوي -رحمه الله- إلمام كبير بعلم الجراحة الطبية لم يقف عند معرفته لما سبقه إليه غيره من علماء الطب وحُذَّاقه، بل تعدى ذلك كله إلى درجة الاكتشاف وعمل المهام الجراحية التي لم يسبق إلى عملها من قبل، ثم وصفه لها وصفًا دقيقًا في مؤلفه. كما ابتكر بعض الآلات الجراحية ورسمها وبين كيفية استعمالها، وتطبيق المعلومات الجراحية بواسطتها، وهذا أسلوب لم يسبقه إليه أحد غيره ممن كتب في العلوم الطبية، أو تحدث عن آلاتها. فقد كان الأطباء من قبله يعتنون بالوصف الكتابي دون الرسم الإيضاحي الذي انتهجه الزهراوي -رحمه الله- في كتابه "التصريف" واعتنى به عناية فائقة، ويعتبر كتابه هذا رائدًا في علم الجراحة الطبية، وقد استفاد منه علماء الطب والجراحون الأوربيون وغيرهم على مدى ¬

_ = الدموي بواسطة عملية ربط الشرايين، ولكن نسب ذلك إلى الجراح الفرنسي "أمبراوازباري" والذي جاء بعد الزهراوي بما يقارب من ستة قرون!!. دراسات في تاريخ العلوم عند العرب حكمت نجيب عبد الرحمن ص 57. كما كان الزهراوي أول من أوصى بولادة الحوض المسماة في أمراض النساء "وضع والثر" في الولادة، ولكن نسب ذلك إلى الطبيب الأوربي "والثر". أعلام العرب والمسلمين في الطب د. الدفاع ص 53.

قرون عديدة (¬1). وقد تحدث -رحمه الله- في كتابه "التصريف" عن العلوم الطبية بمختلف فروعها ومجالاتها، وأفرد للجراحة الطبية موضعًا معينًا من ذلك الكتاب النفيس، وهو [المقالة الثلاثون]، ويعد ذلك أول من اعتبر الجراحة فرعًا مستقلاً، وأول من أفرد معلوماتها بمبحث مستقل بعد أن كانت متناثرة ومندرجة تحت أبواب الفروع الطبية الأخرى (¬2). وقد مهد -رحمه الله- بهذه المقالة الطريق أمام المشتغلين بعلم الجراحة، وكان له فضل كبير على جميع الجراحين الذين جاءوا من بعده سواء كانوا من المسلمين أو من غيرهم (¬3)، وقد تأثر به من كتب في ¬

_ (¬1) استمر هذا الكتاب مدة خمسة قرون وهو يعتبر عمدة في علم الجراحة في أوربا وغيرها، وترجم إلى اللغة العبرية، كما ترجم إلى اللغة اللاتينية بفينيسيا سنة 1497 م، وستراسبورغ سنة 1532 م، وبال سنة 1541 م، أما المقالة العاشرة المختصة بعلم الجراحة فقد طبعت منفردة بترجمتها الكاملة باللغة اللاتينية في مدينة أوغنورك سنة 1519 م، وطبعت بالعبرية مع ترجمة لاتينية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وتوجد بدار الكتب المصرية بالقاهرة نسختان من المقالة العاشرة من هذا الكتاب، والنسخة الأولى منها تحت رقم (طب 935) وتقع في جزأين، وقد طبعت في لندن سنة 1778 م بنصها العربي مصحوباً بالترجمة اللاتينية. والنسخة الثانية عربية طبعت في لكنو بالهند سنة 1908 م. دراسات في تاريخ العلوم عند العرب حكمت نجيب عبد الرحمن ص 56 - 57. وتاريخ الطب للشطي ص 279، والجراحة عند الزهراوي د. أحمد مختار منصور من بحوث المؤتمر العالمي الثاني عن الطب الإسلامي، ثبت بالمؤتمر 4/ 452، 453. (¬2) يقول الدكتور محمود الحاج قاسم: "اعتبر الزهراوي بحق أول من فرق بين الجراحة وغيرها من المواضيع الطبية ... " اهـ. الطب عند العرب والمسلمين. د. محمود الحاج قاسم 106. ويقول الدكتور عبد العظيم الديب: "إن عظمة الزهراوي تكمن حقًا في أنه أول من عني بالجراحة وجعلها فرعًا مستقلاً ... اهـ". أبو القاسم الزهراوي أول طبيب جراح في العالم. د. الديب ص 100. (¬3) يقول عالم وظائف الأعضاء "هالر": "إن جميع الجراحين الأوربيين الذين ظهروا =

علم الجراحة من بعده فأفردها بمباحثها حتى جاء ابن القف فألف فيها كتابًا مستقلاً وهو "العمدة في الجراحة". ومع جمع الزهراوي -رحمه الله- لمادة علم الجراحة في هذه المقالة، فإنه قد جاء فيها بالعجب في الجراحات المبتكرة التي لم يسبقه أحد إلى فعلها والكتابة عنها (¬1). ¬

_ = بعد القرن الرابع عشر قد نهلوا، واستقوا من هذا المبحث" اهـ. ويقول غيره من جراحي الغرب: "لاشك في أن الزهراوي أعظم طبيب في الجراحة العربية، وقد اعتمده واستند إلى بحوثه جميع مؤلفي الجراحة في القرون الوسطى، ... اهـ. الإسناد الطبي في الجيوش العربية الإسلامية د. التكريتي ص 201. (¬1) ذكر الدكتور عبد العظيم الديب عددًا من الجراحات التي وصفها الزهراوي -رحمه الله- وطبقها بنفسه لأول مرة. انظر كتابه: أبو القاسم الزهراوي ص 57 - 70، وهناك العديد من الكتابات العلمية التي أظهرت فضل الزهراوي رحمه الله في علم الجراحة الطبية، وذكرت عددًا كبيرًا من الجراحات التي كان له فضل السبق إلى معرفتها، والكتابة عنها، ومن تلك الدراسات والبحوث ما يلي: أ- بحوث المؤتمر العالمي الأول عن الطب الإسلامي وهي: 1 - فضل الجراح الأندلسي المسلم أبي القاسم الزهراوي على جراحة الأعصاب، لمجموعة من الأطباء ص 287 - 395. 2 - تراث الاسلام في الجراحة الحديثة. د. أحمد عبد الحي ص 358 - 365. 3 - جراحة الجمجمة والدماغ عند الأطباء العرب. د. عبد القادر عبد الجبار ص373 - 377. ب- بحوث المؤتمر العالمي الثاني عن الطب الإسلامي- وفيها ما يلي: 1 - الجراحة عند الزهراوي- د. أحمد مختار منصور ص 451 - 483. 2 - أبو القاسم الزهراوي وتأثيره في جراحة العيون. د. محمد ظفر الوفائي ص484 - 488. 3 - أبو القاسم الزهراوي وأثره في علاج إصابات الاطراف. د. قاضي. م. أقبال ص 489 - 492. 4 - أبو القاسم الزهراوي أشهر طبيب جراح في القرون الوسطى. د. سيمون حايك ص 493 - 503. جـ- دراسات في تاريخ العلوم عند العرب والمسلمين. حكمت نجيب الرحمن ص56 - 58. =

فها هو في جراحة العيون يتكلم عن علاج الناصور الدمعي ويصف الدواء المتمثل في ثلاث طرق: الكي، وسكب الرصاص الذائب في قاعه، والجراحة التي يتم بها الشفاء من علته بإذن الله تعالى. ونصح بإجراء الجراحة بعد فشل الطريقتين السابقتين، وهذه الجراحة تتمثل في إجراء فتحة بين الكيسيه الدمعية، وغشاء الأنف المخاطي عبر عظم الأنف، وهي طريقة -كما يقول بعض المختصين- توصف لأول مرة في التاريخ (¬1). وفي هذا النوع من الجراحة -جراحة العيون- ذكر عددًا من الآلات الجراحية التي لم يسبقه أحد لوصفها، مثل المكواة التي تختص بكي الجلد الذي تحت الحاجب والمبضع الأملس الذي استحدثه لأول مرة في التاريخ لإجراء الجراحات المتعلقة بتسليح الصنفرة (¬2). وفي جراحة الأنف والأذن والحنجرة تكلم على نماذج من جراحة الأنف ومنها استئصال الزوائد اللحمية الموجودة في الأنف، فبين أولاً أنواعها، وما الذي يستأصل منها والذي لا يستأصل، ثم بين الطريقة التي يسلكها الجراح لاستئصاله ولم يقف عند ذلك الحد، بل اعتنى بذكر الطواريء التي قد تطرأ في بعض الأحوال أثناء قيام الجراح بمهمته ¬

_ = د- فضل علماء المسلمين على الحضارة الأوربية. د. عز الدين فراج 243 - 251. هـ. الطب عند العرب والمسلمين تاريخ ومساهمات. د. محمود الحاج قاسم ص 105 - 152. و الطب الإسلامي. د. أحمد طه ص 64 - 68. ز- تاريخ الطب وآدابه وأعلامه. أحمد الشطي ص 278 - 299. (¬1) أبو القاسم الزهراوي وتأثيره في جراحة العيون. د. الوفائي من بحوث المؤتمر العالمي الثاني عن الطب الإسلامي ثبت المؤتمر 4/ 485. (¬2) المصدر السابق 4/ 484 - 485.

مثل النزف، والورم الحار، ثم بين له ما ينبغي عليه فعله عند حدوثها، ولم يقف عند ذلك بل فرض احتمال العجز عن التمكن من الاستئصال فاقترح طريقًا بديلاً عن سابقه، فدلل بذلك كله على شخصيته الفذة التي أحكمتها التجارب وامتازت بالمعرفة الواسعة. وفي جراحة الحنجرة تكلم عن عملية استئصال اللوزتين، وذلك في الفصل الخامس والثلاثين كما تكلم عن شق الحنجرة بسبب الورم الذي يحدث في داخل الحلق، وذلك في الفصل الثالث والثلاثين ووصف في جميع ذلك الآلات الجراحية التي يستعملها الجراح، وكان وصفه في جميع ذلك في غاية الوضوح والدقة (¬1) مع عنايته المستمرة بتنبيه الجراح على الأمور التي تنبغي مراعاتها أثناء قيامه بمهمته، والمخاطر والصعوبات التي قد تواجهه وكيفية التغلب عليها عند حدوثها (¬2). وفي جراحة الفم والأسنان تكلم -رحمه الله- عن هذا النوع من الجراحة في أكثر من ثلاثة فصول من تلك المقالة، ووصف لأول مرة -كما شهد ذلك بعض المختصين- عملية جرد الأسنان والطريقة التي تتم بها، والآلات التي يحتاجها الجراح في مهمتها. ¬

_ (¬1) الجراحة عند الزهراوي. د. أحمد مختار منصور ص 469 - 472، من بحوث المؤتمر العالمي الثاني عن الطب الإسلامي جـ4، وتاريخ الطب وآدابه وأعلامه للشطي ص 281. (¬2) تعتبر هذه ميزة من مميزات الزهراوي رحمه الله في كتاباته التي وصف بها الجراحة، ولذلك يقول: "فرند" أحد الأطباء الغربيين: " .. إنه -أي الزهراوي- أول من نبه إلى الاحتياطات الواجب اتخاذها لمنع أخطار العمليات الجراحية، وقد ذكرها عند الحديث عن كل عملية جراحية" اهـ. فضل علماء المسلمين على الحضارة الاوربية. د. عز الدين فراج ص 246، وتاريخ الطب وآدابه وأعلامه للشطي ص280.

كما تحدث عن عملية قلع الأضراس، وأصولها، وإخراج الفكوك المكسورة وفي ذلك يقول بعض الأطباء المختصين: "والفصل الحادي والثلاثون في قلع أصول الأضراس، وإخراج عظام الفكوك المكسورة يظهر لنا عبقرية الزهراوي وقدرته على الابتكار، فلم يسبق لأحد أن كتب عن هذا الموضوع بهذا التفصيل وتلك الدقة التي تدل على خبرة هائلة" (¬1) اهـ. ويقول أيضًا: "والفصل الثاني والثلاثون هو أول ما كتب في تاريخ الطب عن تقويم الأسنان الذي أصبح الأن علمًا قائمًا بذاته ... " (¬2) اهـ. وفي جراحة الفم يصف عملية استئصال الورم المتولد تحت اللسان على شكل الضفدعة، ويقرر بعض الأطباء الغربيين أن هذه الحالة لم يسبق لأحد أن وصفها قبل الزهراوي" (¬3). وفي جراحة المسالك البولية ابتكر الزهراوي -رحمه الله- عملية غسل المثانة واستحدث لها بعض الآلات التي لم تزل تستخدم إلى يومنا هذا. ويعتبر أول من وصف ما يسمى الآن بعملية تفتيت الحصاة، وفي الفصل الثاني والستين تكلم عن الطريقة التي يتم بها الشق على الأدرة المائية، ويقول بعض الأطباء المعاصرين بعد ذكره لمحتوى تلك الجراحة: "أما طريقة إجراء العملية الجراحية في يومنا هذا فلا تكاد ¬

_ (¬1) الجراحة عند الزهراوي، د. أحمد مختار منصور ص 473 من بحوث المؤتمر العالمي الثاني عن الطب الإسلامي جـ4. (¬2) المصدر السابق. (¬3) المصدر السابق ص 474.

تفترق عما وصفه الزهراوي من عشرة قرون" اهـ (¬1). وفي الجراحة الباطنية تكلم عن علاج الفتوق، فبين الطريقة التي يتم بها علاج فتق السرة بعد بيان أسباب ذلك الفتق، وذكر المخاطر التي قد تعترض الجراح أثناء قيامه بمهمته وكيفية التغلب عليها ولا يزال المبدأ الأساسي في جراحة الفتق السري باقياً إلى يومنا هذا كما وصفه الزهراوي منذ عشرة قرون كما يقول بعض الأطباء المعاصرين (¬2). كما تحدث عن نماذج عديدة من الجراحة المتعلقة بالبطن، ووصفها وصفًا دقيقًا. وفي الجراحة العامة تكلم -رحمه الله- عن علاج الأورام بالبط، والشق، ووصف العمل الجراحي اللازم لعلاجها، وأرسى ثلاثة مباديء تعتبر في غاية من الأهمية، وما زالت تُتَّبع إلى يومنا هذا وتدرس لطلاب الطب ومتعلمي الجراحة، ثم (¬3) تكلم على نماذج من هذا النوع من الجراحة فوصف لأول مرة في التاريخ عملية جراحية لم يسبقه إليها أحد، وهي تتعلق بإزالة الورم الذي يعرض في الحلقوم من خارجه ويسمى فيلة الحلقوم، ويعرف في العصر الحاضر بتضخم الغدة ¬

_ (¬1) الجراحة عند الزهراوي د. أحمد مختار منصور ص 473، والطب الإسلامي. د. أحمد طه ص 66، 67، والأدرة المائية وتسمى القيلة المائية: تورم غير مؤلم بالصفن ينشأ من تجمع سائل بين طبقات الأنسجة التي تغطي الخصية، وقد يؤدي إلى أن تظهر الخصية وكأنها متورمة ذات حجم كبير بالغ الكبر. الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 5/ 1084. (¬2) الجراحة عند الزهراوي د. أحمد مختار منصور ص 473، وأبو القاسم الزهراوي د. الديب ص 66. (¬3) الجراحة عند الزهراوي د. أحمد مختار، من بحوث المؤتمر العالمي الثالث عن الطب الإسلامي ثبت المؤتمر 4/ 457.

الدرقية (¬1) وهذا النوع من الجراحة من أغرب أنواع الجراحة الطبية وأشدها خطرًا حتى قال بعض الأطباء الجراحين الأمريكيين الكبار في بعض بحوثه الطبية: " ... هل يمكن إزالة الغدة الدرقية المتضخمة بالجراحة؟ إن التجربة تبين لنا أن الإجابة هي على وجه التأكيد بالنفي، أما إذا كان الجراح طائشًا لدرجة محاولة هذه الجراحة فسوف يكون محظوظاً لو عاش ضحيته حتى يكمل هذه المجزرة" (¬2) اهـ. ومع هذا كله فإن الزهراوي -رحمه الله- قام بإجراء هذه الجراحة، ووصفها وصفًا دقيقًا في الفصل الرابع والأربعين من مقالته (¬3). هذا غيض من فيض، وقليل من الكثير الذي منحه الله عز وجل لهذا الطبيب الجراح المسلم الذي أنار الطريق ومهده لمن جاء من بعده، إلى أن وصلت الجراحة الطبية في عصرنا الحاضر إلى هذه الدرجة العالية من التطور والرقي، ولذلك يقول بعض من كتب عن أثره في الجراحة: "لولا أن أوربا سارت على دربه ما وصلت الجراحة إلى ما ¬

_ (¬1) الغدة الدرقية: غدة صماء تقع في مقدم العنق محتضنة بعض الحنجرة، وبعض القصبة الهوائية، وهي تتألف من فصين يصل بينهما برزخ من نفس النسيج المكون من حويصلات تفرز هرمونًا خاصًا غنيًا باليود وذات أثر كبير في تنظيم عملية الأفعال الحيوية. الموسوعة الطبية العربية، د. البيرم ص 253، والموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 5/ 1009، 1010. (¬2) نقل ذلك الدكتور أحمد مختار عن صامول كروس أحد مشاهير الجراحة الأمريكيين خلال القرن التاسع عشر. انظر: الجراحة عد الزهراوي د. أحمد مختار ص 458، من بحوث المؤتمر العالمي الثالث عن الطب الإسلامي ثبت المؤتمر 4/ 458. (¬3) المصدر السابق.

هي عليه الآن. فما وصلت إليه الجراحة الآن ما هو إلا جهد قرون من الزمان، وآلاف من الباحثين رسم لهم الزهراوي الطريق فساروا عليه ... ومن سار على الدرب وصل ... ويكفي أن نقول البداية نصف النجاح" (¬1) اهـ. ويقول بعض الأطباء الغربيين المعاصرين: " ... غي دي شولياك 1267 م- 1300 م تأثر بالزهراوي، وبهذا الجراح الفرنسي تبتدي سلسلة طويلة من الجراحين الفرنسيين وغيرهم ... وقد أثر تأثيرًا كبيرًا في الجراحين الذين جاءوا من بعده، فقد أقلع عن استعمال المبيدات، وعاد إلى استعمال المراهم، والزيت، والفتيل، مقتفيًا بذلك أثر الزهراوي" (¬2) اهـ. فرحم الله الزهراوي برحمته الواسعة، وجزاه عن هذه الآثار الحميدة التي خفت بها الآلام، وزالت بها العلل خير الجزاء، والحمد لله أولاً وآخرًا. * * * ¬

_ (¬1) فضل علماء المسلمين على الحضارة الأوربية. د. عز الدين فراج ص 249. (¬2) هو الدكتور سيمون حايك، انظر بحثه: أبو القاسم الزهراوي أشهر طبيب جراح في القرون الوسطى، من بحوث المؤتمر العالمي الثاني عن الطب الإسلامي ثبت المؤتمر 4/ 499.

المبحث الثاني في (الجراحة الطبية في العصر الحديث)

المبحث الثاني في (الجراحة الطبية في العصر الحديث) يشتمل هذا المبحث على مطلبين: المطلب الأول: في تخصصات الجراحة الطبية الحديثة. المطلب الثاني: في مهمة الفريق الجراحي.

المطلب الأول في (تخصصات الجراحة الطبية الحديثة)

المطلب الأول في (تخصصات الجراحة الطبية الحديثة) بلغت الجراحة الطبية في العصر الحاضر درجة عالية من الدقة والمهارة والنبوغ الذي لم يسبق له مثيل، حيث أمكن بفضل الله تعالى تحقيق كثير من الآمال في علم الجراحة، والتي كانت منذ عهد قريب يعد تحقيقها ضربًا من الخيال والمستحيل، ووصل العمل الجراحي إلى أعماق جسم الإنسان، وإلى أخطر شيء فيه وهو القلب. فقد تمكن الأطباء الجرَّاحون بفضل الله تعالى من إجراء الجراحات الدقيقة المتعلقة بصمام القلب، والشرايين التاجية، وقد كان من المستحيل إجراء هذه الجراحات الدقيقة المتعلقة بهذين الموضعين نظرًا لخطورتها وصعوبتها. كما أمكن بفضل الله إجراء الجراحات الدقيقة الخطيرة في الدماغ الذي يعتبر أعقد شيء في جسم الإنسان، وكان من المستحيل دخول الجراحة إليه منذ عهد قريب جدًا (¬1). كل ذلك تحقق بفضل الله تعالى ثم بفضل التخصص الجراحي الذي كان له أعظم الأثر في تطور الجراحة الطبية نظريًا وتطبيقيًا، وذلك لأنه يمكن الطبيب من الاستيعاب التام، والتصور الشامل لما تخصص فيه، الأمر الذي يثمر الإتقان، ويساعد على الإلمام بالجوانب المهمة ذات الصلة، ويمهد السبيل أمامه لاكتشاف الجديد المفيد. ¬

_ (¬1) الشفاء بالجراحة، د. الفاعور ص 11.

والتخصص في علم الجراحة في العصر الحاضر أصبح منتشرًا في جميع الكليات، والأقسام العلمية، والمستشفيات الحكومية والأهلية، وشمل أغلب أجزاء الجسم، ولا يزال تخصص الدراسات الطبية بالفروع المهمة والتوسع في ذلك موجودًا، إلا أنه منحصر في الدول المتقدمة والمستشفيات العالمية التي تمتلك الإمكانيات المساعدة على ذلك، وأشهر التخصصات الجراحية التي توجد في كثير من الكليات والمستشفيات الحكومية والأهلية حاليًا ما يلي: (1) الجراحة العصبية. (2) جراحة العيون. (3) جراحة الأنف والأذن والحنجرة. (4) جراحة الفم والأسنان. (5) جراحة القلب والأوعية الدموية. (6) جراحة الصدر. (7) جراحة البطن. (8) جراحة المسالك البولية والأعضاء التناسلية. (9) جراحة العظام. (10) الجراحة العامة. (11) جراحة الأطفال. (12) جراحة النساء والولادة. (13) جراحة التجميل.

وقد تتوسع بعض المستشفيات فتفرد بعض الأمراض الجراحية بقسم خاص، مثل الأمراض السرطانية يتم إفراد جراحتها بمسمى "جراحة السرطان"، وإن كانت في الحقيقة مندرجة في هذه الفروع السابقة بحسب الموضع الذي يوجد فيه السرطان فتكون مندرجة في جراحة البطن إذا كان السرطان موجودًا في المعدة مثلاً، ونحو ذلك، إلا إنهم يفردونها بالتخصص فيها نظرًا لأهميتها والتخصص بهذه الدرجة لا يوجد إلا في بعض الدول المتطورة كما تقدم. * * *

المطلب الثاني في (مهمة الفريق الجراحي)

المطلب الثاني في (مهمة الفريق الجراحي) تستلزم الجراحة وجود الطبيب الجراح (¬1) الذي يقوم بالعمل الجراحي، إضافة إلى أشخاص آخرين يقومون بمساعدته بأداء مهام أخرى لها صلة وثيقة بعمله الجراحي، وهم أخصائي التخدير، والممرضون أو الممرضات (¬2). والطبيب الجراح هو الذي يتحمل المسئولية الكاملة عن العمل الجراحي، ولا يعتبر أخصائيًا له حق إجراء الجراحة الطبية وتحمل مسئولياتها إلا بعد أن يمضي سنوات معينة في حقل التعليم الطبي والتطبيق، حيث يمضي سنة كاملة يتدرب فيها بعد دراسته الطبية، ثم سنتين أو ثلاث طبيبًا مقيمًا بقسم الجراحة في المستشفى يحصل أثناءها على دبلوم التخصص، ويعد بعد ذلك أخصائيًا جراحيًا لكن ليس له الحق في القيام بالعمل الجراحي وحده إلا بعد مدة أخرى يقضيها تحت إشراف أحد الجراحين القدامى حسب العادة المتبعة في العرف الطبي (¬3). وأما أخصائي التخدير فإنه يعتبر عضوًا من أعضاء الفريق الجراحي، ويتم تأهيله لذلك عن طريق التعليم الطبي، حيث يقوم ¬

_ (¬1) جاء في دائرة المعارف الإسلامية: "الجراح: وقلما يقال الجراحي، والجرائحي، ويندر أن ترد هذه الكلمة في الكتب العربية القديمة، ففيها ترد كلمة الآسي بمعنى الجراح وهي تدل أيضاً على الطبيب، وظهرت كلمة الجراح أول مرة في النقول العربية التي تمت في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) ومن ثم دخلت في المؤلفات الطبية" اهـ. دائرة المعارف الإسلامية 6/ 318، 319. (¬2) الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 5/ 983. (¬3) المصدر السابق 3/ 450، والسلوك المهني للأطباء للتكريتي ص 142، 143.

بدراسة علم التخدير والإنعاش والذي يعتبر من فروع التعليم الطبي في الكليات والمعاهد الطبية حاليًا. ويقوم أخصائي التخدير بفحص المريض قبل إجراء الجراحة وتخديره ليتعرف من خلال ذلك على حالة المريض الصحية ومدى كفاءة الجهاز التنفسي، وحساسيته تجاه المواد المخدرة، ليستطيع بعد ذلك أن يحدد نوعية المخدر وكميته التي سيعطيها للمريض، وله الحق في إبداء رأيه عن عدم صلاحية المريض، وامتناعه من تخديره بناء على ذلك (¬1). وإذا قام بتخدير المريض فإنه يتحمل المسئولية عن مراقبته وملاحظة حركات التنفس وقياس ضغط الدم، ويتخذ الحيطة اللازمة دون حصول أي تغير يضر بالمريض ويعرض حياته للهلاك، فيمنع لسان المريض من الاندفاع للخلف لئلا يختنق فيموت ويتخذ الاستعدادات الكافية للحيلولة دون الهبوط المفاجيء في ضغط الدم عند المريض وفي حالة توقف عمل القلب يقوم بتدليكه عن طريق خارجي، أو من خلال الحجاب الحاجز (¬2). وبعد أن تنتهي الجراحة الطبية تبدأ مرحلة أخرى لعمل طبيب التخدير، وهي إفاقة المريض، وإعادته إلى حالته الطبيعية. وتستمر رعاية طبيب التخدير لمريضه لمدة أربع وعشرين ساعة على الأقل بعد إجراء الجراحة، بحيث يمكن تلافي أي مضاعفات قد تحدث للمريض بعد إجراء الجراحة (¬3). ¬

_ (¬1) التخدير غوردون أوستلر، وزوجر برايس سمث 8، 9، السلوك المهني للأطباء، للتكريتي ص 252، 253. (¬2) السلوك المهني للأطباء للتكريتي ص 254، 255. (¬3) العمليات الجراحية وجراحة التجميل- محمد رفعت ص 24.

وأما الممرضون والممرضات فمهمتهم في الجراحة تقوم على التحضير لها قبل إجرائها، ومساعدة الجراحين أثناء قيامهم بمهتهم. فأما تحضيرهم للجراحة، فذلك يشمل تحضير المريض نفسيًا وجسديًا، وتحضير الأدوات والآلات اللازمة أثناء العمل الجراحي حسب الجراحة المطلوبة، ثم الإشراف على تمريض المريض بعد انتهاء الجراحة. أما تحضيرهم للمريض فإنه يشتمل على تهدئته، وتهيئته لتحمل مشاق الجراحة من الناحية النفسية. كما يشتمل على فحصه قبل الجراحة بيوم، فيقوم الممرض بقياس درجة حرارة المريض، ومعدل نبضه، وتنفسه، وضغط دمه، ثم يقوم بتسجيل جميع المعلومات في بطاقة المريض الخاصة. وفي هذه الحالة يتحمل مسئولية الإخبار عن كل حالة غير طبيعية يخشى من ضررها في المستقبل. ثم يقوم بإعطاء المريض الأدوية الخاصة واللازمة قبل الجراحة، كما يقوم بتفريغ مثانة المريض من البول قبل إدخاله للغرفة التي ستجرى فيها الجراحة (¬1). ويشتمل تحضير المريض -أيضًا- على تعقيم الموضع الذي ستجرى فيه الجراحة وتهيئته للعمل الجراحي بحلقه مثلاً إن كان فيه شعر كما يحدث ذلك في بعض أنواع الجراحة (¬2). ¬

_ (¬1) التمريض الجراحي والباطنى وفروعهما د. سعاد حسين حسن 2/ 54 - 59، 65، ومقدمة في فن التمريض د. الدجاني وهويد اللحام ص 70. (¬2) المصدر السابق 2/ 56، 57 وروافد الجراحة للمرضات للبوز ص 20، من أمثلة =

ثم يقوم الممرض بتحضير جميع الأدوات والآلات الجراحية المطلوبة حسب نوعية الجراحة، ويعتني بتنظيفها وتعقيمها (¬1). وفي أثناء العمل الجراحي ينقسم الممرضون حسب المهمات المطلوبة منهم، فمنهم من يقوم بمناولة الطبيب الجراح آلات الجراحة التي يحتاجها، ومنهم من يقوم بتنظيفها، وإعادة تعقيمها بعد استعمال الطبيب الجراح لها تهيئة لاستعمالها ثانية، ومنهم من يقوم بمهمة إحضار ما يلزم من خارج غرفة الجراحة ويسمى بالممرض الدوار، أو الممرضة الدوارة. وتتخذ في حقه بعض الاحتياطات خشية أن يتسبب في تلويث الغرفة بالجراثيم نظرًا لخروجه إلى الأماكن غير المعقمة، ثم دخوله لغرفة الجراحة (¬2). ويعتبر الممرض مسئولاً عن عد الآلات الجراحية، والقطع التي تم تحضيرها للجراحة قبل وبعد انتهاء العمل الجراحي، ولا يخيط الطبيب الجراح الجرح إلا بعد أن يقوم ذلك الممرض بِعَدِّ تلك القطع والآلات، وذلك خشية نسيان شيء منها داخل جسم المريض (¬3) كما يحدث ذلك في بعض الأحيان (¬4). * * * ¬

_ = ذلك ما يجري في جراحة الدماغ التي تستلزم حلق الرأس أو جزء منه تمهيدًا للعمل الجراحي. الجراحة العصبية د. هشام بكداش ص 18. (¬1) التمريض الجراحي والباطني وشروعهما، د. سعاد حسين 2/ 29 - 40، ومقدمة في فن التمريض د. الدجاني، وهديه اللحام ص 71. (¬2) الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 3/ 452 - 453. (¬3) المصدر السابق، وميادين الطب- مارجريت هايد ترجمة د. م عيسى ص 18. (¬4) السلوك المهني للأطباء للتكريتي ص 360.

الفصل الثالث في (مشروعية الجراحة الطبية)

الفصل الثالث في (مشروعية الجراحة الطبية)

تمهيد

تمهيد في هذا الفصل سيكون الحديث عن ثلاث جزئيات مهمة: الأولى: تتعلق ببيان موقف الشريعة الإسلامية من تعلم الطب عمومًا والجراحة الطبية على وجه الخصوص. والثانية: تتعلق ببيان موقفها من العمل الجراحي نفسه (أي تطبيق الجراحة وفعلها) من حيث الجملة. والثالثة: تتعلق بالشروط المعتبرة لجواز الجراحة الطبية. وعليه فإن الحديث في هذا الفصل عن هذه الجزئيات سيكون في ثلاثة مباحث: المبحث الأول: في موقف الشريعة الإسلامية من تعلم الطب والجراحة الطبية. المبحث الثاني: في الأدلة الشرعية على جواز الجراحة الطبية. المبحث الثالث: في شروط جواز الجراحة الطبية. وبيانها فيما يلي:

المبحث الأول في (موقف الشريعة الإسلامية من تعلم الطب والجراحة الطبية)

المبحث الأول في (موقف الشريعة الإسلامية من تعلم الطب والجراحة الطبية) يعتبر علم الطب من العلوم المهمة في الحياة البشرية، وبتطبيقه تتحقق كثير من المصالح العظيمة والمنافع الجليلة، التي منها حفظ الصحة، ودفع ضرر الأسقام والأمراض عن بدن الإنسان، فيتقوى المسلم بذلك على طاعة ربه تعالى ومرضاته. ولعظيم ما فيه من المصالح والمنافع أباحت الشريعة الإسلامية تعلمه وتعليمه، وتطبيقه. قال الإمام محمد القرشي المعروف بابن الإخوة (¬1) -رحمه الله-: "الطب علم نظري عملي أباحت الشريعة تعلمه لما فيه من حفظ الصحة، ودفع العلل والأمراض عن هذه البنية الشريفة ... " (¬2) اهـ. والناس في مختلف العصور والأزمنة محتاجون إلى وجود الطبيب الذي يسعى في معالجة مرضاهم، فيقوم برعايتهم، ودفع ضرر الأسقام والأمراض والجراحات عن أبدانهم بإذن الله تعالى، ولا يمكن لمجتمع ¬

_ (¬1) هو الإمام محمد بن محمد بن أحمد بن أبي يزيد بن الإخوة القرشي، ولد -رحمه الله- في عام 648 من الهجرة، وتوفي في عام 729 من الهجرة، وكان محدثاً، ومن آثاره: معالم القربة في أحكام الحسبة. الأعلام للزركلي 7/ 263، ومعجم المؤلفين لكحالة 11/ 181. (¬2) معالم القربة في أحكام الحسبة لابن الإخوة ص 253.

أن يعيش سالمًا بدون وجود الطبيب خاصة في حال انتشار الأمراض الوبائية التي تفتك في الظرف اليسير بالأمم والجماعات الكثيرة. فلابد للمجتمع من وجود الطبيب، وتختلف حاجته إليه بحسب اختلاف الظروف والأحوال وإذا لم تسد حاجة المجتمع إلى الأطباء فإن حياة الناس وأرواحهم ستكون مهددة بخطر الأمراض وجراحات الحروب والحوادث التي تفضي بهم إلى الموت والهلاك في الغالب. ولما كانت شريعتنا الإسلامية مبنية على الرحمة بالخلق، ودفع المشقة والحرج عنهم في التكاليف والتشريعات التي جاءت بها (¬1)، فإنها راعت تلك الحاجة التي لابد من سدها في المجتمعات المسلمة، فأجازت تعلم الطب، وتعليمه. قال الإمام النووي (¬2) -رحمه الله- "وأما العلوم العقلية فمنها ما هو فرض كفاية كالطب، والحساب المحتاج إليه. قال الغزالي (¬3): ولا يستبعد عد الطب، والحساب من فروض ¬

_ (¬1) قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} سورة الأنبياء (21) آية 107، وقال سبحانه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} سورة الحج (22) آية 78، والآيات في هذا المعنى كثيرة. (¬2) هو الإمام محي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري الحواربي الشافعي، ولد -رحمه الله- في سنة 631 هـ بنوى، عاش حياته مجدًا في طلب العلم وتعليمه، وتصنيف الكتب والمؤلفات الجليلة النافعة، وكان -رحمه الله- مثالاً في الصلاح والورع، وله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مواقف محمودة، توفي -رحمه الله- بالقدس في رجب من سنة 676 من الهجرة، وله مؤلفات كثيرة منها: شرح صحيح مسلم، وروضة الطالبين، والمجموع شرح المهذب ولم يكمله. طبقات الشافعية لابن هداية الله 89. (¬3) هو الإمام أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، ولد -رحمه الله- في عام 450 من الهجرة، وتفقه على إمام الحرمين، ويعتبر من كبار فقهاء الشافعية وأجلائهم، =

الكفاية، فإن الحرف، والصناعات التي لابد للناس منها في معايشهم كالفلاحة فرض كفاية، فالطب والحساب أولى" (¬1) اهـ. فقوله -رحمه الله-: "المحتاج إليه": فيه دليل على أن الحكم بفرضية الطب على الكفاية إنما هو مبني على وجود الحاجة إليه. ولاشك في أن هذه الحاجة موجودة في كل زمان ومكان، ولكنها تتفاوت في قدرها على حسب تفاوت الظروف والأحوال. ولا يزال المسلمون الآن في مختلف الأمصار والأقطار الإسلامية بحاجة ماسة إلى الأطباء الذين يقومون بمعالجة مرضاهم، ومداواة جرحاهم، ونظرًا لذلك اضطروا لاستجلاب الأطباء من بلاد الكفر، وهذا يؤكد وجود الحاجة، الأمر الذي يجعل الحكم بفرضية تعلمه على الكفاية، والذي نص عليه الفقهاء المتقدمون -رحمهم الله- باق إلى يومنا هذا حتى تسد الحاجة الموجودة، ويصبح المسلمون في غنى تام عن استجلاب الأطباء الكفار. وإذا كانت هذه الحاجة موجودة في البلدان الإسلامية فإنه يتعين على ولاة أمورها تجنيد الأكفاء الأخيار من المسلمين لتعلم الطب وتعليمه وتطبيقه، ولا ينبغي لهم البقاء على هذه الحالة التي اتكلوا فيها على أعداء الإسلام من اليهود والنصارى وغيرهم لما في ذلك من الأضرار الدينية والدنيوية الكثيرة التي لا تخفى (¬2)، وقد اتجهت كثير من ¬

_ = وبرع في علوم كثيرة، وكان إمامًا مقدمًا فيها، توفي -رحمه الله- بطوس في عام 505 من الهجرة، وله مصنفات كثيرة منها: المستصفى، تهافت الفلاسفة، إحياء علوم الدين. البداية والنهاية لابن كثير 12/ 173، 174، وطبقات الشافعية لابن هداية ص 69 - 71. (¬1) روضة الطالبين للنووي 1/ 223. (¬2) تكلم ابن الحاج -رحمه الله- على ضرر الطبيب الكافر وخطره، انظر كتابه المدخل 4/ 114 - 120.

البلدان الإسلامية في هذا العصر إلى إنشاء الكليات الطبية في بعض جامعاتها، وفي ذلك تحقيق لمقصود الشرع المقتضي لسد الحاجة، وإن كان الأمر لا يزال بحاجة إلى مزيد من العناية. فالحاصل أن الشريعة الإسلامية لا تنهى عن تعلم الطب، وتعليمه، وتطبيقه، متى ما كان على وجه الإصلاح، وتضمن نفع العباد وصلاح أبدانهم. وهؤلاء فقهاء الإسلام، وأئمته الأعلام نجدهم ينصون في كتبهم على حكم فرضية تعلم الطب على الكفاية (¬1)، بل لم يقف الأمر عند ذلك وإنما تعدَّاه إلى شحذهم الهمم وحفزهم النفوس لتعلمه حتى قال الإمام الشافعي (¬2) -رحمه الله-: "لا أعلم علمًا بعد الحلال والحرام أنبل من الطب" (¬3) اهـ. ولعل أصدق شاهد على عناية فقهاء الإسلام وأئمته بهذا العلم أن نجد منهم من تعلمه وعلمه، بل واعتنى بالكتابة فيه، وخاصة في أشرفه وهو الطب النبوي (¬4). ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر للسيوطي 415، وأسنى المطالب للأنصاري 4/ 181، ومختصر منهاج القاصدين لابن قدامة ص 8، 9. (¬2) هو الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي ينتهي نسبه إلى عبد مناف جد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولد رحمه الله بغزة سنة 150 من الهجرة وتلقى العلم بمكة والمدينة، وهو إمام المذهب الشافعي، وتتلمذ على يديه علماء أجلاء منهم الإمام أحمد بن حنبل، وأبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي وغيرهما، وكانت له مآثر جليلة ومناقب عظيمة، توفي -رحمه الله- بمصر في رجب من سنة 204 من الهجرة، من مؤلفاته: الأم، والرسالة. البداية والنهاية لابن كثير 10/ 251، وطبقات الشافعية لابن هداية الله 11 - 14. (¬3) الطب من الكتاب والسنة للبغدادي ص187. (¬4) ومن مؤلفاتهم في ذلك: كتاب الطب النبوي للإمام ابن القيم، ومثله للحافظ =

فنجد الإمام الشافعي -رحمه الله- له عناية وإلمام بالطب حتى روي عن بعض الأطباء في زمانه أنه قال: "ورد الشافعي مصر فذاكرني بالطب حتى ظننت أنه لا يحسن غيره ... " (¬1) اهـ. وقال عنه الإمام موفق الدين البغدادي (¬2) -رحمه الله-: "كان مع عظمته في علم الشريعة، وبراعته في العربية بصيراً بالطب" (¬3) اهـ. وكذلك كان غيره من أعلام الإسلام وأئمته ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية (¬4) ................ ¬

_ = السيوطي، وهناك عدد من الكتب المخطوطة والمطبوعة في نفس الموضوع. انظر دراسة الدكتور محمود ناظم الشيمي في كتابه: "الطب النبوي" والعلم الحديث ص 29 - 35. (¬1) المنهج السوي للسيوطي ص 90. (¬2) هو الإمام موفق الدين أبو محمد عبد اللطيف بن يوسف بن محمد المعروف بابن اللباد، ولد -رحمه الله- ببغداد سنة 557 من الهجرة. قال عنه ابن أبي أصبعيه: "كان مشهوراً بالعلوم متحليًا بالفضائل مليح العبارة كثير التصنيف، وكان متميزًا في النحو واللغة والعربية، عارفاً بعلم الكلام والطب، وكان قد أعتنى كثيراً بصناعة الطب لما كان بدمشق، واشتهر بعلمها وكان يتردد إليه جماعة من التلاميذ وغيرهم من الأطباء للقراءة عليه" اهـ. توفي -رحمه الله- سنة 629 هـ وله مصنفات بلغت مائة وسبعة وأربعين. صنفا منها: غريب الحديث، وقوانين البلاغة، والطب من الكتاب والسنة. عيون الأنباء لابن أبي أصبيعه ص 683 - 696. (¬3) الطب من الكتاب والسنة للبغدادي ص 187. (¬4) هو شيخ الإسلام الإمام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحراني ثم الدمشقي ولد -رحمه الله- بحران في سنة 661 هـ ونبغ في العلوم والفنون المختلفة، وكان -رحمه الله- آية في العلم والعمل والجهاد في الدعوة إلى الله تعالى بلسانه وسنانه، وأخباره وآثاره في ذلك مشهورة، وقد جمع بين العلوم النقلية والعقلية، ويعتبر من كبار المجتهدين وثناء العلماء عليه كثير، توفي -رحمه الله- بسجن القلعة بدمشق سنة 728 هـ، وله مؤلفات كثيرة منها: منهاج السنة النبوية، الجواب الصحيح، درء تعارض النقل والعاقل. البداية =

وتلميذه الإمام ابن القيم (¬1)، والحافظ الذهبي (¬2) وغيرهم رحمهم الله أجمعين. وهذا الحكم الذي نص عليه فقهاء الإسلام -رحمهم الله- أي فرضية تعلم الطب وتعليمه على الكفاية- عام شامل للجراحة لاندراجها في الطب وهي فرع من فروعه (¬3)، والحاجة الموجودة إلى الطب التي بني عليها هذا الحكم موجودة في الجراحة أيضًا. فقد كثرت في هذه الأزمنة الحروب، والحوادث -سواء في المصانع، أو وسائل النقل المختلفة، أو في غير ذلك- فخلفت وراءها الجراحات المفزعة المروعة في صورها وكثرتها ولا تزال المستشفيات في البلاد الإسلامية سواء كانت حكومية، أو أهلية بحاجة إلى الأطباء ¬

_ = والنهاية لابن كثير 14/ 132، 135 - 140. (¬1) هو الإمام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي المعروف بابن قيم الجوزية، ولد -رحمه الله- بدمشق سنة 691 من الهجرة، وتوفي في رجب سنة 751 هـ تتلمذ على شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ولازمه، ويعتبر من المجتهدين، وله مصنفات كثيرة جداً في مختلف العلوم والفنون منها: إعلام الموقعين، وزاد المعاد في هدي خير العباد، الطرق الحكمية، ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 2/ 447، وابن القيم حياته وآثاره. د. بكر بن عبد الله أبو زيد ص7. (¬2) هو الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي ولد -رحمه الله- في سنة 673 هـ. قال عنه الكتبي -رحمه الله-: "حافظ لا يجارى، ولاحظٌ لا يبارى أتقن الحديث ورجاله، ونظر علله وأحواله، وعرف تراجم الناس وأبان الإبهام في تواريخهم والإلباس، جمع الكثير، ونفع الجمَّ الغفير .. " توفي -رحمه الله- في سنة 748 هـ ومن مؤلفاته: ميزان الاعتدال، وتاريخ الإسلام، وتاريخ النبلاء "سير أعلام النبلاء". فوات الوفيات للكتبي 2/ 370 - 372. (¬3) يقول الدكتور جورج بوست: "الجراحة وهي صناعة الجراح والجراحي فرع من الطب ... " المصباح الوضاح في صناعة الجراح.

الجراحين من المسلمين في مختلف تخصصات الجراحة الطبية وفروعها. لذلك فإنه يجب على المسلمين أن ينتدبوا الأكفاء الأخيار الذين هم أهل لحمل هذه المسئولية، والأمانة إلى أن تسد حاجتهم، ولا يجوز لهم البقاء على هذه الحالة التي اتكلوا فيها على الأطباء الكفار. فتبين من هذا كله فرضية تعلم الطب والجراحة على وجه الكفاية، وأن الشريعة الإسلامية لا تمنع من ذلك. ولا عجب في هذا الحكم من الشريعة، وهذه العناية من فقهائها المتمثلة في ندبهم المسلمين إلى تعلم الطب، وتعليمه، وتطبيقه، فهو العلم الذي جعل الله فيه وفي تطبيقه المصالح والمنافع الجليلة، فمع ما فيه من تفريج لكربات المرضى، وتخفيف لآلامهم فيه المصالح الدينية الأخروية التي تعود بالنفع أول ما تعود على الطبيب نفسه، ومن ذلك أن الإنسان أثناء تعلمه للطب وتطبيقه يرى تلك الدلائل العظيمة من بديع خلق الله في الإنسان، وبديع صنعه في تراكيب تلك الأعضاء الموجودة في داخل جسده، حيث جعل الله جل وعلا كل عضو في مكانه الذي لا يصلح فيه غيره، ويشاهد بأم عينيه تراكيب الأشياء، الدقيقة في صنعها، وحركتها، وسكونها، وما تحاط به من رحمة ولطف إلهي تحار فيه العقول، ولولاه لعاش الإنسان في عناء وشقاء لا يعلمه إلا الله وحده. فهذه الدلائل الشاهدة بوحدانية الله، الناطقة بعظمته، وقدرته تزيد المؤمن إيمانًا بربه، ومعرفة بأسمائه وصفاته، وإيقانًا بعظمته وقدرته وحكمته، وفي ذلك استجابة لدعوة الله في كتابه العزيز حيث يقول جل ذكره: {وَفِي الأرْضِ ءايَاتٌ لِّلمُوقنينَ * وَفِي أنفُسِكُمْ أفَلا تُبْصِرُونَ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة الذاريات (51) آية 20، 21.

المبحث الثاني في (الأدلة الشرعية على جواز الجراحة الطبية)

المبحث الثاني في (الأدلة الشرعية على جواز الجراحة الطبية) دلت الأدلة الشرعية من الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، على جواز الجراحة الطبية، وأنه لا حرج على المسلم في سعيه لدفع ضرر الأمراض الجراحية بالتداوي بالجراحة، وبيان هذه الأدلة يتضح في الأربعة المطالب التالية:

المطلب الأول في (دليل مشروعية الجراحة الطبية من الكتاب العزيز)

المطلب الأول في (دليل مشروعية الجراحة الطبية من الكتاب العزيز) قوله تعالى: { ... مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا .... } [المائدة: 32]. وجه الدلالة: أن الله تبارك وتعالى امتدح من سعى في إحياء النفس وإنقاذها من الهلاك (¬1)، ومعلوم أن الجراحة الطبية تنتظم في كثير من صورها إنقاذ النفس المحرمة من الهلاك المحقق. فكثير من الأمراض الجراحية التي تستلزم العلاج بالجراحة الطبية ¬

_ (¬1) اختلف المفسرون -رحمهم الله- في معنى هذه الآية الكريمة على أقوال: ومنها: أن المراد بإحيائها إنقاذها من الهلاك، وهو مروي عن ابن مسعود ومجاهد والحسن البصري، قال الألوسي -رحمه الله- في تفسيره: "ومن أحياها": أي تسبب لبقاء نفس واحدة موصوفة بعدم ما ذكر من القتل والفساد، إما بنهي قاتلها عن قتلها، أو استنقاذها من سائر أسباب الهلكة بوجه من الوجوه" اهـ. روح المعاني للألوسي 6/ 118. وانظر بقية الأقوال في: تفسير الطبري 6/ 200 - 204، وزار المسير لابن الجوزي 2/ 342.

يكون فيها المريض مهددًا بالموت إذا لم يتم إسعافه بالجراحة (¬1)، فإذا قام الطبيب بفعلها وشفي المريض، فإنه يعتبر منقذًا -بإذن الله تعالى- لتلك النفس المحرمة من الهلاك؛ فيدخل بذلك فيمن امتدحهم الله عز وجل في هذه الآية الكريمة، وعلى هذا فإنه يشرع له فعلها، والقيام بها. * * * ¬

_ (¬1) من ذلك جراحة القلب في بعض صورها، وكذلك جراحة الحروب، وبعض الأمراض الجراحية المتعلقة بالجهاز الهضمي.

المطلب الثاني في (دليل مشروعية الجراحة الطبية من السنة)

المطلب الثاني في (دليل مشروعية الجراحة الطبية من السنة) دلت السنة المطهرة على جواز الجراحة الطبية ومشروعيتها، ويظهر ذلك من خلال الأحاديث الشريفة التالية: (1) أحاديث الحجامة ومنها: أ- حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم في رأسه" (¬1). ب- حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه عاد مريضًا ثم قال: "لا أبرحُ حتىّ تحتجمَ، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنّ فيه شفاءً" (¬2). جـ- حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن أمثْلَ ما تدَاويتم به الحجامةُ، والقسط البحري" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري في صحيحه 4/ 11، ومسلم 4/ 22، وليس في رواية مسلم ذكر موضع الحجامة. (¬2) رواه البخاري في صحيحه 4/ 11. (¬3) رواه البخاري في صحيحه 4/ 10، والقسط البحري: هو أحد نوعي العود الهندي، وهو الأبيض منه. والثاني: القسط الهندي وهو الأسود. فتح الباري لابن حجر 10/ 148.

وجه الدلالة من هذه الأحاديث الشريفة: أنها نصت على مشروعية التداوي بالحجامة وفعلها، والحجامة تقوم على شق موضع معين من الجسم وشرطه لمص الدم الفاسد واستخراجه. فتعتبر أصلاً في جواز شق البدن واستخراج الشيء الفاسد من داخله، سواء كان عضوًا، أو كيسًا مائيًا، أو ورمًا، أو غير ذلك (¬1). (2) حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بن كعب طبيبًا فقطع منه عرقًا ثم كواه عليه" (¬2). وجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر الطبيب على قطعه للعرق وكَوْيه وقطع العروق ضرب من العلاج الجراحي، وهو مستخدم في الجراحة الطبية الحديثة، حيث يتم قطع مواضع من العروق في حال انسدادها أو وجود آفة تستدعي قطع جزء منها (¬3). ¬

_ (¬1) تعتبر الحجامة في العصر الحديث نوعاً من الجراحة الطبية الصغرى، حيث يجري استعمالها في علاج التطورات الالتهابية المختلفة في الدم فتساعد على نقص ضيق التنفس والآلام بتأثيرها على التطورات الالتهابية وأعراض الركود في الرئتين. الجراحة الصغرى- د. رضوان بابولي، د. أنطون دولي ص 24. (¬2) رواه مسلم 4/ 21. (¬3) من أمثلة ذلك ما يحدث في جراحة القلب: حيث يتم علاج الانسدادات الشريانية المزمنة مثل (تصلب الشرايين)، والخثار الشرياني الحاد، والناسور الشرياني الوريدي الحاد بالجراحة. انظر: جراحة القلب والأوعية الدموية، د. سامي القباني ص 95، 112، 113، 116، أمراض القلب والأوعية الدموية د. عماد شاره ص 56، والجراحة العامة =

(3) حديث الربيع بنت معوذ رضي الله عنها قالت: "كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - نسقي، ونداوي الجرحى". وفي رواية: "كنا نغزوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). وجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرهن على قيامهن بمداواة الجرحى، فيعتبر الحديث أصلاً في جواز الجراحة العامة وجراحة الحروب من حيث الجملة، لاشتمال هذين النوعين من الجراحة على نفس المهمة في الغالب (¬2). (4) حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه في قصة جرحه عليه الصلاة والسلام يوم أحد وفيه: "وجاءت فاطمة تغسل عن وجهه الدم، فلما رأت فاطمة عليها السلام الدم يزيد على الماء كثرة عمدت إلى حصير فأحرقتها وألصقتها على جرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرقأ الدم" (¬3). ¬

_ = لمجموعة من الأطباء ص 158، 162، 170، 171. (¬1) رواه البخاري في صحيحه 2/ 150. (¬2) تشتمل الجراحة العامة، وجراحة الحروب في كثير من صورها على معالجة الجروح الداخلية والخارجية الناجمة من فعل الحروب والمشاجرات والحوادث، فمهمة الجراح في تلك الحالة إصلاح الوضع المتغير كالحال في مداواة الجرحى قديمًا. انظر: الجراحة العامة لمجموعة من الأطباء ص 3، 5، 14، 18، وجراحة الحرب الطارئة (كتاب الحلف الأطلسي عن الجراحة العسكرية) ترجمة: د. ياسر الياغي ص 1، 157، 158، 176. (¬3) رواه البخاري في صحيحه 4/ 14، ومعنى رقأ الدم أي: انقطع جريانه. المصباح المنير للفيومي 1/ 236.

وجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر فاطمة رضي الله عنها على فعلها المشتمل على إيقاف النزف. فدل هذا على مشروعية التدخل الجراحي لإيقاف النزيف سواء كان ظاهرًا في جسد الإنسان، كما هو الحال في كثير من صور الجراحة العامة (¬1)، أو كان في داخل جسم الإنسان، كما هو الحال في بعض جراحة الأوعية الدموية في الصدر (¬2) والجهاز الهضمي (¬3). (5) حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الفطرة خمس، أو خمس من الفطرة: الختان، والاستحداد، وتقليم الأظفار، وقص الشارب" (¬4). ¬

_ (¬1) الجراحة العامة لمجموعة من الأطباء ص 145 - 157، والجراحة الصغرى، د. رضوان بابولي، د. أنطون دولهي ص 42 - 51. (¬2) من أمثلة ذلك النزيف الرئوي الذي يحدث من جراء الإصابة بالشظايا النارية، أو بالآلات القاطعة التي يطعن بها الإنسان، فإنها تستلزم فتح الصدر فتحة واسعة يؤمن بواسطتها السيطرة على جميع الأعضاء المصابة، وترميمها جيداً، وإرقاء النزف وتنضير الجروح واستئصال الأقسام المتهتكة وسحب الأجسام الأجنبية ثم إغلاق الصدر. أمراض الصدر الجراحية د. محسن أسور ص 29، 31. (¬3) ومن أمثلتها ما يحدث في القرحة المعدية والتي ينشأ عنها النزيف بسبب الانثقاب المفاجيء في الجدار الشرياني نتيجة التآكل أو التهتر الذي سببته القرحة في النسيج الجداري للمعدة. الأسس الأمراضية لأمراض جهاز الهضم لمجموعة من الأطباء ص 136، وجهاز الهضم في صحته ومرضه د. أحمد عز الدين ص 88، 89، والشفاء بالجراحة د. محمود فاعور ص 44. وهذا الحديث الشريف يعتبر كسابقه أصلاً في مشروعية الجراحة العسكرية. (¬4) رواه مسلم 1/ 105.

وجه الدلالة: أن الختان ضرب من الجراحة الطبية (¬1)، وقد أقره الشرع وجعله من خصال الفطرة، فدل ذلك على مشروعيته، وجواز العمل الجراحي الطبي في الجملة. (6) حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لكل داء دواء، فإذا أصيب دؤاء الداء برأ بإذن الله عز وجل" (¬2). (7) حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء" (¬3). وجه الدلالة: أن الحديثين الشريفين دلاّ على أنه ما من داء إلا وقد جعل الله له دواء، وإذا كان الأمر كذلك فإنه يشرع للإنسان أن يستعمل الدواء الذي عرف تأثيره في الداء بالعادة والتجربة وكثير من الأمراض الجراحية يصل فيها المرض إلى درجة لا يمكن علاجه فيها؛ إلا بالجراحة ويحصل الشفاء بإذن الله تعالى للمريض بسبب تلك الجراحة (¬4)، فدل ¬

_ (¬1) الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 3/ 572. (¬2) رواه مسلم 4/ 20. (¬3) رواه البخاري في صحيحه 4/ 8. (¬4) من أمثلة ذلك علاج: الفتوق بجميع أنواعها (الأربي، والفخذي، والسرة، والخط الأبيض، والجروح). فكل هنه الفتوق يمكن علاجها بالجراحة، حيث يتم رد محتويات الفتق إلى موضعها، ثم يستأصل الجيب، ثم يصار بعد ذلك إلى بناء جدار البطن من جديد وتقويته بطبقات متينة كيلا يتعرض الفتق للاختناق. انظر الشفاء بالجراحة. د. محمود فاعور ص 133، 134، 182، 185 وجراحة البطن د. لطفي اللبابيدي، د. محمد الشامي 23 - 65.

ذلك على مشروعية التداوي والعلاج بها عند الحاجة، وتعتبر داخلة في عموم الحديث. (8) حديث أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: "أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كأنما على رؤوسهم الطير، فسلمت، ثم قعدت، فجاء الأعراب من ههنا وههنا فقالوا: يا رسول الله أنتداوى؟ فقال: تداووا فإن الله تعالى لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد: الهرم" (¬1). وجه الدلالة: أن هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التداوي فأجابهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بجوازه وندبهم إليه بقوله: "تداووا"، وهذا اللفظ عام، فيشمل التداوي بالعقاقير والجراحة. * * * ¬

_ (¬1) رواه أبو داود 2/ 331، والترمذي 3/ 258، وقال: "هذا حديث حسن صحيح" وابن ماجة 2/ 1137.

المطلب الثالث في (دليل مشروعية الجراحة الطبية من الإجماع)

المطلب الثالث في (دليل مشروعية الجراحة الطبية من الإجماع) من المعلوم أن الجراحة الطبية بهذا الشكل المتطور الذي وصلت إليه الآن لم تكن موجودة عليه في العصور السابقة، وإنما كان الموجود منها نماذج من الجراحة العامة تشتمل على قطع العروق، والحجامة، وبتر الأعضاء. وهذه النماذج من الجراحة لم ينكرها السلف الصالح ومن بعدهم، بل أجمعوا على جوازها وإباحة فعلها طلبًا لتحصيل المصالح المترتبة عليها. قال الإمام أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد (الجد) رحمه الله (¬1): "لا اختلاف أعلمه في أن التداوي بما عدا الكي من الحجامة، وقطع العروق، وأخذ الدواء مباح في الشريعة غير محظور" (¬2) اهـ. وقد نص الشيخ أحمد بن زرّوق المالكي (¬3) رحمه الله على ذلك ¬

_ (¬1) هو الإمام أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد (الجد) ولد -رحمه الله- بقرطبة عام 450 من الهجرة، ونشأ بها، وتلقى العلم على فقهاء الأندلس وعلمائها، وكان مالكي المذهب، ويعتبر من كبار فقهاء الأندلس وأئمتها، توفي -رحمه الله- بقرطبة عام 520 من الهجرة، ومن مؤلفاته: البيان والتحصيل والمقدمات الممهدات. الديباج المذهب لابن فرحون ص 278، وشجرة النور الزكية لمخلوف ص 129. (¬2) المقدمات الممهدات لابن رشد 3/ 466. (¬3) هو الشيخ أحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى البرلسي، الفاسي المالكي الشهير بزروق، ولد -رحمه الله- بفاس سنة 846 من الهجرة، وهو فقيه، محدث، =

أيضًا فقال: "وأما الفصد والكي فلا خلاف في جوازهما" (¬1) اهـ. ومما يؤكد ما سبق من إجماع السلف الصالح على مشروعية التداوي بالجراحة في عصورهم ما تناقلته المصادر التاريخية من حادثة الإمام التابعي الجليل عروة بن الزبير بن العوام رحمه الله تعالى (¬2)، والتي رواها أبو نعيم (¬3) رحمه الله بسنده عن الزهري (¬4) قال: "وقعت في رجل عروة الأكلة، قال: فصعدت إلى ساقه، فبعث إليه الوليد (¬5) ¬

_ = توفي -رحمه الله- بتكرين في طرابلس المغرب سنة 899 من الهجرة، وله مؤلفات منها شرح مختصر خليل في فروع الفقه المالكي، اغتنام الفوائد. معجم المؤلفين لكحالة 1/ 155. (¬1) شرح الرسالة لزروق 2/ 409. (¬2) هو الإمام أبو عبد الله عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد القرشي، يلتقي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جده قصي بن كلاب، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق -رضي الله عنها وعن أبيها-، وكان عروة أحد فقهاء المدينة السبعة المشهورين، وروى عن خالته عائشة -رضي الله عنها-، ولد -رحمه الله- سنة 22 من الهجرة، وتوفي بالفرع من قرى المدينة سنة 93 من الهجرة وقيل 94. وفيات الاعيان لابن خلكان2/ 418 - 421. (¬3) هو الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى الأصبهاني الشافعي، ولد -رحمه الله- سنة 336 من الهجرة وقيل 334، وكان محدثًا، مؤرخًا، وتوفي بأصبهان سنة 430 من الهجرة، وله مؤلفات منها: حلية الأولياء، ودلائل النبوة، المستخرج على الصحيحين. معجم المؤلفين لكحالة 1/ 282، 283. (¬4) هو: الإمام أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ولد -رحمه الله- سنة 51 من الهجرة. كان إمامًا في الحديث وروايته، وهو شيخ مالك وابن عيينة وغيرهما، كتب عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- إلى الآفاق: "عليكم بابن شهاب فإنكم لا تجدون أحدًا أعلم بالسنة الماضية منه". توفي -رحمه الله- في رمضان سنة 114 من الهجرة، وفيات الأعيان لابن خلكان 3/ 317 - 319. (¬5) هو: الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية الخليفة =

الأطباء فقالوا: ليس لها دواء إلا القطع، قال: فقطعت، فما تضور وجهه" (¬1) اهـ. فهذه الحادثة وقعت لإمام من الأئمة المبرزين المعروفين، واشتهرت في زمانه وما بعده، ومع ذلك فإننا لم نجد أحدًا من أهل العلم رحمهم الله أنكر على هذا الإمام الجليل فعله، بل نجدهم ينصون في كتبهم على جواز فعل هذه الجراحة الطبية عند الحاجة إليه. وقد عرف المسلمون في العصور التي ازدهرت فيها البلاد الإسلامية نماذج كثيرة من الجراحة، وكانت تجرى للناس من قبل الأطباء (¬2) بل ألف علماء الطب المسلمون كتبهم المشتملة على عدد كبير من الجراحات الطبية (¬3)، ومع ذلك فإننا لم نجد من أنكر عليهم ذلك لا في عصرهم ولا فيما بعده من العصور إلى يومنا، ولو وجد ذلك لنقل إلينا لأن الدواعي الموجبة للعناية بنقله متوفرة، ومن أهمها حاجة الناس إلى بيان حكم الشرع في هذه الأمور، وحرصهم على التحذير ¬

_ = الأموي ولد -رحمه الله- سنة 50 من الهجرة وبويع له بالخلافة بعد وفاة أبيه عبد الملك بعهد منه سنة 86 من الهجرة، بنى المسجد النبوي ووسعه، والجامع الأموي، وفتح الهند والسند والاندلس، ودخلت الجيوش الإسلاميه في عهده إلى الصين توفي -رحمه الله- في سنة 96 من الهجرة. البداية والنهاية لابن كثير 9/ 161 - 166. (¬1) حلية الأولياء للأصبهاني 2/ 179، ومعنى فما تضور وجهه أي لم يتغير. (¬2) الطب الإسلامي د. أحمد طه ص 53 - 64، ودراسات في تاريخ العلوم عند العرب حكمت نجيب ص 69، 70، وفضل علماء المسلمين على الحضارة الأوربية د. عز الدين فراج ص 243 - 251. والطب عند العرب والمسلمين د. محمود الحاج قاسم ص 105 - 171. (¬3) من تلك المؤلفات كتاب الحاوي لمحمد بن زكريا الرازي والتصريف لمن عجز عن التأليف للزهراوي، والاستقسام والإبرام في علاج الجراحات والأورام، لمحمد بن علي القربلياني.

منها لو كانت محرمة. وقد نقل الإمام موفق الدين عبد اللطيف البغدادي رحمه الله الإجماع على مشروعية التداوي (¬1)، وهو عام شامل للتداوي بالعقاقير وبالجراحة. والله تعالى أعلم. * * * ¬

_ (¬1) الطب من الكتاب والسنة للبغدادي ص 179.

المطلب الرابع في (دليل مشروعية الجراحة الطبية من العقل)

المطلب الرابع في (دليل مشروعية الجراحة الطبية من العقل) دل العقل على جواز الجراحة الطبية وذلك من الوجوه التالية: الوجه الأول: يجوز التداوي بالجراحة كما يجوز التداوي بالعقاقير الطبية، بجامع دفع مفسدة الآلام والأمراض بكل منهما. الوجه الثاني: يشرع للمكلف دفع مشقة الأمراض الجراحية بفعل الجراحة اللازمة لعلاجها، كما يشرع له دفع ضرر الصائل والمحارب بالمقاتلة بجامع دفع مشقة الضرر في كل (¬1). الوجه الثالث: أن الشريعة الإسلامية راعت جلب المصالح، ودرء المفاسد (¬2)، وفي الجراحة الطبية ما يحقق ذلك فيجوز فعلها طلبًا لتحصيل مقصود الشرع، ومطلوبه (¬3). ¬

_ (¬1) ألحق الامام الشاطبي -رحمه الله- جواز التداوي من الأمراض بجواز دفع الصائل والمحارب. انظر الموافقات 2/ 103. (¬2) قواعد الأحكام لابن عبد السلام 1/ 5، والموافقات للشاطبي 2/ 126. (¬3) ومن ذلك أن المريض إذا شفي بإذن الله تعالى زالت عنه الآلام والمتاعب المنغصة =

وبهذه الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع والعقل يتبين لنا جواز الجراحة الطبية، وأن الشريعة الإسلامية لا تمنع من فعلها ما دامت سبيلاً لإنقاذ الناس من الهلاك، ومشتملة على دفع ضرر الأمراض عنهم، وهذا الموقف من الجراحة الطبية يدل دلالة واضحة على ما اشتملت عليه هذه الشريعة السمحاء من رحمة بالعباد، وأن تشريعاتها تراعي دفع المشقة والضرر عنهم والتخفيف عليهم، كما أشار الحق تبارك وتعالى إلى ذلك في قوله سبحانه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرجٍ} (¬1)، وقوله سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ أن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} (¬2). فلو تصورنا حال الناس لو حُرّم عليهم العلاج بالجراحة كم سيعاني المرضى من الآلام المبرحة التي تنغص عليهم حياتهم إلى درجة قد يتمنى فيها الواحد منهم الموت لكي ينجو من تلك الآلام والمتاعب. وكذلك الحال بالنسبة لأهل المريض وذويه، وأصدقائه، فإنهم يجدون من الآلام النفسية ما قد يفوق في بعض الأحيان ألم المريض نفسه، فلو منعوا من معالجة مرضاهم بالجراحة التي هي السبيل لشفائه بإذن الله تعالى، فإنهم سيلاقون من المشقة والحرج ما لا يعلمه إلا الله. ¬

_ = عليه وعلى ذويه وأهله، وارتاح الجميع نفسيًا، كما أن المريض يتمكن بعد الشفاء من عبادة ربه وأداء الفرائض والطاعات وهي مصلحة أخروية، كما أنه يتمكن من السعي وطلب الرزق الذي كان معاقًا عنه بسبب الآلام ومتاعبها، فكل هذه المصالح الدنيوية والأخروية مترتبة على فعل الجراحة وضدها مفاسد مترتبة على وجود الأمراض الجراحية. (¬1) سورة الحج (22) آية 78. (¬2) سورة النساء (4) آية 28.

شبهة وجوابها:

وحكم الشريعة الإسلامية بجواز الجراحة الطبية في الجملة فيه معونة للأطباء على تحقيق هدفهم المنشود وهو تخفيف آلام الإنسانية، وذلك ليس بغريب على هذه الشريعة السامية التي جاءت بطب الأرواح والأبدان (¬1)، كما أن فيه تشجيعاً لهم على تعلم الجراحة وتطبيقها والإبداع فيها بابتكار الطرق السهلة النافعة، لأن الطبيب المسلم متى وجد شريعته تبيح له تعلم الجراحة وتطبيقها دعاه ذلك إلى البحث عن أسهل الطرق وأفضل الوسائل طلبًا لمرضاة الله عز وجل في تخفيف آلام إخوانه المسلمين وتفريج كرباتهم. شبهة وجوابها: لو قال قائل: إن الشريعة الإسلامية تقدم درء المفاسد على جلب المصالح في الاعتبار كما هو معلوم من قواعدها (¬2). والجراحة الطبية تشتمل على مفاسد عديدة منها: تعذيب المرضى ¬

_ (¬1) أما كون الشريعة جاءت بطب الأرواح فذلك تشهد به آيات القرآن الشافية من أمراض القلوب الروحية والهادية إلى صراط الله المستقيم كما أشار الله تعالى إلى ذلك في مواضع من كتابه كقوله سبحانه: {يَا أيُّهَا النَاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعظةٌ من ربَّكُمْ وَشفَاءٌ لماَ في الصُّدُور ... } ففيه الشفاء من العقائد الزائفة والفتن والضلالات الموهمة. تفسير أبي السعود 2/ 325. وكذلك جاءت السنة النبوية المبينة لهذا القرآن بالعلاج نفسه. وأما كونها جاءت بطب الأبدان فذلك أمر تشهد به الأحاديث النبوية التي ورد فيها الأمر بالتداوي وندبه، ودلت على جملة من الأدوية النافعة بإذن الله تعالى حتى إن بعض أهل العلم -رحمهم الله- أفردها بمؤلف مستقل، ومن تلك المؤلفات على سبيل المثال: كتاب الطب النبوي للإمام ابن القيم، ومثله للحافظ الذهبي، وكتاب الطب من الكتاب والسنة للإمام موفق الدين عبد اللطيف البغدادي، وغيرها من المخطوطات والمطبوعات كثير. (¬2) من قواعد الشريعة الإسلامية: "درء المفاسد أولى من جلب المصالح". انظر الأشباه والنظائر للسيوطي ص 87، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 90.

بالآلام المبرحة وتشويه الخلقة بقطع الأيدي والأرجل، فوجب حينئذ عدم الالتفات للمصالح المترتبة على فعلها تقديمًا لهذه المفاسد في الاعتبار ومن ثم لا يجوز فعلها شرعًا. فالجواب: أنه تعارضت عندنا مفسدتان: إحداهما: مفسدة المرض الجراحي وآلامه، وهي مترتبة على ترك المريض دون علاجه بالجراحة اللازمة. الثانية: مفسدة الآلام المترتبة على فعل الجراحة. فوجب حينئذ النظر في كلتا المفسدتين، وتقديم أعظمهما ضرراً على أخفهما إعمالاً للقاعدة الشرعية التي تقول: "إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما" (¬1). فوجدنا أن مفسدة المرض الجراحي وآلامه مفسدة متعدية باقية، فهي متعدية نظرًا لأن الأمراض الجراحية تزداد وتتضاعف إلى أن تنتهي بالمريض إلى الموت في الغالب، وباقية لأن الألم لا يزول إلا بزوال المرض المسبب له وهو باق في حالة عدم علاجه بالجراحة اللازمة. ثم وجدنا مفسدة الآلام المترتبة على الجراحة مؤقتة تزول بعد فترة معينة قد لا تصل في بعض الأحوال إلى اليوم، واليومين، كما أن الكثير منها أمكن تخفيفه في العصر الحاضر بسبب تقدم الوسائل الطبية وطرق العلاج، فهي إذًا أخف من مفسدة الأمراض الجراحية وآلامها، فوجب حينئذ تقديم مفسدة الأمراض عليها، وعدم الالتفات إلى ما ينشأ عن ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 87، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص89. ويعبر عنها بعض الفقهاء بقوله: "يختار أهون الشرين". قواعد الفقه للمجددي ص 140، وشرح القواعد الفقهية للزرقاء ص 149.

ذلك التقديم ويترتب عليه من الآلام الزائلة. ثم إن مفسدة الآلام المعترض بها غير مقصودة من قبل الطبيب الجراح، وإنما المقصود حصول المصالح المترتبة على فعل الجراحة فسقط اعتبار تلك المفسدة لأنه لم يتمحض قصدها، وإنما جاءت على سبيل اللزوم. قال الإمام الشاطبي (¬1) -رحمه الله-: "لا يمنع قصد الطبيب لسقي الدواء المر، وقطع الأعضاء المتآكلة، وقلع الأضراس الوجعة وبط الجراحات، وأن يحمي المريض ما يشتهيه، وإن كان يلزم منه إذاية المريض، لأن المقصود إنما هو المصلحة التي هي أعظم وأشد في المراعاة من مفسدة الإيذاء التي هي بطريق اللزوم، وهذا شأن الشريعة أبدًا" (¬2) اهـ. فتبين من هذا كله عدم تأثير هذه المفاسد، نظرًا للمصالح العظيمة المترتبة على فعل موجبها ... والله تعالى أعلم. * * * ¬

_ (¬1) هو الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي المالكي الشهير بالشاطبي، محدث فقيه أصولي لغوي، مفسر، توفي -رحمه الله- في شعبان سنة 790 من الهجرة وله مؤلفات منها: عنوان التعريف بأسرار التكليف في الأصول، الموافقات في أصول الأحكام، الاعتصام. معجم المؤلفين لكحالة 1/ 118، 119. (¬2) الموافقات للشاطبي 2/ 127.

المبحث الثالث في (شروط جواز الجراحة الطبية)

المبحث الثالث في (شروط جواز الجراحة الطبية) تتضمن الجراحة الطبية في غالب صورها كثيرًا من المخاطر، والأضرار التي قد تفضي بالمريض إلى الهلاك والموت المحقق، أو تؤدي إلى تلف عضو أو أعضاء من جسده. لذا فإن الحكم بجوازها في الشريعة الإسلامية مقيد بشروط لابد من توفرها. وهذا من حكمة الشرع حيث راعى سد حاجة الناس، ودفع الضرر عنهم شريطة ألا يتوسع في ذلك إلى مقام الإفساد، والعبث بأرواح الناس، وأجسادهم، لأن الضرر لا يُزال بالضرر (¬1). فالشريعة الإسلامية لم تمنع العمل الجراحي مطلقاً، ولم تبحه مطلقًا، ولكنها وضعت المنع في موضعه، والإباحة في موضعها، فأعطت كل شيء حقه وقدره. فإذا كانت الجراحة الطبية مستوفية للشروط المعتبرة في الشريعة الإسلامية حكمت بجوازها، لأنها في هذه الحالة تحقق الهدف المنشود من حصول مصلحة الشفاء بإذن الله تعالى. وأما إذا كانت على عكس ذلك مثل أن يغلب على ظن أهل الخبرة هلاك المريض بسببها، فإن الشريعة حينئذ تحكم بحرمة فعلها، ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 86، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 87.

والإقدام عليها، لغلبة الظن بحصول الضرر المترتب عليها، وانتفاء المصلحة المقصودة منها. وعلى هذا فإنه ليس المقصود من الشروط التي اعتبرتها الشريعة الإسلامية لجواز الجراحة الطبية التضييق على العباد، أو الحد من العلم الجراحي ومحاربته كما قد يتبادر إلى ضعاف الإيمان، وإنما المقصود منها تحقيق الهدف المنشود من الجراحة، وحفظ أرواح الناس وصيانة أبدانهم من الأيدي العابثة التي تهلك. الحرث والنسل. وهذه الشروط المعتبرة لجواز الجراحة الطبية أشار فقهاء الإسلام رحمهم الله إليها في كتبهم، وهي مستقاة من أصول الشرع وقواعده، وتنحصر في الشروط الثمانية التالية: الشرط الأول: أن تكون الجراحة مشروعة. الشرط الثاني: أن يكون المريض محتاجًا إليها. الشرط الثالث: أن يأذن المريض بفعلها. الشرط الرابع: أن تتوفر الأهلية في الطبيب الجراح ومساعديه. الشرط الخامس: أن يغلب على ظن الطبيب الجراح نجاح الجراحة. الشرط السادس: ألا يوجد البديل الذي هو أخف ضررًا منها. الشرط السابع: أن تترتب المصلحة على فعل الجراحة. الشرط الثامن: أن لا يترتب على فعلها ضرر أكبر من ضرر المرض. وبيان هذه الشروط يتضح في المطالب الثمانية التالية:

المطلب الأول أن (تكون الجراحة مشروعة)

المطلب الأول أن (تكون الجراحة مشروعة) يعتبر إذن الشارع بفعل الجراحة أهم الشروط المعتبرة لجواز الجراحة الطبية (¬1) فلا يجوز للمريض أن يطلب فعل جراحة ولا للطبيب أن يجيبه إلا بعد أن تكون تلك الجراحة المطلوبة مأذونًا بفعلها شرعًا. ذلك أن جسد الإنسان إنما هو ملك لله تعالى، كما دلت على ذلك النصوص الشرعية (¬2)، ومن ثم فإنه لا يجوز لذلك الإنسان أن يأذن بالتصرف فيه، أو يقوم غيره بفعل ذلك التصرف إلا بعد أن يأذن المالك الحقيقي بفعل ذلك الشيء المأذون به. والجراحة الطبية تشتمل على أنواع مختلفة، منها ما يتفق مع الشرع، وشهدت النصوص بجوازه واعتبار مقاصده وغاياته، ومنها ما هو بخلاف ذلك، فما شهدت نصوص الشرع وقواعده بجواز فعله من تلك الأنواع يعتبر من جنس ما أذن الشرع بفعله، وما لم تشهد بجواز فعله منها يعتبر من جنس ما لم يأذن الشرع بفعله، وسيأتي إن شاء الله تعالى في الباب الثاني بيان هذه الأنواع وتفصيل القول فيها. ¬

_ (¬1) الأحكام الشرعية للأعمال الطبية د. أحمد شرف الدين ص 42. (¬2) من تلك النصوص قوله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} سورة المائدة (5) آية 120. وقوله سبحانه: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} سورة البقرة (2) آية (284). وقوله سبحانه: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)} سورة المؤمنون (23) آية 84.

المطلب الثاني أن يكون المريض محتاجا إلى الجراحة

المطلب الثاني أن يكون المريض محتاجًا إلى الجراحة مما يشترط لجواز الجراحة الطبية أن يكون المريض محتاجاً إليها، سواء كانت حاجته إليها ضرورية بأن خاف على نفسه الهلاك، أو تلف عضو أو أعضاء من جسده، أو كانت حاجته دون ذلك بأن بلغت مقام الحاجيات التي يلحقه فيها الضرر بسبب آلام الأمراض الجراحية ومتاعبها. وهذا الشرط مبني على أن الأصل حرمة فعل الجرح بدون موجب شرعي، فإذا بلغ الإنسان بسبب الأمراض الجراحية مقام الاضطرار، والحاجة فإن الشرع يأذن له حينئذ بفعلها دفعًا لذلك الضرر، وتلك المشقة التي يعانيها. وقد أشار بعض الفقهاء المتقدمين -رحمهم الله- إلى اعتبار هذا الشرط، وأن وجوده يعتبر بمثابة الإذن الشرعي بفعل الجراحة الطبية، يقول الشيخ موسى الحجاوي (¬1) رحمه الله: "ويصح استئجاره لحلق شعر، وتقصيره ولختان، وقطع شيء من جسده للحاجة إليه، ومع عدمها يحرم، ولا يصح" (¬2) اهـ. ¬

_ (¬1) هو: الإمام موسى بن أحمد بن موسى الحجاوي المقدسي الحنبلي، فقيه، أصولي، محدث، أفتى بدمشق وتوفي بها عام 968 هجرية، وله مصنفات منها: الإقناع لطالب الانتفاع، وشرح المفردات، وشرح منظومة الآداب لابن مفلح. معجم المؤلفين عمر رضا كحالة 3/ 34، 35. (¬2) الإقناع للحجاوي 2/ 302.

فقد نص -رحمه الله- على صحة عقد الإجارة على فعل الجراحة إذا توفر شرط جوازها وهو "وجود الحاجة إليها"، كما نص على حرمة فعلها في حال عدم توفر ذلك الشرط وذلك بقوله: "ومع عدمها يحرم" أي يحرم القطع عند عدم وجود الحاجة (¬1). وفي هذا دليل على اعتبار شرط "وجود الحاجة" ولزومه للحكم بجواز فعل الجراحة، بل نجد الفقهاء رحمهم الله يؤكدون هذا المعنى حينما يقولون بفسخ عقد الإجارة على فعل الجراحة إذا زالت الحاجة الداعية إليها ببرء المريض وشفائه من علته. ففي الفتاوى الهندية ما نصه: "لو استأجر إنسانًا لقطع يده عند وقوع الآكلة، أو لقلع السن عند الوجع، فبرأت الآكلة وزال الوجع تنتقض الإجارة، لأنه لا يمكن الجري على موجب العقد شرعًا" (¬2) اهـ. فقد نص -رحمه الله- على انتقاض عقد الإجارة وانفساخه بسبب زوال الحاجة وقوله: "لأنه لا يمكن الجري على موجب العقد شرعًا" فيه تصريح بعلة الحكم وهي أنه امتنع إمضاء العقد على وجه معتبر شرعًا، وذلك لأن فعل الجراحة بعد زوال العلة الموجبة لها يعتبر ضررًا محضًا، وعند وجود العلة الموجبة لها، يعتبر مصلحة، والشرع إنما يجيز ما كان متضمنًا للمصلحة والنفع، لا ما كان متضمنًا للمفسدة والضرر المحض (¬3). ¬

_ (¬1) كشاف القناع للبهوتي 4/ 9، وأشار إلى اعتبار شرط الحاجة غيره. انظر: روضة الطالبين للنووي 5/ 185، والمغني والشرح الكبير 6/ 123، وبدائع الصنائع للكاساني 4/ 198، ومغني المحتاج للشربيني 2/ 324، ومنح الجليل لعليش 3/ 776، 777. (¬2) الفتاوى الهندية 4/ 458. (¬3) يقول الإمام الكاساني -رحمه الله- في معرض بيانه لعلة فسخ الإجار في حال زوال الحاجة: " .. وقلع الأضراس، والحجامة، والفصد، إتلاف جزء من =

وهذا الحكم (¬1) متفق عليه عند جماهير الفقهاء من الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3) والشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5) -رحمهم الله-. وهو كما يدلنا على اعتبارهم لشرط الحاجة، فإنه يدلنا على أمر آخر يتعلق بهذا الشرط وهو أن اعتباره ليس موقوفًا على حال العقد فحسب، بل إنه يسري إلى وقت مباشرة فعل الجراحة، فإذا شخَّص الطبيب المرض وخلص إلى لزوم الجراحة، وحكمنا له وللمريض بجواز فعلها، والإذن بها، ثم زال ذلك المرض قبل مباشرة الطبيب لفعل الجراحة، فإنه حينئذ لا نقول ببقاء الحكم بجوازها بناء على تحقق الشرط المعتبر في الحالة الأولى، بل نحكم بالرجوع إلى الأصل الموجب لحرمة فعل الجراحة نظرًا لتخلف الشرط عند حال المباشرة للفعل. ومن أمثلة ذلك ما يجري في الجراحة العصبية حيث يشتكي المريض من ألم شديد في موضع معين من جسده، وبعد الفحوصات اللازمة يقرر الأطباء المختصون بأنه لا سبيل لزوال ذلك الألم الشديد إلا بقطع العصب الموصل للإشارات الحسية من المنطقة التي يشتكي منها ¬

_ = البدن، وفيه ضرر به، إلا أنه استأجره لمصلحة تربو على المضرة، فإذا بدا له علم أنه لا مصلحة فيه بقي الفعل ضررًا في نفسه فكان له الامتناع من الضرر .. " اهـ. بدائع الصنائع 4/ 198. (¬1) أي فسخ الإجارة على فعل الجراحة إذا زالت الحاجة قبل المباشرة. (¬2) المبسوط للسرخسي 16/ 2، وبدائع الصنائع للكاساني 4/ 197، 198، والهداية للميرغيناني 3/ 205. (¬3) حاشية الدسوقي 4/ 36، ومنح الجليل لعليش 3/ 793، وجواهر الإكليل للأبي 2/ 192. (¬4) المهذب للشيرازي 2/ 406، وروضة الطالبين للنووي 5/ 185. (¬5) المغني والشرح الكبير لابن قدامة 6/ 126.

إلى الدماغ حتى يزول الإحساس بذلك الألم (¬1)، وقبل مباشرة الطبيب للجراحة يزول ذلك الألم ويرتاح المريض، ففي هذه الحالة وأمثالها لا يعتبر تحقق الشرط في حال الألم موجبًا لسريان الحكم المترتب عليه إلى حالة أخرى تخلف فيها ذلك الشرط، وانتفى وجوده. فالجراحة في الأصل إنما شرعت بسبب وجود الحاجة فإذا انتفت قبل المباشرة رجعت الجراحة إلى حكم الأصل الموجب لعدم جوازها للقاعدة الشرعية التي تقول: "ما جاز لعذر بطل بزواله" (¬2). * * * ¬

_ (¬1) الجراحة العصبية د. هشام بكداش 238، الجراحة العصبية د. النحاس ص 339. (¬2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 85، والأشباه والنظائر لابن نجيم 86، وشرح القواعد الفقهية للزرقاء ص 135.

المطلب الثالث أن يأذن المريض أو وليه بفعل الجراحة

المطلب الثالث أن يأذن المريض أو وليه بفعل الجراحة مما يشترط لجواز فعل الجراحه الطبية أن يأذن المريض بفعلها إذا توفرت فيه أهلية الإذن (¬1). وأما إذا لم يكن أهلاً فإنه يعتبر إذن وليه كأبيه مثلاً. وعلى هذا فإنه لا يجوز للطبيب الجراح أن يقوم بفعل الجراحة الطبية للمريض إذا لم يوافق عليها، وقد أشار الإمام ابن قدامة (¬2) -رحمه الله- إلى اعتبار إذن المريض، أو وليه وذلك بقوله: "وإن ختن صبيًا بغير إذن وليه، أو قطع سلعة من إنسان بغير إذن أو من صبي بغير إذن وليه فسرت جنايته ضمن، لأنه قطع غير مأذون فيه. وإن فعل ذلك الحاكم، أو من له ولاية عليه، أو فعله من أذنا له لم يضمن لأنه مأذون فيه شرعًا" (¬3) اهـ. فأشار -رحمه الله- إلى اعتبار إذن المريض في قوله: "أو قطع سلعة من إنسان بغير إذنه"، وأشار إلى إذن الولي الخاص بقوله: "وإن ¬

_ (¬1) انظر أهلية الآذن ص (250). (¬2) هو الإمام أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، ولد -رحمه الله- بجماعيل بالشام في سنة 541. هـ، وكان إمامًا في فنون عديدة وهو شيخ الحنابلة في عصره، وله مصنفات منها: المغني، الكافي، المقنع توفي -رحمه الله- سنة 620 هـ. ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 2/ 133 - 142. (¬3) المغني والشرح الكبير: لابن قدامة: 6/ 121.

ختن صبيًا بغير إذن وليه" ... أو من صبي بغير إذن وليه، وأشار إلى اعتبار إذن الحاكم وهو الولي العام بقوله: "وإن فعل ذلك الحاكم ... ". ثم أوجب الضمان في سراية القطع إذا وقع بدون إذنهم كل بحسب ولايته، وعلل إيجاب الضمان بكونه قطعًا غير مأذون فيه فنزّله منزلة القطع المبتدأ على وجه الجناية. وأسقط ذلك الضمان في حال توفر الإذن وعلل ذلك بكونه قطعًا مأذونًا فيه شرعًا، وهذا يدل دلالة واضحة على اعتبار شرط الإذن بفعل الجراحة لازمًا لكي يحكم بجوازها. ومما يدل على اعتبار الفقهاء -رحمهم الله- لهذا الشرط ما نصوا عليه من أن الطبيب لا يجوز له أن يجبر المريض إذا استأجره لقلع ضرسه أو سنه الوجعة، ثم امتنع المريض من تمكينه من فعل الجراحة مع وجود الألم، قال الخطيب الشربيني (¬1) -رحمه الله-: " ... فإن لم تبرأ (¬2)، ومنعه من قلعها لم يجبر عليه" (¬3) اهـ. فحكمهم بعدم إجبار المريض على فعل الجراحة مع وجود السبب الموجب لفعلها وهو الألم، فيه دليل واضح على أنه ليس من حق ¬

_ (¬1) هو الشيخ شمس الدين محمد بن محمد الشربيني الخطيب، كان فقيهًا، مفسرًا، متكلمًا أجمع أهل مصر على صلاحه ووصفه بالعلم، والعمل والزهد والورع. توفي -رحمه الله- سنة 977 من الهجرة، ومن مصنفاته: مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج، السراج المنير، الفتح الرباني. شذرات الذهب لابن العماد 8/ 384، ومعجم المؤلفين لعمر كحالة 8/ 269. (¬2) أي السن الوجعة. (¬3) مغني المحتاج للشربيني 2/ 324، وقد نص على هذا الحكم غيره. انظر: روضة الطالبين للنووي 2/ 315، ونهاية المحتاج للرملي 5/ 217، وأسنى المطالب للأنصاري 2/ 409، والغرر البهية للأنصاري 3/ 318، والمبدع لابن مفلح 5/ 103.

الطبيب الجراح أن يقدم على فعل الجراحة بالمريض إلا بعد موافقته على فعلها باختياره وسيأتي -إن شاء الله تعالى- بيان أهلية الشخص الآذن، والشروط المعتبرة لصحة الإذن، وغير ذلك من المسائل المتعلقة بإذن المريض في الفصل الأول من الباب الثالث عند الكلام على أحكام المراحل الممهدة للجراحة (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر ص (239).

المطلب الرابع أن تتوفر الأهلية في الطبيب الجراح ومساعدية

المطلب الرابع أن تتوفر الأهلية في الطبيب الجراح ومساعدية يشترط لجواز فعل الجراحة الطبية أن يكون الطبيب الجراح أهلاً (¬1) للقيام بها، وأدائها على الوجه المطلوب، ويتحقق هذا الشرط بوجود أمرين: الأول: أن يكون ذا علم، وبصيرة بالمهمة الجراحية المطلوبة. الثاني: أن يكون قادرًا على تطبيقها، وأدائها على الوجه المطلوب. فأما علمه وبصيرته بالعمل الجراحي المطلوب فإنه أمر لابد منه لأن الجاهل بالجراحة لا يحل له أن يباشر فعلها لما في ذلك من تعريض حياة المريض للهلاك فيعتبر فعله على هذا الوجه محرمًا شرعًا. قال الإمام ابن قدامة -رحمه الله- عند بيانه لمسألة تضمين الأطباء: " ... وجملته أن هؤلاء إذا فعلوا ما أمروا به لم يضمنوا بشرطين: أحدهما: أن يكونوا ذوي حذق في صناعتهم، ولهم بها بصارة ¬

_ (¬1) الأهلية: لغة: مأخوذة من قولهم: فلان أهل لكذا، أي مستحق له ومستوجب، يقال ذلك للواحد والجمع. لسان العرب لابن منظور 11/ 29، والمصباح المنير 1/ 28. وفي الاصطلاح: صلاحية الإنسان لصدور الشيء عنه، أو طلبه منه وقبوله إياه. عوارض الأهلية عند الأصوليين. د. الجبوري ص 70.

ومعرفة، لأنه إذا لم يكن كذلك لم يحل له مباشرة القطع، وإذا قطع مع هذا كان فعله محرمًا فيضمن سرايته كالقطع ابتداء ... " (¬1) اهـ. فنص -رحمه الله- على اشتراط البصيرة والمعرفة في الطبيب الجراح، وأنه إذا لم تكن متوفرة فيه فإن فعله يعتبر محرمًا شرعًا وإنه يأخذ حكم القطع على وجه الجناية، فيجب عليه ضمان سرايته. وقال الشيخ برهان الدين إبراهيم بن مفلح (¬2) -رحمه الله- في معرض بيانه لمسألة تضمين الطبيب: " .. واقتضى ذلك أنهم إذا لم يكن لهم حذق في الصنعة أنهم يضمنون، لأنه لا تحل لهم مباشرة القطع، فإذا قطع فقد فعل محرمًا، فيضمن سرايته" (¬3) اهـ. فأكد -رحمه الله- ما تقدم من اعتبار شرط العلم والمعرفة، والحكم بإثم الفاعل للجراحة التي يجهلها. كما أكد اعتبار شرط العلم للحكم بجواز فعل الجراحة الشيخ أحمد بن زرّوق -رحمه الله- بقوله: "وأما الفصد، والكي، فلا خلاف في جوازهما بشرط معرفة الفاعل" (¬4) اهـ. ومن هذا يتبين لنا أنه لا يجوز للطبيب أن يقدم على فعل الجراحة ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة 5/ 538. (¬2) هو: الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن مفلح الحنبلي، ولد -رحمه الله- سنة 815 هجرية، وكان فقيهًا أصوليًا نابغًا في عصره، توفي -رحمه الله- بدمشق سنة 884 هجرية، وله مؤلفات منها: الآداب الشرعية، والمبدع، والمقصد الأرشد. شذرات الذهب لابن العماد 7/ 338، 339، ومعجم المؤلفين لعمر كحالة 1/ 100. (¬3) المبدع لابن مفلح 5/ 110. (¬4) شرح الرسالة لزرّوق 2/ 409.

إلا بعد أن يكون عالمًا بها، وعنده المعرفة التامة بمراحلها التفصيلية، فإذا لم يتوفر فيه ذلك بأن كان جاهلاً بها بالكلية مثل أن تكون خارجة عن اختصاصه أو جاهلاً ببعض فإنه يحرم عليه فعلها، ويعتبر إقدامه عليها في حال جهله بمثابة الجاني المعتدي على الجسد المحرم بالقطع والجرح ويأخذ حكمه في الآثار المترتبة على فعله من جهة الضمان كما سيأتي بيانه في موضعه -إن شاء الله تعالى-. وأما اشتراط القدرة على التطبيق وأداء الجراحة على الوجه المطلوب فهو أمر مهم جدًا لا يحكم بتحقق الأهلية إلا بعد وجوده، وذلك لأن العلم بالشيء غير كاف في وصف الإنسان بكونه أهلاً لعمله إذا كان عاجزًا عن أدائه على الوجه المطلوب فالعلم شيء، والتطبيق شيء، ولا يخفى ما تتضمنه الجراحة الطبية من الصور المفزعة والمشاهد المروعة من الدماء والجراحات التي قد يدهش الإنسان منها إذا صدم بها لأول مرة، وقد ينسى من شدة الفزع أمورًا مهمة يكون نسيانها سببًا في هلاك المريض، أو حصول بعض المضاعفات الخطيرة التي تضره في المستقبل، فتلافيا لجميع ذلك لابد للطبيب من أن يتوفر فيه شرط القدرة على التطبيق للمعلومات الجراحية على الوجه المطلوب، ويحصل ذلك عادة بالتجربة، والتدرب على أداء العمل الجراحي تحت إشراف المختصين من الأطباء الجراحين الذين يقومون بتوجيهه وإرشاده، وفي ذلك أكبر عون -بعد توفيق الله عز وجل- على إتقان العمل الجراحي، والقدرة على تطبيق معلوماته بكل يسر وسهولة. وقد جرت الأعراف الطبية في عصرنا الحاضر بتدريب الطبيب

على فعل الجراحة وتطبيقها قبل إعطائه الإجازة بالعمل الجراحي، ويتم ذلك التدريب تحت إشراف المختصين من الأطباء القدماء الذين لهم خبرة واسعة في مجال الجراحة الطبية (¬1). ولاشك أن هذا التدريب يعتبر أمرًا مهمًا لكي يستطيع الطبيب من خلاله الوصول إلى درجة الأهلية. إضافة إلى أنه يترتب عليه حكم شرعي وهو اعتبار شهادة هؤلاء المختصين بعد تجربتهم لهذا الطبيب مستندًا شرعيًا يبني عليه القاضي حكمه بأهلية الطبيب في مسألة إسقاط الضمان، وذلك لأنها إجازة مشتملة على شهادة مبنية على أصل صحيح. لأن الحكم المذكور فيها من أهلية المجاز مبني على تدريبه بعد تعليمه نظريًا ثم الحكم عليه من خلال نتائج ذلك التدريب، وعلى هذا فإنها تكون شهادة مبنية على علم ومعرفة تامة بالمشهود به. وقد اعتبر الفقهاء -رحمهم الله- التجربة دليلاً على مهارة الطبيب إذا ظهرت من خلالها إصابته، وندرة خطئه، كما أشار إلى ذلك الشيخ شهاب الدين القليوبي الشافعي (¬2) -رحمه الله- في حاشيته (¬3). وبناء على ما سبق فإنه لابد من توفر شرط الأهلية في الطبيب الجراح حتى يحكم بجواز إقدامه على فعل الجراحة بالمريض وإذا لم ¬

_ (¬1) السلوك المهني للأطباء د. التكريتي ص 142، 143، والموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 3/ 45. (¬2) هو: الشيخ أبو العباس أحمد بن أحمد بن سلامة القليوبي الشافعي، عالم مشارك في كثير من العلوم، توفي -رحمه الله- سنة 1069 هجرية، وله مؤلفات منها: حاشيته على شرح ابن قاسم الغزي، والبدور المنورة في معرفة الأحاديث المشتهرة، والتذكرة في الطب. معجم المؤلفين عمر كحالة 1/ 148. (¬3) حاشية قليوبي وعميرة 3/ 78.

تنبيه:

تتوفر فيه هذه الأهلية فإنه يحرم عليه فعلها، وكذلك يحرم على المريض، ووليه الإذن له وتمكينه من فعلها إذا علما بعدم أهليته. تنبيه: ويعتبر هذا الشرط لازماً في الطبيب المخدر، فيجب أن تتوفر فيه الأهلية أيضاً، والقول فيه كالقول في الطبيب الجراح. كما يشترط أيضًا في كل من الطبيب الفاحص ومساعديه، والممرضين، والممرضات، كل بحسب اختصاصه ومجال عمله .. والله أعلم. * * *

المطلب الخامس أن يغلب على ظن الطبيب الجراح نجاح الجراحة

المطلب الخامس أن يغلب على ظن الطبيب الجراح نجاح الجراحة يشترط لجواز فعل الجراحة أن يغلب على ظن الطبيب الجراح نجاحها، بمعنى أن تكون نسبة نجاح العملية، ونجاة المريض من أخطارها أكبر من نسبة عدم نجاحها، وهلاكه. وبناء على ذلك فإنه إذا غلب على ظنه هلاك المريض بسببها فإنه لا يجوز له فعلها. قال الإمام العز بن عبد السلام (¬1) -رحمه الله-: " .. وأما ما لا يمكن تحصيل مصلحته إلا بإفساد بعضه، كقطع اليد المتآكلة حفظًا للروح، إذا كان الغالب السلامة فإنه يجوز قطعها" (¬2) اهـ. فبين -رحمه الله- أن جواز فعل القطع مقيد بحصول غلبة الظن بسلامة المريض، ومفهوم هذا الشرط المذكور أنه إذا لم تحصل تلك الغلبة أنه لا يجوز له فعل القطع، وفي حكم القطع بقية أنواع الجراحة لاتحاد العلة وهي المحافظة على الروح وسلامتها، والجراحات الطبية ¬

_ (¬1) هو: الإمام العز بن عبد السلام بن عبد العزيز بن عبد السلام الدمشقي السلمي الملقب "بسلطان العلماء" ولد -رحمه الله- سنة 577 هـ، وانتهت إليه رئاسة الشافعية بمصر، وكانت له مواقف جليلة محمودة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، توفي -رحمه الله- بالقاهرة في جمادى الأولى من سنة 660 هـ. وله مصنفات منها: قواعد الأحكام، الإشارة إلى الإيجاز، القواعد الصغرى "المقاصد". البداية والنهاية لابن كثير 13/ 235، 236، وطبقات الشافعية لابن هداية الله ص 222، 223. (¬2) قواعد الأحكام لابن عبد السلام 1/ 92.

تختلف نسب نجاحها بحسب اختلاف درجات الخطورة الموجودة فيها، وبحسب اختلاف الجراحين أنفسهم من حيث المهارة وطول التجربة، فالجراحة المتعلقة بباطن الإنسان وداخل جوفه أشد خطورة في غالب صورها من الجراحة المتعلقة بظاهره. ثم الجراحة الجوفية تختلف نسبة الخطورة فيها بحسب أهمية العضو المصاب، فجراحة القلب، والأعصاب، والدماغ أشد خطورة من غيرها في الغالب. والشريعة الإسلامية لا تبيح فعل الجراحة التي يغلب على ظن الطبيب هلاك المريض بسببها، لأن ذلك مخالف لأصول الشرع التي راعت حفظ النفس واعتبرته من الضروريات (¬1)، ونهت عن تعريضها للهلاك والتلف كما أشار الحق سبحانه وتعالى إلى ذلك بقوله: {وَلا تُلقُوا بأيْديكُمْ إِلَى التَهْلُكَة ... } (¬2)، وقوله سبحانه: {وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ إِن اللَّهَ كَانَ بكُمْ رَحيمًا} (¬3). وإقدام الطبيب على فعل الجَراحةَ التي يقطع بهلاك المريض بسببها أو يغلب على ظنه ذلك يعتبر ضربًا من الفساد في الأرض الذي حرمه الله سبحانه وتعالى ونهى عنه بقوله جل شأنه: {وَلا تُفْسدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ... } (¬4)، وقوله في معرض الذم: { ... وَإِذَا ¬

_ (¬1) المستصفى للغزالي 1/ 287، والموافقات للشاطبي 2/ 10. (¬2) سورة البقرة (2) آية 195. (¬3) سورة النساء (4) آية 29. (¬4) سورة الأعراف (7) آية 56. قال بعض المفسرين في تفسير هذه الآية: "لا تفسدوها بقتل المؤمن بعد إصلاحها ببقائه" اهـ. زاد المسير لابن الجوزي 3/ 216.

تَولى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الفَسَادَ} (¬1). فلا يجوز له فعله. ومن ثم قال الإمام البغوي (¬2) -رحمه الله-: "والعلاج إذا كان فيه الخطر العظيم كان محظورًا" (¬3) اهـ. ويعتبر الطبيب الجراح هو المرجع في الحكم بغلبة الظن بسلامة المريض من أخطار الجراحة أو عدمها. فهو الذي يقوم بالنظر في نوعية الجراحة المقررة، ودرجة خطورتها، وقدرة تحمل المريض لأخطارها ثم بعد ذلك يحكم بما يؤديه إليه نظره واجتهاده. وإنما اعتبر الشرع غلبة الظن بسلامة المريض لأنها في حكم اليقين فالشيء الغالب كالمحقق حكمًا، ومن ثم فإنه لا ينبغي للطبيب الجراح أن يلتفت إلى النسبة الضعيفة التي تقابل النسبة الراجحة، لأنها لا تقوى على معارضتها فلا يلتفت إليها، ولو ذهبنا نعتبر هذه النسب الضعيفة لتعطلت مصالح الدارين، ولما أمكننا درء مفاسدهما كما قرر ذلك الإمام العز بن عبد السلام -رحمه الله- في قواعده (¬4). ¬

_ (¬1) سورة البقرة (2) آية 205. (¬2) هو: الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد البغوي الشافعي يعرف بابن الفراء، كان إمامًا في التفسير، والحديث، والفقه، توفي -رحمه الله- سنة 516 هجرية. وله مصنفات منها: معالم التنزيل في التفسير، وشرح السنة، والجمع بين الصحيحين. طبقات المفسرين للسيوطي ص 12، 13. (¬3) شرح السنة للبغوي 12/ 147. (¬4) قال الإمام العز بن عبد السلام -رحمه الله- في قواعده: "الاعتماد في جلب مصالح الدارين، ودرء مفاسدهما على ما يظهر في الظنون .. فكذلك أهل الدنيا =

المطلب السادس أن لا يوجد البديل الذي هو أخف ضررا من الجراحة

المطلب السادس أن لا يوجد البديل الذي هو أخف ضررًا من الجراحة مما يشترط لجواز فعل الجراحة الطبية أن لا يوجد البديل الذي هو أخف ضررًا منها ويمكن بواسطته علاج المريض وشفاؤه من علته -بإذن الله تعالى- كالعقاقير والأدوية الطبية النافعة لعلاج الأمراض، فإن وجد ذلك البديل لزم المصير إليه صيانة لأرواح الناس وأجسادهم حتى لا تتعرض لأخطار الجراحة وأضرارها، ومتاعبها واعتبارًا للأصل الموجب لعلاج المريض بالأسهل، وأنه لا يصار إلى علاجه بما هو أصعب منه متى أمكن علاجه بذلك الأسهل (¬1). ومن أمثلة ذلك مرض القرحة الهضمية في بدايته، فإنه يتم علاجه ¬

_ = إنما يتصرفون بناء على حسن الظنون، إنما اعتمد عليها لأن الغالب صدقها عند قيام أسبابها". ثم ذكر أمثلة على ذلك إلى أن قال: "ومعظم هذه الظنون صادق موافق غير مخالف ولا كاذب فلا يجوز تعطيل هذه المصالح الغالبة الوقوع خوفًا من ندور وكذب الظنون، ولا يفعل ذلك إلا الجاهلون" اهـ. قواعد الأحكام 1/ 4. (¬1) قال الإمام الشوكاني -رحمه الله-: " ... قال ابن رسلان: قد اتفق الأطباء على أنه متى أمكن التداوي بالأخف لا ينتقل إلى ما فوقه .. ومتى أمكن بالدواء لا يعدل إلى الحجامة، ومتى أمكن بالحجامة لا يعدل إلى قطع العروق" اهـ. نيل الأوطار للشوكاني 8/ 205. وقال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "ومن حذق الطبيب أنه حيث أمكن التدبير بالأسهل، فلا يعدل إلى الأصعب، ويتدرج من الأضعف إلى الأقوى، إلا أن يخاف فوات القوة حينئذ فيجب أن يبدأ بالأقوى" اهـ. الطب النبوي لابن القيم 115.

بالعقاقير والأدوية التي ثبت مؤخرًا تأثيرها على القرحة وأنها أنجع العلاجات وأفيدها (¬1). ومحل اعتبار البديل موجبًا لصرف الطبيب عن العلاج بالجراحة أن يكون ذلك البديل أخف ضررًا، ومحققًا للشفاء المطلوب، فإذا كان كذلك وجب المصير إليه، أما إذا كان على خلاف ذلك بأن كان أشد خطرًا وضررًا أو لا ينفع في علاج الداء وزواله فإنه لا يعتبر موجبًا للصرف عن فعل الجراحة، فمن أمثلة ذلك ما يقع في بعض الأمراض الجراحية العصبية حيث يمكن علاج المريض بالعقاقير المهدئة والمخدرة ولكنها لا تنفع في زوال الداء بالكلية وقد تسبب الإدمان (¬2). فوجود البديل على هذا الوجه وعدمه على حد سواء. * * * ¬

_ (¬1) الشفاء بالجراحة د. الفاعور ص 44. وأما إذا تطورت ودخلت في الاشتراكات فإنه يلزم حينئذ التدخل الفوري بالجراحة وهو الحل الوحيد. المصدر السابق. (¬2) الجراحة العصبية. د. بكداش 235، والجراحة العصبية د. النحاس ص 339.

المطلب السابع أن تترتب المصلحة على فعل الجراحة

المطلب السابع أن تترتب المصلحة على فعل الجراحة مما يشترط لجواز فعل الجراحة أن تترتب المصلحة الطبية على فعلها، سواء كانت تلك المصلحة ضرورية كما في الجراحة التي يقصد منها إنقاذ النفس المحرمة أو كانت حاجية كما في الجراحات التي يقصد منها إعادة الأعضاء إلى حالتها الطبيعية ودفع ضرر الأسقام والآفات التي أصابتها. وكانت دون ذلك كما في الجراحة الصغرى المشتملة على مصلحة إرقاء الجروح وإعادة موضعها إلى الصورة الطبيعية أو ما هو قريب منها. وبناء على هذا الشرط فإنه لا يجوز فعل الجراحة المشتملة على الضرر المحض إعمالاً للقاعدة الشرعية التي تقول: "لا ضرر ولا ضرار" (¬1). فالجراحة إذا انتفى ترتب المصلحة على فعلها، وكانت ضررًا محضًا كان فعلها من قبل الطبيب فيه إضرار بالمريض فلم يجز له الإقدام عليه. والجراحة الطبية إنما شرعت لمصلحة الأجساد ودفع ضرر الأسقام عنها، فإذا انتفت تلك المصالح وكانت ضررًا محضًا فإنه حينئذ ينتفي السبب الموجب للترخيص بفعلها شرعًا، وتبقى على الأصل ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 86، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 87، وشرح القواعد الفقهية للزرقاء 141، وقواعد الفقه للمجددي 88.

المقتضي لحرمتها للقاعدة الشرعية التي تقول: "ما جاز لعذر بطل بزواله" (¬1). ومن أمثلة الجراحة الطبية التي يترتب على فعلها الضرر ولا نفع منها جراحة إزالة التآليل سواء كان ذلك بواسطة القطع، أو الكحت الجراحي. فقد ثبت طبيًا أن الثآليل لا تزول بالعمل الجراحي، بل إن فعل القطع والكحت ينتهي بالمصاب إلى عواقب وخيمة وأضرار منها العدوى الجرثومية، وتندب موضع الجراحة (¬2). وينبغي في هذه المصلحة المشترطة أن تكون من جنس المصالح التي شهد الشرع باعتبارها وأنها مصلحة مقصودة، وأما إن كانت مصلحة ذاتية لم يشهد الشرع باعتبارها، وأنها مصلحة مقصودة بأن كانت مبنية على الهوى والشهوة المجردة كما في جراحة تغيير الجنس، فإنها حينئذ لا تعتبر موجبة للترخيص بفعل الجراحة، ولا يتحقق بها شرط جوازها، لعدم اعتبار الشرع لها، ومن ثم كان وجودها وعدمها على حد سواء. * * * ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 86، والأقمار المضيئة للأهدل 121، وشرح القواعد الفقهية للزرقاء ص 135. (¬2) الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 3/ 442، 443.

المطلب الثامن أن لا يترتب على فعلها ضرر أكبر من ضرر المرض

المطلب الثامن أن لا يترتب على فعلها ضرر أكبر من ضرر المرض مما يشترط لجواز فعل الجراحة الطبية ألا تشتمل على ضرر أكبر من ضرر المرض الجراحي، فإن اشتملت على ذلك حرم على الطبيب الجراح فعلها لما فيه من تعريض الأرواح والأجساد للضرر الأكبر، ووجب على المريض البقاء على الضرر الأخف، والامتناع عن فعل الجراحة المشتملة على الإلقاء بالنفس إلى الهلاك والتلف. ومن أمثلة هذا النوع من الجراحة ما يجري في علاج التحدب الظهري الحاد، فإن الجراحة المتعلقة بهذا النوع من الآفات التي تصيب العمود الفقري تشتمل على ضرر أكبر من الضرر المترتب على المرض نفسه. فالغالب في الجراحة أنها تنتهي بالشلل النصفي (¬1). وبناء على هذا الشرط فإنه ينبغي على الأطباء أن يقارنوا بين نتائج الجراحة السلبية، والمفاسد المترتبة عليها، وبين المفاسد التي يشتمل عليها المرض الجراحي نفسه. فإن كانت المفاسد التي تترتب على الجراحة أكبر من المفاسد الموجودة في المرض حرم عليهم الإقدام على فعل الجراحة، لأن الشريعة لا تجيز للإنسان أن يزيل الضرر بمثله أو بما هو أشد، ولذلك كان من قواعدها "الضرر لا يزال بمثله" (¬2). ¬

_ (¬1) الجديد والقديم في جراحة العظام والتقويم. د. السيد محمد وهب 58، 59. (¬2) قواعد الفقه للمجددي ص 88، وشرح القواعد الفقهية للزرقاء 135.

وأما إن كانت المفاسد التي تترتب على الجراحة أخف من المفاسد الموجودة في المرض الجراحي فإنه يجوز لهم الإقدام على فعلها إعمالاً للقاعدة الشرعية "إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما" (¬1). فهذه هي مجمل الشروط التي ينبغي توفرها للحكم بجواز الجراحة الطبية، وهي في الحقيقة إنما يقصد منها تحقيق الهدف المنشود من الجراحة الطبية، وليست بحمد الله تعالى مشتملة على التضييق على العباد ولا على التعسير عليهم، بل هي مشتملة على ضد ذلك من التوسعة على العباد، ودفع ضرر الأسقام عنهم بالوجه المطلوب والله تعالى أعلم. * * * ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 87، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 89.

الباب الثاني في الجراحة المشروعة, والجراحة المحرمة

الباب الثاني في الجراحة المشروعة, والجراحة المحرمة إن الناظر في الجراحة الطبية بمختلف صورها, ومقاصدها يجدها تنقسم من الناحية الشرعية إلى قسمين: أحدهما: شهد الشرع بجوازه. الثاني: شهد الشرع بحرمته. لذلك فإنه من المناسب تقسيم الحديث عنهما في هذا الباب إلى الفصلين التاليين: الفصل الأول: في الجراحة المشروعة. الفصل الثاني: في الجراحة المحرمة. وبيانهما فيما يلي:

الفصل الأول في (الجراحة المشروعة)

الفصل الأول في (الجراحة المشروعة)

تمهيد

تمهيد لا تخلو الجراحة الطبية التي شهدت أدلة الشرع بجوازها إما أن يكون المقصود منها علاج المريض، أو إنقاذ المرأة الحامل وجنينها أو أحدهما، وهي الجراحة المتعلقة بالولادة. أو يكون المقصود منها معرفة نوعية المرض وتشخيصه حتى يتمكن الأطباء من علاجه، أو يقصد منها امتثال أمر الشرع كما في جراحة الختان، أو يقصد منها التعرف على أجزاء الجسم، وطرق علاجها كما في جراحة التشريح التي يقصد منها ذلك. أو يقصد منها علاج التشوه كما في جراحة التجميل الحاجية. لذلك فإن الجراحة الطبية المشروعة تنحصر في ستة أنواع وهي: النوع الأول: الجراحة العلاجية. النوع الثاني: جراحة الكشف والفحص الطبي. النوع الثالث: جراحة الولادة. النوع الرابع: جراحة الختان. النوع الخامس: جراحة التشريح. النوع السادس: جراحة التجميل الحاجية. وبيان هذه الأنواع وأمثلتها، وموقف الشريعة الإسلامية منها، ونصوص أهل العلم رحمهم الله التي تدل على جوازها يتضح في المباحث الستة التالية.

المبحث الأول في (الجراحة العلاجية)

المبحث الأول في (الجراحة العلاجية) يعتبر العلاج هو الهدف الأساسي من الجراحة عند الأطباء، فالأصل فيها أنها مهمة قصد منها مداواة المريض، وإنقاذه من آلام الأمراض وأخطارها، ولذلك إذا أطلق عندهم لفظ العملية الجراحية انصرف إلى هذا النوع من الجراحة وحده (¬1). وقد أشار الدكتور عباس راجي التكريتي (¬2) عند بيانه لأهداف الجراحة إلى أن هدف العلاج هو الهدف الأول المقصود من الجراحة فقال: "إن هدف الجراحة الرئيسي بحد ذاته هو الغرض العلاجي، عدا بعض الحالات التي قد يلتبس تشخيصها ويصعب معرفة كنه المرض ... ، ولكن لا يزال الهدف الأول للجراحة علاجيًا" (¬3) اهـ. ومن ثم يعتبر هذا النوع من الجراحة أهم أنواع الجراحة الطبية المشروعة، وقد تقدم في المبحث الثاني من الفصل الثالث في الباب الأول بيان الأدلة الشرعية التي دلت على مشروعية التداوي، لذلك فإنه سينحصر الكلام في هذا الموضع في بيان مراتب هذا النوع من الجراحة، وأمثلتها، مع الإشارة إلى جملة من عبارات العلماء -رحمهم الله- التي تتعلق ببيان بعض مسائله. ¬

_ (¬1) الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 3/ 450. (¬2) أحد الأطباء الجراحين بمستشفى بغداد بالعراق. (¬3) السلوك المهني للأطباء د. التكريتي ص 262.

والناظر في موجبات العلاج وأسبابه الداعية إليه يجدها منقسمة إلى ثلاث مراتب: المرتبة الأولى: موجبات ضرورية. المرتبة الثانية: موجبات حاجية. المرتبة الثالثة: موجبات دون ذلك (وهي التي لا تصل إلى مقام الضرورة والحاجة) وفيها نوع مشقة (¬1). وتفصيل أحكام هذه المراتب، وبيان أمثلتها يتضح في المطالب الثلاثة التالية: ¬

_ (¬1) لما كان جل الحالات الجراحية المتعلقة بهذه المرتبة من الجراحة المسماة عند الأطباء بالجراحة الصغرى رأيت من المناسب أن أضع مسماها في العنوان المختص بهذه المرتبة.

المطلب الأول في (الجراحة العلاجية الضرورية)

المطلب الأول في (الجراحة العلاجية الضرورية) وهي الجراحة التي يقصد منها إنقاذ المريض من الموت، ويعبر عنها بعض الأطباء بجراحة المحافظة على الحياة، وتشتمل على علاج الحالات والأمراض الجراحية الخطرة التي إذا لم يتم إسعاف المريض بالجراحة اللازمة في الوقت المناسب فإنه سيموت بسببها في فترة وجيزة (¬1)، ومن أمثلتها ما يلي: (1) حالة انفجار الزائدة الدودية (¬2). (2) حالة انفجار الإثني عشر (¬3). (3) حالة انسداد الأمعاء (¬4). (4) حالة انفجار المعدة (¬5). ¬

_ (¬1) السلوك المهني للأطباء. د. التكريتي ص 265. (¬2) الزائدة الدودية: شاخصة أنبوبية يبلغ طولها نحو ثمانية سنتيمترات، وتخرج من القولون الأعور، وهو أوّل جزء من الأمعاء الغليظة، وتقع في الجهة اليمنى من أسفل البطن. الموسوعة الطبية العربية. د. البيرم ص 169. (¬3) الإثنى عشر: ويسمى "العفج" وهو جزء من الأجزاء الثلاثة التي تشتمل عليها الأمعاء الدقيقة، وهي الإثنى عثر، والصائم واللفائفي. الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 1/ 168. (¬4) يحدث هذا النوع من الانسداد بسبب الورم، أو الأجسام الغريبة المبتلعة، أو بسبب الانغلاق وغيره. الشفا بالجراحة. د. الفاعور ص 62، 63. (¬5) هذه الحالات الأربع المميتة مثل بها الدكتور عباس راجي التكريتي للحالات الضرورية التي يقصد من علاجها بالجراحة إنقاذ حياة المريض من الهلاك. السلوك المهني للأطباء د. التكريتي ص 264، 265.

(5) حالة نزيف الكبد الحاد (¬1). (6) حالة النزف الصاعق بسبب دوالي المريء (¬2). (7) حالة السطام القلبي الحاد (¬3). فهذه الحالات الجراحية تعتبر من أخطر الحالات التي تستوجب العلاج بالجراحة اللازمة في أقرب فرصة ممكنة، بل إن بعضها لا يحتمل التأخير ولو لنصف ساعة فقط. فعلى سبيل المثال حالة السطام القلبي الحاد، إذا لم يتم إسعاف المريض فيها بالجراحة اللازمة، فإنه سيموت خلال نصف ساعة بعد الإصابة (¬4). وإنقاذ حياة المريض الذي هو هدف هذا النوع من الجراحة ¬

_ (¬1) الشفاء بالجراحة د. الفاعور ص 133. (¬2) الدوالي: مرض يصيب الأوردة في أجزاء متعددة في الجسم، وينتج عنه تمدد والتواء في الوريد، وضعف في جداره. الموسوعة الطبية العربية د. البيرم ص 143. والمريء هو: العضو الأنبوبي العضلي الذي يحمل الطعام من الفم إلى المعدة ويمتد من البلعوم خلال الصدر حتى يصل إلى المعدة تحت الحجاب الحاجز مباشرة. الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 6/ 1188. وتعتبر هذه الحالة -أي حالة النزف الصاعق بسبب دوالي المريء- من الحالات الجراحية المميتة التي يتم إسعافها بالتدخل الفوري بالجراحة. انظر: جراحة البطن. د. اللبابيدي، د. الشامي ص 363، 365. (¬3) السطام القلبي الحاد: حالة مرضية تحدث بسبب نزف مفاجيء ضمن ورقتي التامور نتيجة جرح ثاقب لعضلة القلب، فتتوقف قابلية القلب عن الاسترخاء، والانقباض الطبيعيتين كما تقل إمكانية استيعابه للدم الوريدي الراجع، وبذلك ينخفض النتاج القلبي والتوتر الشرياني بينما يرتفع الضغط الوريدي. جراحة القلب والأوعية الدموية د. القباني ص 342. (¬4) المصدر السابق ص 342، والوجيز في الجراحة الصدرية والقلبية د. بشير الكاتب ص 361.

العلاجية، يعتبر من أجل المصالح المقصودة شرعًا، لأن مرتبة المحافظة على النفس هي المرتبة الثانية من مراتب الضروريات (¬1) الخمس التي قصد الشرع المحافظة عليها. قال الإمام الغزالي -رحمه الله-: " ... مقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة" (¬2) اهـ. فقوله -رحمه الله-: "كل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة" لفظ عام شامل لكل ما يتحقق به فوات هذه الأصول وما يدفعه. ومعلوم أن المرض الجراحي المهلك مفوت لأصل النفس فهو مفسدة، والجراحة التي يتم بها علاج ذلك المرض توجب دفع تلك المفسدة فتعتبر متضمنة للمصلحة الشرعية من هذا الوجه. وإذا أصيب الإنسان بهذا النوع من الأمراض الجراحية الخطيرة التي يخشى عليه الهلاك بسببها فإنه يصير حينئذ مضطرًا، ويبلغ بذلك مقام الضرورة، ولا يشترط في الحكم بكونه مضطرًا أن يصير إلى الحالة التي يشرف فيها على الموت ويقل الأمل في شفائه وعلاجه بالجراحة. قال الإمام محمد بن جُزَيْ (¬3) -رحمه الله-: "وأما الضرورة ¬

_ (¬1) الضروريات الخمس هي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال. المستصفى للغزالي 1/ 287، والموافاقات للشاطبي 2/ 10. (¬2) المستصفى للغزالي: 1/ 287. (¬3) هو: الإمام أبو القاسم محمد بن أحمد بن عبد الله بن يحيى بن عبد الرحمن بن يوسف بن سعيد بن جُزَيْ، ولد -رحمه الله- في ربيع الأول من عام 693 من =

فهي خوف الموت ولا يشترط أن يصبر حتى يشرف على الموت ... " (¬1). فبين -رحمه الله- الحد الذي يصير الإنسان ببلوغه مضطرًا، وهو خوف الموت وأنه لا يتوقف الحكم بكونه مضطرًا على صبره إلى أن يشرف على الموت، ومن ثم فإنه يحكم للمصاب بهذه الحالات وأمثالها بكونه مضطرًا بمجرد الإصابة، وظهور الدلائل والأمارات التي يستهدى بها على وجودها. وإذا ثبت الحكم بكون المريض يصير مضطرًا إذا أصيب بمرض جراحي مميت، فإنه يتفرع على ذلك الحكم بجواز فعل المحظورات التي قد يتطلبها إنقاذه بالجراحة كالتخدير، وكشف العورة المحتاج إلى كشفها لفحص أو عمل جراحي ونحوها، فهذه الأمور وأمثالها الأصل فيها الحرمة والحظر، ولكن لمكان الضرورة الداعية إلى فعلها حكمنا بجوازها للقاعدة الشرعية التي تقول: "الضرورات تبيح المحظورات" (¬2). فمشقة الخوف على النفس تعتبر أعلى درجات المشقة الموجبة للتخفيف في الشريعة الإسلامية، وقد أشار الإمام السيوطي -رحمه ¬

_ = الهجرة، وهو من فقهاء المالكية، وترجم له الحضرمي بقوله: "كان رجلاً ذا مروءة كاملة حافظاً متفننًا ذا أخلاق فاضلة، وديانة، وعفة، وطهارة، وشهرته دينًا وعلمًا أغنت عن التعريف به، له جملة تآليف في غير فن وبرنامج لا بأس به" اهـ. قتل شهيدًا -رحمه الله-. نيل الابتهاج للتنبكتي ص 239. (¬1) القوانين الفقهية لابن جزي ص 94. (¬2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 85، وإيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك للونشري ص 365، الأشباه والنظائر للسيوطي ص 84، وإيصال السالك للولاتي ص35.

الله (¬1) - إلى ذلك عند بيانه لمراتب المشقة حيث يقول: " .. الأولى: مشقة عظيمة فادحة كمشقة الخوف على النفوس، والأطراف، ومنافع الأعضاء، فهي موجبة للتخفيف والترخيص قطعًا ... " (¬2). وفي هذه الحالة -أي إذا بلغ المريض مقام الاضطرار بحكم إصابته بالمرض الجراحي المميت- يتعين على الطبيب الجراح الذي يستطيع فعل الجراحة التي جعلها الله سببًا لإنقاذ ذلك المريض، يتعين عليه فعلها، ولا يجوز له الامتناع من ذلك. قال الإمام أبو محمد علي بن حزم الظاهري -رحمه الله (¬3) -: " ... ومما كتبه الله تعالى -أيضًا- علينا استنقاذ كل متورط من الموت إما بيد ظالم كافر، أو مؤمن متعدي، أو حية، أو سبع أو نار، أو سيل أو حيوان، أو من علة صعبة نقدر على معافاته منها، أو من أي وجه كان. فوعدنا على ذلك الأجر الجزيل الذي لا يضيعه ربنا تعالى الحافظ ¬

_ (¬1) هو: الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن أبي بكر بن محمد السيوطي، ولد -رحمه الله- بالقاهرة سنة 849 من الهجرة، وتفقه على مذهب الشافعي، ونبغ فيه وفي علوم كثيرة، وكتب فيها أكثر من خمسمائة مؤلف. توفي -رحمه الله- عام 911 من الهجرة. ومن مؤلفاته: الدر المنثور في التفسير المأثور. الجامع الصغير في الحديث، المزهر في اللغة. معجم المؤلفين لكحالة 5/ 128 - 131. (¬2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 80، ومثله في الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 82. (¬3) هو: الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الأموي ينتهي نسبه إلى صخر بن حرب بن أمية جد بني أمية، ولد -رحمه الله- بقرطبة سنة 384 من الهجرة، وكان حافظًا عالمًا لعلوم الحديث وفقهه، شاعرًا أديبًا، اعتمد مذهب داود بن علي الظاهري. توفي -رحمه الله- في رجب من سنة 479 من الهجرة، وله مصنفات منها: المحلى، الفصل في الملل والنحل، مراتب الإجماع. وفيات الأعيان لابن خلكان 3/ 13 - 17، ومعجم الأدباء لياقوت الحموي ص 235 - 257.

علينا صالح أعمالنا وسيئه ففرض علينا أن نأتي من كل ذلك ما افترضه الله تعالى علينا" (¬1) اهـ. فقوله -رحمه الله-: "ومما كتبه الله تعالى علينا استنقاذ كل متورط من الموت" فيه دليل على وجوب استنقاذ المسلم لأخيه المسلم من الهلاك والموت إذا كان قادرًا على فعل السبب الموجب لنجاته -بإذن الله تعالى- من ذلك الهلاك. ثم ذكر -رحمه الله- الأمثلة ومنها: "العلة الصعبة التي نقدر على معافاته منها". ومعلوم أن المرض الجراحي المميت يعتبر من أصعب العلل، والطبيب الجراح قادر -بإذن الله تعالى- على معافاة المريض منه، فوجب عليه فعل ذلك. ولاشك في أن قيام الطبيب بمهمة الجراحة في مثل هذه الحالات الخطيرة المميتة وسعيه بإنقاذ النفس المحرمة يعد من أجَلِّ ما يتقرب به إلى الله عز وجل، لما فيه من تفريج كربة المسلم وإعانته على البر والتقوى، إذ يتقوى بذلك الجسد المعافى، وبزيادة الحياة على الزيادة من طاعة الله عز وجل. ففي الصحيح من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بينما كلب يطيف بركية (¬2) قد كاد يقتله العطش إذ رأته بغي (¬3) من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها (¬4)، فاستقت له به فسقته ¬

_ (¬1) المحلى لابن حزم: 11/ 19. (¬2) الركية: البئر وجمعها ركايا. المصباح المنير للفيومي1/ 238. (¬3) البغي: المرأة الزانية. يقال بغت المرأة بغاءً أي زنت. المغرب للمطرزي 1/ 81. (¬4) الموق: الخف. المصباح المنير للفيومي 2/ 585.

إياه فغفر لها به" (¬1). فإذا كانت هذه هي عاقبة من سعى في إنقاذ حيوان من الهلاك بسقيه، فإن عاقبة من سعى في إنقاذ النفس الآدمية المحرمة من الهلاك والموت بالعلاج والجراحة أجل عند الله تعالى، وأعظم ثوابًا، والله تعالى أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه مسلم في صحيحه 4/ 41.

المطلب الثاني في (الجراحة العلاجية الحاجية)

المطلب الثاني في (الجراحة العلاجية الحاجية) وهي الجراحة التي يقصد منها علاج الأمراض، والحالات الجراحية التي تصل إلى درجة الخوف على المريض من الموت، وتكون مشقة الألم، أو خوف الضرر فيها غير يسيرة. وعلى هذا فإن مرتبة المشقة الموجودة في هذه الجراحة تعتبر وسطًا بين المشقة الضرورية، والمشقة اليسيرة المقدور عليها دون عناء وكلفة. وهي تشتمل على علاج نوعين من الأمراض والحالات الجراحية وهما: النوع الأول: الأمراض والحالات الجراحية التي يتضرر المريض بآلامها، سواء كانت مستمرة أو متقطعة، ومن أمثلة تلك الأمراض والحالات ما يلي: (1) جراحة انفتاق النواة اللبية القطنية (¬1) (الجراحة العصبية). (2) جراحة التراكوما (الرمد الحبيبي) (¬2) (جراحة العيون). ¬

_ (¬1) الجراحة العصبية. د. البكداش ص 185 - 197. (¬2) التراكوما: نوع من الرمد الذي يصيب الكيس الملتحمي نتيجة الإصابة بنوع من الفيروسات الكبيرة. التصرف الزين في مناجزة سقم العين. د. محمد عبد العزيز =

(3) جراحة استئصال اللوزتين في حال التهابهما المزمن (¬1). (جراحة الأنف والأذن والحنجرة). (4) جراحة القرحة البدئية للمريء (¬2) (جراحة الصدر). (5) جراحة التهاب الوريد الخثري (¬3) (جراحة القلب). (6) جراحة التهاب الزائدة الدودية في بدايته (¬4) (جراحة البطن). (7) جراحة استئصال البواسير الشرجية (¬5) (جراحة البطن). (8) جراحة دوالي الحبل المنوي (¬6) (جراحة الجهاز التناسلي عند الذكور). (9) جراحة استئصال الأورام المبيضية (¬7) (جراحة الجهاز التناسلي ¬

_ = ص 140، 148، وأمراض العيون محمد رفعت ص 153. (¬1) الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 1/ 125، 126. (¬2) أمراض الصدر الجراحية د. محسن أسود ص 212 - 215. (¬3) التهاب الوريد الخثري: مرض التهابي يصيب جدران الأوردة والنسج حولها، ويترافق بتخثر الدم في لمعتها، ويعالج بالجراحة إذا بلغ درجة الخطورة. انظر جراحة القلب د. القباني ص 295، 303. (¬4) الشفاء بالجراحة د. الفاعور ص 67 - 72، والأمراض الجراحية لمجموعة من الأطباء ص 177، 185. (¬5) البواسير: انتفاخ في الأوعية الدموية في الشرج وأسفل المستقيم. الشفاء بالجراحة د. الفاعور ص 92، وجراحة البطن د. اللبابيدي، د. الشامي ص 332 - 338. (¬6) دوالي الحبل المنوي: عبارة عن تعرج واتساع الأوردة المنوية. أمراض الجهاز البولي والجهاز التناسلي عند الذكور. د. النحاس، د. العطار ص 345 - 347. (¬7) المبيض: هو الغدة التناسلية الأنثوية التي تتكون منها البيضات. الموسوعة الطبية العربية د. البيرم ص 294، وتعالج أورامه بالجراحة. انظر الأمراض النسائية د. الحافظ ص 375.

النوع الثاني:

عند النساء). (10) جراحة قلع الضرس إذا أصابه النخر والألم (¬1) (جراحة الفم والأسنان). فهذه الحالات والأمراض الجراحية تنشأ عنها آلام قد تكون مبرحة تنغص على المريض حياته، وتمنعه من الراحة، وأداء العبادة على وجهها. النوع الثاني: الأمراض والحالات الجراحية التي يخشى من ضررها مستقبلاً، ولا يوجد فيها ألم منغص، والحاجة في هذا النوع مبنية على الضرر المتوقع حدوثه في المستقبل إذا لم يتم علاج الحالة بالجراحة، وأما الألم في هذا النوع فإنه يسير ولا يكون بذي بال، فليست هناك مشقة من جهته. وأعراض هذه الحالات تكون خفية نظرًا لعدم وجود الألم الذي ينذر الإنسان غالبًا بخطر المرض ووجوده. ويشترط في الضرر أن يغلب على ظن الطبيب وقوعه، أما إذا لم يغلب على ظنه بأن كان متوهمًا مثلاً كما في جراحة استئصال اللوزتين السليمتين من الأطفال خشية التهابها مستقبلاً، فإن هذا الظن المتوهم لا تأثير له، ولا يصير به المريض محتاجًا. ومن أمثلة الحالات والأمراض الجراحية المتعلقة بهذا النوع ما يلي: ¬

_ (¬1) جراحة الفم والفكين. دانتيل لاسكن ص 9 ترجمة د. عادل زكار.

(1) جراحة الجلوكوما المزمنة (¬1). (2) جراحة استئصال الأكياس المائية الموجودة في الكبد (¬2) (3) جراحة استئصال الخراج الكلوي (¬3). (4) جراحة استئصال الأورام السليمة في القولون (¬4). (5) جراحة استئصال الأورام الهلامية القلبية (¬5). فهذه الأمراض، والحالات الجراحية إذا لم يتم علاجها بالجراحة اللازمة، فإنها تهدد الأعضاء المصابة وغيرها بالخطر فعلى سبيل المثال: مرض الجلوكوما المزمن الذي يصيب العين، لا يحس ¬

_ (¬1) الجلوكوما: "مرض يصيب العين يتسم بازدياد الضغط في داخل العين، مما يترتب عليها حصول تلف بالشبكية والعصب البصري". الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 3/ 474، والتصريف الزين في مناجزة سقم العين. د. محمد عبد العزيز ص 397، 398. (¬2) الأمراض الجراحية. لمجموعة من الأطباء ص 229. (¬3) ملحق الجراحة البولية د. النحاس ص 89. الخُرَّاج: تجمع صديدي في داخل تجويف مسبب عن التهاب صديدي حاد بالأنسجة مع فسادها وتنخرها". والكلية: "عضو بالبطن مختص باستخلاص البول من الدم توطئة لإخراجه، والتخلص منه". الموسوعة الطبية العربية. د. البيرم ص 133، 281. (¬4) الأورام السليمة: "كتلة من الأنسجة ناتجة عن نمو غير طبيعي للخلايا"، وهي إحدى قسمي الأورام، والثاني منهما الأورام الخبيثة. والقولون: "هو الأمعاء الغليظة الممتدة من الأعور حتى المستقيم". الموسوعة الطبية العربية. د. البيرم ص 332, والشفاء بالجراحة. د. الفاعور ص 79، والأمراض الجراحية لمجموعة من الأطباء ص 87، 97، 99. (¬5) الورم الهلامي: هو أحد أورام القلب البدئية، وهو في الأصل تنشؤ حقيقي سليم مصدره الخلايا الأولية في شغاف القلب، أو النسيج تحت الشغاف، ويتم علاجه بالاستئصال جراحيًا. جراحة القلب. د. القباني ص 391، 392.

المريض المصاب به بآلام سوى صداع خفيف، ولا يزال يسري في العين المصابة إلى أن يؤدي إلى فقد الإبصار بها بالكلية (¬1). والحكم بجواز هذا النوع من الجراحة يعتبر متفقًا مع أصول الشرع وقواعده. وذلك لأن الشريعة الإسلامية راعت رفع الحرج، ودفع الضرر عن العباد، كما دلت على ذلك نصوص الكتاب العزيز، والسنة النبوية المطهرة. قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} (¬2). وقال سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ أنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً} (¬3). وقال سبحانه: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَج} (¬4). وقال سبحانه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج {. (¬5) وفي الصحيح من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن ¬

_ (¬1) التصرف الزين في مناجزة سقم العين. د. محمد عبد العزيز ص 387، 388. (¬2) سورة البقرة (2) آية 185. (¬3) سورة النساء (4) آية 28. (¬4) سورة المائدة (5) آية 6. (¬5) سورة الحج (22) آية 78. قال الإمام الجصاص -رحمه الله- في تفسير هذه الآية الكريمة: "قال ابن عباس: من ضيق، وكذلك قال مجاهد، ويحتج به في كل ما اختلف فيه من الحوادث أن ما أدى إلى الضيق فهو منفي، وما أوجب التوسعة فهو أولى" اهـ. أحكام القرآن للجصاص 3/ 251.

النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له ولمعاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعثهما إلى اليمن: "يسرا، ولا تعسرا، وبشرا، ولا تنفرا ... " (¬1). وفي الصحيح أيضًا من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يسروا ولا تعسروا" (¬2). فهذه النصوص الشرعية من كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، شاهدة على اعتبار الشريعة لرفع الحرج والمشقة عن العباد، وأنها جاءت بالتيسير لا بالتعسير. وهذه الأمراض والحالات الجراحية اشتملت على ضرر يتأذى منه المريض المصاب بها سواء كان ذلك في حاله أو مآله، وقد راعت الشريعة الإسلامية دفع مشقتها عمومًا أي سواءً كانت مشقتها موجودة، أو كانت متوقعة الوجود للقاعدة الشرعية التي تقول: "المشقة تجلب التيسير" (¬3). والآلام الموجبة للمشقة قصد الشرع دفعها كما قصد رفعها، فكما يشرع للمكلف أن يسعى في رفع مشقة الألم الموجودة بالتداوي المأذون به، كذلك يشرع له دفع وقوعها بالتداوي المزيل للأسباب الموجبة لها، وقد أشار الإمام الشاطبي -رحمه الله- إلى ذلك بقوله: "وقد تكون المشقة الداخلة على المكلف من خارج لا بسببه، ولا بسبب دخوله في عمل تنشأ عنه، فههنا ليس للشرع قصد في بقاء ذلك الألم، وتلك المشقة والصبر عليها، كما أنه ليس له قصد في التسبب في إدخالها على النفس، غير أن المؤذيات، والمؤلمات خلقها الله تعالى ابتلاء للعباد. ¬

_ (¬1) رواه البخاري في صحيحه 4/ 69. (¬2) المصدر السابق. (¬3) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 76، والأشباه والنظائر لابن نجم ص75، وشرح القواعد الفقهية للزرقاء ص 105، وقواعد الفقه للمجددي ص 122.

وفُهم من مجموع الشريعة الإذن في دفعها على الإطلاق ... بل أذن في التحرر منها عند توقعها وإن لم تقع تكملة لمقصود العبد وتوسعة عليه ... " ثم ذكر الأمثلة على النوعين فقال: "ومن ذلك الإذن في دفع ألم الجوع والعطش والحر والبرد، وفي التداوي عند وقوع الأمراض، وفي التوقي من كل مؤذ آدميًا كان أو غيره، والتحرز من المتوقعات حتى يقدم العدة لها" (¬1) اهـ. فقد بين -رحمه الله- بقوله: "وفُهم من مجموع الشريعة الإذن في دفعها على الإطلاق .. " أن دفع ضرر الآلام عن المكلف مأذون به شرعاً، فدخل فيه النوع الأول من الجراحة العلاجية الحاجية المشتمل على دفع ضرر الآلام الموجودة في الأمراض والحالات الجراحية التي ينتظمها. كما بين -رحمه الله- بقوله: "بل أذن في التحرز منها عند توقعها، وإن لم تقع ... ": أن الشريعة أذنت في تعاطي الأسباب الموجبة لحفظ العبد من ضرر الآلام المتوقعة، وأكد ذلك بقوله بعده في معرض التمثيل: "وفي التوقي من كل مؤذ آدمياً كان أو غيره". فقوله: "من كل مؤذ" عام شامل لكل ما يصدق عليه أنه مؤذ، والأمراض والحالات الجراحية التي ينتظمها النوع الثاني من الجراحة العلاجية الحاجية يصدق عليها هذا الوصف، لأنها ستضر المريض وتؤذيه مستقبلاً، وستترتب عليها مضاعفات خطيرة، فيشرع للمكلف السعي في دفع مشقتها المتوقعة بفعل الجراحة اللازمة لعلاجها. والألم المؤذي يعتبر مشقة موجبة للإذن بفعل الجراحة، ولذلك نجد بعض الفقهاء -رحمهم الله- ينصون في كتبهم على جواز فعل الجراحة دفعًا لمشقته. ¬

_ (¬1) الموافقات للشاطبي 2/ 102.

قال الإمام النووي -رحمه الله-: "قلع السن الوجعة إنما يجوز إذا صعب الألم، وقال أهل الخبرة: إنه يزيل الألم" (¬1) اهـ. وكذلك الخوف على منافع الأعضاء يعتبر ضربًا من المشقة الموجبة للترخيص والتخفيف في الشريعة الإسلامية، كما أشار إلى ذلك الإمام السيوطي عند بيانه لمراتب المشقة الموجبة للتخفيف في الشريعة فقال -رحمه الله-: "الأولى: مشقة عظيمة فادحة، كمشقة الخوف على النفوس، والأطراف، ومنافع الأعضاء، فهذه موجبة للتخفيف" (¬2) اهـ. وهذا النوع من الحاجة المتضمنة لمشقة الألم، والخوف من الضرر المتوقع يعتبر في حكم الضروريات للقاعدة الشرعية التي تقول: "الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة" (¬3). ولاشك في أن الحاجة لهذا النوع من الجراحة في هذا الزمان تعتبر عامة، فقد أصبحت المستشفيات الحكومية والأهلية مليئة بالمرضى المحتاجين للجراحة التي تدفع عنهم مشقة الآلام وخطر المضاعفات المترتبة على الأمراض والحالات الجراحية المتعلقة بهذا النوع -بإذن الله تعالى-، فينبغي الترخيص لهم بفعلها (¬4) ... والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) روضة الطالبين للنووي 5/ 184، ومثله في مغني المحتاج للشربيني 2/ 325. (¬2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 80، ومثله في الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 91 والأقمار المضيئة للأهدل ص 113، وتهذيب الفروق لمحمد علي بن حسين 1/ 132 بهامش الفروق. (¬3) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 91، والقواعد الفقهية للمجددي ص 75. (¬4) قال الإمام السيوطي -رحمه الله-: "الحاجة إذا عمت كانت كالضرورة" الأشباه والنظائر ص 88.

المطلب الثالث في (الجراحة العلاجية الحاجة الصغرى)

المطلب الثالث في (الجراحة العلاجية الحاجة الصغرى) وهي الجراحة التي لا تصل المشقة الموجودة فيها إلى مرتبة الحاجيات والضروريات، وغالبًا ما تجري لعلاج الجروح الصغيرة، وذلك بتنظيفها، وقطع الأنسجة المتهتكة أو الميتة، وإزالتها ثم خياطة الجرح وتدبيره (¬1). وكما يتم بها علاج الجروح الظاهرة على جسم المصاب كذلك أيضًا يتم بها علاج بعض الحالات الجراحية الموجودة في داخل الجسم ومن أمثلة ذلك ما يجري في جراحة الأنف والأذن من العمليات التالية: (1) جراحة استئصال الزوائد اللحمية الموجودة في الأنف. (2) جراحة كي النزيف الأنفي. (3) جراحة التهاب الجيوب الأنفية المزمنة (¬2). (4) جراحة فتح الطبلة (¬3). (5) الجراحة التي تجرى لإيقاف إفرازات الأذن (¬4). ¬

_ (¬1) الجراحة الصغرى د. البابولي، د. الدولي ص 126، 127، والجراحة العامة لمجموعة من الأطباء ص 4، 6، 8، 9. (¬2) التهاب الجيوب الأنفية: هو التهاب واحد أو أكثر للجيوب التي تنفتح في الأنف. الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 1/ 94. (¬3) طبلة الأذن: غشاء طيع التحني يفصل الأذن الوسطى عن الأذن الخارجية. المصدر السابق 5/ 910، 911. (¬4) مباديء أمراض الأذن والأنف والحنجرة. د. لويس لبيب ص 32، 34، 189، 221, 222.

وهذا النوع من الجراحة يعتبر مشروعًا، لأن المقصود منه إصلاح الفساد الذي أصاب الجسم، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر فاطمة رضي الله عنها على فعلها كما تقدم بيانه في دليل المشروعية، وكذلك أقر النساء اللاتي كن يخرجن معه فيداوين الجرحى (¬1). وإذا احتاج الأطباء إلى قطع شيء من أنسجة الجرح بسبب موتها، وتعفنها، فإنه لا حرج عليهم في ذلك؛ لأن المقصود منه مصلحة الجسم، فقد ثبت بشهادة الأطباء المختصين أن بقاء الأنسجة المتلوثة بالآلات الجارحة يتسبب في حدوث أمراض خطيرة في المستقبل، ومن أشهرها وأشدها خطراً مرض الكزاز (¬2) الذي ينتهي بالمصاب به في أغلب الأحيان إلى الوفاة (¬3)، فجاز للأطباء أن يتخذوا الحيطة بقطع تلك الأنسجة دفعًا للمفسدة المتوقعة. فهذه هي مجمل المراتب المتعلقة بالجراحة العلاجية، وينبغي مراعاة الترتيب فيها حسب أهميتها، فتقدم الحالات الضرورية على الحاجية، والحاجية على الصغرى. وتظهر فائدة هذا الترتيب في حال ازدحام الحالات الجراحية وكثرتها بحيث لا يمكن تغطيتها بالعلاج في آن واحد، كما يقع ذلك في الحروب، والحوادث التي يتعرض فيها العدد الكبير للإصابة، فينبغي ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) مرض الكزاز: مرض مصدره عدوى الجروح بميكروب باسيل التيتانوس. اكتشف عام 1885 م. الموسوعة الطبية العربية. د. البيرم ص 280. (¬3) الجراحة العامة لمجموعة من الأطباء ص 87، 88، والموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 3/ 463، 464.

حينئذ تقديم الحالات الجراحية الخطيرة المميتة، على جميع الحالات، ثم تليها الحالات التي بلغت مقام الحاجة ثم الحالات المتعلقة بالجراحة الصغرى، وشرط اعتبار هذا التقديم رجاء النفع في معالجة الحالة المقدمة، أما لو كانت ميئوسًا منها ويتعذر إنقاذ صاحبها فإنه حينئذ ينبغي صرف الأطباء إلى ما دونها بالشرط نفسه. والله تعالى أعلم. * * *

المبحث الثاني في (جراحة الكشف)

المبحث الثاني في (جراحة الكشف) وهي عند الأطباء: "كل جراحة تجرى للحصول على معلومات عن المرض، لا يمكن الحصول عليها بالوسائل الأخرى" (¬1). ومن خلال تعريفهم هذا يتبين لنا أن المقصود منها هو الحصول على المعلومات التي يمكن بواسطتها أن يتوصل الطبيب إلى معرفة نوعية المرض المجهول. كما يتبين لنا أنهم لا يلجئون إليها إلا بعد تعذر الوصول إلى معرفة المرض عن طريق وسائل الفحص الطبي الأخرى من الأشعة، والمناظير، والتحاليل الطبية وغيرها. وتجرى هذه الجراحة للكشف عن حقيقة الأورام الموجودة في المواضع المختلفة من جسم الإنسان (¬2) ومن صورها ما يلي: (1) الكشف عن حقيقة الأورام الموجودة في البطن (¬3). (2) الكشف عن حقيقة الأورام الموجودة في الشرج عن طريق التنظير والخزع (¬4). ¬

_ (¬1) الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 5/ 983. (¬2) المصدر السابق 4/ 361، 362. (¬3) جراحة البطن د. اللبابيدي، د. الشامي ص 208. (¬4) الشفاء بالجراحة د. الفاعور ص 88.

(3) الكشف عن حقيقة الأورام الموجودة في القولون عن طريق أخذ خزعة نسيجية وتحليلها بعد ذلك (¬1). وهذه الجراحة قد تشتمل على الشق عن الموضع الذي توجد فيه الأورام، مثل أن يتبين من خلال الفحص بالأشعة وجود ورم في المعدة، ولم يمكن التوصل إلى معرفة حقيقته هل هو ورم سليم (حميد) أو ورم خبيث (سرطان)، فحينئذ يقوم الطبيب بشق البطن، وأخذ عينة من ذلك الورم وتحليلها بغية الوصول إلى حقيقته حتى يتمكن من علاجه بعد ذلك بما يلزم. وفي هذه الحالة يتعرض المريض لجراحة كالجراحة الطبية العادية، ولذلك فإنه يجب أن لا تجرى هذه الجراحة إلا بعد أن يستنفذ الأطباء ما في وسعهم للحصول على المعلومات الطبية بأي وسيلة أخرى هي أخف ضررًا وأقل خطورة من الجراحة (¬2)، ولا يجوز لهم شرعًا أن يعرضوا المرضى لأخطار هذه الجراحة إذا تيسر وجود البديل الذي هو بتلك المثابة. وقد لا تشتمل الجراحة على شق موضع الورم، فيكتفي الأطباء بإدخال المناظير الطبية المجهزة بالأنبوب القاطع الذي يمكن بواسطته سحب صفائح من الطبقات السطحية للموضع، ومن ثم يتم إخراجها وتحليلها. وهذه الطريقة أكثر أمانًا، ويمكن بواسطتها الوصول إلى بعض المعلومات المهمة، وهي طريقة تم التوصل إليها حديثًا بعد تطوير ¬

_ (¬1) الأمراض الجراحية لمجموعة من الأطباء ص 101، وموجز الجراحة العامة، د. سميع سفر، د. هاشم عبد الرحمن ص 252. (¬2) الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 5/ 983.

المناظير الطبية وتحسينها، ومتى تيسر فحص الموضع المطلوب بواسطتها فإنه لا يجوز العدول عنها إلى الجراحة التي هي أكثر خطورة، وأعظم ضررًا. وهذا النوع من الجراحة توفرت فيه الأسباب الموجبة للترخيص بفعله متى ما كان مستوفيًا لشرطه، وهو عدم وجود البديل الذي هو أخف ضررًا منه، ويمكن بواسطته الحصول على المعلومات المطلوبة، والإذن به مبني على الإذن بالتداوي، وذلك لأن التداوي متوقف عليه، فيجوز فعله تحصيلاً لمصلحة المداواة، لأن الإذن بالشيء إذن بلوازمه. * * *

المبحث الثالث في (جراحة الولادة)

المبحث الثالث في (جراحة الولادة) وهي الجراحة التي يقصد منها إخراج الجنين من بطن أمه، سواء كان ذلك بعد اكتمال خلقه، أو قبله، ولا تخلو الحاجة الداعية إلى فعلها من حالتين: الحالة الأولى: أن تكون ضرورية، وهي الحالة التي يخشى فيها على حياة الأم، أو جنينها، أو هما معًا، ومن أمثلتها ما يلي: (1) جراحة الحمل المنتبذ. (2) جراحة استخراج الجنين الحي بعد وفاة أمه. (3) الجراحة القيصرية في حال التمزق الرحمي (¬1). فهذه الحالات تعتبر فيها جراحة الولادة ضرورية، لأن المقصود منها إنقاذ حياة الأم، أو الجنين، أو هما معاً. ففي المثال الأول: يتكون الجنين خارج الرحم في قناة المبيض، ويسمى بالحمل المهاجر، أو القنوي، وهذا الموضع الذي تكون فيه الجنين يستحيل بقاؤه فيه حيًا، وغالبًا ما ينفجر في القناة التي بداخلها، وحينئذ تصبح حياة الأم مهددة بالخطر، فيرى الأطباء ¬

_ (¬1) السلوك المهني للأطباء د. التكريتي ص 337، 338.

ضرورة إجراء الجراحة، واستخراجه قبل انفجاره، وذلك كله إنقاذًا لحياة الأم (¬1). وفي المثال الثاني: تموت الأم بعد اكتمال خلق الجنين، وحياته، فيضطر الأطباء إلى شق بطنها لاستخراج ذلك الجنين قبل موته. وهذه الصورة ليست بحديثة بل هي صورة كانت موجودة من القدم وهي محل خلاف بين أهل العلم -رحمهم الله- سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في مباحث العمل الجراحي، وأنه لا حرج في فعل هذا النوع من الجراحة إنقاذًا لحياة الجنين. وفي المثال الثالث: يتعرض الرحم إلى التمزق الذي يهدد حياة الأم، وجنينها وذلك بعد اكتمال خلقه، فيضطر الأطباء إلى إجراء الجراحة واستخراج الجنين. حتى لا تتعرض الأم وجنينها للهلاك. فهذه ثلاث صور من صور جراحة الولادة الضرورية، الأولى قصد منها إنقاذ حياة الأم، والثانية قصد منها إنقاذ حياة الأثنين، والثالثة قصد منها إنقاذ حياتهما معًا. ¬

_ (¬1) ورد في الموسوعة الطبية التي أشرف على وضعها عدد من الأطباء ما نصه: "الحمل المنتبذ، أو القنوي، وهي حالة نادرة يكون فيها الجنين خارج الرحم في قناة المبيض التي تؤدي إلى الرحم، وهذا الجنين لا يمكن أن يبقى حياً، بل يموت بطريقة أو بأخرى، منفجرًا غالبًا من خلال القناة التي كان في داخلها، وعندما يقع هذا الحدث يعظم الخطر على الأم، ومن ثم فإن الحمل المنتبذ يعد تبريرًا واضح الحسم لإنهاء الحمل" اهـ. الموسوعة الطبية الحديثة 1/ 23. ويقول الدكتور البيرم: "وجب أن تنغرس البويضة الملقحة في بطانة جدار الرحم، فإذا انغرست في أي موضع آخر، فإن الحمل يكون شاذًا، ويستوجب إنهاؤه جراحيًا، وإلا ساءت العاقبة أهم هذه المواضع الشاذة قناة فالوب" اهـ. الموسوعة الطبية العربية. البيرم ص 127.

وهذا النوع من الجراحة يعتبر مشروعًا وجائزًا، نظرًا لما يشتمل عليه من إنقاذ النفس المحرمة الذي هو من أجلِّ ما يتقرب به إلى الله عز وجل، وهو داخل في عموم قوله سبحانه: {وَمَن أحْيَاهَا فَكَأنَّمَا أحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} (¬1)، ولأنه كما جاز استئصال الداء الموجب للهلاك من جسم المريض كذلك يجوز استخراج الجنين إذا كان بقاؤه موجبًا لهلاك أمه، بجامع دفع الضرر في كل. وكذلك شق بطن المرأة الحامل الميتة من أجل إنقاذ جنينها الحي، فكما يجوز شق البطن للعلاج والتداوي، كذلك يجوز شقها لإنقاذ النفس المحرمة، ولأن بقاءها في البطن بدون ذلك يعتبر ضررًا محضًا، فتشرع إزالته بالجراحة اللازمة للقاعدة الشرعية التي تقول: "الضرر يزال" (¬2). قال الإمام ابن حزم -رحمه الله-: "ولو ماتت امرأة حامل، والولد حي يتحرك قد تجاوز ستة أشهر فإنه يشق عن بطنها طولاً، ويخرج الولد، لقوله تعالى: {وَمَنْ أحْيَاهَا فَكَأنمَا أحْيَا الناسَ جَمِيعًا} ومن تركه عمدًا حتى يموت فهو قاتل نفس" (¬3) اهـ. فاعتبر -رحمه الله- فعل هذا النوع من الجراحة فرضًا لازمًا على الطبيب إذا امتنع من فعله عمدًا كان قاتلاً، لامتناعه من فعل السبب الموجب للنجاة مع قدرته على فعله. ¬

_ (¬1) سورة المائدة (5) آية 32. (¬2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 83، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 85، وشرح القواعد الفقهية للزرقاء ص 125. (¬3) المحلى لابن حزم 5/ 166.

الحالة الثانية:

ولا يشكل على القول بجواز الجراحة في الصورة الأولى ما تتضمنه من إتلاف الجنين وتعريضه للهلاك، وذلك لأن حياة الأم مهددة ببقائه، وبقاؤه في الغالب غير منته بسلامته وخروجه حيًا، ومن ثم كانت حياة الجنين موهومة، وحياة الأم متيقنة فلا يجوز تعريض الحياة المتيقنة للهلاك طلبًا لحياة موهومة، وجاز استخراج الجنين بالجراحة على هذا الوجه ارتكابًا لأخف الضررين للقاعدة الشرعية التي تقول: "إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما" (¬1). فالضرر المترتب على بقاء الجنين في هذه الصورة يعرض الأم والجنين للهلاك، بخلاف الضرر المترتب على استخراجه فإنه مختص بالجنين فهو أخفهما. وينبغي على الأطباء أن يتقوا الله عز وجل، وأن يبذلوا كل ما في وسعهم لعلاج هذه الحالات بالوسائل التي تنتهي بسلامة الأم وجنينها، وألا يقدموا على فعل هذا النوع من الجراحة إلا إذا تعذرت تلك الوسائل، وتحققوا من أن بقاء الجنين مفض إلى هلاكه وأمه، أو غلب على ظنهم ذلك ... والله تعالى أعلم. الحالة الثانية: أن تكون حاجية: وهي الحالة التي يحتاجها الأطباء فيها إلى فعل الجراحة بسبب تعذر الولادة الطبيعية، وترتب الأضرار عليها إلى درجة لا تصل إلى مرتبة الخوف على الجنين أو أمه من الهلاك. ومن أشهر أمثلتها: الجراحة القيصرية التي يلجأ إليها الأطباء عند ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 87، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 89، وقواعد الفقه للمجددي ص 140، وشرح القواعد الفقهية للزرقاء ص 147، والأقمار المضيئة للأهدل ص 123.

خوفهم من حصول الضرر على الأم أو الجنين أو هما معًا، إذا خرج المولود بالطريقة المعتادة, وذلك بسبب وجود العوائق الموجبة لتلك الأضرار، ومن أمثلتها: ضيق عظام الحوض، أو تشوهها أو إصابتها ببعض الآفات المفصلية، بحيث يتعذر تمدد مفاصل الحوض. أو يكون جدار الرحم ضعيفًا، ونحو ذلك من الأمور الموجبة للعدول عن الولادة الطبيعية دفعًا للضرر المترتب عليها (¬1). والحكم بالحاجة في هذا النوع من الجراحة راجع إلى تقدير الأطباء، فهم الذين يحكمون بوجودها، ولا يعد طلب المرأة أو زوجها مبررًا لفعل هذا النوع من الجراحة طلبًا للتخلص من آلام الولادة الطبيعية، بل ينبغي للطبيب أن يتقيد بشرط وجود الحاجة، وأن ينظر في حال المرأة وقدرتها على تحمل مشقة الولادة الطبيعية وكذلك ينظر في الآثار المترتبة على ذلك، فإن اشتملت على أضرار زائدة عن القدر المعتاد في النساء ووصلت إلى مقام يوجب الحوج والمشقة على المرأة، أو غلب على ظنه أنها تتسبب في حصول ضرر للجنين، فإنه حينئذ يجوز له العدول إلى الجراحة وفعلها، بشرط ألا يوجد بديل يمكن بواسطته دفع تلك الأضرار وإزالتها ... والله تعالى أعلم. * * * ¬

_ (¬1) السلوك المهني للأطباء د. التكريتي ص 247.

المبحث الرابع في (جراحة الختان)

المبحث الرابع في (جراحة الختان) (¬1) وهي الجراحة التي يقصد منها قطع الجلدة التي تغطي الحشفة -رأس الذكر- بالنسبة للرجال، أو قطع أدنى جزء من جلدة أعلى الفرج بالنسبة للنساء (¬2). وهي من أقدم أنواع الجراحة، وكانت موجودة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبله، وهي من بقايا الحنيفية، ويدل على ذلك ما ورد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في تفسير الكلمات التي وردت في قوله سبحانه وتعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهيمَ رَبّهُ بكَلمَات فَأتَمَّهُنَّ} (¬3) فذكر منها الختان (¬4). ¬

_ (¬1) الختان: مصدر مأخوذ من الختن، ومعناه القطع، ولطلق لفظ الختان فيراد به الفعل كما يطلق ويراد به المحل، والمقصود هنا الإطلاق الأول، وهو فعل الخاتن سواء كان برجل أو امرأة. ومن أهل اللغة من ذهب إلى تخصيص لفظه بالذكور، وأما الإناث فيقال في حقهن: خفاض. لسان العرب لابن منظور 13/ 137، 138، وترتيب القاموس للزاوي 2/ 15. (¬2) طرح التثريب للعراقي 2/ 75، وفتح الباري لابن حجر 10/ 340، ونيل الأوطار للشوكاني 1/ 109، وحاشية البناني 3/ 47. (¬3) سورة البقرة (2) آية 124. (¬4) روى ذلك الإمام ابن جرير -رحمه الله- في تفسيره 1/ 154، وصحح الحاكم إسناده، ووافقه الحافظ الذهبي. المستدرك 2/ 266. وهو قول طائفة من السلف -رحمهم الله-. انظر تفسير القرطبي 2/ 98، والنكت والعيون للماوردي 1/ 154.

ويؤكده ما حكاه بعض المفسرين -رحمهم الله- من إجماع العلماء -رحمهم الله- على أن إبراهيم عليه السلام هو أول من اختتن (¬1). ولا تزال جراحة الختان باقية إلى العصر الحاضر، وتعد فرعًا من فروع الجراحة الصغرى (¬2). والأصل في مشروعيتها ما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الفطرة خمس: الاختتان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط" (¬3). فقد دل هذا الحديث الشريف على مشروعية الختان، وجواز فعله مطلقًا سواء كان المختتن رجلاً أو امرأة، وفي عده من خصال الفطرة دليل على اعتباره من الصفات المحمودة. قال الإمام الشوكاني (¬4) -رحمه الله- في شرحه: "هذه الأشياء إذا فعلت اتصف فاعلها بالفطرة التي فطر الله العباد عليها، واستحبها لهم ليكونوا على أكمل الصفات، وأشرفها صورة " (¬5) اهـ. ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي 2/ 98. (¬2) الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 3/ 572. (¬3) تقدم تخريجه. انظر ص 82. (¬4) هو الإمام أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني، ولد -رحمه الله- سنة 1173 هـ، وتوفي سنة 1250 هجرية، جمع -رحمه الله- بين علوم كثيرة وصنف فيها، ومن مؤلفاته: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، وإرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، والدر النضيد في إخلاص التوحيد. معجم المؤلفين لرضا كحالة 11/ 53. (¬5) نيل الأوطار للشوكاني 1/ 112.

مسألة: هل الختان واجب أم لا؟.

وكما دلت السنة النبوية على مشروعية الختان، وجواز فعله دل الإجماع على ذلك أيضًا. قال الإمام أبو محمد علي بن حزم الظاهري -رحمه الله-: "اتفقوا على أن من ختن ابنه فقد أصاب، واتفقوا على إباحة الختان للنساء" (¬1) اهـ. وبناء على ما سبق فإن هذه الجراحة تعتبر امتثالاً للشرع لما فيها من إصابة الفطرة والاهتداء بالسنة التى حضت وحثت على فعلها دون فرق بين الرجال والنساء. وقد اختلف أهل العلم -رحمهم الله- في حكم هذه الجراحة بالنسبة للمكلف المراد ختنه هل هي واجبة عليه أم لا؟. وبيان أقوالهم وأدلتهم والراجح منها يتضح بعون الله تعالى وتوفيقه في المسألة التالية: مسألة: هل الختان واجب أم لا؟. اختلف أهل العلم -رحمهم الله- في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: القول الأول: الختان واجب على الذكر والأنثى وهو مذهب الشافعية (¬2)، ¬

_ (¬1) مراتب الاجماع لابن حزم ص 157، وحكى الإجماع أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مجموع الفتاوى 21/ 114. (¬2) المجموع للنووي 1/ 300.

القول الثاني:

والحنابلة (¬1)، وبعض المالكية (¬2) -رحمهم الله-. القول الثاني: الختان سنة: وهو مذهب الحنفية (¬3)، وبه قال الإمام مالك (¬4)، وأحمد في رواية عنه (¬5) -رحمهم الله-. القول الثالث: الختان واجب على الذكور، ومكرمة للإناث، وهو رواية عن الإمام أحمد (¬6)، وبه قال بعض المالكية (¬7) والظاهرية (¬8) -رحمهم الله-. ¬

_ (¬1) الأنصاف للمرداوي 1/ 123، والمبدع لابن مفلح 1/ 103، 104. (¬2) وهذا القول لسحنون من أصحاب مالك -رحمهم الله-. انظر القوانين الفقهية لابن جزي ص 167، وطرح التثريب للعراقي 2/ 75. (¬3) المبسوط للسرخسي 1/ 156، وبدائع الصناع للكاساني 7/ 328، والفتاوى الهندية 5/ 357. (¬4) القوانين الفقهية لابن جزي ص 67 1، وشرح صحيح مسلم للأبي 2/ 35، وشرح الرسالة لزروق 1/ 394. (¬5) الإنصاف للمرداوي 1/ 124، والمغني لابن قدامة 1/ 85. (¬6) الإنصاف للمرداوي 1/ 124، والمبدع لابن مفلح 1/ 104. واختار هذه الرواية الإمام ابن قدامة -رحمه الله-. انظر المغني 1/ 85. (¬7) شرح الرسالة للتنوخي 1/ 393، والفواكه الدواني للنفراوي 1/ 461، والثمر الداني للأبي ص 410. (¬8) المحلى لابن حزم 2/ 218. ونسبه الحافظ العراقي -رحمه الله- إلى الشافعية. طرح التثريب 2/ 75.

الأدلة:

الأدلة: (1) دليل القول الأول: استدل القائلون بوجوب الختان مطلقًا بالكتاب، والسنة، والعقل. أ- دليلهم من الكتاب: قوله تعالى: {وَإذِْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأتَمَّهُنَّ ... الآية} (¬1). وجه الدلالة: أن الختان من تلك الكلمات التي ابتلاه الله بها كما صح ذلك عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه عده منها، والابتلاء إنما يقع غالبًا بما هو واجب (¬2). قوله تعالى: {ثُمَّ أوْحَيْنَا إلَيْكَ أن اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا .. } والآية (¬3). وجه الدلالة: أن الختان من ملته -كما تقدم- فيكون داخلاً في عموم المأمور باتباعه والأصل في الأمر أنه للوجوب حتى يقوم الدليل على صرفه عن ذلك (¬4). ¬

_ (¬1) سورة البقرة (2) آية 124. (¬2) فتح الباري لابن حجر 1/ 342، ونيل الأوطار 1/ 113. (¬3) سورة النحل (16) آية 123. (¬4) تحفة المودود لابن القيم ص 128، قال الإمام النووي -رحمه الله- في معرض جوابه عما أورد على الاستدلال بالآية المذكورة على وجوب الختان: "إن الآية صريحة في اتباعه فيما فعله، وهذا يقتضي إيجاب كل فعل فعله إلا ما قام دليل على أنه سنة في حقنا كالسواك ونحوه .. " اهـ. المجموع للنووي 1/ 298.

ب- دليلهم من السنة:

ب- دليلهم من السنة: حديث عثيم بن كليب عن أبيه، عن جده أنه جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (قد أسلمت. فقال: ألق عنك شعر الكفر، واختتن) (¬1). إن قوله "اختتن" أمر، والأمر للوجوب، فدل ذلك على وجوب الاختتان ولزومه، وخطابه للوجوب يشمل غيره حتى يقوم دليل الخصوصية (¬2). واستدلوا أيضًا بما روي عن الزهري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أسلم فليختتن وإن كان كبيرًا" (¬3). وجه الدلالة: أن قوله: "فليختتن" أمر، والأمر للوجوب، وقد وقعت صيغة الشرط في قوله: "من أسلم" بلفظ عام فيشمل ذلك الرجال والنساء. جـ- دليلهم من العقل: استدلوا بالنظر والقياس. أما دليلهم من النظر فينحصر في الوجوه التالية: الوجه الأول: أنه يجوز كشف العورة له فلو لم يجب لما جاز ذلك لأنه ليس ¬

_ (¬1) رراه أحمد في مسنده 3/ 415، وأبو داود في سننه 1/ 148. (¬2) فتح الباري لابن حجر 1/ 341. (¬3) هذا الحديث ذكره الامام ابن القيم -رحمه الله- في كتابه تحفة المودود وقال: "وهذا وإن كان مرسلاً فهو يصلح للاعتضاد" اهـ. تحفة المودود لابن القيم ص 128.

لضرورة ولا لدواء (¬1). الوجه الثاني: أن القلفة تحبس النجاسة، وإزالة النجاسة أمر واجب لمكان العبادات ولا تتم إزالة القلفة إلا بالختان، فيكون واجبًا لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (¬2). الوجه الثالث: أن ولي الصبي يؤلمه بالختان، ويعرضه للتلف بالسراية، ويخرج من ماله أجرة الخاتن، وثمن الدواء، ولا يضمن سرايته بالتلف، ولو لم يكن واجبًا لما جاز ذلك (¬3). الوجه الرابع: أن في الختان ألمًا عظيمًا على النفس وهو لا يشرع إلا في إحدى ثلاث خصال لمصلحة، أو عقوبة، أو وجوب، وقد انتفى الأولان فبقي الثالث (¬4). وأما استدلالهم بالقياس، فإنهم قالوا: الوجه الأول: أنه قطعٌ شرعه الله لا تؤمن سرايته، فكان واجبًا كقطع يد ¬

_ (¬1) المجموع للنووي 1/ 300، وفتح الباري لابن حجر 10/ 341، وشرح صحيح مسلم للأبي 2/ 35. (¬2) تحفة المودود لابن القيم ص 131، وفتح الباري لابن حجر 1/ 341. (¬3) تحفة المودود لابن القيم ص 130. (¬4) هذا الوجه من الاستدلال نقله الحافظ ابن حجر -رحمه الله- عن الامام الماوردي -رحمه الله-. انظر فتح الباري 1/ 342.

(2) دليل القول الثاني:

السارق (¬1). الوجه الثاني: أنه من شعار المسلمين فكان واجبًا كسائر شعائرهم (¬2). (2) دليل القول الثاني: استدل القائلون بسنية الختان وعدم وجوبه بالسنة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الفطرة خمس: الاختتان ... الحديث" (¬3). وجه الدلالة: أن المراد بالفطرة السنة، وعليه فإن الختان مسنون وليس بواجب، ولذلك قُرن في الحديث بما ليس بواجب كالاستحداد (¬4). ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "الختان سنة للرجال، مكرمة للنساء" (¬5). وجه الدلالة: أن الحديث نص على اعتبار الختان سنة بالنسبة للرجال ومكرمة ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة: 1/ 85، وحكى هذا الوجه من القياس أيضًا الإمام ابن القيم -رحمه الله- في تحفة المودود ص 129، 130. (¬2) تحفة المودود لابن القيم ص 130 بتصرف يسير، وفتح الباري لابن حجر 1/ 342. (¬3) تقدم تخريجه ص 82. (¬4) تحفة المودود لابن القيم ص 131، 132، وشرح صحيح مسلم للأبي 1/ 35، ونيل الأوطار للشوكاني 1/ 113. (¬5) رواه أحمد في مسنده 5/ 75، والبيهقي في سننه 8/ 325.

(3) دليل القول الثالث:

بالنسبة للنساء وهذا ظاهر في الدلالة على عدم وجوبه على كلتا الطائفتين. (3) دليل القول الثالث: احتج القائلون بالتفصيل ببعض ما تقدم من أدلة القائلين بوجوب الختان على الرجال والنساء. وقالوا: إن الختان في حق الرجال آكد لأنه إذا لم يختتن فإن الجلدة المدلاة على الكمرة تمنع من إنقاء ما ثمَّ، والمرأة أهون، فلذلك كان واجبًا عليه دونها (¬1). الترجيح: الذي يترجح في نظري والعلم عند الله هو القول بوجوب الختان على الذكر والأنثى، وذلك لما يأتي: أولاً: لصحة ما ذكروه في غالب استدلالهم (¬2). ثانيًا: وأما استدلال أصحاب القول الثاني بحديث أبي هريرة رضي الله عنه، فيجاب عنه بأنه لو سلمنا أن المراد بالفطرة السنة، فإن ذلك لا يدل على عدم وجوب الختان، لأن السنة منها ما هو واجب أمر الشرع به، ومنها ما هو ليس بواجب، فهي شاملة في أصل الشرع لجميع ذلك، والتفريق بينها وبين الواجب اصطلاح حادث (¬3). ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة 1/ 85، 86. (¬2) لم تخل الاستدلالات المذكورة من اعتراضات ذكرها الإمام ابن القيم -رحمه الله- وأجاب عنها بما يطول ذكره. انظر تحفة المودود ص 132 - 141. (¬3) تحفة المودود لابن القيم ص 138، وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في معرض بيانه لما أجيب به عن الاستدلال بالحديثين المذكورين: "وأجيب بأنه لا مانع أن يراد بالفطرة وبالسنة في الحديث القدر المشترك الذي يجمع الوجوب، والندب، وهو الطلب المؤكد فلا يدل ذلك على عدم الوجوب، ولا ثبوته، فيطلب الدليل من غيره". اهـ. فتح الباري لابن حجر 1/ 341.

الوجه الأول:

وهكذا يجاب عن الحديث الثاني الذي احتجوا به، ويزاد عليه بأنه ضعيف الإسناد لا يصلح للاحتجاج به (¬1). ثالثًا: وأما استدلال أصحاب القول الثالث فإنه يجاب عما ذكروه من تأكد الاختتان في حق الرجال دون النساء من وجهين: الوجه الأول: لا نسلم صحته من جهة كون ذلك مقتضيًا لسقوط الوجوب في حق النساء لوجود السبب الداعي إليه فيهن وهو اعتدال الشهوة عند الأنثى بالختان (¬2). واعتدالها معين على العفة وهي مقصودة ومطلوبة شرعًا. وعليه فكما أن طهارة الحس موجبة لتأكد الختان في حق الرجال، فكذلك طهارة الروح موجبة لتأكده في حق النساء. الوجه الثاني: سلمنا صحة ما ذكروه من النظر لكن نقول هذا اجتهاد في مقابل النص، ولا اجتهاد مع النص ... والله تعالى أعلم. * * * ¬

_ (¬1) قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- فيه: "هذا حديث يروى عن ابن عباس بإسناد ضعيف، والمحفوظ أنه موقوف عليه، ويروى أيضًا عن حجاج بن أرطأة وهو ممن لا يحتج به" اهـ. تحفة المودود ص 137. (¬2) يقول الامام ابن القيم -رحمه الله-: "إن الخافضة إذا استأصلت جلدة الختان ضعفت شهوة المرأة فقلت حظوتها عند زوجها، كما أنها إذا تركتها كما هي لم تأخذ منها شيئًا ازدادت غلمتها، فإذا هي أخذت منها وأبقت كان ذلك تعديلاً للخلقة والشهوة" اهـ. تحفة المودود ص 140.

المبحث الخامس في (جراحة التشريح)

المبحث الخامس في (جراحة التشريح) يحتاج الأطباء أثناء تعلمهم للجراحة الطبية إلى تدريب عملي يتمكنون بواسطته من الإلمام التام نظريًا وعمليًا بعلم الجراحة، ويتم ذلك التدريب عن طريق تشريحهم لجثث الموتى، وهو ما يسمى بالجراحة التشريحية، والتي تشتمل على تقطيع أجزاء الجثة، ثم يقوم المشرح بعد ذلك بدراستها، وفحصها، وقد تمتد تلك الدراسة إلى فحص الأنسجة تحت الميكروسكوب، وهو ما يسمى بالتشريح الميكروسكوبي، أو علم الأنسجة "هستولوجيا" (¬1). ولما كانت الشريعة الإسلامية لا تجيز العبث والتمثيل بجثث الموتى، فإنه يرد السؤال عن حكمها في هذا النوع من الجراح. وهو سؤال يعد من النوازل الفقهية التي جدّت، وطرأت في عصرنا الحاضر (¬2)، ولم أعثر على نص لأحد من الفقهاء المتقدمين -رحمهم الله- يتضمن القول بجواز التشريح لغرض التعلم أو عدم جوازه. وقد اختلف العلماء المعاصرون في هذه المسألة على قولين: ¬

_ (¬1) الموسوعة الطبية العربية. د. البيرم ص 79. (¬2) فقه النوازل. د. بكر أبو زيد ص 17.

الأقوال

القول الأول: يجوز تشريح جثث الموتى لغرض تعلم الطب، وبه صدرت الفتوى من الجهات العلمية التالية: (1) هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية (¬1). (2) مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة (¬2). (3) لجنة الإفتاء بالمملكة الأردنية الهاشمية (¬3). (4) لجنة الإفتاء بالأزهر بمصر (¬4). واختاره عدد من العلماء والباحثين (¬5). القول الثاني: لا يجوز تشريح جثة الميت لغرض التعلم، وهو لجماعة من العلماء والباحثين (¬6). ¬

_ (¬1) الدورة التاسعة عام 1396 هـ/1976 م رقم القرار 47 تاريخ 20/ 8/1396 هـ. (¬2) الدورة العاشرة -صفر- عام 1408 هـ "مشروع قرار". (¬3) صدرت هذه الفتوى من اللجنة المذكورة بتاريخ 20/ 5/1397 هـ وهي موجودة بنصها في بحث د. عبد السلام داود العبادي المسمى بانتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حيًا كان أو ميتًا. ص 5 - 8 من بحوث مجمع الفقه الاسلامي بمكة المكرمة. (¬4) صدرت هذه الفتوى من اللجنة المذكورة بتاريخ 29/ 2/1971 م. (¬5) وهم الشيخ يوسف الدجوي، والشيخ حسنين مخلوف، والشيخ إبراهيم اليعقوبي -رحمهم الله-، والدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، والدكتور محمود ناظم نسيمي، والدكتور محمود علي السرطاوي. مجلة الأزهر، المجلد السادس، الجزء الاول محرم سنة 1354 هـ ص 472. (¬6) وهم الشيخ محمد بخيت المطيعي، والشيخ العربي بوعياد الطبخي، والشيخ محمد برهان الدين السنبهلي، والشيخ حسن بن علي السقاف، والشيخ محمد عبد الوهاب بحيري، انظر المصادر التالية: فتوى الدجوي مجلة الأزهر المجلد 6 الجزء 1 عدد محرم سنة 1354 هـ، ص 627 - 632، شفاء التباريح والأدواء لليعقوبي ص 96، 97، وقضايا فقهية معاصرة للسنبهلي ص 66، والإمتاع والاستقصاء للسقاف ص 27، 28.

الأدلة:

الأدلة: (1) دليل القول الأول: استدل القائلون بجواز تشريح الجثة لغرض التعليم بدليل القياس والنظر المستند على قواعد الشريعة. أ- دليلهم من القياس: من وجوه: الوجه الأول: يجوز تشريح جثة الميت لغرض التعليم كما يجوز شق بطن الحامل الميتة، لاستخراج جنينها الذي رجيت حياته (¬1). الوجه الثاني: يجوز تشريح جثة الميت لغرض التعليم كما يجوز تقطيع الجنين لإنقاذ أمه إذا غلب على الظن هلاكها بسببه (¬2). الوجه الثالث: يجوز تشريح جثة الميت لغرض التعلم كما يجوز شق بطنه لاستخراج المال المغصوب الذي ابتلعه (¬3). ¬

_ (¬1) تشريح جثة المسلم من بحوث اللجنة الدائمة للبحوث العلمية مجلة البحوث العلمية، المجلد الأول العدد الرابع ص 19 - 23، وحكم التشريح وجراحة التجميل د. السرطاوي، مقال بمجلة دراسات، المجلد الثاني عشر العدد الثالث ص 145، 146. (¬2) المصدرين السابقين. (¬3) المصدرين السابقين، فتوى الدجوي، مجلة الازهر، المجلد 6 الجزء 1 عدد محرم سنة 1354 هـ ص 473.

وهذه الأوجه الثلاثة من القياس اشتمل الأصل فيها على التصرف في جثة الميت بالشق، والقطع، طلبًا لمصلحة الحي المتمثلة في إنقاذه من الموت كما في الوجه الأول، والثاني، وهي مصلحة ضرورية، كما اشتمل الوجه الثالث منها على مصلحة حاجية وهي رد المال المغصوب إلى صاحبه. وكلتا هاتين المصلحتين موجودتان في حال تعلم الجراحة الطبية، إذ يقصد منها تارة إنقاذ حياة المريض وهي المصلحة الضرورية، كما يقصد منها تارة أخرى إنقاذ المريض من آلام الأمراض والأسقام المضنية وهي المصلحة الحاجية، وأما إهانة الميت بتشريح جثته فقد رخص فيها أصحاب هذا القول بناء على القياس أيضًا، حيث استندوا على ما قرره بعض الفقهاء المتقدمين -رحمهم الله- من جواز نبش قبر الميت، وأخذ كفنه المسروق أو المغصوب (¬1)، فقاسوا إهانته بالتشريح على إهانته بنبش كفنه، وكشف عورته بجامع تحصيل مصلحة الحي المحتاج إليها (¬2). ب- دليلهم من قواعد الشريعة: (1) قالوا: "إن من قواعد الشريعة الكلية، ومقاصدها العامة أنه إذا تعارضت مصلحتان قدم أقواهما، وإذا تعارضت مفسدتان ارتكب أخفهما تفاديًا لأشدهما" (¬3). ¬

_ (¬1) روضة الطالبين للنووي 2/ 140، والمجموع للنووي 5/ 299، 300، ومغني المحتاج للشربيني 1/ 267، والدر المختار للحصكفي 1/ 382، بهامش حاشية الطحطحاوي، أشار إلى هذه المصادر واحتج بمضمونها الدكتور محمود علي السرطاوي في بحثه "حكم التشريح" منشور بمجلة دراسات مجلد 12 عدد 3 الصفحة 144 هامش 14. (¬2) المصدر السابق. (¬3) تشريح جثة المسلم. من بحوث اللجنة الدائمة للبحوث العلمية، مجلة البحوث =

(2) دليل القول الثاني:

ووجه تطبيق هذه القاعدة: أن المصلحة المترتبة على تشريح جثث الموتى لغرض التعليم تعتبر مصلحة عامة راجعة إلى الجماعة، وذلك لما يترتب عليها من تعلم التداوي الذي يمكن بواسطته دفع ضرر الأسقام والأمراض عن المجتمع وحصول السلامة بإذن الله تعالى لأفراده. ومصلحة الامتناع من التشريح تعتبر مصلحة خاصة متعلقة بالميت وحده، وبناء على ذلك فإنه تعارضت عندنا المصلحتان، ولاشك في أن أقواهما المصلحة العامة المتعلقة بالجماعة والتي تتمثل في التشريح فوجب تقديمها على المصلحة الفردية المرجوحة (¬1). (2) إن من قواعد الشرع "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب". وتعلم الجراحة الطبية وغيرها من فروع الطب هو في الأصل من الفروض الواجبة على الأمة، فيجب على طائفة منها سد حاجة الأمة إلى هذه العلوم النافعة، وتحقيق هذا الواجب متوقف على التشريح الذي يمكن بواسطته فهم الأطباء للعلوم النظرية تطبيقياً، فيعتبر مشروعًا وواجبًا من هذا الوجه (¬2). (2) دليل القول الثاني: استدل القائلون بحرمة التشريح بدليل الكتاب والسنة، والقياس، ¬

_ = العلمية المجلد 1 العدد الرابع ص 44. (¬1) المصدر السابق، وشفاء التباريح والأدواء لليعقوبي ص 96، وفتوى الشيخ حسنين مخلوف منشور نصها في كتاب "علم التشريح" د. محمد علي الباز. ص 64. (¬2) تشريح جثة المسلم من بحوث اللجنة الدائمة للبحوث العلمية. مجلة البحوث العلمية المجلد 1 العدد الرابع ص 44.

أ- دليلهم من الكتاب:

والنظر المستند على قواعد الشريعة. أ- دليلهم من الكتاب: قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرمنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيبَاتِ وَفَضلنَاهُمْ عَلَى كثِير مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (¬1). وجه الدلالة: أن الآية الكريمة دلت على تكريم الله تعالى لبني آدم، وهذا التكريم عام شامل لحال حياتهم، ومماتهم. وتشريح جثث الموتى فيه إهانة لها، نظراً لما تشتمل عليه مهمة التشريح من تقطيع أجزاء الجثة، وبقر البطن، وغير ذلك من الصور المؤذية فهي على هذا الوجه مخالفة لمقصود الباري من تكريمه للآدميين وتفضيله لهم، فلا يجوز فعلها (¬2). ب- دليلهم من السنة: استدلوا بالأحاديث التالية: (1) أحاديث النهي عن المثلة، ومنها ما ثبت في الصحيح من حديث بريدة -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال: "اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا" (¬3). ¬

_ (¬1) سورة الإسراء (17) آية 70. (¬2) الإمتاع والاستقصاء للسقاف ص 28. (¬3) رواه مسلم في صحيحه 3/ 130.

وجه الدلالة:

وجه الدلالة: أن تشريح جثة الميت فيه تمثيل ظاهر، فهو داخل في عموم النهي الوارد في هذا الحديث وغيره من الأحاديث التي ورد فيها نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - الموجب لحرمة التمثيل ومنعه (¬1). حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن كسر عظم المؤمن ميتاً مثل كسر عظمه حيًا" (¬2). وجه الدلالة: أن هذا الحديث دل على حرمة كسر عظام المؤمن الميت والتشريح مشتمل على ذلك فلا يجوز فعله (¬3). جـ- دليلهم من القياس: الوجه الأول: أن الأحاديث دلت على أنه لا يجوز الجلوس على القبر، وأن صاحبه يتأذى بذلك (¬4)، مع أن الجلوس عليه ليس فيه مساس بجسد صاحبه، فلأن لا يجوز تقطيع أجزائه، وبقر بطنه الذي هو أشد انتهاكًا ¬

_ (¬1) قضايا فقهية معاصرة للسنبهلي ص 64، والإمتاع والاستقصاء للسقاف ص 27. (¬2) رواه أحمد في مسنده 6/ 364، وأبو داود 3/ 543، 544، والبيهقي 4/ 58، وصححه الألباني إرواء الغليل 3/ 212، 214. (¬3) قضايا فقهية معاصرة للسنبهلي ص 65، وفتوى الشيخ محمد بخيت المطيعي مجلة الأزهر مجلد 6 الجزء الاول ص 631، 632، والإمتاع والاستقصاء للسقاف ص 21. (¬4) من ذلك ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها" رواه مسلم 2/ 384، 385.

الوجه الثاني:

لحرمته من باب أولى وأحرى (¬1). الوجه الثاني: أن من العلماء من نص على حرمة شق بطن المرأة الحامل الميتة لإنقاذ جنينها الذي رجيت حياته مع أن في ذلك مصلحة ضرورية، فلأن لا يجوز التشريح المشتمل على الشق وزيادة أولى وأحرى (¬2). د- دليلهم من القواعد الشرعية: استدلوا بما يلي: (1) قاعدة "الضرر لا يزال بالضرر" (¬3). (2) قاعدة "لا ضرر ولا ضرار" (¬4). ووجه الاستشهاد بهاتين القاعدتين على حرمة التشريح: أن القاعدة الأولى دلت على أن مفسدة الضرر ينبغي ألا تزال بمثلها، والتشريح فيه إزالة ضرر بمثله، وذلك لأن التعلم بواسطته موجب لإزالة ضرر الأسقام والأمراض بتعلم طرق مداواتها، ولكن هذه الإزالة يترتب عليها ضرر آخر يتعلق بالميت الذي شرحت جثته، وحينئذ يكون من باب إزالة الضرر بمثله، وهو الذي دلت القاعدة على عدم جوازه. ¬

_ (¬1) الإمتاع والاستقصاء للسقاف ص 28. (¬2) فتوى الشيخ محمد بخيت المطيعي مجلة الأزهر المجلد 6 الجزء الأول ص 628. (¬3) الأشباه والنظائر للسيوطي 86، والأشباه والنظائر لابن نجيم 87. (¬4) المصدرين السابقين، قواعد الفقه للمجددي 106، شرح القواعد الفقهية للزرقاء 113.

الترجيح:

وأما القاعدة الثانية فقد دلت على حرمة الإضرار بالغير، والتشريح فيه إضرار بالميت فلا يجوز فعله. الترجيح: الذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو جواز تشريح جثة الكافر، دون المسلم وذلك لما يلي: أولاً: لأن الأصل عدم جواز التصرف في جثة المسلم إلا في الحدود الشرعية المأذون بها والتشريح ليس منها، فوجب البقاء على الأصل المقتضي للمنع، وهذا الأصل يسلم به القائلون بجواز التشريح وإن كانوا يستثنون التشريح اعتبارًا منهم للحاجة الداعية إليه. ثانيًا: أن الحاجة إلي التشريح يمكن سدها بجثث الكفار، فلا يجوز العدول عنها إلى جثث المسلمين، لعظيم حرمة المسلم عند الله تعالى حيًا كان أو ميتًا. ثالثًا: أن أدلة المنع يمكن تخصيصها بالمسلم دون الكافر، فلا حرج في إهانته لمكان كفره، كما قال تعالى: {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} (¬1)، قال الخازن (¬2) -رحمه الله- في تفسيره: "أي من ¬

_ (¬1) سورة الحج (22) آية 18. (¬2) هو: الإمام أبو الحسن علي بن محمد بن إبراهيم بن عمر بن خليل الشيحي البغدادي، ولد -رحمه الله- ببغداد سنة 678 من الهجرة وهو مفسر، فقيه، محدث، مؤرخ توفي -رحمه الله- سنة 741 من الهجرة، وله مؤلفات منها: لباب التأويل في معاني التنزيل، شرح عمدة الأفهام في شرح الاحكام، والروض=

يذله الله فلا يكرمه أحد" (¬1) اهـ. ولاشك في أن الكفار ممن أذلهم الله تعالى. وأما أحاديث النهي عن المُثلة: فقد ثبت ما يخصصها كما في قصة العرنيين (¬2)، وآية المحاربين (¬3). فإذا جاز التمثيل لمصلحة عامة وهي زجر الظلمة عن الاعتداء على الناس، فكذلك يجوز التمثيل بالكافر طلبًا لمصلحة عامة ينتظمها الطب الذي من أجله شرحت جثة الكافر، إضافة إلى أن بعض العلماء يرى أن النهي للتنزيه (¬4)، وحديث تحريم كسر عظم الميت خاص بالمؤمن كما هو منصوص عليه في نفس الحديث. وأما أحاديث النهي عن الجلوس على القبر فإنها تدل على تأذي الميت بذلك وهذا يتفق مع ما سبق ذكره من تخصيص المسلم بالمنع، وأما الكافر فإن إيذاءه بعد موته مقصود شرعًا، فلا حرج في فعله. رابعًا: أن استدلال القائلين بجواز التشريح مطلقًا بقياسه على نبش قبر الميت لأخذ الكفن المغصوب مردود بكونه قياسًا مع الفارق. ¬

_ = والحدائق في تهذيب سيرة خير الخلائق. معجم المؤلفين لكحالة 7/ 177، 178. (¬1) تفسير الخازن 4/ 7. (¬2) وفيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "قطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا" رواه مسلم 3/ 93، 94. (¬3) قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} سورة المائدة (5) آية 33. (¬4) قال الإمام النووي -رحمه الله-: "وقال بعضهم: النهي عن المثله نهي تنزيه ليس بحرام" اهـ. شرح صحيح مسلم للنووي 11/ 154.

ووجه ذلك: أن الأصل المقيس عليه فيه مساس بالجسد بخلاف الفرع، وجاز فعل النبش لمكان الحق المغصوب، فكان الميت متسببًا في أذية نفسه بخلاف الفرع الذي لا علاقة للميت بمصلحته ولم يتسبب فيما يوجبها بأي وجه من الوجوه، ثم إن نبش قبره لذلك الغرض لا يستغرق إلا زمنًا يسيرًا ثم يعاد إلى القبر الذي سيواري الجثة بدلاً عن الكفن، بخلاف التشريح الذي يستغرق الساعات، بل والأيام العديدة!!!. خامسًا: أن تشريح جثة المسلم يعطل عن فعل كثير من الفروض المتعلقة بها بعد الوفاة، من تغسيلها وتكفينها، والصلاة عليها، ودفنها. وهو مخالف لما ثبتت به السنة من الأمر بالمبادرة بالجنائز والإسراع بها، كما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أسرعوا بالجنازة ... " (¬1)، فلا يجوز تعطيل جثة المسلم وتأخير هذه المصالح المطلوب فعلها بعد الوفاة مباشرة لمصلحة لا تتعلق بالميت، ولم يتسبب في موجبها، وإنما هي من مصالح الغير المنفكة عنه. لهذا كله فإنه يترجح في نظري القول بجواز تشريح جثة الكافر دون المسلم، ولكن ينبغي أن يتقيد الأطباء وغيرهم ممن يقوم بمهمة التشريح بالحاجة، فمتى زالت، فإنه لا يجوز التمثيل بالكافر بتشريحه حينئذ، لأن ما جاز لعذر بطل بزواله (¬2). والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) رواه البخاري في صحيحه 1/ 228، ومسلم 2/ 373. (¬2) الأشباه والنظائر للسيوطي 85، والأشباه والنظائر لابن نجيم 86.

مسألة: هل يجوز شراء جثث الكفار لغرض تشريحها؟.

مسألة: هل يجوز شراء جثث الكفار لغرض تشريحها؟. هذه المسألة مفرعة على القول بجواز تشريح الجثة، خاصة إذا قلنا: إن ذلك يتقيد بجثث الكفار دون المسلمين، وحينئذ يتعين طلبها والبحث عنها بأي وسيلة كانت، وقد شاع في هذه العصور بيع جثث الكفار لغرض تشريحها، والاستفادة منها، ويتساءل بعض المختصين عن حكم شرائها، وهل يصح البيع أم لا؟. والجواب: أن من شرط صحة البيع شرعًا أن يكون المبيع ملكًا للبائع، أو موكَّلاً في بيعه (¬1)، لحديث حكيم بن حزام -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "لا تبع ما ليس عندك" (¬2). وهذه الجثث ليست ملكًا للبائع، ولا موكلاً في بيعها من مالكها، فَيَدُ الملكية منتفية عنها، ومن ثم فإنه لا يصح بيعها شرعًا، لصريح حديث حكيم المذكور. ولكن يمكن التوصل إلى هذه الجثث بطريقة أخرى، وهي التعاقد مع باذلها على وجه الإجارة ويكون بذل الثمن في مقابل السعي، والبحث، ومؤنة النقل، ونحو ذلك مما يجري على سنن الإجارة، ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين 4/ 7، وقوانين الأحكام الفقهية لابن جزي ص 271، وروضة الطالبين للنووي 3/ 353، والمبدع لابن مفلح 4/ 16. (¬2) رواه الترمذي في سننه 3/ 525، وحسنه، وابن ماجه 2/ 737 ولا يشكل عليه أنه لم يذكر فيه لفظ الملك، لأنه وقع جواباً لسؤال حكيم من بيعه للشيء ثم شرائه إياه بعد بيعه للغير. انظر المصدرين السابقين والمبدع لابن مفلح 4/ 16.

تنبيه:

ويعطى له الثمن في مقابل ذلك، ويجري العقد بين الطرفين على صورة الإجارة الشرعية والله تعالى أعلم. تنبيه: التشريح لتعلم الجراحة هو النوع الوحيد الذي يتعلق بموضوع بحثنا، وهناك نوع آخر من التشريح وهو التشريح الجنائي، والتشريح لمعرفة أسباب الوفاة خشية أن تكون أمراضًا وبائية، وهذان النوعان صدرت فيهما الفتوى من هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية بجوازهما (¬1). * * * ¬

_ (¬1) الدورة التاسعة عام 1396 هـ/1976م رقم القرار 47 تاريخ 20/ 8/1396 هـ.

المبحث السادس في (جراحة التجميل الحاجية)

المبحث السادس في (جراحة التجميل الحاجية) عرف الأطباء المختصون جراحة التجميل بأنها: "جراحة تجري لتحسين منظر جزء من أجزاء الجسم الظاهرة، أو وظيفته إذا ما طرأ عليه نقص، أو تلف، أو تشوه" (¬1). وهي تنقسم عندهم إلى نوعين: الأول: اختياري، وسيأتي بيانه والكلام على حكمه في الشرع، وذلك بمشيئة الله تعالى في المبحث الأول من الفصل الثاني في هذا الباب. الثاني: ضروري، وهو المراد بهذا المبحث، ويصفه الأطباء بكونه ضروريًا لمكان الحاجة الداعية إلى فعله، إلا أنهم لا يفرقون فيها بين الحاجة التي بلغت مقام الاضطرار (الضرورة) والحاجة التي لم تبلغه (الحاجية) كما هو مصطلح الفقهاء -رحمهم الله- (¬2). وهذا النوع المحتاج إلى فعله يشتمل على عدد من الجراحات التي يقصد منها إزالة العيب سواء كان في صورة نقص، أو تلف، أو تشوه، فهو ضروري، أو حاجي بالنسبة لدواعية الموجبة لفعله، وتجميلي ¬

_ (¬1) الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 3/ 454، وبقريب من هذا اللفظ عرفتها الموسوعة الثقافية 344، 345. (¬2) الأقمار المضيئة للأهدل 120.

القسم الأول: عيوب خلقية:

بالنسبة لآثاره ونتائجه. وإذا نظرنا إلى العيوب التي توجد في الجسم فإننا نجدها على قسمين. القسم الأول: عيوب خلقية: وهي عيوب ناشئة في الجسم من سبب فيه لا من سبب خارج عنه، فيشمل ذلك ضربين من العيوب وهما: الضرب الأول: العيوب الخلقية التي ولد بها الإنسان. الضرب الثاني: العيوب الناشئة من الآفات المرضية التي تصيب الجسم. فمن أمثلة الضرب الأول العيوب التالية: (1) الشق في الشفة العليا "الشفة المفلوجة" (¬1). (2) التصاق أصابع اليدين، والرجلين (¬2). (3) انسداد فتحة الشرج (¬3). (4) شذوذ الحويضة الخلقي ومن أهمها (ازدواج حويضة الكلية) (¬4). ¬

_ (¬1) الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 3/ 454. (¬2) المصباح الوضاح. د. جورج بوست 658. (¬3) جراحة التجميل د. ماجد طهبوب من بحوث ندوة الرؤية الإسلامية، ثبت الندوة420. (¬4) الجراحة البولية والجراحة التناسلية عند الذكور. د. رياض جودت 56.

القسم الثاني: عيوب مكتسبة "طارئة":

(5) شذوذ الحالب الخلقي (الازدواج الحالبي، ارتكاز الحالب الهاجر، الحالب خلف الوريد الأجوف، الحالب العرطل الخلقي، القيلة الحالبية) (¬1). ومن أمثلة الضرب الثاني العيوب التالية: (1) انحسار اللثة بسبب الالتهابات المختلفة (¬2). (2) أورام الحويضة والحالب السليمة (¬3). (3) عيوب صيوان الأذن الناشئة عن الزهري والجذام، والسل (¬4). القسم الثاني: عيوب مكتسبة "طارئة": وهي العيوب الناشئة بسبب من خارج الجسم كما في العيوب والتشوهات الناشئة من الحوادث والحروق. ومن أمثلتها ما يلي: (1) كسور الوجه الشديدة التي تقع بسبب حوادث السير (¬5). (2) تشوه الجلد بسبب الحروق (¬6). ¬

_ (¬1) المصدر السابق 56 - 59. (¬2) الوجيز في علم أمراض اللثة: د. السروجي 53. (¬3) الجراحة البولية والجراحة التناسلية عند الذكور. د. رياض جودت 62. (¬4) العمليات الجراحية وجراحة التجميل، محمد رفعت 145. (¬5) جراحة التجميل د. ماجد طهبوب من بحوث ندوة الرؤية الاسلامية، ثبت الندوة 420. (¬6) المصدر السابق، العمليات الجراحية وجراحة التجميل محمد رفعت 159 - 164.

(3) تشوه الجلد بسبب الآلات القاطعة (¬1). (4) التصاق أصابع الكف بسبب الحروق (¬2). وهذا النوع من الجراحة الطبية وإن كان مسماه يدل على تعلقه بالتحسين والتجميل إلا أنه توفرت فيه الدوافع الموجبة للترخيص بفعله. فمما لا شك فيه أن هذه العيوب يستضر الإنسان بها حساً، ومعنى، وذلك ثابت طبياً، ومن ثم فإنه يشرع التوسيع على المصابين بهذه العيوب بالإذن لهم في إزالتها بالجراحة اللازمة، وذلك لما يأتي: أولاً: أن هذه العيوب تشتمل على ضرر حسي، ومعنوي، وهو موجب للترخيص بفعل الجراحة لأنه يعتبر حاجة، فتنزل منزلة الضرورة ويرخص بفعلها إعمالاً للقاعدة الشرعية التي تقول: "الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة" (¬3). ثانيًا: يجوز فعل هذا النوع من الجراحة كما يجوز فعل غيره من أنواع الجراحة المشروعة المتقدمة بجامع وجود الحاجة في كل. فالجراحة العلاجية مثلاً وجدت فيها الحاجة المشتملة على ضرر الألم وهو ضرر حسي، وهذا النوع من الجراحة في كثير من صوره يشتمل على الضرر الحسي والمعنوي. ¬

_ (¬1) وتسمى الجراحة المتعلقة بإزالتها بجراحة "إخفاء الجروح" جراحة التجميل. د. فايز طربية. ص 49. (¬2) المصباح الوضاح د. جورج بوست 658. (¬3) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 88، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 91.

ولا يشكل على القول بجواز فعل هذا النوع من الجراحة، ما ثبت في النصوص الشرعية من تحريم تغيير خلقة الله تعالى وما سيأتي من الحكم بتحريم الجراحة التجميلية التحسينية وذلك لما يأتي: أولأ: أن هذا النوع من الجراحة وجدت فيه الحاجة الموجبة للتغيير، فأوجبت استثناءه من النصوص الموجبة للتحريم. قال الإمام النووي -رحمه الله- في شرحه لحديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- في لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - للواشمات والمستوشمات "وأما قوله: "المتفلجات للحسن" فمعناه يفعلن ذلك طلبًا للحسن، وفيه إشارة إلى أن الحرام هو المفعول لطلب الحسن، أما لو احتاجت إليه لعلاج أو عيب في السن ونحوه فلا بأس" (¬1) اهـ. فبين -رحمه الله- أن المحرم ما كان المقصود منه التجميل والزيادة في الحسن، وأما ما وجدت فيه الحاجة الداعية إلى فعله فإنه لا يشمله النهي والتحريم. وهذا النوع من الجراحة وجدت فيه الحاجة كما تقدم، لأن هذه العيوب منها ما يشتمل على بعض الآلام كتشوهات الحالب، وأورامه، وأورام الحويضة، وكسور الوجه، ومنها ما يشتمل على ما هو في حكم الألم من تأذي المصاب به من فوات مصلحة العضو، كما في الأصابع الملتصقة، وانسداد فتحة الشرج، والشق الموجود في الشفة، فكل هذه أضرار موجبة للترخيص واستثناء الجراحة المتعلقة بها من عموم النهي عن تغيير الخلقة. ¬

_ (¬1) شرح صحيح مسلم للنووي 13/ 107.

ثانيًا: أن هذا النوع لا يشتمل على تغيير الخلقة قصدًا، لأن الأصل فيه أنه يقصد منه إزالة الضرر والتجميل والحسن جاء تبعًا. ثالثًا: أن إزالة التشوهات والعيوب الطارئة لا يمكن أن يصدق عليه أنه تغيير لخلقة الله، وذلك لأن خلقة العضو هي المقصودة من فعل الجراحة وليس المقصود إزالتها. رابعًا: أن إزالة تشوهات الحروق والحوادث يعتبر مندرجًا تحت الأصل الموجب لجواز معالجتها فالشخص مثلاً إذا احترق ظهره أذن له في العلاج والتداوي، وذلك بإزالة الضرر وأثره لأنه لم يرد نص يستثني الأثر من الحكم الموجب لجواز مداواة تلك الحروق فيستصحب حكمه إلى الآثار، ويؤذن له بإزالتها. وبناء على ما سبق فإنه لا حرج على الطبيب ولا على المريض في فعل هذا النوع من الجراحة، والإذن به، ويعتبر جواز إزالة العيوب الخلقية في هذا النوع مبنيًا على وجود الحاجة الداعية إلى فعله، وأما العيوب الحادثة بسبب الحروق والحوادث ونحوها فإنه تجوز إزالتها بدون ذلك الشرط اعتبارًا للأصل الموجب لجواز مداواة نفس الحرق، والجرح .. والله تعالى أعلم. فهذه هي مجمل الجراحات التي أذنت الشريعة الإسلامية بفعلها نظرًا لما تشتمل عليه من تحصيل المصالح المحمودة، ودفع المضار الموجودة في جسم الإنسان، والمفاسد المترتبة عليها. والجواز فيها مبني على وجود الحاجة الداعية إلى فعلها، وهي إما أن تبلغ مقام الضروريات كما في الجراحة العلاجية الضرورية،

وجراحة الولادة الضرورية. وإما أن تبلغ مقام الحاجيات كما في الجراحة العلاجية الحاجية، وجراحة الولادة الحاجية، وجراحة التشريح لغرض تعليم الطب، وجراحة الكشف والفحص الطبي، وجراحة التجميل الحاجية. أو تكون دونهما كما في الجراحة العلاجية الصغرى. وقد يكون جوازها مبنيًا على ورود الإذن الخاص من الشرع بفعلها كما في جراحة الختان .. والله أعلم. * * *

الفصل الثاني في (الجراحة المحرمة)

الفصل الثاني في (الجراحة المحرمة)

"تمهيد"

"تمهيد" وهذا النوع من الجراحة الطبية لم تتوفر فيه الدواعي المعتبرة شرعًا للترخيص بفعله، وتعتبر مقاصده من جنس المقاصد المحرمة شرعًا، كالعبث بالخلقة وتغييرها طلبًا للجمال والحسن، كما هو الحال في جراحة التجميل التحسينية، وكتغيير الأعضاء التناسلية عند الرجل والمرأة كما هو الحال في جراحة تغيير الجنس، وكاستئصال الأعضاء وأجزائها على وجه الوقاية الموهومة كما هو الحال في الجراحة الوقائية. فهذه الأنواع من الجراحة دلت نصوص الشرع على حرمتها وكذلك شهدت قواعده بعدم جوازها. وبيان ذلك كله في هذا الفصل سيكون في ثلاثة مباحث: المبحث الأول: في جراحة التجميل التحسينية. المبحث الثاني: في جراحة تغيير الجنس. المبحث الثالث: في الجراحة الوقائية. وبيان هذه المباحث فيما يلي:

المبحث الأول في (جراحة التجميل التحسينية)

المبحث الأول في (جراحة التجميل التحسينية) وهي: جراحة تحسين المظهر، وتجديد الشباب (¬1). والمراد بتحسين المظهر تحقيق الشكل الأفضل، والصورة الأجمل، دون وجود دوافع ضرورية أو حاجية تستلزم فعل الجراحة. وأما تجديد الشباب فالمراد به إزالة الشيخوخة، فيبدو المسن بعدها وكأنه في عهد الصبا، وعنفوان الشباب في شكله وصورته (¬2). والعمليات المتعلقة بهذه الجراحة تنقسم إلى نوعين: النوع الأول: عمليات الشكل. النوع الثاني: عمليات التشبيب (¬3). فأما النوع الأول: فمن أشهر صوره ما يلي: (1) تجميل الأنف بتصغيره، وتغيير شكله من حيث العرض والارتفاع. (2) تجميل الذقن، وذلك بتصغير عظمها إن كان كبيرًا، أو ¬

_ (¬1) فن جراحة التجميل د. القزويني ص 15. (¬2) المصدر السابق، والموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 3/ 455. (¬3) جراحة التجميل. د. فايز طربية ص 11.

النوع الثاني:

تكبيره بوضع ذقن صناعية تلحم بعضلات، وأنسجة الحنك. (3) تجميل الثديين بتصغيرهما إذا كانا كبيرين، أو تكبيرهما بحقن مادة معينة مباشرة في تجويف الثديين (¬1)، أو بحقن الهرمونات الجنسية، أو بإدخال النهد الصناعي داخل جوف الثدي بواسطة فتحة في الطية الموجودة تحت الثدي. (4) تجميل الأذن بردها إلى الوراء إن كانت متقدمة. (5) تجميل البطن بشد جلدتها وإزالة القسم الزائد بسحبه من تحت الجلد جراحيًا (¬2). وأما النوع الثاني: فإنه يجري لكبار السن، ويقصد منه إزالة آثار الكبر والشيخوخة، ومن أشهر صوره ما يلي: (1) تجميل الوجه بشد تجاعيده، سواء برفع جزء منه، أو برفع جزء منه ومن الرقبة وهو ما يسمى بالرفع الكامل. ْوكذلك تجميله بعملية القشر الكيماوي. (2) تجميل الأرداف، وذلك بإزالة المواد الشحمية في المنطقة الخلفية العليا، أو المنطقة الجانبية من الأرداف ثم تشد جلدتها، ويهذب حجمها بحسب الصورة المطلوبة. ¬

_ (¬1) تسمى هذه المادة بمادة السلكون. انظر: فن جراحة التجميل. د. القزويني ص 79، والعمليات الجراحية، محمد رفعت ص 157. (¬2) أشارت إلى هذه المهمة المصادر التالية: فن جراحة التجميل د. القزويني ص 39، 46، 50، 54، 62، 70، 72 والعمليات الجراحية وجراحة التجميل محمد رفعت ص 136، 140، 145، 155، وجراحة التجميل. د. فايز طربية ص 11، والموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 3/ 454، 455.

موقف الشريعة الإسلامية من هذه الجراحة:

(3) تجميل الساعد، وذلك بإزالة القسم الأدنى من الجلد والشحم. (4) تجميل اليدين، ويسمى في عرف الأطباء "بتجديد شباب اليدين"، وذلك بشد التجاعيد الموجودة في أيدي المسنين والتي تشوه جمالها. (5) تجميل الحواجب، وذلك بسحب المادة الموجبة لانتفاخها، نظرًا لكبر السن وتقدم العمر (¬1). فهذه هي مجمل صور الجراحة التجميلية كما بينتها الكتب المختصة بجراحة التجميل. موقف الشريعة الإسلامية من هذه الجراحة: وهذا النوع من الجراحة لا يشتمل على دوافع ضرورية، ولا حاجية، بل غاية ما فيه تغيير خلقة الله تعالى، والعبث بها حسب أهواء الناس، وشهواتهم، فهو غير مشروع، ولا يجوز فعله، وذلك لما يأتي: أولاً: لقوله تعالى -حكاية عن إبليس لعنه الله-: { ... وَلأمُرَنَّهُمْ فَلَيُغِّيرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ .. } (¬2). ¬

_ (¬1) فن جراحة التجميل د. القزويني ص 72، 78، 90، 92، وجراحة التجميل، د. فايز طربية ص 11، 23، 38. (¬2) سورة النساء (4) آية 119.

وجه الدلالة: أن هذه الآية الكريمة واردة في سياق الذم، وبيان المحرمات التي يسول الشيطان فعلها للعصاة من بني آدم، ومنها تغيير خلقة الله. وجراحة التجميل التحسينية تشتمل على تغيير خلقة الله والعبث فيها حسب الأهواء والرغبات، فهي داخلة في المذموم شرعًا، وتعتبر من جنس المحرمات التي يسول الشيطان فعلها للعصاة من بني آدم (¬1). ثانيًا: لحديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلعن المتنمصات والمتفلجات للحسن اللآتي يغيرن خلق الله" (¬2). وجه الدلالة: أن الحديث دل على لعن من فعل هذه الأشياء، وعلل ذلك بتغيير الخلقة، وفي رواية: "والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله" (¬3)، ¬

_ (¬1) حمل بعض المفسرين هذه الآية على الوشم وهو قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه والحسن البصري رحمه الله. ومن المفسرين من قال: إن المراد بتغيير خلق الله تغيير الدين بفعل المحرمات وترك الواجبات. ويدخل في ذلك العبث في الأجساد كما أشار إليه الإمام محمد بن جرير الطبري -رحمه الله- وغيره من المفسرين. تفسير الطبري 5/ 183، والنكت والعيون للماوردي 1/ 424، وراد المسير لابن الجوزي 2/ 205، وتفسير الخازن 1/ 499، وتفسير الخطيب الشربيني 1/ 374. (¬2) رواه مسلم 3/ 339، رواه البخاري في صحيحه 3/ 199 النمص: نتف الشعر، والفلج: الفرجة بين الثنايا والرباعيات من الأسنان، تفعله العجوز تشبهًا بصغار البنات. والوشم: تقريح الجلد وغرزه بالإبرة وحشوه بالنيل أو الكحل أو دخان الشحم وغيره من السواد. شرح صحيح مسلم للنووي 14/ 106، 107، والمغرب للمطرزي 2/ 329، 330. (¬3) رواه أحمد في مسنده 1/ 417، والتعليل بتغيير الخلقة في تحريم النمص والتفليج والوشم اعتبره بعض العلماء استنادًا على هذه الرواية. انظر فتح الباري لابن حجر =

فجمع بين تغيير الخلقة وطلب الحسن، وهذان المعنيان موجودان في الجراحة التجميلية التحسينية، لأنها تغيير للخلقة بقصد الزيادة في الحسن، فتعتبر داخلة في هذا الوعيد الشديد ولا يجوز فعلها. ثالثًا: لا تجوز جراحة التجميل التحسينية كما لا يجوز الوشم، والوشر، والنمص، بجامع تغيير الخلقة في كل طلبًا للحسن والجمال. رابعًا: أن هذه الجراحة تتضمن في عدد من صورها الغش والتدليس وهو محرم شرعًا (¬1)، ففيها إعادة صورة الشباب للكهل والمسن في وجهه وجسده، وذلك مفض للوقوع في المحظور من غش الأزواج من قبل النساء اللاتي يفعلن ذلك، وغش الزوجات من قبل الرجال الذين يفعلون ذلك. خامسًا: أن هذه الجراحة لا يتم فعلها إلا بارتكاب بعض المحظورات وفعلها، ومن تلك المحظورات التخدير، إذ لا يمكن فعل شيء من المهمات التي سبق ذكرها إلا بعد تخدير المريض تخديرًا عامًا أو موضعيًا (¬2). ومعلوم أن التخدير في الأصل محرم شرعاً، وفعله في هذا النوع من الجراحة لم يأذن به الشرع لفقد الأسباب الموجبة للترخيص والإذن ¬

_ = 10/ 294. ط الخيرية. (¬1) يشهد لذلك حديث أنس رضي الله عنه في الصحيح وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من غشنا فليس منا". رواه مسلم1/ 45. (¬2) جراحة التجميل، د. فايز طربية ص 23، 32.

به (¬1)، وعليه فإنه يعتبر باق على الأصل الموجب لحرمة استعماله. ومن تلك المحظورات -أيضًا- قيام الرجال بمهمة الجراحة للنساء الأجنبيات والعكس، وحينئذ ترتكب محظورات عديدة كاللمس، والنظر للعورة، والخلوة بالأجنبية، وإذا قام بفعلها الرجال لأمثالهم والنساء لأمثالهن فإنه يحصل كشف العورة في بعضها كما في جراحة تجميل الأرداف. وهذه المحظورات لم يثبت الترخيص فيها من قبل الشرع في هذا النوع من الجراحة لانتفاء الأسباب الموجبة للترخيص فأصبحت باقية على أصلها من الحرمة، فلا يجوز فعل الجراحة التحسينية الموجبة للوقوع فيها. سادسًا: أن هذه الجراحة لا تخلو من الأضرار والمضاعفات التي تنشأ عنها ففي جراحة تجميل الثديين بتكبيرهما عن طريق حقن مادة السلكون أو الهرمونات الجنسية يؤدي ذلك إلى حدوث أخطار كثيرة إضافة إلى قلة نجاحها (¬2). ونظرًا لخطورتها يقول بعض الأطباء المختصين (¬3): "هناك اتجاه علمي بأن مضاعفات إجراء هذه العملية كثيرة لدرجة أن إجراءها لا ينصح به" (¬4) اهـ. ¬

_ (¬1) وهي الضرورة أو الحاجة. (¬2) فن جراحة التجميل، د. القزويني ص 79. (¬3) هو الدكتور ماجد عبد المجيد طهبوب نائب رئيس قسم جراحة الحروق والتجميل بمستشفى ابن سينا بدولة الكويت. (¬4) جراحة التجميل بين المفهوم الطبي والممارسة. د. ماجد طهبوب، من بحوث ندوة الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبية، ثبت الندوة 419.

وكذلك جراحة تجميل الوجه التحسينية (الاختيارية) فإنها لا تسلم من العواقب الغير محمودة، ولذلك ورد في الموسوعة الطبية الحديثة ما نصه: " .. ولكنها تكون اختيارية (¬1) حين تجرى لمجرد تغيير ملامح بالوجه لا يرضى عنها صاحبها". وفي هذه الحالة يجب إمعان التفكير قبل إجرائها واستشارة أخصائي ماهر يقدر مدى التحسن المنشود، فكثيرًا ما تنتهي هذه العمليات إلى عقبى غير محمودة" (¬2) اهـ. وإضافة إلى ما سبق فإن نجاح هذه الجراحة بعد فعلها يستلزم تغطية المواضع التي تم تجميلها بلفاف طبي قد يستمر أيامًا، ويمتنع بذلك غسل المواضع المذكورة في فريضة الوضوء والغسل الواجب. فعلى سبيل المثال جراحة تجميل الذقن فإنها تستلزم عصب الذقن الصناعية لمدة أسبوع بلفاف طبي لكي تلتحم بالحنك (¬3). وبناء على ما سبق من الأدلة النقلية والعقلية، ونظرًا لما يتضمنه هذا النوع من الجراحة من العبث بخلق الله من دون وجود ضرورة أو حاجة داعية إلى ذلك فإنه يحرم فعله والإقدام عليه من قبل الطبيب الجراح والشخص الطالب، وتعتبر الدوافع التي يعتذر بها من يفعله من كون الشخص يتألم نفسيًا بسبب عدم تلبية رغبته بفعل هذا النوع من الجراحة غير كافية في الترخيص له بفعله. ¬

_ (¬1) أي جراحة التجميل والمراد بكونها اختيارية أي لا تتوفر فيها الدوافع الضرورية وما في حكمها. وإنما يقصد منها تحقيق رغبة الطالب لها. (¬2) الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 3/ 455. (¬3) فن جراحة التجميل. د. القزويني ص 48.

وتعتذر طائفة من هذا الصنف بعدم بلوغهم لأهدافهم المنشودة في الحياة بسبب عدم اكتمال جمالهم (¬1). والحق أن علاج هذه الأوهام والوساوس إنما هو بغرس الإيمان في القلوب، وزرع الرضا عن الله تعالى فيما قسمه من الجمال والصورة، والمظاهر ليست هي الوسيلة لبلوغ الأهداف والغايات النبيلة، وإنما يدرك ذلك بتوفيق الله تعالى ثم بالتزام شرعه والتخلق بالآداب ومكارم الأخلاق. ومن أجل ذلك يرى الأطباء أن المشكلة عند هذا الصنف من الناس ليست متوقفة على تحسين مظهره بل إنها أعمق بكثير من ذلك، وكان من الخير في نظرهم من الناحية الطبية ترك الإغراق في هذا النوع من الجراحة، وأنه لا يعتبر محققًا للنتائج المرجوة (¬2). * * * ¬

_ (¬1) المصدر السابق ص 27. (¬2) ورد في الموسوعة الطبية الحديثة ما نصه: "ومع تحسن المنظر بعد عمليات التجميل وما يتبع ذلك من تحسين حالة المريض المعنوية، فعمليات التجميل لا تغير من شخصيته تغييرًا ملحوظًا, وأن العجز عن بلوغ هدف معين في الحياة لا يتوقف كثيرًا على مظهر الشخص، فالمشكلة في ذلك أعمق كثيرًا مما يبدو من ظواهر هذه الأمور، وعلى هذا فعمليات التجميل الاختيارية غير محققة النتائج، ومن الخير ترك الإغراق في إجرائها، أو المبالغة في التنبؤ بنتائجها". الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 3/ 455. وفي هذا الكلام من أهل الخبرة والاختصاص شهادة واضحة بأن الجراحة التجميلية ليست هي العلاج للمشاكل النفسية المزعومة والتي يعتذر بها لفعل هذه الجراحة المحرمة.

المبحث الثاني في (جراحة تغيير الجنس)

المبحث الثاني في (جراحة تغيير الجنس) والمراد بها: الجراحة التي يتم بها تحويل الذكر إلى أنثى والعكس. ففي الحالة الأولى -أي تحويل الذكر إلى أنثى- يجري استئصال عضو الرجل -الذكر- وخصيتيه، ثم يقوم الأطباء ببناء مهبل، وتكبير الثديين. وفي الحالة الثانية -أي تحويل الأنثى إلى ذكر- يجري استئصال الثديين، وإلغاء القناة التناسلية الأنثوية، وبناء عضو الرجل -الذكر-. وفي كلتا الحالتين يخضع الشخص الذي تجرى له الجراحة إلى علاج نفسي وهرموني معين. وقد انتشر هذا النوع من الجراحة في السنوات الأخيرة في بلدان الغرب الكافرة وتتلخص دوافعه في أن هؤلاء المرضى -كما يقال- يشعرون بكراهية الجنس الذي ولدوا عليه نتيجة لعوامل مختلفة، قد يعود أغلبها -كما يقول بعض الأطباء- إلى فترات مبكرة من حياة الإنسان وتربيته، وتكون التربية فيها غير سليمة، وهؤلاء الأشخاص لا يوجد فيهم أي لبس في تحديد جنسهم سواء من ناحية المظهر، أو من ناحية الجوهر كما هو الحال في الخنثى (¬1). ¬

_ (¬1) جراحة التجميل بين المفهوم الطبي والممارسة، د. ماجد عبد المجيد طهبوب من بحوث ندوة الرؤية الاسلامية لبعض الممارسات الطبية ثبت الندوة ص 424.

موقف الشريعة الإسلامية من هذا النوع من الجراحة: يعتبر هذا النوع من الجراحة الطبية محرمًا شرعًا، وذلك لما يلي: أولاً: لقوله تعالى حكاية عن إبليس -لعنه الله-: { .. وَلأمُرَنَّهُمْ فَلَيُبتكُّنَّءَاذَانَ الأنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلقَ اللَّهِ} (¬1). وجه الدلالة: أن الآية تضمنت حرمة تغيير خلق الله على وجه العبث، وهذا النوع من الجراحة فيه تغيير للخلقة على وجه العبث، إذ يقوم الطبيب الجراح باستئصال الذكر والخصيتين وذلك في حالة تحويل الذكر إلى أنثى، أو يقوم باستئصال الثديين وإلغاء القناة التناسلية الموجودة في الأنثى في حالة تحويلها إلى ذكر. ثانيًا: لما ثبت في الصحيح من حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال" (¬2). وجه الدلالة: أن الحديث دل على حرمة تشبه الرجال بالنساء والعكس، ولعن ¬

_ (¬1) سورة النساء (4) آية 119. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه 4/ 38.

من فعل ذلك وهذا النوع من الجراحة سبب يتوصل به لتحصيل هذا الفعل المحرم الذي يعتبر من كبائر الذنوب (¬1). لأن الرجل إذا طلب هذا النوع من الجراحة إنما يقصد أولاً وقبل كل شيء مشابهة النساء، وكذلك المرأة. قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- (¬2) في شرحه لهذا الحديث: (الحكمة في من تشبه: إخراجه الشيء عن الصفة التي وضعها عليه أحكم الحكماء، وقد أشار إلى ذلك في لعن الواصلات بقوله: "المغيرات خلق الله" (¬3) اهـ. قلت: وهذا الإخراج الذي ذكره -رحمه الله- إنما يتحقق في مسألتنا هنا بالجراحة فهي وسيلة للمحرم من هذا الوجه، وعليه فإن فعلها يعتبر من باب المعونة على الإثم وذلك محرم شرعًا (¬4). ثالثًا: أن هذا النوع من الجراحة يشتمل على استباحة المحظور شرعًا دون إذن الشارع، إذ فيه كشف كل من الرجل والمرأة عن موضع العورة، ويتكرر ذلك مرات عديدة، وقد دلت الأدلة الشرعية على ¬

_ (¬1) لأن الوعيد باللعن يعتبر من ضابط الكبير. انظر تفسير القرطبي 5/ 160، ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام 11/ 650، 651، والكبائر للذهبي ص 7. (¬2) هو الحافظ شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني ولد -رحمه الله- بمصر سنة 773 من الهجرة وكان إمامًا في علوم كثيرة خاصة في علم الحديث والفقه والتاريخ، توفي -رحمه الله- في مصر سنة 852 من الهجرة وله مصنفات منها: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، الإصابة في تمييز الصحابة، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة. معجم المؤلفين عمر كحالة 2/ 20 - 22. (¬3) فتح الباري لابن حجر 1/ 333. (¬4) قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} الآية سورة المائدة (5) آية 2.

حرمة ذلك الكشف، ولم يوجد في هذه الجراحة دافع ضروري ولا حاجي يستثني الكشف في هذه الجراحة من ذلك الأصل فوجب البقاء على حرمته، وحرمة الوسائل المفضية إليه. رابعًا: أنه ثبت بشهادة بعض المختصين من الأطباء أن هذا النوع من الجراحة لا تتوفر فيه أي دواع أو دوافع معتبرة من الناحية الطبية، وأنه لا يعدو كونه رغبة تتضمن التطاول على مشيئة الله تعالى وحكمته التي اقتضت تحديد جنس الإنسان ذكرًا كان أو أنثى (¬1). خامسًا: قال الإمام القرطبي (¬2) -رحمه الله-: "لا يختلف فقهاء الحجاز، وفقهاء الكوفيين أن خصاء بني آدم لا يحل، ولا يجوز لأنه مثلة" (¬3) اهـ. قلت: فإذا كان هذا التحريم متعلقًا بالخصاء الذي فيه تغيير لشيء من مهمة العضو، فكيف بالتغيير الكامل، لا شك أنه أولى وأحرى بالتحريم. لهذا كله فإنه لا يجوز للطبيب ولا للطالب رجلاً أو امرأة أن يقدم على فعل هذا النوع من الجراحة .. والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) يقول الدكتور ماجد عبد المجيد طهبوب بعد ذكره للمبررات التي يتعذر بها الطالبون لهذه الجراحة: " ... لا يوجد لدي أدنى مجال للشك في أن مثل هذه العمليات هي ضرب من التطاول على مشيئة الله سبحانه وتعالى بتحديد جنس المخلوق". جراحة التجميل بين المفهوم الطبي والممارسة، من بحوث ندوة الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبية ثبت الندوة ص 424. (¬2) هو الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري القرطبي، تفقه على مذهب مالك، واعتنى بتفسير القرآن الكريم، توفي -رحمه الله- بمصر في سنة 671 من الهجرة، وله مصنفات منها: الجامع لأحكام القرآن، والتذكار في أفضل الأذكار، التذكرة. الديباج المذهب لابن فرحون ص 317، 318. (¬3) تفسير القرطبي 5/ 391.

المبحث الثالث في (الجرا حة الوقائية)

المبحث الثالث في (الجرا حة الوقائية) وهي الجراحة التي يقصد منها دفع ضرر محتمل الوقوع في المستقبل (¬1)، ولا يخلو احتمال وقوعه من حالتين: الحالة الأولى: أن يصل إلى درجة غلبة الظن. الحالة الثانية: أن يكون دونها (درجة الشك، والوهم). فأما الحالة الأولى، فقد سبق بيان حكمها، وأن الجراحة المتعلقة بها تعتبر مشروعة نظرًا لقوة الاحتمال الموجود فيها. وأما الحالة الثانية، فهي المقصودة هنا، ويقدم الأطباء فيها على استئصال الأعضاء وأجزائها مع أن تلك الأعضاء، والأجزاء بحالتها الطبيعية، وتقوم بأداء وظائفها في جسم الإنسان بصورة عادية، ومن أشهر أمثلتها الحالات الجراحية التالية: (1) استئصال الزائدة الدودية، وهي في حالة سليمة، خوفًا من التهابها وانفجارها مستقبلاً. (2) استئصال اللوزتين، وهما في حالتهما الطبيعية، خوفًا من التهابها مستقبلاً. ¬

_ (¬1) السلوك المهني للأطباء د. التكريتي 271.

(3) قلع الأسنان منفردة، أو مجموعة، وهي بحالة طبيعية، وتؤدي وظيفتها بالشكل المطلوب (¬1). فهذه الحالات وأمثالها يقدم فيها الأطباء على مهمة الجراحة دون أن تتوفر الدلائل، والأمارات المعتبرة لإثبات المخاوف المفترضة في المستقبل. وبناء على ذلك فإن هذه الجراحة تعتبر محرمة شرعًا، وذلك لما يأتي: أولاً: أن الأصل يقتضي حرمة الإقدام على تغيير خلقة الله تعالى بقطع الأعضاء، واستئصالها ما لم توجد حاجة داعية إلى فعل ذلك. وحيث إن هذه الحالات وأمثالها لم تتوفر فيها أسباب معتبرة شرعًا للحكم بجواز فعلها فإنها تعتبر باقية على حكم ذلك الأصل الموجب لحرمتها. ثانيًا: أن هذه الأعضاء المستأصلة، والمقلوعة لم يوجدها الله تعالى في جسم الإنسان عبثًا، بل هناك مصالح مترتبة على وجودها والقيام باستئصالها وقطعها بأعذار موهومة، فيه تعطيل لتلك المصالح بدون موجب معتبر فكان ضررًا ومفسدة، والشرع لا يجيز الإضرار والفساد. ثالثًا: لا يجوز استئصال هذه الأعضاء وغيرها في هذه الحالات وأمثالها كما لا يجوز فعله على سبيل الاعتداء بجامع ترتب الضرر على ¬

_ (¬1) أشار إلى هذه الأمثلة الدكتور راجي عباس التكريتي المصدر السابق 271، 272، وانظر الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 6/ 1140.

كلا الفعلين. لهذا كله فإنه يعتبر هذا النوع من الجراحة محرمًا، ومن ثم فإنه لا يجوز للطبيب فعله، ولا للمريض أن يأذن له بذلك ويمكنه من قيامه بمهمته. * * *

الباب الثالث في (أحكام الممهدات والعمل الجراحي)

الباب الثالث في (أحكام الممهدات والعمل الجراحي) يشتمل هذا الباب على فصلين: الفصل الأول: في أحكام المراحل الممهدة للعمل الجراحي. الفصل الثاني: في أحكام العمل الجراحي.

الفصل الأول في (أحكام المراحل الممهدة للعمل الجراحي)

الفصل الأول في (أحكام المراحل الممهدة للعمل الجراحي) تشتمل المراحل الممهدة للعمل الجراحي على أربعة مراحل وهي: المرحلة الأولى: الفحص الطبي. المرحلة الثانية: التشخيص ومعرفة نوعية المرض الجراحي. المرحلة الثالثة: الإذن بفعل الجراحة من قبل المريض أو وليه. المرحلة الرابعة: التخدير. لذا فإن بيان هذه المراحل، والأحكام الشرعية المتعلقة بها سيكون في الأربعة المباحث التالية:

المبحث الأول في (أحكام الفحص الطبي)

المبحث الأول في (أحكام الفحص الطبي) تمهيد تعتبر مرحلة الفحص الطبي أول مرحلة من المراحل الممهدة للجراحة الطبية، وقبل بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بهذه المرحلة لابد من بيان حقيقة الفحص، والهدف منه، ومراحله، وأنواعه، وذلك تصويرًا لهذه المرحلة حتى يتسنى بعد ذلك بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بها. وتصوير مهمة الفحص في هذا التمهيد ينحصر في الفروع الأربعة التالية:

الفرع الأول في (تعريف الفحص الطبي)

الفرع الأول في (تعريف الفحص الطبي) الفحص الطبي (¬1): هو بداية العمل الطبي الذي يقوم به الطبيب، ويتمثل في فحص الحالة الصحية للمريض بفحصه فحصًا ظاهريًا، وذلك بملاحظة العلامات أو الدلائل الإكلينيكية (السريرية) كمظهر المريض وجسمه (¬2). فمهمته تقوم على البحث والاستقصاء عن طريق النظر الظاهري، والسؤال عن أعراض المرض وعلاماته مثل الألم والغثيان والدوار، والتعب مما يعلمه المريض من نفسه، ثم بعد ذلك ينتقل الطبيب إلى إجراء فحص الجسم، فيضع مثلاً يده على سطح الجسد لكي يتحسس الدلائل، وقد يقوم بإجراء فحوصات مخبرية، أو يطلب تصوير الموضع المشتبه فيه بالأشعة، أو المناظير الطبية، وذلك بحسب المرض، وطبيعة تشخيصه (¬3). وتعتبر هذه المرحلة أول خطوة يخطوها الطبيب لمصلحة مريضه، والخطأ فيها يهدد حياة المريض بالخطر (¬4). ¬

_ (¬1) الفحص في اللغة: هو الاستقصاء والبحث عن الشيء. المصباح المنير للفيومي 2/ 463. (¬2) المسئولية الجنائية للأطباء. د. أسامة عبد الله قايد ص 61. (¬3) الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 2/ 311، 312، والموسوعة الطبية العربية. د. البيرم ص 78، 79. (¬4) السلوك المهني للأطباء د. التكريتي ص 144.

الفرع الثاني في (الهدف من الفحص الطبي)

الفرع الثاني في (الهدف من الفحص الطبي) بين بعض المختصين هدف الفحص الطبي وغايته بقوله: "هو إثبات أو التحقق من وجود دلائل أو ظواهر معينة، تساعده (¬1) في وضع التشخيص للمرض" (¬2) اهـ. فمن رحمة الله تعالى بعباده أن جعل للأمراض علامات معينة يستدل بها على وجود تلك الأمراض، ونوعيتها، وهذا شامل لجميع الأمراض جراحية كانت أو غير جراحية. وقد اصطلح الأطباء على تسمية هذه العلامات بالأعراض (¬3)، فالطبيب إذا قام بمهمة الفحص الطبي إنما يهدف إلى التأكد والتحقق من وجود تلك الأعراض والعلامات المعينة التي يمكن من خلالها تحديد نوعية المرض الجراحي وتشخيصه. * * * ¬

_ (¬1) الضمير راجع إلى الطبيب الفاحص. (¬2) المسئولية الجنائية للأطباء. د. أسامة عبد الله قايد ص 61 نقلاً عن المصادر الأجنبية. (¬3) انظر على سبيل المثال: الشفاء بالجراحة. د. محمود فاعور ص 30، 34، 42. جراحة القلب والأوعية الدموية. د. سامي القباني ص 26، 111، 113. جراحة البطن د. لطفي اللبابيدي. د. محمد الشامي. ص 20، 36، 40.

الفرع الثالث في (مراحل الفحص الطبي)

الفرع الثالث في (مراحل الفحص الطبي) قسمت بعض الأنظمة الحديثة الفحص الطبي إلى مرحلتين: المرحلة الأولى: مرحلة الفحص التمهيدي. المرحلة الثانية: مرحلة الفحص التكميلي (¬1). ولكلا المرحلتين وسائل خاصة، وطرق معينة، وبيانها يتضح فيما يلي: أولاً: المرحلة التمهيدية: وهي التي يقوم فيها الطبيب بإجراء الفحص مستخدمًا يده أو أذنه أو عينيه، أو بعض الأجهزة البسيطة كمقياس الحرارة (¬2). كما يقوم بسؤال المريض، أو ذويه في بعض الحالات عن بعض الأعراض المهمة التي يمكن من خلالها معرفة نوعية المرض وتشخيصه (¬3). وبعد ذلك يقوم الطبيب بإجراء الفحص الجسماني المشتمل على ¬

_ (¬1) المسئولية الجنائية للأطباء. د. أسامة عبد الله قايد ص 61. (¬2) المصدر السابق. (¬3) الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 2/ 312، والموسوعة الطبية العربية. د. البيرم ص 78، والسلوك المهني للأطباء د. التكريتي ص 144.

أربع طرق رئيسية وهي: (1) الملاحظة: والمراد بها توجيه النظر إلى المريض من حيث حالته العامة إجمالاً. (2) اللمس أو الجس: فيضع الطبيب يده أو أصابعه على مواضع معينة ليعرف حالتها، وتظهر له التغييرات غير الطبيعية التي طرأت عليها. (3) القرع: وفيها يقوم الطبيب بنقر الموضع بأصابعه لاستجلاء التغيرات الموجودة في ذلك الموضع ولاسيما في فحص الصدر حيث تظهر للطبيب بواسطة القرع التغييرات التركيبية التي طرأت على الأنسجة وذلك من خلال تغير مسمع الصوت المنبعث منها عند قرعها. (4) التسمع إلى الأصوات الصادرة عن حركات أعضاء الجسم أثناء تأديتها وظائفها: كالتنفس، وضربات القلب، فيقوم الطبيب بالتركيز على تلك الأصوات لمعرفة التغيرات غير الطبيعية التي طرأت عليها (¬1). ¬

_ (¬1) الموسوعة الطبية العربية د. البيرم ص 78، 79، بتصرف الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 2/ 312، الفحص السريري المنهجي لمجموعة من الأطباء 5/ 9 - 20.

ثانيا: المرحلة التكميلية:

ثانيًا: المرحلة التكميلية: وهي التي يقوم فيها الطبيب بإجراء فحوص أكثر عمقًا، ويعتمد في هذه المرحلة -غالبًا- على أجهزة وآلات أكثر دقة في تشخيص الأمراض ومعرفة نوعيتها (¬1). ومن تلك الأجهزة والآلات التصوير بالأشعة السينية (¬2)، والمناظير الطبية "المنظار المستقيم، والمنظار الشعبي". وتدخل ضمن هذه المرحلة التحاليل المخبرية مثل تحاليل الدم، والبول، والبراز، كما تدخل الدراسات المعملية التي تتضمن دراسات كيميائية مثل الاختبار الذي يجرى لتقدير كمية السكر في الدم، والدراسات المجهرية "ميكروسكوبية" مثل فحص لطخة شريحة من الدم والدراسات الفيزيقية مثل الاختبار الذي يجرى لتقدير معدل الترسيب لمحتويات الدم (¬3). * * * ¬

_ (¬1) المسئولية الجنائية للأطباء. د. أسامة عبد الله قايد ص 61. (¬2) الأشعة السينية: موجات قصيرة جدًا للطاقة تكسبها نفاذية خاصة، وينتجها إطلاق إلكترونات عالية السرعة على هدف من التنجستن في داخل أنبوبة مفرغة وهي لا ترى بالعين ولكنها تؤثر في لوح حساس أو ستار مغطى بمادة خاصة ويسمى المنظار المشع (فلورسكوب)، تم اكتشافها على يد الفيزيقي الألماني ولهلم كونراد رونتجن في عام 1895 م. الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 5/ 975، 977، الموسوعة الطبية العربية. د. البيرم ص 35. (¬3) الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 2/ 312، 313، والأشعة السينية وبعض تطبيقاتها. د. محمود نصر الدين ص 176، 180.

الفرع الرابع في (أنواع الفحص الطبي في الجراحة الطبية)

الفرع الرابع في (أنواع الفحص الطبي في الجراحة الطبية) تستلزم الجراحة الطبية وجود نوعين من الفحص الطبي هما: النوع الأول: الفحص لمعرفة نوعية المرض الجراحي وتشخيصه. النوع الثاني: الفحص لمعرفة أهلية المريض لإجراء الجراحة اللازمة له. فأما النوع الأول: فهو الذي يجرى عند مراجعة المريض للطبيب حين مرضه، وعن طريقه يتم تشخيص المرض الذي يشتكي منه، وهو أول مرحلة من المراحل الممهدة للجراحة، وهو المقصود في هذا المبحث. وأما النوع الثاني: فإنه يقع بعد معرفة المرض الجراحي وتحديد علاجه بالجراحة، حيث يقوم فيه الطبيب الجراح بإجراء فحص عام للمريض بهدف معرفة أهليته لإجراء الجراحة اللازمة له (¬1)، وهو فحصى خاص لا يجرى إلا ¬

_ (¬1) الشفاء بالجراحة د. محمود فاعور 17 - 20، السلوك المهني للأطباء. د. التكريتي ص 259.

في الجراحة الطبية وتختلف أساليبه حسب اختلاف نوعية المرض الجراحي. فهذه هي مجمل المعلومات التي يمكن من خلالها تصور هذه المرحلة، وأما الأحكام الشرعية المتعلقة بالفحص الطبي لمعرفة نوعية المرض الجراحي وتشخيصه فإنها تنحصر في المطالب الأربعة التالية: المطلب الأول: في مشروعية الفحص الطبي. المطلب الثاني: في أهلية الطبيب الفاحص ومساعديه. المطلب الثالث: في حكم الكشف عن العورة من أجل الفحص الطبي. المطلب الرابع: في حكم الفحص بالأشعة السينية والوسائل الخطرة. وبيان هذه المطالب يتضح فيما يلي: * * *

المطلب الأول في (مشروعية الفحص الطبي الذي يجرى لمعرفة نوعية المرض الجراحي)

المطلب الأول في (مشروعية الفحص الطبي الذي يجرى لمعرفة نوعية المرض الجراحي) يشرع فعل هذا النوع من الفحص الطبي لما يلي: أولاً: إن إذن الشريعة بفعل الجراحة الطبية يتضمن الإذن بلوازمها، وهذا الفحص الطبي يعتبر من أهم لوازمها، وعن طريقه يمكن وضع الجراحة في موضعها. ثانيًا: إن وجود الحاجة الداعية إلى فعل الجراحة الطبية يعتبر شرطًا من شروط جواز فعلها كما تقدم بيانه. وهذا الشرط يتوقف إثباته على إثبات وجود المرض الجراحي، وذلك إنما يكون عن طريق هذا الفحص فيشرع فعله. ثالثًا: إن هذا الفحص يتضمن دفع المفسدة المترتبة على الإقدام على فعل الجراحة الموهومة (¬1) ودفع المفسدة أمر شهدت نصوص الشرع باعتباره. ¬

_ (¬1) وجه هذه المفسدة أن الأطباء لو أقدموا على علاج المرض بالجراحة استنادًا إلى الحدس والتخمين فإن ذلك في الغالب يفضي إلى تلف الأرواح والأجساد، وقد حرم الله عز وجل ذلك، كما حرم الأسباب المفضية إليه. قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} سورة النساء (4) آية 29. وقال سبحانه: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} سورة البقرة (2) آية 195.

لهذا كله فإنه لا مانع شرعًا من قيام الأطباء ومساعديهم بفحص المريض لمعرفة نوعية المرض الجراحي حتى يتسنى علاجه بالجراحة اللازمة. والله أعلم.

المطلب الثاني في (شرط أهلية الطبيب الفاحص ومساعديه)

المطلب الثاني في (شرط أهلية الطبيب الفاحص ومساعديه) يشترط في كل من الطبيب الفاحص، والأشخاص الذين يستعين بهم في مهمة الفحص مثل المصور بالأشعة، أو المناظير الطبية، والمحللين في المختبرات .. وغيرهم يشترط فيهم أن تتوفر فيهم الأهلية المعتبرة للقيام بهذه المهمات كل حسب اختصاصه ومجال عمله. فلا يحل للطبيب، ولا للأشخاص الذين يستعين بهم في مهمة الفحص أن يقدموا على فعل شيء من هذه المهمات إلا بعد أن تتوفر فيهم الأهلية المشترطة طبيًا فيمن يقوم بتلك المهمات، فيكونوا على علم وبصيرة بالمهمة المطلوبة، وعندهم القدرة على أدائها وفق الأصول المتبعة عند أهل الاختصاص، وإنما حرم عليهم الإقدام على فعل شيء من هذه المهمات حال جهلهم، أو عدم قدرتهم لتحقق الضرر الذي سيلحق المريض من جراء ذلك. فالطبيب الفاحص إذا أقدم على فحص مرض جراحي يجهل أعراضه فإن الغالب خطؤه في ذلك الفحص وإذا أخطأ في فحصه وتشخيصه للمرض ترتب على ذلك الخطأ في معالجته بجراحة لا يحتاجها المريض، فتتعرض حياة المريض للخطر. والتصوير بالأشعة يحتاج إلى معرفة لقدر المواد المشعة المطلوبة لتصوير الموضع المشتبه فيه، والخطأ في القدر المسلط من تلك المواد

سيضر بجسم الإنسان، وبنسله، ولذلك ينصح المختصون بعلم الإشعاع بوجوب أخذ الحيطة والحذر أثناء التصوير بالأشعة السينية تلافيًا لتلك الأخطار والأضرار (¬1). والمنظار الطبي لا يمكن لكل شخص أن يحسن طريقة إدخاله وإخراجه من جسم المريض إلا بعد معرفة تامة، وخبرة يكتسبها الإنسان عن طريق التعلم وكثرة التطبيق تحت أيدي المختصين. فإذا كان الشخص الذي يقوم بمهمة إدخال تلك المناظير أو إخراجها جاهلاً بذلك، ولم تتوفر فيه الأهلية المشترطة للقيام بهذه المهمة فإنه سيعرض المريض للموت أو يتسبب في حصول ضرر له في جسمه قد يكون أعظم من المرض المراد تشخيصه، وذلك لأن الخطأ في طريقة إدخال هذه المناظير أو إخراجها قد يتسبب في حبس نفس المريض فيموت أو يتسبب في خدش جدار أمعائه فيحدث له نزيف دموي داخلي -لا سمح الله- إلى غير ذلك من الأضرار المترتبة على القيام بهذه المهمة على غير وجهها. وهكذا الحال بالنسبة لمن يقوم بإجراء التحاليل اللازمة، وكتابة ¬

_ (¬1) يقول الدكتور محمود نصر الدين: بدأ كثير من المهتمين بهذا الموضوع اليوم يعتقدون أن القليل من الأشعة السينية إذا ما استعمل اعتباطًا فإنه يؤدي إلى مضاعفات خطيرة، فالأشعة السينية خطرة بالنسبة للجزء المعرض لها من جسم الإنسان، ولكنها أخطر بكثير على الجلد، وعلى النخاع الشوكي، وعلى الغدد الجنسية "اهـ. الأشعة السينية وبعض تطبيقاتها. د. محمود نصر الدين ص 235، 236 وقد ذكرت بعض المصادر الطبية المختصة جملة من الأخطار الموجودة في الإشعاع ونصحت بوجوب الحذر وأخذ الحيطة أثناء استعمال الإشعاع. انظر: مقال الأشعة في التشخيص والعلاج في المجلة الطبية السعودية عدد 45 ربيع الاول- ربيع الثاني عام 140 هـ ص 53 - 58، الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 1/ 78, 79.

التقارير عنها، فإنه إذا لم يكن ذا علم ومعرفة تؤهله للقيام بتلك المهمة لابد وأن يعرض حياة المريض للخطر بسبب خطئه في التحليل وتقريره والشريعة الإسلامية لا تجيز للمسلم أن يقدم على فعل يتسبب في هلاك أخيه المسلم أو حصول الضرر له. فتبين مما سبق وجود توفر شرط الأهلية في الطبيب الفاحص والأشخاص الذين يستعين بهم في مهمته. ويترتب على القول باشتراط الأهلية في هؤلاء حرمة الإقدام على فعل شيء من مهمة الفحص ممن هو ليس أهلاً لذلك، وكما يحرم على الطبيب أن يقوم بمهمة فحص يجهلها كذلك يحرم عليه أن يحيل المريض على من يجري له تحليلاً أو تصويرًا بالأشعة أو المناظير الطبية مع علمه بعدم أهليته لفعل تلك المهمة. وتتحمل المستشفيات حكومية كانت أو أهلية المسئولية الكاملة عن أهلية الأشخاص الذين تنصبهم للقيام بهذه المهمات. * * *

المطلب الثالث في (حكم الكشف عن العورة من أجل فحص المرض الجراحي وتشخيصه)

المطلب الثالث في (حكم الكشف عن العورة من أجل فحص المرض الجراحي وتشخيصه) يحتاج الطبيب عند قيامه بفحص بعض الأمراض الجراحية إلى كشف المريض عن عورته كما هو الحال في جل الأمراض الجراحية المتعلقة بالمسالك البولية (¬1) والأعضاء التناسلية (¬2) وجراحة الولادة (¬3). وقد يحتاج غيره ممن يستعين بهم في بعض الإجراءات المتعلقة بالفحص الطبي إلى مثل ذلك أيضًا، فيحتاج المصور بالأشعة مثلاً إلى كشف المريض عن الموضع المراد تصويره من العورة، كما أن التصوير بالأشعة في بعض الأحيان يستلزم حقن المريض بالصبغة التي تساعد على وضوح الصورة والأفلام، ويتم حقنها عن طريق القبل أو الدبر كما هو المتبع في تشخيص بعض الأمراض الجراحية المتعلقة بالمسالك البولية، والجهاز الهضمي (¬4). ويرد السؤال عن موقف الشرع من كشف المريض عن عورته في مثل هذه الحالات التي يستدعيها فحص المرض الجراحي، وما هو موقفه من نظر الطبيب وغيره ممن يستعين بهم في مهمة الفحص؟. ¬

_ (¬1) ملحق الجراحة البولية. د. النحاس ص 40 - 46. (¬2) أمراض الجهاز البولي والجهاز التناسلي د. العطار، د. النحاس ص10 - 32. (¬3) الأمراض النسائية د. الحافظ 2/ 19، 134، 135، 156. (¬4) الشفاء بالجراحة د. محمود فاعور ص 61.

وإذا كان ذلك جائزًا فما هو قيد جوازه ... ؟. والجواب: أن الأصل في الشرع يقتضي حرمة كشف الإنسان عن عورته كما شهدت بذلك النصوص الشرعية (¬1)، ونص فقهاء الإسلام -رحمهم الله- في كتبهم (¬2) إلا أن الفحص الطبي لغرض معرفة المرض الجراحي يعتبر مستثنى من حكم ذلك الأصل، وذلك لمكان الضرورة والحاجة الداعية إليه، والقاعدة الشرعية تقول: "الضرورات تبيح المحظورات" (¬3) والقاعدة الأخرى تقول: "الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة" (¬4). فالإنسان إذا طلب منه الفحص لمعالجة المرض الجراحي الذي يعاني منه، إما أن يكون مضطرًا، وإما أن يكون محتاجًا، وفي كلتا الحالتين هو معذور شرعًا. قال الإمام العز بن عبد السلام -رحمه الله-: "ستر العورات والسوءات واجب، وهو من أفضل المروءات وأجمل العادات، ولاسيما في النساء الأجنبيات، لكنه يجوز للضرورات والحاجات". أما الحاجات فكنظر كل واحد من الزوجين إلى صاحبه، ونظر ¬

_ (¬1) من تلك النصوص: ما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة". رواه مسلم1/ 130. (¬2) فتح القدير لابن الهمام 1/ 179، 180، مواهب الجليل للحطاب 1/ 598، 599، روضة الطالبين للنووي 1/ 282، المبدع لابن مفلح 1/ 360. قال ابن جزي -رحمه الله-: "العورة يجب سترها عن أعين الناس إجماعاً" اهـ. قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي ص 69. (¬3) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 84، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 85. (¬4) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 89، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 89.

الأطباء لحاجة المداواة. وأما الضرورات فكقطع السلع المهلكات، ومداواة الجراحات المتلفات" (¬1) اهـ. فقد بين -رحمه الله- أن نظر الطبيب إلي عورة مريضه لمداواة جراحة وغيرها يعتبر من المستثنيات من حرمة النظر إلى العورة وذلك لمكان الضرورة والحاجة. وبناء على ما سبق فإنه لا حرج على المسلم في كشفه عما دعت الحاجة إلى كشفه من أجل فحص مرضه الجراحي وتشخيصه سواء كان رجلاً أو امرأة، وكذلك لا حرج على الطبيب والأشخاص الذين يستعين بهم في مهمة فحصه للمرض الجراحي إذا قاموا بالكشف عن عورة المريض والنظر إلى الموضع المحتاج إلى فحصه. وهذا الحكم مبني -كما تقدم- على وجود الضرورة والحاجة فلابد من تحقق وجودها، فلا يحل للطبيب ولا لغيره أن يطالب المريض بالكشف عن عورته إلا إذا تعذر وجود الوسائل التي يمكن بواسطتها تحقيق مهمة الفحص بدون كشف للعورة، وكذلك لا يجوز للرجال أن يقوموا بفحص النساء ولا العكس إلا إذا تعذر وجود المثيل الذي يمكنه أن يقوم بالمهمة المطلوبة. وأما قيد الجواز فهو الاقتصار على القدر الذي تسد به الحاجة دون زيادة عليه، فيجب على كل من الطبيب والأشخاص الذين يستعين بهم في مهمة فحص المرض الجراحي أن يقتصروا في كشفهم ونظرهم إلى عورة المريض على الموضع المحتاج إلى النظر دون غيره، وكذلك ¬

_ (¬1) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2/ 165.

عليهم الاقتصار على الوقت المحتاج إليه دون زيادة، وذلك لأن الأصل في الشرع يقتضي حرمة الكشف عن العورة، والنظر إليها جميعها، فإذا وجدت الضرورة أو الحاجة استثني من ذلك الأصل الموضع والزمان المحتاج أو المضطر إليه، وبقي غيره على الأصل المقتضي لحرمة كشفه والنظر إليه، وذلك للقاعدة الشرعية التي تقول: "ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها" (¬1). قال الشيخ أحمد الزرقاء (¬2) -رحمه الله- في شرحه لقاعدة "الضرورات تقدر بقدرها": "ما تدعو إليه الضرورة من المحظورات إنما يرخص منه القدر الذي تندفع به الضرورة فحسب، فإذا اضطر إنسان لمحظور فليس له أن يتوسع في المحظور، بل يقتصر منه على قدر ما تندفع به الضرورة فقط" (¬3). فالطبيب ومعاونوه مضطرون لمحظور وهو الكشف والنظر إلى العورة، وهذا الاضطرار مقيد بموضع معين، فليس لهم مجاوزته في الكشف والنظر ولا الزيادة على الوقت المحتاج إليه، فمتى ما توصل الطبيب إلى معرفة المرض الجراحي ومصور الأشعة من إسقاط الأشعة حرم عليهم بعد ذلك النظر إعمالاً للقاعدة التي تقول: "ما جاز لعذر بطل بزواله" (¬4) ... والله أعلم. ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 84، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 86، والأقمار المضيئة للأهدل 121، 122، قواعد الفقه للمجددي ص 89. (¬2) هو الشيخ أحمد بن محمد بن عثمان الزرقاء، ولد -رحمه الله- في مدينة حلب سنة 1285 هـ، وهو من فقهاء الحنفية المبرزين في عصره، شرح القواعد الفقهية، ودرسها نحو عشرين سنة، توفي -رحمه الله- في حلب عام 1327 هـ. انظر ترجمته في مقدمة كتابه شرح القواعد الفقهية ص 13 - 24. (¬3) شرح القواعد الفقهية للزرقاء ص 133. (¬4) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 85، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 86، شرح =

المطلب الرابع في (حكم الفحص بالأشعة السينية)

المطلب الرابع في (حكم الفحص بالأشعة السينية) تعتبر الأشعة السينية من أخطر الوسائل المستخدمة في مهمة الفحص الطبي، ويكمن خطرها فيما تشتمل عليه من المواد المشعة، والطريقة المتبعة للتصوير بها. فأما خطر المواد المشعة فهو من الأمور الثابتة علميًا، حيث دلت الدراسات المختصة بعلم الإشعاع على أن المواد المشعة تعتبر من أخطر المواد التي يتضرر جسم الإنسان بتعرضه لها. وثبت طبيًا أن التعرض لمقدار أربعمائة وخمسين وحدة من الإشعاع الموجود في أشعة رونتجن يعتبر حدًا كافيًا في إصابة الشخص المتعرض لها بمرض الإشعاع الشديد الذي ينتهي بصاحبه إلى الموت بعد ظهور الأعراض والمضاعفات المؤلمة (¬1). ونظرًا لما تشتمل عليه هذه الأشعة من خطر عظيم نجد المختصين في علم الإشعاع كثيرًا ما ينصحون بضرورة أخذ الحيطة والحذر اللازم، ¬

_ = القواعد الفقهية للزرقاء ص 135. شرح المجلة للباز ص 30. قال الإمام العز بن عبد السلام -رحمه الله-: "وإذا تحقق الناظر إلى الزانيين من إيلاج الحشفة في الفرج حرم عليه النظر بعد ذلك إذ لا حاجة إليه، وكذلك لو وقف الشاهد على العيب، أو الطبيب على الداء فلا يحل له النظر بعد ذلك لأنه لا حاجة إليه لذلك، لأن ما حل لضرورة، أو حاجة يقدر بقدرها ويزول بزوالها ... " اهـ. قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2/ 165. (¬1) الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 6/ 1163.

وعدم التعرض للتصوير بهذه الأشعة إلا عند وجود الضرورة الداعية إلى ذلك. يقول أحد الأساتذة المختصين بعلم الفيزياء النووية: "الأشعة السينية خطرة بالنسبة للجزء المعرض لها من جلد الإنسان، ولكنها أخطر بكثير على الجلد، وعلى النخاع الشوكي، وعلى الغدد الجنسية، وليس من الضرورة أن تسلط الأشعة على الغدد الجنسية لتشكل الخطر عليها، إذ إن كل صورة بالأشعة تؤخذ لأي عضو في الجسم تؤثر بشكل غير مباشر على الغدد الجنسية ... " (¬1) اهـ. وورد في بعض الأبحاث المترجمة في علم الإشعاع الطبي ما يلي: "مع ما للإشعاع من استخدامات مفيدة ينبغي علينا التعامل معه بحذر وحيطة، لأنه سلاح ذو حدين، فكما أنه يمكننا من تشخيص المرض وعلاجه، فإن له مضاراً صحية علينا، وعلى سلالتنا من بعد، لذا يجب الأخذ بالقاعدة القائلة: أن لا تتعرض للإشعاع دون فوائد راجحة، وبتقليل الجرع الإشعاعية إلى أقل ما يمكن عمليًا" (¬2) اهـ. فتبين من شهادة هؤلاء المختصين وجود الضرر في هذه المواد المشعة، خاصة فيما يتعلق بالغدد الجنسية، ولا يشترط في تضررها أن تتعرض الأعضاء التي توجد فيها تلك الغدد للأشعة بل مجرد تعريض أي عضو من أعضاء الجسم للأشعة يعتبر كافيًا في تعرضه لذلك الخطر. ¬

_ (¬1) الأشعة السينية وبعض تطبيقاتها. د. محمود نصر الدين ص 235، 236. (¬2) الأشعة في التشخيص والعلاج مقال في المجلة الطبية السعودية عدد 45 شهر ربيع الأول- ربيع الثاني عام 1405 هـ مترجم عن بعض المصادر الأجنبية، وأشار إلى خطر التصوير بالأشعة الدكتور راجي عباس التكريتي في كتابه: السلوك المهني للأطباء ص 238.

ولا يقتصر ضرر الأشعة على تأثيرها السيء على الغدد الجنسية، بل إنه يتعداها إلى بقية أعضاء الجسم الأخرى كالجلد، والنخاع الشوكي، وتشير بعض المصادر الطبية المختصة إلى أنها قد تتسبب في الإصابة بالسرطان (¬1). وأما ضرر الطريقة المتبعة في التصوير بالأشعة فهو ينحصر في تصوير بعض الأمراض التي يستلزم ظهورها الحقن بمادة تعين على وضوح الصورة المطلوبة (¬2). وهذه المادة يتم حقنها عن طريق الوريد، وعن طريق فتحة الشرج في بعض الحالات على حسب الموضع الذي يراد تصويره، فينشأ عنها في بعض الأحيان حدوث صدمة، فيصاب المريض بالغثيان، والقيء، والدوخة وقد تؤدي إلى هبوط ضغط الدم خاصة في المرضى من كبار السن (¬3). ونظرًا لوجود هذه الأضرار المترتبة على التصوير بالأشعة فإن الأصل يقتضي عدم جواز التصوير بها، إلا إذا وجدت الحاجة الداعية إلى ذلك. وهذه القاعدة التي أشارت إليها المراجع المختصة بعلم الإشعاع من أنه: "لا يتعرض للإشعاع دون فوائد راجحة" لا مانع من اعتبارها شرعًا، بل هي متفقة مع ما أشار إليه الإمام العز بن عبد السلام -رحمه الله- في قواعده من تقديم أرجح المصالح فأرجحها، ودرء أفسد المفاسد فأفسدها، وذلك حيث يقول -رحمه الله: " ... إن تقديم ¬

_ (¬1) الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 1/ 78. (¬2) تسمى هذه المادة بالباريوم. انظر تكنولوجيا وأوضاع التصوير بالأشعة، د. نبيل خطار 3/ 10 - 12، الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 1/ 78. (¬3) تكنولوجيا وأوضاع التصوير بالأشعة. د. نبيل خطار 3/ 136.

أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن، وإن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن، وإن تقديم المصالح الراجحة على المرجوحة محمود حسن، وإن درء المفاسد الراجحة على المصالح المرجوحة محمود حسن، واتفق الحكماء على ذلك وكذلك الشرائع ... " (¬1) اهـ. وبناء على ذلك فإنه ينبغي على الطبيب أن يتولى النظر في مفسدة تعريض المريض للأشعة ومفسدة المرض المشتكى منه ثم يقارن بينهما، فيقدم على إحالته إلى التصوير بالأشعة أو يحجم. ولاشك في أن كثيرًا من الأمراض الجراحية التي جرت عادة الأطباء بإحالة المصابين بها إلى التصوير بالأشعة قد توفرت فيها الحاجة الداعية، فعلى سبيل المثال مرض القرحة المعدية، وأمراض القولون الجراحية، وأمراض الكبد والمرارة، كل هذه الأمراض وأمثالها توفرت فيها الحاجة الداعية إلى تصويرها والتأكد من وجودها ما دام أن الطبيب قد اطلع على بعض الدلائل والأمارات الموجبة للتأكد من وجودها أثناء قيامه بمهمة الفحص المبدئي. وإذا ثبت القول بجواز التصوير بالأشعة عند الحاجة، فإنه ينبغي على الطبيب المختص بمهمة التصوير أن يتقيد بقدر الحاجة للقاعدة الشرعية التي تقول: "ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها" (¬2) ومن ثم فإنه يحرم عليه الزيادة في قدر الجرعة المسلطة على الموضع المراد تصويره، وينبغي عليه أن يقتصر على القدر المعتبر عند أهل الاختصاص، لأن القدر الزائد عن الحاجة باق على حكم الأصل الموجب لحرمته ... والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) قواعد الأحكام لابن عبد السلام 1/ 5. (¬2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 840، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 86.

المبحث الثاني في (أحكام التشخيص)

المبحث الثاني في (أحكام التشخيص) تعتبر مرحلة التشخيص المرحلة الثانية من المراحل الممهدة للعمل الجراحي، وهي ثمرة لمرحلة الفحص الطبي المتقدمة لأن المقصود من إجراء الفحص الطبي هو معرفة نوعية المرض الجراحي، وتحديد الطور الذي بلغه من درجات خطورته. وفي هذه المرحلة يقوم الطبيب بدراسة الأمارات والدلائل التي اطلع عليها بنفسه، أو تضمنتها التقارير التي كتبها المساعدون له في مهمته، كل ذلك بغية الوصول إلى نتيجة معينة، يتم بها تحديد نوعية المرض، وطبيعة حاله من حيث خطورة المرحلة التي هو فيها. وبيان هذه المرحلة في هذا المبحث يستلزم الكلام على تعريف التشخيص وبيان أهميته ثم بيان أحوال تشخيص المرض الجراحي وحكمها شرعًا. وسيكون ذلك بعون الله تعالى في المطلبين التاليين:

المطلب الأول في (تعريف التشخيص وأهميته)

المطلب الأول في (تعريف التشخيص وأهميته) عرفت بعض المصادر الطبية المختصة التشخيص بما يلي: "هو الفن أو السبيل الذي يتسنى به تعرف نوع المرض" (¬1). وهذا التعريف يتضمن أمرين: أحدهما: أن التشخيص يعتبر فنًا مستقلاً من الناحية الطبية، ولذلك يوصف بكونه فرعًا من فروع الطب (¬2). الثاني: أن الهدف منه هو معرفة نوعية المرض الجراحي، والطور الذي وصل إليه فيترتب على الأمر الأول إلزام الطبيب شرعًا بالتقيد بالأصول العلمية المقررة عند أهل الاختصاص لهذا الفن. ومن ثم فإنه لا يحكم لأحد بجواز القيام بهذه المهمة إلا بعد أن يكون ملمًا بهذه الأصول كالحال في الأطباء، وهذا أمر لابد منه نظرًا لأن الأمراض تتشابه أماراتها ودلائلها، فلابد من العلم بالفوارق التي دلت عليها التجربة والخبرة، وثبت اعتبارها عند الأطباء المختصين. ثم إن تقارير الفحص الطبي ونتائجه تحتاج إلى معرفة يتمكن بواسطتها الشخص الذي يقوم بمهمة التشخيص من الوصول إلى معرفة نوعية المرض وتحديد الطور الذي وصل إليه، ودرجة الخطورة التي ¬

_ (¬1) الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 3/ 311. (¬2) المصدر السابق.

بلغها. وأما الأمر الثاني فإنه يعتبر بيانًا لثمرة التشخيص، وأن الهدف منه هو معرفة نوعية المرض الجراحي. ويترتب على هذا الأمر حكم شرعي يتعلق باستحقاق الطبيب الذي يقوم بمهمة التشخيص للأجرة المتفق عليها من عدم استحقاقه. فإذا كان الهدف هو معرفة نوعية المرض، واستأجره المريض للوصول إليه ولم يتمكن من معرفته فانه حينئذ لا يستحق شيئًا. ولهذه المرحلة أهمية كبيرة، فكل المراحل القادمة مترتبة على نتيجة التشخيص، فالخطأ فيها يهدد حياة المريض بالهلاك والضرر. فقد يشخص المرض على أنه مرض جراحي، ويقرر الأطباء وجوب إجراء الجراحة اللازمة، ويتم ذلك، وبعد فتح موضع الألم يتبين عدم وجود المرض، وبذلك يتحمل المريض مشقة الجراحة وعناءها دون وجود أي نتيجة وقد يبقى بالضررين آلام الجراحة، وآلام مرضه السابق، كما أن النجاح في التشخيص يعتبر بإذن الله عز وجل مفتاحًا للنجاح في العلاج، وبذلك يتم وضع الجراحة اللازمة في موضعها. يقول بعض الأطباء المختصين (¬1): "إن الركيزة الأولى التي تحدد علاقة الطبيب بالمريض، وتطور حالة المرض، والخطوة الأولى التي يخطوها الطبيب لصالح مريضه، هي تشخيص المرض ومعرفة كنه شكواه وتفريق ذلك عما التبس مع غير ذلك من أعراض، والتوصل إلى مرحلة المرض الحالي، وتأريخه وتطوره، والمشاكل الصحية ¬

_ (¬1) هو الدكتور راجي عباس التكريتي أحد أطباء مستشفى الرشيد ببغداد.

السابقة، وتأثيرها في وضع المرض الحالي. وهذه المرحلة دقيقة, ومهمة جدًا، وقد تحدد العلاقة بين الطبيب والمريض، وشفاء المريض، أو عدمه ولزامًا على الطبيب أن يبذل قصارى جهده، ويقظته للتوصل إلى التشخيص الصحيح ... " (¬1) اهـ. * * * ¬

_ (¬1) السلوك المهني للأطباء. د. التكريتي ص 144.

المطلب الثاني في (أحوال تشخيص المرض الجراحي وحكمها)

المطلب الثاني في (أحوال تشخيص المرض الجراحي وحكمها) إذا توصل الطبيب إلى معرفة وجود المرض الجراحي عن طريق التشخيص فإنه لا تخلو تلك المعرفة إما أن تكون على وجه القطع، أو تكون على وجه الظن. فإن كانت على وجه الظن فإنه لا يخلو الظن بوجود المرض الجراحي، إما أن يكون غالبًا على عدم وجوده، أو يكون مساويًا له، أو يكون دونه. وعلى هذا فإن العلم بوجود المرض الجراحي لا يخلو من أربع حالات: الحالة الأولى: أن يكون على سبيل اليقين. الحالة الثانية: أن يكون على سبيل غلبة الظن. الحالة الثالثة: أن يكون على سبيل الشك. الحالة الرابعة: أن يكون على سبيل الوهم. ففي الحالة الأولى: لا يكون عند الطبيب الفاحص أي شك في وجود المرض الجراحي، ولا إشكال في جواز الاعتماد على هذا النوع

من التشخيص الذي بلغ أعلى مراتب العلم وهي مرتبة اليقين. وأما الحالة الثانية: فإنه ينبغي على الطبيب أن يعتمد الاحتمال الراجح الذي يشتمل على وجود المرض الجراحي، ولا يلتفت إلى الاحتمال المرجوح المشتمل على انتفاء وجوده. وهذا مبني على ما تقرر في الشريعة الإسلامية من اعتمادها على الظنون الراجحة وعدم التفاتها إلى ما يقابلها من الظنون المرجوحة في تحقيق المصالح، ودرء المفاسد. قال الإمام العز بن عبد السلام -رحمه الله-: "الاعتماد في جلب معظم مصالح الدارين، ودرء مفاسدهما على ما يظهر في الظنون .. " إلى أن قال: " .. فلا يجوز تعطيل هذه المصالح الغالبة الوقوع خوفًا من ندور وكذب الظنون .. " (¬1) اهـ. فبين أن الاعتماد إنما يكون على الظن الغالب، وأن ما يقابله من الظن المرجوح لا يلتفت إليه، وبهذا يتقرر أصل هذه الحالة من أحوال تشخيص المرض الجراحي فيقال: إن المنبغي على الطبيب اعتماد الظن الراجح وعدم الالتفات إلى ضده ومن ثم فإنه لا حرج في الإقدام على فعل الجراحة والإذن بها من قبل المريض اعتمادًا على هذا التشخيص المبني على هذا النوع من الظنون القوية. ¬

_ (¬1) قواعد الأحكام لابن عبد السلام 1/ 4.

وتكون هذه الحالة في حكم الأولي بناء على ما تقرر عند الفقهاء -رحمهم الله- من أن غالب الظن ملحق باليقين حكمًا (¬1). وأما الحالة الثالثة: فإنه ينبغي على الأطباء التوقف عن الإقدام على فعل الجراحة نظرًا لاستواء الاحتمالين في نتيجة التشخيص. وعليهم أن يبذلوا قصارى جهدهم في الوصول إلى ما يوجب ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر ثم العمل بما ترجح منهما. قال الإمام العز بن عبد السلام -رحمه الله-: "وكما لا يحل الإقدام للمتوقف في الرجحان في المصالح الدينية حتى يظهر له الراجح، فكذلك لا يحل للطبيب الإقدام مع التوقف في الرجحان إلى أن يظهر له الراجح .. " (¬2) اهـ. فحكم -رحمه الله- بوجوب توقف الطبيب عن الإقدام على المداواة في حال توقفه عن الرجحان بحيث لم يظهر له ترجيح للمصلحة المترتبة على الفعل وعدمها، وألحق وجوب توقفه في حال استواء الاحتمالين بوجوب التوقف في حال استواء ترتب المصلحة الدينية وعدمه إلى حين وجود المرجح لأحد الطرفين على الآخر. وبناء على ذلك فإن الحكم في هذه الحالة هو وجوب التوقف إلى أن يظهر رجحان وجود المرض الجراحي على عدم وجوده أو العكس. ¬

_ (¬1) قال الإمام زين العابدين بن إبراهيم بن نجيم الحنفي -رحمه الله-: "وغالب الظن عندهم ملحق باليقين وهو الذي تبتني عليه الاحكام يعرف ذلك من تصفح كلامهم في الابواب" اهـ. فبين -رحمه الله- أن غلبة الظن ملحقة باليقين حكمًا. انظر الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 73. (¬2) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 1/ 6.

وأما الحالة الرابعة: فإنه لا يلتفت إلى الاحتمال المرجوح المشتمل على وجود المرض الجراحي، بل ينبغي على الأطباء اعتبار الظن الراجح الدال على عدم وجود المرض، كما وجب ذلك في الحالة الثانية حيث لم يلتفت إلى النسبة المرجوحة واعتبرت النسبة الراجحة المشتملة على وجود المرض الجراحي، كذلك هنا ينبغي اعتبار النسبة الراجحة المشتملة على نفي وجود المرض، ومن ثم فإنه لا يجوز للأطباء أن يقدموا على فعل الجراحة في هذه الحالة .. والله تعالى أعلم. * * *

المبحث الثالث في (أحكام الإذن بفعل الجراحة)

المبحث الثالث في (أحكام الإذن بفعل الجراحة) تعتبر مرحلة الإذن بالجراحة المرحلة الثالثة من المراحل الممهدة للعمل الجراحي، فبعد توصل الطبيب إلى معرفة نوعية المرض الجراحي يحتاج إلى إذن المريض وموافقته على فعل الجراحة اللازمة، وذلك بناء على ما تقدم بيانه في مبحث شروط جواز الجراحة من اعتبار إذن المريض أو وليه شرطًا من شروط جواز فعلها (¬1). وتتعلق بهذه المرحلة جملة من الأحكام والمسائل الشرعية، منها ما يرجع إلى الشخص الآذن، ومنها ما يرجع إلى الشروط المعتبرة لصحة الإذن، ومنها ما يرجع إلى الأحوال المستثناة التي يسقط فيها اعتبار الإذن فيجوز للطبيب الجراح أن يقوم بفعل الجراحة دون إذن من المريض أو وليه. وقبل بيان هذه الأحكام والمسائل الشرعية يحسن التمهيد بتعريف الإذن، وبيان أركانه، وأنواعه، وذلك في الفروع الثلاثة التالية: ¬

_ (¬1) تقدم ص: (109).

الفرع الأول في (تعريف الإذن)

الفرع الأول في (تعريف الإذن) يستعمل الإذن لغة في الدلالة على معان، منها: الإباحة، فيقال: أذن له في الشيء، إذنًا، أي أباحه له (¬1). ومعناه هنا لا يختلف عن هذا المعنى، فالمراد بالإذن بالجراحة: إباحة فعلها للطبيب من قبل المريض أو وليه، فيخرج بالقيد الأخير إذن الشرع بفعلها، وذلك أن الجراحة تحتاج إلى إذنين: أحدهما: إذن الشرع - أي كون الجراحة مشروعة، وغير محرمة. والثاني: إذن المريض أو وليه. والمراد منهما هنا الثاني. ¬

_ (¬1) لسان العرب لابن منظور 13/ 9 - 14.

الفرع الثاني في (أركان الإذن بالجراحة)

الفرع الثاني في (أركان الإذن بالجراحة) يشتمل الإذن بالجراحة على أربعة أركان: الركن الأول: الشخص الآذن: والمراد به المريض، أو وليه. الركن الثاني: المأذون له: وهو المستشفى أو الطبيب الجراح ومساعدوه. الركن الثالث: المأذون به: وهو فعل الجراحة الطبية. الركن الرابع: الصيغة: وهي العبارة، أو ما يقوم مقامها مما يدل على إجازة فعل الجراحة للطبيب.

الفرع الثالث في (أنواع الإذن بالجراحة)

الفرع الثالث في (أنواع الإذن بالجراحة) ينقسم الإذن بالجراحة الطبية إلى نوعين: النوع الأول: الإذن المطلق: وصورته أن يجيز الآذن للطبيب فعل أيِّ جراحة يستدعيها علاجه، دون أن يقيده بجراحة معينة. ومن أمثلته أن يقول المريض للطبيب: (أذنت لك بفعل أي جراحة لعلاجي). وهذا النوع من الإذن يطلبه الأطباء في حال خوفهم من وجود أمراض جراحية أخرى يفاجئون بها بعد مباشرتهم للعمل الجراحي، فيحتاطون بأخذ هذا النوع من الموافقة المطلقة لكي يستطيعوا معالجتها دون تردد، أو خوف من المسئولية. النوع الثاني: الإذن المقيد: وصورته: أن يجيز الآذن للطبيب فعل جراحة معينة، ومن أمثلته أن يقول المريض للطبيب: (أذنت لك بفعل جراحة استئصال اللوزتين). وهذان النوعان معتبران شرعًا، لأنه لا فرق في الإذن على وجه

الإطلاق أو على وجه التقييد ما دام أن المأذون به جائز شرعًا. وبعد بيان هذه الفروع الثلاثة فإن الحديث عن الأحكام الشرعية المتعلقة بهذه المرحلة ينحصر في المطالب التالية:

المطلب الأول في (الآذن)

المطلب الأول في (الآذِن) يعتبر الآذن الركن الأول من أركان الإذن والكلام فيه ينحصر في أمرين: أحدهما: بيان المستحق للإذن بالجراحة. الثاني: بيان أهلية الآذن. وبيانهما يتضح في المقصدين التاليين: المقصد الأول: في شخصية الآذن. يستحق الإذن بفعل الجراحة أحد شخصين: الأول: المريض. الثاني: وليه. أولاً: إذن المريض: يعتبر المريض المرجع الأول في الإذن بفعل الجراحة إذا كان أهلاً قادرًا على إبداء الإذن، فلا يعتد بإذن أي شخص سواه متى ما تحقق فيه

هذان الوصفان: "الأهلية، والقدرة على إبداء الإذن". ومتى أذن على هذا الوجه وامتنع أولياؤه من القرابة كوالده، ووالدته، وأبنائه لم يلتفت إلى امتناعهم، وجاز للطبيب الجراح أن يقوم بفعل الجراحة رغم امتناعهم. وكذلك العكس، فلو امتنع المريض من الإذن بفعل الجراحة، وأذن غيره من أوليائه لم يجز للطبيب الجراح أن يقوم بفعلها استنادًا على إذنهم وموافقتهم. فهؤلاء الأولياء لا حق لهم في الإذن وعدمه، متى ما كان المريض أهلاً للإذن قادرًا على إبدائه سواء وافق أم لم يوافق. فإذا أذنوا أو امتنعوا في حال أهليته كان إذنهم، وامتناعهم لاغ شرعًا كإذن الأجنبي وامتناعه بجامع كون كل منهما فاقدًا للصفة الشرعية التي ينبني عليها اعتبار إذنه، وامتناعه. ثانيًا: إذن الأولياء: والنظر في إذن الأولياء يشتمل على أمرين: أحدهما: في اعتبار إذنهم. الثاني: في ترتيبهم. وبيان كل منهما فيما يلي:

(1) اعتبار إذن الأولياء:

(1) اعتبار إذن الأولياء: اعتبرت الشريعة الإسلامية الولاية على الغير في حال عجز ذلك الغير عن النظر في مصالحه، كما يظهر ذلك جليًا في اعتبار الولاية على الصبي والمجنون والسفيه (¬1). وهذا من رحمة الله تبارك وتعالى بعباده، ومن يسر شريعته التي تضمنت مصالح العباد في دينهم، ودنياهم، وآخرتهم. واعتبار لهذا الأصل نص بعض الفقهاء -رحمهم الله- على اعتبار الولاية على المريض في حال عدم أهليته للإذن بالجراحة، قال الإمام ابن قدامة -رحمه الله-: "وإن ختن صبيًا بغير إذن وليه، أو قطع سلعة من إنسان بغير إذنه، أو من صبي بغير إذن وليه فسرت جنايته ضمن، لأنه قطع غير مأذون فيه" (¬2) اهـ. فاعتبر ختان الصبي، وقطع السلعة منه بغير إذن وليه جناية، ومفهوم ذلك أنه إذا وقع بإذن الولي كان جائزًا، وهذا يدل على اعتبار إذن ولي المريض بالجراحة إذا كان المريض غير أهل بأن كان صبيًا. ¬

_ (¬1) قال الله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} سورة النساء (4) آية 5 وقال سبحانه {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} سورة النساء (4) آية 6 وقد نص الفقهاء -رحمهم الله- على مشروعية الحجر على الصغير والمجنون, وعندهم خلاف في الحجر على السفيه البالغ. انظر المصادر التالية: تكملة البحر الرائق للطوري 8/ 89، حاشية الدسوقي 3/ 346 نهاية المحتاج للرملي 4/ 342، 343، المغني والشرح الكبير لابن قدامة 4/ 508 - 510. (¬2) المغني والشرح الكبير لابن قدامة 6/ 121، وورد في الفتاوى الهندية أيضًا ما يشهد باعتبار الولاية على الصبي، وأن فقدها موجب لتضمين الخاتن. الفتاوى الهندية 5/ 357.

(2) ترتيب الأولياء:

وإذا كان الصبي الذي يوجد فيه نوع تمييز موجبًا للولاية، فمن باب أولى أن يوجبها الجنون الذي لا تمييز فيه. وهذه الولاية الشرعية على الصبي والمجنون تعتبر دليلاً واضحًا على سمو منهج الشريعة الإسلامية، ويسر أحكامها، لأن كلاً من الصبي والمجنون لو قيل باعتبار إذنهما لأدى ذلك إلى حصول الضرر والغبن لهما في الجراحة التي يأذنان بفعلها (¬1). ولو قيل إنه لا يجوز لهما أن يأذنا ولا يجوز لغيرهما أن يأذن عنهما لكونهما ليسا من أهل الإذن، ولابد من انتظار البلوغ والإفاقة لأدى ذلك إلى حصول الضرر والمشقة بهما، وقد يهلكان بالمرض الجراحي قبل البلوغ والإفاقة. فكان اعتبار الولاية منهجًا وسطًا موجبًا لحصول المصالح، ودفع المفاسد المترتبة على عدمها. (2) ترتيب الأولياء: تعتبر قرابة المريض أحق الناس بالإذن بفعل الجراحة اللازمة لمريضهم، وذلك لما جبلهم الله عز وجل عليه من العاطفة الصادقة التي توجب الحرص الشديد على نفع القريب، ودفع الضرر عنه، لذلك فإنه يغلب على الظن قيامهم برعاية مصلحة المريض بالإذن أو عدمه. وقرابة المريض تختلف مراتبهم، ودرجاتهم من حيث القرب، ¬

_ (¬1) لأن كلا من الصبي والمجنون جاهل بمصلحة نفسه ومضرتها، فقد يأذن بفعل جراحة على وجه يوجب الضرر به كان يأذن بقلع ضرسه أو ختانه في زمن يلحقه الضرر بالقلع والختن فيه.

لذلك فإن الحق في ولاية الإذن بالجراحة يعتبر بحسب القرابة وضعفها لوجود من هو أقرب ويعتبر الأبناء أحق القرابة كما هو معلوم من أصول الشرع، فإن التعصيب بالبنوة مقدم على التعصيب بالأبوة (¬1). ويلي الأبناء الوالدان إلا أن الأب أقوى ولاية من الأم كما أشار إلى ذلك بعض فقهاء الحنفية -رحمهم الله- حيث اعتبروا وصي الأب قائمًا مقام الأب في الإذن بختان الصبي، ولم يعتبروا لوصي الأم حقًا في الإذن به (¬2). ويقوم مقام الأب الجد وإن علا، ثم الإخوة الأشقاء ثم الإخوة لأب، ثم بنو الإخوة الأشقاء، ثم بنو الإخوة لأب ثم الأعمام الأشقاء ثم الأعمام لأب، ثم بنو الأعمام الأشقاء، ثم بنو الأعمام لأب. وهذا الترتيب اعتبره العلماء -رحمهم الله- في الإرث، وهو مبني على مراعاة قوة التعصيب (¬3). ونظرًا لكونه مبنيًا على مراعاة قوة القرب فإنه لا مانع من اعتباره في مسألة الإذن هنا لأن الترتيب فيها مبني على قوة القرب كالحال في الإرث، وقد اعتمد الفقهاء -رحمهم الله- في ترتيبهم القرابة في بعض المسائل على ترتيبهم في الميراث كما في مسألة تكفين الميت وغسله والصلاة عليه (¬4). ¬

_ (¬1) ولذلك يحجب الابن لأب حجب نقصان ولا يحجبه الأب، قال تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} سورة النساء (4) آية 11. (¬2) الفتاوى الهندية 5/ 357. (¬3) شرح الرحبية للمارديني 83. (¬4) المغني لابن قدامة 2/ 482، والمقنع لابن قدامة 1/ 270، 271، والمبدع لابن مفلح 2/ 220، 221، حواشي الشرواني والعبادي على التحفة 3/ 100، وشرح الخرشي على مختصر خليل 2/ 47.

وبناءً على هذا الترتيب فإنه لا يرجع إلى القريب الأبعد في حال وجود من هو أقرب للميت منه. فلا يرجع للأخ والعم وأبنائهما في حال وجود ابن المريض الأهل، أو أبوه وينبني على اعتبار هذا الترتيب سقوط موافقة ذلك القريب البعيد في حال امتناع من هو أقرب للمريض منه، وكذلك لو امتنع ذلك القريب البعيد ووافق من هو أقرب منه، فإنه تعتبر موافقة القريب، ويسقط امتناعه. * * *

المقصد الثاني: في أهلية الآذِن لابد في الشخص الآذن بالجراحة من أن تتوفر فيه أهلية الإذن بها حتى يحكم باعتبار إذنه، ويستوي في ذلك المريض نفسه، ووليه. وتتحقق هذه الأهلية المشترطة لاعتبار الإذن بوجود أمرين: أحدهما: البلوغ. والثاني: العقل. ومن ثم فإنه لا يعتبر إذن الصبي، ولا المجنون (¬1)، ولا السكران، فلا يجوز للطبيب أن يقدم على ختان الصبي مثلاً استنادًا على إذنه، وكذلك المجنون، والسكران. والواجب عليه أن يرجع إلى أوليائهم المُنصَّبين للنظر في مصالحهم، وقد أشار بعض الفقهاء -رحمهم الله- إلى اعتبار أهلية الشخص الآذن بالجراحة، ومنهم العلامة منصور بن إدريس البهوتي -رحمه الله- (¬2) وذلك في معرض بيانه لعلة عدم إجبار المريض على قلع ضرسه إذا امتنع منه، فقال -رحمه الله-: "لأن إتلاف جزء من ¬

_ (¬1) المراد بالجنون هنا من كان جنونه مطبقًا، أما من كان جنونه غير مطبق بأن كان يفيق أحيانًا ويجن أحيانًا فإنه يعتبر إذنه حال إفاقته دون حال جنونه. (¬2) هو الشيخ منصور بن يونس بن صلاح الدين بن إدريس البهوتي، ولد -رحمه الله- سنة 1000 من الهجرة وهو من أجلاء فقهاء الحنابلة -رحمهم الله- وتوفي بالقاهرة سنة 1051 هـ، وله مؤلفات منها: كشف القناع، ودقائق أولي النهى لشرح المنتهى، والروض المربع. معجم المؤلفين، عمر كحالة 13/ 22، 23.

الآدمي محرم في الأصل، وإنما أبيح إذا صار بقاؤه ضررًا، وذلك مفوض إلى كل إنسان في نفسه إذا كان أهلاً لذلك" (¬1) اهـ. فقوله -رحمه الله-: "إذا كان أهلاً لذلك" شرط راجع إلى المريض الآذن ومفهومه أنه إذا لم يكن أهلاً لم يعتد بإذنه. وقال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: " ... فإن كان بالغًا عاقلاً لم يضمنه لأنه أسقط حقه بالإذن فيه، وإن كان صغيرًا ضمنه، لأنه لا يعتبر إذنه شرعًا ... " (¬2) اهـ. فأشار -رحمه الله- إلى أهلية الآذن بذكر شرطيها: البلوغ، والعقل. ثم فرع على ذلك سقوط إذن الصبي وعدم اعتباره شرعًا. وإذا تقرر أن المريض لا يعتد بإذنه في حال عدم أهليته لذلك، فإنه ينبني على ذلك عدم اعتبار إذن الولي الفاقد للأهلية من باب أولى وأحرى، لأنه بدل عنه. * * * ¬

_ (¬1) كشف القناع للبهوتي 4/ 10. (¬2) تحفة المودود لابن القيم ص 15.

المطلب الثاني في (شروط الإذن)

المطلب الثاني في (شروط الإذن) يشترط لصحة الإذن بفعل الجراحة الطبية الشروط الستة التالية: الشرط الأول: أن يكون الإذن صادرًا ممن له الحق، وهو الشخص المريض، أو من يقوم مقامه كوليه في حال عدم أهليته أو من له الولاية العامة كالحاكم (¬1). ومن ثم فإنه لا يعتبر إذن أي شخص لم يعتبر الشرع إذنه عن ذلك المريض فمثلاً: إذا أذن أخ المريض بفعل الجراحة بأخيه حال أهلية المريض، وعدم موافقته، فإن إذنه يعتبر ساقطًا لكونه غير مستند على أصل شرعي يعتبره، فالحق في هذه الحالة مختص بالمريض وحده. الشرط الثاني: أن تتحقق أهلية الإذن في كل من المريض، ووليه، وعليه فإنه لا يصح إذن صبي، ولا مجنون، ولا سكران، كما تقدم بيانه في المطلب السابق (¬2). ¬

_ (¬1) المغني والشرح الكبير لابن قدامة 6/ 121. (¬2) انظر ص (250).

الشرط الثالث: أن يكون الآذن مختارًا في حال صدور الإذن منه فلا يصح إذن المكره لأنه لا يعتد بقوله الذي أكره عليه (¬1). الشرط الرابع: أن يشتمل الإذن على إجازة فعل الجراحة، لأن ذلك هو المقصود من الإذن. فلو اشتمل على إجازة غيرها كالعلاج بالدواء، أو إجازة مرحلة منها كمرحلة الفحص فإنه لا يعتبر موجبًا لإجازة فعل الجراحة. وعلى هذا فإن اعتذار الطبيب الجراح بكون المريض طلب منه علاجه بالدواء وأن ذلك يتضمن الإذن بالجراحة يعتبر اعتذارًا مردودًا، لعدم اتحادهما لفظًا، ومعنى، فالتداوي بالدواء شيء، والتداوي بالجراحة شيء، والجراحة أخطر من الدواء في الغالب، ولذلك يحتاط لها الأطباء من ناحية خوفهم من المسئولية أكثر من احتياطهم للدواء، وإن كان كلاً منهما يتضمن المخاطر التي تهدد حياة المريض فلذلك لا يعتبر الإذن بالأخف ضررًا إذنًا بما هو أخطر منه وأشد. ¬

_ (¬1) الأصل في عدم اعتبار قول المكره الذي أكده عليه قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} سورة النحل (16) آية 106. فقد دلت هذه الآية الكريمَة على أن من أكره على قول ما يوجب الكفر، وقلبه مطمئن بالإيمان أنه لا يعتبر كافراً، فاعتبرها العلماء -رحمهم الله- أصلاً في عدم مؤاخدة المكره بقوله الذي أكره عليه، لأنه إذا كان الإكراه موجبًا لسقوط المؤاخذة فيما هو من أصول الدين فإنه من باب أولى أن يكون مسقطًا لها فيما هو من فروعه. الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/ 181، 182.

الشرط الخامس: أن تكون دلالة الصيغة على إجازة فعل الجراحة صريحة أو قائمة مقام الصريح. فمن أمثلة الصيغة المشتملة على الإذن الصريح قول المريض للطبيب: أذنت لك بفعل الجراحة، أو افعل لي جراحة كذا، أو أجزت لك فعل جراحة كذا ونحو ذلك. ومن أمثلة الصيغة المشتملة على الإذن الذي يقوم مقام اللفظ الصريح: الإشارة المفهومة، كأن يهز المريض رأسه علامة على رضاه ونحو ذلك من الأفعال الدالة على إذنه بفعل الجراحة. الشرط السادس: أن يكون المأذون به مشروعًا، فإذا لم يكن كذلك، بأن أذن له بفعل جراحة محرمة كجراحة الوشر، وتغيير الجنس ونحوها فإنه لا يصح إذنه ولا يعتبر شرعًا. قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- عند بيانه لأدلة وجوب الختان: " ... فإنه لا يجوز له (¬1) الإقدام على قطع عضو لم يأمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بقطعه ولا أوجب قطعه، كما لو أذن له في قطع أذنه، أو أصبعه، فإنه لا يجوز له ذلك، ولا يسقط الإثم عنه بالإذن ... " (¬2) اهـ. ¬

_ (¬1) أي الخاتن. (¬2) تحفة المودود لابن القيم 131.

فبين -رحمه الله- أن الإذن بقطع العضو الذي لم يأمر الشرع بقطعه لا يبيح للقاطع فعل القطع، ثم أسقط اعتبار الإذن ورتب الإثم على فعل المأذون به، لكون ذلك المأذون به من جنس المحرم شرعًا. فدل هذا على أن الإذن يشترط في صحته واعتباره أن يتضمن الجراحة المأذون بفعلها شرعًا دون غيرها. فهذه هي مجمل الشروط التي ينبغي توفرها لاعتبار إذن المريض بفعل الجراحة الطبية. * * *

المطلب الثالث في (حكم الإذن بالنسبة للمريض)

المطلب الثالث في (حكم الإذن بالنسبة للمريض) يستحب للمريض إذا طلب منه الإذن بفعل الجراحة المستوفية للشروط الشرعية أن يأذن بها. وهذا الحكم مبني على الأصل الدال على استحباب التداوي لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من التداوي، والأمر به، وإقراره (¬1)، وهو عليه الصلاة والسلام سيد المتوكلين، وإمام المتقين، ولو كان الأفضل في تركه لتركه - صلى الله عليه وسلم -. وقد ثبت في حديث أسامة بن شريك رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - لما سأل الأعراب: أنتداوى؟ قال: "تداووا فإن الله تعالى لم يضع داءً إلا وضع له دواء .. " (¬2). وهذا الأمر منه عليه الصلاة والسلام فيه دليل على استحباب التداوي والندب إليه، وهو مصروف عن ظاهره من الوجوب إلى الندب لثبوت الأحاديث الصحيحة عنه - صلى الله عليه وسلم - التي دلت على عدم وجوب التداوي (¬3). ¬

_ (¬1) قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "كان من هديه - صلى الله عليه وسلم - فعل التداوي في نفسه والأمر به لمن أصابه مرض من أهله، وأصحابه" اهـ. الطب النبوي 5، وقد تقدم ذكر بعض الأحاديث التي تشهد بذلك في مبحث أدلة المشروعية. (¬2) تقدم تخريجه انظر ص (92). (¬3) من هذه الأحاديث ما ثبت في الصحيح من حديث عبد الله بن عباس -رضي الله =

لهذا فإنه يستحب للمريض إذا طلب منه الإذن بالجراحة أن يأذن ويتداوى بها. وإذا ثبت أن الأصل في الإذن بالجراحة من قبل المريض أنه مستحب ومندوب إليه فإنه يرد السؤال عن حكم مسألة مهمة يواجهها المرضى والأطباء في كثير من الأمراض الجراحية الخطيرة، والتي يكون المريض فيها مهددًا بالموت أو تلف عضو من أعضائه إذا لم يتم إسعافه بالجراحة اللازمة. هل امتناع المريض من الإذن بالجراحة في هذه الحالة جائز له، أم لا بحيث يعتبر آثمًا لو امتنع؟. وبعبارة أخرى هل يجب عليه الإذن بفعل الجراحة في هذه الحالات الضرورية أم لا؟. وإذا قلنا بوجوب الإذن عليه وامتنع من الإذن، ومات متأثراً بذلك المرض الجراحي هل يعتبر في حكم القاتل لنفسه أم لا؟. وبيان حكم المسألتين يتضح في الفرعين التاليين: ¬

_ = عنهما- في قصة المرأة السوداء المجنونة التي اشتكت إلى النب - صلى الله عليه وسلم - ما بها فقال لها: "إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك؟ فقالت: أصبر" رواه البخاري في صحيحه 4/ 3. فخيرها بين الصبر والشفاء فاختارت الصبر ولم ينكر عليها وكذلك ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح من حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- في صفات الذين يدخلون الجنة بغير حساب ومنها: "لا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون". رواه البخاري في صحيحه 4/ 11، 12، فاعتبر توكلهم على الله وتركهم التداوي بالكي والرقية ممدوحًا ورتب عليه الثواب، ولو كان التداوي واجبًا لكانوا مستحقين لخلاف ذلك. انظر فتح الباري لابن حجر 10/ 212. وقد نص بعض الفقهاء -رحمهم الله- على استحباب التداوي وحمل الأمر في هذا الحديث على الندب ومنهم شيخ الإسلام زكريا الأنصاري -رحمه الله-. انظر أسنى المطالب للأنصاري 1/ 295.=

الفرع الأول: هل يجب على المريض الإذن بالجراحة الضرورية؟

الفرع الأول: هل يجب على المريض الإذن بالجراحة الضرورية؟ ذهب بعض الفقهاء المعاصرين إلى أنه يجب على المريض التداوي بالجراحة إذا خاف هلاك نفسه، أو تلف عضو من أعضائه، وأنه إذا امتنع من التداوي في هذه الحالة فإنه يعتبر آثمًا وعاصيًا. واشترط لذلك وجود غلبة الظن بحصول الشفاء بناءً على شهادة الطبيب المسلم العدل الحاذق المتخصص فيما يقوم به من فروع علم الطب (¬1). واستدل صاحب هذا القول بعبارات بعض فقهاء الشافعية -رحمهم الله-، والتي تشهد باعتبار هذا القول، ففي حواشي التحفة ما نصه: "وفي الأنوار (¬2) عن البغوي في باب ضمان الولاة أنه إذا علم الشفاء في المداواة وجبت ا. هـ. ولعل محله الشفاء مما يخاف منه التلف ونحوه لا نحو بطء البرء" (¬3) اهـ. ¬

_ = كما نص الإمام النووي -رحمه الله- في الروضة على الاستحباب. روضة الطالبين 2/ 96. ونسب شيخ الإسلام -رحمه الله- القول بعدم وجوب التداوي إلى جمهور العلماء. انظر مجموع الفتاوى 24/ 226 وما بعدها. (¬1) نص على هذا القول الشيخ إبراهيم اليعقوبي -رحمه الله- انظر كتابه: شفاء التباريح والأدواء 85، 86، وأشار الشيخ جاد الحق علي جاد الحق إلى وجوب الجراحة والنزول عند رغبة الأطباء المختصين إذا قالوا بذلك. انظر فتواه في: الفتاوي المصرية 10/ 3499. (¬2) أي كتاب الأنوار للأردبيلي. انظر شفاء التباريح لليعقوبي 86. (¬3) شفاء التباريح والأدواء لليعقوبي 85، 86 وحواشي الشرواني والعبادي 3/ 183.

وهذا القول يتفق مع ما دلت عليه النصوص الشرعية في الكتاب والسنة فقد قال سبحانه ناهياً عباده: {وَلا تُلْقُوا بِأيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (¬1)، ولاشك في أن المريض إذا امتنع من الإذن كان ملقيًا بنفسه، وبعضوه إلى الهلاك والتلف لأن الأطباء المختصين قد أعلموه بالعاقبة التي ينتهي إليها بسبب ذلك المرض الجراحي الخطير. فامتناعه من الإذن بها يعتبر مانعًا من إنقاذه، وسببًا يوجب هلاكه وتلفه فحرم عليه فعله من هذا الوجه. وقد أكدت السنة النبوية هذا المعنى، ففي الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن عوف- رضي الله عنه-، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الطاعون: "إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه" (¬2) فنهاهم - صلى الله عليه وسلم - عن دخول الأرض التي بها الطاعون، وفي هذا دليل على أنه ينبغي على المسلم أن يتعاطى الأسباب الموجبة لنجاته من الهلاك بإذن الله تعالى، وأن يبتعد عن ضدها (¬3). ومعلوم أن الإذن بالجراحة في هذه الحالة يعتبر من أهم الأسباب الموصلة بإذن الله تعالى لنجاة المريض -في الغالب- من الهلاك والتلف. وامتناعه من الإذن بها يعتبر أيضًا من أهم الأسباب المعينة على ¬

_ (¬1) سورة البقرة (2) آية 195، واستشهد بهذه الآية الشيخ جاد الحق علي جاد الحق على وجوب الإذن بالجراحة إذا شهد الأطباء المختصون بلزومها. انظر الفتاوى المصرية 10/ 3499. (¬2) رواه البخاري في صحيحه 4/ 15، ومسلم 4/ 27. (¬3) قال الإمام النووي- رحمه الله- في شرح هذا الحديث: " ... في هذا الحديث الاحتراز عن المكاره، وأسبابها .. " اهـ. شرح صحيح مسلم للنووي 14/ 207.

هلاكه وتلفه في الغالب. فوجب على المريض فعل السبب الأول بالإذن والسماح، وحرم عليه فعل الثاني بامتناعه وذلك صيانة للأرواح والأجساد من الهلاك والتلف المتوقع. وبناء عليه فإنه تعتبر هذه الحالات الضرورية مستثناة من الأصل الموجب لاستحباب الإذن بالجراحة، ويعتبر الإذن فيها واجبًا على المريض إذا تركه مع علمه بحصول الشفاء بإذن الله تعالى بالجراحة فإنه يعتبر آثمًا شرعًا. * * *

الفرع الثاني: إذا امتنع المريض من الإذن ومات بسبب المرض الجراحي هل يعتبر قاتلا لنفسه؟

الفرع الثاني: إذا امتنع المريض من الإذن ومات بسبب المرض الجراحي هل يعتبر قاتلاً لنفسه؟ لا يعتبر المريض قاتلاً لنفسه لو امتنع من الإذن بالجراحة، ومات بسبب المرض الجراحي، وذلك لأن الشفاء بالجراحة من ذلك المرض المهلك أمر غير مقطوع به، ومن هنا خالف من ترك الطعام والشراب حتى هلك (¬1). وكذلك خالف من امتنع عن أكل الميتة في المخمصة (¬2)، لأن الطعام والشراب مقطوع بنفعه في دفع المخمصة بإذن الله تعالى، بخلاف الجراحة فإنها محتملة ونفعها مبني على الغالب في بعض أحوالها ... والله تعالى أعلم. * * * ¬

_ (¬1) قال الإمام ابن عابدين الحنفي- رحمه الله-: " .. فإن ترك الأكل والشرب حتى هلك فقد عصى، لأن فيه إلقاء النفس إلى التهلكة، وأنه منهي عنه في محكم التنزيل، بخلاف من امتنع عن التداوي حتى مات إذ لا يتيقن بأنه يشفيه"اهـ. حاشية ابن عابدين 5/ 296، ومثله في الفتاوى الهندية 5/ 255. (¬2) ذهب بعض أهل العلم -رحمهم الله- إلى أن المضطر إذا لم يأكل ويشرب ما يقيم به نفسه ولو كان ميتة أو ماء نجساً فإنه يعتبر قاتلاً لنفسه، ويدخل النار بسبب ذلك، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-. انظر مجموع الفتاوى 21/ 80، وأحكام القرآن للهراس 1/ 74. واكتفى الإمام ابن قدامة- رحمه الله- باعتباره ملقيًا بنفسه إلى التهلكة. المغني والشرح الكبير 3/ 504.

المطلب الرابع في (الحالات المستثناة التى يسقط فيها وجوب الإذن)

المطلب الرابع في (الحالات المستثناة التى يسقط فيها وجوب الإذن) هناك حالتان يجوز فيهما للطبيب الجراح أن يقوم بفعل الجراحة الطبية دون إذن مسبق من المريض أو وليه وهما: الحالة الأولى: أن يكون المريض مهددًا بالموت أو تلف عضو أو أعضاء من جسده، إذا لم يتم إسعافه بالجراحة الطبية اللازمة فورًا، ولا تسمح حالته الصحية بأخذ الموافقة. الحالة الثانية: أن يكون المرض الجراحي من الأمراض الوبائية التي يخشى من انتشارها في المجتمع. وبيان هاتين الحالتين يتضح فيما يلي: (1) أن يكون المريض مهددًا بالموت أو تلف عضو أو أعضاء من جسده: وهذه الحالة كثيرًا ما تحدث في بعض الأمراض الجراحية التي تصل إلى درجة الخطر مثل: التهاب الزائدة الدودية إذا بلغ إلى درجة الخوف من انفجار الزائدة، فإن المريض يكون مهددًا بالموت إذا لم يتم

إسعافه بالجراحة اللازمة فورًا (¬1). وأما الخوف على العضو أو الأعضاء من التلف فهو كثيرًا ما يحدث في جراحات الحوادث التي تصيب أطراف الإنسان، وهكذا جراحات الحروب التي يخشى فيها على العضو أو الأعضاء من التلف. وفي جميع هذه الصور يكون المريض في حالة لا يستطيع معها إبداء الموافقة، ويتعذر الاتصال على قريبه أو معرفته فحينئذ يقع الأطباء بين خيارين: أحدهما: الانتظار إلى إفاقة المريض، أو حضور وليه، وهذا الخيار يتعذر قبوله طبيًا لغلبة الظن بهلاك المريض وموته، أو تلف عضوه أو أعضائه. وأما الخيار الثاني: فهو الإقدام على فعل الجراحة الطبية مباشرة دون إذن المريض ووليه. وهذا الخيار هو المتفق مع أصول الشرع التي دعت إلى إحياء الأنفس بتعاطي الأسباب الموجبة لإنقاذها من الهلاك والتلف، واعتبرته من الضروريات. وهذا النوع من الجراحة يعتبر ضروريًا كما تقدم بيانه عند الكلام ¬

_ (¬1) السلوك المهني للأطباء، د. التكريتي 256.

على حكم الجراحة العلاجية، وأنه يجب على الطبيب الجراح فعله (¬1)، فإذا وجد الإذن المسبق فلا إشكال، وأما إذا لم يوجد -كما هو الحال هنا- فإنه يتعذر بغلبة الظن بموافقة المريض لو علم بحاله، لأن الغالب في الإنسان أن يكون حريصًا على نجاة نفسه وسلامة أعضائه. ثم إننا نقول إن الإذن واجب في حال الإمكان، وأما في حال التعذر والخوف على النفس والأطراف فإنه يسقط الحكم بوجوبه، ويبقى وجوب إنقاذ النفس والأطراف على الأطباء كما هو فيلزمهم القيام بواجبهم. وقد جرت العادة في بعض المستشفيات أن توجد لجنة مكونة من عدد من الأطباء المختصين يتولون النظر في مثل هذه الحالات، والحكم فيها بوجوب التدخل الفوري أو الانتظار حسبما تقتضيه مصلحة المريض ودرجة خطورة مرضه. ووجود هذه اللجنة أمر مهم جدًا لقطع التهمة عن الأطباء بحرصهم على فعل الجراحة طلبًا لمصلحتهم الذاتية. فشهادة هؤلاء الأطباء من أهل الخبرة تعتبر مستندًا شرعيًا ضد دعوى التهمة إذا وجهت للطبيب الجراح في حال قيامه بفعل هذا النوع من الجراحة المستعجلة الضرورية. (2) أن يكون المرض الجراحي من الأمراض الوبائية التي يخشى من انتشارها في المجتمع: وهذه الحالة تقع في بعض الأمراض الجراحية المعدية، وقد صح ¬

_ (¬1) المستصفى للغزالي 1/ 287، الموافقات للشاطبي 2/ 10.

عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "فر من المجذوم فرارك من الأسد" (¬1)، فأثبت انتقال العدوى وتأثيرها بقدرة الله عز وجل (¬2) وهو أمر تشهد به العادة والتجربة، وقد ثبت طبيًا انتقال المرض من المصاب به إلى غيره عن طريق المخالطة، سواء في المأكل أو المشرب، أو الملبس ونحو ذلك (¬3). لهذا فإن المريض إذا كان مصابًا بمرض جراحي معدي فإنه يهدد المجتمع، ومن ثم يصبح الحق في إزالة هذ المرض المعدي راجعًا إلى مصلحة المجتمع، فإذا امتنع المريض من الموافاقة على إجراء هذا النوع من الجراحة كان امتناعه واقعًا في غير موقعه لكونه متضمنًا الضرر بالغير. ومن قواعد الفقه الإسلامي "أن الضرر يزال" (¬4). ولو قيل: إن المريض إذا امتنع من الإذن بها إنما هو ممتنع لخوف ¬

_ (¬1) رواه البخاري في صحيحه 4/ 12. (¬2) اختلفت الأحاديث الواردة في شأن العدوى، فظاهر هذا الحديث أنها ثابتة وأنه ينبغي على الإنسان أن يجتنب مخالطة المرضى المصابين بالأمراض المعدية. وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا عدوى ولا طيرة" الثابت في الصحيح يدل على نفيها، ولذلك اختلف العلماء -رحمهم الله- في حكمها والصحيح الذي عليه الجمهور -رحمهم الله- أنه لا تعارض بين الحديثين وأن المقصود بحديث "لا عدوى" نفي ما كانت الجاهلية تزعمه، وتعتقده أن المرض والعاهة تعدي بطبعها لا بفعل الله تعالى، وأما حديث: "لا يورد ممرض على مصح" فإنه يشتمل على الإرشاد إلى مجانبة ما يحصل الضرر عنده في العادة بفعل الله تعالى وقدره، وهذا الجمع أشار إليه النووي -رحمه الله- ونسبه للجمهور. والله تعالى أعلم. شرح صحيح مسلم للنووي 14/ 213، 214، وصحيح البخاري 4/ 12، 13. (¬3) الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 5/ 934. (¬4) الأشباه والنظائر للسيوطي 83، والأشباه والنظائر لابن نجيم 85.

الضرر على نفسه، ومن قواعد الفقه "الضرر لا يزال بالضرر" (¬1) فلِمَ يحكم بجواز فعل الجراحة على هذا الوجه؟. لقلنا: إنه تعارض في هذه المسألة ضرران، فوجب النظر في مقدار كل منهما طلبًا لترجيح أحدهما على الآخر للقاعدة الشرعية التي تقول: "إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما" (¬2). فوجدنا أن ضرر المريض متعلق بالفرد، وضرر ترك المرض بدون علاج متعلق بالمجتمع، ومعلوم أن ضرر الجماعة مقدم على ضرر الفرد إعمالاً للقاعدة التي تقول: "يحتمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام" (¬3). ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر للسيوطي 86، والأشباه والنظائر لابن نجيم 87. (¬2) الأشباه والنظائر للسيوطي 87، والأشباه والنظائر لابن نجيم 89. (¬3) الأشباه والنظائر لابن نجيم 87، وقواعد الفقه للمجددي 139، وشرح القواعد الفقهية للزرقاء 143.

المبحث الرابع في (أحكام التخدير الجراحي)

المبحث الرابع في (أحكام التخدير الجراحي) تعتبر مرحلة التخدير المرحلة الرابعة من المراحل الممهدة للعمل الجراحي، وهي المرحلة التي يتم بها تهيئة البدن للجراحة اللازمة، وتتسم بالخطورة نظرًا لما يسببه التخدير في بعض الأحيان من مضاعفات خطيرة قد تنتهي بوفاة المريض. وقبل بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بهذه المرحلة يحسن إعطاء فكرة موجزة يتم بها تصور مهمة التخدير حتى يتسنى بعد ذلك بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بها وذلك في الفرعين التاليين:

الفرع الأول: في تعريف التخدير

الفرع الأول: في تعريف التخدير التخدير في اللغة: مأخوذ من الخدر، ومعناه الكسل والفتور، فيقال: خدرت الرجل تخدر أي فترت (¬1). وأما في الاصطلاح الطبي الحديث فهو: "علم هدفه معرفة وتطبيق الوسائط التي من شأنها أن تحدث عند المريض زوال حس جزئي أو تام بقصد إجراء تدخل جراحي" (¬2). فالمراد بالوسائط المواد المخدرة التي يتم بواسطتها تخدير المريض سواء كانت طيارة، أو سائلة، أو جامدة. والمراد بعبارة: "زوال حس جزئي أو تام" الإشارة إلى نوعي التخدير وهما التخدير العام والموضعي. والمراد بعبارة "بقصد إجراء تدخل جراحي" بيان سبب التخدير وموجبه، وهو العمل الجراحي الذي يتطلب سكون المريض وعدم حركته، حتى يتسنى للطبيب الجراج أن يؤدي مهمته على الوجه المطلوب دون حدوث أي مقاومة من الشخص المريض. * * * ¬

_ (¬1) لسان العرب لابن منظور 4/ 230، 234، وتاج العروس للزبيدي 3/ 170، 171. (¬2) التخدير الموضعي في جراحة الفم والأسنان. د. شفيق الأيوبي 7.

الفرع الثاني: في أنواع التخدير الجراحي

الفرع الثاني: في أنواع التخدير الجراحي الأول: التخدير العام أو الكلي. والثاني: التخدير الموضعي (¬1). وبيان كل منهما فيما يلي: (1) التخدير العام: وهو الذي يؤثر في الجملة العصبية المركزية، ويسبب ضياع الإدراك، وفقدان الحس التام في سائر الجسم، فينتقل فيه الشخص المخدر إلى حالة النوم العميق وعدم الوعي الكامل، ويحصل له ارتخاء عضلي تام (¬2). وتسمى الأدوية التي تحدثه بالأدوية المخدرة العامة كالكلورفورم (¬3) والأثير (¬4) .................................. ¬

_ (¬1) التخدير: غوردون أوستلر، روجر برايس 1، ترجمة أعضاء هيئة التدريس بقسم التخدير والإنعاش بجامعة دمشق بإشراف. د. برهان العابد. التخدير الموضعي. د. شفيق الأيوبي 7، العمليات الجراحية وجراحة التجميل محمد رفعت 26، انظر الشفاء بالجراحة د. محمد فاعور ص 312 - 314. (¬2) التخدير الموضعي د. الأيوبي 7، الشفاء بالجراحة د. محمد فاعور ص 312. (¬3) الكلورفورم: سائل طيار له رائحة قوية مقبولة، ويحتوي على ذرة كربون، وذرة أيدروجين، وثلاث ذرات كلور/الموجز: د. محمود مرسي، د. سحر كامل 142. (¬4) الأثير: سائل طيار شديد الاشتعال ويستعمل في التخدير. المصدر السابق. الطب =

المرحلة الأولى:

وأول أكسيد الأزوت (¬1). ويعطى هذا النوع من التخدير في معظم الحالات الجراحية في البطن والرقبة والرأس والصدر وهو ملائم لأكبر عدد من العمليات الجراحية (¬2). ويتم هذا النوع من التخدير على مرحلتين وهما: المرحلة الأولى: تمهيدية، وتقتضي حقن المريض عن طريق الوريد بالعقاقير المنومة والتي تسبب الارتخاء الكامل للعضلات. المرحلة الثانية: تكميلية، وتقتضي إعطاء المريض غازات منومة مصحوبة بالأوكسجين الضروري لحياة خلايا جسمه، وتعطى هذه الغازات بواسطة أجهزة مصممة خصيصًا لهذا الغرض، ويحدد الطبيب المخدر من خلالها النسب التي يراها مناسبة أو ضرورية لكل حالة (¬3). وأما بالنسبة للطرق التي يتم عن طريقها إيصال المواد المخدرة إلى الجسم لكي تقوم بمهمة التخدير العام فهي أربعة طرق: الاستنشاق، والحقن في الوريد، والحقن في العضلات، وإدخالها عن طريق ¬

_ = الشرعي النظري والعملي. د. محمد عبد العزيز سيف النصر 416. (¬1) التخدير الموضعى. د. الأيوبي 7. (¬2) التخدير: غوردون أوستلر وروجر برايس 1، الشفاء بالجراحة. د. محمد فاعور 312. (¬3) الشفاء بالجراحة د. محمد فاعور ص312.

(2) التخدير الموضعي:

المستقيم "فتحة الشرج" (¬1). (2) التخدير الموضعي: وهو الذي يسبب زوال الحس في منطقة محدودة من الجسم. وتسمى الأدوية التي تحدثه بالأدوية المخدرة الموضعية كالستوفائين، والنوفوكائين، والكوكائين (¬2). ويشمل هذا النوع كلا من التخدير النصفي أو الشوكي، والتخدير الجزئي، والتخدير الموضعي لاستئصال الثآليل، والشامات، والأكياس الدهنية ونحوها من الجراحات البسيطة. ويعطى هذا النوع من التخدير في حالات جراحة الشرج والبروستات، وبعض الفتوق وبعض جراحات الأطراف السفلى، وهو يتفاوت في المدة الزمنية على حسب نوعية الجراحة وما تستغرقه من الزمن لإجرائها (¬3). ¬

_ (¬1) التخدير الموضعي د. شفيق الأيوبي 8، التخدير: غوردون أوستلر، روجر برايس 2 - 4، الجراحة العامة والخاصة والتخدير. د. محمد بدوي 1. (¬2) التخدير الموضعي. د. شفيق الأيوبي 8، والستوفائين: عبارة عن كلوريدات الأميلئين وتسمى أيضًا سيدوكائين، وأميلوكائين، وهي بلورات صغيرة لامعة تنحل في الماء والكحول. التخدير الموضعي. د. الأيوبي 129. والنوفوكائين: ويعرف في كثير من بلدان العالم بالبروكائين وهو من أشباه القلويات المركبة صناعيًا. المصدر السابق 125 - 127. والكوكائين: مادة مخدرة تؤخذ من شجر الكوكا الموجود في بلاد البيرو، وبوليفيا في أمريكا الجنوبية، وهي تلعب دورًا كبيرًا في التخدير الموضعي، وبقيت مدة طويلة وحيدة في استعمالها، ويصنف الكوكائين كيمائيًا على أنه منشط وليس مخدرًا لما يسببه للشخص من النشاط. المصدر السابق 120، المخدرات. د. محمد إبراهيم الحسن ص 57. (¬3) الشفاء بالجراحة. د. محمد فاعور ص 313.

ويتم إيصال المواد المخدرة الموضعية عن طريق الحقن في ناحية معينة من الجسم، فتتخدر بذلك النهايات العصبية فيحدث التخدير الموضعي، أو تحقن في مسرى الأعصاب التي توزع الحس على منطقة أو ناحية ما من نواحي البدن، فيحدث التخدير الناحي, كما يمكن استعمال بعض المواد المخدرة الموضعية مسًا أو رذاذًا على الناحية التي يراد إجراء التدخل الجراحي فيها (¬1). وبعد بيان هذه اللمحة الموجزة عن مهمة التخدير يحسن الشروع في بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بهذه المرحلة وهي تنحصر في المطالب التالية: المطلب الأول: في موقف الشريعة الإسلامية من المخدرات. المطلب الثاني: في مشروعية التخدير الجراحي. المطلب الثالث: في ضابط النوعية والقدر والطريقة. * * * ¬

_ (¬1) التخدير الموضعي. د. الأيوبي ص 7، 8.

المطلب الأول في (موقف الشريعة الإسلامية من المخدرات)

المطلب الأول في (موقف الشريعة الإسلامية من المخدرات) لم تكن المخدرات الموجودة في عصرنا الحاضر معروفة عند سلف الأمة المتقدمين -رحمهم الله- لذلك فإنهم لم يتكلموا على حكمها ولم ينقل عن أحد منهم القول بجوازها أو حرمتها. وفي أواخر القرن السادس الهجري ظهرت الحشيشة، وذلك حينما غزا التتار بلاد المسلمين فجلبوها معهم، فابتلي فساق المسلمين بأكلها، وانتشرت بينهم وعرفها المسلمون. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: " ... وهذه الحشيشة فإنه أول ما بلغنا أنها ظهرت بين المسلمين في أواخر المائة السادسة وأوائل السابعة حيث ظهرت دولة التتر، وكان ظهورها مع ظهور سيف جنكسخان ... " (¬1) اهـ. ولما ظهرت وعرفها المسلمون تكلم العلماء -رحمهم الله- عليها وبينوا حرمة أكلها واستعمالها، وانعقد إجماعهم على تحريم المسكر منها. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام 34/ 205. قال الحافظ الذهبي -رحمه الله-: "والحشيشة تشرب وتؤكل وإنما لم يذكرها العلماء لأنها لم تكن على عهد السلف الماضين، وإنما حدثت في مجيء التتار إلى بلاد المسلمين "اهـ. الكبائر ص 95. وقال الشيخ محمد علي حسين المالكي -رحمه الله- في كتابه تهذيب الفروق: "اعلم أن النبات المعروف بالحشيشة لم يتكلم عليه الأئمة المجتهدون، ولا غيرهم من علماء السلف لأنه لم يكن في زمنهم، وإنما ظهر في أواخر المائة السادسة وانتشر في دولة التتار" اهـ. تهذيب الفروق 1/ 216.

قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "أكل هذه الحشيشة الصلبة حرام، وهي من أخبث الخبائث المحرمة، وسواء أكل منها قليلاً أو كثيرًا، لكن الكثير المسكر منها حرام باتفاق المسلمين" (¬1) اهـ. وقال الإمام القرافي (¬2) -رحمه الله-: "الثاني: النبات المعروف بالحشيشة التي يتعاطها أهل الفسوق اتفق أهل العصر على المنع منها، أعني كثيرها المغيب للعقل" (¬3) اهـ. وقد ورد التصريح بحرمة استعمال الحشيشة وغيرها من المخدرات المسكرة في كتب الفقهاء -رحمهم الله- على اختلاف مذاهبهم. قال الشيخ محمد علاء الدين الحصكفي الحنفي -رحمه الله- (¬4): "ويحرم أكل البنج (¬5) والحشيشة والأفيون (¬6) لأنه مفسد ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام 34/ 213. (¬2) هو الإمام شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن بن عبد الله الصنهاجي المالكي المشهور بالقرافي ولد -رحمه الله- سنة 626 هـ، كان إمامًا في فنون عديدة منها الفقه، والأصول، والتفسير، توفي -رحمه الله- بمصر سنة 684 هـ وله مصنفات منها: الذخيرة في الفقه، التنقيح في أصول الفقه، الاستغناء في أحكام الاستثناء. الديباج المذهب لابن فرحون ص 62 - 67، معجم المؤلفين لعمر كحالة 1/ 158، 159. (¬3) الفروق للقرافي 1/ 215، 216، وممن حكى الإجماع على حرمتها الحافظ ابن حجر الهيثمي في الفتاوى الكبرى الفقهية 4/ 229. (¬4) هو الإمام علاء الدين محمد بن علي بن محمد الحصكفي الحنفي ولد -رحمه الله- بدمشق سنة 1025 هـ، فقيه أصولي، محدث، مفسر، نحوي، توفي -رحمه الله- بدمشق 1088 هـ، وله مصنفات منها: إفاضة الأنوار شرح المنار في أصول الفقه، والدر المختار شرح تنوير الأبصار، شرح القطر في النحو. معجم المؤلفين لعمر كحالة 11/ 57. (¬5) البنج: نبت له حب يخلط بالعقل، ويورث الخبال، وربما يسكر إذا شربه الإنسان. المصباح المنير للفيومي 1/ 62. (¬6) الأفيون: هو عصارة ثمرة الخشخاش المجففة، ومن مشتقاته: المورفين =

للعقل ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة" (¬1) اهـ. وقال الشيخ عبد الباقي الزرقاني المالكي -رحمه الله- (¬2): " .. المخدر ما غيب العقل دون الحواس، مع نشوة وطرب كأفيون وكذا حشيشة على الصحيح ... وبخلاف المرقد وهو ما غيبهما معًا كحب البلادر (¬3) والداتورة (¬4) فطاهران ... بخلاف المفسد والمرقد فطاهران ولا حد على مستعملهما ولا يحرم منهما إلا ما أثر في العقل .. " (¬5) اهـ. وقال الشيخ محمد عليش المالكي -رحمه الله- (¬6): " ... وأما المفسد ويسمى المخدر أيضًا وهو ما يغيب العقل وحده بلا نشوة ولا طرب ومنه الحشيشة على المعتمد والأفيون، والبرش، وجوزة ¬

_ = والكودايين. الموجز في الطب الشرعي وعلم السموم. د. محمود مرسي، د. سحر كامل ص 148. (¬1) الدر المختار للحصكفي 1/ 412. (¬2) هو الشيخ عبد الباقي بن يوسف بن أحمد الزرقاني، ولد -رحمه الله- بمصر سنة 1020 من الهجرة، أحد فقهاء المالكية، توفي -رحمه الله- بمصر في سنة 1099 من الهجرة وله مؤلفات منها: شرح مختصر خليل، شرح مقدمة العزية، ورسالة في الكلام على إذا في النحو. معجم المؤلفين عمر كحالة 5/ 76. (¬3) البلادر: ويسمى البلادونا، وست الحسن وهو من النباتات القلويدية ويسبب الهلوسة وتشوش الذهن، ومن مشتقاته الهايوسيامين. المخدرات. د. البار 58، 59. (¬4) الداتورة: نبات بري يحتوي على كل من الأتروبين، والهيوسيادين، والهيوسين. الموجز في الطب الشرعي وعلم السموم. د. محمود مرسي، د. سحر كامل ص 148. (¬5) شرح الزرقاني على مختصر خليل 1/ 23، 24 مع حاشية البناني. (¬6) هو الشيخ محمد بن أحمد بن محمد عليش المالكي ولد -رحمه الله- بمصر سنة 1217 هـ ولي مشيخة المالكية بالأزهر، وكان فقيها، متكلمًا، فرضيًا، نحويًا، توفي -رحمه الله- بمصر سنة 1299 هـ، وله مؤلفات منها: هداية السالك إلى أقرب المسالك في الفقه المالكي، وتذكرة المنتهى في فرائض المذاهب الأربعة، وحاشية على رسالة الصبان البيانية في البلاغة. معجم المؤلفين لعمر كحالة 9/ 12.

الطيب (¬1) ... المرقد وهو ما يغيب العقل والحواس ومنه البنج والداتورة فطاهران داخلان في المستثنى منه واستعمال قليلهما الذي لا يغيب العقل جائز وكثيرهما الذي يغيبه محرم ... " (¬2) اهـ. وقال الإمام النووي -رحمه الله-: "ما يزيل العقل من غير الأشربة كالبنج حرام" (¬3) اهـ. وقال العلامة محمد بن أحمد الرملي الشافعي (¬4) -رحمه الله-: "وخرج بالشراب ما حرم من الجامدات كالبنج والأفيون وكثير الزعفران والجوزة والحشيش " (¬5) اهـ. وقال الإمام ابن قدامة المقدسي -رحمه الله-: " ... فأما إن شرب البنج ونحوه مما يزيل عقله عالمًا به متلاعبًا فحكمه حكم السكران في طلاقه .. ولنا أنه زال عقله بمعصية فأشبه السكران ... " (¬6). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والحشيشة المصنوعة من ورق القنب حرام أيضًا يجلد صاحبها كما يجلد شارب الخمر" (¬7) اهـ. ¬

_ (¬1) نبات يتبع الفصيلة البسباسية، ويستعمل في استصلاح الطعام ويعتبر من المواد المنومة التي تسبب الإدمان. المخدرات. د. البار 61. (¬2) منح الجليل لعليش 1/ 26. (¬3) روضة الطالبين للنووي 1/ 171. (¬4) هو الإمام محمد بن أحمد بن حمزة الرملي الشافعي ولد -رحمه الله- بمصر سنة 919 هـ، فقيه شافعي، تولى إفتاء الشافعية بمصر، وتوفي -رحمه الله- سنة 1004 هـ ومن مؤلفاته: نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، الفتاوى، غاية البيان في شرح زبدة الكلام. معجم المؤلفين لعمر كحالة 8/ 255، 256. (¬5) نهاية المحتاج للرملي 8/ 10. (¬6) المغني لابن قدامة 7/ 114. (¬7) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام 28/ 339.

فتبين لنا من هذه العبارات الواردة في كتب الفقهاء -رحمهم الله- على اختلاف مذاهبهم حرمة استعمال الحشيشة وغيرها من المواد المخدرة، إذا أثرت في العقل وأزالته، لأنها في حكم الخمر التي ورد النص الصريح في الكتاب والسنة بتحريمها (¬1). وهذا الحكم الذي نص عليه أهل العلم -رحمهم الله- أعني تحريم المخدرات- له دليله من السنة الصحيحة الثابتة عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ففي حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل مسكر حرام" (¬2). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل مسكر" عام يشمل كل ما وقع به الإسكار سواء كان شرابًا، أو طعامًا، جامدًا أو مائعًا، والمخدرات مسكرة مزيلة للعقول سواء كانت نباتية أو مصنعة أو نباتية مصنعة. قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "واستدل بمطلق قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل مسكر حرام" على تحريم ما يسكر ولو لم يكن شرابًا فيدخل في ذلك الحشيشة وغيرها. وقد جزم النووي وغيره بأنها مسكرة، وجزم آخرون بأنها مخدرة، وهو مكابرة لأنها تحدث بالمشاهدة ما يحدث الخمر من الطرب والنشوة والمداومة عليها والانهماك فيها ... " (¬3) اهـ. ¬

_ (¬1) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة المَائدة (5) آية 90] وفي الصحيح من حديث عبد الله بن عمر رضيَ الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ... كل مسكر حرام". رواه مسلم 3/ 279. (¬2) رواه مسلم 3/ 279. (¬3) فتح الباري لابن حجر 10/ 45.

فبين -رحمه الله- أن إطلاق الحديث شامل لكل ما يحصل به الإسكار، ومن ذلك الحشيشة وما يجري مجراها من المواد المخدرة، وأن العلة الموجودة في الخمر موجودة في الحشيشة، فوجب أن يتحد الحكم بالتحريم فيهما. وفي حديث أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل مسكر ومفتر" (¬1). فقد دل هذا الحديث الشريف على حرمة ما يسكر ويفتر، والمخدرات فيها العلتان فهي مسكرة ومفترة. قال الحافظ ابن حجر الهيثمي -رحمه الله- (¬2): "وهذا الحديث فيه دليل على تحريم الحشيشة بخصوصه فإنها تسكر وتخدر وتفتر" (¬3) اهـ. وكما دلت السنة الصحيحة على حرمة تناول المواد المخدرة دل العقل على ذلك فإن القياس والاعتبار الصحيح يدل على أن المخدرات كالخمر بجامع زوال العقل في كل، فوجب اتحادهما في الحكم بالحرمة. ¬

_ (¬1) رواه أحمد في 6/ 309، وأبو داود في سننه 3/ 329، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 296، وأشار الحافظ ابن حجر -رحمه الله- إلى صحته في فتح الباري 10/ 45. (¬2) هو الحافظ شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي الشافعي ولد -رحمه الله- بمصر في سنة 909 من الهجرة، فقيه مشارك في أنواع من العلوم، توفي -رحمه الله- بمكة سنة 973 من الهجرة، وله مصنفات منها: تحفة المحتاج لشرح المنهاج، الصواعق المحرقة، معدن اليواقيت الملتمعة في مناقب الأئمة الأربعة. معجم المؤلفين لعمر كحالة 2/ 152. (¬3) الفتاوى الكبرى الفقهية للهيتمي 4/ 233.

إضافة إلى ذلك كله فإن القواعد الشرعية تدل على حرمة تعاطي المخدرات واستعمالها، وذلك أن الشريعة الإسلامية راعت درء المفاسد، ومن قواعدها العامة: "الضرر يزال" (¬1) والمواد المخدرة على اختلاف أنواعها وأشكالها فيها أضرار كبيرة ومفاسد كثيرة لا تقتصر على الفرد بل تتعداه إلى مجتمعه. فالحشيشة فيها كما يقول بعض أهل العلم مائة وعشرون مضرة دينية ودنيوية، وأجمع الأطباء على أنها مضرة بالإنسان (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "هذه الحشيشة الملعونة من أعظم المنكرات وهي شر من الشراب المسكر من بعض الوجوه، والمسكر شر منها من وجه آخر. فإنها مع أنها تسكر آكلها حتى يبقى مصطولاً تورث التخنيث والديوثة، وتفسد المزاج فتجعل الكبد كالسفنجة وتوجب كثرة الأكل وتورث الجنون وكثير من الناس صار مجنونًا بسبب أكلها، والمعتاد لها يصعب عليه فطامه عنها أكثر من الخمر فضررها من بعض الوجوه أعظم من الخمر" (¬3) اهـ. وأما بالنسبة للمخدرات الموجودة والمنتشرة في عصرنا الحاضر فقد ثبت بكل جلاء ووضوح خطرها وضررها ليس على الافرد فحسب، بل على المجتمع كله، ولذلك انعقد الإجماع الدولي على محاربتها ومنع ترويجها واعتبار ذلك جريمة وجناية يعاقب فاعلها -وهذا ما لم ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 85. والأشباه والنظائر للسيوطي ص 83. (¬2) زهر العريش في تحريم الحشيش للزركشي ص 93 - 99، والفتاوى الكبرى الفقهية للهيتمي 4/ 232. (¬3) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام 34/ 205.

يحدث في الخمر نفسه وإن كان جديرًا بذلك- ولم يقف الأمر عند شرع القوانين المحرمة للمخدرات، بل أنشئت الأجهزة والمراكز الدولية لمكافحتها عالميًا، وتشير الدراسات الطبية عن أضرار المخدرات وخطرها بالنسبة للفرد والمجتمع إلى أن المواد المخدرة مضرة بالإنسان جسديًا ونفسيًا وعقليًا. فأما ضررها بالجسد وصحته فإنها تضعف قوة المدمن عليها، وتظهر عليه أعراض أهمها: هبوط القلب والدورة الدموية والتضخم في عضلة القلب والالتهابات الرئوية والشعبية، والتهاب الكبد وتليفها، والفشل الكلوي، وتؤثر على الجهاز الهضمي وتضعف الشهية. وأما ضررها النفسي فإنها تؤدي إلى الكآبة، والعزلة، والتوتر العصبي، والهلوسة في السمع والبصر، والأحاسيس والمشاعر. كما يشعر المتعاطون لها بالميل إلى العنف، والعدوان، وحدة الطبع أحيانًا وبلادته أحيانًا أخرى فهم في تناقض في الشعور والسلوك تختلف درجاته بحسب اختلاف نوعية المادة المخدرة وطبيعة الشخص المتعاطي لها ودرجة إدمانه. وهي تؤثر على العقل من الناحية الوظيفية فيسبب تعاطيها التهابًا، وتلفًا في خلايا المخ مما يؤدي إلى فقدان الذاكرة وبلادة الذهن، وكثرة النسيان، ثم يفضي به ذلك تدريجيًا إلى فقدان العقل بالكلية فيصبح مجنونًا والعياذ بالله. ولا يقف ضرر المخدرات عند هذا الحد بل يتعداه إلى المجتمع فهي تعتبر من أهم الأسباب الموجبة لانتشار الجرائم على اختلاف أنواعها، القتل، والسرقات، والاغتصاب، كما هو واضح في البلدان

التي انتشرت فيها المخدرات (¬1). فكل هذه الأضرار الفردية والجماعية الروحية، والجسدية توجب الحكم بحرمة استعمال المخدرات وتعاطيها وقد حرمت الشريعة الإسلامية بعض الأمور التي لا تصل في الضرر إلى هذا الحد، فمن باب أولى وأحرى الحكم بحرمة ما هو أشد منها وأكبر خطرًا. ولا شك في أن اكتشاف الأضرار الموجودة في المخدرات في العصر الحاضر يدل دلالة واضحة على صواب ما قرره فقهاء الإسلام، وأئمته الأعلام من الحكم بحرمة الأفيون والحشيشة وغيرها من المخدرات في أزمنة لم تتوفر عندهم الإمكانيات، كما توفرت في عصرنا الحاضر ... والله تعالى أعلم. * * * ¬

_ (¬1) أشار إلى هذه الأضرار المترتبة على المخدرات المصادر التالية: المخدرات. د. محمد إبراهيم الحسن 33 - 37. المخدرات د. محمد علي البار 159 - 207. المخدرات. د. أحمد علي ريان 23، 35 - 39. سموم المسكرات والمخدرات. د. علي البدري 57، 58 من بحوث المؤتمر الإسلامي العالمي لمكافحة المسكرات والمخدرات. أضرار المسكرات والمخدرات النفسية. د. جمال الدين عبد العزيز 6 - 32، من بحوث المؤتمر الإسلامي العالمي لمكافحة المسكرات والمخدرات، دراسة حول انتشار الخمور والمخدرات. د. عادل مرداش 53 - 59.

المطلب الثاني في (مشروعية التخدير الجراحي)

المطلب الثاني في (مشروعية التخدير الجراحي) وبيان هذه المشروعية يستلزم الحديث عن الحاجة الداعية إلى التخدير الجراحي، ثم بيان اعتبار الشريعة الإسلامية لها، ونصوص أهل العلم -رحمهم الله- التي تدل على جواز تخدير المريض عند وجود تلك الحاجة الداعية إلى ذلك. وبيان جميع ذلك يتضح في المقصدين التاليين: المقصد الأول: في الحاجة إلى التخدير يحتاج الطبيب الجراح أثناء قيامه بمهمة الجراحة الطبية إلى سكون المريض وعدم حركته، وذلك لكي يستطيع القيام بأداء مهمته الجراحية على الوجه المطلوب، فحركة المريض وانزعاجه وعدم استقراره أثناء مهمة الجراحة يعتبر عائقًا كبيرًا يحول دون أدائها والقيام بها على وجهها المطلوب، فإن الطبيب الجراح مهما تغاضى عن تصرفات المريض وآلامه فإنه سرعان ما يتعاطف معها إذا بلغت ذروتها، ولو فرضنا أنه لم يبال بشيء من ذلك فإن المريض لن يستقر ولن يثبت بسبب ما يحسه ويجده من الآلام، الأمر الذي يدعوه إلى الحركة الدائمة والمقاومة المستمرة التي لا يستطيع معها الطبيب الجراح الاستمرار في أداء مهمته، وقد تطيش يده التي تحمل الأدوات الجراحية فتقطع عرقًا أو عضوًا لا سمح الله، فينشأ عن ذلك خطر أكبر من المرض الذي تدخل من أجل علاجه، لذلك لابد من وجود التخدير الذي يجعل المريض في حالته

المناسبة ووضعه المناسب أثناء إجراء الجراحة الطبية اللازمة له. وهذه الحاجة تختلف بحسب أنواع الجراحة الطبية وموضعها من حيث عمقها في جسد الإنسان وسطحيتها، فالجراحة التي تختص بالقلب مثلاً لا يمكن أن تجرى إلا بعد التخدير الكلي للمريض، بل إن الجراحة الطبية القلبية لم تصل إلى هذه الدرجة الدقيقة من الخطورة والعمق خاصة في جراحة القلب المفتوح إلا بعد تطور التخدير وتحسنه (¬1). فهذا النوع من الجراحة وأمثاله من الجراحات الطبية الخطرة في المخ، والأعصاب، والعين، والأذن، والصدر، والبطن، والمسالك البولية، تصل الحاجة فيها إلى التخدير درجة الاضطرار بحيث لا يمكن أن تجرى الجراحة الطبية فيها إلا بعد التخدير، وإذا تم فعلها بدونه فإن معنى ذلك هو الموت المحقق للشخص المريض. وهناك نوع آخر من الجراحة الطبية أقل خطورة ويمكن للطبيب الجراح أن يقوم بأداء مهمته الجراحية بنجاح تام والمريض في كامل شعوره وإحساسه وإن كان يجد من آلام الجراحة شيئًا لكنه مما يمكن تحمله والصبر عليه دون وجود مقاومة أو ضجر شديد، وهذا النوع أكثر ما يوجد في الجراحة العامة السطحية المتعلقة بعلاج الجراحة التي في ظاهر جسد الإنسان. وهناك نوع ثالث من الجراحة الطبية يعتبر وسطاً بين النوعين من ¬

_ (¬1) ويقول الدكتور محمود فاعور: " ... وقد ساعد على الوصول إلى هذه الدرجة العالية من التطور ذلك التقدم الكبير الذي بلغت إليه علوم لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالجراحة، وأكثر هذه العلوم التصاقًا بالجراحة ومواكبة لها علم التخدير" أهـ. الشفاء بالجراحة د. محمود فاعور 311.

الحالة الأولى: أن تصل إلى مقام الضرورة:

حيث إمكان إجراء الجراحة دون أن يخدر المريض تخديرًا عامًا أو موضعيًا، لكن المريض يلاقى فيه آلامًا ومتاعب من جراء الجراحة توجب له المشقة والعناء الشديد، ومن أمثلة هذا النوع الجراحة المتعلقة ببتر الأعضاء كاليد والرجل. فإن الإنسان يمكنه أن يتحمل آلام تلك الجراحة، ولكنه يجد مشقة وألمًا كبيرًا، ولكن لا يصل بذلك إلى مقام الاضطرار في الغالب. فتحصل من هذا كله أن الحاجة إلى التخدير في الجراحة الطبية لا تخلو من ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن تصل إلى مقام الضرورة: وهي الحالة التي يستحيل فيها إجراء الجراحة الطبية بدون تخدير كما في جراحة القلب المفتوح ونحوها من أنواع الجراحة الخطيرة، والتي إذا لم يخدر فيها المريض فإنه سيموت في أثناء الجراحة أو بعدها بقليل. الحالة الثانية: أن تصل إلى مقام الحاجة: وهي الحالة التي لا يستحيل فيها إجراء الجراحة الطبية بدون تخدير، ولكن المريض يلقى فيها مشقة فادحة لا تصل به إلى درجة الموت والهلاك وهي الحالة المتوسطة، ومن أمثلتها جراحة بتر الأعضاء كما تقدم. الحالة الثالثة: وهي التي لا تصل إلى مقام الضرورة والحاجة: حيث يمكن فيها إجراء الجراحة الطبية دون أن يخدر الشخص

المريض، ويلقى فيها بعض الآلام البسيطة التي يمكنه الصبر عليها دون أن تلحق به مشقة فادحة في الغالب ومن أمثلتها: قلع السن في بعض حالاته. وهذا التقسيم شامل للجراحة الطبية التي تتطلب التخدير العام، والتخدير الموضعي، لكن الغالب في الحالة الأولى أن تقع في الجراحة التي تتطلب التخدير العام بخلاف الحالتين الثانية والثالثة. وفي الحقيقة أن تقدير ذلك وضبطه أمر يرجع إلى الطبيب نفسه فهو الذي يمكنه تطبيق هذه الحالات على أنواع الجراحة لاختلاف المرضى ونوعية الجراحة اللازمة لهم. وإذا تبين لنا وجود الحاجة الداعية إلى التخدير الجراحي فإنه يمكن القول بجواز فعله سدًا لتلك الحاجة فما كان منها بالغًا مبلغ الاضطرار يعتبر جوازه مخرجًا على القاعدة الشرعية التي تقول: "الضرورات تبيح المحظورات" (¬1)، وما كان منها بالغًا مبلغ الحاجة يعتبر جوازه مخرجًا على القاعدة الشرعية التي تقول: "الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة" (¬2) وما كان منها دون مقام الحاجة يرخص في اليسير من المخدر. بناء علي ما نص عليه الفقهاء المتقدمون -رحمهم الله- من جواز استعمال المخدر في التداوي ومن ثم يشرع للأطباء تخدير المرضى سدًا للحاجة كما قرر ذلك بعض الفقهاء -رحمهم الله- وسيتضح ذلك من خلال العبارات المذكورة في المقصد التالي. * * * ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر للسيوطي 84، الأشباه والنظائر لابن نجيم 85. (¬2) المصدرين السابقين.

المقصد الثاني: في عبارات الفقهاء المتقدمين المشتملة على جواز التخدير للجراحة

المقصد الثاني: في عبارات الفقهاء المتقدمين المشتملة على جواز التخدير للجراحة نص بعض الفقهاء المتقدمين رحمهم الله- على جواز استعمال المواد المخدرة عند الحاجة إليها للجراحة، كما في قطع اليد والرجل وغيرها من المهمات الجراحية التي يحتاج المرضى فيها إلى التخدير، ويظهر ذلك جليًا في العبارات التالية: قال الإمام ابن عابدين الحنفي -رحمه الله- (¬1): "قدمنا في الحظر والإباحة عن التاترخانيه أنه لا بأس بشرب ما يذهب بالعقل لقطع نَحْو أكْلَةٍ، أقول ينبغي تقييده بغير الخمر، وظاهره أنه لا يتقيد، بنحو بنج من غير المائع .. " (¬2) اهـ. فبين -رحمه الله- إباحة شرب المزيل للعقل إذا وجدت الحاجة للجراحة التي مثّل لها بقطع الأكْلَة ونحوها. ثم بين أن ظاهر العبارة المنقولة العموم فيشمل الخمر وغيرها كالمخدرات، ورجح التقييد بغير الخمر، وهذا التقييد غير مؤثر في الحكم باستثناء المخدرات للحاجة لأنهم يعتبرونها من المفسدات، كما صرح بذلك صاحب الدر (¬3). ¬

_ (¬1) هو الإمام محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز عابدين، ولد -رحمه الله- بدمشق سنة 1198 من الهجرة، وكان فقيهًا أصوليًا، وتوفي بدمشق في سنة 1252 من الهجرة، ومن مؤلفاته: رد المحتار على الدر المختار، عقود اللآليء حاشية نسمات الأسحار في الأصول. معجم المؤلفين- عمر كحالة 9/ 77. (¬2) حاشية ابن عابدين 5/ 408. (¬3) الدر المختار للحصكفي 1/ 412.

وقال صاحب تبصرة الحكام -رحمه الله-: "إذا كان شارب الخمر أو النبيذ حرًا مسلمًا مكلفًا وشربه مختارًا من غير ضرورة ولا عذر فإنه يجلد ثمانين ... ثم قال بعد ذلك: والظاهر جواز ما سقي من المرقد لأجل قطع عضو ونحوه، لأن ضرر المرقد مأمون، وضرر العضو غير مأمون" (¬1) اهـ. فبين -رحمه الله- أن الحالات الضرورية، والحاجية التي وجد فيها العذر لشرب الخمر تعتبر مستثناة من الحكم بحرمة شربها. ثم نص على استثناء حالات الجراحة المشتملة على قطع الأعضاء من الحكم بالتحريم فأجاز شرب المرقد (المخدر) لها، وبين علة ذلك الجواز، وهي أن ضرر المخدرات مأمون، وضرر العضو غير مأمون، ووجه ذلك أن شرب اليسير من المخدر لا يبلغ ضرره مبلغ ضرر العضو في حال بقائه، فالأول مأمون السريان (أي القدر المستعمل للتخدير) والثاني غير مأمون السريان. وقال الإمام أبو زكريا يحيى النووي الشافعي -رحمه الله-: "ولو احتيج في قطع اليد المتآكلة إلى زوال عقله هل يجوز ذلك؟ يخرج على الخلاف في التداوي بالخمر. قلت: الأصح الجواز .. " (¬2) اهـ. فبين -رحمه الله- أنه يجوز للإنسان تعاطي المزيل للعقل لحاجة قطع اليد المتآكلة، وجزم بكونه أصح الوجهين في المذهب. وقال الإمام علاء الدين علي بن سليمان المرداوي الحنبلي (¬3) ¬

_ (¬1) تبصرة الحكام لابن فرحون 2/ 169، 170. (¬2) روضة الطالبين للنووي 10/ 171، ومثله في إعانة الطالبين للبكري 4/ 156، والإنقاع للشربيني 2/ 88. (¬3) هو الإمام علي بن سليمان بن أحمد بن محمد السعري الصالحي الحنبلي، ولد =

-رحمه الله- " قال في الجامع الكبير: إن زال عقله بالبنج نظرت، فإن تداوى به فهو معذور، ويكون الحكم فيه كالمجنون. وإن تناول ما يزيل عقله لغير حاجة كان حكمه كالسكران والتداوي حاجة" (¬1) اهـ. فنص على استثناء الحاجة واعتبارها موجبة لإلغاء طلاق صاحبها إن شرب المزيل وطلق. ثم نص على أن التداوي يعتبر من الحاجة. ولاشك في أن الجراحة داخلة في ذلك، لكونها من التداوي. ومن خلال هذه العبارات التي نص عليها هؤلاء الفقهاء الأجلاء يتبين لنا أن التخدير الجراحي يعتبر مستثنى من الأصل الموجب لحرمة المواد المخدرة الموجودة فيه، وأن هذا الاستثناء مبني على وجود الحاجة الداعية إلى التخدير ... والله أعلم. * * * ¬

_ = -رحمه الله- بمردا بفلسطين سنة 817 هى، فقيه، محدث، أصولي، وتوفي -رحمه الله- بالقاهرة سنة 885 هـ، وله مؤلفات منها: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، وتحرير المنقول في تمهيد علم الأصول، والتنقيح المشلج. معجم المؤلفين عمر كحالة 7/ 102، 103. (¬1) الإنصاف للمرداوي 8/ 438.

المطلب الثالث في (ضابط النوعية والقدر والطريقة)

المطلب الثالث في (ضابط النوعية والقدر والطريقة) يحتاج المريض لتخديره في الجراحة الطبية إلى نسبة معينة من المخدر، وهذه النسبة تختلف من حيث القدر والكمية حسب اختلاف نوعية الجراحة المطلوبة من حيث سطحيتها وعمقها. فعلى سبيل المثال يحتاج الطبيب في قلع السن وشق الخُرَّاج إلى تخدير سطحي جدًا، بينما يحتاج في الجراحة التي تجرى داخل الحفرة البطنية كالقرحة واستئصال الزائدة إلى تخدير أعمق، وذلك لإزالة مقوية العضلات، ومنع حدوث انقباضها الانعكاسي نتيجة العمل الجراحي الذي يقوم به الطبيب الجراح للبرتيون الحساس، بالإضافة إلى وجود مستويات مختلفة من التخدير يحتاج إليها لمنع حدوث استجابة انعكاسية في النواحي المختلفة (¬1). وإذا كان الأصل في استعمال المخدرات -كما تقدم- هو التحريم، وأن جوازها في الجراحة الطبية مبني على وجود الضرورة والحاجة فإن ذلك الجواز ينبغي أن يقيد بقدر الحاجة المطلوبة، ويبقى الزائد على القدر المحتاج إليه على الأصل وهو حرمة استعماله، وذلك للقاعدة الشرعية التي تقول: "ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها" (¬2). وبناء على ذلك فإنه يجب على الطبيب المخدر أن يحدد النسبة ¬

_ (¬1) التخدير: غوردون أوستلر، روجر برايس سميث ص 37. (¬2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 86، الأشباه والنظائر للسيوطي ص 84.

المطلوبة لتخدير المريض حسب الحاجة، ولا يجوز له أن يزيد عليها إلا بقدر الضرورة، فإذا كانت الجراحة الطبية من النوع الذي يمكن إجراؤه بتخدير المريض تخديرًا موضعيًا فإنه لا يجوز له أن يعدل إلى تخديره تخديرًا كليًا إلا إذا وجدت الضرورة الداعية إلى ذلك. وقد اعتنت المصادر التي تكلمت عن التخدير في الجراحة الطبية ببيان النسب وتحديد قدرها حسب الحاجة، ويعتبر هذا التحديد الذي درج أهل الخبرة والمعرفة على اعتباره مرجعًا للطبيب المخدر ولا يجوز له العدول عنه على وجه المخاطرة والتجربة، خاصة وأن المواد المخدرة تعتبر موادًا سامةً ولذلك يقول بعض المختصين في التخدير الجراحي عند بيانه لمهمة التخدير: "إن كل المخدرات مواد سامة، وتذكر بأنك عندما تقوم بعملية تخدير فإنك تقرر أن تسمم شخصًا، لا أن تقتله لذلك أعط أقل كمية ممكنة .. " (¬1) اهـ. ويقول غيره: "أما درجة تحمل الأشخاص للمواد المخدرة الموضعية، فمن الثابت أن أغلب الأشخاص يتحملونها بسهولة تامة، بينما لا يتحملها آخرون، وهذا التحسس من المخدرات الموضعية له محاذيره الخطرة التي قد تكون مميتة في بعض الحالات لذلك يجب أن لا تستعمل هذه الأدوية السامة اعتباطًا ودون تمييز، بل يجب التأكد من درجة تحسس المرضى منها قبل حقنها .. " (¬2) اهـ. وأما ضابط الطريقة فإنه لا يجوز للمخدر أن يختار طريقة أشد ضررًا من غيرها متى ما أمكن التخدر بالطريقة التي هي أقل منها ضررًا وأكثر أمانًا لما في تقديم الطريقة المضرة من تعريض المريض لعواقبها ¬

_ (¬1) التخدير: غوردون أوستلر، روجر برايس سميث ص 7. (¬2) التخدير الموضعي. د. شفيق الأيوبي ص 137.

السيئة دون حاجة موجبة لذلك. وكذلك لا يجوز له أن يعدل إلى التخدير عن طريق العورة "فتحة الشرج" متى أمكن التخدير عن طريق الوريد ونحوه، لأن العورة لا يستباح كشفها إلا عند الحاجة (¬1)، ومتى وجد طريق بديل عنها فإن الحاجة منتفية ما لم يكن ذلك البديل يتعذر التخدير عن طريقه أو يترتب على التخدير عن طريقه ضرر أعظم من ضرر التخدير عن طريق العورة ... والله أعلم. فهذه هي المراحل الأربعة الممهدة للعمل الجراحي، والأحكام المتعلقة بها، وهناك مرحلة الفحص الطبي الذي يجرى للتأكد من وجود المرض الجراحي، وأهلية المريض لتحمل الجراحة ومتاعبها، ولما كانت هذه المرحلة في حكم مرحلة الفحص الطبي الذي سبق بيان أحكامه في المبحث الأول من هذا الفصل رأيت من المناسب عدم تكرار الأحكام المتعلقة به لأنه في حكم الفحص المذكور. * * * ¬

_ (¬1) فتح القدير لابن الهمام 1/ 179، مواهب الجليل للحطاب 1/ 598، 599، روضة الطالبين للنووي 1/ 282، المبدع لابن مفلح 1/ 360، قواعد الأحكام لابن عبد السلام 2/ 165.

الفصل الثاني في (أحكام العمل الجراحي)

الفصل الثاني في (أحكام العمل الجراحي)

تمهيد

تمهيد في هذا الفصل سيكون الحديث بعون الله وتوفيقه عن المهمات المتعلقة بمرحلة العمل الجراحي التي يقوم بفعلها الطبيب الجراح. وقد اخترت أهم تلك الأعمال، ووضعت لها مسمى يجمع كثيرًا من الصور تلافيًا للتكرار، فعلى سبيل المثال مهمة الجراح في جراحة البواسير، وقطع الأعصاب للتغلب على الألم، وجراحة بتر الرجل واليد، جمعتها تحت مسمى القطع وهكذا بقية المهمات. وهذا الفصل يعتبر بيانًا لما سبق إجماله في الفصل الأول من الباب الثاني عند ذكر الجراحة المشروعة وسأعتني فيه -إن شاء الله تعالى- ببيان نصوص العلماء المتقدمين -رحمهم الله- التي تشهد باعتبار تلك المهمات، وسأذكر المسائل التي اختلفوا فيها وأقوالهم فيها وأدلتهم والراجح منها ودليل رجحانه. وإذا كانت المسألة نازلة أعتني بذكر أقوال العلماء والباحثين المعاصرين، وأدلتهم، والراجح من أقوالهم ودليل رجحانه، سائلاً المولى عز وجل أن يمدني بعونه وتوفيقة. وسيكون بيان ذلك في المباحث التالية: المبحث الأول: في القطع. المبحث الثاني: في الاستئصال.

المبحث الثالث: في الشق. المبحث الرابع: في نقل وزرع الأعضاء. المبحث الخامس: في الثقب. المبحث السادس: في الكحت وتوسيع الرحم. المبحث السابع: في إعادة العضو المبتور. المبحث الثامن: في زرع الأعضاء المصنوعة. المبحث التاسع: في الرتق. المبحث العاشر: في الكي. المبحث الحادي عشر: في الخياطة. وبيان هذه المباحث يتضح فيما يلي:

المبحث الأول في (القطع)

المبحث الأول في (القطع) والمراد به: إبانة العضو، أو جزئه عن الجسم، سواء كان موضع الإبانة من المفصل، وتسمى عمليته بالفصل، كما في إبانة الأصابع والسلاميات بالحز من مفاصلها أو كان موضعها في غير المفاصل كما في بتر الساعد والساق من منتصفهما بالنشر (¬1)، والشيء المقطوع قد يكون عضوًا من أعضاء الجسم الموجودة فيه من أصل خلقته كاليد، والرجل. وقد يكون جزءًا غريبًا ناشئًا بسبب علة، أو آفة أصابت الموضع الذي فيه ذلك الجزء كما في الخراج ونحوه. والقطع في الحقيقة إتلاف وهو مفسدة (¬2)، ولذلك فإن الأصل فيه أنه محرم شرعًا، لكن أجيز في الجراحة الطبية لمكان الضرورة والحاجة الداعية إلى فعله، وقد أشار إلى ذلك الإمام أبو محمد علي بن حزم الظاهري -رحمه الله- وحكى إجماع أهل العلم -رحمهم الله- عليه بقوله: "واتفقوا أنه لا يحل لأحد أن يقتل نفسه ولا يقطع عضوًا من أعضائه، ولا أن يؤلم نفسه في غير التداوي بقطع العضو الألم خاصةً" (¬3) اهـ. ¬

_ (¬1) المصباح الوضاح في صناعة الجراح. د. جورج بوست 660. (¬2) الفوائد في اختصار المقاصد للعز بن عبد السلام 50. (¬3) مراتب الإجماع لابن حزم 657.

وقد شهدت السنة النبوية الثاتبة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجواز فعل القطع عند الحاجة إليه في العلاج. ففي الصحيح من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أنه قال: "بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بن كعب طبيبًا فقطع منه عرقًا ثم كواه عليه" (¬1). فقد أقر عليه الصلاة والسلام الطبيب على فعله القطع، ولم ينكره عليه فدل ذلك على جواز فعله للعلاج والمداواة (¬2). وإقدام الأطباء على قطع الأعضاء وإبانتها إتلاف أجازته الشريعة الإسلامية لمكان المصلحة المرجوة من ذلك الفعل، ومفسدته أخف من مفسدة بقاء تلك الأعضاء التي أصيبت بالآفات الموجبة لقطعها، كما أشار إلى ذلك الإمام العز بن عبد السلام -رحمه الله- عند بيانه لمراتب الإتلاف بقوله: "أحدهما: إتلاف لإصلاح الأجساد، وحفظ الأرواح، كإتلاف الأطعمة ... ويلحق به قطع الأعضاء المتآكلة حفظًا للأرواح، فإن إفساد هذه الأشياء جائز للإصلاح" (¬3) اهـ. فلما كان المقصود من هذا الإتلاف الإصلاح المشتمل على حفظ الروح من الهلاك المتوقع من بقاء الأعضاء التي يراد قطعها جاز فعله، لأنه من باب دفع المفسدة العليا بارتكاب المفسدة الدنيا (¬4)، ومن قواعد الشريعة الإسلامية: "أنه إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه انظر ص (88). (¬2) استشهد بهذا الحديث الإمام ابن القيم -رحمه الله- في الطب النبوي على جواز القطع ومشروعيته. الطب النبوي 49. (¬3) قواعد الأحكام لابن عبد السلام 2/ 87. (¬4) تهذيب الفروق محمد علي حسين 1/ 210.

بارتكاب أخفهما" (¬1). فبقاء هذه الأعضاء مشتمل على مفسدة فوات النفس، وقطعها مشتمل على مفسدة الإتلاف للجزء، فوجب تقديم مفسدة فوات النفس لتعلقها بالكل على مفسدة الإتلاف المتعلقة بالجزء ارتكابًا لأخف الضررين، وأهون الشرين (¬2). والقطع في الجراحة الطبية يصل في بعض الأحوال إلى مرتبة الضروريات، وفي بعضها إلى مرتبة الحاجيات. فيصل إلى مرتبة الضروريات في الأحوال التي يخشى فيها من فوات النفس، فيلجأ الأطباء إلى فعله إنقاذًا للمريض من الموت. ومن أمثلة ذلك ما يجري في جراحة القلب لعلاج الناسور الشرياني بين الأبهر، والرئوي، حيث يقوم الطبيب الجراح بقطع القناة الشريانية، وخياطة النهاية الأبهرية، والنهاية الرئوية (¬3)، وهذه المرتبة هي أعلى المرتبتين، وهي أعلى المراتب الموجبة للترخيص في الشريعة (¬4). وأما مرتبة الحاجيات فهي التي لا تصل إلى درجة الخوف على النفس من الهلاك، ولكن يلجأ الأطباء فيها إلى القطع دفعًا لضرر الآلام ومشقتها. ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر للسيوطي 87، والأشباه والنظائر لابن نجيم 89، وشرح القواعد الفقهية للزرقاء 147. (¬2) قواعد الفقه للمجددي 140، شرح القواعد الفقهية للزرقاء 145، 149. (¬3) الأمراض الجراحية لمجموعة من الأطباء 282 - 284، وجراحة القلب. د. القباني 93 - 95. (¬4) الأشباه والنظائر للسيوطي 80، 81، والأشباه والنظائر لابن نجيم 82، والأقمار المضيئة للأهدل 113.

عبارات الفقهاء المتضمنة لجواز القطع عند الحاجة:

ومن أمثلتها ما يجري في جراحة البطن من قطع البواسير (¬1). عبارات الفقهاء المتضمنة لجواز القطع عند الحاجة: نص الفقهاء المتقدمون -رحمهم الله- على جواز القطع إذا وجدت الحاجة الداعية إلى فعله ويظهر ذلك من خلال عباراتهم التالية: أ- فقهاء الحنفية: في الفتاوى الهندية ما نصه: "من له سلعة زائدة يريد قطعها، إن كان الغالب الهلاك فلا يفعل، وإلا فلا بأس به" (¬2) اهـ. وفيها أيضًا: "لا بأس بقطع العضو إن وقعت فيه الأكلة لئلا تسري" (¬3) اهـ. ب- فقهاء المالكية: قال الشيخ محمد يوسف المواق (¬4) -رحمه الله-: "لو استأجر على قطع سن صحيحة، أو قطع يد صحيحة لم يجز، ولو كانت اليد متآكلة، والسن متوجعة جازت. ¬

_ (¬1) جراحة البطن. د. اللبابيدي. د. الشامي 338، والشفاء بالجراحة. د. الفاعور 92. (¬2) الفتاوى الهندية 5/ 360. (¬3) المصدر السابق. (¬4) هو الشيخ محمد بن يوسف بن أبي القاسم العبدري الأندلسي، فقيه، مالكي، من آثاره: شرح مختصر خليل المسمى بالتاج والإكليل، وسنن المهتدين. معجم المؤلفين عمر كحالة 12/ 133.

جـ- فقهاء الشافعية:

وقال ابن وهب (¬1)، وأشهب (¬2): "من ذهب بعض كفه فخاف على باقي يده لا بأس أن يقطع يده من المفصل إن لم يخف عليه الموت". ثم نقل عن الإمام ابن رشد الجد -رحمه الله- قوله: "إن كان خوف الموت من بقاء يد كذلك أشد من خوف الموت بقطعه فله القطع" (¬3) اهـ. جـ- فقهاء الشافعية: قال الشيخ زكريا الأنصاري -رحمه الله- (¬4): "وحل قطع جزئه ... لأنه إتلاف جزء لاستبقاء الكل كقطع اليد للأكلة ... " (¬5) اهـ. ¬

_ (¬1) هو الإمام أبو محمد عبد الله بن وهب بن مسلم، ولد -رحمه الله- سنة 125 هـ وقيل بغيرها، تفقه على الإمام مالك، قال عنه الإمام أحمد -رحمه الله-: ابن وهب عالم فقيه كثير العلم صحيح الحديث ثقة صدوق. ما أصح حديثه" اهـ. توفي -رحمه الله- في شعبان من سنة 197هـ. له مصنفات منها: الموطأ الكبير، الموطأ الصغير. الديباج المذهب لابن فرحون 132، 133. (¬2) هو الإمام أشهب بن عبد العزيز بن داود القيسي، ولد -رحمه الله- سنة 140 هـ وقيل بغيرها، كان من أجلاء أصحاب مالك المصريين -رحمهم الله- وانتهت إليه رئاستهم، قال عنه الإمام الشافعي -رحمه الله-: "ما رأيت أفقه من أشهب" اهـ. توفي -رحمه الله- بمصر سنة 204 هـ. الديباج المذهب لابن فرحون 98، 99. (¬3) التاج والإكليل للمواق 5/ 422 بهامش مواهب الجليل. (¬4) هو الشيخ أبو يحيى زكريا بن محمد بن أحمد الأنصاري، ولد -رحمه الله- بسنيكة سنة 826 هـ، تولى القضاء بمصر، وكان فقيهًا شافعيًا عالمًا بالقراءات والتفسير، والحديث. توفي -رحمه الله- بالقاهرة سنة 926 وله مصنفات منها: شرح مختصر المزني في فروع فقه الشافعي، شرح منهاج الوصول إلى علم الأصول، وشرح صحيح مسلم. معجم المؤلفين لعمر كحالة 4/ 182، 183. (¬5) فتح الوهاب للأنصاري 2/ 193.

د- فقهاء الحنابلة:

وقال العلامة جلال الدين المحلي (¬1) -رحمه الله-: "والأصح جوازه لأنه إتلاف بعض لاستبقاء الكل كقطع اليد للأكلة ... " (¬2) اهـ. د- فقهاء الحنابلة: قال الإمام ابن قدامة -رحمه الله-: " ... أما قطع الأكلة فإنه يخاف الهلاك بذلك العضو فأبيح له إبعاده، ودفع ضرره المتوجه منه ... " (¬3) اهـ. وقال العلامة يونس بن إدريس البهوتي -رحمه الله-: "ويصح استئجاره لحلق شعر ... وقطع شيء من جسده للحاجة إليه أي إلى قطعه لنمو أكلة، لأن ذلك منفعة مقصودة" (¬4) اهـ. وقال الإمام يوسف بن عبد الهادي (¬5) -رحمه الله-: "ويباح ¬

_ (¬1) هو الشيخ جلال الدين محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم المحلي، ولد -رحمه الله- بالقاهرة 791 هـ، وهو أحد فقهاء الشافعية، وكان عالمًا بفنون عديدة، توفي -رحمه الله- بالقاهرة سنة 864 هـ، وله مصنفات منها: شرح جمع الجوامِع للسبكي في أصول الفقه، شرح تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد، وتفسير القرآن بالاشتراك مع السيوطي. معجم المؤلفين لعمر كحالة 8/ 311، 312. (¬2) شرح المحلى للمنهاج 4/ 264 بهامش حاشية قليوبي وعميرة. ونص على مثل هذه العبارة غيره من فقهاء الشافعية -رحمهم الله-. انظر: تحفة المحتاج للهيثمي 9/ 397 بهامش حواشي الشرواني والعبادي، أسنى المطالب للأنصاري 1/ 571، ونهاية المحتاج للرملي 8/ 154، ومغني المحتاج للشربيني 4/ 294. (¬3) المغني والشرح الكبير لابن قدامة 11/ 79، أشار إلى هذا النقل برقمه فضيلة الشيخ بكر عبد الله أبو زيد في كتابه: فقه النوازل 2/ 31. (¬4) كشف القناع للبهوتي 4/ 9. (¬5) هو الإمام جمال الدين يوسف بن حسن بن أحمد بن عبد الهادي الشهير بابن المبرر ولد -رحمه الله- سنة 840 هـ أحد فقهاء الحنابلة، كان إمامًا في الحديث والفقه والنحو. توفي -رحمه الله- في سنة 909 هـ، وله مصنفات منها: الدر النقي، والتمهيد، والتبيين في طبقات المحدثين, شذرات الذهب لابن العماد 8/ 43، =

البطُّ (¬1) وقطع السلع مع الأمن" (¬2) اهـ. وقال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: قوله: "لو لم يكن واجبًا لما جاز للخاتن الإقدام عليه إلى آخره (¬3)، ينتقض بإقدامه على قطع سلعة، وتفتح غدة في الجسد، أو خُرَّاج في العنق، والعضو التالف، وقلع السن، وقطع العروق ... ، فيجوز الإقدام على ما يباح للرجل قطعه فضلاً عما يستحب، ويسن وفيه مصلحة ظاهرة" (¬4) اهـ. وهذه العبارات التي نص عليها هؤلاء الفقهاء الأجلاء -رحمهم الله- تدل دلالة واضحة على إجازتهم لمهمة القطع الجراحي بنوعيه الضروري، والحاجي. فأما الضروري فقد صرح به الإمام ابن رشد الجد من المالكية -رحمهم الله- بقوله: "إن كان خوف الموت من بقاء يده ... " اهـ. وكذلك صرح به الإمام ابن قدامة من الحنابلة -رحمهم الله- بقوله: " ... فإنه يخاف الهلاك" اهـ. وأشار إليه فقهاء الشافعية -رحمهم الله- بقولهم: "فإنه يخاف الهلاك" اهـ. وأشار إليه فقهاء الحنفية -رحمهم الله- بقولهم: "لئلا تسري" اهـ. ¬

_ = معجم المؤلفين، عمر كحالة 13/ 289. (¬1) بطُّ الجرح: شقه. المصباح المنير للفيومي 1/ 51. (¬2) مغني ذوي الأفهام لابن عبد الهادي 29، 30. (¬3) هذا القول دليل للقائلين بوجوب الختان أورده الإمام ابن القيم -رحمه الله- لمناقشته. (¬4) تحفة المودود لابن القيم 135.

المسألة الأولى: هل يكره قطع البواسير؟.

وأما الحاجي فيظهر اعتبارهم له من الأمثلة التي ذكرها فقهاء الحنفية والحنابلة -رحمهم الله-، من قطع السلعة والخراج والعروق. ويعتبر إطلاق الإمام شرف الدين موسى الحجاوي من فقهاء الحنابلة -رحمهم الله- شاملاً لنوعي القطع الضروري والحاجي، حيث قال -رحمه الله- في الإقناع: " ... وقطع شيء من جسده للحاجة إليه ... " (¬1) اهـ. وقد تقدم في مبحث أدلة مشروعية الجراحة ذكر قصة عروة بن الزبير -رضي الله عنه- وأنها تعتبر دليلاً على إجماع السلف -رحمهم الله- على جواز القطع ومشروعيته .. والله تعالى أعلم. المسألة الأولى: هل يكره قطع البواسير؟. قال العلامة منصور بن إدريس البهوتي -رحمه الله-: "يكره قطع الباسور، ومع خوف تلف بقطعه يحرم، وبتركه يباح" (¬2) اهـ. ومراده -رحمه الله- أن قطع الباسور له ثلاث حالات: الحالة الأولى: يحرم فيها فعله، وذلك عند خوف الهلاك بسبب قطعه. الحالة الثانية: يباح فيها فعله، وذلك عند خوف الهلاك بسبب تركه. ¬

_ (¬1) الإقناع للحجاوي 2/ 302. (¬2) كشاف القناع للبهوتي 2/ 66.

الحالة الثالثة: الكراهة فيما عدا ذلك. فأما حكمه بحرمة القطع في حالة الخوف من الهلاك بسبب فعل القطع فهو أمر مسلم، ولكن بشرط أن يكون ذلك الخوف مبنيًا على قول الأطباء، وأهل المعرفة وهذه الحالة نادرة الوقوع في العصر الحاضر نظرًا لتطور علم الجراحة ووسائله التي منَّ الله تعالى بها على عباده. وإنما حرم فعل القطع في هذه الحالة لأنه يفضي إلى فوات النفس وتلفها، وهي مفسدة أعظم من مفسدة بقاء الباسور بآلامه، فوجب تقديم المنع والحكم بحرمة فعله. وأما حكمه بإباحته في حال خوفه الهلاك بسبب ترك قطع الباسور فهو مبني على نفس الأصل المتقدم لأن مصلحة حفظ الروح موجودة في القطع، ومفسدة فواتها في تركه، فقدمت مصلحة حفظ الروح بفعل القطع على مفسدة فواتها بتركه والصورة العكسية تقتضي القول بالوجوب في هذه الحالة لأنه مقابل للقول بالحرمة والعلتان متقابلتان، لكن لعله لاحظ أن حصول مصلحة حفظ الروح بفعل القطع في هذه الصورة غالبة بخلاف الصورة الأولى فإنها متيقنة في تركه للقطع الموجب لها. وأما حكمه بكراهة قطعه فيما عدا هاتين الحالتين فهو محل إشكال خاصة وأنه لم يبين مستنده في ذلك، اللهم إلا أن يقال: إنه راعى مفسدة كشف العورة أو أن القطع في عصره كان مشتملاً على ما يوجب الحكم بكراهة فعله، وأيًا ما كان فإن ما تقدم بيانه في مشروعية القطع عند الحاجة يدل على جواز قطع الباسور في هذه الحالة بدون كراهة،

وأما مفسدة كشف العورة فقد نص العلماء -رحمهم الله- على إسقاطها في التداوي نظرًا للحاجة الداعية إليه (¬1)، ثم إن الختان عند طائفة من أهل العلم -رحمهم الله- سنة ومع ذلك أجازوا كشف العورة له، فكذا هنا يجوز كشف العورة لقطع الباسور بدون كراهة .. والله تعالى أعلم. * * * ¬

_ (¬1) الفوائد في اختصار المقاصد لابن عبد السلام 61، 62، تحفة المردود لابن القيم 134، فتح الباري لابن حجر 10/ 341، طرح التثريب للعراقي 1/ 75، ومغني ذوي الأفهام لابن عبد الهادي 29.

المسألة الثانية: هل يجوز قطع الأصبع الزائدة؟.

المسألة الثانية: هل يجوز قطع الأصبع الزائدة؟. لا تخلو الأصبع الزائدة من حالتين: الأولى: أن لا يوجد فيها ألم يدعو إلى قطعها. الثانية: أن يوجد فيها ألم يدعو إلى قطعها. فأما الحالة الأولى: فإنه لا يجوز فيها قطع الأصبع، وذلك لأنه يعد من تغيير خلق الله، وقد حرم الله ذلك في كتابه بقوله حكاية عن إبليس- لعنه الله-: { ... وَلآمُرَنَهُمْ فَلَيُغَيّرُن خَلقَ اللَّهِ} (¬1). وثبت في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلعن المتنمصات، والمتفلجات، والمستوشمات اللاتي يغيرن خلق الله " (¬2). وفي رواية لأحمد: "والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله" (¬3)، فهذا القطع تغيير لخلق الله بقصد الحسن، فاللعن يشمله. قال الإمام القرطبي -رحمه الله-: "قال أبو جعفر الطبري (¬4): ¬

_ (¬1) سو رة النساء (4) آية 119. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) هو الإمام أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير الطبري ولد -رحمه الله- سنة 224 هـ قال عنه الإمام السيوطي -رحمه الله-: "رأس المفسرين على الإطلاق، =

حديث ابن مسعود دليل على أنه لا يجوز تغيير شيء من خلقها الذي خلقها الله عليه بزيادة أو نقصان، التماس الحسن لزوج أو غيره، سواء فلجت أسنانها أو وشرتها، أو كان لها سن زائد فأزالتها .. لأن كل ذلك تغيير خلق الله" (¬1) اهـ. ثم نقل عن القاضي عياض -رحمه الله- (¬2) تعليقه على قول الإمام الطبري هذا فقال: "قال عياض: ويأتي على ما ذكره أن من خلق بأصبع زائدة، أو عضو زائد لا يجوز له قطعه ولا نزعه، لأنه من تغيير خلق الله تعالى" (¬3) اهـ. فتبين من هذا كله أنه لا يجوز قطع الأصبع الزائدة التي لم توجد الحاجة لقطعها، وأن قطعها على هذا الوجه يعتبر داخلاً في المنهي عنه الملعون فاعله وطالبه، ومن ثم فإنه يعتبر من كبائر الذنوب -والعياذ بالله-، ولذلك نص الإمام أحمد -رحمه الله- على حرمة قطعها (¬4). وقد ذهب الدكتور محمد عثمان شبير (¬5) إلى القول بجواز قطع ¬

_ = أحد الأئمة، جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره" اهـ. كان شافعي المذهب ثم انفرد بمذهب مستقل وألف كتابه: أحكام شرائع الإسلام، توفي -رحمه الله- سنة 310 هـ. من مؤلفاته: جامع البيان في تفسير القرآن، وتاريخ الأمم. طبقات المفسرين للسيوطي 30، 31. (¬1) تفسير القرطبي 5/ 393. (¬2) هو القاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي المالكي، ولد -رحمه الله- بسبتة سنة 496 هـ، قال عنه ابن فرحون -رحمه الله-: "كان القاضي أبو الفضل إمام وقته في الحديث، وعلومه، عالمًا بالتفسير وجميع علومه، فقيهًا أصوليًا، عالمًا بالنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم" اهـ. توفي -رحمه الله- بمراكش سنة 544 هـ، وله مصنفات منها: إكمال المعلم، والشفا، ومشارق الأنوار. الديباج المذهب لابن فرحون 168 - 172. (¬3) تفسير القرطبي 5/ 393. (¬4) الإنصاف للمرداوي 1/ 125. (¬5) أستاذ بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الكويت.

الأصبع الزائدة بحجة أنها عيب ونقص في الخلقة (¬1)، واستشهد ببعض العبارات الواردة في كتب الفقهاء المتقدمين والتي تتضمن إسقاط ضمانها بالقيمة المقدرة شرعًا في الأصبع الأصلية، وأنهم أوجبوا فيها حكومة عدل ومن تلك العبارات قول بعض فقهاء الحنفية -رحمهم الله-: " ... وفي الأصبع الزائدة حكومة عدل، تشريفًا للآدمي، لأنها جزء من يده، لكن لا منفعة فيها، ولا زينة" (¬2) اهـ. وهذا القول بجواز قطع الأصبع الزائدة على هذا الوجه مردود لما يلي: أولاً: لمخالفته لنص الكتاب والسنة المقتضي لحرمة تغيير خلقة الله طلبًا للحسن وإزالة للعيب الموجود في أصل الخلقة. ثانيًا: أن إسقاط بعض الفقهاء -رحمهم الله- لضمان هذه الأصبع بالقيمة المعتبرة للأصبع الأصلية لا يوجب إسقاط حرمة الأصبع نفسها، بدليل أنهم أوجبوا ضمانها بحكومة عدل فهذا يدل على اعتبارهم لحرمتها، وإنما يستقيم الاستدلال لو أنهم لم يوجبوا ضمانها بشيء. وعليه فإنه لا يجوز للطبيب ولا للطالب للقطع القيام بفعل هذا القطع، والإذن به ... والله أعلم. ¬

_ (¬1) أحكام جراحة التجميل في الفقه الإسلامي. د. محمد عثمان شبير من بحوث ندوة الرؤية الإسلامية، ثبت الندوة 512. (¬2) الجوهرة النيرة للحدادي 2/ 171، نقلاً عن المصدر السابق.

أن يوجد في الأصبع الزائدة ألم يدعو إلى قطعها

الحالة الثانية: أن يوجد في الأصبع الزائدة ألم يدعو إلى قطعها: وفي هذه الحالة يجوز لصاحبها قطعها لأن قطعها لا يعتبر تغييرًا لخلق الله، ولكن بشرط أن يكون علاج ذلك الألم هو القطع، أما لو أمكن إزالة ذلك الألم بدواء أخف من القطع فإنه يجب المصير إليه ولا يجوز الإقدام على القطع كما هو الحال في جميع الجراحة الطبية (¬1). وإنما جاز القطع في هذه الحالة لمكان الحاجة الداعية إليه، وقياسًا على القطع الأكْلَة والسلعة بجامع الألم وخوف الضرر في كل، وقد أشار إلى استثناء هذه الحالة القاضي عياض -رحمه الله- وحكاه عن الطبري وغيره (¬2). المسألة الثالثة: هل يجوز قطع العصب للتغلب على الألم؟ تعتبر هذه المسألة من المسائل المتعلقة بالجراحة العصبية، وهي محل تساؤل عدد من الأطباء الذين يضطرون إلى معالجة مرضاهم بقطع الأعصاب الناقلة للألم في بعض الحالات المستعصية، وتعرف هذه الجراحة عندهم بجراحة التغلب على الألم (¬3)، ومرادهم بالألم نوع خاص من الآلام وهو الألم العنيد، فلا تعالج بهذا النوع من الجراحة الآلام الخفيفة المحتملة، وإنما تعالج به الآلام القوية المبرحة التي استعصى علاجها على الأطباء، ولذلك يعتبر الألم عندهم عنيدًا في إحدى الحالات الثلاث التالية: ¬

_ (¬1) لأن من شرط جواز فعل الجراحة الطبية ألا يوجد البديل الذي هو أخف ضررًا منها. (¬2) تفسير القرطبي 5/ 393، ونقله بعض فقهاء المالكية -رحمهم الله-. انظر: شرح المواق لمختصر خليل 5/ 422، ومنح الجليل لعليش 3/ 776، 777. (¬3) السلوك المهني للأطباء. د. التكريتي 271.

الحالة الأولى: عدم اكتشاف السبب الموجب للألم. الحالة الثانية: صعوبة معالجة السبب كما في السرطانات. الحالة الثالثة: عدم استجابة الألم للمسكنات المختلفة (¬1). وفي هذه الحالات يقوم الأطباء بقطع العصب الناقل للألم والإشارات الحسية من منطقة الألم إلى الدماغ، والعكس، وبقطع هذه الأعصاب يتخلص المريض من الألم (¬2). ويعتبر الأطباء الجراحة في هذه الحالة هي الحل الوحيد الذي يتعين فعله لإنقاذ المرضى من تلك الآلام المبرحة والتي استعصى علاجها بالوسائل الأخرى كالمهدئات والمسكنات، ولو فرض أنها استجابت لبعض المهدئات والمسكنات القوية فإن المشكلة تكمن في أن هذه المهدئات مركبة من مواد مخدرة كالأفيون وأشباهه من المخدرات التي تقوى على تسكين الآلام المبرحة، إلا أنه لا يمكن العلاج بها لفترة أطول نظرًا لخطورة إدمان المريض عليها، الأمر الذي قد يفضي إلى عواقب ونتائج سيئة قد تفوق الألم المعالج بها من حيث الخطورة والضرر المترتب عليها (¬3). ومن أمثلة هذه الجراحة ما يجرى لعلاج الألم العنيد في الناحية القطنية، أو العجان، أو الأطراف السفلية، حيث يقوم الطبيب الجراح بقطع الحزمة الشوكية السريرية البصرية في أعلى الناحية الظهرية، وفي ¬

_ (¬1) الجراحة العصبية. د. النحاس 339، الجراحة العصبية. د. البكداش 235. (¬2) المصادر السابقة. (¬3) الجراحة العصبية. د. البكداش 235.

الجهة المقابلة إن كان الألم في جهة واحدة (¬1). والذي يظهر والعلم عند الله أن هذا النوع من القطع يجوز فعله وذلك لما يلي: أولاً: أن العلماء -رحمهم الله- أجمعوا على جواز قطع العضو الألم كما سبق بيانه، والعصب جزء من العضو، فإذا جاز قطع الكل لمكان الألم ومشقته فإنه يجوز قطع جزئه للعلة نفسها من باب أولى، وأحرى. ثانيًا: أن من قواعد الشريعة الإسلامية أن الضرر يزال (¬2)، والألم ضرر، فتشرع إزالته، وذلك بالقطع لأنه الحل الوحيد في مثل هذه الحالات. ثالثًا: أن من قواعد الشريعة الإسلامية أن المشقة تجلب التيسير (¬3)، والألم الذي يعاني منه المريض في الحالات التي تستدعي قطع العصب فيه مشقة عظيمة، لا يستطيع معها المريض أن ينام أو يرتاح من عنائها (¬4)، فيشرع التيسير له، وذلك بالإذن له وللطبيب بفعل الجراحة الموجبة لزوال ذلك الألم. ¬

_ (¬1) الجراحة العصبية. د. النحاس 344. (¬2) الأشباه والنظائر للسيوطي 83، والأشباه والنظائر لابن نجيم 85. (¬3) الأشباه والنظائر للسيوطي 76، والأشباه والنظائر لابن نجيم 75. (¬4) من أمثلة ذلك ما ذكره فاروق النحاس عند بيانه لأوصال الألم الموجود في حالة تناذر السرير البصري "وهي من الحالات المندرجة تحت هذا النوع من الجراحة" حيث يقول: "يتصف الألم في هذا التناذر بأنه حارق شديد، قد يمنع المريض من النوم، ولا يستجيب لمختلف الأدوية المسكنة، ويشمل نصف البدن طولا بالكامل" اهـ. الجراحة العصبية د. النحاس 345.

المسألة الرابعة: هل يجوز الزيادة في قدر الجزء المقطوع على سبيل الاحتياط؟.

وينبغي على الأطباء أن يستنفذوا جميع الوسائل التي يمكن عن طريقها إزالة ذلك الألم، أو تخفيضه قبل فعلهم لقطع العصب، فإذا تعذرت إزالته بتلك الوسائل فإنه يشرع لهم فعل الجراحة بالوسيلة التي هي أكثر أمانًا في الجراحة العصبية، وأخف ضررًا، فتقدم الجراحة بالتصويب المجسم على الجراحة الطبية التقليدية (¬1). ويشترط لجواز فعل القطع في هذه الأحوال أن لا يؤدي إلى ضرر أعظم من الضرر الموجود في الألم، فإذا كان القطع مفض إلى ذلك فإنه لا يجوز فعله للقاعدة الشرعية "الضرر لا يزال بالضرر" (¬2) والله أعلم. المسألة الرابعة: هل يجوز الزيادة في قدر الجزء المقطوع على سبيل الاحتياط؟. الأصل في الطبيب الجراح أنه ملزم شرعًا عند قيامه بمهمة القطع أن يتقيد بالقدر المحتاج إلى قطعه فإذا كان محتاجًا مثلاً إلى قطع شيء من الأصبع، وكان قدر حاجته منحصرًا في الأنملة العليا فإنه يجب عليه أن يقتصر عليها دون زيادة. وهذا مبني على أن الأصل في القطع أنه محرم لكونه مفسدة وإتلافًا، فلما وجدت الحاجة الداعية إلى فعله من دفع الضرر الموجود في العضو المقطوع جاز فعله، وتقيد الجواز بالموضع المحتاج إليه ¬

_ (¬1) الجراحة بالتصويب المجسم تستعمل فيها أجهزة آلية تتألف من دائر ة معدنية مرقمة يدخل فيها رأس المريض ويتم فيها إدخال مسبار إلى المنطقة المراد معالجتها عبر ثقب صغير في القحف، وتعالج بها بعض حالات الألم المعند. انظر الجراحة العصبية. د. بكداش 8، 9 الجراحة العصبية. د. النحاس 344، 345. (¬2) الأشباه والنظائر للسيوطي 86، والأشباه والنظائر لابن نجيم 87، وشرح القواعد الفقهية للزرقاء 141.

للقاعدة الشرعية التي تقول: "ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها" (¬1). وعلى هذا فإن الأصل في الزيادة أنها محرمة، إلا أن هناك حالات يعمد الأطباء فيها إلى الزيادة على الموضع المحدد لخوف أن تكون الآفة قد سرت إلى ذلك الجزء المزيد فيقومون بقطعه على سبيل الاحتياط ويعتذرون بخوف السريان وصعوبة الفتح للموضع ثانية، والذي يظهر والعلم عند الله أنه لا حرج في هذه الزيادة بشرط أن يغلب على ظن الطبيب إمكان السريان وأن يكون الجزء المقطوع في موضع يصعب فتحه ثانية .. والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر للسيوطي 84، والأشباه والنظائر لابن نجيم 86، وشرح القواعد الفقهية للزرقاء 133.

المبحث الثاني في (الاستئصال)

المبحث الثاني في (الاستئصال) وهذا النوع من المهمة الجراحية يقوم فيه الطبيب الجراح باجتثاث الداء، وانتزاعه من جذوره (¬1)، وغالبًا ما يجري لعلاج الأورام والغدد الملتهبة والتي أصبحت تهدد الجسم بضررها. ومهمة الاستئصال مشروعة من حيث الجملة لمكان الحاجة الداعية إلى فعلها والتي قد تصل في بعض الحالات إلى مرتبة الضروريات كما في حالة استئصال الأورام الخبيثة (السرطانات) والتي يقصد منها إنقاذ المصاب من الموت. فيشرع فعل الاستئصال قياسًا على القطع المشروع بجامع وجود الحاجة الداعية إلى فعل كل منهما. والجزء المستأصل من الجسم إنما يلجأ لاستئصاله من أجل التلف إما بسبب الورم كما في حالة إصابة العضو بالسرطان، وإما بسبب التهابه وتضخمه كما في حال التهاب الغدد واللوزتين، وبيان حكم الأعضاء المستأصلة في هذه الحالات المشهورة يتضح فيما يلي: (1) حكم استئصال الأورام: يعرف الأطباء الورم بأنه "كتلة من الأنسجة ناتجة عن نمو غير ¬

_ (¬1) المصباح الوضاح في صناعة الجراح. د. جورج بوست 124.

طبيعي للخلايا" (¬1) فهي زيادات تحدث في جسم المصاب بسبب آفة أو علة تصيب الخلايا (¬2). وتنقسم الأورام عندهم إلى القسمين التاليين: القسم الأول: أورام حميدة: وتمتاز ببطء نموها، وبأنها محاطة من الخارج بغلاف يحددها تحديدًا واضحًا من الأنسجة المحيطة بها، وخلاياها لا تتسرب إلى الدم أو إلى اللنف. ويقرر الأطباء أن هذا النوع من الأورام سليم العاقبة في الغالب، وينحصر ضرره في بعض الحالات ومنها أن يضغط على عضو مجاور، أو على عصب الأمر الذي يؤدي إلى ألم أو شلل العضو لضيق مجرى العروق (¬3). وبناء على قولهم هذا، فإن الأصل في الأورام الحميدة أنه لا يجوز استئصالها شرعًا إلا بعد وجود الحاجة الداعية إلى ذلك مثل ما تقدم من ضغطها على الأعضاء أو الأعصاب ونحوها من الحالات التي يوجد فيها الضرر الموجب للاستئصال. إلا أنه يدخل في حكم الحالات الجائزة الأورام الحميدة التي يخشى من تحولها إلى أورام خبيثة سرطانية ومن أمثلة ذلك ما يلي: (1) الورم الغدي المعدي. ¬

_ (¬1) الموسوعة الطبية العربية. د. البيرم 332. (¬2) الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 6/ 1292. (¬3) المصدرين السابقين، المصباح الوضاح د. جورج بوست 123، 124.

(2) الورم البنكرياسي المعدي. (3) الورم الشغافي المعدي (¬1). فنظرًا لمكان الخوف من تحول هذه الأورام إلى أورام سرطانية مميتة، فإنه يشرع استئصالها ... والله أعلم. القسم الثاني: أورام خبيثة: وهي أورام تتميز بسرعة نموها، وانتشارها في الجسم المصاب (¬2)، وتشتمل على مجموعتين: المجموعة الأولى: السرطانات. المجموعة الثانية: السركومات (¬3). وهذا النوع من الأورام أشد خطرًا، وأعظم ضررًا، وينتهي بصاحبه إلى الموت، ولا تخلو هذه الأورام من حالتين: الحالة الأولى: أن تكون منحصرة في موضع معين، ومن أمثلتها ما يلي: ¬

_ (¬1) جراحة البطن. د. اللبابيدي، د. الشامي213 - 215. (¬2) المصباح الوضاح د. جورج بوست 123، 124 الشفاء بالجراحة. د. فاعور 273، الموسوعة الطبية العربية. د. البيرم 332، الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 6/ 1292. (¬3) الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 6/ 1297، السركوما: ورم خبيث مكون من خلايا النسيج الضام، وهو ورم ينمو بسرعة، ويبلغ حجماً كبيرًا، وينتهي بوفاة المريض إذا لم يعالج مبكرًا. الموسوعة الطبية العربية. د. البيرم 181.

(1) سرطان القولون (¬1). (2) أورام الكبد البدئية الخبيثة (¬2). (3) أورام الثدي الخبيثة (¬3). ْ (4) سرطان الخصيتين (¬4). (5) سرطان المستقيم (¬5). وفي هذه الحالة يعتبر الاستئصال دواء ناجحًا لشفاء المريض، ونجاته من خطر هذه الأورام -بإذن الله تعالى- فيجوز فعله لمكان الحاجة الداعية إلى ذلك، والتي قد تبلغ إلى مقام الضروريات ... والله أعلم. الحالة الثانية: أن تنتشر الأورام في جسم المصاب، وذلك عن طريق الخلايا، وفي هذه الحالة يعتبر الاستئصال لجميع تلك الأورام متعذرًا لتعدد مواضعها، إضافة إلى أن هذه الأورام قد تعود إذا استئصلت من موضعها (¬6). وهذه الحالة هي أخطر الحالات، وتنتهي بالمصاب إلى الموت ¬

_ (¬1) الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 6/ 1297. (¬2) الشفاء بالجراحة: د. الفاعور 131، 132، وجراحة البطن د. اللبابيدي، د. الشامي 108، 110. (¬3) الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 6/ 1293، 1294. (¬4) الشفاء بالجراحة. د. الفاعور 247 - 249. (¬5) جراحة البطن. د. اللبابيدي، ود. الشامي 358، الشفاء بالجراحة د. الفاعور 88. (¬6) المصباح الوضاح د. جورج بوست 123.

المحقق، ولذلك يصف الأطباء العلاج بالجراحة فيها بكونه ملطفًا أي أنه ليس بعلاج دوائي (¬1). كما هو الحال في الحالات السابقة. والذي يظهر أن الاقتصار على العلاج بالدواء في هذه الحالة، وعدم الإقدام على الاستئصال هو المتعين، نظرًا لفقد الفائدة الموجودة من الاستئصال فلا حاجة لتعذيب المرضى وتحميلهم لعبء الجراحة وأخطارها. ومن أمثلة هذه الحالة ما يلي: (1) سرطان البنكرياس في حالاته المتقدمة (¬2). (2) أورام الكبد الثانوية (¬3). (3) سرطان الرئة في حالاته المتقدمة (¬4). (4) سرطان المعدة المنتشر (¬5). (5) سرطان المرارة المستفحل (¬6). ¬

_ (¬1) انظر على سبيل المثال: جراحة البطن. د. اللبابيدي، د. الشامي 211، الشفاء بالجراحة. د. الفاعور 109. (¬2) جراحة البطن. د. اللبابيدي د. الشامي 171. (¬3) يقول الدكتور محمود فاعور عن هذا النوع من أورام الكبد الثانوية: " ... أما الأورام الثانوية فاستئصالها وعدمه سيان، ونادرًا ما يقوم الجراح باستئصال هذه الأورام لعدم جدوى هذه الخطوة إلا في حالات استثنائية" اهـ. الشافاء بالجراحة. د. الافاعو ر 132. (¬4) المصدر السابق 170، 171. (¬5) جر احة البطن. د. اللبابيدي.، د. الشامي 211. (¬6) يقول الدكتور محمود فاعور عن هذا النوع من السرطان وإمكانية علاجه بالاستئصال جراحيًا: " ... نتائج العمل الجراحي ليست مشجعة تمامًا ذلك لأن تشخيص هذه الحالات لا يأتي إلا متأخرًا، وبعد أن يكون الداء قد استفحل لذلك نجد أن نسبة الذين يظلون على قيد الحياة مدة خمس سنوات بعد إجراء العملية لا تتعدى خمسة =

(2) حكم استئصال الغدد الملتهبة: ومن أمثلتها: غدة البروستاتا (¬1)، والغدة الشحمية (¬2)، والغدتان النكفيتان (¬3). ونظرًا لأهمية وجود هذه الغدد وقيامها بدورها في جسم الإنسان فإن استئصالها لاشك سيؤثر على الجسم لا محالة، لذلك فإن الأطباء لا يلجئون إلية إلا بعد وجود الحاجة الداعية إليه، وعدم إمكان علاجها بالدواء، بحيث يصبح الاستئصال هو الحل النهائي والأخير (¬4). وهذا الأمر متفق مع الشرع، وقيامهم بالاستئصال عند وجود الحاجة يعتبر من قبيل درء المفاسد، ومن ثم فإنه يلغي اعتبار المصالح المترتبة على وجودها، خاصة وأن هذه المصالح ستقل أو تنعدم بالكلية في حال التهاب هذه الغدد، ويصبح وجودها ضررًا محضًا يهدد حياة المريض، فلا حرج في الإقدام على استئصالها للقاعدة الشرعية التي تقول: "الضرر يزال" (¬5). ¬

_ = في المائة" اهـ. الشفاء بالجراحة. د. الفاعور 109. (¬1) البروستاتا: "غدة في حجم متوسط تحيط إحاطة تامة بأول القناة البولية بمجرد خروجها من المثانة". الموسوعة الطبية العربية د. البيرم 57. (¬2) الغدة الشحمية: "غدد صغيرة منتشرة في الجلد إفرازها دهني يمر في قنوات صغيرة تصب في بصيلات الشعر في الإنسان". المصدر السابق 253. (¬3) الغدتان النكفيتان: "غدتان من أكبر الغدد اللعابية، وتقع كل واحدة منهما على جانب الوجه تحت الأذن تمامًا وأمامها". الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 5/ 1017. (¬4) الشفاء بالجراحة. د. الفاعور 226، 228، 231، 233، وأمراض الغدد. محمد رفعت 156، الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 5/ 1009، 1010. (¬5) الأشباة والنظائر للسيوطي ص 83، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 85.

المبحث الثالث في (الشق)

المبحث الثالث في (الشق) من المهمات التي تشتمل عليها مرحلة العمل الجراحي مهمة الشق، ويقصد من ورائها الكشف عن موضع الداء واستئصاله أو الكشف عن موضع معين لفحصه أو إخراج شيء منه كما هو الحال في جراحة الولادة. والشق الجراحي المحتاج إليه لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون ضروريًا. الحالة الثانية: أن يكون حاجيًا. ففي الحالة الأولى يقصد منه إنقاذ النفس المحرمة، ومن أشهر أمثلته ما يجرى في جراحة الولادة من شق بطن الحامل بقصد استخراج جنينها الحي، أو الميت إذا خشي على ذلك الجنين أو على أمه أو عليهما معًا. وقد تقدم أن هذا النوع من الجراحة يعتبر ضروريًا، وأن بعض العلماء -رحمهم الله- يرى وجوب فعله (¬1). وأما الحالة الثانية فإنه يقصد منها إزالة الضرر الموجود، أو المتوقع، فمثال الأول: ما يجرى في شق الجلد الموجود بين أصابع ¬

_ (¬1) تقدم الكلام عنه.

هل يجوز شق بطن الحامل بعد موتها لإخراج جنينها إذا رجيت حياته؟.

القدمين واليدين (¬1)، وكذلك ما يجرى في جراحة الو لادة من شق العجان إذا غلب على الظن تمزقه (¬2). وفي كلتا الحالتين يعتبر الشق الجراحي مشروعًا نظرًا لوجود الحاجة الداعية إلى فعله فهو وإن كان إتلافًا ومفسدة لكن المقصود منه مصلحة تربو على تلك المفسدة إضافة إلى أن مفسدته زائلة بالخياطة والتحام طرفي موضع الشق، وكما جاز القطع كذلك يجوز الشق بجامع وجود الحاجة في كل منهما. ومن المسائل المتعلقة بهذه المهمة، والتي اختلف فيها الفقهاء -رحمهم الله- قديمًا مسألة شق بطن المرأة الحامل إذا ماتت وفي بطنها جنين رجيت حياته، فهل يجوز للأطباء أن يقوموا بشق البطن واستخراج ذلك الجنين أم لا يجوز لهم ذلك؟ وبيانها فيما يلي: المسألة الأولى: هل يجوز شق بطن الحامل بعد موتها لإخراج جنينها إذا رجيت حياته؟. اختلف الفقهاء -رحمهم الله- في هذه المسألة على قولين: القول الأول: يشق عن بطنها لإخراجه إذا رجيت حياته. ¬

_ (¬1) المصباح الوضاح د. جورج بوست 658، الجديد والقديم في جراحة العظام والتقويم. د. السيد محمد وهب 53. (¬2) الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 6/ 1308.

وبه قال الإمام أبو حنيفة (¬1)، ومحمد بن الحسن (¬2) من أصحابه، وهو مذهب الشافعية (¬3)، والظاهرية (¬4)، واختاره بعض المالكية (¬5). والحنابلة (¬6). ¬

_ (¬1) هو الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي بن ماه، إمام المذهب الحنفي، ولد -رحمه الله- سنة 80 هـ، وهو من أجلاء علماء السلف وفقهائهم، تتلمذ على حماد بن أبي سليمان وأخذ عن الشعبي والزهري وغيرهم -رحمهم الله- وله مناقب كثيرة. توفي -رحمه الله- ببغداد في شعبان من سنة 150 هـ. البداية والنهاية لابن كثير 10/ 107، وفيات الأعيان لابن خلكان 5/ 39 - 47. وقوله في هذه المسألة بجواز شق بطن الحامل نقله ابن نجيم فقال -رحمه الله- عند بيانه لفروع قاعدة إزالة الضرر الأشد بالأخف: "ومنها جواز شق بطن الميتة لإخراج الولد إذا كانت ترجى حياته، وقد أمر به أبو حنيفة -رحمه الله- فعاش الولد كما في الملتقط" اهـ. الأشباه والنظائر لابن نجيم 88. وقوله -رحمه الله- الشق هو المذهب عند أصحابه. تحفة الفقهاء للسمرقندي 3/ 245، الدر المختار للحصكفي 1/ 166، 167. (¬2) هو الإمام محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني، ولد -رحمه الله- بواسط سنة 132 هـ، ونشأ بالكوفة، صحب الإمام أبا حنيفة -رحمه الله- وأخذ عنه الفقه، وكان من كبار المجتهدين من أصحابه، وتلقى عن الإمام محمد بن الحسن علماء أجلاء منهم الإمام الشافعي -رحمه الله- وفيه يقول: "أخذت عن محمد وقر بعير من علم ... " اهـ. توفي -رحمه الله- سنة 189 هـ، وله مصنفات منها: الجامع الكبير، الجامع الصغير، الزيادات. البداية والنهاية لابن كثير 10/ 202، 203، الفوائد البهية في تراجم الحنفية للكنوي 163، انظر قوله في هذه المسألة في الفتاوى الهندية 1/ 157، 158. (¬3) المهذب للشيرازي 1/ 138، روضة الطالبين للنووي 2/ 143، ومغني المحتاج للشربيني 1/ 377. (¬4) المحلى لابن حزم 5/ 166. (¬5) بهذا القول قال أشهب بن عبد العزيز، وسحنون، واللخمي من المالكية. حاشية الدسوقي 1/ 474، شرح الخرشي 2/ 49، منح الجليل لعليش 1/ 320. (¬6) اختار هذا القول ابن هبيرة -رحمه الله- واشترط عجز القوابل عن إخراجه. انظر كتابه الإفصاح 83، وحكى اختياره المرداوي -رحمه الله- وقال بعد ذكره: "قلت: وهو أولى" اهـ. الإنصاف للمرداوي 2/ 556.

القول الثاني:

القول الثاني: لا يشق عن بطنها. وهو مذهب المالكية (¬1)، والحنابلة (¬2). الأدلة: أ- دليل القول الأول: استدل القائلون بشق بطن الحامل لإنقاذ الجنين بدليل النقل، والعقل. 1 - دليلهم من النقل: قوله تعالى: {وَمَنْ أحْيَاهَا فَكأنَّمَا أحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ... } (¬3). وجه الدلالة: أن الشق سبب في إحياء الجنين -بإذن الله تعالى- فهو داخل فيما دعت إليه الآية، فينبغي فعله. 2 - دليلهم من العقل: استدلوا بالعقل من وجهين: ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي 1/ 474، شرح الخرشي 2/ 49، منح الجليل لعليش 1/ 320، المدونة لسحنون 1/ 190. (¬2) نص على هذا القول الإمام أحمد -رحمه الله- في رواية ابنه صالح عنه، وهذا القول هو مذهب أصحابه. انظر المبدع لابن مفلح 2/ 279، الإنصاف للمرداوي 2/ 556، كشاف القناع للبهوتي 2/ 169، المحرر للمجد 1/ 207. (¬3) سورة المائدة (5) آية 32. وقد احتج بهذه الآية على حكم هذه المسألة الإمام ابن حزم -رحمه الله- في المحلى 5/ 166.

ب- دليل القول الثاني:

الوجه الأول "القياس": أنه (¬1) استبقاء حي بإتلاف جزء من الميت فأشبه إذا اضطر إلى أكل جزء من الميت" (¬2). الوجه الثاني: "النظر": 1 - "أنه تعارض حقاهما (¬3)، فقدم حق الحي لكون حرمته أولى" (¬4). 2 - أن إنقاذ النفس المحرمة واجب، والجنين نفس محرمة، وقد توقف أداء ذلك الواجب على الشق فوجب فعله (¬5). ب- دليل القول الثاني: استدل القائلون بعدم جواز شق بطن الحامل لإنقاذ جنينها بالنقل والعقل. (1) دليلهم من النقل: حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ¬

_ (¬1) الضمير عائد إلى شق بطن الحامل. (¬2) ذكر هذا الدليل الإمام الشيرازي -رحمه الله- في المهذب 1/ 138. (¬3) المراد بقوله "حقاهما" حق المرأة الحامل وهو المحافظة عليها بدون شق لجلدها، وحق الجنين المتمثل في إنقاذه بالشق. (¬4) المبدع لابن مفلح 2/ 280، وقد أشار إلى هذا المعنى الإمام علاء الدين السمرقندي -رحمه الله- في تحفة الفقهاء 3/ 345. (¬5) أشار إلى ذلك الخطيب الشربيني -رحمه الله- بقوله بعد ذكره لوجوب إخراج المرأة الحامل بعد دفنها وفى بطنها الجنين الذي ترجى حياته فقال -رحمه الله-: "نبشت وشق جوفها تداركًا للواجب" اهـ. مغني المحتاج للشربيني 1/ 377، والمراد بالواجب إنقاذ الجنين من الموت.

- صلى الله عليه وسلم -: "إن كسر عظم المؤمن ميتًا مثل كسر عظمه حيًا" (¬1). وفي حديث أم سلمة رضي الله عنها بزيادة: "في الإثم" (¬2). وجه الدلالة: أن الحديث دل على أن حرمة جثة الميت كحرمتها في حال الحياة، وكما لا يجوز شق بطن الحامل في الحياة كذلك لا يجوز بعد موتها (¬3). (2) دليلهم من العقل: استدل أصحاب هذا القول بالعقل من وجهين: الوجه الأول: أن في شق بطن الحامل على هذا الوجه انتهاكًا لحرمة متيقنة (¬4) لإبقاء حياة موهومة (¬5). الوجه الثاني: أنه (¬6) لو خرج حيًا فالغالب المعتاد أنه لا يعيش (¬7). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه ابن ماجة في سننه 1/ 516، وفي إسناده راو مجهول. انظر إرواء الغليل للألباني 3/ 215، 216. (¬3) هذا الحديث احتج به الإمام أحمد -رحمه الله- على حرمة شق بطن الحامل لإنقاذ جنينها. انظر المبدع لابن مفلح 2/ 279، كشاف القناع للبهوتي 2/ 169. (¬4) المراد بالحرمة المتيقنة حرمة جسد الحامل الميتة. (¬5) المراد بالحياة الموهومة حياة الجنين في بطن أمه. (¬6) الضمير عائد إلى الجنين. (¬7) ذكر هذين الوجهين العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن مفلح =

الترجيح: الذي يترجح في نظري- والعلم عند الله- هو القول الأول وذلك لما يأتي: أولاً: لصحة ما ذكروه في استدلالهم. ثانيًا: وأما استدلال أصحاب القول الثاني بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فيجاب عنه من وجهين: الوجه الأول: لا نسلم أن في شق بطن الحامل الميتة على هذا الوجه انتهاكًا لحرمتها، لأنه لا يقصد به إهانتها، وإنما المقصود منه إنقاذ النفس المحرمة من الهلاك امتثالاً للشرع فهو قصد موافق لمقاصد الشريعة التي منها حفظ النفس (¬1)، وإذا كان القصد موافقًا للشرع فإن القاعدة تقول: "الأمور بمقاصدها" (¬2)، فيجوز فعل الشق لصحة مقصده شرعًا. ¬

_ = -رحمه الله- في كتابه المبدع 2/ 279، وذكرهما الشيخ منصور بن إدريس البهوتي -رحمه الله-، ولكنه جعل الوجه الثاني بمثابة التعليل للوجه الأول، خلافا لابن مفلح. كشاف القناع للبهوتي 2/ 169، وأشار إلى الوجه الأول بعض فقهاء المالكية -رحمهم الله-. حاشية الدسوقي 1/ 474، منح الجليل لعليش 1/ 319. (¬1) المستصفى 1/ 271. (¬2) الموافقات للشاطبي 2/ 225، الأشباه والنظائر لابن نجيم 27،الأشباه والنظائر للسيوطي 8.

الوجه الثاني: سلمنا فرضًا أن فيه انتهاكًا لحرمتها، لكن نقول تعارضت مفسدتان: إحداهما: انتهاك حرمة الحامل الميتة بشق بطنها. والثانية: انتهاك حرمة الجنين بتركه يموت داخل بطنها. فوجب الترجيح بينهما، فوجدنا مفسدة الشق فيها ضرر بجزء من الجسد وهو البطن ووجدنا مفسدة ترك الجنين فيها ضرر بتلف النفس والروح، فعلمنا أن مفسدة شق بطن الحامل أخف إضافة إلى أنها تزول بالخياطة، بخلاف مفسدة موت الجنين فإنها أعظم ومما لا يمكن تداركه فوجب اعتبارها وتقديمها للقاعدة الشرعية التي تقول: "إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمها ضررًا بارتكاب أخفهما" (¬1). ثالثًا: وأما استدلالهم بالعقل فيجاب عنه من وجهين: ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر لابن نجيم 89، الأشباه والنظائر للسيوطي 87، شرح القواعد الفقهية للزرقاء 147. وقد أجاب الإمام ابن حزم الظاهري -رحمه الله- عن الاستدلال بهذا الحديث بأنه مقصور على الكسر أي أنه خارج عن موضع النزاع. المحلى 5/ 166. وبعد كتابة ما سبق من الترجيح وجدت كلامًا للشيخ عبد الرحمن ابن سعدي -رحمه الله- في هذه المسألة خلص فيه إلى القول بجواز الشق وأجاب بنحو ما تقدم فقال رحمه الله: "ومما يدل على جواز شق البطن وإخراج الجنين الحي أنه إذا تعارضت المصالح والمفاسد قدم أعلى المصلحتين وارتكب أهون المفسدتين، وذلك أن سلامة البطن من الشق مصلحة وسلامة الولد ووجوده حيًا مصلحة أكبر، وأيضًا فشق البطن مفسدة وترك المولود الحي يختنق في بطنها حتى يموت مفسدة أكبر، فصار الشق أهون المفسدتين، ثم نعود فنقول الشق في هذه الأوقات صار لا يعتبره الناس مثلة ولا مفسدة، فلم يبق شيء يعارض إخراجه بالكلية" اهـ. المختارات الجلية لابن سعدي 320.

أحدهما: أن الوجه الأول مردود بأن الفقهاء -رحمهم الله- اشترطوا ما يوجب غلبة الظن بوجود الجنين وذلك ببلوغه لستة أشهر فأكثر وهي مدة يغلب على الظن فيها حياته (¬1)، فانتفى وصف الحياة بكونها موهومة، وأصبح الوهم فيما يقابل غلبة الظن وهو احتمال أن يكون الجنين ميتًا. الثاني: أن الوجه الثاني مردود بأن عيش الجنين أو موته بعد خروجه أمر مرده إلى الله تعالى، والقطع بأحد الاحتمالين مستحيل، والحكم بغلبة الظن والعادة المذكورة لعله حدث فيما كان دون المدة السابقة التي اشترطها الفقهاء -رحمهم الله- القائلون بجواز الشق (¬2)، ولو حدث فيمن بلغ المدة المذكورة فإنه يحتمل أن يكون ذلك بسبب عدم توفر العناية اللازمة، والتي تيسرت بفضل الله تعالى في هذا العصر الحديث. رابعًا: أن من فقهاء المالكية والحنابلة الذين حكموا بعدم جواز شق بطن الحامل من أجل إنقاذ الجنين الذي يتحرك في بطنها من يرى جواز الشق عن بطن الميت إذا بلع مال غيره بغير إذنه ولم يبذل ورثته ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي 1/ 474، منح الجليل لعليش 1/ 320، شرح الخرشي 2/ 49، المجموع للنووي 5/ 301، نهاية المحتاج للرملي 3/ 39، مغني المحتاج للشربيني 1/ 377، المحلى لابن حزم 5/ 166. (¬2) يشهد لذلك حياة الجنين الذي أمر الإمام أبو حنيفة -رحمه الله- بشق بطن أمه. انظر الأشباه والنظائر لابن نجيم 88، ونقل بعض المالكية -رحمهم الله- حادثة مثلها اختلف فيها أشهب بن عبد العزيز وعبد الرحمن بن القاسم فأجاز الأول الشق ومنع الثاني، فأخذ بقول أشهب وعاش الجنين. انظر: الفواكه الدواني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني لابن غنيم 1/ 351.

لصاحب المال حقه (¬1)، فإذا كان هذا في المال فلاشك أن إنقاذ حياة الجنين أولى، ولو قيل: إن الحصول على المال مقطوع بخلاف حياة الجنين فإنه متوهم (¬2). قلنا: إن حياة الجنين محكوم بها على غلبة الظن كما تقدم وليست بمتوهمة والله أعلم. وهذا النوع من مهمة الشق يعتبر فعله واجبًا على الطبيب الجراح ولا يجوز له الامتناع عن فعله إلا لعذر معتبر شرعًا. وإنما وجب عليه فعله لكونه مأمورًا شرعًا بإنقاذ النفس المحرمة التي يستطيع فعل الأسباب الموجبة لإنقاذها ونجاتها -بإذن الله تعالى- وقد تقدم بيان وجه ذلك في الجراحة العلاجية الضرورية (¬3). وقد نص الفقهاء -رحمهم الله- الذين يقولون بمشروعية شق بطن الحامل الميتة لإنقاذ جنينها الحي- على وجوب فعل الشق، وإنقاذ الجنين، ولاشك في أن أحق من يتعلق به هذا الحكم هم الأطباء الجراحون الذين وهبهم الله أهلية القيام بمهمة الجراحة اللازمة لإنقاذ الجنين في مثل هذه الحالة. ففي المذهب الحنفي حكى بعض فقهائه -رحمهم الله- عن الإمام أبي حنيفة -رحمه الله-: "أنه أمر بشق بطن الحامل" (¬4)، وظاهر الأمر الوجوب. ¬

_ (¬1) شرح الخرشي 2/ 49، منح الجليل لعليش 1/ 319، الإنصاف للمرداوي 2/ 554 كشاف القناع للبهوتي 2/ 168، المبدع لابن مفلح 2/ 278. (¬2) الفواكه الدواني لابن غنيم 1/ 351. (¬3) تقدم الكلام عنه. (¬4) الأشباه والنظائر لابن نجيم 88.

ولما سئل صاحبه الإمام محمد بن الحسن الشيباني -رحمه الله- عن المسألة نفسها قال: "يشق بطنها، ويخرج الولد لا يسع إلا ذلك" (¬1) اهـ. فقوله -رحمه الله-: "لا يسع إلا ذلك" واضح في الدلالة على تعين الشق ولزوم فعله. وفي المذهب الشافعي قال صاحب تحفة المحتاج -رحمه الله- ما نصه: " ... ويجب شق جوفها لإخراجه قبل دفنها، وبعده ... " (¬2) اهـ. فقوله -رحمه الله- "ويجب" نص في الوجوب، ولزوم إنقاذ الجنين بشق بطن الحامل. وقال العلامة شمس الدين محمد بن أحمد بن شهاب الدين الرملي الشافعي (¬3) -رحمه الله-: " ... لو دفنت امرأة حامل بجنين ترجى حياته بأن يكون له ستة أشهر فأكثر فيشق جوفها، ويخرج، إذ شقه لازم قبل دفنها أيضًا ... " (¬4) اهـ. فقوله -رحمه الله-: "إذ شقه لازم" واضح في الدلالة على وجوب فعل الشق ولزومه. ¬

_ (¬1) الفتاوى الهندية 157، 188. (¬2) حواشي الشرواني والعبادي على تحفة المحتاج 3/ 205 شرح التحفة. (¬3) هو الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن حمزة الرملي ولد -رحمه الله- بالقاهرة سنة 919 هـ، ولي إفتاء الشافعية وهو من فقهائهم المبرزين، توفي -رحمه الله- في سنة 1004 هـ وله مصنفات منها: نهاية المحتاج، والفتاوى غاية البيان. معجم المؤلفين عمر كحالة 8/ 255، 256. (¬4) نهاية المحتاج للرملي 3/ 39.

ومن هذا كله نخلص إلى وجوب فعل هذا النوع من الجراحة الطبية، وأنه لا يجوز للطبيب الجراح أن يمتنع من فعلها بدون عذر شرعي، والنصوص السابقة من كلام أهل العلم -رحمهم الله- واضحة في الدلالة على ذلك، بل نص بعضهم على أنه إذا امتنع الإنسان من فعل الشق متعمدًا فإنه يعتبر قاتلاً. قال الإمام أبو محمد علي بن حزم الظاهري -رحمه الله-: "ولو ماتت امرأة حامل، والولد حي يتحرك قد تجاوز ستة أشهر فإنه يشق بطنها طولاً، ويخرج الولد، لقول الله تعالى: {وَمَنْ أحْيَاهَا فَكَأنَّمَا أحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} (¬1)، ومن تركه عمدًا حتى يموت فهو قاتل نفس ... " (¬2) اهـ. وللحكم بوجوب الجراحة وشق بطن الحامل الميتة في هذه الحالة شرط نص عليه بعض الفقهاء القائلين بالوجوب وهو رجاء حياة الجنين، وفسر باكتمال الأشهر التي يغلب على الظن فيها الحكم بحياته، وهي عندهم سته أشهر، (¬3) ومنهم من قال ستة أشهر فأكثر دون حد (¬4)، ومنهم من قال سبعة أشهر، أو تسعة أشهر فأكثر (¬5). وورد في الموسوعة الطبية الحديثة - التي أشرف على تأليفها عدد من الأطباء المختصين ما يشهد باعتبار ما بعد الستة الأشهر فرصة لبقاء ¬

_ (¬1) سورة المائدة (5) آية 32. (¬2) المحلى لابن حزم 5/ 166. (¬3) المجموع للنووي 5/ 301، نهاية المحتاج للرملي 3/ 39، مغني المحتاج للشربيني 1/ 377، ترشيح المستفيدين للسقاف 138. (¬4) المحلى لابن حزم 5/ 166. (¬5) حاشية الدسوقي 1/ 474، منح الجليل لعليش 1/ 320.

الجنين حيًا حيث ورد فيها ما نصه: "وتكون للجنين فرصة في البقاء حيًا إذا ولد بعد الشهر السادس من الحمل" (¬1) اهـ. فدل هذا على اعتبار الستة الأشهر فما فوق فرصة لحياة الجنين. واختلف الفقهاء -رحمهم الله- الذين يقولون بجواز شق بطن الحامل في كيفية الشق، فمنهم من يراه طولاً (¬2)، ومنهم من يقول بالشق في خاصرتها اليسرى لأنها أقرب لجهة الجنين، ومنهم من يفصل فيقول يشق من خاصرتها اليسرى إذا كان الجنين أنثى، ومن خاصرتها اليمنى إذا كان ذكرًا (¬3). والذي يظهر والعلم عند الله أنه يرجع في هذا الأمر إلى الأطباء المختصين وهم أهل لتقرير ما يرونه متفقًا مع أصول صنعتهم .. والله تعالى أعلم. * * * ¬

_ (¬1) الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 1/ 23. (¬2) هذا القول للإمام ابن حزم الظاهري -رحمه الله- المحلى لابن حزم 5/ 166. (¬3) حاشية الدسوقي 1/ 474، منح الجليل لعليش 1/ 320، شرح الخرشي 2/ 49، الدر المختار للحصكفي 1/ 116، فتح العلي المالك لعليش 1/ 158.

المبحث الرابع نقل وزراعة الأعضاء

المبحث الرابع نقل وزراعة الأعضاء تعتبر مهمة نقل وزراعة الأعضاء من المهمات الجراحية الحديثة التي طرأت في العصر الحاضر منذ سنوات قريبة، وقد كان فعلها قبل يعد ضربًا من المستحيل والخيال، وهذه المهمة تشتمل على ثلاث مراحل وهي: المرحلة الأولى: أخذ العضو من الشخص المتبرع أو الحيوان المنقول منه. المرحلة الثانية: بتر نظيره، وتهيئة أطرافه في الشخص المنقول إليه. المرحلة الثالثة: وضع العضو المنقول في موضعه المهيأ له في الشخص المنقول إليه. ولا يخلو المنقول منه العضو من إحدى صورتين: الأولى: أن يكون إنسانًا، سواء كان حيًا أو ميتًا. الثانية: أن يكون حيوانًا، سواء كان ميتة، أو مذكى.

وقد تكلم الفقهاء المتقدمون -رحمهم الله- على بعض المسائل المتعلقة بالصورة الثانية، وأما الصورة الأولى فإنها لم تكن موجودة ولا معروفة في عصورهم، وإن كانوا قد تكلموا على أصول يمكن تخريج هذه المسألة عليها (¬1). لذلك اجتهد العلماء، والباحثون في العصر الحاضر في معرفة حكم الشرع في هذه النازلة، وصدرت في ذلك فتاوى عديدة من الأفراد، والهيئات، والمجامع، والمؤسسات العلمية، كما كتبت فيها بعض البحوث والمقالات (¬2)، اختلف فيها أصحابها، فمنهم من يرى الجواز، ومنهم من يرى عدمه، وسيأتي إن شاء الله بيان جميع ذلك في موضع. ونظرًا إلى أن هذه المهمة تنقسم إلى الصورتين اللتين سبقت الإشارة إليهما فإنه من المناسب تقسميم الكلام على حكمها إلى مطلبين يشتمل الأول منهما على حكم نقل الأعضاء من إنسان إلى إنسان. والثاني على حكم نقل الأعضاء من حيوان إلى إنسان. وبيان كل منهما فيما يلي: ¬

_ (¬1) تقدم الكلام عنه. (¬2) ذكر فضيلة الشيخ الدكتور بكر عبد الله أبو زيد عددًا كبيرًا من تلك البحوث والمقالات والفتاوى. انظر بحثه: التشريح الجثماني ص 3 - 6 من بحوث مجمع الفقه الإسلامي.

المطلب الأول في (حكم نقل الأعضاء من إنسان إلى إنسان)

المطلب الأول في (حكم نقل الأعضاء من إنسان إلى إنسان) تشتمل هذه الصورة من النقل والزراعة على ضربين: الضرب الأول: أن يكون النقل والزرع من الإنسان إلى نفسه. الضرب الثاني: أن يكون النقل والزرع من الإنسان إلى غيره. وبيان حكم هذين الضربين يتضح في المقصدين التاليين: المقصد الأول: في حكم نقل وزراعة الأعضاء من الإنسان إلي نفسه: لا تخلو الحاجة الداعية إلى النقل والزرع في هذا الضرب من حالتين: الأولى: أن تكون ضرورية. الثانية: أن تكون حاجية. فمن أمثلة الحالة الأولى: ما يجرى في جراحات القلب والأوعية الدموية حيث يحتاج الطبيب إلى استخدام طعم وريدي أو شرياني لعلاج انسداد أو تمزق في الشرايين، أو الأوردة، ويكون إنقاذ المريض من

الهلاك بسبب هذا الانسداد أو التمزق متوقفًا على زرع هذا الطعم المأخوذ من جسم المصاب نفسه (¬1). ومن أمثلة الحالة الثانية: ما يجرى في جراحة الجلد المحترق، وحيث يحتاج الأطباء لعلاج الموضع المحترق إلى أخذ قطعة من الجلد السليم من الجسم نفسه ثم زرعها في الموضع المصاب من الجسد (¬2). وهاتان الحالتان موجبتان للترخيص شرعًا فيجوز للطبيب الجراح القيام بمهمتهما متى غلب على ظنه وجود النفع بشرط عدم وجود البديل الذي يمكن بواسطته تحقيق الهدف المنشود دون ضرر أعظم من الجراحة (¬3). والحكم بجواز هاتين الحالتين مبني على القياس "لأنه إذا جاز قطع العضو وبتره لإنقاذ النفس ودفع الضرر عنها فلأن يجوز أخذ جزء منه ونقله لموضع آخر لإنقاذ النفس أو دفع الضرر فيها أولى وأحرى". ووجه ذلك: أن الأصل جازت فيه الإزالة والبتر للعضو دون استبقاء له طلبًا لإنقاذ النفس ودفع الضرر عنها، والفرع يزال فيه جزء من العضو مع استبقاء العضو والجزء المزال في موضع آخر، إضافة إلى أن الموضع المنقول يتعوض بجلد جديد بدلاً من الجلد المنزوع، فهو ¬

_ (¬1) جراحة القلب والأوعية الدموية د. القباني ص 77، 78. ومن أمثلة جراحة هذا النوع جراحة استئصال الناسور الشرياني الوريدي. انظر ص 95 من المصدر نفسه. (¬2) زرع الجلد الحي: بقلم عبد الرحمن الحريتاني مقال منشور بمجلة الفيصل العدد 116، السنة الحادية عشرة عام 407 الصفحة 76، 77، نقل وزرع الأعضاء. د. الغسال ص 16 - 20، وغرس الأعضاء. د. الصافي ص 126 انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر. د. البار ص 5 من بحوث مجمع الفقه الاسلامي بمكة. (¬3) من أمثلة البديل الطعوم الصناعية التي يمكن زرعها، وتكون الخطورة في جراحتها أقل والنتائج المترتبة عليها أفضل.

أولى بالاعتبار والحكم بجوازه من الأصل. وبناءً على هذا فإنه يمكننا القول بأن هذا النوع من الجراحة يعتبر مندرجًا في الحكم بجوازه تحت ما حكم الفقهاء المتقدمون -رحمهم الله- باعتباره وجوازه من بتر الأعضاء المحتاج لبترها (¬1) ومخرجًا عليه. ¬

_ (¬1) التشريح الجثماني والنقل والتعويض الإنساني. د. بكر أبو زيد 21، من بحوث مجمع الفقه الإسلامي.

المقصد الثاني: في حكم نقل وزراعة الأعضاء من إنسان إلى غيره.

المقصد الثاني: في حكم نقل وزراعة الأعضاء من إنسان إلى غيره. في هذا الضرب من النقل والزراعة يتم نقل الأعضاء من الإنسان إلى غيره، ولا يخلو الشخص المنقول منه إما أن يكون حيًا أو يكون ميتًا. لذلك فإن هذا المقصد ينتظم صورتين من النقل والزراعة: الصورة الأولى: أن يكون النقل والزراعة من إنسان حي إلى مثله. الصورة الثانية: أن يكون النقل والزراعة من إنسان ميت إلى حي. ولكلتا الصورتين حكمها، ويتضح ذلك في الفرعين التاليين: الفرع الأول: في حكم النقل والزرع من إنسان حي إلى مثله لا تخلو الأعضاء المراد نقلها من الإنسان الحي إلى مثله إما أن تكون فردية في الجسم، ويؤدي أخذها من الشخص المنقولة منه إلى وفاته وذلك مثل القلب، والكبد، والدماغ، وإما أن تكون على خلاف ذلك بأن يوجد بديل عنها يقوم بالمهمة بدلها مثل الكلية، والخصية، أو لا يوجد بديل عنها، ولكن لا يؤدي أخذها إلى وفاة المنقولة منه وذلك مثل نقل غريسة الجلد من شخص آخر، وبيان حكم هاتين الحالتين يتضح فيما يلي:

أولا: حكم نقل الأعضاء الفردية التي تؤدي نقلها إلى وفاة الشخص المنقولة منه:

أولاً: حكم نقل الأعضاء الفردية التي تؤدي نقلها إلى وفاة الشخص المنقولة منه: يحرم على الإنسان أن يتبرع بهذا النوع من الأعضاء لشخص آخر حتى ولو كان الشخص الآخر مهددًا بالوفاة إذا لم يتم إسعافه بذلك العضو الفردي كما يحرم على الطبيب الجراح ومساعديه أن يقوموا بفعل هذا النوع من النقل، وذلك للأدلة الشرعية التالية: أ- قوله تعالى: {وَلا تُلقُوا بِأيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ... الآية} (¬1). وجه الدلالة: أن الله تعالى حرم على الإنسان أن يتعاطى ما يوجب هلاكه، والتبرع بهذه الأعضاء على هذا الوجه -أي في حال حياة المتبرع، وكون نقلها يؤدي إلى وفاته- يعتبر مفضيًا إلى الهلاك فيحرم عليه فعله. ب- قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أنفُسَكُمْ إنَّ اللَّهَ كَانَ بكُمْ رَحِيماً} (¬2). وجه الدلالة: أن الآية الكريمة دلت على حرمة قتل الإنسان لنفسه، ويدخل في ذلك الإذن والتبرع بنقل الأعضاء التي يؤدي أخذها من الإنسان إلى ¬

_ (¬1) سورة البقرة (2) آية 195. (¬2) سورة النساء (4) آية 29.

ثانيا: حكم نقل الأعضاء غير الفردية التي لا يؤدي نقلها إلى وفاة الشخص المنقولة منه:

موته، لأنه سبب مفضي إلى قتل النفس وهلاكها. جـ- قوله تعالى: {وَتَعَاونُوا عَلَى البرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الِإثْمِ وَالعُدْوَانِ} (¬1). وجه الدلالة: أن الطبيب الجراح إذا قام بنقل هذه الأعضاء كان معينًا على الإثم لحرمة نقلها، وكذلك يعتبر معينًا على عدوان الإنسان على جسده. وقد دلت الآية الكريمة على حرمة الإعانة على كلا الأمرين -الإثم، والعدوان- فلا يجوز له فعل هذه الجراحة. وقد أشار بعض العلماء الذين يقولون بجواز نقل الأعضاء الآدمية والتبرع بها إلى استثناء هذا النوع من النقل، فقالوا بحرمته وذلك لما يتضمنه من إهلاك النفس المحرمة بغير حق (¬2). ثانيًا: حكم نقل الأعضاء غير الفردية التي لا يؤدي نقلها إلى وفاة الشخص المنقولة منه: وهذا الضرب يشتمل على نقل أعضاء لها بديل ولا يؤدي أخذها إلى الوفاة غالبًا، وهو يقع في الأعضاء الشفعية، واشتهر منه حاليًا نقل ¬

_ (¬1) سورة المائدة (5) آية 2. (¬2) يقول فضيلة الشيخ الدكتور بكر أبو زيد عن حكم هذا النوع من النقل: "الذي يظهر والله أعلم تحريمه وعدم جوازه، لأنه تهديد لحياة متيقنة بعملية ظنية موهومة، أو إمداد بمصلحة مفوتة لمثلها، بل أعظم منها" اهـ. التشريح الجثماني والنقل والتعويض الإنساني. د. بكر أبو زيد 22 من بحوث مجمع الققه الإسلامي.

الكلية والخصية. وقد يوجد في غير الأعضاء الشفعية، وينحصر ذلك في الجلد خاصة حيث يحتاج المحروق مثلاً لقطعة من الجلد تؤخذ من الحي ثم تزرع في الموضع المناسب من جسده، ويقوم جسم الشخص المتبرع بتعويض الموضع الذي أخذت منه تلك القطعة بجلد جديد -بقدرة الله تعالى- (¬1). حكمه: اختلف العلماء المعاصرون في حكم نقل هذه الأعضاء وذلك في مسألتين: المسألة الأولى: هل يجوز نقل الأعضاء من الحي إلى مثله؟. المسألة الثانية: وإذا قلنا بجواز ذلك، فهل يشمل الخصية؟. والجواب على هاتين المسألتين سيأتي -بمشيئة الله- عند الكلام على حكم الصورة الثانية، نظرًا لأن العلماء بحثوهما في مسألة واحدة يصعب فصلهما، وتكرار أدلتهما. * * * ¬

_ (¬1) غرس الأعضاء. د. الصافي ص 125، 126.

الفرع الثاني: في حكم النقل والزرع من إنسان ميت إلى حي:

الفرع الثاني: في حكم النقل والزرع من إنسان ميت إلى حي: في هذه الحالة يتم نقل الأعضاء من الإنسان الميت سواء كانت وفاته حقيقية أو محتملة (وهي الوفاة التي يعتبرها بعض الأطباء المعاصرين في حكم الوفاة الحقيقية) (¬1). وتؤخذ هذه الأعضاء التي يراد نقلها من الإنسان الميت ثم تحفظ بطريقة خاصة تمنع من تلفها إلى حين زرعها في جسم الشخص المحتاج إليها (¬2). وقبل بيان حكم هذا النوع من النقل لابد من بيان مسألة مهمة جدًا ¬

_ (¬1) لهذه الوفاة علامات تعتبر شروطًا أساسية للحكم بها. انظر البحوث التالية: 1 - الموت والحياة بين الأطباء والفقهاء الدكتور الشربيني، من بحوث ندوة الحياة الإنسانية، بدايتها، ونهايتها ثبت الندوة ص 355، 356. 2 - نهاية الحياة الإنسانية. د. المهدي، من بحوث ندوة الحياة الإنسانية بدايتها ونهايتها ثبت الندوة ص 342، 343. 3 - انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حيًا أو ميتًا. د. البار ص 14 من بحوث مجمع الفقه الإسلامي. 4 - نهاية الحياة البشرية. د. أحمد شوقي إبراهيم من بحوث ندوة الحياة الإنسانية بدايتها ونهايتها ثبت الندوة ص 376، 377. 5 - ورقة العمل الأردنية المقدمة للمؤتمر العربي الأول للتخدير والإنعاش والمعالجة الحثيثة الذي عقد بعمان بتاريخ 22 - 24 أكتوبر 1985 م. وانظر نصها في مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد الثالث الجزء الثاني عام 1408 ص 752. وانظر غرس الأعضاء في جسم الإنسان. د. الصافي ص 12، 13. (¬2) المصدر السابق الأخير ص 22، نقل وزرع الأعضاء. د. العسال ص 69، 70، زراعة القلب. د. النمر مقال منشور بمجلة القافلة ربيع الأول 1409 هـ العدد الثالث المجلد السابع والثلاثون ص 28، 29.

المسألة الأولى: هل موت الدماغ دون القلب يوجب الحكم بموت صاحبه أو لا؟

ذات صلة وثيقة بحكم هذه الحالة وتتعلق بموقف الشرع من موت جذع الدماغ، هل يعتبر ذلك الموت موجبًا للحكم بموت الإنسان أو لا؟ (¬1). لذلك فإن الكلام على حكم النقل في هذه الحالة سينقسم إلى مسألتين وبيانهما فيما يلي: المسألة الأولى: هل موت الدماغ دون القلب يوجب الحكم بموت صاحبه أو لا؟. تعتبر هذه المسألة من أهم المسائل النازلة في المجالات الحديثة، وقد ثار حولها خلاف كبير وجدال مستفيض ليس بين الفقهاء وأهل العلم فقط، بل شمل غيرهم من الأطباء وسائر الناس، ولا يزال هناك خلاف في القوانين الطبية الدولية حول هذه المسألة، فهناك بلدان تعتبر موت الدماغ دون القلب موتًا، فتجيز أنظمتها سحب أجهزة الإنعاش عن المريض ولو لم يأذن أهله، وهناك بلدان تعتبر هذا العمل إجرامًا وتعد المريض حيًا في هذه الحالة، فلا تجيز سحب الأجهزة عنه مطلقًا. وهناك بلدان تجيز سحب الأجهزة بشرط إذن المريض أو ذويه دون نظر إلى كونه ميتًا أو حيًا (¬2). ¬

_ (¬1) يقول الدكتور محمد علي البار: "نقل الأعضاء لابد أن يتم في أغلب الحالات، والقلب لا يزال يضخ الدم، والدورة الدموية لا تزال تعمل. (¬2) يقول الدكتور أحمد شرف الدين: "هناك إجراء ابتدعه العمل الطبي في أمريكا يسمى وثيقة إرادة الحياة التي يعبر فيها المريض بتوقيعه عليها عن رفضه إطالة حياته بوسائل صناعية، ونحن نعتقد أن هذا الإجراء ليس له قيمة شرعية أو قانونية في بلادنا حيث لا يعتبر إذن المريض بمفرده سببًا لإباحة عمل الطبيب" اهـ. الأحكام الشرعية د. أحمد شرف الدين 174.

وصلة هذه المسألة بحكم نقل الأعضاء في الحالة التي نحن بصدد بيان حكمها "النقل والزرع من إنسان ميت إلى حي" تظهر من جهة أن نقل الأعضاء لابد أن يتم في أغلب الحالات والقلب لا يزال يضخ الدم، والدورة الدموية لا تزال باقية، وقد بين ذلك أحد الأطباء المختصين (¬1) بقوله: "نقل الأعضاء لابد أن يتم في أغلب الحالات والقلب لا يزال يضخ الدم، والدورة الدموية لا تزال تعمل، وذلك يرجع إلى سبب بسيط جدًا، وهو أن توقف القلب والدورة الدموية عن هذه الأعضاء يؤدي إلى موتها، وإلى عدم صلاحيتها للعمل، فلابد أن تنقل هذه الأعضاء وهي حية، وتسمى الفترة التي يمكن أن يبقى فيها العضو قبل أن يتلف تلفًا لا رجعة فيه فترة نقص التروية الدافئة" (¬2) اهـ. وهنا يرد السؤال عن جواز أخذ الأعضاء المهمة كالقلب، والرئتين، والكبد ونحوها من الأعضاء المهمة التي إذا قلنا بأن الشخص يعتبر حياً في هذه الفترة كان أخذها في حكم قتله كأخذها في حال حياته الطبيعية. وإذا قلنا بأن الشخص يعتبر ميتًا انتفى الإشكال، فالبحث عن حكم مسألة النقل من الشخص الميت ينبني على الحكم على هذه الحالة في غالب صوره وأحواله. وقد اختلف العلماء المعاصرون في حكم هذه المسالة "هل يعتبر موت الدماغ دون القلب موتًا؟ " وذلك على قولين: ¬

_ (¬1) هو الدكتور أحمد علي البار. مجلة مجمع الفقه الإسلامي السنة الأولى 1408 هـ. العدد الأول. (¬2) غرس الأعضاء. د. البار 6، من بحوث مجمع الفقه الإسلامي بمكة، وأكد ذلك غيره من الأطباء المختصين. انظر ثبت ندوة الحياة الإنسانية ص 572، 573.

الأقوال:

القول الأول: لا يعتبر موت دماغ الشخص دون قلبه موتًا، بل لابد من توقف القلب عن النبض حتى يحكم بموت الإنسان. وهذا القول لطائفة من العلماء "الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد (¬1) والشيخ عبد الله البسام (¬2)، والدكتور توفيق الواعي (¬3)، والشيخ محمد المختار السلامي (¬4)، والشيخ بدر المتولي عبد الباسط (¬5)، والشيخ عبد القادر محمد العمادي" (¬6). وبه أفتت لجنة الفتوى بوزارة الأوقاف الكويتية (¬7). القول الثاني: يعتبر موت دماغ الشخص دون قلبه موتًا حقيقيًا، ولا يشترط توقف القلب عن النبض حتى يحكم بموت الإنسان. وهذا القول لبعض العلماء والباحثين "الدكتور عمر سليمان ¬

_ (¬1) وكيل وزارة العدل بالمملكة العربية السعودية، وله مشاركات عديدة في المؤتمرات والندوات الإسلامية، ومؤلفات وأبحاث منها: الإمام ابن قيم الجوزية، المنهيات، التعاليم، انظر كتابه فقه النوازل 1/ 233، 234. (¬2) نائب رئيس محكمة التمييز بالمنطقة الغربية، وعضو مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي. (¬3) أستاذ بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة الكويت ثبت ندوة الحياة الإنسانية461. (¬4) مفتي الجمهورية التونسية حاليًا. ثبت ندوة الحياة الإنسانية 451. (¬5) أمين عام الموسوعة الفقهية بوزارة الأوقاف الكويتية. ثبت ندوة الحياة الإنسانية 445. (¬6) قاضي بالمحكمة الأولى بدولة قطر. ثبت ندوة الحياة الإنسانية 485. (¬7) وورد في هذه الفتوى ما نصه: "لا يمكن اعتبار هذا الشخص ميتًا بموت دماغه متى كان جهاز تنفسه وجهازه الدموي فيه حياة ولو آليًا" اهـ. وردت هذه الفتوى من اللجنة في جلستها المنعقدة في 18 صفر 1402 هـ، الموافق 14/ 12/1981 م. انظر ثبت ندوة الحياة الإنسانية 433.

الأشقر (¬1)، والدكتور محمد سليمان الأشقر (¬2) والدكتور محمد نعيم ياسين، (¬3) والدكتور أحمد شرف الدين" (¬4). وبه صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي (¬5). تحديد محل الخلاف: أولاً: اتفق أصحاب القولين على أنه لو مات الدماغ، وتوقف القلب عن النبض أن الشخص يعتبر ميتًا. ثانيًا: يخرج عن محل الخلاف الحالات التي تموت فيها بعض أجزاء الدماغ، والغيبوبة الناشئة عن ارتجاج الدماغ والأدوية والعقاقير السامة التي لم يمت فيها الدماغ. ثالثًا: يقع الخلاف بين القولين إذا تم تشخيص موت الدماغ وفق الأصول المشروطة طبيًا وثبت على هذا الوجه (¬6). ¬

_ (¬1) أستاذ بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الكويت. انظر بحثه "بدء الحياة ونهايتها" من بحوث ندوة الحياة الإنسانية، ثبت الندوة ص 146. (¬2) باحث في الموسوعة الفقهية بالكويت. انظر بحثه "نهاية الحياة" من بحوث ندوة الحياة الإنسانية، ثبت الندوة 428، 439، واعتبر فيه الشخص حيًا في حكم الميت "فيعامل معاملة من قد مات في نزع أجهزة الإنعاش عنه، وفي أخذ عضو من أعضائه لا في الميراث والعدة، فلا يحكم بكونه ميتًا ليورث، أو تعتد زوجته إلا بعد توقف القلب". (¬3) أستاذ بكلية الشريعة الإسلامية والدراسات الإسلامية بجامعة الكويت. انظر بحثه "نهاية الحياة الإنسانية" من بحوث ندوة الحياة الإنسانية، ثبت الندوة 420، 424. (¬4) الأحكام الشرعية للأعمال الطبية. د. أحمد شرف الدين 176، 177. (¬5) صدر هذا القرار من مجمع الفقه في جلسته المنعقدة في دورة مؤتمره الثالث بعمان بالمملكة الأردنية الهاشمية في الفترة ما بين 8 - 13 صفر 1407 هـ- الموافق 16 أكتوبر عام 1986 م. قرار رقم (5) د 3/ 7/86 بشأن "أجهزة الإنعاش". (¬6) لهذا التشخيص ضوابط وشروط معينة صدرت من قبل الأطباء، منها ما صدر عن المؤتمر المشترك للكليات الملكية للأطباء في المملكة المتحدة في عام 76 م، =

الأدلة:

الأدلة: (1) دليل القول الأول: استدل القائلون بعدم اعتبار موت الدماغ وحده موجبًا للحكم بموت صاحبه بما يلي: أ- دليل الكتاب: قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} (¬1). وجه الدلالة: أن قوله: (بَعَثْنَاهُمْ) أي أيقظناهم. وهذه الآيات فيها دليل واضح على أن مجرد فقد الإحساس والشعور لا يعتبر وحده دليلاً كافيًا للحكم بكون الإنسان ميتًا. لأن هؤلاء النفر فقدوا الإحساس والشعور ولم يعتبروا أمواتًا، والحكم باعتبار موت الدماغ موتًا، مبني على فقد المريض للإحساس ¬

_ = ومنها ما صدر في ورقة العمل الأردنية المقدمة للمؤتمر العربي الأول للتخدير والإنعاش. انظر ملخص هذه الشروط في مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد الثالث الجزء الثاني عام 1408 هـ ص 754 - 758، 784 وفي بحث "نهاية الحياة الانسانية" د. مختار المهدي، من بحوث ندوة الحياة الإنسانية، ثبت الندوة 342، 355، 356. (¬1) سورة الكهف (18) الآيات 9 - 12.

والشعور، وهذا وحده لا يعتبر كافيًا للحكم بالموت، لأن الآية الكريمة دلت على عدم اعتباره مع طول الفترة الزمانية التي مضت على أهل الكهف "ثلاثمائة عام وزيادة تسع"، فمن باب أولى ألا يعتبر في المدة الوجيزة المشتملة على بضعة أيام يزول فيها الشعور والإحساس بسبب موت الدماغ وتلفه (¬1). ب- القواعد الفقهية: 1 - قاعدة: "اليقين لا يُزال بالشك" (¬2). وجه الاستدلال: أن اليقين في هذه الحالة المختلف فيها هو حياة المريض، وشككنا هل هو ميت لأن دماغه ميت، أم هو حي لأن قلبه ينبض؟. فوجب علينا اليقين الموجب للحكم بحياته، حتى نجد يقيناً مثله يوجب علينا الحكم بموته (¬3). 2 - قاعدة: "الأصل بقاء ما كان على ما كان" (¬4). ¬

_ (¬1) حقيقة الموت والحياة. د. توفيق الواعي، من بحوث ندوة الحياة الإنسانية، ثبت الندوة 473. (¬2) الأشباه والنظائر لابن نجيم 56، الأشباه والنظائر للسيوطي 50. (¬3) احتج بهذه القاعدة على حكم هذه المسألة كل من الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد "فقه النوازل" 231، 232، والشيخ بدر المتولي عبد الباسط نهاية الحياة الإنسانية، من بحوث ندوة الحياة الإنسانية، ثبت الندوة ص 448، والدكتور توفيق الواعي "حقيقة الموت والحياة" من بحوث ندوة الحياة الإنسانية، ثبت الندوة 478. (¬4) الأشباه والنظائر لابن نجيم 57، إيضاح المسالك للونشريسي 386، والأشباه والنظائر للسيوطي 51. احتج بهذه القاعدة على حكم هذه المسألة الشيخ بكر بن =

وجه الاستدلال: أن الأصل بقاء الروح وعدم خروجها، فنحن نبقي على هذا الأصل ونعتبره. جـ- الاستصحاب: ووجهه: أن حالة المريض قبل موت الدماغ متفق على اعتباره حيًا فيها فنحن نستصحب الحكم الموجود فيها إلى هذه الحالة التي اختلفنا فيها ونقول إنه حي وروحه باقية لبقاء نبضه. والاستصحاب من مصادر الشرع المعتبرة إلا إذا قام دليل على خلافه (¬1). د- النظر: ووجهه: أن حفظ النفس يعتبر من مقاصد الشريعة الإسلامية التي بلغت مرتبة الضروريات التي تجب المحافظة عليها (¬2). ولاشك في أن الحكم باعتبار المريض في هذه الحالة حيًا فيه محافظة على النفس، وذلك يتفق مع هذا المقصد العظيم من مقاصد الشريعة الإسلامية، والعكس بالعكس (¬3). هـ- نصوص الفقهاء المتقدمين -رحمهم الله-: (1) إن بعض الفقهاء -رحمهم الله- قرروا في كتبهم أن التنفس ¬

_ = عبد الله أبو زيد، فقه النوازل 232، والدكتور توفيق الواعي "حقيقة الموت والحياة"، من بحوث ندوة الحياة الإنسانية، ثبت الندوة 478. (¬1) فقه النوازل. د. بكر أبو زيد 232. (¬2) المستصفى للغزالي 1/ 287، الموافقات للشاطبي 2/ 10. (¬3) أشار إلى هذا الدليل الشيخ بكر أبو زيد. انظر فقه النوازل 232، والدكتور توفيق الواعي في بحثه حقيقة الموت والحياة، من بحوث ندوة الحياة الانسانية ثبت الندوة 478.

يعتبر دليلاً على الحياة، وهو في حكم الحركة، لأن الصدر يتحرك مع النبض وهذا يدل على حياة صاحب الجسد (¬1). (2) إن الفقهاء -رحمهم الله- ذكروا في كتبهم العلامات المعتبرة للحكم بموت الإنسان (¬2)، كل ذلك حرصًا منهم على أن لا يحكم بموت الإنسان إلا بعد فقدان جسمه للحياة (¬3). ونصوا على أنه إذا شك في أمر الشخص هل مات أو لا أنه يجب التحري والانتظار إلى أن يتيقن موته. قال الإمام ابن قدامة -رحمه الله-: ""وإن اشتبه أمر الميت اعتبر بظهور أمارات الموت من استرخاء رجليه، وانقصال كفيه، وميل أنفه، وامتداد جلدة وجهه، وانخساف صدغيه، وإن مات فجأة كالمصعوق أو خائفًا من حرب أو سبع، أو تردى من جبل انتظر به هذه العلامات حتى يتيقن موته" (¬4) اهـ. بين -رحمه الله- ما ينبغي فعله عند الاشتباه من الرجوع إلى العلامات التي يظهر بها موت الإنسان، وهذا يدل على حرص العلماء ¬

_ (¬1) حقيقة الموت والحياة د. الواعي، من بحوث ندوة الحياة الإنسانية، ثبت الندوة 474، وقد أشار إلى المصادر الفقهية التي قررت الحكم المذكور، ومنها الإنصاف وفيه جزم العلامة المرداوي -رحمه الله- بأن اعتبار التنفس دليلاً على الحياة هو المذهب، ونقل عن صاحب الترغيب قوله: "إن قامت بينة على أن الجنين تنفس أو تحرك أو عطس فهو حي" اهـ. الإنصاف للمرداوي 7/ 330. (¬2) انظر المصادر التالية: الفتاوى الهندية 1/ 154، حاشية ابن عابدين 1/ 189، ط. الحلبي، مختصر خليل 1/ 37، شرح الخرشي 2/ 26، روضة الطالبين للنووي 2/ 98، منتهى الإرادات للفتوحي 1/ 323، المغني لابن قدامة 2/ 452، وقد أشار إلى أكثر هذه المصادر الدكتور الواعي في بحثه حقيقة الموت والحياة من بحوث ندوة الحياة الإنسانية، ثبت الندوة 475، 476. (¬3) المصدر الأخير. (¬4) المغني لابن قدامة 2/ 452.

(2) دليل القول الثاني:

-رحمهم الله- على حياة الإنسان التي يترتب على الحكم بموتها أحكام شرعية كثيرة. وقد أكد الإمام النووي -رحمه الله- هذا المعنى من طلب اليقين بموت الشخص عن طريق الأمارات والعلامات القوية، فقال -رحمه الله-: "فإن شُك في موته بأن يكون به علة، واحتمل أن يكون له سكتة، أو ظهرت عليه علامات فزع، أو غيره، كأن يكون هناك احتمال إغماء، أو خلافه، أخر حتى اليقين بتغير الرائحة أو غيره" (¬1) اهـ. وحالة موت الدماغ تعتبر من جنس الحالات المشكوك فيها، نظرًا لبقاء القلب نابضًا، والجسم يقبل التغذية ولم يتغير لونه، فهذا أمر موجب للشك، وحينئذ ينبغي الانتظار إلى توقف القلب عن النبض بالكلية. (2) دليل القول الثاني: استدل القائلون باعتبار موت جذع الدماغ موجبًا للحكم بوفاة صاحبه بما يلي: أولاً: أن العلماء -رحمهم الله- قرروا أن حياة الإنسان تنتهي عندما يغدو الجسد الإنساني عاجزًا عن خدمة الروح والانفعال لها. ويشهد لذلك تعريف كل من الإمام الغزالي والإمام ابن القيم -رحمهما الله- للروح، ومفارقتها للجسد. قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- في تعريفه للروح: "جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، وهو جنس نوراني علوي خفيف متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء ويسري فيها سريان الماء في الورد وسريان الدهن في الزيتون، ¬

_ (¬1) روضة الطالبين للنووي 2/ 98، "حقيقة الموت والحياة" ثبت ندوة الحياة 410.

والنار في الفحم، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي ذلك الجسم اللطيف مشابكًا لهذه الأعضاء، وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة الإرادية، وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها، وخرجت عن قبول تلك الآثار فارق الروح البدن وانفصل إلى عالم الأرواح ... " ثم عقب على ذلك بقوله: "وهذا القول هو الصواب في المسألة الذي لا يصح غيره، وكل الأقوال سواه باطلة، وعليه دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة" (¬1) اهـ. وقال الإمام الغزالي -رحمه الله- عند بيانه لمفارقة الروح الجسد: "معنى مفارقة الروح للجسد انقطاع تصرفها من الجسد بخروج الجسد عن طاعتها، فإن الأعضاء آلات الروح تستعملها، حتى إنها لتبطش باليد، وتسمع بالأذن، وتبصر بالعين وتعلم حقيقة الأشياء بنفسها، ... وإنما تعطل الجسد بالموت يضاهي تعطل أعضاء الزمن بفساد مزاج يقع فيه وبشدة تقع في الأعصاب تمنع نفوذ الروح فيها، فتكون الروح العالمة العاقلة المدركة باقية مستعملة لبعض الأعضاء، وقد استعصى عليها بعضها، والموت عبارة عن استعصاء الأعضاء كلها، وكل الأعضاء آلات، والروح هي المستعملة لها، ومعنى الموت انقطاع تصرفها عن البدن وخروج البدن عن أن تكون آلة له، كما أن معنى الزمانة خروج اليد عن أن تكون آلة مستعملة، فالموت زمانة مطلقة في الأعضاء كلها" (¬2) اهـ. ¬

_ (¬1) الروح لابن القيم 242، ووافقه شارح الطحاوية والشيخ محمود السبكي، شرح العقيدة الطحاوية 381، الدين الخالص للسبكي 7/ 186. المصدرين السابقين. (¬2) إحياء علوم الدين للغزالي 4/ 494، ذكر هذه النصوص وأشار إلى مصادرها الدكتور محمد نعيم ياسين في بحثه نهاية الحياة الإنسانية، من بحوث ندوة الحياة الإنسانية ثبت الندوة 409، 410.

وبهذا يتبين اعتبارهم لعجز الأعضاء عن خدمة الروح والانفعال لها دليلاً على مفارقة الروح للجسد. قالوا: وهذا موجود في موت الدماغ، فإن الأعضاء لا تستجيب لتصرفات الروح والحركة الموجودة في بعض الأحيان إنما هي حركة اضطرارية لا علاقة لها بالروح وليست ناشئة عنها. ثانيًا: أن الفقهاء -رحمهم الله- حكموا بموت الشخص في مسائل الجنايات التفاتًا إلى نفاذ المقاتل، ولم يوجبوا القصاص على من جنى عليه في تلك الحالة مع وجود الحركة الاضطرارية، فدل هذا على عدم اعتبارهم لها، وإن الحكم بالموت ليس مقيدًا بانتفائها واستشهدوا لإثبات ذلك بنصوص منها: قول الإمام بدر الدين الزركشي -رحمه الله- (¬1): "الحياة المستقرة هي أن تكون الروح في الجسد، ومعها الحركة الاختيارية، دون الاضطرارية، كما لو كان إنسان وأخرج الجاني، أو حيوان مفترس حشوته وأبانها، لا يجب القصاص في هذه الحالة ... " (¬2) اهـ. الترجيح: الذي يترجح في نظري والعلم عند الله هو القول بعدم اعتبار الإنسان ميتًا بمجرد موت دماغه وتلفه وذلك لما يأتي: ¬

_ (¬1) هو الإمام بدر الدين أبو عبد الله محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي الشافعي ولد -رحمه الله- بمصر سنة 745 هـ، فقيه، أصولي، محدث، أديب، توفي -رحمه الله- بمصر سنة 794 هـ، وله مصنفات منها: البحر في أصول الفقه، وشرح التنبيه للشيرازي، شرح جمع الجوامع للسبكي. معجم المؤلفين لعمر كحالة 9/ 121، 122. (¬2) المنثور في القواعد للزركشي 2/ 105 وما بعدها، نقلاً عن نهاية الحياة الإنسانية، د. محمد نعيم ياسين من بحوث ندوة الحياة الإنسانية، ثبت الندوة 412.

أولاً: لصحة ما ذكره أصحاب هذا القول من الأدلة النقلية والعقلية. ثانيًا: أن الأصل في الإنسان أنه حي حتى يتيقن خلاف ذلك، وما ذكره أصحاب القول الثاني ليس بيقين ولا في حكم اليقين "غلبة الظن"، وذلك لما ثبت في حوادث مختلفة من إثبات الأطباء لموت الدماغ وحكمهم بوفاة المريض، ثم يعود إلى الحياة ثانية (¬1). ثالثًا: أنه ثبت وجود أطفال بدون مخ وعاش بعضهم على حالته أكثر من عشر سنوات، وهذا يدل دلالة واضحة على أن موت الدماغ لا يعتبر موجبًا للحكم بالوفاة، إذ لو كان كذلك لما عاش هؤلاء لحظة بدون المخ الذي يعتبر موته أساسًا في الحكم بموت الدماغ (¬2). فإذا كانت الحياة موجودة في حال فقد المخ بالكلية فإنه لا مانع من أن يحكم بوجودها في حال موت الدماغ وبقاء القلب نابضًا (¬3). رابعًا: أن الأطباء الذين يعتبرون موت الدماغ علامة على الوفاة يسلمون بوجود أخطاء في التشخيص وأن الحكم بالوفاة استنادًا على هذا الدليل يحتاج إلى فريق طبي، وفحص دقيق، وهذا لا يتوفر في كثير من ¬

_ (¬1) يقول الدكتور الشيخ بكر أبو زيد: "حكم جمع من الأطباء على شخصية مرموقة بالوفاة لموت جذع الدماغ لديه، وأوشكوا على انتزاع بعض الأعضاء منه، لكن ورثته منعوا من ذلك. ثم كتب الله له الحياة وما زال حيًا إلى تاريخه" اهـ. حكم الانتزاع لعضو من مولود حي عديم الدماغ. د. بكر أبو زيد 3. (¬2) نشرت جريدة المسلمون في عددها رقم 232 بتاريخ 11/ 12/1409 - السنة الخامسة- مقالاً تحت عنوان: "طفل بلا مخ ولكنه يعيش وينمو ويضحك", ذكرت حادثة الطفل الذي ولد بدون مخ وقرر الأطباء أنه لا يعيش أكثر من أسبوعين، وبلغ إلى وقت الخبر خمس سنوات، ثم ذكرت حالتين أخريين: الأولى لطفل يبلغ عمره إلى حين نشر الخبر اثنتي عشرة سنة، والثانية لطفل يبلغ عمره ثلاث سنوات. (¬3) حكم الانتزاع لعضو من مولود حي عديم الدماغ. د. بكر أبو زيد 2.

المسالة الثانية: هل يجوز نقل الأعضاء من الشخص الميت أو الحي وزرعها في الإنسان الحي:

المستشفيات ففتح الباب للقول باعتبار هذه العلامة موجبة للحكم بالوفاة سيؤدي إلى خطر عظيم، فينبغي قفله صيانة للأرواح (¬1) التي يعتبر حفظها مقصدًا ضروريًا من مقاصد الشريعة الإسلامية ... والله أعلم (¬2). المسالة الثانية: هل يجوز نقل الأعضاء من الشخص الميت أو الحي وزرعها في الإنسان الحي: اختلف العلماء المعاصرون في هذه المسألة على قولين: القول الأول: لا يجوز نقل الأعضاء الآدمية. وهو قول الشيخ الشعراوي (¬3)، والغماري (¬4)، والسنبهلي (¬5)، والسقاف (¬6)، والدكتور عبد السلام عبد الرحيم السكري (¬7)، والدكتور ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) الموافقات للشاطبي 2/ 10، المستصفى للغزالي 1/ 287. (¬3) هو: الشيخ محمد المتولي الشعراوي المفسر المشهور، كتب عن حكم هذه المسألة وموقفه منها مقالاً بعنوان: "الإنسان لا يملك جسده فكيف يتبرع بأجزائه أو يبيعها؟ "، نشر في جريدة اللواء الإسلامي العدد 226 تاريخ الخميس 27 جمادى الآخر سنة 1407 هـ. (¬4) هو الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري من العلماء المعاصرين، وقد ألف في هذه المسألة رسالة بعنوان: "تعريف أهل الإسلام بأن نقل العضو حرام". (¬5) هو الشيخ محمد برهان الدين السنبهلي مؤلف معاصر له إسهامات في بحوث القضايا الفقهية المعاصرة. انظر قوله في مؤلفه: قضايا فقهية معاصرة 67. (¬6) هو الشيخ حسن بن علي بن هاشم السقاف الحسيني، ألف في المسألة رسالة بعنوان: "الامتناع والاستقصاء لأدلة تحريم نقل الأعضاء". (¬7) أستاذ بكلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر، له كتاب بعنوان: "نقل وزراعة الأعضاء الآدمية من منظور إسلامي" خلص فيه إلى تحريم نقل الأعضاء مطلقًا.

القول الثاني:

حسن علي الشاذلي (¬1). القول الثاني: يجوز نقل الأعضاء الآدمية: وهذا القول صدرت به الفتوى في عدد من المؤتمرات والمجامع والهيئات واللجان منها: المؤتمر الإسلإمي الدولي المنعقد بماليزيا (¬2)، ومجمع الفقه الإسلامي (¬3)، وهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية (¬4)، ولجنة الفتوى في كل من المملكة الأردنية الهاشمية (¬5)، ¬

_ (¬1) أستاذ وعميد كلية الشريعة والقانون بالأزهر، واستثنى من تحريم النقل من شخص غير معصوم الدم كالكافر الحربي. انظر بحثه انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حيًا أو ميتًا من بحوث مجمع الفقه الإسلامي. (¬2) انعقد في إبريل سنة 1969 م وخلص إلى القول بجواز نقل الأعضاء بشرط الضرورة ونص على حرمة المتاجرة بالأعضاء الآدمية. انظر مجلة البحوث الإسلامية العدد 22 عام 1409 هـ. (¬3) قرر المجلس في دورته الثامنة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من 28 ربيع الآخر إلى 7 جمادي الأولى عام 1405 هـ الموافق 19 - 28 يناير1985 م القول بجواز النقل بشروط أربعة: عدم ضرر المنقول منه، وأن يكون مختارًا، وأن يتعين النقل لعلاج المرض، وأن يغلب الظن أو يتحقق بنجاح الجراحة، وقد توقف الدكتور الشيخ بكر عبد الله أبو زيد، ولم ير الدكتور الشيخ صالح بن فوزان الفوزان جواز النقل من الميت. (¬4) قرر مجلس الهيئة بالإجماع جواز نقل عضو أو جزئه من إنسان حي مسلم أو ذمي إلى نفسه إذا دعت الحاجة إليه وأمن الخطر في نزعه وغلب على الظن نجاح زرعه، وقرر بالأكثرية جواز نقل عضو وجزئه من إنسان ميت إلى مسلم إذا اضطر إلى ذلك، أمنت الفتنة في نزعه ممن أخذ منه، وغلب على الظن نجاح زرعه فيمن سيزرع فيه، كما قر جواز التبرع إلى المسلم المضطر لذلك قرار رقم 99 وتاريخ 6/ 11/1402هـ. (¬5) وتضمن القرار جواز النقل بشروط خمسة بالنسبة للنقل من الميت منها: موافقة الميت أو والديه، أو وليه بعد وفاته، أو ولي الأمر المسلم إذا كان المتوفي مجهول الهوية، وأن توجد الحاجة أو الاضطرار، وألا يكون بمقابل مادي. انظر نص الفتوى في: "انتفاع الأنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حيًا كان أو ميتًا". د. عبد السلام داود العبادي ص 8. من بحوث مجمع الفقه الإسلامي.

ودولة الكويت (¬1)، وجمهورية مصر العربية (¬2)، والجمهورية الجزائرية (¬3). وهو قول طائفة من العلماء والباحثين: والشيخ عبد الرحمن بن سعدي (¬4)، والشيخ إبراهيم اليعقوبي (¬5) -رحمهما الله-، والشيخ جاد الحق (¬6)، واختاره الدكتور أحمد شرف الدين (¬7)، والدكتور رءوف شلبي (¬8)، ............... ¬

_ (¬1) صدرت هذه الفتوى عن مكتب الإفتاء بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت وذلك برقم 97 ع/84 في 22 ربيع الآخر عام 1405 هـ، واشتملت الفتوى على بعض الشروط السابقة. (¬2) مجلة الأزهر 20 لسنة 1368 هـ 742، لجنة الفتوى بالأزهر فتوى رقم 491، دار الإفتاء المصرية مسجل 88 مسلسل 212 ص 93، جريدة الشرق الأوسط العدد 3725 الأربعاء 8/ 2/1989 م حيث نقلت قول مفتي الجمهورية بالجواز. (¬3) صدرت هذه الفتوى عن لجنة الإفتاء للمجلس الإسلامي الأعلى في الجزائر بتاريخ 6 ربيع الأول عام 1392 هـ (20إبريل 1972 م)، واشترطت رضا المنقول منه ما لم يكن ميتًا، فلولي الأمر الحق في أن يأذن بالنقل. (¬4) هو الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله آل سعدي التميمي الحنبلي ولد -رحمه الله- بعنيزة عام 1307 هـ، وكان عالمًا محررًا نبغ في علوم عديدة منها العقيدة، والتفسير، والفقه، توفي -رحمه الله- سنة 1367 هـ، له مؤلفات منها: تيسير الكريم المنان، المختارات الجلية، الحق الواضح. (¬5) هو الشيخ إبراهيم اليعقوبى من العلماء المعاصرين توفي -رحمه الله- في عام 1404 هـ وله في هذه المسألة رسالة بعنوان: "شفاء التباريح والأدوات في حكم التشريح ونقل الأعضاء" خلص فيه القول بالجواز بستة عشر شرطًا. (¬6) هو الشيخ جاد الحق علي جاد الحق شيخ الأزهر حاليًا، وله مقال في المسألة بعنوان: "نقل الأعضاء من إنسان لآخر" نشر في مجلة الأزهر الجزء التاسع عدد رمضان 1403 هـ. (¬7) أستاذ القانون المدني المساعد بجامعتي عين شمس، والكويت، انظر قوله في كتابه "الأحكام الشرعية للأعمال الطبية" ص 128. (¬8) هو: الدكتور رءوف شلبي وكيل مشيخة الأزهر حاليًا. انظر رأيه في جريدة الشرق الأوسط، العدد 3725 الأربعاء 8/ 2/1989 م، ويرى أن الجواز مخصوص =

الأدلة:

والدكتور عبد الجليل شلبي (¬1)، والدكتور محمود علي السرطاوي (¬2) , والدكتور هاشم جميل عبد الله (¬3). الأدلة: (1) دليل القول الأول: (لا يجوز). استدل أصحاب هذا القول من الكتاب والسنة والعقل، كما استدلوا بالقواعد الفقهية، واستشهدوا بأقوال بعض الفقهاء المتقدمين -رحمهم الله-، وبيان ذلك فيما يلي: أولاً: دليلهم من الكتاب، والسنة، والعقل: (أ) دليلهم من الكتاب: 1 - قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ... } الآية (¬4) ¬

_ = بالأحياء، وأما الميت فلا يجوز النقل منه لأنه مثلة، وهو بذلك يوافق فضيلة الدكتور الشيخ صالح الفوزان كما تقدمت حكاية قوله. (¬1) هو: الدكتور عبد الجليل شلبي الأمين العام السابق لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، ونشر قوله في جريدة الشرق الأوسط العدد 3725 الأربعاء 8/ 2/1989 م ويرى أن هذا التبرع قد يصل إلي درجة الوجوب. (¬2) مدرس في قسم الفقه والتشريع بكلية الشريعة بالأردن -حصل على درجة الدكتوراه في الفقه المقارن عام 1986 م من جامعة الأزهر- القاهرة، تكلم على هذه المسألة في بحث نشر في مجلة "دراسات" الصادرة عن الجامعة الأردنية المجلد 12 العدد 3 جمادى الآخرة عام 1405 هـ بعنوان "زرع الأعضاء في الشريعة الإسلامية" وخلص فيه إلى القول بالجواز بشروط ستة، ويرى ضرورة إنشاء بنك للأعضاء الآدمية!!!. (¬3) أستاذ مساعد في الفقه بكلية الشريعة بجامعة أم القرى تكلم عن هذه المسألة في بحث له نشر في مجلة الرسالة الإسلامية العدد 212 ص 69 وخلص إلي القول بجواز النقل. (¬4) سورة البقرة (2) آية 195.

وجه الدلالة: 1 - أن الله تعالى نهانا أن نلقي بأنفسنا في مواطن الهلكة، وإقدام الشخص على التبرع بجزء من جسده هو في الواقع سعى لإهلاك نفسه في سبيل إحياء غيره، وليس ذلك مطلوبًا منه ... ، ولفظ التهلكة في الآية لفظ عام يشمل كل ما يؤدي إليها، وقطع العضو من نفسه الموجب لإزالة منفعته فرد من أفراد ما يؤدي إلى الهلاك، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب على حد ما ذكره علماء الأصول (¬1). 2 - قوله تعالى: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ .. } الآية (¬2). وجه الدلالة: أن نقل الأعضاء فيه تغيير في خلق الله فهو داخل في عموم هذه الآية الكريمة، ويعتبر من المحرمات لذلك (¬3). 3 - قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} (¬4). ¬

_ (¬1) نقل وزراعة الأعضاء الآدمية من منظور إسلامي. د. السكري ص 107. (¬2) سورة النساء (4) آية 119. (¬3) الامتناع والاستقصاء للسقاف ص 15، 16. (¬4) سورة النساء (4) آية 29، 30.

وجه الدلالة: أن الله تعالى قد نهى الإنسان عن أن يقتل نفسه، أو يقتل غيره سواء كان بسبب مباشر، أو غير مباشر فالنهي هنا عام كما في الآية الأولى وهو يتناول جميع الأسباب التي تؤدي إلى المنهي عنه، وهو قتل النفس. ومن هذه الأسباب المنهي عنها أن يبرم شخص اتفاقًا مع آخر ليتبرع الأول بجزء من جسده للآخر ... (¬1). وأما الأية الكريمة الثانية فقد دلت على عقوبة من فعل ذلك القتل عدوانًا، وموافقة الشخص على قطع جزء من جسد نفسه هو لا شك عدوان على الجسد (¬2) فيكون فعلها داخلاً في ذلك الوعيد. 4 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (¬3). وجه الدلالة: أن الآية الكريمة دلت على تكريم الله للآدمي وهذا التكريم شامل لحال حياته وما بعد موته. ¬

_ (¬1) نقل وزراعة الأعضاء. د. السكري ص 108. (¬2) المصدر السابق ص 110. (¬3) سورة الإسراء (17) آية 70.

ب- دليلهم من السنة:

وانتزاع العضو منه مخالف لذلك التكريم سواء في حال الحياة أو بعد الموت (¬1). ب- دليلهم من السنة: استدلوا بالأحاديث التالية: 1 - حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: "لما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو، وهاجر معه رجل من قومه فاجتووا المدينة فمرض فجزع فأخذ مشاقص فقطع بها براجمه فشخبت (¬2) يداه حتى مات فرآه الطفيل بن عمرو في منامه، وهيئته حسنة، ورآه مغطيًا يديه، فقال له: ما صنع بك؟ قال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فقال: مالي أراك مغطيًا يديك؟ قال لي: لن نصلح منك ما أفسدت، فقصها الطفيل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم وليديه فاغفر" (¬3). وجه الدلالة: أفاد الحديث أن من تصرف في عضو منه بتبرع أو غيره فإنه يبعث يوم القيامة ناقصًا منه ذلك العضو عقوبة له، لأن قوله: "لن نصلح منك ما أفسدت" لا يتعلق بقتل النفس وإنما يتعلق بجرح براجمه ¬

_ (¬1) الامتناع والاستقصاء للسقاف ص 28، 29، ونقل وزراعة الأعضاء الآدمية، د. السكري ص 115. (¬2) المشاقص جمع مشقص وهو السهم الذي فيه نصل عريض، والبراجم رءوس السلاميات من ظهر الكف إذا قبض الشخص كفه نشزت وارتفعت، معنى تشخبت يداه أي جرى دمها انظر المصباح المنير للفيومي 1/ 42، 306، 319. (¬3) رواه مسلم في صحيحه 1/ 49، 50.

وتقطيعهما (¬1). 2 - حديث أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها- قالت: "جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إن لي ابنة عريسًا أصابتها حصبة (¬2) فتمزق شعرها أفأصله؟ فقال: لعن الله الواصلة والمستوصلة (¬3). وجه الدلالة: أن الحديث دل على حرمة انتفاع المرأة بشعر غيرها وهو جزء من ذلك الغير فيعتبر أصلاً في المنع من الانتفاع بأجزاء الآدمي ولو كان ذلك الانتفاع غير ضار بالمأخوذ منه (¬4). 3 - أحاديث النهي عن المثلة، ومنها حديث بريدة -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ... الحديث" (¬5). وجه الدلالة: أن الحديث دل على حرمة التمثيل، وأن التمثيل لا يختص ¬

_ (¬1) الامتناع والاستقصاء للسقاف ص 20، ونقل وزراعة الأعضاء الآدمية. د. السكري 111. (¬2) الحصبة: بثر يخرج بالجسد، ويقال هي الجدري. المصباح المنير للفيومي1/ 138. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) قضايا فقهية معاصرة للسنبهلي ص 61، 62. (¬5) تقدم تخريجه.

تحريمه بالحيوان، وبتغير خلقة الإنسان على وجه العبث والانتقام، بل هو شامل لقطع أي جزء أو عضو من الآدمي أو الحيوان أو جرحه حيًا أو ميتًا لغير مرض (¬1). 4 - حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "وكسر عظم الميت ككسر عظم الحي في الإثم" (¬2). وجه الدلالة: أفاد الحديث أن الحي يحرم كسر عظمه أو قطع أي جزء منه وكذا الميت لأي سبب إلا الحي لسبب أذن الشارع فيه (¬3). 5 - حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرر ولا ضرار" (¬4). وجه الدلالة: أن قطع العضو من شخص للتبرع به لآخر فيه إضرار محقق بالشخص المقطوع منه (¬5)، فيكون داخلاً في عموم النهي، ويحرم فعله (¬6). ¬

_ (¬1) الامتناع والاستقصاء للسقاف ص 26، وقضايا معاصرة للسنبهلي ص 47. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) الامتناع والاستقصاء للسقاف ص 21. (¬4) رواه أحمد في مسنده 5/ 327، وابن ماجة في سننه 1/ 784. (¬5) نقل وزراعة الأعضاء الآدمية. د. السكري ص 116. (¬6) قال المناوي -رحمه الله- في شرحه لهذا الحديث: "وفيه تحريم سائر أنواع الضرر إلا بدليل لأن النكرة في سياق النفي تعم" اهـ. قال السقاف بعد إيراده: "قلت: وفي قطع الأعضاء من الأحياء أو الأموات أضرار من الناحية الشرعية والجسدية، أما من الناحية الشرعية فقول النبي- صلى الله عليه وسلم -: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام" رواه البخاري وغيره، وأما الناحية الجسدية فلا شك أنه فيه تنقيص للخلقة =

جـ- دليلهم من العقل:

6 - حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل: "ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شىء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا ... " (¬1). وجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد وضع أساس الترتيب في القسمة فأرشد إلى أن يبدأ بنفسه، ثم زوجته وأولاده، ثم ذي القرابة، فلا يجب أن يؤثر أحدًا على نفسه. فإذا كان هذا في النفقات فمن باب أولى ألا يتلف الشخص نفسه لإحياء غيره مهما كانت الضرورة إلى ذلك، ونحن مأمورون باتباع المنصوص عليه شرعًا (¬2). جـ- دليلهم من العقل: استدلوا بالعقل من الوجوه التالية: الوجه الأول: أن من شرط صحة التبرع أن يكون الإنسان مالكًا للشيء المتبرع به، أو مفوضًا في ذلك من قبل المالك الحقيقي. والإنسان ليس مالكًا لجسده، ولا مفوضًا فيه لأن التفويض ¬

_ = السوية الأصلية. وفي ذلك أضرار وأي أضرار" اهـ. فيض القدير للمناوي 6/ 431، والامتناع والاستقصاء للسقاف ص 29, 30. (¬1) رواه مسلم في صحيحه 2/ 403. (¬2) نقل وزراعة الأعضاء الآدمية. د. السكري ص 119.

يستدعي الإذن له بالتبرع، وذلك غير موجود (¬1). فثبت بهذا عدم صحة تبرعه بأعضائه لعدم وقوع ذلك التبرع على الوجه الشرعي المعتبر. الوجه الثاني: أن درء المفاسد مقصود شرعًا، وفي التبرع مفاسد عظيمة تربو على مصالحه، إذ فيه إبطال لمنافع أعضاء الجسم المنقولة، مما قد يؤدي إلى الهلاك، أو على الأقل إلى التقاعس عن أداء العبادات والواجبات (¬2). الوجه الثالث: القياس: 1 - أن حرمة المال أقل من حرمة النفس، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتوقي كرائم الناس، فمن باب أولى وأحرى أن تتقى أعضاؤهم (¬3). 2 - لا يجوز استقطاع الأعضاء الآدمية كما لا يجوز استقطاع الأبضاع بجامع كون كل منهما من أعضاء الجسد (¬4). ¬

_ (¬1) نقل وزراعة الأعضاء الآدمية د. السكري ص 107، وقضايا فقهية معاصرة للسنبهلي ص 67، وانتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حيًا أو ميتًا. د. الشاذلي 71. (¬2) نقل وزراعة الأعضاء الآدمية. د. السكري ص 110. (¬3) المصدر السابق ص 118، 119. (¬4) يشهد لحكم الأصل قولهم: "الأصل في الأبضاع التحريم، وهي من القواعد التي نص عليها بعض الفقهاء -رحمهم الله-. انظر نقل وزراعة الأعضاء الآدمية د. السكري ص 116، 117، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 61، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 67.

ثانيا: دليلهم من القواعد الفقهية:

ثانيًا: دليلهم من القواعد الفقهية: قالوا: (1) "الضرر لا يزال بالضرر" (¬1). (2) "الضرر لا يزال بمثله" (¬2). وجه الدلالة: أن هاتين القاعدتين تتضمنان المنع من إزالة الضرر بمثله، وذلك موجود في مسألتنا حيث يزال الضرر عن الشخص المنقول إليه بضرر آخر يلحق الشخص المتبرع (¬3). (3) "ما جاز بيعه جازت هبته وما لا، فلا" (¬4). وجه الدلالة: أن أصحاب القول الثاني يوافقون على أن الأعضاء الآدمية لا يجوز بيعها. وقد دلت القاعدة على أن ما لا يجوز بيعه لا تجوز هبته، إذًا فلا يجوز التبرع بالأعضاء الآدمية لا من حي لمثله في حال الحياة ولا بعد الممات. ثالثًا: استشهادهم بأقوال الفقهاء المتقدمين -رحمهم الله-: ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 86، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 87، والأقمار المضيئة للأهدل ص 121. (¬2) شرح القواعد الفقهية للزرقاء ص 141، وقواعد الفقه للمجددي ص 88. (¬3) احتج بهاتين القاعدتين على حكم المسألة الشيخ محمد برهان الدين السنبهلي. انظر كتابه: قضايا فقهية معاصرة ص 61. (¬4) المنثور من القواعد للزركشي 3/ 238، انتفاع الإنسان د. الشاذلي 75 من بحوث مجمع الفقه.

أ- فقهاء الحنفية:

أ- فقهاء الحنفية: (1) قال ابن عابدين -رحمه الله-: "وإن قال له آخر: اقطع يدي وكُلْها لا يحل، لأن لحم الإنسان لا يباح في الاضطرار" (¬1) اهـ. (2) قال ابن نجيم -رحمه الله-: "ولا يأكل المضطر طعام مضطر آخر ولا شيئًا من بدنه" (¬2) اهـ. (3) قال الكاساني -رحمه الله-: "أما النوع الذي لا يباح ولا يرخص بالإكراه أصلاً فهو قتل المسلم بغير حق، سواء كان الإكراه ناقصًا أو تامًا ... وكذا قطع عضو من أعضائه ... ولو أذن له المكره علية ... فقال للمكره: افعل، لا يباح له، لأن هذا مما لا يباح بالإباحة" (¬3) اهـ. (4) وقال في مجمع الأنهر: "وتكره معالجة بعظم إنسان أو خنزير لأنها محرم الانتفاع بها" (¬4) اهـ. (5) وقال في الفتاوى الهندية: "ولا بأس بالتداوي بالعظم إذا كان عظم شاة أو بقرة أو بعير، أو فرس، أو غيره من الدواب إلا عظم الخنزير والآدمي، فإنه يكره التداوي بهما" (¬5) اهـ. قالوا: "وهذا القول المنقول عن محمد بن الحسن الشيباني، والمعروف أن الكراهة عنده تعني الحرمة ما لم يقم الدليل على خلافه" (¬6) اهـ. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين 5/ 215. (¬2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 124. (¬3) بدائع الصنائع للكاساني 7/ 177. (¬4) مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر لداماد أفندي 2/ 523. (¬5) الفتاوى الهندية لجماعة من علماء الهند 5/ 354. (¬6) مجمع الأنهر لداماد أفندي 2/ 523، ونقل الأعضاء الآدمية. د. السكري ص 125.

ب- فقهاء المالكية:

ومنها أيضًا: "الانتفاع بأجزاء الآدمي لم يجز قيل: للنجاسة، وقيل: للكرامة وهو الصحيح ... " (¬1) اهـ. (6) وقال ابن عابدين -رحمه الله-: " والآدمي مكرم شرعًا، ولو كان كافرًا، فإيراد العقد عليه وابتذاله به، وإلحاقه بالجمادات إذلال له وهو غير جائز وبعضه في حكمه، وصرح في فتح القدير ببطلانه" (¬2). وقال أيضاً: "ويبطل بيع رجيع آدمي، وكل ما انفصل عنه كشعر وظفر لأنه جزء الآدمي ولذا وجب دفنه" (¬3) اهـ. ب- فقهاء المالكية: قال الصاوي -رحمه الله- (¬4): "إن كسر عظام الميت انتهاك لحرمته" (¬5) اهـ. وقال أيضًا: "فإن بقي شيء من عظامه فالحرمة باقية لجميعه، فلا يجوز استخدام ظفر الميت، ولا جزء منه، ولا شعره لأن هذه الأجزاء محترمة وفي أخذها انتهاك لحرمتها" (¬6) اهـ. وقال صاحب جواهر الإكليل في شرحه: "والمنصوص المعول ¬

_ (¬1) الفتاوى الهندية 5/ 354. (¬2) حاشية ابن عابدين 5/ 58. (¬3) المصدر السابق، 5/ 58، 6/ 385. (¬4) هو الشيخ أحمد بن محمد الصاوي المالكي ولد -رحمه الله- بمصر سنة 1175 هـ، وهو من شارك في علوم مختلفة، توفي -رحمه الله- بالمدينة في سنة 1241 هـ وله مصنفات منها: بلغة السالك لأقرب المسالك، وحاشية على شرح الدردير في علم البيان، وحاشية على تفسير الجلالين. معجم المؤلفين لعمر كحالة 2/ 111. (¬5) بلغة السالك للصاوي 1/ 424. (¬6) المصدر السابق 1/ 432.

جـ- فقهاء الشافعية:

عليه عدم جواز أكل الآدمي الميت، ولو كان كافرًا لمضطر لأكل الميتة، ولو مسلمًا لم يجد غيره، إذ لا تنتهك حرمة الآدمي لآخر" (¬1) اهـ. وقال ابن جزي -رحمه الله-: "ولا يجوز التداوي بالمحرمات كما لا يجوز أكل المضطر ابن آدم" (¬2) اهـ. جـ- فقهاء الشافعية: قال الرملي -رحمه الله-: "ويحرم قطعه البعض من نفسه لغيره، ولو مضطرًا ما لم يكن ذلك الغير نبيًا فيجب له ذلك كما يحرم أن يقطع من غيره لنفسه من معصوم" (¬3) اهـ. وقال البجيرمي (¬4) -رحمه الله-: "ويحرم قطع بعضه لغيره من المضطرين لأن قطعه لغيره ليس فيه القطع لاستبقاء الكل، نعم إن كان ذلك الغير نبيًا لم يحرم بل يجب كما يحرم على المضطر أيضًا أن يقطع لنفسه قطعة من حيوان معصوم" (¬5) اهـ. وقال الإمام النووي -رحمه الله-: "ولا يجوز (¬6) أن يقطع من ¬

_ (¬1) جواهر الإكليل للأبي 1/ 117. (¬2) قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي ص 194. (¬3) نهاية المحتاج للرملي 8/ 163. (¬4) هو الشيخ سليمان بن محمد بن عمر البجيرمي الشافعي، ولد -رحمه الله- بمصر سنة 1131 هـ، والبجيرمي نسبة إلى البجيرم قرية من قرى الغربية بمصر، تعلم بالأزهر، وهو من فقهاء الشافعية، توفي -رحمه الله- بمصر سنة 1221 هـ. وله مصنفات منها: التجريد لنفع العبيد، تحفة الحبيب على شرح الخطيب، وكلاهما في فروع الفقه الشافعي. معجم المؤلفين لعمر كحالة 4/ 275. (¬5) حاشية البيجرمي 4/ 273. (¬6) أي للمضطر.

د- فقهاء الحنابلة:

معصوم غيره بلا خلاف، وليس للغير أن يقطع من أعضائه شيئًا ليدفعه إلى المضطر بلا خلاف صرح به إمام الحرمين والأصحاب" (¬1). وقال صاحب مغني المحتاج: "ويحرم جزمًا على شخص قطعه أي بعض نفسه لغيره من المضطرين، لأن قطعه لغيره ليس فيه قطع البعض لاستبقاء الكل، كما يحرم على مضطر أيضًا أن يقطع لنفسه قطعة من حيوان معصوم" (¬2) اهـ. د- فقهاء الحنابلة: قال الإمام ابن قدامة -رحمه الله-: "فإن لم يجد المضطر شيئًا لم يبح له أكل بعض أعضائه ... وإن لم يجد إلا آدميًا محقوق الدم لم يبح قتله إجماعًا، ولا إتلاف عضو منه مسلمًا كان أو كافرًا لأنه مثله فلا يجوز أن يبقي نفسه بإتلافه وهذا لا خلاف فيه ... وإن وجد معصومًا ميتًا لم يبح أكله" (¬3) اهـ. وقال البهوتي -رحمه الله-: "فإن لم يجد المضطر إلا آدميًا محقوق الدم لم يبح له قتله، ولا إتلاف عضو منه مسلمًا كان المحقوق أو كافرًا ذميًا أو مستأمنًا لأن المعصوم الحي مثل المضطر فلا يجوز له إبقاء نفسه بإتلاف مثله" (¬4) اهـ. وقال أيضًا: "فإن لم يجد (¬5) شيئًا مباحًا، ولا محرمًا لم يبح له ¬

_ (¬1) المجموع للنووي 9/ 45. (¬2) مغني المحتاج للشربيني 4/ 310. وقال -رحمه الله- عند بيانه لعلة تحريم استعمال شعر الآدمي: "لأنه مستعمل لشعر آدمي، والآدمي يحرم الانتفاع به وبسائر أجزائه لكرامته" اهـ. المصدر السابق 1/ 191. (¬3) المغني مع الشرح الكبير لابن قدامة 11/ 79. (¬4) كشاف القناع للبهوتي 6/ 199. (¬5) أي المضطر.

هـ- فقهاء الظاهرية:

أكل بعض أعضائه لأنه يتلفه لتحصيل ما هو موهوم" (¬1). وقال في موضع آخر: "ولا يجوز التداوى بشيء محرم، أو بشيء فيه محرم كألبان الأتن ولحم شيء من المحرمات ولا يشرب مسكر، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا تداووا بحرام" (¬2). هـ- فقهاء الظاهرية: قال الإمام ابن حزم الظاهري -رحمه الله-: "وكل ما حرم الله عز وجل من المآكل والمشارب من خنزير، أو صيد حرام، أو ميته، أو دم، أو لحم سبع طائر ... ونحو ذلك فهذا كله حلال عند الضرورة حاشا لحوم بنى آدم، وما يقتل من تناوله، فلا يحل من ذلك شيء أصلاً لا بضرروة ولا بغيرها" (¬3) اهـ. فهذه النصوص من عبارات الفقهاء الأعلام -رحمهم الله- تدل دلالة واضحة على أن الانتفاع بأعضاء الآدمي لا يجوز شرعًا في حال الضرورة، وأنه لو أذن الإنسان بأخذ شيء من جسده لكي ينتفع به فينجو من الهلاك في حال الاضطرار فإنه لا يحل له فعل ذلك. وأن التداوي بالمحرمات "ومنها لحوم الآدميين" محرم شرعًا. وبناء على ذلك كله فإننا نخلص إلى اتفاقهم على تحريم الانتفاع بأعضاء الآدمي ولو كان كافرًا في حالة الاضطرار، فضلاً عما دونها، كما نخلص إلى أن الإنسان إذا تبرع بشيء من أعضائه لمضطر لم يعتبر تبرعه لأنه واقع في غير موقعه (¬4). ¬

_ (¬1) المصدر السابق 6/ 198. (¬2) المصدر السابق 6/ 200. (¬3) المحلى لابن حزم 8/ 134. (¬4) ذكر هذه النصوص السابقة من كلام الفقهاء -رحمهم الله- كل من الدكتور =

(2) دليل القول الثاني: وهو الجواز:

(2) دليل القول الثاني: وهو الجواز: استدل أصحاب هذا القول بدليل الكتاب، والعقل، كما استدلوا بالقواعد الفقهية، واستشهدوا بأقوال بعض الفقهاء المتقدمين -رحمهم الله- وبيان ذلك فيما يلي: أولاً: دليلهم من النقل والعقل: أ- دليلهم من الكتاب: استدلوا بالآيات الكريمة التالية: (1) قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬1). (2) قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ... } إلى قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬2). (3) قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ... } (¬3). ¬

_ = عبد السلام عبد الرحيم السكري، والشيخ محمد برهان الدين السنبهلي. انظر: نقل وزراعة الأعضاء الآدمية. د. السكري ص 124 - 131، وقضايا فقهية معاصرة للسنبهلي ص 62، 63. (¬1) سورة البقرة (2) آية 173. (¬2) سورة المائدة (5) آية 3. (¬3) سورة الأنعام (6) آية 118، 119.

(4) قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬1). وجه الدلالة: أن هذه الآيات الكريمة اتفقت على استثناء حالة الضرورة من التحريم المنصوص عليه فيها والإنسان المريض إذا احتاج إلى نقل العضو فإنه سيكون في حكم المضطر لأن حياته مهددة بالموت كما في حالة الفشل الكلوي، وتلف القلب ونحوهما من الأعضاء المهمة في جسد الإنسان. وإذا كانت حالته حالة اضطرار فإنه يدخل في عموم الاستثناء المذكور فيباح نقل ذلك العضو إليه (¬2). (5) قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} (¬3). ¬

_ (¬1) سورة الأنعام (6) آية 145. (¬2) شفاء التباريح والأدواء لليعقوبي 19، 23 - 28، 34، والأحكام الشرعية للأعمال الطبية. د. أحمد شرف الدين ص 133. (¬3) سورة المائدة (5) آية 32.

وجه الدلالة: أن قوله سبحانه: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} عام يشمل كل إنقاذ من تهلكة. وعليه فإنه يدخل فيه من تبرع لأخيه بعضو من أعضائه لكي ينقذه من الهلاك، أو يعيد إليه بصره الذي فقد نوره (¬1). (6) قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ... الآية) (¬2). وقوله سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (¬3). وقوله سبحانه: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيكم مِّنْ حَرجٍ ... } (¬4). وقوله سبحانه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيكمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ... } الآية (¬5). وجه الدلالة من هذه الآيات الكريمة: أنها دلت على أن مقصود الشارع التيسير على العباد لا التعسير عليهم. ¬

_ (¬1) فتوى لجنة الإفتاء بالمجلس الإسلامى الأعلى في الجزائر بتاريخ 6/ 3/1392 هـ. انظر مجلة البحوث الإسلامية عدد 22 صفحة 47. (¬2) سورة البقرة (2) آية 185. (¬3) سورة النساء (4) آية 28 (¬4) سورة المائدة (5) آية 6. (¬5) سورة الحج (22) آية 78.

ب- دليلهم من العقل:

وفي إجازة نقل الأعضاء الآدمية تيسير على العباد ورحمة بالمصابين والمنكوبين، وتخفيفًا للألم وكل ذلك موافق لمقصود الشرع، بخلاف تحريم نقلها، فإن فيه حرجًا ومشقة الأمر الذي ينافي ما دلت عليه هذه النصوص الشرعية (¬1). ب- دليلهم من العقل: استدلوا بالعقل من الوجوه التالية: الوجه الأول: يجوز التداوي بنقل الأعضاء الآدمية كما يجوز التداوي بلبس الحرير لمن به حكة بجامع وجود الحاجة الداعية إلى ذلك في كل (¬2). الوجه الثاني: يجوز التداوي بنقل الأعضاء الآدمية كما يجوز التداوي باستعمال الذهب لمن احتاج إليه بجامع وجود الحاجة الداعية إلى ذلك في كل (¬3). الوجه الثالث: أن الفقهاء -رحمهم الله- نصوا على جواز شق بطن الميت ¬

_ (¬1) شفاء التباريح والأدواء لليعقوبي ص 84. (¬2) حكم الاستفادة من أعضاء الموتى. د. النسيمي ص 50. (¬3) المصدر السابق.

لاستخراج جوهرة الغير إذا ابتلعها الميت (¬1)، فلأن يجوز نقل أعضاء الميت أولى وأحرى لمكان إنقاذ النفس المحرمة التي هي أعظم حرمة من المال (¬2). الوجه الرابع: يجوز نقل الأعضاء الآدمية كما يجوز تشريحها بجامع وجود الحاجة في كل (¬3). الوجه الخامس: أن بقاء الأعضاء الآدمية لشخص آخر ينتفع بها بعد موت صاحبها يعتبر من باب الصدقة عليه، فهي صدقة جارية مندوب إليها خاصة إذا وصى بذلك صاحبها قبل الوفاة محتسبًا الأجر عند الله تعالى (¬4). ¬

_ (¬1) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام1/ 97، والمغني مع الشرح الكبير 3/ 414، 415 والمحلى لابن حزم 5/ 166، 167، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 88 والفتاوى الهندية 1/ 113، 2/ 360، والمجموع للنووي 5/ 266، 267، 300، ونهاية المحتاج للرملي 3/ 39، ومغني المحتاج للشربيني 1/ 207، وحاشية ابن عابدين 1/ 661، التشريح الجثماني والنقل والتعويض الإنساني د. بكر أبو زيد ص 15، وحكم الاستفادة من أعضاء الموتى د. النسيمي ص 51، 52. (¬2) حكم الاستفادة من أعضاء الموتى. د. النسيمي ص 54، وانتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر. د. العبادي ص 6 من بحوث مجمع الفقه الإسلامي. (¬3) حكم الاستفادة من أعضاء الموتى د. النسيمي ص 56، فتوى لجنة الإفتاء بالمملكة الأردنية الهاشمية بتاريخ 20 جمادى الأولى عام 1397هـ. انظر بحث د. عبد السلام العبادي انتفاع الإنسان ص 5، وترقيع الأحياء بأعضاء الأموات للزرقاء ص 50. (¬4) حكم الاستفادة من أعضاء الموتى. د. النسيمي ص 56، وفتوى لجنة الإفتاء بالمملكة الأردنية الهاشمية بتاريخ 11/ 4/1984 م الموافق 1/ 7/1404 هـ، د. عبد السلام العبادي "انتفاع الإنسان بأعضاء جسم آخر" ص 15.

ثانيا: دليلهم من القواعد الفقهية:

الوجه السادس: أن الله تعالى امتدح من آثر أخاه على نفسه بطعام أو شراب أو مال هو أحق به (¬1). فإذا كان ذلك في هذه الأمور اليسيرة، فكيف بمن آثر أخاه بعضو أو جزئه لكي ينقذه من الهلاك المحقق لاشك أنه أولى وأحرى بالمدح والثناء، ومن ثم يعتبر فعله جائزًا ومشروعًا (¬2). الوجه السابع: أن الإنسان مأذون له بالتصرف في جسده بما فيه المصلحة، فإذنه بالتبرع فيه مصلحة عظيمة فيجوز له فعله (¬3). ثانيًا: دليلهم من القواعد الفقهية: استدلوا بالقواعد الفقهية التالية: (1) الضرر يزال (¬4). ¬

_ (¬1) يشهد لذلك قوله تعالى في الثناء على الأنصار رضي الله عنهم: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} سورة الحشر (59) آية 9. (¬2) فتوى لجنة الإفتاء التابعة للمجلس الإسلامي الأعلى بالجزائر. انظر مجلة البحوث الإسلامية عدد 22 صفحة 47، والمختارات الجلية لابن سعدي ص 324، 325، وفتوى من الأزهر مقدمة في ندوة نقل الكلى التي نظمها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بالقاهرة، منشورة في المجلة الجنائية القومية عدد مارس 1978 م، العدد الأول صفحة 153، والأحكام الشرعية د. أحمد شرف الدين ص 135. (¬3) انتفاع الإنسان بأعضاء إنسان آخر ص 4، 7. (¬4) شفاء التباريح والأدواء لليعقوبي ص 21، والتشريح الجثماني والنقل والتعويض الإنساني د. بكر أبو زيد ص 14، وقد نص أهل العلم -رحمهم الله- من الفقهاء المتقدمين على اعتبار هذه القاعدة. انظر الأشباه والنظائر للسيوطي ص 83، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 85.

(2) الضرورات تبيح المحظورات (¬1). (3) إذا ضاق الأمر اتسع (¬2). وجه الدلالة: أن هذه القواعد المستنبطة من نصوص الشريعة دلت على الترخيص للمتضرر بإزالة ضرره ولو بالمحظور. فالقاعدة الأولى دلت على أن إزالة الضرر عن المتكلف مقصد من مقاصد الشريعة. كما دلت القاعدة الثانية على أن المكلف إذا بلغ مقام الاضطرار رخص له في ارتكاب المحظورات شرعًا. ودلت القاعدة الثالثة على أن بلوغ المكلف لمقام المشقة التي لا يقدر عليها يوجب التوسيع عليه في الحكم. وكل ذلك موجود معنا هنا، فالشخص المريض متضرر بتلف العضو المصاب، كما أن مقامه يعتبر مقام اضطرار وفيه ضيق ومشقة، إذ يصل به الحال إلى درجة خوف الهلاك والموت كما في حالة الفشل الكلوي. ¬

_ (¬1) شفاء التباريح والأدواء لليعقوبي ص 21، وانتفاع الإنسان بأعضاء إنسان آخر. د. العبادي ص 2، وترقيع الأحياء بأعضاء الأموات للزرقاء ص50. هذه القاعدة متفرعة عن القاعدة التي قبلها. انظر الأشباه والنظائر للسيوطي ص 83، 84، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 85. (¬2) شفاء التباريح والأدواء لليعقوبي ص 21، والتشريح الجثماني د. بكر أبو زيد ص 14، وهذه القاعدة في معنى القاعدة المشهورة: "المشقة تجلب التيسير" الأشباه والنظائر للسيوطي ص 83، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 84.

(4) "إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما" (¬1). وجه الدلالة: أن القاعدة دلت على أنه وقع التعارض بين مفسدتين فإننا ننظر إلى أيهما أشد فنقدمها على التي هي أخف منها. وفي مسألتنا هذه وقع التعارض بين مفسدة أخذ العضو الحي أو الميت وبحصول بعض الألم للأول، والتشوه في جثة الثاني، وبين مفسدة هلاك الحي المتبرع له، ولا شك أن مفسدة هلاك الحي المتبرع له -المريض- أعظم من المفسدة الواقعة على الشخص المتبرع حيًا كان أو ميتًا فتقدم حينئذ لأنها أعظم ضررًا وأشد خطرًا. (5) "أن الأحكام تتغير بتغير الأزمان" (¬2) ¬

_ (¬1) نقل دم أو عضو أو جزئه من إنسان لآخر- بحث للجنة الدائمة للبحوث العلمية منشور بمجلة البحوث الإسلامية عدد 22 ص 41. شفاء التباريح والأدواء لليعقوبي ص 21، ونقل الأعضاء من إنسان لآخر لجاد الحق مقال بمجلة الأزهر الجزء التاسع السنة الخامسة والخمسون عدد رمضان عام 1403 هـ الموافق يونيه 1983 م، وانتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر، د. البوطي 7 من بحوث مجمع الفقه الاسلامي، وقد نص الفقهاء -رحمهم الله- على اعتبار هذه القاعدة الشرعية. انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص 87، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 89، شرح القواعد الفقهية للزرقاء ص 147، وقواعد الفقه للمجددي ص 56، وفي معنى هذه القاعدة قولهم "يختار أهون الشرين". قواعد الفقه للمجددي ص 140، شرح القواعد الفقهية للزرقاء ص 129. (¬2) شفاء التباريح والأدواء لليعقوبي ص 21، والمختارات الجلية لابن سعدي ص 325.

ثالثا: استشهادهم بأقوال الفقهاء المتقدمين رحمهم الله:

وجه الدلالة: أن نقل الأعضاء الآدمية كان قبل ترقي الطب يعتبر ضررًا وخطرًا، والآن بعد تقدم الطب أصبح سهلاً مأمون العاقبة بالتجربة فوجب تغيير الحكم بتغير الحال فنقول هو حرام حينما كان في العصور السابقة التي يغلب على الظن فيها الهلاك بعملية النقل، ويعتبر حلالاً في هذه العصور الحديثة التي أصبح فيها دواء وعلاجًا نافعًا (¬1). (6) "الأمور بمقاصدها". وجه الدلالة: أن هذه القاعدة دلت على أن الأعمال معتبرة على حسب النيات والمقاصد وعليه فإن نقل الأعضاء الآدمية يختلف حكمه بحسب اختلاف المقصود منه، فإن كان المقصود به إنقاذ النفس المحرمة ودفع الضرر الأشد بالأخف فإنه يكون مقصدًا محمودًا وعملاً مشروعًا يثاب فاعله ويمدح عليه، وهذا هو مقصودنا بالقول بجوازه. وأما إن كان المقصود به إهانة الميت وأذيته بالتمثيل به فهذا مقصد مذموم وعمل محرم ونحن لا نقول به (¬2). ثالثًا: استشهادهم بأقوال الفقهاء المتقدمين رحمهم الله: قالوا: إن مذهب بعض أهل العلم -رحمهم الله- من الفقهاء جواز قتل الآدمي غير معصوم الدم وأكل لحمه عند الاضطرار ويظهر ¬

_ (¬1) المختارات الجلية لابن سعدي ص 325. (¬2) شفاء التباريح والأدواء لليعقوبي ص 21، 34، 35.

ذلك جليًا في النصوص التالية من كلامهم -رحمهم الله-: قال الإمام النووي -رحمه الله-: " ... ويجوز له (¬1) قتل الحربي، والمرتد، وأكلهما بلا خوف، وأما الزاني المحصن، والمحارب، وتارك الصلاة ففيهم وجهان: أصحهما: وبه قطع إمام الحزمين، والمصنف، والجمهور يجوز. قال الإمام: لأنا إنما منعنا من قتل هؤلاء تفويضًا إلى السلطان لئلا يفتات عليه، وهذا العذر لا يوجب التحريم عند تحقق ضرورة المضطر. وأما إذا وجد المضطر من له عليه قصاص فله قتله قصاصًا وأكله، سواء حضره السلطان أم لا ... ، وأما نساء أهل الحرب وصبيانهم ففيهم وجهان: الثاني: -وهو الأصح-: يجوز ... وأما إذا لم يجد المضطر إلا آدميًا ميتًا معصومًا ففيه طريقان أصحهما وأشهرهما يجوز ... " (¬2) اهـ. وقال الإمام العز بن عبد السلام -رحمه الله-: "لو وجد المضطر من يحل قتله كالحربي، والزاني المحصن، وقاطع الطريق ¬

_ (¬1) أي للمضطر. (¬2) المجموع للنووي 9/ 44، والأحكام الشرعية د. أحمد شرف الدين ص 122، 123 ومثل هذا النص في مغني المحتاج للشربيني 4/ 282 - 284، وكذلك في حاشية الباجوري على شرح أبي القاسم على متن أبي شجاع 2/ 302، وكذلك في فتح الوهاب للأنصاري 2/ 193. انظر شفاء التباريح والأدواء لليعقوبي ص 54.

مناقشة أدلة المانعين:

الذي تحتم قتله، واللائط، والمصر على ترك الصلاة جاز له ذبحهم وأكلهم إذ لا حرمة لحياتهم لأنها مستحقة الإزالة، فكان المفسدة في زوالها أقل من المفسدة في فوات حياة المعصوم ... " (¬1) اهـ. ومعلوم أن الشخص المريض قد بلغ حالة الاضطرار كما في مرض الفشل الكلوي، ومرض القلب الذي يهدد صاحبه بالموت، وقد نص هؤلاء الفقهاء على جواز أكل المضطر للحم الميت غير المعصوم والمعصوم مع أن الأكل يوجب استنفاذ الأعضاء فلأن يجوز النقل والتبرع الموجب لبقائها ودوامها أولى وأحرى، وحرمة الحي أولى من حرمة الميت في الأصل فكذلك في مسألتنا هذه (¬2). مناقشة أدلة المانعين: أولاً: مناقشة أدلة الكتاب: (1) قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (¬3). يجاب عنه من وجوه: الوجه الأول: لا نسلم الاحتجاج بها لكونها خارجة عن موضع النزاع، لأننا ¬

_ (¬1) قواعد الأحكام ومصالح الأنام لابن عبد السلام 1/ 81، وانتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر. د. محمد سعيد البوطي ص 6 من بحوث مجمع الفقه الإسلامي. الأحكام الشرعية د. أحمد شرف الدين ص 123. (¬2) الأحكام الشرعية. د. أحمد شرف الدين ص 123، وشفاء التباريح والأدواء لليعقوبي ص 83، وزراعة الأعضاء د. هاشم جميل عبد الله. مقال منشور بمجلة الرسالة الإسلامية عدد 212 صفحة 83. (¬3) سورة البقرة (2) آية 195.

نشترط في جواز النقل أن لا تكون حياة المتبرع مهددة بالهلاك، وإطلاق القول بأن التبرع في حال الحياة يؤدي إلى الهلاك لا يقبل إلا بشهادة أهل الخبرة من الأطباء، وهم لا يقولون بذلك. الوجه الثاني: سلمنا صحة الاستدلال بها لكن نقول إنها أخص من الدعوى لأنها مختصة بحال الحياة، وأما ما بعد الموت فإنها غير شاملة له. الوجه الثالث: قلب الاستدلال بها، ووجه ذلك أن الشخص إذا امتنع من قبول تبرع الغير له بالعضو الذي تتوقف نجاته -بإذن الله تعالى- على نقله إليه يعتبر ملقيًا بنفسه إلى الهلاك، فيحرم عليه الامتناع من هذا الوجه، ومن ثم تكون موافقته على نقله مشروعة وواجبة عليه. (2) قوله تعالى: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} (¬1). أن نقل الأعضاء خارج عن هذه الآية، لأنه مبني على وجود الضرورة والحاجة الداعية إلى فعله، والآية إنما يقصد منها ما كان على وجه العبث دون وجود ضرورة أو حاجة داعية كما تقدم بيانه في الجراحة التجميلية الحاجية (¬2). (3) قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (¬3). ¬

_ (¬1) سورة النساء (4) آية 119. (¬2) تقدم الكلام عنه. (¬3) سورة النساء (4) آية 29.

ثانيا: مناقشه أدلة السنة:

يجاب عنه بما تقدم في الجواب عن الآية الأولى. (4) قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (¬1). يجاب عنه من وجهين: الوجه الأول من المجيزين: أن نقل العضو فيه تكريم للميت حسًا ومعنى، أما كونه تكريمًا حسيًا فلأن ذلك العضو بدل أن يصير إلى التراب والبلى بقي في جسد المسلم يستعين به على طاعة الله ومرضاته. وأما كونه تكريمًا معنويًا فلما فيه من الأجر والثواب للمتبرع لكونه فرج به الكربة عن أخيه المسلم. الوجه الثاني على ما يترجح من جواز النقل من الكافر فقط: أن الكافر ليس من الجنس الذي قصد الشرع تكريمه، بل إن إهانته مقصودة شرعًا، والتمثيل بجثته إنما يحرم على وجه لا تدعو إليه حاجة، أما لو وجدت الحاجة فإنه لا حرج فيه كما هو الحال هنا. ثانيًا: مناقشه أدلة السنة: (1) حديث جابر (في قصة الرجل الذي قطع براجمه فمات). حديث جابر رضي الله عنهما هذا يتعين من أقوى الأدلة الدالة على تحريم نقل الأعضاء، لكنه يمكن الجواب عنه من وجهين: ¬

_ (¬1) سورة الإسراء (17) آية 70.

* الوجه الأول تخصيص دلالته: هذا الحديث أقدم فيه الرجل على قطع البراجم للتخلص من الآلام، وهي مصلحة لا تبلغ مرتبة الضروريات، بل هي في مرتبة الحاجيات. ومن ثم فإنه يصلح دليلاً على منع نقل القرنية، والجلد، ونحوها من الأعضاء التي يقصد من نقلها تحقيق مصلحة حاجية. وأما النقل الضروري الذي يقصد منه إنقاذ النفس المحرمة، فإن الحديث لا يشمله، فإن قيل العبرة بعموم قوله (ما أفسدت) وهو متعلق بالقطع، قيل في جوابه: إن هذا الوصف يوجب تخصيص الحكم بحالة الإفساد بأن تقطع الأعضاء وتبتر لغير حاجة ضرورية وهذا ليس موجودًا في مهمة نقل الأعضاء. * الوجه الثاني على ما يترجح من جواز النقل من الكافر فقط: أن غاية ما دل عليه الحديث تعذيب من أقدم على القطع والبتر لأعضائه، وهذا أمر كائن للكافر في كلتا الحالتين تبرع أو لم يتبرع فلا حرج في أخذ أعضائه، ولو كان في ذلك زيادة عذاب عليه، ويرخص للمسلم لمكان الحاجة والضرورة. (2) حديث أسماء رضي الله عنها في تحريم وصل الشعر. يجاب عنه من وجهين: * الوجه الأول: أن وصل الشعر يعتبر مصلحة كمالية بخلاف نقل الأعضاء الذي يعتبر من المصالح الضرورية والحاجية، فيحرم الأول ويجوز الثاني

لمكان الحاجة الداعية إليه. الوجه الثاني: إن وصل الشعر المذكور في الحديث مفض إلى مفسدة الإضرار بالغير وهو غش المرأة لزوجها كما هو واضح من سياق الحديث بخلاف نقل الأعضاء المشتمل على درء المفاسد ودفعها. (3) وأما حديث النهي عن المثلة. فيجاب عنه من وجهين: الوجه الأول من المجيزين: أن مفسدة التمثيل معارضة لمفسدة هلاك المريض المحتاج للعضو فوجب اعتبار المفسدة العليا وهي مفسدة هلاك المريض، ومن ثم لم يلتفت إلى ما هو دونها للقاعدة الشرعية "إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما" (¬1). * الوجه الثاني من المجيزين أيضًا: أنه إذا سقط اعتبار مفسدة التمثيل في التشريح لمكان المصلحة الراجحة فلأن يسقط اعتبارها في نقل الأعضاء أولى وأحرى (¬2). (4) حديث النهي عن كسر عظم الميت. يجاب عنه من وجهين: الوجه الأول على القول بالجواز مطلقًا: هذا الحديث خارج عن موضوع النزاع، لأن الأطباء لا يقومون بكسر الأعضاء المنقولة بل يحافظون عليها محافظة شديدة طلبًا لنجاح ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر للسيوطي 87، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 89. (¬2) ترقيع الأحياء بأعضاء الأموات للزرقاء 50، حكم الاستفادة من أعضاء الموتى. د. النسيمي 356.

مهمة النقل والزرع. الوجه الثاني على القول بجواز النقل من الكافر فقط: هذا الحديث مقيد بالمؤمن كما ورد ذلك صريحًا في الرواية الأخرى (¬1)، ثم إن الكافر غير معصوم الدم حيًا ولا ميتًا "إلا الذمي والمستأمن" فيجوز التصرف بأعضائه ولو كان متأذيًا بذلك لأن إيذاءه فيه موافقة لمقصود الشرع وليست فيه مخالفة. (5) حديث "لا ضرر ولا ضرار": يجاب عنه من وجهين: الوجه الأول على القول بالجواز مطلقًا: إن غاية ما دل عليه الحديث هو تحريم الضرر والإضرار، ونحن لا نسلم بأن الشخص المنقول منه يتضرر بهلاكه مستقبلاً، لأن الأطباء لا يقومون بمهمة النقل من شخص يؤدي نقل عضوه إلى هلاكه، ونحن لا نجيز النقل في هذه الحالات. وعلى هذا فإن الحديث يعتبر خارجًا عن محل النزاع. الوجه الثاني على القول بجواز النقل من الكافر فقط: إن الإضرار بالكافر مقصود شرعًا. (6) وأما حديث جابر رضي الله عنه في البداءة بالنفس. فيجاب عنه بقلب الاستدلال به، وذلك بأن يقال إن الإنسان إذا أراد التبرع بالعضو يبدأ بنفسه، فإن كان في تبرعه إضرار به لم يتبرع، ¬

_ (¬1) تقدم الكلام عنه.

ثالثا: مناقشة الأدلة العقلية:

وأما إن لم يكن فيه ضرر فإنة لا يشمله الحديث إطلاقًا. ثالثًا: مناقشة الأدلة العقلية: * أما الوجه الأول: فيجاب عنه بأن الإنسان مأذون له بالتصرف في جسده بما فيه الخير، لذلك الجسد في الدنيا والآخرة. والإذن بنقل الأعضاء فيه خير للآذن في الآخرة من جهة الثواب الذي سيتبعه، لما اشتمل عليه ذلك الإذن من تفريج كربة المسلم، والإحسان إليه. * أما الوجه الثاني: فيجاب عنه بأن النقل يشترط لجوازه عدم اشتماله على هلاك الشخص المنقول منه، وبذلك يكون الدليل خارجاً عن موضع النزاع. أما الوجه الثالث: أن كرائم الأموال تقبل بإذن مالكيها فكذلك نقل الأعضاء. * أما الوجه الرابع: أن استقطاع الأبضاع مبني على حرمة المشاركة فيها لكونها مفضية إلى مفسدة الزنى، وهذه العلة غير متحققة في نقل الأعضاء، ومن ثم فإن القياس يعتبر قياسًا مع الفارق. رابعًا: مناقشة استدلالهم بالقواعد الفقهية: أما القاعدة الأولى والثانية فإنها لا ترد على القول بالجواز، لأن

خامسا: مناقشة استشهادهم بنصوص الفقهاء -رحمهم الله-:

من شرطه أن لا يؤدي النقل إلى هلاك الشخص المنقول منه العضو. وأما القاعدة الثالثة فيجاب عنها بأن لكل قاعدة مستثنيات، خاصة إذا كانت الفروع والمسائل المستثناة شهدت أصول الشرع باعتبار موجباتها، وعلى هذا فإنه تستثنى مهمة النقل من هذه القاعدة لمكان الحاجة والضرورة الداعية إليها، وهي ضرورة إنقاذ النفس ودفع مشقة الأسقام عنها. خامسًا: مناقشة استشهادهم بنصوص الفقهاء -رحمهم الله-: تضمنت نصوصهم ما يلي: (1) عدم جواز قطع شيء من الجسد للمضطر ليأكله. والجواب من وجهين: الوجه الأول: أن هذا لا يشمل ما بعد الموت لعدم وجود المفسدة المترتبة على القطع حال الحياة. الوجه الثاني: أن الاستدلال بهذا الحكم معارض بوجود القول المخالف كما سبق بيان نصوصهم التي استشهد بها أصحاب القول الثاني. الوجه الثالث: أن هذا الاستدلال معارض بما نصوا عليه من جواز قطع البعض من أجل استبقاء الكل كما في قطع اليد المتآكلة والسلعة ونحوها من

الآفات (¬1). فقولهم بجواز القطع على هذا الوجه يدل على اعتبارهم للحكم بجواز القطع لإنقاذ النفس وهذا موجود بعينه في مهمة نقل الأعضاء. (2) تحريم التداوي بأجزاء الآدمي، وقد علل بعضهم ذلك بكونه موجبًا لانتهاك حرمة الآدمي. وجواب ذلك ما تقدم عند الجواب على استدلالهم بالآية الرابعة: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (¬2). (3) تحريم كسر عظام الميت. وجوابه ما تقدم في الجواب عن الحديث الوارد في ذلك. (4) عدم جواز قتل النفس المحرمة لاستبقاء مثلها. والجواب أن هذا إنما يختص بحالة التبرع من الحي وهو مختص بالحالة التي يغلب على الظن فيها هلاك المتبرع، وقد تقدم أن شرط جواز التبرع عدم ترتب الهلاك عليه، ومن ثم فإنه لا يرد الاستدلال بعباراتهم على هذا الوجه ... والله تعالى أعلم. الترجيح: الذي يترجح في نظري والعلم عند الله هو القول بجواز نقل الأعضاء الآدمية من الحي والميت، ولكن بشرط أن يكون الشخص المنقول منه العضو كافرًا، وذلك لما يلي: ¬

_ (¬1) انظر نصوصهم في ذلك كما تقدم. (¬2) سورة الإسراء (17) آية 70.

أولاً: لصحة ما ذكره القائلون بجواز النقل من وجود الحاجة التي بلغت مقام الضرورة، وما في حكمها، وهذا المقام شهدت نصوص الشرع وقواعده باعتباره مستثنى من التحريم، ولكن بقدر ما تندفع به تلك الضرورة والحاجة. واعتبار هذه النصوص والقواعد الفقهية محل إجماع بين أهل العلم -رحمهم الله- فكم استثنوا بها من المحرمات المتعلقة بالعبادات والمعاملات. ثانيًا: أن هذه الضرورة يمكن دفعها بالكفار، وأما حالات الفشل الكلوي فإنها تعالج بالغسيل كما هو معروف، وبوجود هذين البديلين تضعف الحاجة والضرورة عن بلوغ المقام الذي يوجب التوسع إلى المسلمين سواء كانوا أحياء أو ميتين. ثالثًا: أن حديث جابر -رضي الله عنه- في قصة الرجل الذي قطع براجمه واضح في الدلالة على عدم اعتبار المصلحة الحاجية بقطع شيء من الجسد، وأن ذلك يوجب نوعًا من العقوبة في الآخرة، ومن ثم فإنه لا يجوز الإقدام على قطع شيء من جثة المسلم طلبًا لدفع الحاجة المتعلقة بالغير، لأنه إذا لم يجز ذلك للشخص نفسه فمن باب أولى ألا يجوز لغيره. وأما الكافر فإنه لا يدخل ضمنه لأن تعذيبه في الآخرة مقصود شرعًا فمن ثم جاز أخذ شيء من جثته لسد حاجة المسلم. رابعًا: أن الأصل يقتضي حرمة المساس بجسد المسلم بالجرح

والقطع حيًا أو ميتًا فوجب البقاء عليه حتى يوجد الدليل الموجب للعدول والاستثناء منه. خامسًا: أن أدلة القائلين بالمنع لم تسلم من ورود القوادح عليها، وإن سلمت فإن جلها يتعلق بالمسلم، وأما الكافر فإنه يمكن نقل العضو منه إعمالاً للدليل المخالف وبهذا يمكن الجمع بين الأدلة والله تعالى أعلم. * * *

المسألة الثالثة: هل يجوز نقل الخصيتين؟:

المسألة الثالثة: هل يجوز نقل الخصيتين؟: هذه المسألة متفرعة على القول بجواز نقل الأعضاء الآدمية، وتعتبر مسألة نازلة من نوازل العصر الحديث، بل إن الكلام فيها لم يقع إلا منذ وقت قريب جدًا قد لا يتجاوز السنتين. وقد قامت جريدة المسلمون بنشر آراء العلماء والباحثين والأطباء المختصين في هذه المسألة من الناحيتين الشرعية، والطبية، وذلك بسبب حادثة وقعت ونشأ عنها السؤال عن موقف الشريعة الإسلامية من هذا النقل. وقد نشرت مباحث هذه المسألة في ثلاثة أعداد متوالية (¬1)، ونظرًا إلى أنني لم أجد من تكلم عليها في موضع آخر رأيت الاقتصار على ما في تلك الأعداد من معلومات شرعية وطبية تتلخص فيما يلي: الأقوال: اختلف العلماء والباحثون في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يجوز نقل الخصيتين مطلقًا. الدكتور محمد الطيب النجار (¬2)، والدكتور عبد الجليل شلبي (¬3)، ¬

_ (¬1) الأعداد رقم 203، 204، 205 من السنة الرابعة عام 1409 هجرية تحقيق شريف قنديل. (¬2) رئيس المركز الدولي للسيرة والسنة النبوية بمصر المسلمون عدد 205. (¬3) عضو لجنة الفتوى بالأزهر وأمين عام مجمع البحوث الإسلامية سابقًا، المسلمون العدد السابق.

القول الثاني:

والشيخ أحمد حسن مسلم (¬1)، والشيخ محمد أحمد جمال (¬2). القول الثاني: يجوز نقل الخصيتين مطلقًا وهو قول الشيخ سيد سابق (¬3). القول الثالث: التفصيل: يجوز نقل إحدى الخصيتين من الحي إلى الحي، وبه أفتت مشيخة الأزهر (¬4). الأدلة: (1) دليل القول الأول: استدل القائلون بحرمة نقل الخصيتين مطلقًا بما يلي: أولاً: أن نقل الخصيتين يعتبر تشويهًا لخلقة الإنسان المنقول منه، وهذا أمر محرم شرعًا. ثانيًا: أن نقل الخصيتين من الحي يؤدي إلى حرمانه من النسل وهو أمر محرم شرعًا. ثالثًا: أن هذا النقل لا توجد فيه الضرورة كما يعلل القائلون بجواز من يرى ذلك. رابعًا: أن جوازها يؤدي إلى اختلاط الأنساب وهو أمر محرم شرعًا. ¬

_ (¬1) عضو لجنة الفتوى بالأزهر المسلمون العدد السابق. (¬2) المسلمون، العدد السابق. (¬3) أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة. المسلمون عدد 203. (¬4) ونصت الفتوى على أن الأفضل عدم النقل مطلقًا. المسلمون عدد 205.

(2) دليل القول الثاني:

خامسًا: إننا لو قلنا بجوازها فإنه سيتذرع بذلك إلى جواز نقل المبيضين لأنهما في حكم الخصيتين، وذلك يؤدي إلى ضياع الأنساب واختلاط المحارم، فوجب القول بالحرمة سدًا لهذه الذريعة المحرمة. سادسًا: أن المعتبر قوله في هذه المسائل من الناحية الطبية هم أهل الاختصاص والمعرفة من الأطباء، وقد شهدوا بأن نقل الخصيتين يوجب انتقال الصفات الوراثية الموجودة في الشخص المنقولة منه إلى أبناء الشخص المنقولة إليه الخصية، وهذه شبهة موجبة للتحريم (¬1). (2) دليل القول الثاني: استدل القائلون بجواز نقل الخصيتين مطلقًا بما يلي: أولاً: أن الحيوانات المنوية خارجة في الأصل من الرجل الثاني "المنقولة إليه الخصية" وأن الخصية ليست إلا مجرد آلة منظمة لتلك الحيوانات فلا وجه للشبهة في عملية نقلها. ثانيًا: أن الشخص الثاني، المنقولة إليه الخصية، قد ملك تلك الخصية، بعد تبرع الشخص الأول بها إليه، وزرعها في جسمه، وحينئذ لا ينبغي علينا النظر إلى الأصل بعد انتقال الملكية إلى الشخص الثاني، بل نقول إنها خصية الرجل الثاني سواء أدى ذلك إلى انتقال الصفات أم لم يؤد إليه. ثالثًا: أنه لا تأثير للجينات الوراثية، ولا خوف من تطاباقها بدليل أن الأخوين ينجب أحدهما الأنثى وينجب الآخر الذكر، وكلا الأخوين من أصل واحد انتقلت إليهما صفات وراثية واحدة، ومع ذلك لم يحرم زواج ابن أحدهما بابنة الآخر، فدل هذا على عدم تأثير تطابق الصفات ¬

_ (¬1) المسلمون عدد 205.

(3) دليل القول الثالث: التفصيل:

الوراثية (¬1). (3) دليل القول الثالث: التفصيل: (1) أن نقل الخصيتين يؤدي إلى قطع نسل المتبرع، بخلاف نقل إحداهما وترك الأخرى. (2) يجوز نقل إحدى الخصيتين وترك الأخرى، كما يجوز نقل إحدى الكليتين والرئتين بجامع الحاجة في كلٍ (¬2). الترجيح: الذي يترجح في نظري والعلم عند الله هو القول بحرمة نقل الخصية مطلقًا وذلك لما يأتي: أولاً: لصحة ما ذكره أصحاب هذا القول في تعليلهم. ثانيًا: أن شهادة الأطباء بكون الخصية مؤثرة في الصفات الوراثية (¬3) هو المعتمد بناء على ما تقرر من وجوب الرجوع في كل أمر إلى أهله الذي لهم العلم والمعرفة به، وإذا تقرر بشهادة الأطباء تأثير الخصية في الصفات كان ذلك شبهة مؤثرة توجب الحكم بعدم جواز النقل، خاصة وأن العقيم يصير بالنقل منجبًا؟!. ¬

_ (¬1) المصدر السابق الأعداد 203، 204، 205. (¬2) جريدة المسلمون عدد 205. (¬3) الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 3/ 583، الموسوعة الطبية العربية. د. البيرم 134، وأشار جمع من الأطباء المختصين إلى ذلك في أعداد المسلمين الثلاثة: 203، 204، 205.

ثالثًا: إن الأصل يقتضي عدم جواز تغيير الخلقة، ونقل الأعضاء إلا بعد وجود الإذن الشرعي بذلك، وعليه فإن الأصل في هذا النوع من النقل أنه محرم، والحاجة الداعية إلى النقل مدفوعة بالشبهة المؤثرة، وبما أشار إليه بعض الأطباء المختصين من وجود البديل الذي يمكن بواسطته علاج المصابين بتلف الخصية الذي يمنع من إنجابهم (¬1). رابعا: أما استدلال أصحاب القول الثاني فيجاب عنه بما يلي: (1) - الوجه الأول:. يجاب عنه بأن إلغاء تأثير ما تقوم به الخصية من تنظيم للماء غير مسلم لأنه قائم على الدعوى المختلف فيها. وإنما يصح إلغاء ذلك لو كانت الخصية غير مؤثرة في الماء نفسه، لكن لما وجد التأثير في الماء بتصويره كان ذلك التنظيم مؤثرًا وأقل درجاته أنه يوجب الشبهة الداعية إلى التوقف عن الحكم بجواز عملية نقل الخصية. (2) - الوجه الثاني: أن ملكية الشخص الثاني للخصية يشترط في اعتبارها إذن الشرع حتى يصح القول بانتقال ملكيتها للغير، والإذن الشرعي غير موجود هنا، فانتفى القول بصحة الملكية، ومن ثم ينتفي ما تركب عليها من عدم الالتفات للأصل الأول، ومن ثم نقول: إن الأصل في الخصية ¬

_ (¬1) أشار إلى هذا البديل الدكتور حسين الأنصاري مدير المركز الطبي للأمراض التناسلية بمصر. انظر جريدة المسلمون عدد 205، وهو يرى عدم الموافقة على عملية النقل، وذكر البديل الطبي عنها.

أنها ملك للشخص الأول، والتبرع مشكوك في تأثيره في الملكية "على أقل تقدير بسبب وجود الخلاف في صحة التبرع"، فوجب الرجوع إلى اليقين والأصل الموجب للحكم بكونها للشخص الأول. (3) - الوجه الثالث: يجاب عنه من وجهين: الوجه الأول: لا نسلم صحة القياس لأنه قياس مع الفارق. ووجه ذلك: أن الأصل لم يحكم فيه بتأثير اتحاد الصفات لأن انتقالها لم يكن ناشئًا من عامل واحد، بل من عاملين كل واحد منهما متعلق بأحد الأخوين بخلاف الفرع فإن اتحاد الصفات ناشيء من عامل واحد وخصية واحدة. الوجه الثاني: أن هذا القياس مبني على إلغاء تأثير التشابه في الصفة، وهذا ليس محل النزاع، بل محل النزاع في شرعية المصدر الموجب لاتحاد الصفات. خامسًا: وأما استدلال أصحاب القول الثالث فيجاب عنه بما يلي: أما الوجه الأول: فمسلم لكونه موافقًا للقول بالتحريم في الحالة التي يرى أصحاب هذا القول حرمة نقل الخصية فيها. وأما الوجه الثاني: فيجاب عنه بأنه قياس مع الفارق لأن الأصل لا

شبهة فيه، بخلاف الفرع فإن الشبهة موجودة فيه فجاز الأصل ولم يجز الفرع، فلم يصح الإلحاق. سادسًا: أن نقل الخصيتين أو إحداهما يؤدي إلى استباحة النظر إلى العورة وتكرار ذلك، والأصل يقتضي حرمة النظر إلى العورة (¬1)، وليست هناك حاجة معتبرة توجب استثناء عملية النقل من الأصل نظرًا لمكان الشبهة الموجودة فيها. سابعًا: أن الخصية إذا نقلت من الحي أو الميت لابد من بقاء قدر من الحيوانات المنوية فيها، ومن ثم يختلط الماء القديم والماء الجديد، وعند جماع الرجل الثاني وإنزاله لا ندري أي الماءين أنزل، ونحن على يقين باشتراكهما، ولا يدرى بعد ذلك هل الحمل متخلق من ماء الأول أم من ماء الثاني، وهذا خلط للأنساب ظاهر فوجب تحريمه والمنع فيه. لهذا كله فإن الذي يترجح في نظري والعلم عند الله هو القول بعدم جواز نقل الخصية مطلقًا، والله تعالى أعلم. * * * ¬

_ (¬1) أجمع العلماء -رحمهم الله- على حرمة كشف العورة، والنظر إليها من غير ضرورة. قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي 69، مراتب الإجماع لابن حزم 157.

المطلب الثاني حكم نقل العضو من حيوان إلى الإنسان

المطلب الثاني حكم نقل العضو من حيوان إلى الإنسان لا يخلو الحيوان الذي يراد نقل عضوه إلى الإنسان من ضربين: الضرب الأول: أن يكون طاهرًا، ومن أمثلته بهيمة الأنعام المذكاة من إبل، وبقر، وغنم، فهذا الضرب من الحيوان لا إشكال في جواز التداوي بأي جزء من أجزائه ولا حرج في غرس أعضائه في جسم الإنسان. وذلك لعموم الأدلة الدالة على مشروعية التداوي، والندب إليه كما في حديث أسامة -رضي الله عنه- من قوله عليه الصلاة والسلام: "تداووا ... " (¬1)، والتداوي بأعضاء هذا الضرب من الحيوان يعتبر كالتداوي بسائر المباحات (¬2) بجامع طهارة الكل وإذن الشرع في الانتفاع بهما. ولأنه كما جاز الانتفاع بأجزائه مع إتلافها بالأكل وكسر العظام فلأن يجوز الانتفاع بها بغرسها وبقائها أولى وأحرى. وقد نص بعض الفقهاء المتقدمين -رحمهم الله- على جواز ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) أشار الدكتور هاشم جميل عبد الله إلى هذا القياس في بحثه!! زراعة الأعضاء والتداوي بالمحرمات في ضوء الشريعة الإسلامية، منشور بمجلة الرسالة الإسلامية عدد 212 الصفحة 73.

الضرب الثاني:

الانتفاع بأعضاء هذا الضرب من الحيوان، وأنه لا حرج في غرسه في الجسم. قال الإمام النووي -رحمه الله-: " ... إذا انكسر عظمه فينبغي أن يجبره بعظم طاهر ... " (¬1) اهـ. وفي الفتاوى الهندية ما نصه: "لا بأس بالتداوي بالعظم إذا كان عظم شاة أو بقرة، أو بعير، أو فرس، أو غيره من الدواب إلا عظم الخنزير ... وما ذكر من الجواب يجري على إطلاقه إذا كان الحيوان ذكيًا لأن عظمه طاهر رطبًا كان أو يابسًا يجوز الانتفاع به جميع أنواع الانتفاعات رطبًا كان أو يابسًا فيجوز التداوي به على كل حال" (¬2) اهـ. فأطلق -رحمه الله- الحكم بجواز التداوي بالعظم الطاهر من الحيوان المذكى، فدل هذا على جواز زرعه في جسم الإنسان عند حاجته إليه والله أعلم. الضرب الثاني: أن يكون غير طاهر، ومن أمثلته ميتة بهيمة الأنعام وغيرها. فهذا الضرب الأصل فيه أنه محرم لمكان النجاسة التي يوجب وضعها في البدن بطلان الصلاة وغيرها من العبادات التي تشترط لها الطهارة، فلذلك لا يجوز نقل الأعضاء التي يشتمل عليها هذا الضرب إلى جسم الإنسان من حيث الأصل لكن يبقى النظر في الحالات الضرورية هل يجوز فيها النقل أو لا؟. ¬

_ (¬1) المجموع للنووي 3/ 138. (¬2) الفتاوى الهندية 5/ 255.

ففي الفتاوى الهندية: " ... أما إذا كان الحيوان ميتًا فإنما يجوز الانتفاع بعظمه إذا كان يابسًا، ولا يجوز الانتفاع إذا كان رطبًا ... " (¬1)، وأما الخنزير فقد نص على منع التداوي بعظمه بقوله: "ولا بأس بالتداوي بالعظم إذا كان عظم شاة، أو بقرة، أو بعير، أو فرس، أو غيره من الدواب إلا عظم الخنزير والآدمي، فإنه يكره التداوي بهما" (¬2) اهـ. وفي مجمع الأنهر: "ويكره معالجة بعظم إنسان أو خنزير لأنه محرم الانتفاع بها" (¬3) اهـ. فهذه النصوص تدل على اعتبار الحاجة الموجودة في التداوي موجبة للترخيص في التداوي بعظام الحيوان الميت إذا كانت يابسة، تستثنى من ذلك عظام الخنزير لحرمة الانتفاع به. وذهب بعض العلماء -رحمهم الله- إلى التفصيل في الحكم بجواز التداوي بالعظام النجسة، وقد أشار الإمام النووي -رحمه الله- إلى ذلك بقوله: "إذا انكسر عظمه فينبغي أن يجبره بعظم طاهر، قال أصحابنا ولا يجوز أن يجبره بنجس مع قدرته على طاهر يقوم مقامه فهو معذور، وإن لم يحتج إليه أو وجد طاهرًا يقوم مقامه أثم ووجب نزعه إن لم يخف منه تلف نفسه، ولاتلف عضو ... " (¬4) اهـ. فبين -رحمه الله- أن الأصل يقتضي حرمة التداوي بالعظم النجس، وينبغي أن يقوم عليه العظم الطاهر، فإن لم يجده وجبره بعظم ¬

_ (¬1) الفتاوى الهندية 5/ 354. (¬2) المصدر السابق. (¬3) مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر، داماد أفندي 2/ 535. (¬4) المجموع للنووي 3/ 138.

نجس فإنه ينبغي أن يتحقق شرطان: الأول: أن يكون محتاجًا إلى جبر عظمه. والثاني: أن لا يجد طاهرًا يقوم مقامه. فإن تخلف أحد الشرطين فإنه لا يجوز له الجبر بالنجس ويعتبر آثمًا لو جبر به، ويجب عليه نزعه بشرط عدم خوف التلف على نفسه، أو عضو من أعضائه. وبناء على هذا التفصيل فإن التداوي بنقل أعضاء الحيوان في هذا الضرب ينبغي أن يتحقق فيه شرطان: الأول: أن يكون الشخص المريض محتاجًا إلى نقل عضو الحيوان النجس إليه، ويتحقق هذا الشرط بشهادة الأطباء المختصين بهذه الحاجة. والثاني: أن لا يوجد العضو الطاهر الذي يمكن أن يقوم مقامه. فإذا تحقق هذان الشرطان فإنه لا حرج في قيام الطبيب الجراح بنقل العضو النجس وجزئه ولا يعتبر وجود ذلك العضو النجس في جسم المريض مؤثرًا في صلاته وعبادته التي يشترط لصحتها الطهارة نظرًا لمكان العذر الموجب للترخيص بوجود هذه النجاسة، والله أعلم. والذي يتلخص من جميع ما سبق ما يلي: أن نقل الأعضاء لا يخلو إما أن يكون من إنسان أو حيوان إلى إنسان:

أ- فإن كان من إنسان فإنه لا يخلو من حالتين: الأولى: أن يكون حيًا. والثانية: أن يكون ميتًا. (1) فإن كان حيًا فإنه لا يخلو النقل من ضربين: الأول: أن يكون للشخص نفسه وحكمه الجواز. الثاني: أن يكون لغيره فحينئذ لا تخلو الأعضاء المنقولة من قسمين. القسم الأول: أن تكون الأعضاء المفردة التي يُؤدي نقلها إلى وفاة الشخص المنقولة منه وحكمه التحريم. القسم الثاني: أن لا تكون من تلك الأعضاء، وحكمه: إن كان من مسلم إلى مسلم التحريم، وإن كان من كافر إلى مسلم الجواز، ولكن بشرط أن لا يكون العضو المنقول خصية. (2) وأما إن كان ميتًا فإنه يجوز النقل منه إن كان كافرًا، ولا يجوز إن كان مسلمًا، ومحل جواز النقل إذا كان العضو المنقول غير الخصية. ب- وأما إن كان النقل من حيوان فلا يخلو ذلك الحيوان المنقول منه العضو من حالتين: الأولى: أن يكون طاهرًا، وحكم النقل الجواز. الثانية: أن يكون نجسًا، وحكم النقل التحريم إلا عند الضرورة. والله تعالى أعلم. * * *

المبحث الخامس في (الثقب)

المبحث الخامس في (الثقب) (¬1) من المهمات التي تشتمل عليها مرحلة العمل الجراحي مهمة الثقب، المتمثلة في إحداث الخرق في الموضع المحتاج إلى خرقه. وكثيرًا ما يلجأ الأطباء إلى هذه المهمة لإزالة التشوه الخلقي الموجود في الأطفال، ومن أمثلته ما يجرى في جراحة الأطفال من فتح المقعدة المسدودة خلقة، وكذلك فتح مجرى البول (الإحليل) عند الذكور (¬2). ويلجأ الأطباء إلى مهمة الثقب عند قيامهم بالجراحة التي تجرى لإزالة السدد الموجود في الأمعاء، فيقوم الطبيب باستئصال الموضع التالف المسدود ووضع البديل عنه، ثم يقوم بثقب جدار البطن الأمامي وإحداث فتحة يخرج منها جزء من الأمعاء الغليظة، وذلك لكي تقوم مقام الشرج الطبيعي، فيخرج منها البراز، وبعد انتهاء الحاجة، ونجاح الجراحة الأولى، يقوم الطبيب بخياطة ذلك الثقب وسده، حتى يعود جدار البطن إلى حالته الأولى (¬3). والثقب في الأصل مفسدة لما يشتمل عليه من إتلاف لجزء من الجسم، إلا أنه جائز عند وجود الحاجة الداعية إلى فعله، كما في هذه الحالات وأمثالها، فكما جاز فعل القطع مع كونه مشتملاً على مفسدة ¬

_ (¬1) الثقب: الخرق. المصباح المنير 1/ 82. (¬2) آفاق جديدة في الجراحة للشقيري 122، 123. (¬3) المصدر السابق 122.

مسألة: هل يجوز ثقب أذن المرأة للحلي؟

الإتلاف، كذلك يجوز فعل الثقب بجامع وجود الحاجة الداعية إلى فعل كل منهما ... والله أعلم. مسألة: هل يجوز ثقب أذن المرأة للحلي؟ اختلف العلماء -رحمهم الله- في هذه المسألة على قولين: القول الأول: يجوز ثقب الأذن للحلي. وهو مذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة على الصحيح من المذهب (¬2). القول الثاني: لا يجوز. وهو مذهب الشافعية (¬3)، وبعض الحنابلة (¬4). تحديد محل الخلاف: إذا كان الثقب للأنثى. الأدلة: (1) دليل القول الأول: استدل أصحاب القول الأول بالسنة والعقل: ¬

_ (¬1) الفتاوى الهندية 5/ 357. (¬2) قال العلامة المرداوي -رحمه الله-: "ويكره ثقب أذن الصبي، إلا الجارية على الصحيح من المذهب ونص عليه" اهـ. الإنصاف للمرداوي 1/ 125. (¬3) حاشية عميرة 4/ 211، مغني المحتاج للشربيني 1/ 394، أحكام جراحة التجميل د. شبير من بحوث ندوة الرؤية الإسلامية، ثبت الندوة 514. (¬4) أحكام النساء لابن الجوزي 10.

أ- دليلهم من السنة: استدلوا بالحديثين التاليين: 1 - حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- في خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وعظته النساء يوم العيد وفيه: "فجعلت المرأة تلقي خرصها، وسخابها" (¬1). ووجه الدلالة: أن الخرص هو الحَلَقُ الموضوع في الأذن بدليل الرواية الثانية، وفيها: "فرأيتهن يهوين إلى آذانهن وحلوقهن" (¬2). فدل الحديث على أن ثقب الأذن للحلي كان موجودًا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلو كان حرامًا لنهى عنه عليه الصلاة والسلام، فعدم نهيه يدل على جواز فعله (¬3). 2 - حديث أم زرع أنها قالت: "زوجي أبو زرع، فما أبو زرع؟ أناس (¬4) من حُلي أذُني ... ، قالت عائشة: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كنت لك كأبي زرع لأم زرع ... " (¬5). وجه الدلالة: ¬

_ (¬1) رواه البخاري في صحيحه 4/ 37. (¬2) رواه البخاري في صحيحه 4/ 37. (¬3) تحفة المودود لابن القيم 165. (¬4) أي حلاني قرطة وشفوفًا فهي تنوس أي تتحرك لكثرتها. شرح صحيح مسلم للنووي 15/ 217. (¬5) رواه مسلم 4/ 124.

(2) دليل القول الثاني:

أن هذا الحديث ظاهر في الدلالة على علمه - صلى الله عليه وسلم - بثقب الآذان ووضع الحلي فيها للزينة، ومع ذلك لم ينكره ولم يحرمه، فدل هذا على جوازه. ب- دليل العقل: أن المرأة محتاجة إلى الثقب، ولها فيه مصلحة، فيشرع فعله بها (¬1). (2) دليل القول الثاني: استدلوا بالعقل من وجوه: الوجه الأول: أن ثقب الأذن ملحق بتبتيك آذان الأنعام الذي أخبر الله تعالى في كتابه أنه مما يأمر به الشيطان أولياءه (¬2). الوجه الثاني: أن الثقب جرح مؤلم لا يجوز فعله إلا لحاجة مهمة والتحلي ليس منها (¬3). الوجه الثالث: أنه تعجيل أذى لا فائدة منه فلا يشرع فعله (¬4). الترجيح: الذي يترجح في نظري والعلم عند الله هو القول بجواز ثقب الأذن ¬

_ (¬1) تحفة المودود لابن القيم 165. (¬2) المصدر السابق. (¬3) أحكام النساء لابن الجوزي 10. (¬4) المصدر السابق.

للنساء من أجل الحلي، وذلك لما يأتي: أولاً: لصحة ما استدل به أصحاب هذا القول من الأدلة النقلية والعقلية. ثانيًا: وأما استدلال أصحاب القول الثاني بالعقل فيجاب عنه من وجوه: الوجه الأول: لا نسلم بصحتها لما يلي: أ- أن إلحاق ثقب الأذن بتبتيك آذان الأنعام قياس مع الفارق لأن الأصل لا مصلحة فيه بخلاف الفرع ففيه مصلحة شهد الشرع باعتبارها وهي تحلي المرأة وتجملها، فحرم الأصل وجاز الفرع. ب- وأما الوجه الثاني فإننا لا نسلم أن التحلي ليس بحاجة مهمة، بل هو حاجة مهمة عند النساء وفي منعهن منه حرج ومشقة. جـ- وأما الوجه الثالث: فغير مسلم لأن نفي الفائدة عن التحلي مخالف للعادة والحس. الوجه الثاني: سلمنا صحة هذه الأدلة العقلية فرضًا لكن نقول هذا اجتهاد في مقابل النص، ولا اجتهاد مع النص. لهذا كله فإنه يترجح القول بجواز ثقب أذن المرأة للتحلي ... والله أعلم.

المبحث السادس في (الكحت وتوسيع الرحم)

المبحث السادس في (الكحت وتوسيع الرحم) الكحت وتوسيع الرحم يقصد منه الأطباء في اصطلاحهم: "توسيع عنق الرحم في النساء، بقصد فحص جدران الرحم، وتنظيفها، أو كشط غشائها المخاطي" (¬1). وهذه المهمة الجراحية يتم فعلها بعد تخدير المرأة تخديرًا عامًا، ثم يقوم الطبيب بإجراء عملية توسيع لعنق الرحم بشكل تدريجي، حتى يستطيع إدخال ملعقة الكحت الجراحية داخل الرحم، وبعد ذلك يقوم بكحت الطبقة الرقيقة الموجودة على جدار الرحم الداخلي (¬2). وقد تجرى هذه المهمة بعد تخدير المرأة تخديرًا موضعيًا إذا كان الكحت يقصد منه أخذ عينة يسيرة من عنق الرحم (¬3). والأسباب الداعية إلى فعل هذه المهمة تتلخص في الحالات التالية: (1) حالات النزيف الرحمي الحاد. (2) إخراج المشيمة بعد الولادة، حتى لا تتسبب في النزيف الرحمي. (3) حالات تفريغ الرحم الضرورية كحالة إخراج الجنين المنتبذ. ¬

_ (¬1) الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 6/ 1089. (¬2) عملية التوسيع والكحت ضرورية للعلاج والتشخيص. د. شريف خطاب، مقال بمجلة طبيبك الخاص عدد 249 السنة الحادية عشرة سبتمبر 1989 ص 80. (¬3) المصدر السابق.

(4) فحص الأمراض المتعلقة بالجهاز التناسلي للمرأة (¬1). فهذه الحالات وما في حكمها توفرت فيها الأسباب الموجبة للترخيص بفعل هذا النوع من الجراحة، ولكن يشترط لجواز فعل مهمة الكحت أن يتعذر علاج هذه الحالات بالبدائل الأخرى، فإذا تعذر ذلك، أو كانت البدائل تتضمن مفسدة أعظم من مفسدة كشف العورة، والإيلاج في الفرج فإنه يسوغ حينئذ العدول عنها إلى فعل الكحت للقاعدة الشرعية "إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما" (¬2). وهذا النوع من الجراحة وما في حكمه من الأنواع الأخرى المختصة بالنساء وبكشف موضع العورة المغلظة ينبغي أن يقوم به النساء، وأن يسعى المرضى في طلب ذلك ما أمكن، كما ينبغي على المستشفيات أن يهتموا بذلك، وألا يسند شيء منه إلى الرجال إلا في الضرورة القصوى، وذلك لعظيم المفسدة المترتبة على نظر الرجل إلى فرج المرأة، ولذلك نجد الفقهاء -رحمهم الله- ينصون عند بيانهم للختان على أنه ينبغي أن تسند مهمة الخفاض المتعلقة بالنساء إلى النساء، لأن نظر الجنس إلى الجنس أخف (¬3)، فينبغي اعتبار ذلك والتزامه ما أمكن ... والله تعالى أعلم. * * * ¬

_ (¬1) المصدرين السابقين. (¬2) الأشباه والنظائر للسيوطي 87، الأشباه والنظائر لابن نجيم 89، شرح القواعد الفقهية للزرقاء 147. (¬3) تكملة فتح القدير لقاضي زاده 8/ 99.

المبحث السابع في (إعادة الأعضاء المبتورة)

المبحث السابع في (إعادة الأعضاء المبتورة) هذا النوع من المهمة الجراحية يشتمل على إعادة العضو المقطوع إلى موضعه بجراحة تعتبر من أدق أنواع الجراحة وأصعبها نظرًا لما تتطلبه من مهارة خاصة وصبر طويل، فقد يستغرق العمل الجراحي لإعادة أصبع واحدة على الأقل ست ساعات (¬1). وليس كل الأعضاء المبتورة يمكن إعادتها إلى موضعها، بل ذلك مختص بأعضاء معينة، وشروط لابد من توفرها في ذلك العضو المبتور من أهمها عدم تلوثه بصورة تمنع من إعادته، وعدم وجود فاصل زمني طويل، لأن ذلك يحول دون نجاح عملية الوصل التي تحتاج إلى طراوة الموضع وقرب عهده بحادث البتر. وتقوم هذه المهمة على تهيئة الطرفين الذين يراد وصلهما -طرف العضو المبتور ومكانه- ثم يقوم الطبيب الجراح بتوصيل الأوعية الدموية، وخياطة الأعصاب والأوتار (¬2). وهذه المهمة من حيث الأصل توفرت فيها الدواعي الموجبة للترخيص بفعلها، وذلك. لأن الإنسان يتضرر كثيرًا بفقده ليده، أو رجله، أو أصابعهما، فيشرع له دفع ذلك الضرر بفعل هذا النوع من الجراحة الذي يمكن بواسطته إعادة ذلك العضو الذي أبين، ولكن بشرط أن لا تكون إبانته مطلوبة شرعًا لحد أو قصاص كما سيأتي بيانه -إن شاء الله تعالى-. ¬

_ (¬1) الجديد والقديم في جراحة التقويم. د. السيد محمد وهب 145، 146. (¬2) المصدر السابق، آفاق جديدة في الجراحة للشقيري 110.

ولأنه إذا جاز بتر العضو وإبانته من الجسم عند الحاجة فلأن يجوز رده عند وجودهما أولى وأحرى. وقد حكى الإمام القرطبي -رحمه الله- عن الإمام الشافعي (¬1)، وعطاء (¬2) وسعيد بن المسيب (¬3) -رحمهم الله- القول بعدم جواز إعادة الأذن المقطوعة، محتجين بأنها صارت نجسة بالانفصال، فلم تجز إعادتها لئلا تؤدي إلى بطلان العبادة (¬4). ونص غيرهم من أهل العلم -رحمهم الله- على جواز إعادتها بعد انفصالها (¬5). ¬

_ (¬1) هذا القول المحكي عن الإمام الشافعي نص عليه -رحمه الله- كما أشار إلى ذلك الإمام النووي إلا أنه قال: "ولكن المذهب طهارته وهو الأصح عند الخرسانيين" المجموع للنووي 3/ 139، روضة الطالبين للنووي 9/ 197. (¬2) هو الإمام أبو محمد عطاء بن أبي رباح أسلم، وقيل سالم بن صفوان المكي، كان من أجلاء فقهاء التابعين بمكة أخذ العلم عن ابن عباس وجابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- وإليه وإلى مجاهد بن جبر انتهت الفتوى بمكة في زمانهما، وكان يصيح الصائح في الحج "لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح" توفي -رحمه الله- سنة 115 من الهجرة وقيل بغيرها. وفيات الأعيان لابن خلكان 2/ 223، 224. (¬3) هو الإمام أبو محمد سعيد بن المسيب بن حزن القرشي أحد فقهاء المدينة السبعة جمع بين الحديث والفقه والورع، توفي -رحمه الله- بالمدينة سنة 91 من الهجرة وقيل بغيرها. وفيات الأعيان لابن خلكان 2/ 223، 224. (¬4) تفسير القرطبي 6/ 199، روضة الطالبين للنووي 9/ 197. (¬5) وهو قول الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-، فقد سئل عن إعادة العضو المقطوع من الجسد؟ فقال: لا بأس أن يعيده إلى مكانه، وذاك أن فيه الروح، مثل الأذن تقطع فيعيدها بطرائها" الروايتين والوجهين لأبي يعلى 1/ 202. وعلى هذه الرواية المذهب عند أصحابه -رحمهم الله-. الإنصاف للمرداوي 1/ 489، شرح منتهى الإرادات للبهوتي 1/ 155، وقد أشار إلى هذه المواضع فضيلة الدكتور/ بكر أبو زيد في بحثه، حكم إعادة ما قطع بحد أو قصاص.

قال الإمام ابن العربي (¬1) -رحمه الله- بعد حكايته للقول بمنع إعادة الأذن المقطوعة: "وهذا غلط، وقد جهل من خفي عليه أن ردها وعودها بصورتها لا يوجب عودها بحكمها، لأن النجاسة كانت فيها للانفصال، وقد عادت متصلة، وأحكام الشريعة ليست صفات للأعيان، وإنما هي أحكام تعود إلى قول الله سبحانه فيها وإخباره عنها" اهـ. فبين -رحمه الله- أن إعادة الأذن المقطوعة لا يوجب الحكم بنجاستها، لأن النجاسة متعلقة بها حال الانفصال، وأما إذا عادت واتصلت فإنها ترجع إلى حكمها الأول من كونها طاهرة. ولاشك في أن القول بجواز إعادتها هو الراجح لما يلي: أولاً: أن فيه دفعًا للمشقة والحرج الموجود في حال فقد ذلك العضو المبتور، والشريعة الإسلامية راعت دفع الحرج والمشقة عن المكلفين. ثانيًا: أن ما أبين من حي فهو كميتته، وميتة الآدمي طاهرة، فوجب أن يكون ذلك العضو الذي أبين طاهرًا، وإذا كان كذلك انتفى ما ذكروه من الحكم بنجاسته ومن ثم لم تلزم إبانتها ثانية. ثالثًا: أن إيجاب قلع ذلك العضو بعد إعادته فيه ألم ومشقة، وقد ¬

_ (¬1) هو الإمام أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله المعافري الأشبيلي، ولد -رحمه الله- بأشبيلية سنة 468 هـ، وكان فقيهًا محدثًا أصوليًا أديبًا مؤرخًا، توفي -رحمه الله- بفاس سنة 543 هـ وله مصنفات كثيرة منها: شرح الجامع الصحيح للترمذي، والمحصول في الأصول، غوامض النحويين. معجم المؤلفين عمر كحالة 1/ 242، 243.

مسألة: هل تجوز إعادة العضو المقطوع حدا أو قصاصا؟

عهدنا من الشرع تحريم قطعه على وجه العقوبة فلا وجه للأمر به، وتعذيب المكلف بألمه. لهذا كله فإنه يشرع للطبيب الجراح فعل هذه المهمة الجراحية، ويعتبر فعلها داخلاً في عموم ما ندب الله تعالى من الإصلاح في الأرض والله تعالى أعلم. مسألة: هل تجوز إعادة العضو المقطوع حدًا أو قصاصًا؟ اختلف العلماء المعاصرون في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: * القول الأول: لا تجوز إعادة ما قطع بحد أو قصاص مطلقًا "سواء تاب مرتكب الجريمة أو لم يتب، وسواء أذن صاحب الحق -المجني عليه- أم لم يأذن". وبهذا القول صدر قرار هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية (¬1)، واختاره الشيخ بكر أبو زيد (¬2)، والشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع (¬3)، والشيخ محمد عبد الرحمن آل الشيخ (¬4)، ¬

_ (¬1) صدر هذا القرار من المجلس في دورته السابعة والعشرين العادية المنعقدة في مدينة الرياض ابتداء من 6/ 6/1406 هـ رقم القرار 136 تاريخه 7/ 6/1406 هـ، وقد أجمع فيه الأعضاء على القول بالمنع من إعادة العضو المقطوع حدًا أو قصاصًا. (¬2) حكم إعادة ما قطع بحد أو قصاص. د. بكر أبو زيد 2 من بحوث مجمع الفقه الإسلامي. (¬3) قاضي بمحكمة التمييز بالمنطقة الغربية، وعضو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، كتب في المسألة بحثًا خلص فيه إلى القول بالتحريم. انظر بحثه: حكم إعادة اليد بعد قطعها في حد شرعي 15 من بحوث مجمع الفقه الإسلامي. (¬4) زراعة عضو استؤصل في حد. محمد آل الشيخ 2 من بحوث مجمع الفقه الإسلامي.

الأدلة:

والأستاذ محمد أحمد جمال (¬1). * القول الثاني: تجوز إعادة ما قطع بالحد والقصاص، وممن قال بهذا القول الدكتور وهبة الزحيلي (¬2) إلا أنه اشترط في القصاص رضى المجني عليه. * القول الثالث: التوقف. القاضي محمد تقي العثماني (¬3). أولاً: دليل القول الأول "المنع": استدلوا بدليل النقل والعقل: أ- دليلهم من النقل: 1 - دليل الكتاب: قوله تعالى في شأن الزاني والزانية: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (¬4). ¬

_ (¬1) أستاذ الثقافة الإسلامية والتفسير بجامعة أم القرى بمكة المكرمة. انظر قوله في المسألة في بحثه: زرع الأعضاء البشرية 6 من بحوث مجمع الفقه الإسلامي. (¬2) أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة. انظر قوله في بحثه زراعة عضو استؤصل في حد. 6 من بحوث مجمع الفقه الإسلامي. (¬3) كتب في ذلك بحثًا بعنوان: زراعة عضو استؤصل في حد، وخلص فيه إلى التوقف، وهو من بحوث مجمع الفقه الإسلامي. (¬4) سورة النور (24) آية 2.

* وجه الدلالة: أن الآية الكريمة دلت على حرمة الرأفة بالمعتدي لحدود الله تعالى، والجاني بالسرقة والقطع لعضو غيره معتد لمحارم الله وحدوده، فلا تشرع الرأفة به بإعادة ما أبين منه بعد إقامة حد الله عز وجل عليه (¬1). قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬2). * وجه الدلالة: من وجهين. * الوجه الأول: أن الجزاء لا يتم إلا بالقطع، والنكال لا يتم إلا برؤية اليد المقطوعة، وإعادتها مفوت للثاني فلا تشرع لكونها مفوتة للنكال المنصوص عليه في الآية الكريمة (¬3). * الوجه الثاني: أن هذا الحكم بالقطع يوجب فصلها عن البدن على التأبيد، وفي إعادتها مخالفة لحكم الشرع فلا يجوز فعلها (¬4). ¬

_ (¬1) زراعة عضو استؤصل في حد. محمد آل الشيخ 2 من بحوث مجمع الفقه الإسلامي. (¬2) سورة المائدة (5) آية 38. (¬3) حكم إعادة اليد بعد قطعها في حد شرعي، المنيع 15 من بحوث مجمع الفقه الإسلامي. (¬4) حكم إعادة ما قطع بحد أو قصاص د. بكر أبو زيد 3 من بحوث مجمع الفقه الإسلامي.

قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (¬1). وقوله سبحانه: {وَالجُرُوحَ قِصَاصٌ} (¬2). * وجه الدلالة من الآيتين:. أن إعادة العضو الذي أبين بالقصاص تؤدي إلى عدم المماثلة التي أوجبتها الآيتان الكريمتان (¬3). 2 - دليل السنة: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في السارق: "اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه" (¬4). * وجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بحسم يد السارق، والحسم مانع من إعادتها (¬5). حديث فضالة رضي الله عنه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بسارق فقطعت يده ثم أمر بها فعلقت في عنقه" (¬6). ¬

_ (¬1) سورة النحل (16) آية 126. (¬2) سورة المائدة (5) آية 45. (¬3) حكم إعادة ما قطع بحد أو قصاص. د. بكر أبو زيد 4 من بحوث مجمع الفقه الإسلامي. (¬4) رواه الحاكم في المستدرك وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم. المستدرك 4/ 381. (¬5) حكم إعادة ما قطع بحد أو قصاص. د. بكر أبو زيد 3 من بحوث مجمع الفقه الإسلامي. حكم إعادة اليد بعد قطعها في حد شرعي المنيع 15 من بحوث مجمع الفقه الإسلامي. (¬6) رواه أحمد في مسنده 2/ 181، وأبو داود في سننه 4/ 201، وابن ماجة 2/ 863، ْوالترمذي وحسنه 4/ 51، والنسائي 8/ 92.

* وجه الدلالة: أن تعليق يد السارق في عنقه حكم شرعي يعتبر من تمام العقوبة والحد، وإعادتها توجب تفويت ذلك فلا يجوز فعلها (¬1). ب- دليلهم من العقل: استدلوا بالعقل من وجوه: الوجه الأول: أن في إعادة يد السارق ستر على جريمته الكبرى، والشرع قاصد لفضحه فلا يجوز فعلها. * الوجه الثاني: أن الحكمة من إيجاب الحد والقصاص منع المجرم من المعاودة إلى عدوانه وردع غيره من ارتكاب مثل جريمته، والإعادة مفوتة لهذه الحكمة فلا يشرع فعلها. * الوجه الثالث: أن إعادة العضو المقطوع بالحد أو القصاص يعتبر من تغيير خلق الله وهو محرم شرعًا، فلا يجوز فعل موجبه، ووجه كونه تغييرًا للخلقة: أن الله تعالى حكم بإبقاء يد السارق مقطوعة وهكذا عضو الجاني، فالإقدام على إعادة ذلك العضو يتضمن التغيير للخلقة من هذا الوجه. ¬

_ (¬1) حكم إعادة ما قطع بحد أو قصاص، د. بكر أبو زيد 4، من بحوث مجمع الفقه الإسلامي.

ثانيا: دليل القول الثاني:

الوجه الرابع: أن بقاء اليد مقطوعة مقصود شرعًا بدليل أن السارق إذا حاول السرقة ثانية ذكرته اليد المقطوعة بالعقوبة والحد فانكف وانزجر عن فعل السرقة، وهذا المقصود يفوت بإعادة اليد فلا يشرع فعلها. الوجه الخامس: أن الحكم بجواز إعادة يد السارق والجاني يشجع أهل الإجرام على فعل الجرائم وارتكابها، وذلك يفوت المقصود من إقامة الحدود وشرع القصاص للزجر. الوجه السادس: أن هذا العضو الذي حكم الشرع بإبانته حدًا أو قصاصًا ارتفعت عنه حقوق المقطوع منه، فلا وجه للحكم بجواز إعادته له (¬1). ثانيًا: دليل القول الثاني: "تجوز إعادة العضو في الحد، أما في القصاص فبشرط رضا المجني عليه". استدلوا بما يلي: (1) أنه تم تنفيذ الحد بمجرد القطع والبتر، وبذلك تم إعمال النص الشرعي الآمر به وبقي ما عداه على أصل الإباحة الشرعية. ¬

_ (¬1) أشارت إلى هذه الأوجه من العقل البحوث التالية: 1 - حكم إعادة ما قطع بحد أو قصاص، د. بكر أبو زيد 3، 4 من بحوث مجمع الفقه الإسلامي. 2 - زراعة عضو استؤصل في حد، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل الشيخ 2، من بحوث مجمع الفقه الإسلامي. 3 - حكم إعادة اليد بعد قطعها في حد شرعي، الشيخ عبد الله بن سليمان المنيع 15، من بحوث مجمع الفقه الإسلامي. 4 - زراعة الأعضاء البشرية، الأستاذ أحمد محمد جمال 6، 7 من بحوث مجمع الفقه الإسلامي.

(2) أنه لا سلطان للحاكم على المحدود بعد تنفيذ الحد، فإذا بادر السارق أو المحارب إلى إعادة يده أو رجله المقطوعة بعمل جراحي فلا يحق للحاكم أن يتدخل في شأنه، كما لا يحق له في الوقت الحاضر منعه من تركيب يد أو رجل صناعية، فتكون إعادة العضو الطبيعي أولي وأحرى بالسكوت عنها وتركها. (3) لقد تحققت جميع الأهداف المقصودة من إقامة الحد من إيلام، وزجر، وتشهير وكل ذلك تحقق بإقامة الحد الشرعي. (4) أن نقل وزراعة الأعضاء من إنسان لإنقاذ إنسان غيره أمر جائز، فمن باب أولى أن يجوز للإنسان أن يعيد ما قطع من أعضائه. (5) أن التوبة تسقط جميع الحدود التي حق الله تبارك وتعالى، كما هو مذهب بعض العلماء وقد تاب المحدود فلا تشرع عقوبته بعد توبته بقطع العضو ثانية. (6) لو نبتت سن جديدة، أو أصبع جديدة بعد القصاص أو الحد لا تستأصل مرة أخرى على الراجح لدى الفقهاء، لأن النابت نعمة جديدة من الله تعالى، ليس للمجني عليه قلعها، وليس هو في حكم العضو المقطوع والمقلوع كما لا يشرع استئصالها لا يشرع استئصال اليد المعادة بعد الحد. (7) لاشك في أن إعادة اليد أو غيرها تعتبر مصلحة ضرورية لصاحبها، ولا تتصادم هذه المصلحة مع النصوص الشرعية الآمرة بتطبيق الحد، أو القصاص، إذ إن النص قد أعمل وفرغ منه، وهو ساكت عما وراء تنفيذ مقتضاه الواضح. (8) أن حقوق الله تعالى مبنية على الدرء والإسقاط والمسامحة

ثالثا: دليل القول الثالث:

خلافًا لحقوق الآدميين. (9) ليس في إعادة اليد أو أي عضو قطع حدًا عبث أو تحايل على أحكام الشريعة، لأن العبث والتحايل في تعطيل تطبيق الشريعة، وأما النجاسة فيمكن تطهير اليد منها بالماء قبل تركيبها. (10) أن الاعتبارات الإنسانية، وسماحة الإسلام، ورحمة الله بعباده تؤكد لنا القول بجواز إعادة اليد (¬1). ثالثًا: دليل القول الثالث: أن النظر في هذه المسألة موقوف على أن المقصود بالحد هل هو إيلام الجاني بفعل الإبانة فقط؟. أو المقصود تفويت عضو بالكلية؟. فعلى الأول تجوز الإعادة. وعلى الثاني لا تجوز، ولكلا الاحتمالين دلائل، ولا يجب علينا القطع بإحداهما الآن لكون المسألة غير متصورة الوقوع حتى اليوم ... " (¬2). الترجيح: الذي يترجح في نظري والعلم عند الله هو القول بعدم جواز إعادة العضو الذي أبين في حد أو قصاص وذلك لما يأتي: أولاً: لصحة دلالة النقل والعقل على هذا كما هو واضح في أدلة ¬

_ (¬1) ذكر هذه الأوجه الدكتور وهبة الزحيلي في بحثه زراعة عضو استؤصل في حد 6 - 10 من بحوث مجمع الفقه الإسلامي. (¬2) زراعة عضو استؤصل في حد. العثماني 27 من بحوث مجمع الفقه الإسلامي.

أصحاب القول الأول. ثانيًا: وأما استدلال أصحاب القول الثاني فيجاب عنه بما يلي: * الوجه الأول: أن إعمال النص يستلزم القطع ثم الحسم ثم التعليق بالنسبة للحد، وكل من الحسم والتعليق يعتبر عائقًا عن نجاح إعادة المقطوع، وأما الإباحة المذكورة فهي غير معتبرة لأن استصحاب الأصل الطاريء عليها الذي دل عليه النص الموجب للحد وإبانة العضو يعتبر رافعًا لحكمها. * الوجه الثاني: أن هذا الوجه استدلال بالدعوى، وأما قياس إعادة العضو على تركيب الأعضاء المصنوعة فهو قياس مردود، لأنه قياس مع الفارق، فالعضو المعاد ثبت النص بإبعاده عن الجسم بالحد والقصاص، وأما العضو المصنوع فهو من الأشياء التي سخر الله للإنسان الانتفاع بها وأذن له بذلك، فلم يكن مثل العضو المقطوع في الحد والقصاص. * الوجه الثالث: أن الذي تحقق على قول من قال بجواز الإعادة هو القطع وحده، وأما الحسم والتعليق والتنكيل وزجر الغير فإنه لا يتم إلا بإبقاء اليد فترة بالنسبة للتعليق، وبإبقائها مقطوعة إلى الأبد بالنسبة للتعليق، وبإبقائها مقطوعة إلى الأبد بالنسبة للزجر والتنكيل. * الوجة الرابع: أن هذا قياس مع الفارق ووجهه: أن الفرع توفر فيه الموجب لحرمة زرعه وإعادته للجسم ثانية بخلاف الأصل الذي لم يتوفر فيه

ذلك. * الوجه الخامس: أن التوبة تسقط الحدود قبل تنفيذها وأما بعد التنفيذ والحكم الشرعي فإنه ينبغي عدم الالتفات إليها لكونها واقعة في غير موقعها، ثم إننا لا نسلم أن السرقة من جنس الحدود التي تسقط بالتوبة لكونها مشتملة على الحق المشترك "حق الله، وحق العبد"، وما كاد كذلك لم تؤثر التوبة في إسقاطه. * الوجه السادس: أن هذا قياس مردود لأنه قياس مع الفارق، فالأصبع والسن الجديدة، يصح وصفها بكونها نعمة متجددة، ومن ثم تعذر القول بوجوب قطعها لأن النص الوارد بالقطع حدًا وقصاصًا لم يرد فيها بخلاف اليد المعادة، فان النص ورد عليها حدًا وقصاصًا. * الوجه السابع: أن هذا استدلال بالدعوى وهو مردود من أصله، لأننا لا نسلم بأن ما بعد الحد مسكوت عنه، نظرًا لأن بقاء اليد مقطوعة ترجح اعتبار الشرع له بالأدلة النقلية والعقلية، ومن ثم كانت إعادة تلك اليد مصادمة لمصلحة الزجر والردع للغير. * الوجه الثامن: لا نسلم أن السرقة من حقوق الله تعالى المبنية على الدرء والإسقاط، ولو سلمنا ذلك فإننا نقول إنما يكون ذلك قبل التنفيذ أما بعده فلا خاصة إذا ثبت الموجب بشهادة الشهود.

* الوجه التاسع: لا نسلم صحته لأنه استدلال بالدعوى أيضًا، بل إن التحايل المنفي موجود، لأن لازم القول بجواز إعادة العضو فيه إضاعة لمضمون حكم القاضي بقطع العضو حداً وقصاصًا. * الوجه العاشر: لا نسلم صحته لأن الرحمة إنما تكون من الشريعة بمن يستحقها لا بمن لا يستحقها، وهذا الصنف من الناس توفرت فيه الصفات الموجبة ْلعدم رحمته والتيسير عليه ولو سلمنا أنه يرحم فإننا نقول إن رحمته بإبقاء العضو مقطوعًا أبلغ لأنه يمنعه من المعاودة ثانية إلى فعل الجريمة وارتكابها. ثالثًا: وأما اعتذار أصحاب القول الثالث بعدم القطع نظرًا لكون المسألة غير متصورة فيجاب عنه بحدوثها ووقوعها، الأمر الذي يوجب بيان حكم الله تعالى فيها بترجيح أحد القولين بدليله. لهذا كله فإنه يترجح في نظري القول بعدم جواز إعادة العضو المقطوع في الحد أو القصاص والله تعالى أعلم. * * *

المبحث الثامن في (زرع الأعضاء المصنوعة)

المبحث الثامن في (زرع الأعضاء المصنوعة) يحتاج الأطباء في علاج بعض الأمراض الجراحية إلى زرع أعضاء تم صنعها لكي تقوم بمهمة العضو التالف بسبب المرض. والحاجة الموجودة إلى زراعة هذه الأعضاء لا تخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تكون ضرورية، ومن أشهر أمثلتها ما يقوم به الأطباء من وصل شرايين القلب بطعوم صناعية في حالة استئصال جزء من تلك الشرايين وتعذر اتصال طرفي الشريان ببعضهما نظرًا لطول المسافة، فيقوم الطبيب الجراح بوضع تلك القطعة المصنوعة في موضع الاستئصال لكي تقوم بمهمة الجزء التالف (¬1). الحالة الثانية: أن تكون حاجية، ومن أشهر أمثلتها المفاصل الصناعية التي يقوم الأطباء بوضعها موضع المفصل الخلقي نظرًا لإصابته بالآفة الموجبة لاستئصاله ووضع ذلك البديل مكانه كما يجرى ذلك في حالة إصابته بالروماتيزم الغضروفي المزمن، أو التهاب المفاصل التيبسي كما يسميه الأطباء (¬2). ¬

_ (¬1) جراحة القلب د. القباني 78، 79، الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء3/ 460. (¬2) الجديد والقديم في جراحة العظام والتقويم-. د. السيد محمد وهب 129، 130.

ومن أمثلتها أيضًا ما يجرى في جراحة الأسنان التعويضية من وضع الجسور المصنوعة بين الأسنان، وكذلك شد الأسنان بالأسلاك، وغيرها من الحالات التي يحتاج فيها إلى وجود الأعضاء المصنوعة (¬1). وهاتان الحالتان توفرت فيهما الدواعي الموجبة للترخيص بفعل الجراحة، فالضرورة تبيح المحظور (¬2)، والحاجة منزلة منزلتها (¬3)، وعليه فإنه لا حرج على الأطباء في فعل الجراحة وزرع تلك الأعضاء، وهي وإن كانت من صنع البشر لكنها من مخلوقات الله التي أوجدها الله عز وجل لكي ينتفع بها الإنسان عند حاجته إليها كما أشار الحق تبارك وتعالى إلى ذلك بقوله: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (¬4). فمن نعم الله تبارك وتعالى على عباده أن هدى الأطباء وسهل لهم السبل للوصول إلى هذا النوع من الجراحة الموجب لزوال الآلام والمتاعب المترتبة على الأمراض الجراحية فله الحمد وله الشكر. * * * ¬

_ (¬1) التيجان والجسور. د. مصباح دياب 1/ 34، 35، 42، 44، 48. (¬2) الأشباه والنظائر للسيوطي 84، الأشباه والنظائر لابن نجيم 85 شرح القواعد الفقهية للزرقاء131. (¬3) المصادر السابقة. (¬4) سورة الحديد (75) آية 25.

المبحث التاسع في (الرتق)

المبحث التاسع في (الرتق (¬1)) المراد بالرتق سد موضع الفتق (¬2)، وهذه المهمة يلجأ إليها الأطباء لعلاج الفتوق الموجودة في الجسم، ومن أشهرها ما يلي: (1) الفتوق السرية. (2) الفتق الفخذي. (3) الفتق المثاني. (4) فتوق المعي الغليظة (¬3). وهذه الفتوق وجدت الحاجة الموجبة لعلاجها بالرتق فهي تشتمل في كثير من الأحيان على آلام، وقد يترتب على تركها ضرر في موضع الفتق أو في الجسم عامة، والرتق يعتبر إصلاح الفساد الناشيء عن الفتق، ونظرًا لهذه الحاجة وخوف الضرر فإنه يرخص للمرضى والأطباء في فعله، للقاعدة "الحاجة تنزل منزلة الضرورة" فالمريض يعتبر محتاجًا إلى فعل جراحة الفتق لمكان الآلام وخوف الضرر المترتب على ترك الفتق بدون علاج. ¬

_ (¬1) قال في المصباح: رتقت الفتق رتقًا من باب قتل سددته. اهـ. المصباح المنير للفيومي 1/ 218. (¬2) الفتق: هو "خروج أحد الأحشاء البطنية أو الحوضية من خلال الجدر البطنية الحوضية التي تحيط بها" جراحة البطن. د. اللبابيدي. د. الشامي 23. (¬3) جراحة البطن. د. الشامي اللبابيدي 34، 39، المو سوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 5/ 125، الشفاء بالجراحة د. الفاعور 179.

مسألة: هل يجوز رتق غشاء البكارة؟.

مسألة: هل يجوز رتق غِشاء البِكارة؟. هذه المسألة تعتبر من المسائل النازلة في هذا العصر، وكانت من ضمن المواضيع التي بحثت في ندوة الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبية المنعقدة في الكويت في عام 1407 هـ، وكتب فيها فضيلة الشيخ عز الدين الخطيب التميمي بحثًا خلص فيه إلى القول بالتحريم، كما كتب أيضًا الدكتور محمد نعيم ياسين بحثًا خلص فيه إلى القول بالتفصيل في حكم هذه المسألة. ولهذا فإنه من المناسب ذكر كلا القولين، مع أدلتهما، ثم بعد ذلك أذكر ما يترجح في نظري منهما سائلاً لله عز وجل أن يمدني بالعون والتوفيق للصواب. الأقوال: القول الأول: لا يجوز رتق غشاء البكارة مطلقًا. "الشيخ عز الدين الخطيب التميمي". القول الثاني: التفصيل: (1) إذا كان سبب التمزق حادثة أو فعلاً لا يعتبر في الشرع معصية، وليس وطئًا في عقد نكاح ينظر: أ- فإن غلب على الظن أن الفتاة ستلاقي عنتًا وظلمًا بسبب الأعراف، والتقاليد كان إجراؤه واجبًا. ب- وإن لم يغلب ذلك على ظن الطبيب كان إجراؤه مندوبًا.

الأدلة:

(1) إذا كان سبب التمزق وطئًا في عقد نكاح كما في المطلقة، أو كان بسبب زنى اشتهر بين الناس فإنه يحرم إجراؤه. (3) إذا كان سبب التمزق زنى لم يشتهر بين الناس كان الطبيب مخيرًا بين إجرائه وعدم إجرائه، وإجراؤه أولى. "الدكتور محمد نعيم ياسين". تحديد محل الخلاف: ينحصر محل الخلاف بين القولين في الحالة الأولى، والثالثة، أما في الحالة الثانية فإنهما متفقان على تحريم الرتق. الأدلة: (1) دليل القول الأول: "لا يجوز مطلقًا": أولاً: أن رتق غشاء البكارة قد يؤدي إلى اختلاط الأنساب، فقد تحمل المرأة من الجماع السابق، ثم تتزوج بعد رتق غشاء بكارتها، وهذا يؤدي إلى إلحاق ذلك الحمل بالزوج واختلاط الحلال بالحرام. ثانيًا: أن رتق غشاء البكارة فيه اطلاع على المنكر. ثالثًا: أن رتق غشاء البكارة يسهل للفتيات ارتكاب جريمة الزنى لعلمهن بإمكان رتق غشاء البكارة بعد الجماع. رابعًا: أنه إذا اجتمعت المصالح والمفاسد فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلنا ذلك، وإن تعذر الدرء والتحصيل، فإن

(2) دليل القول الثاني: "التفصيل":

كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة ولا نبالي بفوات المصلحة كما قرر ذلك فقهاء الإسلام. وتطبيقاً لهذه القاعدة فإننا إذا نظرنا إلى رتق غشاء البكارة وما يترتب عليه من مفاسد حكمنا بعدم جواز الرتق لعظيم المفاسد المترتبة عليه. خامسًا: أن من قواعد الشريعة الإسلامية أن الضرر لا يزال بالضرر، ومن فروع هذه القاعدة "لا يجوز للإنسان أن يدفع الغرق على أرضه بإغراق أرض غيره"، ومثل ذلك لا يجوز للفتاة وأمها أن يزيلا الضرر عنهما برتق الغشاء ويلحقانه بالزوج. سادسًا: أن مبدأ رتق غشاء البكارة مبدأ غير شرعي لأنه نوع من الغش، والغش محرم شرعًا. سابعًا: أن رتق غشاء البكارة يفتح أبواب الكذب للفتيات وأهليهن لإخفاء حقيقة السبب، والكذب محرم شرعًا. ثامنًا: أن رتق غشاء البكارة يفتح الباب للأطباء، أن يلجئوا إلى إجراء عمليات الإجهاض، وإسقاط الأجنة بحجة الستر (¬1). (2) دليل القول الثاني: "التفصيل": أولاً: أن النصوص الشرعية دالة على مشروعية الستر وندبه، ¬

_ (¬1) ذكر هذه الأوجه الشيخ عز الدين الخطيب التميمي في بحثه: غشاء البكارة من منظور إسلامي، من بحوث ندوة الرؤية الإسلامية ثبت الندوة 571 - 573.

ورتق غشاء البكارة معين على تحقيق ذلك في الأحوال التي حكمنا بجواز فعله فيها. ثانيًا: أن المرأة بريئة من الفاحشة، فإذا أجزنا له فعل جراحة الرتق قفلنا باب سوء الظن فيها، فيكون في ذلك دفعٌ للظلم عنها، وتحقيقًا لما شهدت النصوص الشرعية باعتباره وقصده من حسن الظن بالمؤمنين والمؤمنات. ثالثا: أن رتق غشاء البكارة يعين على تحقيق المساواة بين الرجل والمرأة فكما أن الرجل مهما فعل الفاحشة لا يترتب على فعله أي أثر مادي في جسده، ولا يثور حوله أي شك فكذلك ينبغي أن تكون المرأة، وتحقيق العدل بينهما مقصد شرعي، إلا في الأحوال المستثناة بدليل شرعي، وليست هذه الحالة منها. رابعًا: أن رتق غشاء البكارة يوجب دفع الضرر عن أهل المرأة، فلو تركت المرأة من غير رتق واطلع الزوج على ذلك لأضرها، وأضر بأهلها، وإذا شاع الأمر بين الناس فإن تلك الأسرة قد يمتنع من الزواج منهم، فلذلك يشرع لهم دفع ذلك الضرر لأنهم بريئون من سببه. خامسًا: أن قيام الطبيب المسلم بإخفاء تلك القرينة الوهمية في دلالتها على الفاحشة له أثر تربوي عام في المجتمع، وخاصة فيما يتعلق بنفسية الفتاة. سادسًا: أن مفسدة الغش في رتق غشاء البكارة ليست موجودة في

الأحوال التي حكمنا بجواز الرتق فيها (¬1). الترجيح: الذي يترجح في نظري والعلم عند الله هو القول بعدم جواز رتق غشاء البكارة مطلقًا وذلك لما يأتي: أولاً: لصحة ما ذكره أصحاب هذا القول في استدلالهم. ثانيًا: وأما استدلال أصحاب القول الثاني فيجاب عنه بما يلي: الجواب عن الوجه الأول: أن الستر المطلوب هو الذي شهدت نصوص الشرع باعتبار وسيلته، ورتق غشاء البكارة لم يتحقق فيه ذلك، بل الأصل حرمته لمكان كشف العورة، وفتح باب الفساد. الجواب عن الوجه الثاني: أن قفل باب سوء الظن يمكن تحقيقه عن طريق الإخبار قبل الزواج، فإن رضي الزوج بالمرأة وإلا عوضها الله غيره. الجواب عن الوجه الثالث: أن التعليل بمساواة المرأة على هذا الوجه فاسد، والتفاوت بين الرجل والمرأة في خفاء الجريمة على الوجه المذكور فطرة إلهيّة، فيكون التعليل بالمساواة على هذا الوجه فيه نوع من التهمة بعدم العدل ¬

_ (¬1) ذكر هذه الأوجه الدكتور محمد نعيم ياسين في بحثه: رتق غشاء البكارة في ميزان المقاصد الشرعية من بحوث ندوة الرؤية الإسلامية. ثبت الندوة 579 - 583.

بين الجنسين. والفطرة الموجبة للاختلاف سوية معتدلة لا تحتاج إلى استدراك وتقويم، كما قال الله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (¬1). الجواب عن الوجه الرابع: أن المفسدة المذكورة لا تزول بالكلية بعملية الرتق لاحتمال اطلاعه على ذلك، ولو عن طريق إخبار الغير له، ثم إن هذه المفسدة تقع في حال تزويج المرأة بدون إخبار زوجها بزوال بكارتها، والمنبغي إخباره، واطلاعه، فإن أقدم زالت تلك المفاسد وكذلك الحال لو أحْجَمَ. الجواب عن الوجه الخامس: أن هذا الإخفاء كما أن له هذه المصلحة كذلك تترتب عليه المفاسد، ومنها تسهيل السبيل لفعل فاحشة الزنى، ودرء المفسدة أولى من جلب المصلحة. الجواب عن الوجه السادس: أننا لا نسلم انتفاء الغش لأن هذه البكارة مستحدثة، وليست هي البكارة الأصلية، فلو سلمنا أن غش الزوج منتف في حال زوالها بالقفز ونحوه مما يوجب زوال البكارة طبيعة، فإننا لا نسلم أن غشه منتف في حال زوالها بالاعتداء عليها. ¬

_ (¬1) سورة الروم (30) آية 30.

ثالثًا: أن سد الذريعة الذي اعتبره أصحاب القول الأول أمرٌ مهم جدًا خاصة فيما يعود إلى انتهاك حرمة الفروج، والأبضاع والمفسدة لاشك مترتبة على القول بجواز رتق غشاء البكارة. رابعًا: أن الأصل يقتضي حرمة كشف العورة ولمسها والنظر إليها، والأعذار التي ذكرها أصحاب القول الثاني ليست بقوية إلى درجة يمكن فيها الحكم باستثناء عملية الرتق من ذلك الأصل، فوجب البقاء عليه والحكم بحرمة فعل جراحة الرتق. خامسًا: أن مفسدة التهمة يمكن إزالتها عن طريق شهادة طبية بعد الحادثة تثبت براءة المرأة وهذا السبيل هو أمثل السبل، وعن طريقه تزول الحاجة إلى فعل جراحة الرتق. لهذا كله فإنه لا يجوز للطبيب ولا للمرأة فعل هذا النوع من الجراحة. والله تعالى أعلم. * * *

المبحث العاشر في (الكي)

المبحث العاشر في (الكيّ) الكي: إحراق الجلد أو الغشاء المخاطي بمواد كاوية، أو آلات ساخنة، أو تيار كهربائي (¬1). وهذه المهمة كما ورد في الموسوعة الطبية الحديثة يندر استعمالها اليوم إلا في حالات خاصة من الجراحة الطبية، ومن أمثلتها: ما يجرى في علاج قروح عنق الرحم، وكذلك في جراحة استئصال الزائدة الدودية حيث تكوى البقية منها بحمض الكربوليك "الفينول" (¬2). والأصل في مشروعية هذا النوع من مهمات العمل الجراحي ما ثبت في الصحيح من حديث جابر ين عبد الله -رضي الله عنهما-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى أبَيِّ بن كعب طبيبًا فقطع منه عرقًا ثم كواه عليه" (¬3). فقد دل هذا الحديث الشريف على مشروعية كي العروق عند الحاجة. قال بعض أهل العلم -رحمهم الله- في شرح هذا الحديث: "قوله (بعث إلى أبي ... ) يدل على أنه لا يلي عمل الشيء إلا من يعرفه، وعلى جواز الكي إذا صحت منفعته ودعت إليه حاجة، والنهي عنه إنما هو إذا وجد عنه غنى ... " (¬4) اهـ. قلت: وعلى هذا فإنه يشرع فعل هذه المهمة خاصة وأن الحالات التي تستدعيها قليلة كما أشار إلى ذلك المختصون ... والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة الأطباء 5/ 1109. (¬2) المصدر السابق. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) شرح صحيح مسلم للأبي 6/ 21.

المبحث الحادي عشر في (الخياطة)

المبحث الحادي عشر في (الخياطة) وهي مهمة يقوم بها الطبيب في الغالب بعد الانتهاء من علاج العضو المصاب في جوف الإنسان، فبعد أن يقوم برد الأعضاء إلى موضعها يخيط الموضع المشقوق من البطن أو الصدر أو غيرها من المواضع الأخرى. وقد يلجأ الأطباء إلى الخياطة أثناء العمل الجراحي إذا لزم الأمر كما في الجراحة القلبية، حيث يقوم الطبيب الجراح في علاجه للضيق الموجود في الشريان الأورطي باستئصال الموضع الضيق من الشريان ثم يصل نهايتي الشريان المقطوعتين ببعضهما بواسطة الخياطة (¬1). ومن أمثلته أيضًا ما يجرى في علائم الشفة المفلوجة حيث يقوم الطبيب بوصل نهايتها بالخياطة اللازمة (¬2). وهذه المهمة تعتبر ضرورية في حال الشق عن الجوف كما في جراحة القلب والبطن وغيرها من أنواع الجراحة الجوفية، لأنه لو ترك موضع الجراحة مفتوحًا فإن المريض سيموت قطعًا، لذلك فإن الخياطة تعتبر الحاجة إليها بالغة مبلغ الضرورة، وفعلها مشروع، ولذلك نجد من الفقهاء -رحمهم الله- من نص على أن الشخص لو منع إنسانًا مجروحًا بجائفة الخيط والإبرة حتى مات فإنه يضمن ديته". قال الشيخ محمد بن الحطاب المالكي (¬3) -رحمه الله-: " ... ¬

_ (¬1) الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 3/ 460. (¬2) المصدر السابق 3/ 454. (¬3) هو الشيخ محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن حسين المعروف بالحطاب الرعيني المالكي فقيه أصولي مشارك في بعض العلوم، ولد -رحمه الله- بمكة سنة 902 من الهجرة، وتوفي بطرابلس الغرب سنة 954 من الهجرة، وله مصنفات منها: مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، متممة الآجرومية، قرة العين بشرح الورقات لإمام الحرمين. معجم المؤلفين عمر كحالة 11/ 230، 231.

من أجيف ولم يستطع على خيط، وإبرة لخياطة جراحة إلا من عند رجل فمنعه حتى مات فإنه يضمن ديته" (¬1) اهـ. وأما الخياطة في الحالات الأخرى كخياطة الشفة المفلوجة ونحوها، فإنها تعتبر في مرتبة الحاجيات، فيشرع للطبيب فعلها، وهي من الإصلاح المحمود شرعًا، فلا حرج في فعله ... والله تعالى أعلم. فهذه هي مجمل المهمات المتعلقة بالعمل الجراحي، وقد اعتنيت باختيار أهمها خاصة ما تتعلق به المسائل والأحكام الفقهية، وهناك مهمات أخرى يمكن للطبيب من خلال هذه المهمات المذكورة أن يستخلص أصول حكمها، حيث ظهر مما تقدم أن المهمة إذا توقفت حياة المريض ونجاته على فعلها كانت ضرورية ورخص له وللطبيب الجراح أن يفعلها لمكان الضرورة، وأما إن كانت دون ذلك بأن بلغت مقام الحاجيات فإنها تنزل منزلة الضرورة ويرخص فيها أيضًا. وينبغي على الطبيب أن يوازن بين المفاسد والمصالح المترتبة على الإقدام والإحجام عن فعل المهمة المتعلقة بالعمل الجراحي، ثم يُقْدِمُ على ما ترجح اعتباره من المصالح، ويحجم عن ضده. ومن خلال نصوص الفقهاء المتقدمين -رحمهم الله- التي سبق ذكرها في هذه المهمات يتبين لنا بجلاء ثراء المادة الفقهية في الشريعة الإسلامية، وشمولية قواعدها الفقهية، ومرونتها في الأحكام، وأنها امتازت بالتأصيل الذي يسهل معه تخريج الفروع والنوازل عليه، وليس ذلك بغريب على هذه الشريعة المنزلة من الحكيم الخبير، الصالحة لكل زمان ومكان. ¬

_ (¬1) مواهب الجليل للحطاب 5/ 224.

الباب الرابع في المسئولية عن الجراحة, والمسائل

الباب الرابع في المسئولية عن الجراحة, والمسائل يشتمل هذا الباب على فصلين الفصل الأول: في المسئولية عن الجراحة الطبية. الفصل الثاني: في مسائل الجراحة الطبية.

الفصل الأول في (المسئولية عن الجراحة الطبية)

الفصل الأول في (المسئولية عن الجراحة الطبية) تمهيد يشتمل هذا الفصل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: في أركان المسئولية، وأقسامها، ومشروعيتها. المبحث الثاني: في المسئولية الأخلاقية في الجراحة. المبحث الثالث: في المسئولية المهنية في الجراحة. وبيانها فيما يلي:

المبحث الأول في (أركان المسئولية وأقسامها ومشروعيتها)

المبحث الأول في (أركان المسئولية وأقسامها ومشروعيتها) يشتمل هذا المبحث على أربعة مطالب: المطلب الأول: في أركان المسئولية الطبية. المطلب الثاني: في أقسام المسئولية الطبية الجراحية. المطلب الثالث: في أدلة مشروعية المسئولية الطبية. المطلب الرابع: في موقف الشريعة من جناية الطبيب.

المطلب الأول في (أركان المسئولية الطبية)

المطلب الأول في (أركان المسئولية الطبية) أركان المسئولية الطبية: تقوم المسئولية الطبية على أربعة أركان هي: الركن الأول: السائل: وهو الشخص الذي يملك الحق في مساءلة الطبيب، ومساعديه، كالقاضي ونحوه. الركن الثاني: المسئول: وهو الذي يوجه إليه السؤال، ويكلف الجواب عن مضمونه، سواء كان فردًا كالطبيب، أو جهة كالمستشفى. الركن الثالث: المسئول عنه: وهو محل المسئولية والمراد به الضرر وسببه، الناشئان عن فعل الطبيب أو مساعديه أو عنهما معًا. الركن الرابع: صيغة السؤال: وهي العبارة المتضمنة للسؤال الوارد من السائل إلى المسئول. فإذا وجدت هذه الأركان الأربعة، وجدت المسئولية الطبية، وقد ذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى أن المسئولية الطبية تقوم على

ثلاثة أركان (¬1) هي: الخطأ الطبي (¬2)، والضرر، والرابطة السببية بين الخطأ والضرر (¬3)، والواقع أن هذه الأمور الثلاثة ليست أركانًا للمسئولية الطبية. فأما الخطأ الطبي فإنه في الحقيقة يعتبر سببًا موجبًا للمسئولية لا ركنًا من أركانها لعدم توقف ماهية المسئولية عليه. فإذا أخطأ الطبيب أو مساعده كان خطؤهما موجباً للمسئولية وليس موجدًا لها بحيث يتوقف وجود المسئولية في الخارج على هذا السبب. وأما الضرر فهو أثر من آثار الخطأ الطبي، يقوى به اعتبار السبب الموجب للمسئولية، فهو بهذه الصورة لا تتوقف عليه ماهية المسئولية. وأما الرابطة السببية بين الخطأ والضرر فهي شرط في اعتبارهما، وليست من أركان المسئولية أيضًا ... والله تعالى أعلم. * * * ¬

_ (¬1) درج على هذا التقسيم بعض الباحثين في أحكام المسئولية الطبية من الناحية القانونية. انظر المسئولية المدنية عن الأخطاء المهنية. د. الحسيني ص 116، 117، المسئولية الطبية المدنية الجزائية، بسام محتسب بالله ص 117، المسئولية المدنية للطبيب، للتونجي ص 254، 255، المسئولية الطبية في قانون العقوبات د. الجوهري ص 347، مسئولية الأطباء والجراحين المدنية في التشريع المصري والقانون المقارن. د الإبراشي ص 108، 109. (¬2) مرادهم بالخطأ الطبي: "إخلال بموجب سابق لا يرتكبه شخص متبصر وجد في مثل الظروف التي وجد فيها مرتب الضرر". المسئولية المدنية عن الأخطار المدنية د. الحسيني ص 118. (¬3) المراد بها انتفاء تأثير الأسباب الخارجة عن إرادة الطبيب في وجود ذلك الضرر الناشيء عن الخطأ لكي يمتنع إعفاء الطبيب من المسئولية. انظر: المسئولية المدنية عن الأخطاء المهنية. د. الحسيني ص 145، 146.

المطلب الثاني في (أقسام المسئولية الطبية الجراحية)

المطلب الثاني في (أقسام المسئولية الطبية الجراحية) المسئولية الطبية في الشريعة الإسلامية جانبان: أحدهما: يتعلق بالآداب والأخلاق، وهو جانب السلوك. والثاني: يتعلق بالأعمال، والطريقة التي تم بها أداؤها وهو جانب العمل وعلى هذا فإن المسئولية عن الجراحة الطبية تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: المسئولية الأخلاقية (الأدبية). القسم الثاني: المسئولية المهنية (العملية). فأما القسم الأول: فإنه يسأل فيه الطبيب ومساعدوه عن القضايا المتعلقة بسلوكهم، وآدابهم، ومن أمثلته: قضايا الغش، والكذب التي تصدر ضد الأطباء، ومساعديهم، فيتهم الطبيب بغش المريض بأن يدعي إصابته بمرض جراحي، أو يقوم المحلل أو المصور بالأشعة أو المناظير الطبية بالتزوير والكذب في التقارير التي قام بكتابتها كل ذلك طلبًا لأغراض ومطامع شخصية.

فهذه القضايا وأمثالها تجب فيها مساءلة الطبيب ومساعديه عن صحة دعواها، وعند ثبوتها يحكم بإدانتهم أخلاقيًا فيتم تعزيرهم بما يستحقون، كما يحكم بتضمينهم، أو الاقصاص منهم، إذا ترتبت أضرار على تزويرهم وكذبهم. وأما القسم الثاني: فإنه يسأل فيه الطبيب ومساعدوه. عن القضايا المتعلقة بأعمالهم الطبية، وما ترتب عليها من أضرار ومن أمثلته: قضايا الخطأ الطبي سواء كان واقعًا من الطبيب الفاحص أو الطبيب الجراح، أو من المساعدين لهما، أو كان مشتركًا من الجميع. فيتهم هؤلاء مثلاً بكونهم خرجوا في أثناء قيامهم بمهامهم عن الأصول المتبعة عند أهل الاختصاص، فنتج عن خروجهم الضرر الموجود في جسم المريض المدعي. فهذه القضايا وأمثالها تجب فيها مساءلة الأطباء ومساعديهم عن صحة الدعوى، وإذا ثبتت يحكم بالقصاص منهم، أو تضمينهم على التفصيل الذي سيأتي بيانه في موضعه بمشيئة الله تعالى وتوفيقه. * * *

المطلب الثالث (أدلة مشروعية المسئولية الطبية)

المطلب الثالث (أدلة مشروعية المسئولية الطبية) دلت أدلة الشريعة الإسلامية عن النقل، والعقل على اعتبار المسئولية الطبية، ففي حديث عمرو بن شعيب (¬1) عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من تَطبَّبَ ولَمْ يُعْلم مِنْهُ طِب قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ" (¬2). فهذا الحديث الشريف يعتبر أصلاً عند أهل العلم -رحمهم الله- في تضمين المتطبب الجاهل إذا عالج غيره واستضر بعلاجه (¬3). وقد دل الحديث على اعتبار المسئولية الطبية التي عبر عنها بأثرها وهو وجوب الضمان على هذا النوع ممن يدعي الطب وهو جاهل به، وهو عام شامل لمن تطبب بجراحة أو غيرها من فروع الطب، ويدخل فيه من كان في حكم الأطباء كالمحللين، والممرضين، والمخدرين، والمصورين بالأشعة والمناظير الطبية. وإذا كان الجهل هو الموجب للمسئولية كما يدل عليه ظاهر ¬

_ (¬1) هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص المتوفى سنة 118 من الهجرة، وقوله عن أبيه أي شعيب، وقوله عن جده أي جد شعيب، وهو عبد الله ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما الصحابي الجليل. قال الحافظ النسائي -رحمه الله-: "صح سماع عمرو من أبيه، وصح سماع شعيب من جده" اهـ. تهذيب التهذيب لابن حجر 8/ 50. (¬2) رواه ابن ماجة 2/ 248، والحاكم في المستدرك وصححه، ووافقه الحافظ الذهبي على تصحيحه. المستدرك 4/ 212 مع التلخيص. (¬3) الطب النبوي لابن القيم ص 107، والطب من الكتاب والسنة للبغدادي ص 189.

الحديث (¬1)، فإنه يستوي فيه الجاهل بالكلية وهو الشخص الذي لم يتعلم الطب، والجاهل بالجزئية وهو الشخص الذي علم الطب، وبرع في فرع من فروعه، ولكنه يجهل الفرع الذي عالج فيه، مثل الطبيب الجراح المختص بجراحة العيون، إذا قام بجراحة خارجة عن اختصاصه ويجهلها، أو قام بفعل جراجة داخلة في اختصاصه لا علم له بمراحلها أو لا قدرة عنده على تطبيقها على الوجه المطلوب، وهكذا الحكم بالنسبة لمساعدي الأطباء، كل هؤلاء يتحملون المسئولية عن الأضرار الناتجة عن أعمالهم التي أقدموا على فعلها مع جهلهم بأصولها المعتبرة عند أهل الاختصاص والمعرفة. والمقصود أن هذا الحديث الشريف دل على اعتبار المسئولية الطبية التي عبر عنها بأثرها وهو الضمان وأن دلالته شاملة لمن تطبب وكان جاهلاً بالطب كلية أو كان جاهلاً بالجزئية التي تطبب فيها وأنه يدخل في حكم التطبب التمريض، والتحليل، ونقل الدم، والتخدير، والتصوير بالأشعة والمناظير الطبية. وكما دلت السنة النبوية على مشروعية تحميل الطبيب عبء المسئولية عن الأضرار الناتجة عن خطئه، كذلك دل الإجماع على مشروعية ذلك واعتباره. فقد أجمع أهل العلم -رحمهم الله- على تضمين الطبيب الجاهل، وكذلك تضمين الطبيب المتعدي الذي يجاوز الحدود والضوابط المعتبرة عند أهل المعرفة والاختصاص. ¬

_ (¬1) قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من تطبب" ولم يقل: "من طب"، لأن لفظ التفعل يدل على تكلف الشيء والدخول فيه بعسر، وكلفة، وأنه ليس من أهله، كتحلم وتشجّع، وتصبّر، ونظائرها" اهـ. الطب النبوي لابن القيم ص 109.

فإيجاب الضمان على الطبيب الجاهل، فإذا تعاطى علم الطب، وعمله، ولم يتقدم له به معرفة، فقد هجم بجهله على إتلاف النفوس، وأقدم بالتهور على ما لم يعلمه، فيكون قد غرر (¬1) بالعليل، فيلزمه الضمان لذلك، وهذا إجماع من أهل العلم" (¬2) اهـ. فقد بين -رحمه الله- إجماع أهل العلم -رحمهم الله- على تضمين الطبيب الجاهل وهذا يتعلق بالنوع الأول الذي سبقت الإشارة إليه. أما النوع الثاني وهو الطبيب المتعدي فقد أشار إلى اعتبار مسئوليته وتضمينه بما نقله عن الإمام الخطابي (¬3) -رحمه الله- بقوله: "قال الخطابى: لا أعلم خلافًا في أن المعالج إذا تعدى، فتلف المريض كان ضامنًا" (¬4) اهـ. وكما دل دليل النقل على اعتبار المسئولية الطبية وثبوتها شرعًا في حال الجهل، والتعدي، كذلك دل دليل العقل على مشروعيتها وذلك من الوجوه التالية: الوجه الأول القياس: أ- يضمن الطبيب الجاهل ما أتلفته يداه، كما يضمن الجاني ¬

_ (¬1) غرر: أي خاطر, والغرر الخطر. المصباح المنير للفيومي 2/ 445. (¬2) الطب النبوي لابن القيم ص 109. (¬3) هو الإمام أبو سليمان أحمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي البستي ينتهي نسبه إلى زيد بن الخطاب أخي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-, ولد -رحمه الله- ببُسْتَ سنة 319 من الهجرة نبغ -رحمه الله - في الحديث، والفقه، واللغة, والأدب, توفي -رحمه الله- ببُسْتَ سنة 388 من الهجرة، وله مصنفات منها: معالم السنن في شرح سنن أبي داود، وغريب الحديث، أعلام الحديث. معجم المؤلفين عمر كحالة 2/ 61. (¬4) الطب النبوي لابن القيم ص 109، وممن حكى الإجماع عن تضمين الطبيب الجاهل، ابن رشد الحفيد -رحمه الله- في بداية المجتهد 2/ 418.

سراية جنايته، بجامع كون كل منهما سراية جرح لم يجز الإقدام عليه (¬1). ب- يضمن الطبيب المتعدي ما أتلفت يداه، كما يضمن الجاني سراية جنايته، بجامع كون كل منهما فعلاً محرمًا (¬2). الوجه الثاني النظر: أن الشريعة الإسلامية راعت العدل بين العباد، ودفع الظلم عنهم والمسئولية الطبية عن الجراحة الطبية معينة على تحقيق ذلك، فوجب اعتبارها. وبهذه الأدلة النقلية، والعقلية، يتبين لنا ثبوت المسئولية عن الجراحة الطبية واعتبار الشريعة الإسلامية لها. وهذه الأدلة الشرعية صريحة في الأطباء الذين يتولون العلاج ويدخل في حكمهم الممرضون، والمحللون، والمخدرون، والمصورون بالأشعة والمناظير الطبية، وغيرهم ممن له علاقة بعلاج المريض سواء كان ذلك في المراحل الممهدة للجراحة أو في مراحل المهمة الجراحية، أو ما بعدها. ¬

_ (¬1) أشار إلى أصل هذا القياس الإمام ابن القيم -رحمه الله- عند بيانه لتضمين الخاتن الجاهل بقوله: "فإن لم يكن من أهل العلم بصناعته، ولم يعرف بالحذق فيها، فإنه يضمنها، لأنها سراية جرح لم يجز الإقدام عليها، فهي كسراية الجناية، وقد اتفق الناس على أن سراية الجناية مضمونة". تحفة المودود لابن القيم ص 152، 153. (¬2) أشار إلى أصل هذا القياس ابن قدامة -رحمه الله- وذلك عند بيانه لسبب تضمين الطبيب الجاهل وغيره من أرباب الصنائع كالحجام الجاهل فقال -رحمه الله-: " ... أن يكونوا ذوي حذق في صناعتهم، ولهم بصارة ومعرفة، لأنه إذا لم يكن كذلك لم يحل له مباشرة القطع، وإذا قطع مع هذا كان فعلاً محرمًا فيضمن سرايته كالقطع ابتداء" اهـ. المغني والشرح الكبير لابن قدامة 6/ 120.

المطلب الرابع في (موقف الشريعة من جناية الطبيب)

المطلب الرابع في (موقف الشريعة من جناية الطبيب) لجسد المسلم وروحه حرمة عظيمة عند الله تبارك وتعالى (¬1)، دلت نصوص الكتاب العزيز، وأحاديث النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - عليها، وحذرت العباد من الاستخفاف بها، وتوعدت من سعى في هلاك الأرواح وتلك الأجساد بغير حق بشديد العذاب وأليمه (¬2). لذلك فإنه لا يجوز للإنسان أن يقدم على العبث بأجساد الناس، وتغيير خلقتهم السوية التي أوجدهم الله تعالى عليها وامتن بها عليهم، فقال سبحانه: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ ¬

_ (¬1) يلحق بالمسلم الكافر الذمي والمستأمن، لأن لهم حقًا على المسلمين بالذمة والأمان، فلهم ما للمسلم، وعليهم ما على المسلم. (¬2) يشهد لذلك ما ورد من الآيات والأحاديث الكثيرة في النهي عن قتل النفس بغير حق، ومنها قوله سبحانه: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)} سورة الأنعام (6) آية 151، وقوله سبحانه: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)} النساء (4) آية 29، 35. وقو له سبحانه: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} سورة البقرة (2) آية 195. والآيات في هذا المعنى كثيرة، وكذلك الأحاديث، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يحل دم امريء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس .... " متفق عليه. صحيح البخاري 4/ 188، صحيح مسلم 2/ 98 وقوله عليه الصلاة والسلام: "من حمل علينا السلاح فليس منا" متفق عليه. صحيح البخاري 4/ 187، صحيح مسلم 1/ 44، وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" رواه البخاري في صحيحه 4/ 224، ومسلم 1/ 37.

خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (¬1). وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)} (¬2). ولما وجدت الحاجة الداعية إلى التداوي والعلاج بالجراحة أجازت الشريعة الإسلامية لأهل الاختصاص من الأطباء ومساعديهم الإقدام على فعل الجراحة الطبية اللازمة، والتي تشتمل في كثير من صورها على تصرفات مختلفة في أعضاء الإنسان، لكن الشريعة الإسلامية راعت أمرًا مهمًا لابد من الحذر منه، ووضع الزواجر الكفيلة بدفع ضرره، ذلك أن الأطباء ومساعديهم بشر يعتريهم ما يعتري النفس البشرية الضعيفة، فقد يخرجون في بعض الأحيان عن القيود الشرعية ويتجاوزونها معرضين أرواح الناس وأجسادهم للهلاك والتلف المحقق إما طلبًا لعرض الدنيا وجاهها من مال أو شهرة ودعاية، أو إسرافًا وبغيًا واستهتارًا بحرمة تلك الأرواح والأجساد البريئة. وهذا الصنف من الأطباء وغيرهم كما يعتبر متجاوزًا لحدود الشرع ومحارمه كذلك يعتبر متجاوزًا لواجباته الطبية التي ينبغي عليه التزامها، وأخذ عليه العهد بأدائها على الوجه المطلوب. لذلك فإن الشريعة الإسلامية الحكيمة العادلة لم تغض الطرف عن هذه النوعية التي تهدد أرواح الناس، وأجسادهم بالهلاك، والتلف، المحقق، بل وضعت الزواجر والعقوبات البدنية والمالية والتعزيرية ¬

_ (¬1) سورة التين [1 - 4]. (¬2) سورة الانفطار [6 - 8].

المناسبة، وبذلك تكفلت بزجرهم وكف أذاهم عن العباد. فاعتنى فقهاء الشريعة ببيان القواعد العامة التي تتفرع عنها الأحكام المتعلقة بتضمين الطبيب، بل نجد من الفقهاء من نص على مسائل معينة من الضمان تحمل الطبيب فيها المسئولية كاملة عن نتائج عمله الذي خرج فيه عن الحدود المعتبرة (¬1). إن اعتناء فقهاء الإسلام -رحمهم الله- ببيان موقف الشريعة الإسلامية من تصرفات الأطباء، ومساعديهم الخارجة عن الحدود والضوابط المعتبرة في مجال أعمالهم، فيه دليل بيّن على شمولية أحكام الشريعة الإسلامية وتصوراتها. ذلك أن فرض وجود هذه النوعية التي تستخف بحرمة الأرواح والأجساد، وتخرج عن الضوابط المعتبرة عند أهل الاختصاص يعتبر ثابتًا حسًا وعقلاً، فيعتبر السكوت عن بيان حكمه قصورًا في التصور برأت منه شريعة الإسلام الخالدة. كما أن حكم الشريعة بمحاسبتهم، ومؤاخذتهم بإساءتهم، فيه دليل على عدها وإنصافها، ومراعاتها لدفع الأضرار والمفاسد عن العباد وذلك من قواعدها. فهي لم تطلق العنان لهذه الأيدي الآثمة لكي تعبث بأرواح الناس وأجسادهم وتعرضها للهلاك والتلف المحقق، ولم تترك تصرفاتهم الجانية تمر دون محاسبة عادله توجب النظر فيها، والحكم عليها، ¬

_ (¬1) تكملة البحر الرائق للطوري 8/ 33، الدر المختار للحصكفي 2/ 29، بداية المجتهد لابن رشد 2/ 418، تبصرة الحكام لابن فرحون2/ 243، حاشية قليوبي وعميرة 3/ 78، المغني والشرح الكبير لابن قدامة 6/ 12، شرح منتهى الإرادات للبهوتي 2/ 377.

وإلزام أصحابها بتحمل تبعاتها، ورد الحقوق المترتبة عليها إلى أصحابها من المرضى، وذويهم كاملة غير منقوصة لا يَظلمُون ولا يُظلَمُون. وهي بهذا المسلك القويم تخالف ما ذهب إليه بعض فقهاء القوانين الوضعية من إسقاط المسئولية عن الأطباء مطلقًا، وذلك بحجة أن قصد الاعتداء منتف في فعل الطبيب بالكلية، ولا يمكن أن يقصده. وإذا انتفى قصد الاعتداء فإنه ينتفي وصف الفعل بالجناية، ومن ثم تنتفي مساءلة الطبيب عن فعله لانتفاء موجبها (¬1). وهذا التصور من بعض فقهاء القوانين الوضعية يعتبر تصورًا خاطئًا، ذلك لأنه لا خلاف في أن قصد الجناية يعتبر أحد شقي القصد المفترضين في الأعمال المبنية على المقاصد الباعثة على فعلها. فكل من قام بعمل له قصد باعث على فعله، ولا يخلو ذلك القصد إما أن يكون حسنًا، أو يكون سيئًا وهذا الافتراض لا دليل على انتفاء أحد شقية -وهو القصد السيء- في الطبيب ومساعديه كما لا دليل على انتفاء -القصد الحسن- فيهم، فوجب إبقاء الفرض كما هو، والعمل بالدلائل والأمارات الظاهرة الموجبة لترجيح أحد القصدين على الآخر. وهذا هو ما راعته الشريعة الإسلامية، فإن الأطباء ومساعديهم ¬

_ (¬1) هذا المذهب أخذ به بعض فقهاء القوانين الوضعية من الألمان، ومنهم ستوس حيث نفوا عن عمل الطبيب صفة الاعتداء لانتفاء قصده له بالكلية، وقد نقل ذلك مترجمًا عن بعض المصادر الأجنبية. انظر: المسئولية الطبية في قانون العقوبات د. فائق الجوهري ص 97، المسئولية الجنائية للأطباء د. أسامة عبد الله قايد ص 111، المسئولية الطبية المدنية الجزائية بسام محتسب بالله ص 340.

بشر يعتريهم ما يعتري البشر وليس بمستحيل لا عقلاً ولا حسًا أن يتعرضوا للمغريات والدوافع السيئة التي توجب صرفهم عن المقاصد الحسنة إلى ضدها. وعلى هذا فإن إلغاء قصد الجناية عند الأطباء ومساعديهم يعتبر ضربًا من المكابرة فيما ثبت اعتباره عقلاً وحسًا أن يتعرضوا للمغريات والدوافع السيئة التي توجب صرفهم عن المقاصد الحسنة إلى ضدها. وعلى هذا فان إلغاء قصد الجناية عند الأطباء ومساعديهم يعتبر ضربًا من المكابرة فيما ثبت اعتباره عقلاً وحسًا، وإذا ثبت وجود القصد السيء عند الأطباء ومساعديهم ثبتت المسئولية الجنائية لثبوت موجبها (¬1)، ووجبت محاسبة الطبيب ومساعديه على تلك التصرفات الآثمة ومؤاخذتهم عليها بحسب جرمهم وخطيئتهم. * * * ¬

_ (¬1) يسلم فقهاء القانون الوضعي بترتب المسئولية على وجود القصد الجنائي "للاعتداء" ومرادهم بالقصد الجنائي في الجرائم: "هو ارتكاب الجاني فعل الضرب والجرح عن إرادة عالمًا بأن هذا الفعل يترتب عليه المساس بسلامة الجسد لشخص آخر أو صحته". وعلى هذا فإنه يتركب عندهم من وجود أمرين: أحدهما: العلم بما يترتب على الجريمة من آثار سيئة في الجسد والصحة. الثاني: الإرادة. انظر: المسئولية الجنائية للأطباء د. أسامة عبد الله قايد ص 119، 120، المسئولية الطبية في قانون العقوبات. د. الجوهري ص 95، 96.

المبحث الثاني في (المسئولية الأخلاقية في الجراحة الطبية)

المبحث الثاني في (المسئولية الأخلاقية في الجراحة الطبية) اعتنت الشريعة الإسلامية بجانب الآداب والأخلاق، فجاءت نصوص الكتاب والسنة داعية للتحلي بها، والتزامها، ووعدت من فعل ذلك بالأجر والثواب الجزيل، كما أنها حذرت من مخالفتها، والتخلق برذائلها المحرمة، وتوعدت من فعل ذلك بأليم العذاب، وشديد العقاب (¬1). كل ذلك لما يترتب على الالتزام بهذه الأخلاق والآداب المحمودة من العواقب الحميدة، وما تتضمنه من المصالح الجليلة التي لا يقتصر خيرها، ونفعها على الفرد وحده بل يتعداه إلى غيره من سائر أفراد المجتمع. كما أن ترك هذه الأخلاق، والتخلق بضدها من الأخلاق والآداب المذمومة يتضمن العواقب السيئة والمفاسد العظيمة التي لا يقتصر ¬

_ (¬1) يشهد لذلك آيات منها قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} التوبة (9) آية 119. وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} المائدة (5) آية 1. وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} ... الآيتين) الحجرات (49) آية 11، 12. وفي الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن خياركم أحاسنكم أخلاقاً" رواه البخاري في صحيحه 4/ 56، وفي الصحيح أيضًا من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "إياك والعنف والفحش" رواه البخاري في صحيحه 4/ 55، وفي رواية له: "إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه ْالناس اتقاء شره". والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.

ضررها على الفرد وحده بل يتعداه إلى غيره من سائر أفراد المجتمع. وبهذه العناية هذبت الشريعة الإسلامية سلوك المؤمن، وزكت نفسه، وطهرت فؤاده، وتصرفاته من رذائل الأخلاق وسيئها، فجعلته وفيًا بوعده وعهده، صادقًا في قوله، أمينًا في معاملته. فبريء من خلف الوعد، ونقض العهد، ونكث المواثيق، وابتعد عن الكذب والغش والتزوير وغيرها من الأخلاق الرذيلة. والجراحة الطبية كغيرها من مهام الطب مفتقرة إلى هذه الشخصية المحافظة على هذه الآداب والأخلاق الحميدة التي تعين على الوصول للأهداف المقصودة من مهمة الجراحة، لكن النفوس الدنيئة قد جبلت على مخالفة هذه الأخلاق، ونبذ هذه الآداب، والإعراض عنها في سبيل الحصول على الحظوظ والشهوات الدنيوية الزائلة. فاستغلت بذلك هذه المهنة النبيلة التي قصد منها تخفيف الآلام، ودفع ضرر الأمراض والأسقام عن الأرواح والأجسام، لكي تصبح على العكس من ذلك، فتسلطت بالضرر على الأجساد والأرواح المحرمة بغير حق. فتارة تجد الطبيب من هذا الصنف يدعي أن المريض مصاب بداء جراحي، ويصر على وجوب إجراء الجراحة فورًا بحجة أن حياة المريض مهددة بالخطر. ويستعين في إثبات دعواه الكاذبة بمساعديه الذين يقومون بتزوير النتائج التي توصلوا إليها من خلال التحاليل، والتصوير بالأشعة والمناظير الطبية. وتارة تجد الطبيب من هذا الصنف يقوم بفحص المريض ويتبين له

أن المريض مصاب بداء جراحي يستلزم التدخل بالجراحة اللازمة لإنقاذ ذلك المريض من آلام ذلك المرض وخطره الذي يهدد حياته، ومع ذلك يقوم بإعطائه بعض العقاقير والأدوية المهدئة، ويعطيه موعدًا في المستقبل قد يطول زمانه مع علمه بخطورة ذلك المرض وما يترتب على تأخير إجراء الجراحة اللازمة له من متاعب وأضرار جسدية ونفسية تؤذي المريض مستقبلاً. فيمتنع في هذه الحالة من المبادرة بفعل الجراحة لأمور لا تعتبر عذرًا، ولو فرض أنها تعتبر عذرًا فإنه كان بإمكانه أن يقوم بإحالة المريض على غيره من الأطباء الآخرين، ولكنه امتنع من ذلك رجاء الكسب المادي المترتب على قيامه بفعل تلك الجراحة دون نظر إلى مصلحة المريض. وقد يقوم بعض هؤلاء بوعد المريض حتى إذا جاءه في الزمان المحدد اعتذر عن موعده، وقدم غيره لمكان الكسب المادي أو المعنوي المتعلق بتقديم هذا المريض المتأخر على ذلك المريض السابق له. ومن هنا نشأت المسئولية الأخلاقية المتعلقة بالجراحة وإن كانت في الحقيقة ثابتة في شرعنا وديننا الحنيف الذي أرسى قواعدها منذ قرون سبقت وجود الجراحة الطبية المعاصرة بحقبة بعيدة من الزمن. ونظرًا لوجود هذه القضايا الأخلاقية وأمثالها، وانتشارها في هذا الزمان الذي ضعف فيه وازع الدين، وقوي سلطان الشهوات الدنيوية على النفوس، وجب النظر في هذه التصرفات الناشئة عن السلوك الشاذ عن المنهج السوي الذي أوجب الله التزامه، وأمر بالأخذ على أيدي المعتدين لحدوده والخارجين عن رسمه وقيوده، خاصة في مثل هذه

الأخلاق والآداب الواجبة على الأطباء ومساعديهم في الجراحة الطبية:

المهمات التي تهدد أرواح العباد البريئة وأجسادهم بالهلاك والتلف. ولكي تتضح الصورة عن موقف الشريعة الإسلامية من هذه القضايا الأخلاقية لابد من بيان جملة من الآداب والأخلاق التي يجب على الطبيب ومساعديه التزامها حتى يتسنى بعد ذلك موجبات المسئولية الأخلاقية المترتبة على الإخلال بتلك الواجبات، وما هي الآثار المترتبة على وجودها. الأخلاق والآداب الواجبة على الأطباء ومساعديهم في الجراحة الطبية: على الأطباء ومساعديهم آداب ينبغي لهم مراعاتها شرعًا وهي تنحصر فيما يلي: أولاً الصدق: فلا يمكن للأطباء ومساعديهم أن تستقيم معاملتهم للمرضى وذويهم إلا بعد مراعاة هذا الواجب والتزامه، فتكون أقوالهم وأخبارهم متفقة مع الحقيقة والواقع، ومن ثم تحمل الثقة والطمأنينة إليهم، وتندفع الشكوك والظنون السيئة عنهم، ويكون المريض وذووه على علم مطابق للواقع. وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على وجوب التزام المسلم بالصدق، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬1)، فهذا أمر فيه دليل ظاهر على وجوب الصدق، بل ورد ¬

_ (¬1) سورة التوبة (9) آية 119.

ما يؤكده من الوعيد الشديد لمن خالفه، فلم يصدق في قوله. ففي الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا" (¬1). فقد تضمن هذا الحديث وجوب الصدق، وذلك في قوله عليكم بالصدق، كما دل على حرمة الكذب، وذلك في قوله وإياكم والكذب فعليكم صيغة إلزام، وإياكم صيغة تحذير والأولى دالة على وجوب التزام الصدق، والثانية دالة على حرمة الكذب. وهذه النصوص تشمل بعمومها الأطباء والمساعدين فهم ملزمون شرعًا بالصدق فيما يقولونه ويخبرون به من أحوال المريض ومرضه. فيحرم عليهم أن يخبروا بما يخالف الحقيقة والواقع، ويعتبر كل واحد منهم مسئولاً عن جميع الأقوال الصادرة عنهم، ومتحملاً للأضرار المترتبة عليها إذا كذب فيها وترتب على كذبه ضرر. وقد نصت قوانين الطب المنظمة لسلوك الأطباء ومساعديهم على أنه لا يجوز للطبيب أن يبالغ في حقيقة المرض، بل يجب عليه أن يحيط مريضه بحقيقة دائه ودرجة خطورته (¬2). ¬

_ (¬1) رواه مسلم 4/ 196. (¬2) سلوكيات وآداب وقوانين مزاولة مهنة الطب. مصطفى عبد اللطيف وهانيء أحمد جمال الدين ص 11.

وهذا يتفق مع ما اعتبرته الشريعة الإسلامية من وجوب التزام الأطباء، ومساعديهم بالصدق كما سبق بيانه. وإذا قلنا بوجوب التزام الأطباء ومساعديهم بالصدق في جميع ما يخبرون به المرضى وذويهم فإنه يرد السؤال عن الحالات الخطيرة التي يخشى فيها على المريض لو أخبر بأنه مصاب بمرض جراحي مميت، فلو قام الطبيب بفحص المريض فوجده مصابًا بمرض السرطان فهل يجب عليه أن يصدقه فيخبره بالواقع مع أن ذلك قد يضر المريض نفسيًا، فتزداد حالته سوءًا، أم أنه يجوز له أن يكذب، مراعاة لهذه الظروف الحرجة، ويعتبر ذلك مستثنى من الأصل لمكان الحاجة؟. فالذي يظهر، والعلم عند الله، أنه لا يجوز للأطباء ومساعديهم أن يكذبوا على المريض في هذه الحالة وأمثالها وذلك لما يأتي: أولاً: لعموم الأدلة الدالة على تحريم الكذب. ثانيًا: إن أخبر المريض بحقيقة أمره في هذه الحالة تترتب عليه مصالح شرعية، إذ يمكنه ذلك من الاحتياط لنفسه بالوصية بحقوق الآخرين، وتحصيل الأجر بالاستعداد بخصال الخير من ذكر وصدقه ونحو ذلك من وجوه الطاعة والبر. وفي الكذب عليه وخديعته ما يفوت هذه المصالح، ويوجب ضدها من المفاسد التي قد تشتمل على إضاعة حقوق الآخرين وذلك مما لا يجوز فعله. ثالثًا: أن الطبيب إذا خشى على المريض الضرر فيما لو أخبره، فإنه يقوم بإخبار وليه أو قريبه لكي يقوم بإخبار المريض بطريقة مناسبة

ثانيا الوفاء بالمواعيد:

يخف لها وقع الخبر على نفسه، فقرابة الإنسان هم أعلم الناس بحاله. وبهذا يخف وقع الخبر ومن ثم يخف الضرر المتوقع حصوله أو ينتفي بالكلية، ولو فرض الخوف على المريض في هذه الحالة أيضًا، فإنه يمكن للأولياء والقرابة أن يمتنعوا عن إخباره ثم هم يقومون بعد ذلك بما يجب فعله في مثل هذه الحالات، فيسألونه عن الحقوق التي له وعليه ويرغبونه في الزيادة من خصال البر والخير، وبهذا يندفع الضرر، وتحقق المصالح الشرعية المطلوبة، مع المحافظة على أصل الشرع الموجب للبعد عن الكذب واجتنابه ... والله أعلم. ثانيًا الوفاء بالمواعيد: تتضمن معاملة الأطباء ومساعديهم مع المرض بعض الالتزامات المرتبطة بمواعيد محددة يقوم المرضى بمراجعتهم فيها لإجراء الفحوصات والتحاليل والعلاج اللازم وهذه المواعيد محترمة شرعًا، فيجب عليهم ألا يقدموا على مواعدة المرضى إلا بعد تحققهم أو غلبة ظنهم بالوفاء بها، فقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان" (¬1). وعلى هذا فإن الأطباء والمساعدين ملزمون شرعًا بالوفاء بهذه الوعود، والقيام بالمهمات التي التزموا بها للمرضى في مواعيدها، ولا يجوز لهم شرعًا أن يقدموا على تأخير تلك المواعيد، والعبث بها حسب أهوائهم وهم آثمون بذلك إلا في حال وجود العذر الموجب للتأخير، والتخلف عن أداء هذه الالتزامات. ¬

_ (¬1) رواه مسلم 1/ 36.

فإذا وجد ذلك العذر الذي يعتبر شرعًا مجيزًا للتخلف عن أداء هذه الالتزامات في المواعيد المحددة جاز تأخيرها بحسب الحاجة دون زيادة عليها أو نقص للقاعدة الشرعية "ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها" (¬1). ومن أمثلة ذلك ما يجرى في بعض الأحيان من مواعدة المرضى لإجراء الفحص أو العلاج اللازم ثم يشاء الله فتطرأ حالة اضطرارية تحتاج إلى إسعاف عاجل لإنقاذ مريض خشي موته، أو تلف عضو من أعضائه، أو حصول مضاعفات خطيرة تضره مستقبلاً. وانقاذ هذه الحالة يستدعي إرجاء المواعيد السابقة التي وضعت لفحص أو علاج المريض الأول. ففي هذه الحالة ينبغي على الأطباء ومساعديهم أن يقوموا بالموازنة بين الضررين، والنظر في العواقب والمفاسد المترتبة على تأخير كل منهما. فإذا كانت المفاسد المترتبة على تأخير الحالة الطارئة أعظم قدم إنقاذها على الحالة السابقة (¬2) للقاعدة الشرعية "إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما" (¬3)، ولكن ينبغي أن يقيد ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 84، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 86. (¬2) يختص الحكم بتقديم الحالة الطارئة على الحالة السابقة بهذه الحالة وهي أن يكون الضرر المترتب على تأخيرها أعظم من الضرر المترتب على تأخير الحالة السابقة، أما لو كان الحال بالعكس فإنه ينبغي على الطبيب البقاء على موعده، وهكذا لو تساوى الضرران لأنهما إذا تساويا في الضرر كان للحالة السابقة حق زائد وهو الموعد المسبق فوجب تقديمها لاشتمال ذلك التقديم على أمرين إحداهما: دفع الضرر المذكور. والثاني: الوفاء بالوعد. وأما الحالة الطارئة فليس لها إلا حق دفع الضرر الذي لا يقوى على معارضة الأمرين مضار. (¬3) الأشباه والنظائر للسيوطي 87، والأشباه والنظائر لابن نجيم 89.

ثالثا الوفاء بالعقود:

الحكم بالجواز في هذه الحالة بشرط وهو عدم وجود طبيب، أو محلل، أو مصور آخر يمكنه أن يقوم بالمهمة اللازمة، فإن وجد ذلك لم يجز للطبيب أن يلغي وعد المريض الأول لوجود البديل الذي يمكن صرف المريض الطاريء إليه لكي يقوم بالمهمة اللازمة لعلاجه. وإذا احتاج الأطباء ومساعدوهم إلى إلغاء مواعيد المرضى أو تأخير، نظرًا لوجود العذر الشرعي الموجب لذلك، فإنه ينبغي عليهم أن يقوموا بإخبار المرضى والاتصال بهم إن أمكنهم ذلك، لأن إبقاءهم على حالة الرجاء فيه إضرار بهم من جهة تحملهم لمشقة الحضور، وتعطيلهم لمصالحهم فوجب إعلامهم لكي يحتاطوا لأنفسهم. ثالثًا الوفاء بالعقود: يقوم الأطباء ومساعدوهم في بعض الأحيان بالتعاقد مع المرضى للقيام بالمهمات الطبية اللازمة لعلاجهم، وهذه العقود يجب عليهم الوفاء بها، وأداؤها على الوجه المطلوب لأنها داخلة في عموم ما أمر الله تبارك وتعالى بالوفاء به من العقود في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (¬1). وإذا امتنع الطبيب أو مساعدوه من الوفاء بهذه العقود بدون وجود عذر شرعي فإنهم يأثمون شرعًا كما أنهم يتحملون المسئولية عن الأضرار الناتجة عن امتناعهم خاصة في الحالات التي يتعذر فيها إحالة المريض على غيرهم، إما لعدم وجوده، أو صعوبة قيامه بالمهمة اللازمة في حينها. ¬

_ (¬1) سورة المائدة (5) آية 1.

وقد ذهب البعض إلى أن الطبيب إذا اتفق مع المريض ثم امتنع عن معالجته حتى مات فإنه يعتبر قاتلاً متعمدًا إذا كان امتناعه على وجه العمد، أو لأسباب واهية ويثبت القصد في الامتناع (¬1). وهذا القول ليس بمسلم على إطلاقه من الناحية الشرعية، فامتناع الطبيب عن المداواة إذا كان لأسباب واهية فإنه يعتبر وجودها شبهة موجبة لدرء الحد (¬2) عنه خاصة إذا تأول فيها، فظن أنها مقنعة في نظره، وفي الحقيقة أنها ليست بمقنعة، وبظنه لكونها مقنعة ينتفي فيه قصد العمد. وأما إذا امتنع مع علمه بحصول الضرر فلا يخلو إما أن لا يغلب على ظنه موت المريض، وإما أن يغلب على ظنه موته. فإن لم يغلب على ظنه موت المريض فلا إشكال في أنه يعتبر ظنه شبهة مسقطة للحد أيضًا، والقصد لموته منتف على هذا الوجه فانتفى الحكم بوجوب قتله واعتباره متعمدًا. وأما إذا غلب على ظنه موت المريض فلا تخلو الجراحة التي امتنع عن فعلها من حالتين: الحالة الأولى: أن يغلب على ظنه عدم نجاة المريض بعدها، إما لاستفحال المرض واليأس من شفائه منه، أو غير ذلك من الأعذار، ففي هذه الحالة يعتبر المريض في حكم الأموات، والامتناع المذكور ليس فيه ¬

_ (¬1) السلوك المهني للأطباء د. التكريتي ص 151. (¬2) أجمع أهل العلم -رحمهم الله- على درء الحدود بالشبهات. انظر الإجماع لابن المنذر 69.

رابعا النصيحة للمرضى:

توقف عن بذل السبب الموجب لنجاته بإذن الله تعالى، فانتفى فيه وصف السببية الموجب للحكم بوصف الطبيب قاتلاً. والحالة الثانية: أن يغلب على ظن الطبيب نجاة المريض بتلك الجراحة بمشيئة الله تعالى ويكون قاصدًا بامتناعه موت المريض وهلاكه، وهذه الحالة لها حكمها كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه في موضعه. فالحاصل أن إطلاق الحكم باعتبار الطبيب قاتلاً في هذه الحالة أمر مرفوض من الناحية الشرعية وأن الواجب تفصيل الحكم في هذه المسألة ... والله تعالى أعلم. رابعًا النصيحة للمرضى: تعتبر النصيحة للمرضى من أهم الواجبات التي ينبغي على الأطباء ومساعديهم مراعاتها والقيام بها على الوجه المطلوب. فمن حقوق المسلم على أخيه المسلم أن ينصح له فيرشده إلى أصلح الأمور وخير حاله في الدنيا والآخرة، ففي حديث تميم الداري -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال.: "الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم" (¬1). وثبت في الصحيحين من حديث جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- أنه قال: "بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه مسلم في صحيحه 1/ 34، والبخاري تعليقًا صحيح البخاري 1/ 20. (¬2) رواه البخاري في صحيحه 1/ 20، 21، ومسلم 1/ 34.

فالواجب على الأطباء ومساعديهم القيام بواجب النصح للمرضى، فيشيروا عليهم باختيار الأصلح، والأخف ضررًا سواء كان ذلك في مهمة الفحص الطبي أو كان في مهمة الجراحة نفسها. فالمرضى كما هو معلوم يجهلون حقائق هذه المهمات الطبية، والآثار المترتبة عليها، فهم محتاجون لنصح الأطباء ومساعديهم وتوجيهاتهم وإرشاداتهم. وعلى الأطباء ومساعديهم بذل النصح ولو كان في سبيل فوات المصلحة الدنيوية عليهم، فما عند الله خير وأبقى، فإذا علم أن فحص المريض بوسائل أخرى لا توجد عنده وهي موجودة عند غيره تتحقق بها المصلحة المرجوة بخلاف فحصه، فإن عليه أن يمحض المريض النصح فيخبره بحقيقة الأمر، وهكذا لو كانت تلك الوسائل مأمونة الضرر ووسائله بخلافها. وإذا علم الطبيب بالبديل الذي يمكن علاج المريض به وهو أخف ضررًا من الجراحة فإن عليه أن يخبر المريض بذلك، ولا يمتنع من نصحه خشية فوات مصلحته الدنيوية. وعلى الأطباء ومساعديهم أن ينصحوا لمرضاهم ببيان العواقب السيئة المترتبة على بعض المهمات التي يطلب المرضى فعلها حتى يكون المرضى على بينة من أمرهم فإن شاءوا أقدموا، وإن شاءوا أحجموا، ومما يعتبر من الغش، ومخالفة النصح الواجب أن يقوم الطبيب بخدع المريض وذلك بتهوين أمر الجراحة وتكاليفها بأسلوب يجذب المريض إلى فعلها مع اشتمالها على كثير من المخاطر والتكاليف المالية الباهظة. فقيام الأطباء أو مساعديهم بفعل ذلك يعتبر تقصيرًا منهم في واجب النصح، وظلمًا للمرضى وهم آثمون بفعله شرعًا، ومتحملون

خامسا حفظ عورة المريض:

للمسئولية من الناحية الأدبية. خامسًا حفظ عورة المريض: دلت الأدلة الشرعية على وجوب حفظ العورات وستر السوءات، وعدم النظر إليها بدون حاجة داعية إلى النظر. قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} الآية) (¬1). وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة" (¬2). وقد أجمع أهل العلم -رحمهم الله- على وجوب ستر العورة عن أعين الناس (¬3). ومن ثم فإن الأطباء ومساعديهم مطالبون شرعًا بالتزام هذا الأدب ومراعاة حرمة العورة، فلا يجوز لهم أن يقوموا بمطالبة المرضى رجالاً كانوا أو نساء بالكشف عن موضع من العورة إلا بعد أن توجد الحاجة الداعية إلى ذلك الكشف بحيث يتعذر الفحص، والعلاج بطريقة لا ¬

_ (¬1) سورة النور (24) آية 29، 30. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي 69.

موجبات المسئولية الأدبية

تشتمل عليه، كل ذلك مراعاة لهذا الأدب الواجب شرعًا. فإن أخلوا بهذا الواجب وطالبوا المريض بالكشف عن موضع من العورة أمكن فحصه، ومداواته بطريقة أو وسيلة لا تشتمل على كشفه، أو طالبوه بالكشف بدون وجود حاجة داعية إليه أصلاً، فإنهم يتحملون المسئولية عن الإخلال بهذا الأدب، والإقدام على انتهاك حرمة المريض باستباحة النظر إلى عورته وكشفها بدون حق وكان للقاضي أن يحكم بتعزيرهم بما يستحقونه من العقوبة. فهذه هي مجمل الآداب الشرعية التي ينبغي على الأطباء ومساعديهم التزامها أثناء قيامهم بالمهمات الطبية في الجراحة وغيرها. ومن خلالها يمكن أن نستخلص موجبات المسئولية الأدبية، وذلك باعتبار الأوصاف المخالفة لهذه الواجبات وهي تتلخص في الموجبات الخمس التالية: الموجب الأول: الكذب. الموجب الثاني: عدم الوفاء بالمواعيد (خلف الوعد). الموجب الثالث: عدم الوفاء بالعقود. الموجب الرابع: الغش. الموجب الخامس: كشف العورات والنظر إليها بدون حاجة. فإذا وجد شيء من هذه الموجبات تحمل الشخص المسئولية عنه وعن الأضرار المترتبة عليه نظرًا لكونه متعاطيًا لسبب الضرر الموجب لوقوعه ... والله أعلم. * * *

المبحث الثالث في (المسئولية المهنية عن الجراحة الطبية)

المبحث الثالث في (المسئولية المهنية عن الجراحة الطبية) تمهيد يشتمل هذا المبحث على أربعة مطالب: المطلب الأول: في موجبات المسئولية المهنية. المطلب الثاني: في إثبات موجبات المسئولية المهنية. المطلب الثالث: في الجهة المسئولة عن الموجب. المطلب الرابع: في الآثار المترتبة على ثبوت الموجبات.

المطلب الأول في (موجبات المسئولية المهنية)

المطلب الأول في (موجبات المسئولية المهنية) المراد بموجبات المسئولية المهنية الأسباب التي تترتب عليها مساءلة الطبيب ومساعديه من جهة المهمات التي قاموا بها. وهذه الموجبات منها ما هو ناشيء على وجه الخطأ، ومنها ما هو ناشيء على وجه الإهمال والتقصير وعدم الالتزام بالحدود التي ينبغي التزامها في المهمات المتعلقة بالجراحة، ومنها ما هو ناشيء عن الجهل بالمهمة، ومنها ما هو ناشيء عن الإضرار وقصد الإيذاء. ونظرًا لاختلاف هذه الموجبات رأيت من المناسب تقسيم الكلام عنها في هذا المطلب إلى المقاصد الأربعة التالية: المقصد الأول: عدم اتباع الأصول العلمية. المقصد الثاني: الخطأ. المقصد الثالث: الجهل. المقصد الرابع: الاعتداء.

المقصد الأول عدم اتباع الأصول العلمية

المقصد الأول عدم اتباع الأصول العلمية للجراحة الطبية أصول علمية، وضعها العلماء المختصون، وهي في جملتها تحدد الطريق الذي ينبغي على الأطباء ومساعديهم سلوكه، والتقيد به أثناء قيامهم بمهماتهم المتعلقة بالجراحة. والخروج عن هذه الأصول العلمية، وعدم اتباعها أمر خطير يعرض حياة المرضى للهلاك المحقق في كثير من الحالات خاصة أثناء العمل الجراحي. فالمسئولية عن اتباع هذه الأصول والتقيد بهذه الضوابط مسئولية جسيمة، والخروج عنها أمر يثير الجدل المستفيض عن أسباب ذلك الخروج ودواعيه، وموقف أهل الخبرة من الأطباء وغيرهم من تلك الأسباب من حيث اعتبارهم لها وعدم اعتبارهم لها، ثم بعد ذلك موقف الشريعة الإسلامية من هذا الخروج والآثار المترتبة عليه. لذلك فإن هذه القضية تعتبر من أهم القضايا الطبية التي يعاني منها القضاة في العصر الحاضر، نظرًا لاختلاف الأطباء في حكمهم، مع عظم الآثار والنتائج السلبية المترتبة على ذلك الخروج المختلف فيه. ومن ثم كان من المناسب التعريف بالأصول العلمية، ثم بيان الأحوال التي يحكم فيها بكون الأطباء ومساعديهم قد خرجوا عن الأصول العلمية، ثم بيان موقف الشريعة الإسلامية من ذلك الخروج.

تعريف الأصول العلمية:

تعريف الأصول العلمية: عرفتها بعض المصادر الطبية بقولها: "هي الأصول الثابتة، والقواعد المتعارف عليها نظريًا، وعمليًا بين الأطباء، والتي يجب أن يُلم بها كل طبيب وقت قيامه بالعمل الطبي" (¬1) اهـ. وبناء على هذا التعريف فإن الأصول العلمية تشمل النوعين التاليين من المعارف الطبية: النوع الأول: العلوم الثابتة التي أقرها علماء الطب قديمًا وحديثًا في فروع الطب ومجالاته المختلفة، ومن أمثلتها المواد العلمية المقررة في الجامعات والمعاهد الطبية. فهذه المواد تعتبر علومًا أقرها أهل الاختصاص والمعرفة، فتطبيقها والسير على طريقتها يعتبر اتباعًا للأصول العلمية، بشرط أن يبقى اعتبارها طبيًا إلى حين تنفيذها (¬2). النوع الثاني: العلوم المستجدة: وهي العلوم والمعارف التي يطرأ اكتشافها، ¬

_ (¬1) نقل هذا التعريف الدكتور أسامة عبد الله قايد عن بعض المصادر الأجنبية. انظر كتابه: المسئولية الجنائية للأطباء160. وعرفها آخرون بقولهم: "هي تلك الأصول الثابتة التي يعترف بها أهل العلم ولا يتسامحون مع من يجهلها أو يتخطاها ممن ينتسب إلى علمهم أو فنهم" اهـ. المصدر السابق 159. (¬2) يعتبر شرط بقائها معتبر إلى حين التنفيذ شرطًا لازمًا للحكم باتباع الطبيب ومساعديه للأصول المعتبرة عند أهل الاختصاص وذلك لأن المواد العلمية الطبية المهجورة لا تهجر في الغالب إلا لوجود البديل الذي هو أخف ضررًا منها، وبطُرُوَّ ذلك البديل يعدل المختصون إلى اتباعه والدعوة إليه نظرًا لعواقبه المحمودة، فإذا عدل الطبيب أو مساعده عن البديل المستجد وآثر القديم المهجور كان خارجًا عن الأصول المتبعة عند أهل الاختصاص من هذا الوجه بشرط علمه بالبديل وقدرته على تطبيقه والعمل به.

فتكون حديثة عند الأطباء، ومن أمثلتها: النظريات والأساليب التي يتوصل إليها الباحثون المختصون من خلال بحوثهم ودراساتهم. فهذه العلوم وإن كانت طارئة على الساحة الطبية إلا أنها تعتبر أصولاً علمية متى تحقق فيها الشرطان التاليان: الشرط الأول: أن تكون صادرة من جهة معتبرة مثل المدارس الطبية المختصة بالأبحاث والدراسات الطبية. الشرط الثاني: أن يشهد أهل الخبرة بكفاءتها وصلاحيتها للتطبيق (¬1). فإذا أثبت الطبيب المتهم بالخروج عن الأصول العلمية لاتباعه لنظرية حديثة وجود هذين الشرطين، حكم القاضي بسقوط الدعوى الموجهة ضده بذلك، ويعتبر صدورها من هذه الجهات وشهادة أهل الخبرة بصلاحيتها كافيًا في تبرئته ما دام أنه لم يعثر على خلل فني يوجب رد تلك النظرية وسقوطها. وقد ذهبت بعض القوانين الوضعية إلى اعتبار شرط ثالث وهو "إجراء التسجيل العلمي للإسلوب، أو الطريقة العلاجية قبل استخدامها ¬

_ (¬1) هذان الشرطان أشار إليهما الدكتور أسامة عبد الله قايد، ولا مانع من اعتبارهما من الناحية الشرعية لاتفاقهما مع الأصل الذي قرره الفقهاء -رحمهم الله- من اعتبار سير الطبيب وفق الأصول المعروفة عند أهل العلم بصنعته موجبًا لسقوط المسئولية عنه، فالنظرية إذا تحقق فيها هذان الشرطان صدق الوصف المذكور عليها وكان الطبيب متبعًا في تطبيقها لما سار عليه أهل العلم بصنعته. انظر المسئولية الجنائية للأطباء. د. أسامة عبد الله قايد 160.

على الإنسان" (¬1). وهذا الشرط محل نظر، فإن كان المراد منه أنه لا يحكم القاضي باعتبار النظرية أو الأسلوب من الأصول العلمية إلا بعد إجراء التسجيل العلمي لذلك الأسلوب قبل استخدامه كما يفهم من ظاهر الشرط فهو أمر مردود. وذلك لأن العبرة بصدور النظرية والدراسة من الأهل، وشهادة المختصين بصلاحيتها، فهذان الأمران هما محور القضية من الناحية المهنية العلمية، أما إجراء التسجيل فهو أمر شكلي خارج عن جوهر القضية فلا يتوقف الحكم ببراءة الأطباء. ومساعديهم على وجوده ما دام قد تحقق الشرطان اللذان يثبتان صحة تلك النظرية وصلاحيتها للتطبيق. وأما إن كان المراد بهذا الشرط الأحوال الخاصة التي لها علاقة بجوهر النظرية مثل أن تعتذر الجهات الطبية عن تسجيلها علميًا لظهور خلل فني يوجب ردها، فإنه حينئذ يعتبر شرطا لازمًا، ومن ثم فإنه يحرم شرعًا على الأطباء ومساعديهم اتباع أي نظرية اعتذرت الجهات العلمية عن تسجيلها، والاعتراف بها لأسباب فنية توجب ردها، وإذا قاموا بتطبيق مثل هذه النظريات، والدراسات المردودة، وحدث الضرر المتوقع منها، فإنهم يعتبرون آثمين شرعًا، وللقاضي أن يحكم بخروجهم عن الأصول العلمية المتبعة عند أهل الاختصاص، ومن ثم يلزمهم بضمان ما أتلفوه. والمقصود أن الأصول العلمية ليست منحصرة في المواد، والقواعد الثابتة التي اشتهرت في حقبة معينة من الزمن، بل إنها تشتملها ¬

_ (¬1) المسئولية الجنائية للأطباء. د. أسامة عبد الله قايد 160، 161، نقلاً عن المصادر الأجنبية.

وتشمل غيرها من النظريات والدراسات الجديدة المفيدة التي أقرها أهل الاختصاص والمعرفة. وبناء على ذلك فإنه لا حرج على الأطباء ومساعديهم في أخذهم بالجديد المفيد شريطة أن يثبت اعتباره عند أهل الاختصاص، بل يجب عليهم ذلك خاصة في الحالات التي يكون فيها ذلك الجديد أكثر أمانًا وأخف ضررًا من سابقه، لأن ذلك يتفق مع مقاصد الشريعة الموجبة لحفظ الأنفس (¬1) ودفع الضرر (¬2). ولأهمية ذلك نجد القوانين المنظمة للعمل تنص على وجوب اطلاع الأطباء على أحدث الوسائل المعتبرة للتشخيص، والعلاج بالجراحة (¬3). الأحوال التي يخرج فيها الأطباء، ومساعدوهم عن الأصول العلمية: لكل مهمة من المهمات المتعلقة بالجراحة الطبية جانبان: الأول: علمي نظري. والثاني: عملي تطبيقي. ¬

_ (¬1) الموافقات للشاطبي 2/ 10، المستصفى للغزالي 1/ 271. (¬2) الأشباه والنظائر للسيوطي 83، الأشباه والنظائر لابن نجيم 85. (¬3) ورد في بعض المصادر العربية التى اعتنت ببيان القوانين المنظمة للعمل الطبي ما نصه: "يجب أن يكون الطبيب في أي مجال تخصصى حريصًا على إعطاء أفضل رعاية طبية في إمكانه لمريضه، وآن يكون مطلعًا على أحدث وسائل التشخيص، والعلاج الطبي، والجراحي في نطاق تخصصه" اهـ. سلوكيات وآداب وقوانين مزاولة مهنة الطب، مصطفى عبد اللطيف، هاني أحمد جمال الدين 18, 19.

وبناءً على ذلك فإن الأطباء ومساعديهم إذا خرجوا عن الأصول العلمية أثناء قيامهم بمهامهم، فإنهم إما أن يخرجوا بالكلية وذلك بعدم اتباعهم للأصول العلمية من الناحيتين النظرية والتطبيقية. وإما أن يخرجوا في إحدى الناحيتين إما النظرية، وإما التطبيقية. وعلى هذا فإن خروجهم عن الأصول العلمية ينحصر في الثلاث الحالات التالية: الحالة الأولى أن يخرجوا عن الأصول العلمية من الناحيتين النظرية والتطبيقية: وهذه الحالة أكثر ما تقع في الجراحة التجريبية التي يقوم الطبيب الجراح بإجرائها للمريض مستندًا على اجتهاداته الشخصية دون مراعاة للضوابط والحدود التي ينبغي مراعاتها في أثناء أداء مهمة الجراحة. كما أنه يعتبر مخالفًا للأصول العلمية من الناحية النظرية، لأن هذه الجراحة لم يثبت اعتبارها علميًا من قبل الأطباء المختصين. كما أنه يعتبر مخالفًا للأصول العلمية من الناحية التطبيقية لأن الطريقة الاجتهادية التي سار عليها في عمله لم تستند إلى منهج صحيح معتبر عند الأطباء المختصين. وهذه الحالة تعتبر مخالفة الأطباء والمساعدين فيها للأصول العلمية أشد الحالات الثلاث، نظرًا لجرأتهم واستخفافهم بحرمة الأجساد والأرواح وتعريضها للخطر المحقق. الحالة الثانية أن يخرجوا عن الأصول العلمية من الناحية التطبيقية: وفي هذه الحالة تكون الجراحة معتبرة من الناحية النظرية، ولها

طريقتها المعينة لتطبيقها عند أهل الاختصاص والمعرفة، فيخرج الطبيب عند قيامه بمهمته عن تلك الطريقة أو يجاوز حدودها المعتبرة، مثل أن يشق في موضع غير الموضع الذي ينبغي أن يكون الشق فيه، أو يزيد في مساحة الشق عن القدر المحدد الذي نبه أهل الاختصاص على التزامه. فالمهمة الجراحية المذكورة ثابتة من الناحية النظرية، ولكن الطريقة التي قام الجراح بفعلها مخالفة للأصول العلمية، ومن ثم فإن المخالفة منحصرة في الناحية العملية دون الناحية العلمية. الحالة الثالثة أن يخرجوا عن الأصول العلمية من الناحية النظرية: وفي هذه الحالة يتفق العمل مع القواعد والأصول العلمية، ولكن الجراحة نفسها غير معتبرة من الناحية النظرية عند أهل الاختصاص. ومن أمثلة هذه الحالة الملغاة، وهي الجراحة التي جرى العمل بها حقبة من الزمن ثم ألغيت بسبب وجود البديل عنها، فهذه الجراحة إذا قام الطبيب بفعلها مع علمه بإلغائها وإمكان قيامه بفعل البديل عنها فإنه يعتبر خارجًا عن الأصول العلمية من الناحية النظرية إذا طبق معلومات تلك الجراحة على الوجه المطلوب. فعمله موافق للمنهج الذي سبق إقرار الأطباء واعتبارهم له فهو متفق مع الأصول العلمية من هذا الوجه، إلا أن نظرية الجراحة ملغاة طبيًا فكان التزامها مخالفًا للأصول العلمية، ومن ثم فإن مخالفته تنحصر في الناحية العلمية دون الناحية العملية أي عكس الحالة السابقة.

موقف الشريعة الإسلامية من خروج الأطباء ومساعديهم عن الأصول العلمية:

موقف الشريعة الإسلامية من خروج الأطباء ومساعديهم عن الأصول العلمية: أجازت الشريعة الإسلامية فعل الجراحة الطبية رحمة بالعباد، ودفعًا لضرر الأسقام والأمراض عنهم فأذنت للأطباء، ومساعديهم بفعل الأمور التي تستلزمها الجراحة مع أنها محرمة عليهم في الأصل. كل ذلك طلبًا لتلك المصالح التي يرجى تحققها وحصولها بعد الجراحة، ودفعًا لضرر الأسقام والأمراض الذي يرهق كاهل المرضى ويهدد حياتهم بالخطر. لكن هذا الإذن بفعل الجراحة إنما تعني به الشريعة فعلاً مخصوصًا شهد الأطباء المختصون بكونه الطريق الذي ينبغي التزامه وسلوكه للوصول إلى ما حقق تلك المصالح الجلية، ويدفع تلك المفاسد العظيمة، بناء على الغالب. فإذا خرج الأطباء ومساعدوهم عن ذلك الطريق، فإن أفعالهم ترجع إلى حكم الأصل الموجب لمنعهم من المساس بالجسد على وجه يعرضه للهلاك والتلف. وقد أشار بعض فقهاء الإسلام -رحمهم الله- إلى ذلك حينما حكموا بوجوب الضمان على الخاتن الذي تجاوز في قطعه الحد المعتبر، والقاطع للسلعة الذي تجاوز الموضع، أو قطع في غير زمان القطع أو بآلة كآلة يكثر ألمها، وقاسوه على الجاني المعتمد. قال الإمام ابن قدامة -رحمه الله-: "فأما إن كان حاذقًا وجنت يده مثل أن يتجاوز قطع الختان إلى الحشفة أو إلى بعضها، أو قطع في غير محل القطع، أو يقطع الصلعة من إنسان فيتجاوزها، أو يقطع بآلة كآلة يكثر ألمها، أو في وقت لا يصلح القطع فيه وأشباه هذا ضمن فيه كله، لأنه إتلاف لا يختلف ضمانه بالعمد والخطأ، فأشبه إتلاف

المال، ولأن هذا فعل محرم فيضمن سرايته كالقطع ابتداءً" (¬1) اهـ. فبين -رحمه الله- أن مجاوزة الخاتن والقاطع للحدود المعتبرة للختان، والقطع أمر موجب للضمان، وحكم بحرمته في قوله: "ولأن هذا فعل محرم" فرده إلى الأصل، كما اعتبره بمثابة القطع على وجه الجناية وذلك بقوله: "كالقطع ابتداء". وهذا كله يدل دلالة واضحة على وجوب اعتبار الأصول العلمية والتقيد بها أثناء القيام بمهام الجراحة الطبية، وأن مخالفتها والخروج عنها أمر محرم وموجب للمسئولية، وهو الأمر الذي أكده الإمام الشافعي -رحمه الله- من قبل بقوله: "وإذا أمر الرجل أن يحجمه، أو يختن غلامه، أو يبيطر دابته فتلفوا من فعله، فإن كان فعل ما يفعل مثله مما فيه الصلاح للمفعول به عند أهل العلم بتلك الصناعة فلا ضمان عليه، وإن كان فعل ما لا يفعل مثله من أراد الصلاح وكان عالمًا به فهو ضامن ... " (¬2). فاعتبر -رحمه الله- الأصول العلمية المتبعة عند أهل العلم بمهمة الجراحة فأسقط الضمان بالتزامها وأوجبه بالخروج عنها. وهذا الاعتبار الذي تضمنه كلام هذين الإمامين الجليلين نجده محل اتفاق بين أهل العلم -رحمهم الله-، كما أشار إلى ذلك العلامة ابن القيم -رحمه الله- فقال: "وإن كان الخاتن عارفًا بالصناعة، وختن المولود في الزمن الذي يختن فيه مثله، وأعطى الصناعة حقها، لم يضمن سراية الجرح اتفاقًا" (¬3) اهـ. ومن هذا كله نخلص إلى القول باعتبار الشريعة الإسلامية لخروج الأطباء، ومساعديهم عن الأصول العلمية أمرًا موجبًا للمسئولية المهنية ... والله أعلم. ¬

_ (¬1) المغني والشرح الكبير لابن قدامة 6/ 120، 121. (¬2) الأم للشافعي 6/ 166. (¬3) تحفة المودود لابن القيم 153.

المقصد الثاني في (الخطأ)

المقصد الثاني في (الخطأ) عرف بعض العلماء -رحمهم الله- الخطأ بقوله: "هو ما ليس للإنسان فيه قصد" (¬1)، فانتفاء قصد الشيء من فاعله موجب لوصفه بكونه مخطئًا، وهكذا الحال هنا حيث يوصف الأطباء ومساعدوهم بكونهم مخطئين في حال وقوع ما يوجب الضرر من دون قصده. ومن أمثلته: أن تزلّ يد الطبيب الجراح، أو أخصائي التخدير، أو الممرض أو المصور بالأشعة والمناظير، وينشأ عن ذلك ضرر بجسم المريض. وهذا النوع من الموجبات لا يترتب عليه تأثيم فاعله، قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (¬2). ومن ثم لا تتعلق به مسئولية الآخرة، لكن يُلزم صاحبه بضمان ما نشأ عن خطئه، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى عند الكلام على الآثار. والمقصود هنا الإشارة إلى كونه من الأسباب الموجبة للمسئولية. ¬

_ (¬1) التعريفات للجرجاني 68. (¬2) سورة الأحزاب (33) آية 5.

المقصد الثالث في (الجهل)

المقصد الثالث في (الجهل) والمراد به أن يقدم الإنسان على فعل أي مهمة من المهمات المتعلقة بالجراحة الطبية دون أن يكون أهلاً لفعلها. وبهذا المعنى يشمل الجهل بنوعيه الكلي، والجزئي، لكن لما تقدم في المقصد الأول عند الكلام على الحالات التي يخرج فيها الأطباء عن الأصول بيان خروج الطبيب ومساعديه النظري والعملي انحصر الكلام هنا فيمن يقدم على فعل مهمات الجراحة وهو جاهل بها بالكلية، وهو ما يسميه العلماء -رحمهم الله- بالمتطبب (¬1)، أخذًا من قوله عليه الصلاة والسلام: "من تطبّب ولم يُعرف منه طبٌ قَبْلَ ذَلكَ" (¬2). وهذا النوع من الموجبات يعتبر من أشدها وأعظمها جرمًا بعد موجب العدوان، نظرًا لما يشتمل عليه من الاستخفاف بحرمة الأجساد والأرواح وتعريضها للتلف، وقد اتفق العلماء -رحمهم الله- على اعتباره موجبًا للمسئولية فحكموا بوجوب الضمان فيه، وتأديب الشخص المرتكب له بما يوجب كفه، وزجر غيره عن الإقدام على مثل فعله كما سيأتي إن شاء الله بيانه في المطلب الثاني عند الحديث على الآثار المترتبة على ثبوت الموجبات. والمقصود هنا الإشارة إلى كون الجهل من موجبات المسئولية. ¬

_ (¬1) الطب النبوي لابن القيم 109. (¬2) سبق تخريجه.

المقصد الرابع في (الاعتداء)

المقصد الرابع في (الاعتداء) المراد بهذا الموجب الإقدام على فعل ما يوجب الضرر بالمريض سواء بالجراحة أو بما تستلزمه من مهام، كالفحص، والتخدير، مع قصده. فيقوم الطبيب بإجراء جراحة تضر المريض مع علمه بآثارها السيئة وقصده لها. أو يقوم الطبيب الفاحص بادعاء إصابة المريض بمرض يستلزم التدخل بجراحة إذا أجريت له هلك أو تضرر في جسده مع علمه بتلك العواقب السيئة، وقصده لها. وهكذا المخدر يقوم باختيار نوعية من المواد المخدرة التي لا تتفق مع المريض أو يزيد في جرعة التخدير مع علمه بالنتائج السلبية المترتبة على فعله وقصده لها. فهذه الصور وأمثالها يتحقق بها موجب الاعتداء، وهي صور في الحقيقة يُجلُّ عنها الأطباء ومساعدوهم الذين ندروا حياتهم لخدمة المرضى ورعايتهم. والغالب فيهم السلامة والبعد عن هذا الموجب الذي لا يتخلق به إلا أصحاب النفوس الدنيئة التي لا تخاف الله تعالى، ولا ترعى حدوده ومحارمه، لذلك فإنه قل أن يوجد في الأطباء ومساعديهم من يسعى

للإضرار بالناس على هذا الوجه. ويعتبر هذا النوع أشنع الموجبات نظرًا لما يتضمنه من الاستهتار بحرمة الأجساد والأرواح كما أنه من الصعب إثباته نظرًا لارتباطه بالقصد الباعث على فعل جريمته. والغالب في إثباته أن يكون بدليل الإقرار نظرًا لصعوبة الاطلاع على القصد الموجود في القلب إلا أنه يمكن الاهتداء إليه بواسطة القرائن القوية التي تشير إلى وجود قصده مع دلالة الحال الظاهرة من حصول الضرر بطريقة واضحة. ومن أمثلة تلك القرائن: أن تقع الخصومة والمنازعة بين الشخص المتهم، والمريض أو ذويه، أو يثبت بالبينة سبق التهديد من الشخص المتهم ونحو ذلك من القرائن. * * *

المطلب الثاني في (إثبات موجبات المسئولية)

المطلب الثاني في (إثبات موجبات المسئولية) ويشتمل هذا المطلب على المقصدين التاليين: المقصد الأول: في مشروعية إثبات الموجبة تفتقر الدعوى المتضمنة لما يوجب المسئولية إلى وجود الدليل الذي يشهد بصحتها، وثبوتها، وهذا مبني على الأصل الذي قررته الشريعة الإسلامية من أن الدعاوي لا تقبل مجردة عن الأدلة التي تثبتها. قال تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬1). وفي الصحيح من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو يُعْطى الناس بدعواهم لادّعى ناسٌ دماءَ رجالٍ، وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه" (¬2). وفي رواية للبيهقي وغيره: "ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر" (¬3). فدلت هذه النصوص على أن الدعوى لا تقبل مجردة عن الدليل الذي يشهد بصحتها، وأن صاحبها مطالب بإقامته لكي يحكم ¬

_ (¬1) سورة النمل (27) آية 64. (¬2) رواه مسلم 3/ 119. (¬3) السنن الكبرى للبيهقي 1/ 253.

باعتبارها، وعلى ذلك أجمع أهل العلم -رحمهم الله- (¬1). وبناءً على هذا الأصل فإن المرضى وذويهم إذا دعوا ما يوجب مسئولية الأطباء ومساعديهم فإنهم مطالبون بإقامة الدليل الذي يثبت صحة دعواهم إذا أنكر الأطباء ومساعدوهم تلك الدعوى. ولاشك في أن اعتبار الشريعة الإسلامية للبينة في الدعاوى عمومًا، وفي مسئولية الأطباء خصوصًا فيه دليل واضح على عدلها، وسمو منهجها التشريعي. ذلك لأنها لم تحكم باعتبار دعوى المرضى ضد الأطباء ومساعديهم على وجه الإطلاق -أي مجردة عن الدليل الذي يوجب ثبوتها-، لما في ذلك من ظلم للأطباء ومساعديهم، الأمر الذي قد يدعوهم إلى ترك مهنهم خوفًا من المسئولية، فتتعرض أرواح الناس وأجسادهم بذلك للهلاك والتلف. كذلك أيضًا لم تحكم برد دعوى المرضى ضد الأطباء ومساعديهم على وجه الإطلاق -أي مع وجود الدليل الذي يشهد بثبوتها- لما في ذلك من ظلم للمرضى وذويهم فتضيع حقوقهم المشروعة وإضافة إلى ذلك فإن فيه تجرئة المعتدين من الأطباء والمساعدين على اعتدائهم وتقصيرهم وذلك أيضًا موجب الضرر بأرواح الناس وأجسادهم. لم تحكم الشريعة الغراء بهذا ولا بذاك، ولكنها حكمت بالقصد والعدل الذي يوجب إيصال الحقوق المشروعة لأهلها، كما يوجب سير مهام الجراحة في طريقها المستقيم وبذلك حفظت للناس أرواحهم وحقوقهم من الهلاك والضياع. ¬

_ (¬1) قال الإمام ابن المنذر -رحمه الله-: وأجمعوا على أن البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه. اهـ. الإجماع لابن المنذر 29.

المقصد الثاني في (أدلة الإثبات)

المقصد الثاني في (أدلة الإثبات) يعتمد القاضي في إثبات موجب المسئولية المهنية على الأدلة المعتبرة شرعًا في إثبات الحقوق وهي: 1 - الإقرار. 2 - الشهادة. 3 - المستندات الخطية. 1 - فأما الإقرار: فإنه يعتبر أقوى هذه الأدلة نظرًا لكونه شهادة من الإنسان على نفسه وهو أعلم بها من غيره، والغالب فيه أنه لا يشهد على نفسه بما يوجب الضرر بها إلا وهو صادق في شهادته، ويعتبر القاضي في إقرار الطبيب ما ينبغي اعتباره من توفر شروط أهلية المقر، فلا يقبل إقراره في حال سكر أو جنون أو إكراه ونحوها من الحالات التي لم تتوفر فيها الشروط المعتبرة لقبول الإقرار (¬1). 2 - وأما الشهادة: فإنها تكون برجلين عدلين إذا ترتب على الحكم بها إثبات القصاص والتعزير (¬2)، أما إذا كان المترتب عليه من الحقوق المالية ¬

_ (¬1) انظر شروط صحة الإقرار في المصادر التالية: مجمع الأنهر لداماد أفندي 2/ 229، جواهر الإكليل للأبي 2/ 132، 133، المهذب للشيرازي 2/ 243، 344، المبدع لابن مفلح 1/ 294 - 297. (¬2) الإجماع لابن المنذر 31، قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي 337.

كالضمان فإنه يقبل شهادة النسوة منفردات، ومشتركات مع الرجال بناء على الأصل الموجب لقبول شهادتين بالأموال وما يرجع إليها (¬1). ويتخرج على القول بقبول شهادة النساء منفردات، قبول شهادة الممرضات بما يوجب الحقوق غير المالية إذا كان الموجب واقعًا في موضع يتعذر اطلاع الغير عليه، كما هو الحال في أثناء العمل الجراحي. فإذا شهدت الممرضات منفردات أو مع الرجال بما يوجب ثبوت حق لا تقبل فيه شهادتهن فإنه يسوغ للقاضي قبول شهادتهن على هذا الوجه لمكان الضرورة. وينبغي على القاضي أن يراعي في الشاهد ما ينبغي مراعاته من الشروط المعتبرة لقبول الشهادة (¬2) خاصة فيما يرجع إلى شرط انتفاء التهمة، فقد يشهد الممرضون والممرضات على الطبيب الجراح، أو على أخصائي التخدير بأمر يتضمن إثباته دفع الضرر عنهم، وفي هذه الحالة يينبغي رد شهادتهم على الأصل المقرر من عدم اعتبار الشهادة في حال وجود التهمة المؤثرة فيها (¬3). قال الشيخ أحمد الرملي الشافعي -رحمه الله-: "من يطبب ولا ¬

_ (¬1) المصدرين السابقين. (¬2) انظر شروط الشهادة في المصادر التالية: بدائع الصنائع للكاساني 6/ 266، قوانين الأحكلام الشرعية لابن جزي 235، 236، المهذب للشيرازي 2/ 324 شرح منتهى الإرادات للبهوتي 3/ 545. (¬3) المبسوط للسرخسي 16/ 120، 121، جواهر الإكليل للأبي 2/ 237، روضة الطالبين للنووي 11/ 234، شرح منتهى الإرادات للبهوتي 3/ 552، 553. وقد حكى الإجماع على رد الشهادة بالتهمة ابن رشد الحفيد -رحمه الله-. انظر بداية المجتهد 2/ 453،452.

يعرف الطب فتلف شيء ضمن، ويعرف ذلك بقول طبيبين عدلين، غير عدوين له ولا خصمين .. " (¬1) اهـ. فنص -رحمه الله- على اشتراط العدد والعدالة وانتفاء التهمة، كل ذلك لكي تحمل الثقة بقول الشهود ويحكم بتضمين الطبيب بتلك الشهادة العادلة. وينبغي أن يكون الأطباء الذين يعتمد القاضي على شهادتهم من أهل الخبرة والدراية الواسعة التي تمكنهم من إنصاف الأطباء المتهمين، وتوجب حصول الثقة والطمأنينة بصحة حكمهم. وقد أشار الإمام الشافعي -رحمه الله- إلى اعتبار شهادة أهل الخبرة والعلم بصنعة الجراحة وذلك بقوله: "وإذا أمر الرجل أن يحجمه، أو يختن غلامه، أو يبيطر دابته، فتلفوا من فعله، فإن كان فعل ما يفعل مثله مما فيه الصلاح للمفعول به عند أهل العلم بتلك الصناعة فلا ضمان عليه" (¬2) اهـ. فاشترط -رحمه الله- في انتفاء المسئولية عنه أن يكون فعله عند أهل الصنعة والمعرفة فعل صلاح، فدل هذا على اعتباره لشهادتهم وقولهم، لأنه لا يمكن لنا أن نعلم أن فعل الحجامة والختان والبيطرة فعلاً متضمنًا لصلاح المفعول به إلا عن طريق أهل العلم بالصنعة. ¬

_ (¬1) حاشية الرملي مع التجريد للشوبري 2/ 427 بهامش أسنى المطالب. (¬2) الأم للشافعي 5/ 166.

الحالة الثانية: أن تختلف فيشهد بعضهم بكونه فعلاً صحيحًا ويشهد الآخرون بالعكس. فإن اتفقت شهادتهم فلا إشكال في اعتبارها والعمل بها سواء اتفقوا على اعتبار الطبيب خارجًا عن الأصول، أو اتفقوا على اعتباره موافقًا لها. وأما إن اختلفت شهادتهم فلا يخلو الأمر من ثلاثة أضرب: ْالضرب الأول: أن يكتمل نصاب الشهادتين. الضرب الثاني: أن لا يكتمل نصاب الشهادتين. الضرب الثالث: أن يكتمل نصاب إحداهما دون نصاب الآخرى. فإن اكتمل نصاب الشهادتين بأن شهد طبيبان عدلان بكونه موافقًا للرسم المعتبر، وشهد آخران بالعكس فحينئذ يحكم بشهادة المثبتين لموافقته للرسم، وذلك لأن شهادتهما تضمنت إثباتًا وشهادة الآخرين تضمنت نفيًا، والإثبات مقدم على النفي، ثم إن شهادة المثبتين موافقة للأصل الموجب لبراءة الطبيب وشهادة الآخرين مخالفة له، فرجحت شهادة النفي بالأصل، وقد أشار بعض فقهاء الحنفية -رحمهم الله- إلى تقديم شهادة الإثبات بقوله -رحمه الله-: "وفي الخلاصة: الكحال إذا صب الدواء في عين رجل فذهب ضوءه لم يضمن كالختان إلا إذا غلط، فإن قال رجلان: إنه ليس بأهل، وقال رجلان هو أهل لم يضمن" (¬1) اهـ. ¬

_ (¬1) تكملة البحر الرائق للطوري 8/ 33.

3 - وأما المستندات الخطية:

فاعتبر -رحمه الله- الشهادة المتضمنة للأهلية وعبر عن ذلك الاعتبار بقوله: "لم يضمن" لأن إسقاط المسئولية مبني على وجود الأهلية في الجراح. وأما إن لم يكتمل نصاب الشهادتين فإنه تقدم شهادة الإثبات أيضًا لمكان الأصل لترجيحها، ولأن شهادة النفي معارضة بشهادة الإثبات، فسقطت كلتا الشهادتين، وبقي حكم الأصل على ما هو عليه من انتفاء المسئولية. وأما إن اكتمل نصاب إحدى الشهادتين، ولم يكتمل نصاب الأخرى فإنه تقدم الشهادة التي اكتمل نصابها، لأن الأخرى لا تقوى على معارضتها والأصل يزول بشهادة العدلين. وقد أشار إلى ذلك بعض فقهاء الحنفية -رحمهم الله- في تمام المسألة السابقة فقال: "فإن كان في جانب الكحال واحد وفي جانب الآخر اثنان ضمن" (¬1) اهـ. فاعتبر الشهادة الموجبة للتضمين، وأسقط حكم الأصل الموجب لبراءة الطبيب من التهمة بناء على اكتمال نصاب البينة. 3 - وأما المستندات الخطية: فالمراد بها التقارير المكتوبة من قبل الأطباء ومساعديهم، فتعتبر حجة في حال العثور عليها في سجلات المستشفيات، لأن المقصود من تسجيلها وكتابتها الرجوع إليها عند الحاجة. فإن وجد فيها ما يوجب ¬

_ (¬1) تكملة البحر الرائق للطوري 8/ 33.

مؤاخذة الأطباء ومساعديهم فإنها تعتبر مستندًا شرعيًا، ما لم يُقِمْ الأطباء ومساعدوهم الدليل على تزويرها أو العبث في مضمونها، وأما إذا كانت تلك التقارير والمستندات عند المرضى فإنها لا تعتبر حجة إذا أنكرها الأطباء ومساعدوهم، أو ادعوا وجود تزوير وعبث فيها، ويرجع الأمر إلى القاضي في دراسة تلك التقارير والمستندات الطبية التي اختلف فيها، وله الحكم بما أداه اجتهاده من غلبة الظن بصحتها، أو كذبها .... والله تعالى أعلم. * * *

المطلب الثالث في (الجهة المسئولة عن الموجب)

المطلب الثالث في (الجهة المسئولة عن الموجب) تعتبر الجهة المسئولة عن الجراحة الطبية هي الجهة المتحملة عبئها، والآثار المترتبة عليها، وهي المصدر الذي نشأ عنه موجب المسئولية سواء كان ذلك عن طريق المباشرة كما في الطبيب الجراح الذي يقوم بمباشرة العمل الجراحي الخارج عن اختصاصه والذي تسبب في حصول الضرر. أو كان ذلك عن طريق السببية كما في الطبيب الفاحص الذي يقوم بإحالة المريض إلى مصور بالأشعة يعلم عدم أهليته للقيام بمهمة التصوير، ثم ينتج الضرر عن تصويره للمريض. وهذه الجهة المسئولة عن الأضرار، والآثار السيئة التي باشرت أو تسبب في وقوعها تشتمل على طائفتين: الطائفة الأولى: الأطباء، ومساعدوهم. الطائفة الثانية: المستشفيات الحكومية، والأهلية. وبيان حدود مسئولية كلتا الطائفتين يتضح في المقصدين التاليين:

المقصد الأول في (مسئولية الأطباء ومساعديهم)

المقصد الأول في (مسئولية الأطباء ومساعديهم) المسئولية المتعلقة بهذه الطائفة في الغالب تعتبر من المسئولية المباشرة، بمعنى أن الأشخاص المسئولين من هذه الطائفة هم المباشرون لفعل السبب الموجب للمسئولية في أغلب الأحوال. وقد تكون مسئولية جامعة بين السببية، والمباشرة، كما في حال وجود الموجب المشترك الذي يكون فيه الضرر ناشئًا عن مباشرة الفاعل، وتسبب شخص آخر منهم في إحالة المريض مع علمه بعدم أهلية المباشرة، كما في الطبيب الفاحص إذا قام بإحالة المريض إلى مصور بالأشعة يعلم جهله بالمهمة. وتشتمل هذه الطائفة على ما يلي: 1 - الأطباء الذين يقومون بمهمة الفحص الطبي. 2 - أخصائي الأشعة. 3 - أخصائي المختبر. 4 - أخصائي المناظير الطبية. 5 - أخصائي التخدير. 6 - الطبيب الجراح. 7 - الممرضون، والممرضات.

ومسئولية هؤلاء الأشخاص تختلف بحسب اختلاف المراحل التي تتم بها الجراحة والمهمات التي يقومون بأدائها. فمنهم من يعتبر مسئولاً في المراحل الممهدة للعمل الجراحي، ومنهم من يعتبر مسئولاً في مراحل العمل الجراحي، ومنهم من يعتبر مسئولاً في المراحل التي تعقب العمل الجراحي. وبيان حدود مسئولياتهم يتضح في الفروع التالية:

الفرع الأول: في المسئولين عن المراحل الممهدة للعمل الجراحي

الفرع الأول: في المسئولين عن المراحل الممهدة للعمل الجراحي تشتمل المراحل الممهدة للعمل الجراحي على خمس مراحل: المرحلة الأولى: الفحص الطبي العام. المرحلة الثانية: تشخيص المرض الجراحي. المرحلة الثالثة: الإذن بفعل الجراحة. المرحلة الرابعة: الفحص الطبي الخاص بالجراحة. المرحلة الخامسة: التخدير. وبيان حدود المسئولية في هذه المراحل يتضح فيما يلي: أولاً المسئولية عن الفحص الطبي العام: يشتمل الفحص الطبي العام على دراسة الطبيب الفاحص لحال المريض وشكواه، ثم يقوم بعد ذلك بإجراء الفحص السريري، وإذا لزم الأمر قام بطلب إجراء الفحوصات الأخرى التي يستعان بها للوصول إلى معرفة المرض الجراحي. وبناء على ذلك فإن المسئولية في هذه المرحلة تتعلق بالطبيب الفاحص من حيث الأصل، إلا أنها تكون متعلقة به خاصة في حالة مباشرته لفعل الموجب لمسئولية وتكون متعلقة به وبغيره في حال الاشتراك معه في الموجب عن طريق السببية، أو تكون متعلقة بالغير وحده في حال انعدامها، وانفراد ذلك الغير بفعل الموجب.

وعلى هذا فإن المسئولية في هذه المرحلة لا تخلو من ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن تكون متعلقة بالطبيب الفاحص. الحالة الثانية: أن تكون متعلقة بمساعديه. الحالة الثالثة: أن تكون مشتركة بين الطبيب ومساعديه. وبيان هذه الحالات يتضح فيما يلي: الحالة الأولى: أن تكون المسئولية متعلقة بالطبيب الفاحص وحده إذا كان الموجب للمسئولية ناشئًا عن فعل الطبيب الفاحص، فإنه يتحمل المسئولية عنه وحده ولا يتحمل مساعدوه من تلك المسئولية إذا انتفت العلاقة بينهم، وبين ذلك الموجب، وإنما يتحمل الطبيب الفاحص المسئولية وحده لأن الضرر ناشيء عن فعله، وهؤلاء المساعدون له لم يكن لهم أي تأثير في وجود الضرر، وإن كان ظاهر حالهم أنهم مشاركون للطبيب في مهمة الفحص، لكن هذا الوصف لا تأثير له في إيجاب المسئولية عليهم ما دام أن فعل الموجب ناشيء عن الطبيب الفاحص وحده وهم غير مشاركين له لا على وجه السببية ولا على وجه المباشرة في ذلك الفعل. فالشريعة الإسلامية إنما تجهل المسئولية الشخص الفاعل لموجبها، ولا تعتبر الأوصاف التي لا تأثير لها في حقيقة الأمر. وفي التنزيل يقول الحق تبارك وتعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬1)، فقد دلت هذه الآية الكريمة على أن الإنسان يتحمل وزر نفسه، ولا يتحمل غيره شيئًا من وزره ما دام أن ذلك الوزر ناشيء عنه وحده. ¬

_ (¬1) سورة النجم (53) آية 38.

ويقول سبحانه: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬1). فبين سبحانه وتعالى أن لكل كسبه، وأن الإنسان لا يسأل عن كسب غيره واجتراحه، ومن هذا المنطلق تعتبر المسئولية شرعًا متعلقة بالشخص الفاعل لموجبها وحده، ولا يتحمل غيره شيئًا منها بشرط أن لا يكون لذلك الغير تأثير في وقوعها من الشخص الفاعل. ومن أمثلة هذه الحالة التي يحكم فيها بتحمل الطبيب الفاحص وحده للمسئولية الكاملة عن فعله أن يقدم على تشخيص المرض عن طريق الحدس والتخمين مع توفر الوسائل والآلات التي يمكن بواسطتها التأكد من وجود المرض وعدمه. فكل ما ينتج عن تشخيصه على هذا الوجه من أضرار يعتبر الطبيب الفاحص مسئولاً عنه وحده. الحالة الثانية: أن تكون المسئولية متعلقة بالمساعدين: إذا كان الموجب للمسئولية ناشئًا عن فعل الشخص المساعد للطبيب، فإن ذلك المساعد يعتبر متحملاً للمسئولية وحده، ولا يتحمل الطبيب الفاحص، ولا غيره من المساعدين الآخرين شيئًا من هذه المسئولية ما دام أنهم لم يتسببوا في إيجاد ذلك الموجب ووقوعه. فيتحمل المحلل للدم، والبول، والبراز المسئولية كاملة عن أي خطأ يقع في تحليله كما يتحمل المسئولية عن الطريقة التي اختارها وسار عليها للوصول إلى نتائج التحليل التي اعتمدها الطبيب الفاحص. ¬

_ (¬1) سورة البقرة (2) آية 141.

فالخطأ في هذين الموضعين متعلق به وحده دون غيره. وكذلك يتحمل أخصائي الأشعة المسئولية عن طريقة التصوير التي اختارها لتصوير المريض، وكذلك عن مقدار الجرعة الإشعاعية التي أرسلها على جسمه، وما ترتب عليها من أضرار. كما يتحمل المسئولية عن التقارير التى كتبها للطبيب وما تضمنته من نتائج. ويتحمل المصور بالمناظير الطبية المسئولية عن الطريقة التي اتبعها وسار عليا في إدخال المناظير إلى جسم المريض، وما نشأ عنها من أضرار. كما يتحمل المسئولية عن تقاريره التي يكتبها للطبيب. فجميع هؤلاء المساعدين يتحملون المسئولية كاملة عن مهامهم، كل بحسب اختصاصه ومجال عمله، ولا يعتبر الطبيب الفاحص مشاركًا لهم بشرط أن يكونوا أهلاً للقيام بهذه المهمة التي طلب منهم فعلها، وإعطاء التقارير الطبية المتعلقة بها. وإنما تعلقت بهم المسئولية وحدهم على الصفة المذكورة لأن الموجب لها ناشيء عن فعلهم لا عن فعل غيرهم، فهم المتحملون للأضرار المترتبة عليه لا غيرهم ممن لا تأثير له في إيجاد ذلك الموجب. وقد تقدم في الحالة الأولى بيان أصل الشرع في مثل هذه الحالة من كونه يلزم الشخص الفاعل للضرر بعاقبة فعله وجرمه دون غيره ممن لم يتسبب في إيجاد ذلك الفعل الموجب للضرر.

الحالة الثالثة: أن تكون المسئولية مشتركة بين الطبيب ومساعديه. إذا كان الموجب للمسئولية ناشئًا عن فعل المساعد، وللطبيب أثر في ذلك الموجب، فإن المسئولية تكون مشتركة بينهما. فعلى سبيل المثال إذا قام الطبيب الفاحص بإحالة المريض على المصور بالأشعة مع علمه بأن ذلك المصور ليس أهلاً للقيام بمهمة التصوير بالأشعة، أو أحاله على المصور بالمناظير الطبية، وهو يعلم عدم أهلية ذلك المصور للقيام بالمهمة المطلوبة، فتم تصوير المريض بطريقة لا تتفق مع الأصول المتبعة، ونشأ عن ذلك ضرر بالمريض مثل أن يزيد المصور الجرعة الإشعاعية فتؤدي زيادتها إلى تلف في جسمه، أو غيره من الأضرار، أو يقوم المصور بالمناظير بإدخال المناظير الطبية بطريقة لا تتفق مع الأصول المتبعة فأدى ذلك إلى جرح أمعاء المريض أو غير ذلك من الأضرار فإن المسئولية حينئذ تقع على المباشر للتصوير، والطبيب الذي قام بإحالة المريض عليه مع علمه بعدم أهليته. أما إيجاب المسئولية على كل من المصور بالأشعة والمناظير فلا إشكال فيه لكونهما مباشرين لفعل موجب للمسئولية، قد تقدم أن المباشر لفعل الموجب مسئول عما يترتب على فعله من أضرار. وأما إيجابها على الطبيب فذلك مبني على تسببه في إيقاع الموجب، وغلبة الظن بحصوله، إذ من المعلوم بداهة أن الشخص إذا قام بفعل شيء يجهل الطريقة المتبعة لفعله أنه لابد من أن يخطيء فيه غالبًا، إضافة إلى أنه غرر المريض بإحالته إياه على من ليس أهلاً لتصويره بالأشعة والمناظير، فالمريض إنما قام بتسليم نفسه، وتمكين المصور من المهمة المذكورة بناء على أن الطبيب لا يحيله إلا على من هو أهل لذلك، كما هو منصوص عليه في القوانين الطبية، وجار في

ثانيا: المسئولية عن تشخيص المرض الجراحي:

عرف الأطباء (¬1). فهذا الفعل من الطبيب يعتبر سببًا قويًا في حدوث الضرر للمريض، فيعتبر متحملاً للمسئولية عنه من هذا الوجه، إلا أن مسئولية الضمان والقصاص تتعلق بالمباشر وهو المساعد دون المتسبب وهو الطبيب الفاحص لأنه إذا اجتمع السبب والمباشرة قدمت المباشرة (¬2). ثانيًا: المسئولية عن تشخيص المرض الجراحي: تنقسم المسئولية في هذه المرحلة إلى الأقسام الثلاثة التي سبق ذكرها في مرحلة الفحص السابقة: فيعتبر الطبيب مسئولاً وحده إذا كان الموجب للمسئولية ناشئًا عن تشخيصه ولم يكن لغيره تأثير في ذلك الموجب، فعلى سبيل المثال إذا ادعى إصابة المريض بداء جراحي واستند إلى الحدس والتخمين، أو إلى دلائل وأمارات لم تثبت دلالتها على وجود ذلك الداء، وترتب على هذا التشخيص الضرر الموجب للمسئولية فإنه حينئذ يعتبر مسئولاً وحده عن ذلك الضرر، ولا علاقة لمساعديه بذلك الموجب. وكذلك الحال لو بنى تشخيصه على تقارير المحلل، أو المصور بالأشعة، والمناظير الطبية، وكانت تلك التقارير صحيحة مطابقة للحقيقة، ولكن الطبيب أشاء فهمها، وحملها على غير ما ينبغي أن تحمل عليه فأخطأ في تشخيصه، فإنه يتحمل المسئولية عن ذلك ¬

_ (¬1) سلوكيات وآداب وقوانين مزاولة مهنة الطب، مصطفى عبد اللطيف، وهاني أحمد جمال الدين ص 20. (¬2) من قواعد الشريعة الإسلامية "إذا اجتمع السبب أو الغرور والمباشرة قدمت المباشرة" انظر الأشباه والنظائر للسيوطي 162، والأشباه والنظائر لابن نجيم 163.

ثالثا: المسئولية عن الإذن بفعل الجراحة:

التشخيص الخاطيء وحده. كما يتحمل المساعدون للأطباء في مهمة التشخيص المسئولية وحدهم إذا كان الموجب للخطأ في التشخيص واقعًا بسببهم، ولا علاقة للطبيب في ذلك الموجب الناشيء عنهم. فعلى سبيل المثال إذا كان الخطأ في التشخيص، مبنياً على خطأ التقارير التي كتبها هؤلاء المساعدون، فإنهم يتحملون المسئولية عنه كاملة، وتسقط المساءلة عن الطبيب إذا كانوا أهلاً للقيام بمهامهم، واتبع ذلك الطبيب الأصول المعتبرة طبيًا في بناء حكمه على تقاريرهم. أما إذا لم يكونوا أهلاً للقيام بهذه المهام، أو خرج الطبيب في تشخيصه للداء بناء على تقاريرهم عن الأصول المعتبرة عند أهل الاختصاص فإنه يشترك معهم حينئذ في المسئولية كما سبق تقريره في مرحلة الفحص الطبي العام. ثالثًا: المسئولية عن الإذن بفعل الجراحة: يتحمل المسئولية عن موافقة المريض، وإذنه بالجراحة الطبيب الجراح، فقد تقدم في مبحث شروط الجراحة أنه لا يجوز له أن يقدم على فعل الجراحة إلا بعد أخذ موافقة المريض أو وليه. فإذا أخل بذلك، وأقدم على فعلها بدون إذن كان مسئولاً عن كل ما ينجم عن فعله من أضرار، ولذلك نجد الفقهاء -رحمهم الله- يعتبرون هذه المسئولية حينما نصوا على أن الحجام، والخاتن يضمن كل منهما سراية القطع والجرح إذا أقدما على فعل الختان، والحجامة بدون إذن المريض (¬1). وهذا يدل على أن الطبيب الجراح إذا أقدم على فعل الجراحة بدون إذن المريض كان مسئولاً عن كل ما ينتج عن فعلها ¬

_ (¬1) الفتاوى الهندية 5/ 357، تبصرة الحكام لابن فرحون 2/ 243، المغني والشرح الكبير لابن قدامة 6/ 121، كشاف القناع للبهوتي 4/ 27، منار السبيل لابن ضويان 1/ 422. نيل المآرب للشيباني 1/ 112.

رابعا المسئولية عن الفحص الطبي الخاص بالجراحة:

من أضرار. رابعًا المسئولية عن الفحص الطبي الخاص بالجراحة: هذه المرحلة يقصد منها أمران: أحدهما: إثبات وجود المرض الجراحي الذي يستدعي العلاج بالجراحة. الثاني: صلاحية المريض لتحمل متاعب الجراحة وأخطارها وذلك بإثبات سلامته من الآفات. والأمراض التي تحول دون نجاح الجراحة، وتتسبب في تعريضه للمتاعب والأخطار (¬1). لذلك فإن التقصير والإهمال في مهام هذه المرحلة تترتب عليه نتائج سلبية وعواقب خطيرة قد تنتهي بوفاة المريض. والمسئولية عن هذه العواقب، والنتائج السيئة مرتبطة بمسبباتها، لذلك فإنها تارة تتعلق بالطبيب الجراح، وتارة تتعلق بالطبيب الفاحص ومساعديه. أما الطبيب الجراح فإنه يتحمل المسئولية في موضعين من هذه المرحلة: الموضع الأول: إذا امتنع عن إحالة المريض للفحص، وقام بإجراء الجراحة دون أن يتأكد من وجود المرض الجراحي، وأن المريض قادر على تحمل أخطارها. ¬

_ (¬1) السلوك المهني للأطباء. د. التكريتي 259، الشفاء بالجراحة. د. الفاعور 17 - 20.

فإذا اجترأ على ذلك، وترتب الضرر على فعله مثل أن يكون المريض غير مصاب بالمرض الذي فعلت الجراحة من أجل علاجه. أو أنه مصاب بآفة تسببت في تدهور صحة المريض أثناء الجراحة وبعدها، فإنه حينئذ يتحمل المسئولية الكاملة عن قراره الذي اتخذه بفعل الجراحة على هذا الوجه المشتمل على الإهمال، وعدم اتخاذ الحيطة اللازمة التي ينبغي عليه مراعاتها. الموضع الثاني: إذا قام بإحالة المريض إلى الفحص الطبي العام، واشتملت التقارير والنتائج على ما يوجب عليه الامتناع من فعل الجراحة، وذلك مثل أن تشتمل على نفي وجود المرض، أو أن المريض مصاب بمرض يحول نجاح الجراحة أو يعرقل مهامها، فأقدم على فعل الجراحة دون استناد إلى ما يوجب عليه فعلها، فإنه حينئذ يعتبر متعاطيًا للسبب الموجب للمسئولية الكاملة عن كل ما ينتج عن فعلها هذا من أضرار وعواقب وخيمة. ولاشك في أن هذه الجرأة في كلا الموضعين تعتبر موجبة لمسئولية الآخرة أيضًا وذلك لأن إقدام الطبيب الجراح على فعل الجراحة على هذا الوجه يشتمل على تعريض الأرواح البريئة للخطر والهلاك دون وجود سبب أو مسوغ شرعي يجيز له فعل ذلك، مع أن الله تعالى يسر له الوسائل والآلات التي يمكن بواسطتها أن يتوصل إلى الطريق الأمثل في علاج المريض ومداواته، فكونه يعرض عن ذلك، أو يتجاهل التقارير الطبية المبنية على الفحص بهذه الوسائل والآلات يعد ضربًا من التهور والاستهتار، الأمر الذي يوجب تأثيمه واعتباره متجاوزًا لحدود الله وبذلك تتحقق المسئولية الأخروية.

خامسا المسئولية عن التخدير:

وتستثنى من الحكم بمسئوليته في الموضع الأول الحالات الاضطرارية التي توجب إسعاف المريض بالجراحة فورًا، والتي يغلب فيها على الظن هلاك المريض إذا تأخر إسعافه بالجراحة مدة الفحص فإنه يجوز للطبيب الجراح أن يقدم فيها على فعل الجراحة، وتسقط المسئولية عنه نظرًا لوجود الموجب لإعفائه من واجب الفحص، ولأنه انتفى فيه موجب المسئولية إذ لم يكن إقدامه على فعل الجراحة في هذه الحالات مشتملاً على تقصير أو إهمال، بل هو مبني على هدف المحافظة على النفس الذي هو من الضروريات المهمة في الدين. فهذه هي مجمل مسئولية الطبيب الجراح في هذه المرحلة. أما الطبيب الفاحص ومساعدوه فإنهم يتحملون المسئولية في هذه المرحلة بالصورة التي سبق بيانها وتفصيلها في مرحلة الفحص الطبي الأول ... والله تعالى أعلم. خامسًا المسئولية عن التخدير: تتعلق المسئولية في هذه المرحلة بالطبيب الجراح، وأخصائي التخدير. أما الطبيب الجراح فإنه يتحمل المسئولية عن أهلية الشخص المخدر، لأنه لا يجوز له أن يعهد بمهمة التخدير إلى أي شخص لا تتوفر فيه الأهلية المعتبرة للقيام بمهمة التخدير على ما جرت عليه الأعراف الطبية (¬1). ¬

_ (¬1) السلوك المهني للأطباء. د. التكريتى 254، سلوكيات وآداب وقوانين مزاولة مهنة الطب مصطفى عبد اللطيف، هاني أحمد جمال الدين 20. ونظرًا لجريان العرف والعادة عند الأطباء بذلك فإنها تعتبر من الناحية الشرعية ملزمة، ويؤاخذ الطبيب على الإخلال بها للقاعدة الشرعية التي تقول "العادة محكمة". الأشباه والنظائر للسيوطي 89، الأشباه والنظائر لابن نجيم 93.

ومتى أخل بهذا الواجب وعهد بهذه المهمة إلى من لا تتوفر فيه الأهلية فإنه يتحمل حينئذ المسئولية من جهة السببية. وكذلك يتحمل المسئولية في موضع آخر من هذه المرحلة وذلك في حالة عدوله عن قرار المخدر بعدم صلاحية المريض للتخدير، بناء على نتائج فحص جهاز تنفسه، وقلبه. فإذا اجترأ على فعل الجراحة مع سبق تحذير أخصائي التخدير له، فإنه حينئذ يعتبر مقصرًا، وحكمه كما سبق بيانه في المرحلة السابقة. وأما أخصائي التخدير فإنه يعتبر مسئولاً مسئولية مباشرة عن أهلية المريض للتخدير، والمواد المخدرة التي اختارها لتخديره، والجرعة التي حقنها من تلك المواد في جسم المريض، والطريقة التي اتبعها في تخديره. فأي تقصير يقع منه في هذه الأمور فإنه يوجب تحمله للمسئولية عن كل الأضرار المترتبة على ذلك التقصير (¬1). ومن أمثلة ذلك أن يقوم بتخدير المريض دون فحص سابق يتأكد من خلاله أن المريض يستطيع التجاوب مع المواد المخدرة فيتبين بعد تخديره أنه مصاب بمرض في قلبه أو تنفسه ونشأ عن ذلك ضرر. أو يقوم باختيار مادة دون سبق تأكد من تجاوب المريض معها ويتضرر المريض بتلك المادة بسبب الحساسية المصاب بها. أو يقوم بحقن جرعة زائدة عن القدر المعتبر عند أهل الاختصاص فيؤدي ذلك إلى وفاة المريض أو حصول شلل، ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) السلوك المهني للأطباء د. التكريتي 254، 255، العمليات الجراحية. محمد رفعت ص 22 - 25.

أو يختار طريقًا للتخدير يشتمل على مخاطر ومضاعفات تلحق المريض من جراء التخدير بواسطته، كما في حالة التخدير عن طريق البزل القطني الذي يفضي إلى التهاب سحايا المخ، والنخاع الشوكي، ومضاعفاته. ففي هذه الحالات وأمثالها يعتبر المخدر مسئولاً مسئولية كاملة عن الأضرار الناتجة عن مجاوزته للحدود المعتبرة عند أهل الاختصاص والمعرفة. * * *

الفرع الثاني في (المسئولين عن مرحلة العمل الجراحي)

الفرع الثاني في (المسئولين عن مرحلة العمل الجراحي) يتحمل الطبيب الجراح العبء الأكبر من المسئولية في هذه المرحلة، ولا تخلو مسئوليته فيها إما أن تكون مباشرة، أو سببية. كما يتحمل مساعدوه المسئولية في هذه المرحلة، كل حسب المهمة المطلوبة منه ومجال عمله. فأما الطبيب الجراح فإنه يتحمل المسئولية المباشرة عن عمله الجراحي، فهو مسئول في الأصل عن الالتزام بالقواعد المعتبرة عند أهل الاختصاص في مهمته الجراحية. فينبغي عليه التقيد والالتزام بها، وعدم الخروج عنها. فإذا أخل بهذا الواجب، وخرج عن الأصول والقواعد المتبعة عند أهل الاختصاص والمعرفة على وجه ينتفي فيه عذره شرعًا، فإنه يتحمل المسئولية الكاملة عن كل ما ينتج عن ذلك الخروج، وهكذا إهماله وتقصيره في مراعاة الأمور التي ينبغي عليه مراعاتها أثناء قيامه بمهمته. ومن أمثلة الحالة الأولى تجاوزه للقدر المعتبر في الشق عند أهل الاختصاص، وزيادته في القدر المقطوع من العضو المراد قطعه دون موجب معتبر طبيًا. ومن أمثلة الحالة الثانية إهماله لتنظيف الجرح، أو غسله، أو إهمال تعقيمه، وتركه لبقايا الشاش في داخل الجوف مما يؤدي إلى حدوث تسمم ينتهي بوفاة المريض وهلاكه.

فهذه الحالات، وأمثالها يتحمل فيها الطبيب الجراح المسئولية الكاملة عن تقصيره وإهماله ومجاوزته للحدود المعتبرة عند أهل الاختصاص. ولاشك في تحمله لمسئولية الآخرة التي هي أشد وأعظم من مسئولية الدنيا. وهذه المسئولية تعتبر مسئولية مباشرة لكون الطبيب الجراح باشر فعل الموجب لها وحده. وأما المسئولية السببية فهي تتمثل في تعاطيه للسبب الموجب لحدوث الفعل الذي تترتب عليه المسئولية ويتولى مباشرة الفعل غيره من المساعدين له، كما في حالة إذنه للمساعدين الذين لم تتوفر فيهم الأهلية المعتبرة بأن يقوموا بفعل مهمة يجهلونها ثم يترتب على فعلهم ضرر مبني على جهلهم بالأصول المعتبرة، فحينئذ تعتبر مسئولية الطبيب الجراح عنهم مسئولية سببية، نظرًا لكونه تسبب في فعلهم من جهة إذنه لهم بالقيام بتلك المهمة، وأما المساعدون له فإنهم يتحملون المسئولية عن كل ضرر ينتج عن فعلهم كل حسب اختصاصه، ومجال عمله، وتعتبر مسئوليتهم على هذا الوجه مسئولية مباشرة، إذا قاموا بفعل الموجب للمسئولية بأنفسهم، وإلا كانت مسئولية سببية. فالمخدر يتحمل المسئولية عن إهماله وتقصيره في اتخاذ الاستعدادات الكافية لحصول الهبوط المفاجيء في ضغط الدم. وكذلك يتحمل المسئولية عن تقصيره في الإجراءات اللازمة لإسعاف المريض، وإرجاعه إلى الوضع الطبيعي الملائم كما في حالة توقف عمل القلب، وضعف تنفسه ونحو ذلك من الحالات الطارئة أثناء العمل الجراحي.

كما يعتبر مسئولاً عن تقصيره الذي أدى إلى انزلاق الأشياء الغريبة في حنجرة المريض مما يتسبب في انسداد مسالكها. أو يقصر بعدم استعماله للأنبوبة المعدية في حالات القيء الأمر الذي ينشأ عنه اختناق المريض باستنشاق كمية من سائل القيء. وكذلك يعتبر مسئولاً عن إهماله لبعض أجزاء الجسم بعدم العناية بوضعها المعتبر، كما في حالة تركه لذراع المريض ساقطة على حافة طاولة العمليات الجراحية مما يتسبب في حدوث الشلل في العص الكعبري أو الزندي (¬1). فهذه الحالات وأمثالها يعتبر الضرر فيها ناشئًا عن إهمال أخصائي التخدير، وقد جرى العرف عند الأطباء. باعتبار المخدر مسئولاً عنها من الناحية العملية، فتقصيره في ذلك يوجب إلزامه بالعواقب المترتبة عليه. وكذلك الممرض والممرضة يعتبر كل منهما مسئولاً عن أي تقصير وجد منه في المهمة المطلوبة منه أثناء العمل الجراحي. فإذا قصر الممرض في إحضار الآلات المطلوبة في الوقت المحدد لها، أو قصر في تعقيمهما قبل الجراحة أو أثناءها وترتب على ذلك حصول تلوث في الجرح، فإنه يتحمل المسئولية عن تقصيره. وكذلك لو أذن للطبيب الجراح بقفل موضع الجراحة دون تأكد من ¬

_ (¬1) أشارت المصادر الطبية المختصة بأن المخدر يعتبر في عرف الأطباء يعتبر في عرف الأطباء ملزمًا بمراقبة الطبيب مراقبة أثناء التخدير، وأنه مكلف ببذل العناية والإسعاف اللازم لكل ما يطرأ على مهمة التخدير وتنفس المريض. انظر السلوك المهني للأطباء د. التكريتي 254، 255، العمليات الجراحية. محمد رفعت 23، 24، الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 3/ 543، التخدير: غوردون أوستلر، روجر برايس 162.

اكتمال الآلات المستعملة في المهمة بعدِّها (¬1)، ثم تبين أن الطبيب الجراح قفل الجرح على شيء منها، فإن الممرض يتحمل المسئولية عن تقصيره في عد تلك الآلات، وإخباره للطبيب الجراح باكتمالها، لكن هل تعتبر مسئوليته في هذه الحالة مسئولية سبب أو مباشرة؟. الذي يظهر أنها مسئولية سبب، نظرًا لعدم مباشرته لقفل موضع الجراحة، وإذا كان هؤلاء المساعدون جاهلين بالمهام التي قاموا بفعلها فإنه حينئذ تعتبر مسئوليتهم مسئولية مباشرة متى ترتب عليها ضرر بالمريض، وذلك لمكان رضاهم بالقيام بفعل تلك المهمات مع جهلهم لها، ولا تسقط مسئولية الجراح عنهم المسئولية المتعلقة بهم، فهم المباشرون لفعل السبب الموجب، وإذا كانت المهمات التي قاموا بفعلها مشتملة على مداواة للمريض كانوا داخلين في عموم قوله عليه الصلاة والسلام: "من تطبب بغير علم فهو ضامن" (¬2)، وهم آثمون شرعًا بإقدامهم على فعل تلك المهمات نظرًا لما في ذلك من أذية للغير وإضرار به بدون حق، فتتعلق بهم المسئولية في الآخرة من هذا الوجه ... والله تعالى أعلم. * * * ¬

_ (¬1) من المهمات التي يطالب بها الممرضون والممرضات أثناء مهمة العمل الجراحي تعقيم الآلات المستعملة في الجراحة، وعدُّها وإخبار الطبيب باكتمالها. وفي الموسوعة الطبية الحديثة ما نصه: "وهي -أي رئيسة الممرضات- مسئولة عن عدّ الفوط وقطع القماش التي تستعمل في العملية، ولا يخيط الجراح الجرح إلا بعد أن تتحقق الممرضة من عدّ هذه القطع المستعملة ... " اهـ. الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 3/ 543. (¬2) تقدم تخريجه.

الفرع الثالث في (المسئولين عن المراحل التى تعقب العمل الجراحي)

الفرع الثالث في (المسئولين عن المراحل التى تعقب العمل الجراحي) وهم: الطبيب الجراح، والمخدر، والممرض فأما الطبيب الجراح: فإنه يعتبر مسئولاً عن متابعة المريض إلى البرء الكامل من العملية فيتابع حالته الصحية، كما يقوم بمراقبة موضع الجراحة في فترات معينة خشية إصابته بالتلوث أو أضرار أخرى نتيجة سوء التمريض بعد العمل الجراحي. كما أنه يتحمل المسئولية عن قرار خروج المريض من المستشفى (¬1). فإذا قصر في أي جانب من هذه الجوانب، فإنه يتحمل المسئولية عن كل ما ينتج عن ذلك التقصير من أضرار. وأما المخدر: فإن مسئوليته بعد العمل الجراحي تنحصر في أمرين: الأمر الأول: إفاقة المريض من التخدير، وهي مسئولية مهنية (¬2). ¬

_ (¬1) السلوك المهنى للأطباء. د. التكريتي 261. (¬2) السلوك المهني للأطباء د. التكريتي 253، الموسوعة الطبية الحديثة لمجموعة من الأطباء 2/ 282.

الأمر الثاني: المحافظة على أسرار المريض التي يتلفظ بها أثناء الإفاقة وهي مسئولية أدبية (¬1). فأما الأمر الأول فإنه يستلزم منه بذل العناية اللازمة حتى يفيق المريض من سبات المواد المخدرة ويتحمل المسئولية عن أي تقصير يقع منه في هذه المهمة. وأما الأمر الثاني فإنه يستلزم منه كتمان تلك الأسرار، وعدم الإخبار بها سترًا على أخيه المسلم ويعتبر مسئولاً شرعًا في حال إفشائه لأي سر من تلك الأسرار. وأما الممرض: فإنه مطالب ببذل العناية اللازمة للمريض إلى حين مغادرته المستشفى، وتشتمل مهمته على تفقد موضع الجراحة وتفقد حرارة المريض، ونبضه، وتسجيل المعلومات التي توصل إليها ثم عرضها على الطبيب، وكذلك يتحمل المسئولية عن إخبار الطبيب عن أي تغير يحدث للمريض عقب العمل الجراحي، كما يقوم بإعطاء جرعات الأدوية المقررة لهذه المرحلة، ويحافظ على تغذية المريض عن طريق الأوردة (¬2). وفي جميع هذه المهمات يتحمل المسئولية عن أي تقصير أو إهمال يتسبب في حصول ضرر للمريض. ¬

_ (¬1) تعتبر هذه الأسرار من الناحية الطبية "أسرار مهنة" لا تجوز الإباحة بها على الإطلاق، وهذا يتفق مع ما يوجبه الشرع من عدم إفشاء السر وحرمة هتك ستر المسلم. انظر العمليات الجراحية محمد رفعت 21، سلوكيات وآداب وقوانين مزاولة مهنة الطب مصطفى عبد اللطيف، وهاني أحمد جمال الدين 14. (¬2) فن التمريض. د. الدجاني، هدية اللحام 70، 71، التمريض الجراحي والباطني وفروعهما. د. سعاد حسين 2/ 69 - 81. فن الجراحة. د. المهايني 34 - 39.

المقصد الثاني في (مسئولية المستشفيات)

المقصد الثاني في (مسئولية المستشفيات) تتحمل المستشفيات الحكومية والأهلية المسئولية عن الأشخاص العاملين بها من أطباء وممرضين ومخدرين وغيرهم. والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كلكم راع، وكلكم مسئولٌ عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع، وهو مسئولٌ عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها، وهي مسئولة عنه، والعبد راع على مال سيده، وهو مسئول عنه، فكلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته" (¬1). فقد دل هذا الحديث الشريف على أن المسئولية في الشريعة الإسلامية لا تختص بولاة الأمر من الحكام والقادة، بل هي عامة شاملة حتى الرقيق في مال سيده، وأنها تنشأ من ولاية الإنسان على الشيء، وقيامه على مصالحه، والنظر فيها. قال الإمام النووي -رحمه الله-: (قوله - صلى الله عليه وسلم -. "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" قال العلماء: الراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما قام عليه، وما هو تحت نظره، ففيه أن كل من كان تحت نظره شيء فهو مطالب بالعدل فيه، والقيام بمصالحه في دينه، ودنياه، ومتعلقاته) (¬2) اهـ. قلت: وهذه الأوصاف التي اعتبرها أهل العلم -رحمهم الله- ¬

_ (¬1) رواه البخاري في صحيحه 1/ 160، ومسلم 3/ 195، 196. (¬2) شرح صحيح مسلم للنووي 12/ 213.

للحكم باعتبار الإنسان راعيًا، التي تتمثل في كونه مؤتمنًا وملتزمًا بصلاح ما قام عليه، متحققة في المستشفيات سواء كانت حكومية أو أهلية. فهي مؤتمنة من قبل الجهات العليا، ومن قبل عامة الناس، وملتزمة بالمعالجة، ومداواة المرضى، وفق الأصول المتبعة عند أهل الاختصاص. وبذلك تعتبر مسئولة عن جميع أفرادها الذين يقومون بعلاج المرضى، سواء كانوا من الأطباء أو من غيرهم كالصيدليين، والممرضين وغيرهم. والمسئولية المتعلقة بهذه الجهة "المستشفى" تعتبر في الغالب من قبيل المسئولية السببية، وذلك لأن إدارتها العامة لا تباشر فعل الأمر الموجب للمسئولية، وإنما يباشر فعله الفرد من الأطباء ومساعديهم وغيرهم. ولما كانت الأجهزة الإدارية العاملة في المستشفى ملزمة بتنظيم المستشفى، وإدارة أعماله على الوجه المطلوب، فإن أي إخلال ينشأ عنه ضرر بالمرضى سيكون متعلقًا بإدارة المستشفى أو أي شخص معين ملزم من قبل تلك الأجهزة الإدارية العاملة على رعاية المرضى والحيلولة دون وقوع ذلك الضرر بهم، وهذا بالإضافة إلى المسئولية المباشرة المتعلقة بذلك الفرد الذي باشر الفعل الناشيء عن الضرر. ومن هنا تتوسع دائرة الأفراد الذين تشملهم المسئولية المتعلقة بهذه الجهة، فتكون الإدارة العامة للمستشفى هي المخاطبة من قبل الجهات من خارج المستشفى كالقضاء ونحوه، ثم تتوزع مسئوليتها على الدوائر ذات العلاقة بالفرد الذي نشأ عن فعله موجب المسئولية.

فعلى سبيل المثال يعتبر المحلل للدم إذا أخطأ في تحليله أو أهمل أو قصر مسئولاً مباشرًا عن نتيجة ذلك الخطأ والإهمال ثم يعتبر المسئول عن المختبر مسئولاً أيضًا في حال علمه بذلك الخطأ وعدم التنبيه عليه. وكذلك الطبيب الجراح بجراحة العظام إذا أقدم على فعل جراحة داخلة أو خارجة عن اختصاصه على وجه ترتب عليه الإضرار بالمريض فإنه يعتبر المسئول عن قسم جراحة العظام في المستشفى مسئولاً عن علمه بذلك الخطأ، أو تقصيره في فعل الاحتياطات التي تحول دون مباشرة بذلك الطبيب لتلك الجراحة على وجه يوجب الضرر بالمريض. وتتحمل المستشفيات المسئولية عن أفرادها من جهة أهليتهم لفعل المهمة التي تناط بكل فرد منهم، كالحال في الأطباء مع مساعديهم، فإن توفرت فيهم الأهلية سقطت المساءلة وإن لم تتوفر تحملوها على وجه السببية. وكذلك تتحمل المستشفيات المسئولية عن الآلات والأجهزة وصلاحيتها للعمل، وتتوزع تلك المسئولية على الأفراد المسئولة عن تشغيل تلك الآلات ورعايتها بحسب ترتيب المستشفى وتنظيمه. * * *

المطلب الرابع في (الآثار المترتبة على ثبوت الموجبات)

المطلب الرابع في (الآثار المترتبة على ثبوت الموجبات) إذا أثبت المرضى موجب المسئولية فإنه يترتب على ذلك أثر شرعي يختلف بحسب اختلاف موجبات المسئولية. فيترتب أثر الضمان على موجب الخروج عن الأصول العلمية، وموجب الجهل وموجب الخطأ. كما يترتب أثر التعزير على موجب الجهل، وموجب الخروج عن الأصول العلمية إذا لم يكن عند الطبيب والمساعد عذر مقبول من الناحية الطبية. ونظرًا لاختلاف نوعية هذه الآثار رأيت من المناسب بيان كل أثر منها على حده مع الاستشهاد بنصوص الشرع وقواعده وأقوال أهل العلم -رحمهم الله- في اعتباره وذلك في الثلاثة المقاصد التالية:

المقصد الأول: الضمان

المقصد الأول: الضمان. يجب على كل من الأطباء ومساعديهم ضمان التلف الناشيء عن فعلهم أثناء قيامهم بالمهمات المتعلقة بهم في الجراحة، وذلك في الصور التالية: الصورة الأولى: أن يكونوا جاهلين بالمهمة، وينتفي فيهم قصد الضرر، ولا يعلم المريض بجهلهم. الصورة الثانية: أن يكونوا عالمين بالمهمة، ولا يتقيدوا بأصولها المعتبرة عند أدائها. الصورة الثالثة: أن يكونوا عالمين بالمهمة، ويتقيدوا بأصولها، ولكن تزل أيديهم خطأ أثناء العمل. الصورة الرابعة: أن يكونوا عالمين بالمهمة، ويتقيدوا بأصولها، ولكن لم يأذن لهم المريض ولا وليه ولا السلطان بفعلها. وبيان الأحكام المتعلقة بهذه الصور يتضح فيما يلي:

الصورة الأولى: أن يكونوا جاهلين بالمهمة، وينتفي فيهم قصد الضرر، ولا يعلم المريض بجهلهم:

الصورة الأولى: أن يكونوا جاهلين بالمهمة، وينتفي فيهم قصد الضرر، ولا يعلم المريض بجهلهم: وهذه الصورة تشمل الجهل الكلي، والجزئي بالمهمة، فمثال الأول أن يكون الطبيب الجراح جاهلاً بجميع معلومات الجراحة، وكيفية تطبيقها، وهكذا بالنسبة للمخدر، والمصور بالأشعة، والمناظير وغيرهم. ومثال الثاني أن يكون الطبيب الجراح عالمًا بجزء من المهمة، أو بالمعلومات كلها، ولكن يجهل الطريقة التي يتم بها تطبيق تلك المعلومات. وهذه الصورة الأصل في إيجاب ضمان الضرر الناشيء عن فعل الأطباء والمساعدين فيها ما ثبت في السنة عنه عليه الصلاة والسلام من قوله: "مَن تَطَبَّبَ ولم يُعلَم منه الطبُّ قبل ذلك فهو ضامن"، حيث دل ظاهر هذا الحديث على أن الطبيب الجاهل ملزم بضمان ما نتج عن طبه، وقوله عليه الصلاة والسلام: "من تطبب" عام يشمل طب الأدوية، والجراحة. قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- في شرحه لهذا الحديث: "والطبيب -في هذا الحديث- يتناول من يطبه بوصفه، وقوله، وهو الذي يخص باسم الطبائعي، وبمروده، وهو الكحال، وبمبضعه ومراهمه وهو الجرائحي، وبموساة وهو الخاتن، وبريشته وهو الفاصد، وبمحاجمه ومشرطه وهو الحجام، وبخلعه ووصله ورباطه وهو المجبر، وبمكواته وناره وهو الكواء، وبقربته وهو الحاقن ... فاسم الطبيب يطلق لغة على هؤلاء كلهم، كما تقدم، وتخصيص الناس له ببعض أنواع الأطباء عرف حادث" (¬1) اهـ. ¬

_ (¬1) الطب النبوي لابن القيم ص 112.

فبين -رحمه الله- عموم دلالة قوله -عليه الصلاة والسلام-: "من تطبب"، ونص على أنه شامل للطبيب الجراح وأن تخصيص العرف للفظ الطب ببعض أنواعه، لا يمنع من اعتبار الأصل الموجب لشموله جميع فروع الطب ومنها الجراحة. كما بين دخول الطبيب الواصف بالقول، والفعل، وفي حكمه الطبيب الفاحص. ومن هذا كله نخلص إلى القول بإيجاب الضمان على كل من الطبيب الجراح، والطبيب الفاحص، إذا قاما بفعل أي مهمة من المهمات الجراحية في حال جهلهم، ونتج عنها ضرر بالمريض. وكما دلت السنة على إيجاب الضمان على هذا الصنف من الأطباء، كذلك دل الإجماع. قال ابن رشد الحفيد: "لا خلاف أنه إذا لم يكن من أهل الطب أنه يضمن لأنه متعد" (¬1) اهـ. وهذا الإجماع وإن كان بصيغة غير جازمة في حكاية الاتفاق فإنه تؤكده عبارات الفقهاء -رحمهم الله- التي نصوا عليها في كتبهم على اختلاف مذاهبهم، وكلها دالة على إيجاب الضمان على الطبيب الجاهل. قال الشيخ زين الدين بن إبراهيم بن نجيم الحنفي (¬2) -رحمه الله-: ¬

_ (¬1) بداية المجتهد لابن رشد 2/ 418. (¬2) هو الشيخ زين الدين بن إبراهيم بن محمد بن محمد المصري الشهير بابن نجيم فقيه، أصولي، توفي -رحمه الله- سنة 970 من الهجرة، وله مصنفات منها: البحر الرائق شرح كنز الدقائق، شرح منار الأنوار في الأصول، الأشباه والنظائر. معجم المؤلفين عمر كحالة 4/ 192.

" ... قطع الحجام لحمًا من عينه، وكان غير حاذق فعميت فعليه نصف الدية" (¬1) اهـ. فقوله: "وكان غير حاذق" المراد أنه جاهل بتلك المهمة التي قام بفعلها، ثم بين حكمه وأنه يجب عليه ضمان نصف الدية، لأن العين من الأعضاء المثناة في جسم الإنسان تضمن الدية كاملة بتلف كلتا العينين ونصفها بتلف الواحدة منهما كما هو الحال في مسألتنا (¬2). وقال الشيخ أحمد بن غنيم النفراوي المالكي (¬3) -رحمه الله-: " ... إن عالج بالطب المريض، ومات من مرضه لا شيء عليه، بخلاف الجاهل أو المقصر فإنه يضمن ما نشأ عن فعله ... " (¬4) اهـ. فاعتبر -رحمه الله- الجهل بالفعل موجبًا لضمان ما نشأ عن ذلك الفعل من ضرر. وقال الشيخ شهاب الدين القليوبي الشافعي -رحمه الله-: "شرط الطبيب أن يكون ماهرًا بمعنى أن يكون خطؤه نادرًا وإلم يكن ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 290، ومثله في الدر المختار للحصكفي 2/ 290. (¬2) أجمع العلماء -رحمهم الله- على أن الأعضاء المثناة في الإنسان: كالعينين، واليدين، والرجلين، والأذنين، ونحوهما تجب الدية بتلفهما، ونصف الدية بتلف العضو الواحد منهما، الإجماع لابن المنذر ص 73، ومغني ذوي الأفهام لابن عبد الهادي ص 208. (¬3) هو الشيخ أحمد بن غنيم بن سالم المهنا النفراوي المالكي، ولد -رحمه الله- سنة 1043 من الهجرة، وهو فقيه مشارك في بعض العلوم، وتوفي سنة 1125 من الهجرة، وله مصنفات منها: الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني، شرح الآجرومية، شرح على الرسالة النورية. معجم المؤلفين. عمر كحالة 2/ 40. (¬4) الفواكه الدواني للنفراوي 2/ 440، ومثله في تبصرة الحكام لابن فرحون 2/ 243، والعقد المنظم للحكام لابن سلمون 2/ 80، بهامش التبصرة.

ماهرًا في العلم فيما يظهر، فتكتفي التجربة، وإن لم يكن كذلك لم يصح العقد، ويضمن ... " (¬1) اهـ. فقوله: "إن لم يكن كذلك": أي لم يكن معروفًا بمهارته لا بالعلم، أو بالتجربة، وذلك هو الجاهل، ثم نص على حكمه بأنه لا يصح التعاقد معه، وألزمه الضمان وذلك إذا نتج عن فعله الضرر. وقال الإمام أبو محمد عبد الله بن قدامة المقدسي الحنبلي -رحمه الله-: " ... أن يكونوا ذوي خبرة في صناعتهم، ولهم بصارة ومعرفة، لأنه إذا لم يكن كذلك لم يحل له مباشرة القطع، وإذا أقدم مع هذا كان فعلاً محرمًا فيضمن سرايته كالقطع ابتداء ... " (¬2) اهـ. فبين -رحمه الله- أن الطبيب إذا كان جاهلاً وأقدم على فعل الجراحة كان ضامنًا لكل ما ينشأ عن فعله من ضرر. وبهذه العبارات يتأكد ما تقدم من حكاية ابن رشد الحفيد الإجماع على إيجاب الضمان على الطبيب الجاهل. وكما دل دليل النقل على إيجاب الضمان على هذا الصنف من الأطباء، كذلك دل دليل العقلى على إيجابه، وقد أشار الإمام ابن قدامة المقدسي -رحمه الله- في عبارته المتقدمة إلى ذلك الدليل، وهو أن الطبيب الجاهل يجب الضمان عليه إذا باشر القطع كالجاني بجامع كون كل من الفعلين محرمًا شرعًا. وبهذا كله تجتمع دلالة النقل والعقل على إيجاب الضمان على ¬

_ (¬1) حاشية قليوبي وعميرة 3/ 78، ومثله في حاشية الرملي على شرح التجريد 2/ 427، بهامش أسنى المطالب. (¬2) المغني والشرح الكبير لابن قدامة 6/ 120، ومثله في شرح منتهى الإرادات، للبهوتي 2/ 377.

الأطباء الجاهلين وعبارات العلماء -رحمهم الله- التي تقدمت وإن كانت في ظاهرها مختصة بالأطباء، إلا أنها تعتبر أصلاً نلحق به كل من كان في حكمهم كالمساعدين من المخدر، والمصور بالأشعة والمناظير، والممرضين ... ونحوهم، فكل هؤلاء ينزلون منزلة الأطباء في إيجاب الضمان عليهم إذا أقدموا على فعل أي مهمة وهم جاهلون بها علميًا أو نظريًا، أو علميًا ونظريًا، لاتحاد الموجب للضمان في كلتا الطائفتين "الأطباء، ومساعديهم" وهو إقدام الجميع على أداء مهمة في حال جهلهم بها. وهذا الحكم من شريعتنا الغراء يعتبر غاية في العدل، وفيه صيانة لأرواح الناس وأجسادهم من عبث الأيدي الآثمة التي لا تخاف الله، ولا تتقيه، فتقدم على معالجة الناس غشًا وزورًا بادعائها للمعرفة والعلم. فأما وجه العدل فلأن هؤلاء تسببوا في التلف والإضرار بأجساد الآخرين، ولم يتوفر في مثلهم الإذن الشرعي بجواز إقدامهم على ذلك الفعل الموجب للتلف، فكان المرضى مظلومين بما أصابهم من ضرر فوجب إنصافهم بتضمين هؤلاء الجاهلين، كالحال في غيرهم ممن يخطيء ويتسبب في ضرر بغيره. ولا يشكل على الحكم بوجوب الضمان عليهم أن يقال: إن هؤلاء الأطباء الجاهلين إذا كانوا كالمعتدين والجانين، كما يفهم من كلام الإمام ابن قدامة -رحمه الله- الموجب لضمانهم، فإنه كان من المنبغي إيجاب القصاص عليهم لا الضمان لأن ذلك هو حكم القاطع المعتدي في قطعه. لأنه يجاب بكون هؤلاء وإن كانوا في حكم المعتدى من جهة

إقدامهم على فعل غير مأذون به شرعًا، إلا أنه قد تخلف فيهم قصد الاعتداء لاعتبار فعلهم جناية عمد موجبة للقصاص، بل إنهم في الغالب إنما يقصدون الإحسان ويتمنون زوال الآلام لما في ذلك من ربح لهم بأخذ الأجرة المستحقة، فكانت هذه شبهة موجبة لدرء القصاص عنهم (¬1)، ولذلك كان من شرط هذه الصورة انتفاء قصد الإضرار كما بينته في عنوانها، إخراجًا للحالة الأخرى المشتملة على قصده وهي الموجبة للقصاص. وأما صيانة الشريعة لأرواح الناس وأجسادهم بهذا الحكم فلأنه يتضمن زجر الغير عن الإقدام على فعل أي مهمة بغيره -خاصة إذا كانت خطرة كالجراحة- في حال جهله بتلك المهمة، إذ بمجرد علمه أنه سيضمن كل ما يترتب على فعله من ضرر فإنه سيرعوي وينكف عن الإقدام على فعلها دفعًا لضرر الضمان عن نفسه، وحينئذ لا يقدم على علاج الناس في أجسادهم إلا من كان واثقًا بعلمه وعمله، فتسلم تلك الأجساد من تدخل الجاهلين وأضرارهم. وأما اشتراط علم المريض بجهل الطبيب، فذلك مبني على أنه لو علم بجهله ومكنه من فعل المهمة التي يجهلها فإنه حينئذ يعتبر راضيًا بما ينشأ عن فعله من أضرار، ومن ثم يسقط حقه في المطالبة بضمان ما أتلفه ذلك الطبيب الذي أذن له بالعمل. ولا يشكل على إيجاب الضمان في هذه الصورة وجود إذن المريض بالفعل نفسه الذي نتج عنه الضرر، لأنه إنما أذن بناء على تغرير الأطباء، ومساعديهم له بادعائهم المعرفة والعلم بتلك المهمة، ولو ¬

_ (¬1) قال الإمام ابن المنذر -رحمه الله-: "أجمعوا على أن درء الحد بالشبهات" الإجماع لابن المنذر ص69.

الصورة الثانية: أن يكونوا عالمين بالمهمة ولا يتقيدوا بأصولها المعتبرة عند أدائها:

علم أنهم جاهلون بها فإنه في الغالب سيمتنع من تسليم نفسه إليهم وتمكينهم من معالجته. فنظرًا لمكان هذا التدليس كان إذنه غير مؤثر في إسقاط المسئولية عنهم (¬1)، بخلاف إذنه للأطباء الذين توفرت فيهم الأهلية المعتبرة. ومن ثم قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "إذا تعاطى علم الطب وعمله، ولم يتقدم له به معرفة، فقد هجم على إتلاف الأنفس، وأقدم بالتهور على ما لم يعلمه، فيكون قد غرر بالعليل، فيلزمه الضمان لذلك، وهذا إجماع من أهل العلم" (¬2) اهـ. الصورة الثانية: أن يكونوا عالمين بالمهمة ولا يتقيدوا بأصولها المعتبرة عند أدائها: وتشتمل هذه الصورة على نوعين من الإخلال: أحدهما: مجاوزة الحد المعتبر عند أهل الاختصاص. الثاني: التقصير في أداء الواجب. فأما النوع الأول فمن أمثلته في الطبيب الجراح مجاوزته في قطع الختان، والآفة الحد المعتبر عند أهل الاختصاص فيزيد في قدر الجزء المقطوع. ومن أمثلته في المخدر أن يزيد في قدر المواد المخدرة، أو يختار ¬

_ (¬1) أشار الشيخ محمد علي النجار إلى عدم اعتبار إذن المريض بفعل الجراحة على هذا الوجه موجبًا لإسقاط الضمان. انظر مقاله "حول مسئولية الأطباء"، منشور بمجلة الأزهر المجلد العشرون عدد محرم سنة 1368. ص 52. (¬2) الطب النبوي لابن القيم 109.

مادة أشد ضررًا من غيرها بدون وجود دواع موجبة لذلك الاختيار. ومن أمثلته في المصور بالأشعة أن يزيد في قدر الجرعة الإشعاعية التي يسقطها على الموضع المراد تصويره، أو يكرر تصوير المريض بالأشعة مرات عديدة بدون وجود حاجة داعية لذلك التكرار فيعرض المريض لضرر الأشعة والأخطار المترتبة عليها. وأما النوع الثاني فمن أمثلته: اقتصار الطبيب الجراح على استئصال بعض الداء، وترك باقيه مع قدرته على استئصاله، ودون وجود موانع معتبرة طبيًا تحول دون قطع ذلك الجزء المتبقي. وكذلك المخدر يختار مادة ضعيفة التأثير فينتج عن ذلك تضرر المريض بالإفاقة أثناء الجراحة، ويتألم حينها بسبب ضعف المادة المخدرة وعدم إزالتها للإحساس الموجود في موضع الجراحة. ففي كلا هذين النوعين يعتبر الأطباء ومساعدوهم مخلين بالأصول المعتبرة عند المختصين وقد نص الفقهاء -رحمهم الله- على إيجاب الضمان في حال المجاوزة للموضع المعتبر عند المختصين، أو التقصير في أداء ما يجب على الطبيب فعله. قال الشيخ محمد بن الحسين الطوري الحنفي (¬1) -رحمه الله-: "ويستفاد من مجموع الروايتين اشتراط عدم التجاوز والإذن لعدم وجوب الضمان حتى إذا عدم أحدهما، أو كلاهما يجب الضمان .. " (¬2). ¬

_ (¬1) هو الشيخ محمد بن الحسين بن علي الطوري الحنفي مؤرخ فقيه من آثاره الفواكه الطوريه في الحوادث المصرية، وتكملة البحر الرائق في شرح كنز الدقائق. معجم المؤلفين عمر كحالة 9/ 247، 248. (¬2) تكملة البحر الرائق للطوري 8/ 33.

فبين -رحمه الله- بقوله: "حتى إذا عدم أحدهما ... " أن الطبيب لو تجاوز الموضع المحدد في مهمته فإنه يلزمه الضمان. وقال الإمام إبراهيم بن فرحون المالكي -رحمه الله-: "أما إذا كان جاهلاً أو فعل غير ما أذن له فيه خطأ أو تجاوز الحد فيما أذن له فيه، أو قصر عن المقدار المطلوب ضمن" (¬1) اهـ. فقوله: "أو تجاوز الحد فيما أذن فيه" متعلق بحالة الزيادة عن القدر المطلوب عمله أثناء المهمة الجراحية وقوله "أو قصر فيه عن المقدار المطلوب"، متعلق بحالة النقص عن القدر المطلوب عمله أثناء المهمة. فاعتبر -رحمه الله- كلتا الحالتين موجبة للتضمين. وقال الشيخ زكريا الأنصاري الشافعي -رحمه الله-: "وإن ختن الأجير حرًا أو فصده، أو حجمه بلا تقصير وكذا إن كان المفعول به ذلك عبدًا، ولا تقصير فمات ... لم يضمن لعدم ثبوت اليد على الحر، ولعدم التفريط في غيره" (¬2). ومفهوم قوله "بلا تقصير" أنه إن قصر ضمن ويشهد لذلك قوله عند بيانه لعلة الحكم بعدم التضمين "لعدم التفريط". وقال الإمام أبو محمد عبد الله بن قدامة المقدسي الحنبلي -رحمه الله-: "وأما إذا كان حاذقًا وجنت يده مثل أن يتجاوز قطع الختان إلى الحشفة، أو إلى بعضها، أو قطع في غير محل القطع، أو يقطع السلعة ¬

_ (¬1) تبصرة الحكام لابن فرحون 2/ 243. (¬2) أسنى المطالب للأنصاري 2/ 427، ونص الإمام الشافعي -رحمه الله- على مثل ذلك في الأم 5/ 166.

الصورة الثالثة: أن يكونوا عالمين بالمهمة، ويتقيدوا بأصولها، ولكن تزل أيديهم خطأ أثناء العمل:

من إنسان فيتجاوزها، أو يقطع بآلة يكثر ألمها، أو في وقت لا يصلح القطع فيه وأشباه هذا ضمن فيه كله ... " (¬1) اهـ. فبين -رحمه الله- وجوب الضمان على الطبيب إذا تجاوز الحدود المعتبرة في عمله الجراحي، أو قصر فيها بأن استعمل آلات لا تصلح للعمل الجراحي بالشكل المطلوب، أو كان عمله في وقت لا تصلح فيه الجراحة. ومن هذا كله نخلص إلى اعتبار الفقهاء -رحمهم الله- لإيجاب الضمان في هذه الصورة المشتملة على المجاوزة للحدود المعتبرة عند أهل المعرفة أو التقصير فيها ... والله تعالى أعلم. الصورة الثالثة: أن يكونوا عالمين بالمهمة، ويتقيدوا بأصولها، ولكن تزل أيديهم خطأ أثناء العمل: وفي هذه الصورة يتضرر المريض بفعل غير مقصود من قبل الطبيب وليس من جنس العمل الطبي، ومن أمثلتها: أن تتحرك يد الطبيب الجراح بلا شعور منه فيقطع شريانًا أو يجرح موضعًا فيتضرر المريض بذلك. وفي التصوير بالأشعة: تنحرف يد المصور فَتَسْقط الأشعة على موضع غير الموضع المراد تصويره ويؤدي ذلك إلى حدوث تلف في الجلد ونحو ذلك. وفي التصوير بالمناظير: تتحرك يد المصور بها أثناء إدخاله أو ¬

_ (¬1) المغني والشرح الكبير لابن قدامة 6/ 12، ومثله في المبدع لابن مفلح 5/ 110، 111.

إخراجه لها فتؤدي تلك الحركة غير المقصودة إلى حدوث خدش في الأمعاء. ولما كان الفعل الموجب للضرر في هذه الصورة ليس من الأفعال المتعلقة بالمهمة بل هو خارج عنها فإنه يعتبر من قبيل جناية الخطأ، يطالب الأطباء ومساعدوهم بضمانه، إعمالاً للأصل المقرر عند العلماء -رحمهم الله- من وجوب ضمان جناية الخطأ سواء أدت إلى تلف النفس أو شيء من الأطراف. قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا ... الآية} (¬1). فقد دلت هذه الآية الكريمة على وجوب ضمان النفس المتلفة خطأ. وهي عامة شاملة للخطأ الناشيء عن الأطباء وغيرهم. وقد حكى الإمام ابن المنذر (¬2) -رحمه الله- الإجماع على وجوب تضمين الطبيب الذي أخطأ فأدى خطؤه إلى التلف، فقال -رحمه الله-: "وأجمعوا على أن قطغ الخاتن إذا أخطأ فقطع الذكر ¬

_ (¬1) سورة النساء (4) آية 92. (¬2) هو الإمام أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري. قال عنه الحافظ السيوطي -رحمه الله-: "كان على نهاية من معرفة الحديث، والاختلاف، وكان مجتهدًا لا يقلد أحدًا" اهـ. توفي -رحمه الله- بمكة سنة 480 من الهجرة، وله مصنفات منها: الإشراف في اختلاف العلماء، والإجماع. طبقات المفسرين للسيوطي 28، معجم المؤلفين عمر كحالة 8/ 220.

الصورة الرابعة: أن يكونوا عالمين بالمهمة ويتقيدوا بأصولها، ولكن لم يأذن لهم المريض ولا وليه ولا السلطان بفعلها:

والحشفة أو بعضها فعليه ما أخطأ به يعقله عنه العاقلة" (¬1) اهـ. ولا يشكل على هذا ما تقدم غيره مرة من نصوص الفقهاء -رحمهم الله- التي تدل على إسقاط الضمان عن الطبيب في حال عدم تعديه، لأن المراد بتلك الحالة أن يكون الفعل الذي نشأ عنه الضرر واقعًا على النحو المعتبر عند أهل الاختصاص، وهذا مخالف لما نحن فيه لأن الفعل الذي نشأ عنه الضرر لم يقع موافقًا لما اعتبره أهل الاختصاص، بل هو خارج بالكلية عنه، فوجب إلحاقه بالجناية غير المقصودة ... والله أعلم. الصورة الرابعة: أن يكونوا عالمين بالمهمة ويتقيدوا بأصولها، ولكن لم يأذن لهم المريض ولا وليه ولا السلطان بفعلها: وفي هذه الصورة يتخلف الإذن بفعل الجراحة من قبل المريض ووليه، وتقع الجراحة وفق الأصول المتبعة عند أهل الاختصاص، لكن يشاء الله تعالى أنها تتسبب في حدوث ضرر بجسم المريض، سواء أدى إلى وفاته أو لم يؤد إليها. وهنا ينشأ السؤال: هل يلزم الطبيب بضمان ذلك الضرر الناتج عن فعل الجراحة نظرًا لعدم وجود إذن المريض ووليه، أو لا يلزم بذلك نظرًا لعدم تعديه في الفعل؟. اختلف الفقهاء -رحمهم الله- في هذه المسألة وذلك على ¬

_ (¬1) الإجماع لابن المنذر 74، وممن نص على تضمين الطبيب في حال جنايته على وجه الخطأ الامام ابن القيم، والشيخ عبد الله بن سلمون المالكي -رحمهما الله-. تحفة المودود لابن القيم 152، العقد المنظم للحكام 2/ 80، بهامش تبصرة الحكام.

الأقوال:

قولين: القول الأول يلزمه ضمان ذلك الضرر: وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4) -رحمهم الله-. القول الثاني لا يلزمه ضمان ذلك الضرر: وبه قال الإمام ابن حزم الظاهري (¬5) وبعض فقهاء الحنابلة (¬6) -رحمهم الله-. الأدلة: أولاً دليل القول الأول: أن الأصل يقتضي إيجاب الضمان، فإذا أذن المكلف كان مسقطًا لحقه بذلك الإذن، وإذا لم يأذن بقي حكم الأصل الموجب للتضمين (¬7). ¬

_ (¬1) تكملة البحر الرائق للطوري 8/ 33، الفتاوي الهندية 5/ 357. (¬2) العقد المنظم للحكام لابن سلمون 2/ 80 بهامش التبصرة، تبصرة الحاكم لابن فرحون 2/ 243. (¬3) روضة الطالبين للنووي 9/ 164، 165، ونسب هذا القول إليهم الدكتور أحمد محمد إبراهيم في مقاله: مسئولية الأطباء مجلة الأزهر المجلد 19 عدد ذي القعدة ْعام 1367 هـ. وعزاه إلى المهذب للشيرازي 2/ 306. (¬4) المغني والشرح الكبير لابن قدامة 6/ 121، قال في الإنصاف: "يشترط لعدم الضمان في ذلك أيضًا وفي قطع سلعة ونحوه إذن المكلف، أو الوالي، فإن لم يأذنا ضمن على الصحيح من المذهب، وعليه الأصحاب" اهـ. الإنصاف للمرداوي 6/ 75. (¬5) المحلى لابن حزم 10/ 444. (¬6) الإنصاف للمرداوي 6/ 75. (¬7) هذا الدليل مفهوم من كلام الإمام ابن قدامة وابن القيم -رحمهما الله-. انظر =

ثانيا دليل القول الثاني:

ثانيًا دليل القول الثاني: استدل القائلون بإسقاط الضمان بدليل الكتاب والسنة: أ- دليلهم من الكتاب استدلوا بما يلي: 1 - قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (¬1). وجه الدلالة: أن الطبيب إذا أقدم على فعل الجراحة قاصدًا نفع المريض، ولم يتعد في فعله كان معينًا لذلك المريض على الطاعة والبر بشفائه من علته التي تعيقه عن تلك المصالح الدينية (¬2). 2 - قوله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} (¬3). وجه الدلالة: أن الطبيب محسن بفعله، فلا سبيل عليه بالضمان (¬4). ب- دليلهم من السنة: حديث أسامة بن شريك رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء ... " (¬5). وجه الدلالة: أن الطبيب ممتثل لأمر الشرع بمداواته للغير ولو بغير إذنه (¬6). ¬

_ = المغني والشرح الكبير لابن قدامة 6/ 121، تحفة المودود لابن القيم 153. (¬1) سورة المائدة (5) آية 2. (¬2) المحلى لابن حزم 10/ 444. (¬3) سورة التوبة (9) آية 91. (¬4) المحلى لابن حزم 10/ 44. (¬5) تقدم تخريجه. (¬6) المحلى لابن حزم 10/ 444.

الترجيح: الذي يترجح في نظري والعلم عند الله هو القول بتضمين الجراح إذا أقدم على فعل الجراحة بغير إذن المريض وذلك لما يأتي: أولاً: لصحة ما ذكره أصحاب هذا القول. ثانيًا: أما استدلال القائلين بعدم تضمينه فيجاب عليه بما يلي: أ- دليلهم من الكتاب: أما الآية الأولى: فيجاب عنها: بأنه ليس من البر أن يقدم الطبيب على إيلام المريض وأذيته بالجراحة بدون رضا منه، وبذلك ينتفي وصف الجراحة بكونها من البر على هذا الوجه، بل هي متضمنة للاعتداء والأذية ما دام أن المريض غير راض بفعلها. ثم لو قلنا بجواز فعل الأطباء للجراحة بدون إذن المرضى بناء على أنهم قاصدون للبر، للزم منه أن يقال بجواز أخذ التجار "الذين يحسنون صنعة التجارة" لأموال الناس ولو بغير رضاهم ليتاجروا بها، وينفعوهم بتلك المتاجرة، وإذا خسروا لا ضمان عليهم إذ لم يتعدوا، وهذا لم يقل به أحد، فإذا انتفى اعتبار ذلك في الأموال فمن باب أولى أن ينتفي اعتباره في الأبدان التي هي أعظم حرمة عند الله تعالى وتلفها لا يمكن تعويضه بخلاف المال. وأما الآية الثانية: فإنه يجاب عنها بأن الطبيب لا يعتبر محسنًا في حال إقدامه على جرح الغير وأذيته بفعل الجراحة من غير إذنه ورضاه، بل هو مسيء إلى ذلك الغير بإيلامه والتسبب في جرحه بدون إذنه.

ب- دليلهم من السنة: أما حديث أسامة رضي الله عنه فيجاب عنه: بأن الاستدلال به مبني على أن التداوي واجب بناء على ظاهر الأمر الوارد فيه، والصحيح أن التداوي مندوب لورود الدليل الصارف لهذا الأمر عن ظاهره كما تقدم بيانه عند الكلام على حكم التداوي بالجراحة. لهذا كله فإنه يترجح القول بوجوب تضمين الطبيب الجراح إذا أقدم على فعل الجراحة بدون إذن المريض وترتب الضرر على فعلها ... والله تعالى أعلم.

المقصد الثانى في (القصاص)

المقصد الثانى في (القصاص) يعتبر القصاص أثرًا من الآثار المترتبة على ثبوت موجب المسئولية، وذلك في حالة واحدة، وهي ثبوت موجب العدوان، فإذا ثبت أن الطبيب كان قاصدًا لقتل المريض، أو إتلاف شيء من جسده، وأنه اتخذ من مهمة الجراحة ستارًا على جريمته فإنه يقتص منه سواء كان الضرر موجبًا لإتلاف النفس أو الأطراف، وتحققت الشروط المعتبرة للقصاص (¬1). قال الشيخ خليل بن إسحاق المالكي (¬2) -رحمه الله- في مختصره عند بيانه للصور الموجبة للقصاص: "كطبيب زاد عمدًا" (¬3) اهـ. قال الشيخ أحمد الدردير (¬4) -رحمه الله- في شرحه: قوله ¬

_ (¬1) الدر المختار للحصكفي 2/ 438، قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي 374، الإقناع للشربيني 2/ 155، العدة للبهاء المقدسي 492. (¬2) هو الشيخ خليل بن إسحاق بن موسى بن شعيب المعروف بالجندى فقيه، مشارك في علوم العربية، والحديث، والفرائض، والأصول، والجدل، توفي -رحمه الله- بمكة سنة 767 من الهجرة، وله مصنفات منها: المختصر في فروع الفقه المالكي، مناسك الحج، شرح ابن الحاجب. معجم المؤلفين عمر كحالة 4/ 113 , 114. (¬3) المختصر لخليل 317. (¬4) هو الشيخ أحمد بن محمد بن أحمد العدوي المالكي الشهير بالدردير، ولد بمصر سنة 1127 من الهجرة، وتولى الإفتاء فيها وتوفي فيها سنة 1201 هـ. ومن مؤلفاته: أقرب المسالك، فتح القدير في أحاديث البشير النذير، ورسالة في متشابهات القرآن. معجم المؤلفين عمر كحالة 2/ 67.

"كطبيب": المراد به من باشر القصاص من الجاني، "زاد" على المساحة المطلوبة، "عمدا" فيقتص منه بقدر ما زاد" (¬1) اهـ. فلم يلتفت إلى وصف الطبيب، وإنما التفت إلى قصده، ولا يشكل على هذا ورود العبارة في حق الطبيب الذي يقوم على القصاص، لأنه في حكم الطبيب المداوي فكل منهما قائم بمهمة مأذون فيها شرعًا واختلاف الحالين لا تأثير له، ولذلك نص الشيخ محمد الدسوقي -رحمه الله- (¬2) على وجوب القصاص على الطبيب المداوي، إذا قصد الاعتداء وذلك بقوله: "إنما لم يقتص من الجاهل لأن الفرض أنه لم يقصد ضررًا، وإنما قصد نفع العليل، أو رجا ذلك، وأما لو قصد ضرره فإنه يُقْتَصُ منه" (¬3) اهـ. فدل هذا على مشروعية القصاص من الطبيب القاصد للاعتداء بالجراحة عمومًا "في النفس والأطراف". وهذا الحكم الذي نص عليه هؤلاء الفقهاء -رحمهم الله- يتفق مع الأصل الشرعي الذي دلت عليه نصوص الكتاب العزيز. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} (¬4). ¬

_ (¬1) شرح الدردير 4/ 295. (¬2) هو الشيخ محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي عالم مشارك في الفقه والكلام والنحو والبلاغة والمنطق وغيرها، ولد -رحمه الله- بدسوق من قرى مصر، وتوفي بالقاهرة سنة 1230 من الهجرة، وله مصنفات منها: حاشية على شرح الدردير لمختصر خليل، حاشية على شرح سعد الدين التفتازاني على التلخيص في البلاغة، حاشية على مغني اللبيب في النحو. معجم المؤلفين، عمر كحالة 8/ 292. (¬3) حاشية الدسوقي 4/ 295. (¬4) سورة البقرة (2) آية 178.

وقال سبحانه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (¬1). وقال سبحانه: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (¬2). فدلت هذه الآيات الكريمة على وجوب القصاص في النفس والأطراف، وشملت بعمومها الأطباء وغيرهم، وقد أكدت السنة المطهرة ذلك، كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام من حديث عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل دم امريء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس ... " (¬3). وفي الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه: "أن ابنة النضر لطمت جارية فكسرت ثنيتها، فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر بالقصاص" (¬4). فدل هذان الحديثان على وجوب القصاص في النفس والأطراف، والطبيب داخل في عموم دلالتها وبتعمد الطبيب للقتل والقطع للعضو بقصد الضرر خرج عن كونه طبيبًا إلى كونه ظالمًا معتديًا وأصبح وصفه بكونه طبيبًا لا تأثير له لخروجه بتلك الجناية عن حدود الطب مع قصدها. وهذا الأثر قل أن يوجد عند الأطباء لما عرف عنهم من الحرص ¬

_ (¬1) سورة البقرة (2) آية 179. (¬2) سورة المائدة (5) آية 45. (¬3) رواه البخاري في صحيحه 4/ 188. (¬4) المصدر السابق 4/ 190.

على نفع مرضاهم وهم محل حسن الظن، ولذلك نجد الفقهاء -رحمهم الله- يعتبرون هذا الأصل فيهم، ومن ثم قال بعضهم عند بيانه لعلة إسقاط القصاص عن الطبيب إذا قصر: "والأصل عدم العداء إن ادعي علية بذلك" (¬1) اهـ. فالأصل في الأطباء أنهم إنما يقصدون شفاء مرضاهم والإحسان إليهم، وإنما المقصود من إيراد هذا الأثر هنا بيان حكمه شرعًا على فرض وجوده ... والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي 4/ 295.

المقصد الثالث في (التعزير)

المقصد الثالث في (التعزير) يترتب هذا الأثر على موجب الجهل، وعدم اتباع الأصول العلمية المعتبرة عند المختصين. فأما موجب الجهل فإنه لا إشكال في تعزير صاحبه، لما في التطبب من الكذب، والتدليس على الناس على وجه يتضمن الاستخفاف بحرمة أرواحهم وأجسادهم، الأمر الذي يوجب معاقبة صاحبه بما يردعه، ويزجر غيره عن فعله، فلو فتح هذا الباب للناس وترك المتطبِّبون على حالهم لأدى ذلك إلى مفسدة عظيمة فوجب قفل السبل المفضية إليها بتعزير كل من سولت له نفسه الإقدام على معالجة المرضى بدون علم ودراية. ولذلك نجد من الفقهاء -رحمهم الله- من اعتبر هذا الأثر وحكم بعقوبة المتطبب الجاهل، قال الشيخ محمد بن يوسف العبدري المالكي -رحمه الله-: "فإن أخطأ كأن نزل يد الخاتن، أو يقلع غير الضرس التي أمر بها، فهى من جناية الخطأ إن كان من أهل المعرفة، وإن غَرَّ من نفسه عُوقِبَ" (¬1) اهـ. فقوله- رحمَه الله-: "إن غَرَّ من نفسه عُوقبَ": المراد به أن يكون جاهلاً غرّ العليل فادعى علمه بالطب وأخطأ في مهمتة، وقوله: "عوقب" المراد به أنه يعزر، وقد ورد ذلك صريحاً في نقل الإمام ¬

_ (¬1) التاج والإكليل للمواق 5/ 439.

إبراهيم بن فرحون المالكي -رحمه الله- عن بعض فقهاء المالكية -رحمهم الله- وذلك في قوله: "قال ابن عبد السلام: وينفرد الجاهل بالأدب، ولا يؤدب المخطيء ... " (¬1) اهـ. فالمراد بالأدب تعزيره بما يردعه عن العود إلى غش الناس وتعريض أرواحهم وأجسادهم للتلف. وكما يعزر المتطبب في جسده كذلك يعزر بمنعه عن مهنة الطب التي يجهلها، فلولي الأمر الحق في الحجر على هذا الصنف ومنعه من أذية الناس والإضرار بهم، لأن ذلك محقق للمصلحة المنصب من أجل تحصيلها، وموجب لدرء المفسدة المنصب من أجل دفعها ورفعها، ولهذا نجد بعض الفقهاء -رحمهم الله- ينصون على الحجر على المتطبب الجاهل إعمالاً للقاعدة الشرعية التي تقول: "يتحمل الضرر الخاص لأجل دفع الضرر العام" (¬2). قال الشيخ زين الدين بن نجيم -رحمه الله- عند بيانه لفروع هذه القاعدة: "ومنها جواز الحجر على البالغ العاقل الحر عند أبي حنيفة -رحمه الله- في ثلاث: المفتي الماجن، والطبيب الجاهل، والمكاري المفلس، دفعًا للضرر العام" (¬3) اهـ. ¬

_ (¬1) تبصرة الحكام لابن فرحون 2/ 243. (¬2) الأشباه والنظائر لابن نجيم 87، قواعد الفقه للمجددي 139. شرح القواعد الفقهية للزرقاء 143، 144. (¬3) الأشباه والنظائر لابن نجيم 87، ونص على مثله الشيخ علاء الدين الحصكفي والشيخ أحمد الزرقاء. انظر المختار للحصكفي 323، شرح القواعد الفقهية للزرقاء 144.

فقوله دفعاً للضرر العام فيه إشارة إلى أن منع هذا الصنف من الأطباء، وإن كان يتضمن الإضرار بهم من ناحية كسبهم المادي إلا أنه مبني على دفع ضرر أعظم من ذلك الضرر الذي لحق بهم، وهو الضرر العام الذي سيلحق المجتمع بسبب المتطبب الجاهل. وأما تعزير الطبيب الذي خرج عن الأصول العلمية فذلك إنما يكون في حالة عدم وجود عذر مقبول عند الأطباء المختصين لخروجه، بأن خرج على وجه الإهمال والتقصير فحينئذ ينبغي تعزيره من جهة أنه أخل بالواجب الذي ينبغي عليه القيام به على وجهه خاصة وأنه ملتزم بذلك في عقده مع المريض أو مع المستشفى، فإذا قصر أو أهمل فإنه ينبغي تأديبه على ذلك التقصير والإهمال صيانة لأرواح الناس ودمائهم، إذ لو ترك من دون عقوبة فإنه سيعود إلى ذلك الإهمال والتقصير ويعتاده في الغالب، وبالتعزير ينكف، وينزجر غيره، وتعزير الطبيب على هذا الوجه ليس فيه ظلم له، بل هي عقوبة مبنية على وجود ما يبررها ويدعو إليها. وينبغي على القاضي أن يرد ذلك التقصير والإهمال إلى أهل الخبرة، ويتعرف عن طريقهم على عظيم جرم الطبيب في إخلاله، ومن ثم يقرر ما يراه مناسبًا لعقوبته، وزجر غيره والله تعالى أعلم.

مسألة: هل يعزر الطبيب الجراح إذا أقدم على فعل الجراحة بدون إذن المريض أو وليه؟.

مسألة: هل يعزر الطبيب الجراح إذا أقدم على فعل الجراحة بدون إذن المريض أو وليه؟. أشار إلى هذه المسألة الإمام إبراهيم بن فرحون المالكي -رحمه الله- بقوله: "قال ابن عبد السلام: وينفرد الجاهل بالأدب، ولا يؤدب المخطيء، وهل يؤدب من لم يؤذن له فيه نظر" (¬1) اهـ. فظاهر قوله: "فيه نظر" يدل على أن القول بتأديبه محتمل، ويقوى اعتباره إذا نظرنا إلى مخالفة الطبيب للشرط المعتبر لجواز فعل الجراحة، إضافة إلى أنه تسبب في أذية المريض وإيلامه بالجراحة، ثم إننا لو لم نقل بتعزيره خاصة في هذا الزمان لأدى ذلك إلى فتح باب الخصومات، والطبيب حريص على منفعته التي يجدها من وراء فعله للجراحة، فكان الأولى القول باعتبار التعزير في هذه الحالة. لكي تستثنى من الحكم بتعزير الطبيب إذا أقدم على فعل الجراحة بدون إذن المريض الحالات الاضطرارية التي يجوز له فيها فعل الجراحة بدون موافقة المريض ووليه ... والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) تبصرة الحاكم لابن فرحون 2/ 243.

الفصل الثاني في (مسألة الجراحة الطبية)

الفصل الثاني في (مسألة الجراحة الطبية)

تمهيد

تمهيد يشتمل هذا الفصل على جملة من المسائل المتعلقة بالجراحة الطبية منها ما يرجع إلى الرخص المترتبة على الجراحة الطبية، ومنها ما يتعلق بشروط جواز الجراحة، ومنها ما يتعلق بالطواريء التي تحدث أثناء العمل الجراحي، ومنها ما يتعلق بالأعضاء، ومنها ما يتعلق بالتخدير، ومنها ما يتعلق بالإجارة على فعل الجراحة الطبية. وبيان جميع هذه المسائل في هذا الفصل سيكون في ستة مباحث: المبحث الأول: في رخص العبادات. المبحث الثاني: في مسائل الشروط. المبحث الثالث: في مسائل الطواريء. المبحث الرابع: في مسائل الأعضاء. المبحث الخامس: في مسائل التخدير. المبحث السادس: في مسائل الإجارة. وبيانها فيما يلي:

المبحث الأول رخص العبادات

المبحث الأول رخص العبادات لقد كان من نعم الله تبارك وتعالى على هذه الأمة أن يسر لها في الأحكام، وجعل شريعتها شريعة رحمة وتخفيف كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬1)، وقوله جل شأنه: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (¬2)، وقوله سبحانه مخاطبا نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (¬3) والآيات في هذا المعنى كثيرة. فالشريعة في أصلها مشتملة على اليسر والرحمة، فإذا وجدت في المكلف موجبات التخفيف والرخص خفف الله عنه، ويسر عليه في الحكم أكثر، كما شهدت بذلك النصوص الشرعية، وبيَّنه أهل العلم -رحمهم الله- في كتبهم. ومن تلك الموجبات، المرض الذي يعوق الإنسان، ويتسبب في حصول مشقة الآلام ومتاعبها، وعلاج هذا الألم قد يستلزم التخفيف أيضًا كالحال في الجراحة الطبية التي يترتب عليها منع المريض من فعل بعض الفرائض، وأركان العبادات حتى تعود الأعضاء والجروح إلى ْوضعها الطبيعي, كل ذلك ليتحقق الشفاء المطلوب من فعل الجراحة ¬

_ (¬1) سورة البقرة (2) آية 185. (¬2) سورة النساء (4) آية 28. (¬3) سورة الأنبياء (21) آية 107.

بإذن الله عز وجل. والرخص المتعلقة بالعبادات والتي يحتاج إليها المريض بعد علاجه بالجراحة منها ما يرجع إلى الصلاة، ومنها ما يرجع إلى الصيام، ومنها ما يرجع إلى الحج، لذلك فإن بيانها في هذا المبحث سيكون في الثلاثة مطالب التالية:

المطلب الأول في (رخص الطهارة)

المطلب الأول في (رخص الطهارة) والأصل فيها قول الحق تبارك وتعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا ... } (¬1). فرخص الله عز وجل للمريض أن يعدل عن فرض الوضوء إلى رخصة التيمم نظرًا لوجود الموجب للتخفيف وهو العجز عن استعمال الماء لكون المريض، والمتداوي بالجراحة قد يعجز عن استعمال الماء في طهارة الحدث الأصغر أو الحدث الأكبر، وذلك لأن الجروح تتأذى بغلسها بالماء، ولذلك عتب النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصحابة أمرهم للرجل الذي أصابته الجراح فأجنب بالغسل، فاغتسل فمات فقال عليه الصلاة والسلام: "قتلوه قتلهم الله" (¬2). فهذا يدل دلالة واضحة على أن وجود الجرح الذي يتضرر صاحبه بغسله يجيز لصاحبه العدول عن غسله إلى مسحه إن أمكن أو التيمم إن عم البدن أو جله، وغلب على ظن صاحبه التلف، أو حصول ضرر بالغسل والوضوء لو اغتسل وتوضأ. ¬

_ (¬1) سورة المائدة (5) آية 6. (¬2) رواه أبو داود في سننه 1/ 142، والدارقطني 1/ 189، 190، وترجم له بقوله: "بأن جواز التيمم لصاحب الجراح مع استعمال الماء وتعصيب الجرح" وهذا الحديث صححه ابن السكن. انظر نيل الأوطار للشوكاني 1/ 257.

ونظرًا لذلك نص الفقهاء -رحمهم الله- على العمل بهذه الرخصة فأجازوا للمريض الذي يخشى على نفسه الهلاك لو اغتسل أو يخشى تلف عضو من أعضائه لو اغتسل أو توضأ رخصوا له بالتيمم (¬1)، ولم يشترطوا في هذه الرخصة فقده للماء خلافًا لعطاء -رحمه الله- الذي اشترط لصحة تيممه أن يفقد الماء (¬2) لظاهر قوله سبحانه: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} (¬3). والصحيح ما ذهب إليه جماهير أهل العلم -رحمهم الله- من الترخيص للجريح بالتيمم ولو لم يجد الماء لقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (¬4)، فقد دلت هذه الآية الكريمة على حرمة قتل الإنسان لنفسه، وذلك بتعاطي الأسباب الموجبة لهلاكها، والغسل والوضوء على هذا الوجه مفض إلى الهلاك فيعتبر من أسبابه فلا يشرع للجريح فعله. وقد احتج عمرو بن العاص -رضي الله عنه- بهذه الآية الكريمة لما خاف على نفسه الهلاك بالاغتسال في البرد، وعدل عنه إلى التيمم، فأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك (¬5)، فدل هذا على أن وجود السبب المفضي إلى الهلاك يعتبر من موجبات الترخيص بالعدول عن الغسل إلى التيمم، والجراحة متوفر فيها ذلك الوصف. وقصة الصحابي الذي أمره أصحابه بالاغتسال مع الجراحة تعتبر ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين 1/ 215، 216، قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي 52، المهذب للشيرازي 1/ 37، الإنصاف للمرداوي 1/ 271. (¬2) المغني والشرح الكبير لابن قدامة 1/ 262. (¬3) سورة المائدة (5) آية 6. (¬4) سورة النساء (4) آية 29. (¬5) رواه أبو داود في سننه 1/ 141، والداقطني 1/ 178.

دليلاً واضحًا على أن مشقة الجراح توجب الترخيص بالتيمم. وللجرح الموجب لرخصة التيمم عند الشافعية -رحمهم الله- شرط لابد من توفره، وهو خوف التلف (¬1)، ومفهومه أنه لا يتيمم عند عدم خوفه، لكن لما نصوا على أن خوف زيادة العلة، أو بطء البرء، أو شدة الضنا، أو الشين الفاحش يعتبر موجبًا للترخيص بالتيمم على الأظهر في المذهب (¬2)، دل ذلك على أن الجراحة إذا لم يخف منها التلف، وخيف منها حصول الأضرار السابقة جاز لصاحبها أن يترخص بالتيمم. والجراحة الطبية تشتمل في كثير من صورها على هذه الأضرار التي تترتب على الغسل والوضوء، فغسل موضعها يؤدي إلى التهابه وتسممه، وقد ينتهي ذلك بوفاة المريض في أغلب الأحيان. لذلك فإنها إذا بلغت إلى مقام المشقة الضرورية الموجبة للترخيص بأن خيف فوات النفس أو العضو، أو الحاجية بأن خيف زيادة ألم، أو حصول مضاعفات توجب الضرر أو تأخر البرء، جاز لصاحبها أن يترخص بالتيمم بشرط أن تعم الجراحة البدن، وأعضاء الوضوء أو جلها (¬3). أما إذا كانت في جزء من الجسم بحيث يمكن غسل غيره، والمسح على ذلك الجزء، فإنه يجب على المريض غسل ما أمكن والمسح على غيره، ولم يجز له أن يترخص بالتيمم (¬4)، وذلك لأن ¬

_ (¬1) المهذب للشيرازي 1/ 36. (¬2) الوسيط في المذهب للغزالي 1/ 440، روضة الطالبين للنووي 1/ 103. (¬3) قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي 52، روضة الطالبين للنووي 1/ 104. (¬4) الدر المختار للحصكفي 1/ 46، منح الجليل لعليش 1/ 97، روضة الطالبين =

الأصل في تلك الأعضاء أن تكون طهارتها بالماء سواء كان ذلك في وضوء أو غسل، فوجب عليه إعمال ذلك الأصل لكونه قادرًا عليه، وأما الجرح فإنه يترخص بمسحه لمكان المشقة الموجبة للترخيص بالمسح. وإذا كانت على الجراح عصابة أو جبيرة، وخاف من نزعها الضرر جاز له أن يترخص بالمسح عليها لمكان المشقة المترتبة على النزع والغسل (¬1). إلا أنه يشترط في جواز المسح على الجبيرة والعصابة الموضوعة على الجراح أن تكون مقتصرة على موضع الحاجة دون زيادة عليه. فإن زادت عليه وجب على المريض غسل ذلك الجزء الزائد، ولم يجز له أن يترخص بالمسح على غطائه لعدم وجود الحاجة الموجبة للترخيص بذلك المسح (¬2). وعلى هذا فإنه ينبغي على الأطباء ومساعديهم من الممرضين إذا أرادوا عصب موضع الجراحة أن يتوفر في ذلك العصب شرطان: أحدهما: أن توجد الحاجة الداعية إلى تغطية الجرح بتلك العصابة فإذا لم توجد وأرادوا عصب موضع الجراحة جاز لهم ذلك بشرط أن ينبهوا المرضى على نزعها عند الغسل والوضوء، وأن يمكنوهم من ذلك إذا طلبوا، فإذا لم يفعلوا أثموا شرعًا. ¬

_ = للنووي 1/ 104، 106، الإنصاف للمرداوي 1/ 271. (¬1) بدائع الصنائع للكاساني 1/ 13، منح الجليل لعليش 1/ 97، المهذب للشيرازي 1/ 37، الإنصاف للمرداوي 1/ 271. (¬2) بدائع الصنائع للكاساني 1/ 13، روضة الطالبين للنووي 1/ 104، 106، العدة شرح العمدة للبهاء المقدسي 43.

الثاني: أن يتقيدوا في تلك العصابة بالقدر المحتاج إليه، فإذا كان القدر المحتاج إليه مثلاً ربع الساعد لم يجز لهم الزيادة على ذلك الربع إعمالاً للقاعدة الشرعية "الضرورات تقدر بقدرها" (¬1). قال الإمام السيوطي -رحمه الله - عند بيانه لفروع هذه القاعدة: "والجبيرة يجب أن لا تستر من الصحيح إلا ما لابد منه للاستمساك" (¬2) اهـ. فإذا ستر الأطباء موضعًا غير محتاج إلى ستره وجب على المريض نزع ذلك الساتر عند الوضوء والغسل ولو اشتمل الستر على موضع محتاج إليه وقدر زائد وجب عليه كشف الموضع الزائد وغسله، والمسح على الموضع المحتاج إليه. ومن ثم قال الإمام الكاساني -رحمه الله-: " ... وإن كان ذلك لا يضر بالجرح عليه أن يحل ويغسل حوالي الجراحة، ولا يجوز المسح عليها، لأن الجواز لمكان الضرورة فيقدر بقدر الضرورة" (¬3). ومتى زالت الحاجة لستر الجراحة بالعصابة وغيرها وجب الرجوع إلى الأصل الموجب للغسل، للقاعدة الشرعية. ما جاز لعذر بطل بزواله (¬4) ... وينبغي على الأطباء والممرضين مراعاة ذلك بتفقد موضع الجراحة وتنبيه المرضى على غسله بعد زوال العذر. ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر للسيوطي 85، ومثله في الأشباه والنظائر لابن نجيم 86. (¬2) الأشباه والنظائر للسيوطي 85، ومثله في الأشباه والنظائر لابن نجيم 86. (¬3) بدائع الصنائع للكاساني 1/ 13. (¬4) الأشباه والنظائر للسيوطي 85، والأشباه والنظائر لابن نجيم 86، شرح القواعد الفقهية للزرقاء.

وكما أن وجود الجراحة يوجب الترخيص في طهارة الحدث، كذلك الحال في طهارة الخبث فإنها توجب الترخيص فيها، فإذا كان موضع الجرح لا يرقأ نزفه، ولا ينقطع الدم والقيح والصديد الخارج منه ويشق على المريض غسله وتطهيره فإنه يجوز له أن يصلي على حالته، ولا يلزم بالأصل الموجب لطهارته (¬1) لمكان المشقة الموجبة للترخيص، والقاعدة "أن الأمر إذا ضاق اتسع" (¬2)، فمثل هذا المريض يضيق عليه الحال لو أمرناه بغسل الموضع، وقد يتسبب ذلك في حدوث تسمم فيه، أو تأخر برء فلذلك يشرع له الترخص بترك الطهارة. وهكذا الحال لو تعذر عليه الاستنجاء والاستجمار لمكان موضع الجراحة الموجود في القبل أو الدبر فإنه يجوز له أن يصلي على حالته والله تعالى أعلم. * * * ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين 1/ 281، قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي 49. (¬2) الأشباه والنظائر للسيوطي 83، الأشباه والنظائر لابن نجيم 84.

المطلب الثاني في (رخص الصلاة)

المطلب الثاني في (رخص الصلاة) والأصل فيها ما ثبت في الصحيح من حديث عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: كانت بي بواسير فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة؟ فقال: "صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب" (¬1). فقد دل هذا الحديث على أن المريض إذا لم يستطع القيام جاز له أن يترخص بالصلاة قاعدًا، فإن لم يستطع القيام والقعود صلى على جنب (¬2). وقد اتفق العلماء -رحمهم الله- على أن المريض إذا لم يستطع القيام في الصلاة سقط عنه فرضه، قال الإمام ابن حزم رحمه الله-: "واتفقوا على أن القيام فيها فرض لمن لا علة به .. " (¬3) اهـ. ومن ثم فإن المريض بعد الجراحة إذا لم يستطع القيام في صلاته جاز له أن يترخص بالقعود، وهل له إذا خاف تأخر البرء أو وجد مشقة شديدة فيه أن يترخص بترك القيام؟ قولان للعلماء (¬4): أصحهما أنه ¬

_ (¬1) رواه البخاري في صحيحه 1/ 195، 196. (¬2) فتح الباري لابن حجر 2/ 397. (¬3) مراتب الإجماع لابن حزم 26، حاشية ابن عابدين 1/ 709، جواهر الإكليل للأبي 1/ 55، المهذب للشيرازي 1/ 101، الإنصاف للمرداوي 1/ 305. (¬4) القول باعتبار خوف تأخير البرء رخصة في ترك القيام نص عليه فقهاء الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة. انظر شرح العناية للبابرتي 1/ 375، جواهر الإكليل للآبي 1/ 55، روضة الطالبين للنووي 1/ 234، الإنصاف للمرداوي =

يجوز له ذلك، لأن خوف إبطاء البرء ووجوده مشقة الضنى يعتبر في حكم المشقة الحاجية الموجبة للترخيص على أصح الوجهين عند العلماء، قال الإمام العز بن عبد السلام -رحمه الله- عند بيانه لمراتب المشقة الموجبة للترخيص شرعًا: "الرتبة الثانية: مشقة دون المشقة في الرتبة كالخوف من حدوث المرض المخوف، فهذا ملحق بالرتبة العليا على الأصح. الرتبة الثالثة: خوف إبطاء البرء، وشدة الضنى ففي إلحاقه بالرتبة الثانية خلاف، والأصح الإلحاق" (¬1) اهـ. وعلى هذا فإنه يجوز للمريض أن يترخص بترك القيام في الصلاة إذا تعذر عليه ذلك كالحال في من أجريت له الجراحة في قدميه بحيث لا يستطيع القيام عليهما. وكذلك يجوز له إذا أمكنه أن يقوم ولكن يؤدي ذلك إلى حصول ضرر كتأخر برءٍ، أو عدم نجاح الجراحة التي أجريت له , يجوز له أن يصلي قاعدًا في جميع ذلك. ولو نصحه الأطباء بترك القعود أيضًا خوفًا من المفسدة نفسها، جاز له ترك القعود، وكذلك لو لم يستطع القعود كالحال في جراحة العمود الفقري، فإنه يجوز له أن يصلي على جنبه ومستلقيًا يوميء إيماء (¬2)، لحديث عمران بن حصين -رضي الله عنه- المتقدم، وفيه: ¬

_ = 1/ 205، والقول باعتبار العجز عن القيام وحده دون تأخر البرء هو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد -رحمه الله-. الصحيح من المذهب خلافها المصدر الأخير. (¬1) قواعد الأحكام لابن عبد السلام 1/ 12. (¬2) فتح القدير لابن الهمام 1/ 375، جواهر الإكليل للأبي 1/ 56، 57، روضة الطالبين للنووي 1/ 236، 237، الإنصاف للمرداوي 1/ 307.

"فإن لم تستطع فعلى جنب". وكذلك يجوز له ترك الركوع والسجود إذا كان غير مستطيع (¬1) للانحناء أو خشي من ركوعه وسجوده حصول ضرر أو تأخر برء، كالحال في القيام بجامع المشقة في كل، وكما يجوز له ترك هذه الأركان نظرًا لوجود المشقة الموجبة للترخيص، كذلك يجوز له ترك شروط الصحة من باب أولى، فيرخص له أن يصلي مستلقيًا على ظهره، وإلى غير القبلة إن حضرته الصلاة ولم يجد من يوجهه إليها، كما نص على ذلك بعض الفقهاء -رحمهم الله- (¬2). وينبغي على المريض أن يتيقن بوجود الحاجة كما تقدم في رخص الطهارة، فلو أمكن أن يقوم بعض الركعة دون بعضها فعل ذلك (¬3)، كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في قيام الليل (¬4)، ولو أمكنه الانحناء يسيرًا في الركوع والسجود لزمه فعله وهكذا، فإذا زال العذر بالكلية زالت الرخصة ورجع إلى حكم الأصل الموجب لفعل الأركان على الوجه المطلوب ... والله تعالى أعلم. * * * ¬

_ (¬1) المصادر السابقة. (¬2) حاشية ابن عابدين 1/ 709. (¬3) جواهر الإكليل للأبي 1/ 56، الإنصاف للمرداوي 1/ 309. (¬4) رواه البخاري في صحيحه 1/ 196، وترجم له بقوله: "باب إذا صلى قاعدًا ثم صح أو وجد خفة تمم ما بقي". ورواه مسلم في صحيحه 1/ 281.

المطلب الثالث في (رخص الصوم)

المطلب الثالث في (رخص الصوم) وهي تنحصر في رخصة الفطر في رمضان، والأصل فيها قول الحق تبارك وتعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬1). قال الإمام القرطبي -رحمه الله- في تفسيره: "قوله تعالى: {مَرِيضًا}: للمريض حالتان: إحداهما: ألا يطيق الصوم بحال فعليه الفطر واجبًا. والثانية: أن يقدر على الصوم بضرر ومشقة، فهذا يستحق له الفطر ولا يصوم إلا جاهل ... وقال جمهور من العلماء: إذا كان به مرض يؤلمه، ويؤذيه، أو يخاف تماديه أو يخاف تزيده صح له الفطر" (¬2) اهـ. وعلى هذا فإن المريض بعد الجراحة إذا كان الصوم عليه متعذرًا كان الفطر في حقه واجبًا، وأما إن كان يستطيعه بمشقة لا تصل إلى درجة الخوف على النفس فإنه يخير بينه وبين الفطر، وإذا لم ينصحه الأطباء بالفطر فصام ووجد المشقة جاز له أن يترخص بالفطر، ولا تتوقف الرخصة في هذه الحالة على نصيحة الأطباء، فهو أعلم بنفسه. ¬

_ (¬1) سورة البقرة (2) آية 184. (¬2) تفسير القرطبي 2/ 276.

ويشرع للأطباء أن ينصحوا المرضى بالفطر فإذا خافوا تلف الأرواح وهلاكها وجب عليهم ذلك، وهكذا لو خافوا تلف العضو، لأن مشقة التلف في هذه الحالات وأمثالها تعتبر من أعظم مراتب المشقة وهي توجب الترخيص بالفطر وغيره. قال الإمام العز بن عبد السلام -رحمه الله-: "وأما الصوم فالأعذار فيه خفيفة كالسفر والمرض الذي يشق الصوم معه كمشقة الصوم على المسافر، وهذان عذران خفيفان وما كان أشد منهما كالخوف على الأطراف والأرواح كان أولى بجواز الفطر" (¬1) اهـ. واعتبار هذه الرخصة محل إجماع من أهل العلم -رحمهم الله- كما أشار إلى ذلك الإمام ابن حزم (¬2) -رحمه الله- والله تعالى أعلم. * * * ¬

_ (¬1) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 1/ 12. (¬2) مراتب الإجماع لابن حزم 40.

المطلب الرابع في (رخص الحج)

المطلب الرابع في (رخص الحج) الأصل في مشروعية فعل الجراحة للمحرم ما ثبت في الصحيح من حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم (¬1). فقد دل هذا الحديث على جواز التداوي بالجراحة، والإنسان محرم سواء كان إحرامه بحج أو عمرة، وقد تستلزم الجراحة الطبية فعل أشياء من محظورات الإحرام، كحلق الشعر، وعصب موضعها، وتغطيته، ومنع المريض من الخروج لإتمام نسكه، فهذه الأشياء كلها يرخص بفعلها للمحرم، والأصل في ذلك الترخيص قول الحق تبارك وتعالىِ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (¬2). فقد دلت هذه الآية الكريمة على أن الحاج والمعتمر يرخص لكل منهما في الحلق وفعل محظور الإحرام إذا وجد عذر المرض، وقد ثبت في حديث كعب بن عجرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر عليه وهو ينفخ تحت قدْرٍ له فقال له: "أيؤذيك هو، أمُّ رأسكَ؟ قال: نعم، قال: فاحلَق وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك نسيكة" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري في صحيحه 1/ 232، ومسلم 2/ 516. (¬2) سورة البقرة (2) آية 196. (¬3) رواه مسلم في صحيحه 2/ 514.

ولهذا كله فإنه إذا احتاج المحرم إلى حلق رأسه لعلاج موضع فيه بالجراحة فإنه يرخص له في فعل ذلك الحلق كما هو الحال في بعض صور الجراحة العصبية التي تستلزم حلق مؤخر الرأس أو أحد شقيه لكي يتمكن الطبيب من فعل الجراحة اللازمة (¬1). وكذلك لو احتاج إلى حلق الشعر في مواضع الجسد الأخرى كالعانة، والإبط، والصدر والساعد والساق وغيرها فإنه يجوز له ذلك، وتلزمه الفدية (¬2). أما لو احتاج الأطباء إلى قلع جلدة مشتملة على الشعر فإنه لا حرج عليهم في ذلك، وليس على المريض الفدية بناء على ما تقرر من عدم الضمان في التابع، والشعر هنا تابع للجلد، وليس مقصودًا في الأصل. قال الإمام ابن قدامة -رحمه الله-: "إذا قلع جلدة عليها شعر فلا فدية عليه، لأنه أزال تابعًا لغيره والتابع لا يضمن كما لو قطع أشفار عيني إنسان، فإنه لا يضمن أهدابهما" (¬3) اهـ. وبناء على هذا الأصل الموجب لإسقاط ضمان التابع فإنه يتفرع عليه، إن قطع كف المحرم وأصابعه المشتملة على الشعر والظفر لا يوجب الفدية أيضًا كما أشار إلى ذلك الإمام النووي -رحمه الله- ¬

_ (¬1) الجراحة العصبية. د. بكداش 18. (¬2) وهي على التخيير كما تقدم في حديث كعب. حاشية ابن عابدين 2/ 274، قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي 157، المهذب للشيرازي 1/ 214، الإنصاف للمرداوي 3/ 455، 456. (¬3) المغني لابن قدامة 3/ 497، ونص على مثل هذا الحكم "أي إسقاط الفدية على هذا الوجه" الإمام الشافعي وأصحابه إلا أنهم فضلوا الفدية. المجموع للنووي 7/ 248.

بقوله: "لو قطع يده، أو بعض أصابعه، وعليها شعر وظفر فلا فدية عليه بلا خلاف (¬1) لأنهما تابعان، غير مقصودين، وشبه أصحابنا هذا بما لو كانت له امرأة صغيرة فأرضعتها أمه انفسخ النكاح، ولزم الأم مهرها، ولو قتلتها لم يلزمها المهر لاندراج البضع في القتل .. " (¬2) اهـ. فبين -رحمه الله- عدم وجوب الفدية في قطع اليد والأصابع مع اشتمالها على الشعر والظفر للأصل الذي سبقت الإشارة إليه. ويرخص الأطباء بفعل الجراحة الطبية اللازمة لإسعاف الحجاج، لو كانت مفضية إلى فوات الحج عليهم ما دام أن تأخيرها يفضي بهم إلى الهلاك، أو حصول ضرر عظيم كما هو الحال في الجراحة التي تجرى لإسعاف حوادث الطرق المشتملة على الحالات الخطيرة وما في حكمها، ويعتبر المرض في هذه الحالات موجبًا للترخيص في امتناعه عن الحج، فإذا فاته تحلل بعمرة بعد شفائه (¬3)، ما لم يكن مشترطًا في إحرامه لحديث ضباعة بنت الزبير -رضي الله عنها- وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "لعلك أردت الحج؟ قالت: والله لا أجدني إلا وجعة، فقال لها: حجي واشترطي، قولي اللهم محلي حيث حبستني" (¬4). فقد دل هذا الحديث على مشروعية الاشتراط في الحج، وأن من حج مشترطًا حل من أحرامه عند وجود العذر الحابس دون أن يلزم بشىء (¬5). ¬

_ (¬1) أي عند أصحاب الشافعي كما ظهر من السياق. (¬2) المجموع للنووي 7/ 548. (¬3) الدر المختار للحصفكي 1/ 237، جواهر الإكليل للأبي 1/ 206، المجموع للنووي 8/ 310، الإنصاف للمرداوي 4/ 71. (¬4) رواه البخاري في صحيحه 3/ 241، 242، ومسلم 2/ 519، 520. (¬5) الإنصاف للمرداوي 4/ 72، المجموع للنووي 8/ 310، 311.

وإذا احتاج المحرم بعد فعل الجراحة إلى عصب موضعها جاز له ذلك لمكان العذر الموجب للرخصة ولزمته الفدية بذلك (¬1)، ويتقيد فيها بالحاجة فإذا زالت وجب عليها نزعها ... والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) جواهر الإكليل للأبي 1/ 188، منح الجليل لعليش 1/ 509.

المبحث الثاني في (مسائل الشروط)

المبحث الثاني في (مسائل الشروط) تتعلق بهذا المبحث جملة من المسائل منها ما يرجع إلى الأطباء، ومنها ما يرجع إلى شرط غلبة الظن بسلامة المريض، ومنها ما يرجع إلى شرط وجود الحاجة الداعية إلى فعل الجراحة، ومنها ما يرجع إلى اشتراط الإذن، ومنها ما يتعلق بجنس المريض والطبيب. ونظرًا لاختلاف نوعية هذه المسائل المتعلقة بشروط الجراحة فإن بيانها سيكون في المطالب التالية:

المطلب الأول هل يشترط إسلام الطبيب الجراح

المطلب الأول هل يشترط إسلام الطبيب الجراح مما عمت به البلوى في هذه الأزمنة معالجة الطبيب الكافر للمسلم، سواء كان ذلك الطبيب الكافر من أهل الكتاب كاليهود والنصارى، أو من غيرهم من ملل الكفر الأخرى. ومن المعلوم أن الكافر أيّاً كان كتابيًا أو غير كتابي يعتبر عدوًا للمسلم كما بين الله تعالى ذلك بقوله: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} (¬1)، والغالب في العدو أن تحمله العداوة على الإضرار بمن يعاديه، خاصة إذا كانت تلك العداوة في الدين، فقد يتقرب لمعبوده بإيصال الضرر وإيقاعه بمن يعاديه، ولو أدى ذلك إلى هلاكه وموته. وإذا كان الأمر كذلك فإنه يرد السؤال عن حكم قيام الأطباء الكفار بمعالجة مرضى المسلمين خاصة بالجراحة الطبية التي تشتمل على المراحل الخطيرة التي يسهل معها إيصال الضرر للمريض؟. والجواب: أنه لا حرج على المسلم إذا احتاج إلى معالجة الكافر أن يتعالج عنده، ولكن بشرط أن يعرف ذلك الكافر بالنصح والأمانة في معاملته. ففي الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر استأجرا رجلاً من بني الدَّيْلِ هاديًا خرّيتًا وهو على دين كفار قريش فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال ... " (¬2). ¬

_ (¬1) سورة النساء (4) آية 101. (¬2) رواه البخاري في صحيحه 2/ 33، وقولها رضي الله عنها: خريتًا أي ماهراً.

فكون النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأجره وهو على دين كفار قريش ويأمنه على نفسه وعلى أبي بكر رضي الله عنه مع أن السفر يسهل معه إيصال الضرر خاصة وأنه استأجره للدلالة على الطريق المأمون، وائتمنه على سر الهجرة قبل أن يخرج بثلاث ليال كل ذلك يدل دلالة واضحة على جواز معاملة الكافر إذا عرفت منه الأمانة والنصيحة، ولو كانت تلك المعاملة في شيء يتضمن الخطر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وإذا كان اليهودي أو النصراني خبيرًا بالطب ثقة عند الإنسان جاز له أن يستطبه كما يجوز له أن يودعه المال، وأن يعامله، وقد استأجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً مشركًا لما هاجر، وكان هاديًا خريتًا ماهرًا بالهداية إلى الطريق من مكة إلى المدينة، وائتمنه على نفسه، وماله. وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلمهم، وكافرهم، وقد روي أن الحارث بن كلدة -وكان كافراً- أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستطبوه. وإذا وجد طبيبًا مسلمًا فهو أولى، وأما إن لم يجد إلا كافرًا فله ذلك، وإذا خاطبه بالتي هي أحسنُ كان حسنًا" (¬1) اهـ. فبين -رحمه الله- جواز استطباب الطبيب الكافر، وأنه ينبغي مراعاة تقديم الطبيب المسلم عليه من باب الأفضلية، وذلك لأمن ضرره، ولأنه أحق بالنفع من الكافر. وبين من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على صحة هذا الحكم من كونه ائتمن الكافر على الدلالة في السفر وعمل بخبر خزاعة مسلمهم ¬

_ (¬1) مختصر الفتاوى المصرية للبعلي 517,516.

وكافرهم مع أن كافرهم يخشى منه خديعة المسلمين بالكذب، وكذلك أمره صحابته -رضي الله عنهم- أن يتعالجوا عند الحارث بن كلدة وهو كافر. فكل هذا يدل دلالة واضحة على جواز معالجة الطبيب الكافر للمسلم، إلا أنه إن تعالج عنده لا يعمل بوصفه للدواء المحرم، ولا يسمع قوله في الفطر في رمضان، والصلاة ونحوها من العبادات، بل ينبغي عليه أن يرجع إلى الأطباء المسلمين العدول في ذلك لأن شهادة الكافر مردودة في مثل هذا. قال الإمام موفق الدين عبد اللطيف البغدادي -رحمه الله-: "قال أحمد: يجوز الرجوع إلى الطبيب من أهل الذمة في الدواء المباح، ولا يسمع قوله إذا وصف دواء محرمًا كالخمر ونحوه، وكذلك لا يسمع قوله في الفطر والصلاة والصوم ونحو ذلك، ولا يقبل مثل هذا إلا من مسلمين عدلين من أهل الطب" (¬1) اهـ. وبناء على هذا فإنه لا يشترط إسلام الطبيب الجراح، لكن الأولى أن يتعالج عند المسلم، وإذا عالجه الطبيب الكافر لم يعمل بقوله في رخص العبادات ... والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) الطب من الكتاب والسنة للبغدادي 184.

المطلب الثاني هل يجوز إجراء الجراحة عند استواء الاحتمالين

المطلب الثاني هل يجوز إجراء الجراحة عند استواء الاحتمالين تقدم عند الكلام على الشروط المعتبرة لجواز الجراحة الطبية أن من شرطها أن يغلب على ظن الطبيب الجراح نجاح الجراحة، وبناء عليه فإنه يرد السؤال عن حكم إقدامه على فعل الجراحة إذا استوى في ظنه الاحتمالات؟. والجواب: أن الذي يظهر هو القول بالتوقف، والامتناع عن فعل الجراحة حتى يترجح أحد الاحتمالين على الآخر فمن ثم يقدم بعده على فعلها أو يحجم بحسب ذلك الظن الراجح، وقد أشار الإمام العز بن عبد السلام إلى ذلك بقوله -رحمه الله-: "وكما لا يحل الإقدام للمتوقف في الرجحان في المصالح الدينية حتى يظهر له الراجع، فكذلك لا يحل للطبيب الإقدام مع التوقف في الرجحان إلى أن يظهر له الراجح" (¬1) اهـ. فبين -رحمه الله- أنه يجب على الطبيب أن يتوقف عن المداواة في حال عدم ترجح احتمال السلامة وعدمها قياسًا على التوقف في المصالح الدينية. وهذا الحكم نص على خلافه بعض فقهاء الحنفية، ففي الفتاوي الهندية ما نصه: " ... في الجراحات المخوفة، والقروح العظيمة، والحصاة الواقعة في المثانة ونحوها إن قيل قد ينجو وقد يموت، أو ينجو ولا يموت يعالج، وإن قيل لا ينجو أصلاً لا يداوى بل يترك كذا في الظهيرية" (¬2) اهـ. ¬

_ (¬1) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 1/ 6. (¬2) الفتاوي الهندية 5/ 360.

فظاهر هذه العبارة جواز فعل الجراحة عند استواء الاحتمالين وذلك لقوله: "قد ينجو، وقد يموت ... يعالج". والقول بالتوقف الذي سبقت حكايته عن الإمام العز بن عبد السلام -رحمه الله- أولى بالاعتبار لصحة قياسه، ثم إنه يقوى بالأصل، فالجراحة الأصل فيها أنها محرمة، وإنما جازت لمكان المصلحة المترتبة على فعلها فإذا أصبحت مترددة بين المصلحة والمفسدة، رجح جانب المفسدة بالأصل الموجب للمنع، أو نقول سقط اعتبار المصلحة والمفسدة ورجع إلى حكم الأصل الموجب للمنع والله أعلم. * * *

المطلب الثالث بم تثبت الحاجة إلى فعل الجراحة الطبية؟

المطلب الثالث بم تثبت الحاجة إلى فعل الجراحة الطبية؟ تقدم في مبحث شروط جواز فعل الجراحة الطبية أن من شروطها أن توجد الحاجة الداعية إلى فعلها، وبناء على ذلك فإنه يرد السؤال عن ثبوت تلك الحاجة بم يكون؟. والجواب: أن الحاجة إلى الجراحة تثبت بشهادة الأطباء المختصين بأنها علاج الألم أو الآفة التي يشتكي منها المريض، وذلك لأن الشريعة تعتبر شهادة أهل كل علم فيما يعود إلى علمهم، ولما كانت الجراحة فرعًا من فروع علم الطب، وجب الرجوع إلى شهادة المختصين من الأطباء في علم الجراحة، ثم ينظر إلى أهل الاختصاص بموضع الألم وجراحته، فيرجع في جراحة أمراض العيون إلى الطبيب الجراح المختص بالعيون، وفي جراحة الأسنان إلى الطبيب المختص بأمراض الأسنان، وقد نص الفقهاء -رحمهم الله- على اعتبار شهادة الأطباء المختصين بالحاجة إلى الجراحة ومنهم الإمام النووي -رحمه الله- حيث يقول: "قلع السن الوجعة، إنما يجوز إذا صعب الألم، وقال أهل الخبرة: إنه يزيل الألم، وقطع اليد المتآكلة إنما يجوز إذا قال أهل الخبرة: إنه نافع ... " (¬1) اهـ. فاشترط -رحمه الله- لجواز فعل القلع والقطع شهادة الأطباء الذين عبر عنهم بأهل الخبرة بأن ذلك القلع والقطع يزيل الألم، وفي ذلك دليل ظاهر على اعتبار شهادتهم، وأنه ينبغي الرجوع إليهم لإثبات الحاجة إلى فعل الجراحة. ¬

_ (¬1) روضة الطالبين للنووي 5/ 184.

وإذا ثبت اعتبار شهادة الأطباء بوجود الجراحة ولزوم الرجوع إليهم في ذلك فإنه يرد السؤال هل يشترط فيهم العدد أو تكفي شهادة الطبيب الواحد منهم؟. والجواب: الذي يظهر أن شهادة الطبيب الواحد كافية في إثبات الحاجة إلى فعل الجراحة، ويشهد لذلك ما ثبت في الصحيح من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى أبيٍّ طبيبًا فقطع منه عرقًا ثم كواه عليه" (¬1). فهذا يدل دلالة واضحة على أن شهادة الطبيب الواحد تعتبر كافية في ثبوت الحاجة إلى فعل الجراحة الطبية، حيث لم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله الذي استند فيه إلى شهادته وحده، ولم يلزمه بشهادة طبيب آخر معه. وقال الشيخ أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيثمي -رحمه الله-: "أما إذا حل قلعها كأن صعب ألمها، وقال طبيب عدل، ولو عدل رواية فيما يظهر فيهما أنه يزول بالقلع فيجوز استئجار له ... واليد المتآكلة كالسن الوجعة" (¬2) اهـ. فنص -رحمه الله- على اعتبار شهادة الطبيب الواحد، إلا أنه قيده بوصف العدل، وهو وصف معتبر لقبول الشهادة شرعًا (¬3)، والحكم ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه، وقال الإمام الشوكاني -رحمه الله- في شرح هذا الحديث: "استدل بذلك على أن الطبيب يداوي بما ترجح عنده" اهـ. نيل الأوطار للشوكاني 8/ 205. (¬2) فتح الجواد للهيثمي 1/ 589. وقد أشار غيره إلى اعتبار شهادة الطبيب الواحد في التداوي بالمحرم. انظر فتح المعين لأبي السعود 3/ 409، الفتاوى الهندية 5/ 355. (¬3) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} سورة الحجرات (49) آية 6. وقد أجمع أهل العلم -رحمهم الله- على اعتبار العدالة في الشاهد ورد =

بالحاجة ضرب من الشهادة، لكن يرد السؤال عن الحالة التي عمت بها الآن من قلة العدول من الأطباء وغيرهم هل يجب البقاء على هذا الأصل وفي ذلك حرج عظيم، أم يرخص للناس في تركه؟. والجواب: أنه بناء على ما قرره شيخ الإسلام - ابن تيمية -رحمه الله- من اعتبار شهادة الأمثل فالأمثل من الفساق عند تعذر العدل (¬1) يمكن أن يتخرج عليه اعتبار شهادة الأمثل فالأمثل من الأطباء في هذه المسألة ... والله تعالى أعلم. * * * ¬

_ = شهادة الفاسق. انظر بداية المجتهد لابن رشد 2/ 450، البحر الزخار 5/ 24. (¬1) الاختبارات للبعلي 357، والقول بقبول أمثل الفساق اختاره جمع من فقهاء الحنفية، والمالكية، والشافعية -رحمهم الله-. انظر معين الحكام للطرابلسي 115، تبصرة الحكام لابن فرحون 2/ 24، ترشيح المستفيدين للسقاف 418، قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2/ 44.

المطلب الرابع هل يشترط إذن الوالي بفعل الجراحة الخطيرة؟

المطلب الرابع هل يشترط إذن الوالي بفعل الجراحة الخطيرة؟ لما كان المقصود من نصب الوالي رعايته لمصالح الأمة بتحصيلها عند فقدها، والمحافظة عليها حال وجودها، فإنه لا شك في شرعية استئذانه في فعل الجراحة الطبية الخطيرة، وذلك لأن هذا النوع من الجراحة يشتمل على أخطار توجب الرجوع إلى ولي الأمر لكي ينظر في عظيم الغرر الموجود فيها، فإن كانت مشتملة على ما يوجب الضرر والمفسدة العامة كان من حقه منع الطبيب، وإذا كانت مشتملة على المصلحة الراجحة أذن له بفعلها. وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أنه "بعث إلى أبي بن كعب رضي الله عنه طبيبًا فقطع منه عرقًا ثم كواه عليه" (¬1). ومع ذلك لم يستأذن أبيًا. فدل هذا على أحقية ولي الأمر في الإذن بفعل الجراحة وعدمه. والمريض قد يتعجل في الإذن بالجراحة الخطيرة، نظرًا لتعجله الشفاء وحرصه على تحصيله، ومن ثم قد يستدرك عليه ولي الأمر بنظره في هذا النوع من الجراحة ما قد يفوت بسبب استعجاله وإقدامه على فعلها بدون ترو وتأمل. ثم إن الجراحة الخطيرة من شأنها أنها تفضي إلى النزاع إذا انتهت بوفاة المريض -لا سمح الله- وهذا النوع من حق ولي الأمر أن يتحفظ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

في دفعه قبل وقوعه لئلا يؤدي إلى ضرر بالمجتمع، ونظرًا لذلك فإننا نجد من الفقهاء المتقدمين -رحمهم الله- من اعتبر إذن ولي الأمر في الجراحة الخطيرة واستحبه. قال الإمام مالك (¬1) -رحمه الله-: " ... إني لأحب للإمام أن يتقدم إلى هؤلاء الأطباء في قطع العروق، وما أشبهه، ألا يقدم أحد منهم على عمله إلا بإذنه، فإني لا أزال أسمع بطبيب قد عالج رجلاً فقطع عرقه، أو صنع به شيئًا فأعنته فمات منه، ولم أره يجعل على الذي عرف بالعلاج فيعالج بما يعرف شيئًا، ولكنه يستحب أن ينهى عن الأشياء التي فيها هلاك الناس إلا بإذن الإمام .. " (¬2) اهـ. فبين -رحمه الله- شرعية الرجوع إلى ولي الأمر في الجراحة الطبية الخطيرة، نظرًا لما يترتب عليها من هلاك الناس، وأن له الحق في نهي الأطباء عن الأشياء التي فيها هلاك للناس، ويعرف ذلك عن طريق سؤاله لأهل الخبرة، كما بين ذلك الإمام ابن رشد الجد -رحمه الله- في شرحه لكلام الإمام مالك المتقدم بقوله -رحمه الله-: "وإذا تقدم السلطان إلى الأطباء ألا يداوي أحدهم ما يخاف منه، وفيه غرر إلا بإذنه فوجه العمل في ذلك إذا استؤذن أن يجمع أهل تلك الصناعة، فإن رأوا أن يداوي العليل بذلك الدواء المخوف داواه به، ولم يكن عليه شيء ولا على عاقلته، إن مات منه، وإن رأوا ألا يجبر عليه بذلك الدواء المخوف نهاه عن سقيه إياه، فإن تعدى ضمن في ¬

_ (¬1) هو الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن عمرو الأصبحي إمام دار الهجرة، ولد -رحمه الله- بالمدينة سنة 93 من الهجرة على الأشهر، وهو إمام المذهب المالكي، وفضله ومكانته في العلم والورع والزهد مشهورة، توفي -رحمه الله- بالمدينة سنة 179 من الهجرة. من تآليفه: الموطأ، رسالة في الرد على القدرية، رسالة في الأقضية. الديباج المذهب لابن فرحون 17، 18، 27، 28. (¬2) البيان والتحصيل لابن رشد 9/ 348.

ماله، وقيل على العاقلة" (¬1) اهـ. فاعتبر -رحمه الله- شهادة أهل الخبرة، وعلق حكم السلطان بالإذن للطبيب وعدمه على حكمهم، فإن أجازوا أذن، وإن لم يجيزوا لم يأذن. ثم نص على اعتبار نهي السلطان للطبيب عن أن يداوي بما فيه خطر وغرر حيث ألزمه بالضمان. ونظرًا لما تيسر في العصر الحاضر من تنظيم الطب وفروعه، فإنه ينبغي اعتبار إذن ولي الأمر بالجراحة الطبية الخطيرة، وتعتبر إدارات الشئون الصحية مخولة في النظر في ذلك نظرًا لكونها الجهة المسئولة عن الشئون الصحية، ومن ثم كان لها الحق في منع الأطباء من فعل هذا النوع من الجراحة الخطيرة والإذن لهم بذلك حسب ما يظهر الأطباء المختصين والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) المصدر السابق 9/ 349.

المطلب الخامس هل يجوز للرجال أن يقوموا بمعالجة النساء بالجراحة والعكس؟

المطلب الخامس هل يجوز للرجال أن يقوموا بمعالجة النساء بالجراحة والعكس؟ دلت النصوص الشرعية على وجوب استتار النساء، وحفظهن لعوراتهن، وعدم إبدائها للرجال إلا لمن استثنى الله تعالى منهم (¬1). والمداواة بالجراحة تستلزم النظر إلى المرأة الأجنبية، وعورتها، وعورة الرجل الأجنبي، واللمس، والكشف عن تلك المواضع، ومن ثم فإنه يرد السؤال: هل يجوز قيام الرجال بمداواة النساء بالجراحة، والعكس؟ وإذا كان ذلك جائزًا فما هو دليل جوازه؟ ثم ما هي القيود والضوابط التي ينبغي مراعاتها في ذلك؟. والجواب: أنه تجوز مداواة الرجال للنساء بالجراحة والعكس بشرط عدم وجود النظير، وأن توجد الحاجة الداعية للمداواة. وأما دليل ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث الرُّبَيع بنت مُعَوِّذ رضي الله عنها أنها قالت: "كنا نغزوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - نسقي ونداوي الجرحى" (¬2)، ولفظ الجرحى المراد به الرجال، وهم بلا شك أجانب ¬

_ (¬1) مِن هذه النصوص قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ ... } الآية. سورة النور (24) آية 31. (¬2) تقدم تخريجه.

عنها، ومن ثم قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في شرحه لهذا الحديث: "فيه جواز معالجة المرأة الأجنبية للرجل الأجنبي للضرورة" (¬1) اهـ. وفي الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه أنه قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغزو بأمِّ سُلَيْم ونسوة من الأنصار معه، إذا غزا فيسقين الماء ويداوين الجرحى" (¬2). فدل هذا على مشروعية معالجة المرأة للرجل عند وجود الحاجة، وأما الكشف عن العورة فهو مستثنى لمكان السبب الموجب للترخيص به، وهو وجود الحاجة الداعية إليه، وقد عهدنا من الشريعة أنها رخصت فيه عند وجودها، ويشهد لذلك حديث عطية القرظي في قصة بني قريظة لما حكم سعد -رضي الله عنه- بقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم كان الصحابة -رضي الله عنهم- ينظرون إلى العانة فمن وجدوه أنبت قتلوه، ومن لم يجدوه كذلك تركوه (¬3). وهذا يدل دلالة واضحة على جواز الكشف عن العورة للحاجة. وكما دلت السنة المطهرة على جواز مداواة النساء للرجال، كذلك دل دليل العقل على جوازها وهو الاستحسان الموجب لاستثنائها من الأصل المقتضي لحرمة اللمس، والنظر، والكشف للعورة والمرأة الأجنبية (¬4). ¬

_ (¬1) فتح الباري لابن حجر 6/ 52. (¬2) رواه مسلم في صحيحه 3/ 185. (¬3) رواه أحمد في مسنده 5/ 312، وأبو داود في سننه 4/ 199، وابن ماجة 2/ 849، والترمذي وصححه 4/ 145، 146، وصححه الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في تلخيص الحبير 3/ 42. (¬4) اعتبر بعض الأصوليين الكشف عن العورة للتداوي من باب الاستحسان. انظر نزهة المشتاق شرح اللمع لأبي إسحاق محمد يحيى أمان 760، 761.

ووجهه: أننا لو قلنا بعدم جواز ذلك لأدَّى إلى مفسدة الهلاك المترتبة على المرض، أو على الأقل يؤدي إلى حصول مشقة الآلام الموجودة في المرض، ودرء المفسدة معتبر شرعًا، فجاز قصده بالحكم بالرخصة واستثناء حالة التداوي من الأصل المقتضي للمنع. ثم إن قواعد الشريعة الإسلامية نصت على أن المشقة تجلب التيسير (¬1)، وأن الضرر يزال (¬2) والمشقة مترتبة على الحكم بالمنع فجاز التيسير بالرخصة، والضرر موجود في المرض فجازت إزالته بالمداواة مع اشتمالها على محظور الكشف والنظر واللمس (¬3). وشرط الحكم بجواز مداواة الرجال للنساء، والعكس أن لا يوجد الأطباء من الرجال في حال كون المريض رجلاً، ولا يوجد العكس في حال العكس، فإذا وجد النظير من الرجال والنساء امتنع الترخيص لعدم وجود الحاجة الموجبة له. وقد نص الفقهاء المتقدمون -رحمهم الله- على جواز معالجة النساء للرجال، والعكس، وذلك عند وجود الحاجة. قال الإمام موفق الدين عبد اللطيف البغدادي -رحمه الله-: "ونص أحمد أن الطبيب يجوز أن ينظر إلى المرأة الأجنبية إلى ما تدعو إليه الحاجة، وإلى العورة، وكذلك للمرأة أن تنظر إلى عورة الرجل عند الحاجة نص عليه" (¬4). ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر للسيوطي 76، الأشباه والنظائر لابن نجيم 65، شرح القواعد الفقهية للزرقاء 105. (¬2) الأشباه والنظائر للسيوطي 83، الأشباه والنظائر لابن نجيم 85. (¬3) المبسوط للسرخسي 10/ 152, 154, الدر المختار للحصكفي 2/ 385، 386، المجموع للنووي 1/ 299، الأشباه والنظائر للسيوطي 79، الأشباه والنظائر لابن نجيم 80، القواعد الصغرى لابن عبد السلام 61، 62. (¬4) الطب من الكتاب والسنة للبغدادي 193.

أما القيود والضوابط التي ينبغي على الرجال والنساء مراعاتها عند اختلاف الجنس فهي تتلخص في وجوب التقيد بالحاجة، ومن ثم لا يجوز للمرضى أن يكشفوا عن موضع زائد عن القدر المحتاج إليه للجراحة، ولا يجوز للطبيب أن يصرف بصره إلى أي موضع غير الموضع الذي يحتاج لمداواته، وكذلك ينبغي أن يتقيد بالزمان المحتاج إليه ولا يزيد على ذلك. قال قاضي زاده الحنفي (¬1) -رحمه الله-: "ويجوز للطبيب أن ينظر إلى موضع المرض منها للضرورة، وينبغي أن يعلم امرأة مداواتها، لأن نظر الجنس إلى الجنس أسهل، فإن لم يقدروا يستر كل عضو منها سوى موضع المرض، ثم ينظر ويغض بصره ما استطاع، لأن ما ثبت بالضرورة يُقَّدر بقَدرهَا" (¬2) اهـ. فبين -رحمه الله- أنه لا تجوز المداواة في حال اختلاف الجنس إلا بعد تعذر وجود الجنس المثيل، فإذا تعذر وجوده جازت المداواة، ووجب على المريض ستر المواضع الزائدة عن قدر الحاجة، ووجب على الطبيب أن يقتصر في نظره على ذلك الموضع المحتاج إلى مداواته. ثم بين أن هذا الحكم يستند إلى القاعدة الشرعية: "ما أبيح للضرورة يُقدرُ بقدرها" (¬3). ¬

_ (¬1) هو الشيخ أحمد بن محمود الأدرنوي الرومي المعروف بقاضي زاده فقيه، ممن شارك في علوم مختلفة، تولى منصب الإفتاء، وتوفي بالقسطنطينية سنة 988 من الهجرة، وله مؤلفات منها: نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار وهو تكملة لفتح القدير لابن الهمام، وحاشية على شرح تجريد الكلام، وشرح الشريفي. معجم المؤلفين عمر كحالة 2/ 171. (¬2) نتائج الأفكار قاضي زاده 8/ 99. (¬3) الأشباه والنظائر للسيوطي 84، الأشباه والنظائر لابن نجيم 86، شرح القواعد الفقهية للزرقاء 133.

وعلى هذا فإنه ينبغي ستر المرضى، ومواضع الجراحة إلى حين الجراحة ثم بعد انتهاء المهمة الجراحية يجب على الأطباء والممرضين ستر عورة المريض، وصرف أبصارهم عن النظر إليها وهكذا العكس ... والله أعلم. * * *

المبحث الثالث في (مسائل الطواريء)

المبحث الثالث في (مسائل الطواريء) تتعلق بهذا المبحث مسألتان مشهورتان: الأولى: عن حكم نقل الدم لإسعاف المريض أثناء الجراحة. الثانية: عن حكم الشرع في مخالفة الواقع للتقدير المسبق. وبيان هاتين المسألتين يتضح في المطلبين التاليين:

المطلب الأول هل يجوز نقل الدم لإسعاف المريض في الجراحة؟

المطلب الأول هل يجوز نقل الدم (¬1) لإسعاف المريض في الجراحة؟ يلجأ الأطباء إلى عملية نقل الدم لمعالجة كثير من الحالات الطارئة التي يصاب فيها المريض بالصدمة الدموية الناشئة عن نزيف الدم من موضع الجراحة. وفي جل هذه الحالات يعتبر المريض مهددًا بالموت (¬2)، الأمر الذي يستدعي إسعافه الفوري بنقل دم من شخص آخر ينبغي أن تتوفر فيه من الناحية الطبية شروط معينة، ولهذا ينشأ السؤال عن حكم نقل الدم في هذه الحالات الضرورية هل هو جائز أم لا؟ وإذا كان جائزًا فما هي شروط جوازه؟ وهل يجوز للإنسان إذا لم يجد من يتبرع له بالدم أن يدفع إليه المال؟. والجواب: أنه نظرًا لوجود الضرورة الداعية إلى هذا النقل فإنه لا حرج فيه على المريض ولا على الأطباء ولا على الشخص المتبرع (¬3) ¬

_ (¬1) نقل الدم: "هو حقن دم شخص في لمعة وعاء شخص آخر"، وقد أجريت عمليته لأول مرة في فرنسا، وكانت من حيوان لإنسان إنتهت بوفاة المريض وذلك عام 1667، ثم أجريت لأول مرة بنجاح عملية النقل من إنسان إلى إنسان في انجلترا عام 1918 م. الجراحة الصغرى. د. البابولي، د. الدولي 52، 53. (¬2) من الحالات الاضطرارية التي يلجأ فيها إلى نقل الدم حالات النزيف الشديد التي يفقد فيها المريض جزءًا من دمه مثل: الصدمات، والجروح الكبيرة، والحروق، ونزيف الولادة، والتهاب الكليتين المزمن الذي يؤدي إلى هبوط أو فشل كلوي، وأمراض الدم الخبيثة مثل سرطان الدم. فهذه الحالات وأمثالها يعتبر فيها نقل الدم ضروريًا، والمقصود منه إنقاذ الشخص المتبرع له. التبرع بالدم بين الدين والعلم، مقال بمجلة الأمة عدد صفر 1405 هـ. (¬3) نص على هذا الحكم عدد من العلماء المعاصرين. انظر المصادر التالية: مجلة الأزهر المجلد العشرون 742، 743، المختارات الجلية لابن سعدي 327، =

وذلك لما يأتي: أولاً: لقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} (¬1)، فقد دلت هذه الآية الكريمة على فضل التسبب في إحياء النفس المحرمة، ولا شك في أن الأطباء، والأشخاص المتبرعين بدمائهم يعتبرون متسببين في إحياء نفس ذلك المريض التي تعتبر مهددة بالموت في حالة تركها بدون إسعافها بذلك الدم ونقله. ثانيًا: لورود النص باستثناء حالات الاضطرار ومن ذلك: قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬2). وجه الدلالة: أن هذه الآية الكريمة وأمثالها من الآيات الأخرى دالة على نفي الإثم عمن اضطر إلى المحرم، والمريض مضطر إلى إسعافه بالدم فيعتبر داخلاً في هذا الاستثناء، ومن ثم لا حرج عليه في طلبه وقبوله، ولا حرج على الغير في تبرعه وبذله، ولا حرج على الأطباء في قيامهم ¬

_ = 328، أحكام الأطعمة في الشريعة الإسلامية. د. عبد الله الطريقي 411، 413، حكم العلاج بنقل دم الإنسان أو نقل أعضاء أو أجزاء منها: د. أحمد فهمي أبو سنة، بحث منشور بمجلة الفقه الإسلامي السنة الأولى 1408 هـ، العدد الأول ص 32، الاجتهاد الفقهي للتبرع بالدم ونقله. د. مناع القطان بحث منشور بمجلة مجمع الفقه الإسلامي السنة الثانية: 1400 هـ العدد الثالث ص 39، نقل الدم وأحكامه الشرعية للصافي 27. (¬1) سورة المائدة (5) آية 32. (¬2) سورة البقرة (2) آية 173.

بتحقيق ذلك عن طريق عملية النقل (¬1). ثالثًا: أن المريض لو امتنع من نقل الدم إليه كان متعاطياً للسبب الموجب لهلاكه، وقد حرم الله تعالى عليه تعاطي ذلك السبب كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (¬2) وقوله سبحانه: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (¬3) فلذلك ينبغي عليه قبول التبرع (¬4). رابعًا: أنه لا حرج على الشخص المتبرع في إخراج سائل الدم من جسمه، بل إن خروجه يعتبر علاجًا ودواء، ففيه منفعة ومصلحة لبدنه، ولذلك وردت السنة بمشروعية التداوي بالحجامة كما ثبت ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام وفعله (¬5). خامسًا: أن نقل الدم في هذه الحالات وأمثالها يعتبر داخلاً في عموم الأمر بالتداوي الذي ثبت في السنة الصحيحة عنه عليه الصلاة والسلام، لأن علاج الصدمة الدموية يتوقف على النقل فقط، ومن ثم أصبح مندرجًا في عموم قوله عليه الصلاة والسلام: "تداووا عباد الله فإن الله ما أنزل داءً إلا وضع لَهُ دواء" (¬6) فيشرع فعله. سادسًا: أن بعض الفقهاء -رحمهم الله- نصوا في كتبهم على جواز التداوي بالدم عند الحاجة إليه، والحاجة موجودة هنا، بل هي أعلى مراتب الحاجة الموجبة للترخيص شرعًا وهي الضرورة (¬7). ¬

_ (¬1) أحكام الأطعمة في الشريعة الإسلامية. د. الطريقي 414، 415. (¬2) سورة البقرة (2) 195. (¬3) سورة النساء (4) آية 29. (¬4) أحكام الأطعمة في الشريعة الإسلامية. د. الطريقي 416. (¬5) تقدم. (¬6) تقدم تخزيجه. (¬7) تبيين الحقائق للزيلعي 6/ 33، الفتاوي الهندية 5/ 311، نقل الدم وأحكامه الشرعية للصافي 17.

سابعًا: أن قواعد الشريعة الإسلامية تقتضي جواز التبرع، إذ من قواعدها أن الضرورات تبيح المحظورات، والضرر يزال، والمشقة تجلب التيسير، والمريض مضطر، ومتضرر، وقد لحقته المشقة الموجبة للهلاك فيجوز نقل الدم إليه (¬1). لهذا كله فإنه يجوز نقل الدم والتبرع به للغير، ويعتبر المتبرع والطبيب محسنًا بفعله لما فيه من إنقاذ النفس المحرمة من الهلاك. وأما شروط جوازه فهي تنحصر في الشروط الأربعة التالية: الشرط الأول: أن يكون المريض محتاجًا إلى نقل الدم، ويثبت ذلك بشهادة الطبيب العدل. الشرط الثاني: أن يتعذر البديل الذي يمكن إسعافه به. الشرط الثالث: أن لا يتضرر الشخص المنقول منه الدم بأخذه منه. الشرط الرابع: أن يقتصر في نقل الدم على مقدار الحاجة للقاعدة الشرعية: "ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها" (¬2). وأما إذا لم يجد الإنسان من يتبرع له بالدم إلا بمقابل فإنه يجوز له دفع ذلك المقابل، ويكون الإثم على الآخذ لأن بيع الدم محرم شرعًا لما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن ثمن الدم (¬3)، وإنما جاز للمريض دفع المقابل لمكان الإضرار. ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر للسيوطي 76، 83، 84، الأشباه والنظائر لابن نجيم 75، 85، وأشار إلى هذه القواعد الدكتور مناع القطان في بحثه: الاجتهاد الفقهي للتبرع بالدم، منشور بمجلة مجمع الفقه الإسلامي السنة الثانية، العدد الثالث ص 43. (¬2) الأشباه والنظائر للسيوطي 84، الأشباه والنظائر لابن نجيم 86، شرح القواعد الققهية للزرقاء 133. (¬3) رواه البخاري في صحيحه 2/ 8.

قال الإمام النووي -رحمه الله- عند بيانه لحكم أخذ الأجرة على فعل المحرم: "وكما يحرم أخذ الأجرة في هذا يحرم إعطاؤها وإنما يباح الإعطاء دون الأخذ في موضع ضرورة" (¬1) اهـ. فاستثنى -رحمه الله- من تحريم الإعطاء للحرام ما كان الإنسان مضطرًا إليه، وهذا ينطبق على مسألتنا هنا إذا لم يجد المريض من يتبرع له بالدم إلا بمقابل فيجوز له دفع المقابل والإثم على الآخذ والله تعالى أعلم. * * * ¬

_ (¬1) روضة الطالبين للنووي 5/ 194، 195.

المطلب الثاني في (حكم الشرع في مخالفة الواقع للتقدير المسبق)

المطلب الثاني في (حكم الشرع في مخالفة الواقع للتقدير المسبق) هذه المسألة من أهم المسائل المتعلقة بطواريء الجراحة الطبية، ويعتبر موقف الأطباء فيها من أحرج المواقف طبيًا وشرعيًا. وهي تتمثل في كون الأطباء يقدمون على الجراحة، ثم بعد فتح الموضع الذي يراد فعل الجراحة فيه يتبين أن الواقع بخلاف التقدير المسبق الذي توصلوا إليه من خلال التشخيص، وحينئذ يرد السؤال عن حكم الشرع في هذه الحالة هل يقوم الأطباء بقفل موضع الجراحة لكي يرجعوا إلى المريض بعد إفاقته من التخدير فينظروا رأيه؟ أو يقوموا بمعالجة الوضع بما يستحقه من علاج، ولو كان في ذلك زيادة عن القدر الذي وافق عليه المريض أو خروجًا عنه بالكلية؟. والجواب: أن الأصل يقتضي وجوب أخذ موافقة المريض كما سبق عند بيان شروط جواز الجراحة الطبية. وعليه فإنه ينبغي على الأطباء أن يحتاطوا بأخذ الإذن المطلق كما هو الحال في كثير من المستشفيات وبهذا الإذن يرتفع الإشكال، ويصبح الأطباء في مأمن من تحمل المسئولية عن فعل الجراحة بدون إذن. أما لو فرض أنهم لم يحتاطوا بذلك فحينئذ لا يخلو الأمر من حالتين:

الحالة الأولى: أن يمكنهم الرجوع إلى أولياء المريض، وأخذ موافقتهم على فعل الجراحة أو عدم فعلها. الحالة الثانية: أن لا يمكنهم ذلك بأن خافوا على المريض الهلاك لو تأخروا إلى حضور الأولياء وإخبارهم وحينئذ لا يخلو الوضع من ثلاثة أضرب: الضرب الأول: أن يستلزم علاج داء أشد خطرًا من الداء المتوقع، ومن أمثلته أن يكون المقصود من فعل الجراحة استئصال الزائدة فيتضح أنه مصاب بسرطان في أمعائه. وحكمه: يجوز للأطباء أن يقدموا على استئصال ذلك الداء، وعلاجه، لأن إذن المريض بما هو أخف منه دال ضمنيًا على الإذن بما هو أشد منه ضررًا. الضرب الثاني: أن يستلزم علاج داء مماثل في الخطر والضرر، ومن أمثلته أن يكون المقصود من فعل الجراحة استئصال السرطان الموجود في الأمعاء فيتضح أن المريض مصاب به في القولون. وحكمه: يجوز للأطباء أن يقدموا على استئصاله لأنه في حكم الداء الذي من أجله أذن المريض بالجراحة ومساويًا له في الخطورة والضرر.

الضرب الثالث: أن يستلزم علاج داء أقل خطرًا وضررًا من الداء المأذون بفعل جراحته، ومن أمثلته: أن يكون المقصود من فعل الجراحة استئصال السرطان فيظهر أنه التهاب في الزائدة. وحكمه: أن الأصل يقتضي عدم جواز فعله بدون إذن، لكن إن خشي على المريض من ذلك الداء بحيث لو قفل الموضع عسر فتحه ثانية، واشتمل الداء على خطر قد يهدد المريض لو ترك بدون معالجته كما هو الحال في المثال: فإنه يظهر القول بجواز علاجه بالجراحة بدون إذن، ويسقط الإذن قياسًا على الحالات الاضطرارية بجامع الخوف على حياة المريض وتعذر استئذانه في كل. وأما إذا لم يُخْشَ على المريض الضرر، وأمكن فتح الموضع ثانية فإنه لا يجوز للطبيب أن يقوم بفعل الجراحة ... والله تعالى أعلم. * * *

المبحث الرابع في (مسائل الأعضاء)

المبحث الرابع في (مسائل الأعضاء) تتعلق بهذا المبحث مسألتان: الأولى: كيف يتصرف في الأعضاء المبتورة؟. الثانية: هل يجوز بيع الأعضاء الآدمية؟. وبيانهما سيكون في المطلبين التاليين:

المطلب الأول كيف يتصرف في الأعضاء المبتورة؟

المطلب الأول كيف يتصرف في الأعضاء المبتورة؟ يتساءل الأطباء عن المصير الذي ينبغي أن يكون للأعضاء المبتورة من المرضى هل لهم الخيار في إتلافها بأي وسيلة أم أنهم مطالبون بدفنها؟. والجواب: أنه ينبغي دفن تلك الأعضاء، إعمالاً للأصل الشرعي الموجب لدفن الإنسان (¬1) , فكما شرع دفن الجسم كله، كذلك يشرع دفن بعضه. وإعمالاً لهذا الأصل نجد الفقهاء -رحمهم الله- ينصون على أن ما نتف من شعر الميت أثناء غسله يوضع في كفنه إكرامًا للميت (¬2). قال الإمام شمس الدين محمد بن أحمد الرملي الشافعي -رحمه الله-: " ... ويرد المنتف إليه استحباباً بأن يضعه في كفنه ليدفنه معه إكرامًا له" (¬3) اهـ. ¬

_ (¬1) شهدت نصوص الشرع على مشروعية دفن الميت ومواراة جثته كما في قوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} سورة عبس (80) آية 21، وقال سبحانه: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} سورة المائدة (5) آية 31. قال الإمام القرطبي -رحمه الله- في تفسيرها: "بعث الله الغراب حكمةً ليرى ابن آدم كيفية المواراة وهي معنى قوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ}، فصار فعل الغراب في المواراة سنة باقية في الخلق فرضاً على جميع الناس على الكفاية" اهـ. تفسير القرطبي 6/ 143. (¬2) روضة الطالبين 2/ 108، حاشية ابن عابدين 1/ 803، حاشية قليوبي وعميرة 2/ 324. (¬3) نهاية المحتاج للرملي 2/ 436.

والدفن للأعضاء المبتورة أولى من إحراقها، فإن اشتملت على داء أو مرض معد فإنه تشرع إزالته بالمواد المتلفة للجراثيم الناقلة للمرض، ثم تدفن بعد ذلك، وبناء عليه فإنه ينبغي على المستشفيات دفن تلك الأعضاء أو إعطائها للمرضى بدلاً من إتلافها بالحرق، لما في دفنها من تكريم للآدمي وذلك موافق لمقصود الشرع الحنيف (¬1) والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} سورة الإسراء (17) آية 70.

المطلب الثاني هل يجوز بيع الأعضاء الآدمية؟

المطلب الثاني هل يجوز بيع الأعضاء الآدمية؟ يتساءل البعض عن حكم بيع الإنسان لأعضائه على أساس أن تؤخذ منه في حال حياته أو بعد وفاته هل هذا البيع صحيح شرعًا؟. والجواب: أن من شرط صحة البيع أن يكون الشيء المبيع ملكًا للبائع (¬1)، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن بيع ما لا يملكه الإنسان (¬2)، وأجمع أهل العلم -رحمهم الله- على أن الإنسان لو باع ما لا يملكه، ولم يجز مالكه البيع أن بيعه باطل. قال الإمام ابن حزم -رحمه الله-: "واتفقوا على أن بيع المرء ما لا يملك ولم يجزه مالكه ... فإنه باطل" (¬3) اهـ. ومعلوم أن أعضاء الإنسان ليست ملكًا للإنسان، ولم يؤذن له ببيعها شرعًا، فكان بيعها داخلاً في بيع الإنسان لما لا يملكه. ثم إن بيع الإنسان لأعضائه فيه امتهان له، والله عز وجل مكرم له فخالف مقصود الشارع من هذا الوجه، ولذلك نجد الفقهاء -رحمهم الله- ينصون على حرمة بيع أجزاء الآدمي، ويعللون التحريم بكون بيعها مخالفًا لتكريم الله تعالى للإنسان (¬4). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين 4/ 7، قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي 271، روضة الطالبين للنووي 3/ 353، المبدع لابن مفلح 4/ 16. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) مراتب الإجماع لابن حزم 84. (¬4) حاشية ابن عابدين 4/ 145، المغني والشرح الكبير لابن قدامة 4/ 304.

قال الشيخ علاء الدين الحصكفي -رحمه الله- عند بيانه لما يجوز بيعه: "وشعر الإنسان لكرامة الآدمي ولو كان كافرًا ... " (¬1) اهـ. أي يحرم بيع شعر الإنسان ولو كان كافرًا؛ لأن الآدمي مكرم. وعلى هذا فإنه لا يجوز بيع الأعضاء الآدمية لانتفاء شرط صحة البيع، ولكونه مخالفًا بمقصود المولى سبحانه من تكريمه الآدمي عن الابتذال بالبيع، والله تعالى أعلم. * * * ¬

_ (¬1) الدر المختار للحصكفي 2/ 64.

المبحث الخامس في (مسائل التخدير)

المبحث الخامس في (مسائل التخدير) يتعلق بهذا المبحث ثلاث مسائل: المسألة الأولى: هل يؤاخذ المريض بإقراره أثناء التخدير والإفاقة؟. المسألة الثانية: هل يصح طلاق المريض المخدر؟. المسألة الثالثة: هل يقضي المريض الصلاة بعد إفاقته؟. وبيان هذه المسائل يتضح في المطالب الثلاثة التالية:

المطلب الأول هل يؤاخذ المريض بإقراره أثناء التخدير والإفاقة؟

المطلب الأول هل يؤاخذ المريض بإقراره أثناء التخدير والإفاقة؟ يتساءل بعض المختصين بالتخدير عن حكم إقرار المريض أثناء التخدير واعترافه بحقوق الله تعالى وغيرها كالمعاصى التي توجب الحد الشرعي هل يؤاخذ عليها، وتشرع الشهادة عليه بها حُسْبَةً أم لا؟. والجواب: أن إقرار المريض أثناء التخدير الجراحي وعند الإفاقة لا يعتبر إقرارًا صحيحًا من الناحية الشرعية نظرًا لأن شرط صحة الإقرار أن يكون المقر عاقلاً (¬1)، والمخدر فاقد للإدراك والشعور ومن ثمَّ تخلف فيه شرط صحة إقراره فلا يقبل منه (¬2). والأصل في اشتراط هذا الشرط ما ثبت في الصحيح من حديث بريدة بن الحصيب -رضي الله عنه- في قصة ماعز بن مالك -رضي الله عنه- لما اعترف بالزنى عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وردّه أربع مرات، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أبه جنون؟ فأخبر أنه ليس بمجنون، فقال: أشربت خمرًا؟ فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر ... " (¬3). فقد دل هذا الحديث على عدم صحة إقرار الشخص الفاقد لعقله بسبب الجنون أو السكر. ¬

_ (¬1) تكملة فتح القدير لقاضي زاده 6/ 281، جواهر الإكليل للأبي 2/ 132، المهذب للشيرازي 2/ 343، المغني لابن قدامة 5/ 149، 150. (¬2) المغني لابن قدامة 5/ 150، الدر المختار للحصكفي 2/ 234، روضة الطالبين للنووي 4/ 350، مغني ذوي الأفهام لابن عبد الهادي 240. (¬3) رواه مسلم في صحيحه 3/ 109، 110 وقوله استنكهه أي شم رائحة فمه. شرح صحيح مسلم للنووي 11/ 200.

قال الإمام الصنعاني (¬1) -رحمه الله- في شرحه لهذا الحديث: "وفي قوله: أشربت خمرًا؟ دليل على أنه لا يصح إقرار السكران" (¬2) اهـ. والشخص المخدر في الجراحة يعتبر فاقدًا لعقله بسبب تأثير المخدر الذي أذن له به شرعًا. وقد قال الإمام ابن قدامة -رحمه الله-: "ومن زال عقله بسبب مباح، أو معذور فيه فهو كالمجنون لا يسمع إقراره بلا خلاف" (¬3). وبناء على ذلك فإنه لا يعتد بهذا الإقرار، ولا تترتب عليه الآثار الشرعية؛ لعدم تحقق شرط صحته، سواء كان متضمنًا لحق الله تعالى كحد الزنا، أو حق عباده كالأموال ونحوها ... والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) هو الإمام محمد بن إسماعيل بن صلاح الكحلاني الصنعاني، يعرف بالأمير، محدث فقيه أصولي مجتهد متكلم، ولد -رحمه الله- سنة 1099 من الهجرة، وتوفي في سنة 1182 من الهجرة وله مصنفات منها: سبل السلام في شرح بلوغ المرام، وتطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد، وإرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد. معجم المؤلفين عمر كحالة 9/ 56. (¬2) سبل السلام للصنعاني 4/ 7. (¬3) المغني لابن قدامة 5/ 150.

المطلب الثاني هل يصح طلاق المريض المخدر؟

المطلب الثاني هل يصح طلاق المريض المخدر؟ يتلفظ بعض المرضى بالطلاق بسبب تأثير المواد المخدرة عليهم، ويتساءل البعض عن حكم هذا الطلاق هل هو نافذ شرعًا أم غير نافذ؟. والجواب: أن المريض أثناء تخديره يعتبر فاقدًا لعقله على وجه يعذر فيه شرعًا ومن ثم فإن طلاقه لا يصح منه ولا يقع، لأنه كالمجنون، والنائم. وقد أجمع أهل العلم على أن طلاق المجنون والنائم لا يقع (¬1)، فكذلك المريض المخدر بجامع فقد كل منهما للعقل بسبب مباح ومعذور فيه شرعًا. وقد نص الفقهاء -رحمهم الله- على أن من فقد عقله على وجه يعذر فيه شرعًا لا يصح طلاقه ولا يقع (¬2). وقال الإمام القرطبي -رحمه الله-: "لا يختلفون أن من شرب البنج فذهب عقله أن طلاقه غير جائز، فكذلك من سكر من الشراب" (¬3) اهـ. قلت: ومن باب أولى من سكر على وجه مباح كالمريض في الجراحة. والله أعلم. ¬

_ (¬1) قال الإمام ابن المنذر -رحمه الله-: "وأجمعوا على أن المجنون والمعتوه لا يجوز طلاقه، وأجمعوا على أن الرجل إذا طلق في حال نومه أن لا طلاق له"اهـ. الإجماع لابن المنذر 44. (¬2) حاشية ابن عابدين 3/ 234، حاشية الدسوقي 2/ 365، إعانة الطالبين للبكري 4/ 365، المغني والشرح الكبير لابن قدامة 8/ 255. (¬3) تفسير القرطبي 5/ 203.

المطلب الثالث هل يقضي المريض الصلاة بعد إفاقته؟

المطلب الثالث هل يقضي المريض الصلاة بعد إفاقته؟ يتساءل البعض عن حكم الصلوات التي خدر المريض أثناء وقتها ولم يتمكن من أدائها فيه هل مطالب بعد الإفاقة بقضاء تلك الصلوات أم لا؟ والجواب: أنه ينبغي على الأطباء أن يراعوا في وقت الجراحة مواقيت الصلاة فإذا احتاجوا لتخدير المريض وأمكن تأخير التخدير إلى ما بعد دخول الوقت بيسير يتمكن فيه المريض من فعل الصلاة فإنه يجب عليهم ذلك، أما إذا لم يمكنهم ذلك مثل الحالات التي يخشى فيها على المريض إذا أخر، ولم يبادر بفعل الجراحة اللازمة، فإنه حينئذ يجوز لهم التخدير ولو على وجه تفوت به الصلاة، ومن ثم يشرع للمريض أن يؤخر الظهر إلى وقت العصر ويصليهما معًا جمع تأخير، وكذلك المغرب مع العشاء، فيصليهما معًا بعد إفاقته. وأما بالنسبة لقضاء الصلوات التي فاتت فإنه يشرع له إذا خدر أن يقضيها بعد الإفاقة، وذلك لأن زوال العقل بالسبب المباح من الخمر ونحوها لا يسقط المطالبة بالقضاء كما نص على ذلك الفقهاء -رحمهم الله- (¬1). قال الإمام علاء الدين الحصكفي -رحمه الله-: " .. زال عقله ببنج، أو خمر أو دواء لزمه القضاء وإن طالت لأنه بصنع العباد كالنوم" (¬2) اهـ. وعلى هذا فإنه يشرع للمريض بعد إفاقته أن يقضي الصلوات التي فاتته بسبب زوال عقله بالمخدر والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين 1/ 714، 715، القوانين الفقهية لابن جزي 33، 34، المجموع للنووي 3/ 6، المغني والشرح الكبير لابن قدامة 8/ 147. (¬2) الدر المختار للحصكفي 1/ 136.

المبحث السادس في (مسائل الإجارة على فعل الجراحة)

المبحث السادس في (مسائل الإجارة على فعل الجراحة) تتعلق بهذا المبحث جملة من المسائل منها ما يرجع إلى مشروعية الإجارة على فعل الجراحة، ومنها ما يرجع إلى الشروط التي ينبغي توفرها في ذلك العقد المشروع، ومنها ما يرجع إلى استحقاق الطبيب للأجرة، ومنها ما يرجع إلى انفساخ عقدها. وعلى هذا فإن بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بهذه المسائل سيكون في المطالب الأربعة التالية:

المطلب الأول مشروعية الإجارة على فعل الجراحة

المطلب الأول مشروعية الإجارة على فعل الجراحة دلت الأدلة الشرعية على جواز الإجارة على فعل الجراحة الطبية، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعطى الحجام أجره" (¬1). فقد دل هذا الحديث الشريف على جواز الإجارة على فعل الحجامة، وهي ضرب من الجراحة الطبية، ولذلك يعتبر أصلاً في جواز الإجارة على الجراحة بمختلف صورها، بل إن الحافظ ابن حجر -رحمه الله- اعتبره أصلاً في جواز إجارة الطبيب للعلاج عمومًا، فقال -رحمه الله- في شرحه: "وفيه الإجارة على المعالجة بالطب" (¬2) اهـ. وثبت في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام أنه أقر النفر الذين رقوا سيد الحي لما لُدغ فشُفي بإذن الله تعالى، فأعطوهم قطيعًا من الغنم، فقال عليه الصلاة والسلام: "اقسموا واضربوا لي بسهم معكم" (¬3) اهـ. قال الإمام موفق الدين عبد اللطيف البغدادي -رحمه الله-: "في أخذهم القطيع دليل على جواز أخذ الأجرة على الطب والرقى، ويؤيد ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اضربوا لي معكم بسهم" (¬4) اهـ. ¬

_ (¬1) رواه البخاري في صحيحه 2/ 36، ومسلم 3/ 35. (¬2) فتح الباري لابن حجر 4/ 459. (¬3) رواه البخاري في صحيحه 2/ 36، ومسلم 3/ 19 واللفظ له. (¬4) الطب من الكتاب والسنة للبغدادي ص 191. قلت: وقد ترجم الحافظ أبو داود -رحمه الله- في سننه لهذا الحديث بقوله: "باب في كسب الأطباء" فاعتبره أصلاً في جواز أخذ الأجرة على المعالجة. سنن أبي داود 3/ 360.

فقوله -رحمه الله-: "على الطب" عام يشمل الجراحة لأنها فرع من فروعه قديمًا وحديثًا، وقد أجمع أهل العلم -رحمهم الله- على مشروعية الإجارة على فعل المنافع المباحة (¬1)، والجراحة تعتبر منفعة مباحة فيجوز الاستئجار على فعلها، وقد أشار الإمام أبو محمد عبد الله بن قدامة -رحمه الله- إلى مشروعية الإجارة على فعل الجراحة، فقال -رحمه الله-: "ويجوز الاستئجار على الختان، والمداواة، وقطع السلع لا نعلم فيه خلافًا ... " (¬2) اهـ. وكما دل دليل النقل على مشروعية الإجارة على فعل الجراحة دل العقل على ذلك أيضًا من الوجوه التالية: الوجه الأول: تجوز الإجارة على فعل الجراحة كما تجوز على الأفعال المباحة بجامع كون كل منهما فعلاً مأذونًا به شرعًا (¬3). الوجه الثاني: تجوز الإجارة على فعل الجراحة كما تجوز على فعل الختان بجامع كون كل منهما منفعة مباحة مقصودة (¬4). الوجه الثالث: ¬

_ (¬1) قال ابن رشد -رحمه الله-: "واتفقوا على إجارة الدور والدواب والناس على الأفعال المباحة" اهـ. بداية المجتهد لابن رشد 2/ 220، 221 ومثله في حلية الفقهاء للقفال 5/ 383. (¬2) المغني والشرح الكبير لابن قدامة 6/ 121. (¬3) المصدر السابق ص 123. (¬4) المصدر السابق ص 126.

مسألة: هل تجوز الإجارة على الحجامة؟.

أننا لو قلنا بعدم جواز الإجارة على فعل الجراحة، لأدى ذلك إلى الحرج والمشقة؛ لقلة من يفعلها من الأطباء بدون مقابل، وكل من الحرج والمشقة منتف في الشرع، فوجب انتفاء موجبها (¬1). لهذه الأدلة النقلية والعقلية ذهب الفقهاء -رحمهم الله- إلى جواز الإجارة على الجراحة، فقد نصوا في كتبهم على جواز الإجارة على صورها المعروفة في زمانهم كجراحة الختان والفصد، وقلع السن الوجعة، وقطع اليد المتآكلة (¬2)، ووقع خلاف بينهم في حكم الإجارة على نوع واحد منها وهو الحجامة هل تصح الإجارة عليها أم لا؟ وبيان خلافهم في ذلك يتضح في المسألة التالية: مسألة: هل تجوز الإجارة على الحجامة؟. اختلف أهل العلم -رحمهم الله- في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: القول الأول: تجوز الإجارة على الحجامة، ويكره للحر أكل ثمنها. وهو مذهب الحنابلة (¬3). ¬

_ (¬1) قرر الإمام العز بن عبد السلام -رحمه الله- أن الطب من جملة المنافع التي لو لم يحكم بجواز الإجارة عليها هلك الناس. انظر كتاب قواعد الأحكام 2/ 69، 70. (¬2) انظر على سبيل المثال المصادر الآتية: حاشية ابن عابدين 5/ 68، بدائع الصنائع للكاساني 4/ 184، 189، 194، الكافي لابن عبد البر 2/ 756، مغني المحتاج للشربيني 2/ 324، نهاية المحتاج للرملي 5/ 270، كشاف القناع للبهوتي 4/ 9، المغني والشرح الكبير لابن قدامة 6/ 121, المبدع لابن مفلح 5/ 92. (¬3) المغني والشرح الكبير لابن قدامة 6/ 121، 123، الإنصاف للمرداوي 6/ 47، 48.

القول الثاني:

القول الثاني: تجوز الإجارة على الحجامة. وهو قول عبد الله بن عباس (¬1) -رضي الله عنهما-، وعكرمة (¬2)، والقاسم (¬3)، ومحمد بن علي (¬4)، وربيعة (¬5)، ويحيى الأنصاري (¬6)، والليث بن سعد (¬7). ¬

_ (¬1) هو الصحابي الجليل عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، حبر الأمة، وترجمان القرآن، ولد -رضي الله عنه- بشعب أبي طالب قبل الهجرة بثلاث سنوات، وقيل بخمس، ويعد من علماء الصحابة ومفتيهم -رضي الله عنهم- أجمعين. توفي بالطائف سنة 68 من الهجرة. الاستيعاب لابن عبد البر 3/ 933 - 939. (¬2) هو أبو عبد الله عكرمة البربري مولى عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-، وعنه العلم، توفي -رحمه الله- سنة 105 وقيل بعدها. تهذيب التهذيب لابن حجر 263، 271. (¬3) هو أبو محمد القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، أحد فقهاء المدينة السبعة. قال عنه يحيى بن سعيد -رحمه الله-: "ما أدركنا أحدًا نفضله على القاسم بن محمد" اهـ. توفي -رحمه الله- بقديد (بين مكة والمدينة) سنة 101 هـ وقيل بغيرها. وفيات الأعيان لابن خلكان 3/ 224. (¬4) هو أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أحد فقهاء المدينة الأجلاء، وثقات محدثيها، ولد سنة 56 من الهجرة، وتوفي سنة 114 من الهجرة. وقيل غير ذلك تهذيب التهذيب لابن حجر 9/ 350، 351. انظر قوله في المسألة في المغني والشرح الكبير لابن قدامة 6/ 121. (¬5) هو الإمام أبو عثمان ربيعة بن أبى عبد الرحمن فروخ أحد فقهاء المدينة المشهورين في زمان التابعين، وعنه أخذ الإمام مالك العلم، وفيه يقول: "ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة الرأي" اهـ. توفي بالهاشمية وهى مدينة بناها السفاح بأرض الأنبار وكانت وفاته سنة 136 من الهجرة. وفيات الأعيان لابن خلكان 2/ 50 - 52. انظر قوله في المصدر السابق. (¬6) هو القاضي أبو سعيد يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري، أحد حفاظ الحديث، ومن فقهاء المدينة الأجلاء، قال عنه أيوب السختياني -رحمه الله- لما قدم من المدينة إلى العراق: "ما تركت بها أحدًا أفقه من يحيى بن سعيد"اهـ. توفى -رحمه الله- سنة 143 من الهجرة وقيل بغيرها. تهذيب التهذيب لابن حجر 11/ 221، 224، انظر قوله في المسألة في المغني والشرح الكبير لابن قدامة 6/ 121. (¬7) هو الإمام أبو الحارث الليث بن سعد بن عبد الرحمن، ولد -رحمه الله- في قلقشنده بمصر سنة 74 من الهجرة وكان إمام أهل مصر في الفقه والحديث، توفي =

القول الثالث:

وهو مذهب الحنفية (¬1) والمالكية (¬2) والشافعية (¬3) -رحمهم الله-. القول الثالث: لا تجوز الإجارة على الحجامة ولا تصح. وهو قول عثمان (¬4)، وأبي هريرة (¬5) -رضي الله عنهما-، والحسن البصري (¬6)، وإبراهيم النخعي (¬7). وهو مذهب الظاهرية (¬8) ¬

_ = -رحمه الله- سنة 175 من الهجرة. الكامل لابن الأثير 5/ 89، 90، انظر قوله في المسألة في البيان والتحصيل لابن رشد 8/ 455. (¬1) الهداية للميرغيناني 3/ 193، بدائع الصنائع للكاساني 4/ 190. (¬2) الكافي لابن عبد البر 2/ 756، والبيان والتحصيل لابن رشد 8/ 446، بداية المجتهد لابن رشد 2/ 223. (¬3) المهذب للشيرازي 2/ 325. (¬4) هو أمير المؤمنين أبو عبد الله عثمان بن أبي العاص بن عبد شمس الأموي، ولد -رضي الله عنه- بعد عام الفيل بست سنوات. وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة -رضي الله عنهم- أجمعين، ولي الخلافة في محرم سنة 24 هـ وفي عهده فتحت كثير من الأقاليم والأمصار، واتسعت حدود البلاد الإسلامية. قتل -رضي الله عنه- في داره في ذي الحجة سنة 35 من الهجرة. الإصابة لابن حجر 2/ 462، 463، البداية والنهاية لابن كثير 7/ 144 - 218، نقل القول عنه بحرمة كسب الحجام الإمام ابن حزم وابن قدامة -رحمهما الله-. انظر المحلى لابن حزم 8/ 193، والمغني والشرح الكبير لابن قدامة 6/ 121. (¬5) هو أبو هريرة الدوسي صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اختلف في اسمه واسم أبيه اختلافًا ً كثيرًا، فقيل اسمه عبد الرحمن بن صخر، وقيل غير ذلك. لقبه الحافظ ابن حجر -رحمه الله- "بحافظ الصحابة" قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر سنة 7 من الهجرة، توفي -رضي الله عنه- سنة 59 من الهجرة وقيل بغيرها. تهذيب التهذيب لابن حجر 12/ 263 - 267. انظر قوله في المحلى لابن حزم 8/ 193. (¬6) هو الإمام أبو سعيد الحسن بن يسار البصري، ولد -رحمه الله- سنة 21 من الهجرة، وكان من أجلاء التابعين وكبرائهم علمًا وعملاً، توفي -رحمه الله- في سنة 110 من الهجرة. البداية والنهاية لابن كثير 9/ 266، 267، المحلى لابن حزم 8/ 193. (¬7) هو الإمام أبو عمران إبراهيم بن يزيد بن الأسود النخعي أحد أئمة التابعين وفقهاء الكوفة، توفي -رحمه الله- سنة 96 من الهجرة وقيل بغيرها. وفيات الأعيان لابن خلكان 1/ 6. (¬8) المحلى لابن حزم 8/ 193.

الأدلة:

-رحمهم الله-. محل الخلاف: ينحصر محل الخلاف بين المجيزين والمانعين في حال المشارطة، أما لو أعطاه بدون سبق مشارطة فإن المانعين يجيزون له أكل ذلك الكسب ولا يحرمونه (¬1). الأدلة: (1) دليل القول الأول: اشتمل القول الأول على أمرين: صحة الإجارة، وكراهة أكل ثمنها للحر. فأما صحة الإجارة فقد احتجوا له بدليل السنة والعقل: أ- دليلهم من السنة: حديث عبد الله بن عباس -رضي. الله عنهما- أنه قال: "احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعطى الحجام أجره" (¬2). حديث أنس -رضي الله عنه- أنه قال: "حجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو طيبة فأمر له بصاع من تمر، وأمر أهله أن يخففوا عنه" (¬3). وجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى الحجام أجرته، فلو كانت الإجارة على فعل ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه البخاري في صحيحه 4/ 272، ومسلم 3/ 35.

الحجامة محرمة لما فعلها، ولما أعطى الحجام تلك الأجرة، ولذلك قال عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- بعد روايته الحديث: "ولو كان سحتًا لم يعطه النبي - صلى الله عليه وسلم - " (¬1). ب- دليلهم من العقل: استدلوا بالعقل من أربعة أوجه وهي: الوجه الأول: تجوز الإجارة على الحجامة كما تجوز على الختان والفصد بجامع كون كل منهما منفعة مباحة (¬2). الوجه الثاني: تجوز الإجارة على الحجامة كما تجوز على الخياطة والبناء بجامع كون كل منهما منفعة مباحة (¬3). الوجه الثالث: تجوز الإجارة على الحجامة كما تجوز على الرضاع بجامع وجود الحاجة إلى فعل كل (¬4). الوجه الرابع: أن الحاجة داعية إلى فعل الحجامة والتداوي بها، وليس كل ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 3/ 35، وأشار إلى هذا الوجه من الاستدلال الإمام ابن رشد- الجد والإمام ابن قدامة رحمهما الله. التبيان والتحصيل لابن رشد 8/ 446، والمغني والشرح الكبير لابن قدامة 6/ 122. (¬2) المبدع لابن مفلح 5/ 92، الإقناع للحجاوي 2/ 302، ومنتهى الإرادات للفتوحي 1/ 486. (¬3) المغني والشرح الكبير لابن قدامة 6/ 122. (¬4) المصدر السابق.

إنسان يبذلها بدون مقابل، ففي منع الإجارة عليها حرج (¬1). وأما كراهة أكل الحر لأجرة الحجامة، فقد استدلوا لها بالسنة والعقل أيضًا: أ- دليلهم من السنة: حديث مُحَيّصَةَ بن مسعود -رضي الله عنه- أنه استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في إجارة الحجام فنهاه عنها، ولم يزل يسأله، ويستأذنه حتى قال: "أعلِفْهُ نَاضحَك، أو أطعمه رقيقك" (¬2). وجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بإطعامه الرقيق، والرقيق آدمي كالحر يمنع ما يمنع منه الحر، فكونه يبيح له إطعامه الرقيق فيه دليل على حل أكل أجرة الحجامة وكسبها، والأمر بإطعام ذلك الكسب للرقيق فيه دليل على كراهة أكل الحر له (¬3). ب- دليلهم من العقل: يكره للحر أكل أجرة الحجامة والتكسب بها، كما يكره له الكسح بجامع دناءة الحرفة في كل (¬4). ¬

_ (¬1) أشار إلى هذا الوجه من النظر الشيخ منصور البهوتي في شرحه لمنتهى الإرادات بقوله: " ... ولدعاء الحاجة إليه" يعني إلى فعل الحجامة. شرح منتهى الإرادات 2/ 367. (¬2) رواه أبو داود في سننه 3/ 362، والترمذي في سننه أيضًا 4/ 566، وقال حديث حسن صحيح، وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في شرحه فتح الباري عن حديث محيصة هذا: "رجاله ثقات" أهـ. فتح الباري لابن حجر 4/ 309. (¬3) البيان والتحصيل لابن رشد 8/ 446، والمغني والشرح الكبير لابن قدامة 11/ 122، المبدع لابن مفلح 5/ 92. (¬4) المغني والشرح الكبير لابن قدامة 22/ 123. والمراد بالكسح: الكنس، والكساحة الكناسة، المصباح المنير للفيومي 2/ 533.

(2) دليل القول الثاني:

(2) دليل القول الثاني: استدل القائلون بصحة الإجارة على فعل الحجامة، وأنه يجوز أكل أجرتها بنفس الأدلة التي استدل بها أصحاب القول الأول في الفقرة الأولى من استدلالهم. (3) دليل القول الثالث: استدل القائلون بتحريم الإجارة على فعل الحجامة بدليل السنة: أ- حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كسب الحجام ... " (¬1). ب- حديث رافع بن خديج -رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ... كسب الحجام خبيث" (¬2). جـ- حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كسب الحجام" (¬3). وجه الدلالة من الأحاديث: أنها نصت على حرمة كسب الحجام لأن الأصل في النهي أنه للتحريم، وكذلك وصفه كسب الحجام بالخبث ظاهر في الدلالة على حرمته، وأما حديث أنس فصريح في الدلالة على عدم جواز ذلك الكسب (¬4). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في مسنده 2/ 299، قال الشيخ أبو الفيض أحمد بن محمد بن الصديق الغماري عنه "سنده صحيح" اهـ. الهداية في تخريج أحاديث البداية للغماري 7/ 468، 469. (¬2) رواه مسلم 3/ 31. (¬3) رواه الطحاوي في معاني الآثار. شرح معاني الآثار 4/ 129، الهداية للغماري 7/ 469. (¬4) بداية المجتهد لابن رشد 3/ 223، ونيل الأوطار للشوكاني 5/ 285.

سبب الخلاف: سبب اختلافهم في هذه المسألة تعارض الأحاديث الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). الترجيح: الذي يترجح في نظري، والعلم عند الله، هو القول بصحة الإجارة على فعل الحجامة، وكراهية أكل ثمنها للحر خاصة وذلك لما يأتي: أولاً: لصحة دلالة النقل والعقل على ذلك، كما تقدم بيانه في استدلال أصحاب هذا القول. ثانيًا: أن هذا القول فيه جمع بين الأدلة، ودفع لدعوى التعارض والجمع بين الأدلة أولى من العمل ببعضها، وترك البعض الآخر. ثالثًا: وأما استدلال أصحاب القول الثالث فيجاب عنه من الوجوه التالية: الوجه الأول: أن حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- اشتمل على النهي عن كسب الحجام، والأصل في النهي أن يحمل على التحريم ولكن بشرط عدم وجود الصارف، وهنا قد وجد الصارف من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله. ¬

_ (¬1) بداية المجتهد لابن رشد 2/ 223.

فأما قوله فذلك في أمره لأبي رافع -رضي الله عنه- في حديثه الصحيح. وأما فعله فذلك في إعطائه الحجام أجرته، إذ لا يصح أن يعطي النبي - صلى الله عليه وسلم - الحرام أو يعين عليه (¬1). الوجه الثاني: أن وصف كسب الحجامة بالخبيث كما ورد في حديث أبي رافع -رضي الله عنه- لا يستلزم التحريم. ولذلك ورد وصف الثوم والبصل بالخبيث، مع أنهما من المباحات (¬2). الوجه الثالث: أن حديث أنس -رضي الله عنه- لم أعثر على من صححه، وهو معارض بما ثبت عنه في الصحيحين أنه سئل عن كسب الحجام فذكر احتجام النبي - صلى الله عليه وسلم - وإعطاءه لأبي طيبة الصاعين أجرة للحجامة، فكونه لم يذكر تحريم النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه إشارة إلى بعد صحة رواية التحريم، وإن كان التحريم واردًا من طرق صحيحة عن غيره من الصحابة. إلا أن يقال إنه كان عالمًا بالتحريم، ولم يذكره لكونه منسوخًا وهذا هو مسلك بعض العلماء -رحمهم الله- في جمعهم بين هذه الأحاديث المختلفة فإنهم يرون أن النهي كان في أول الأمر ثم نسخ (¬3). وعلى كل فإن حديث أنس -رضي الله عنه- هذا إما ضعيف، أو ¬

_ (¬1) أشار إلى هذا الجواب الإمام ابن قدامة -رحمه الله- في المغني 6/ 122. (¬2) المغني والشرح الكبير لابن قدامة 6/ 122. (¬3) أشار إلى هذا المسلك الحافظ ابن حجر -رحمه الله- ونسب إلى الطحاوي -رحمه الله- جنوحه إليه ثم رده بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال. فتح الباري 4/ 309. قلت: وقد مال إلى هذا المسلك الإمام السرخسي -رحمه الله-، في المبسوط 5/ 84. وحكاه الإمام ابن رشد الجد -رحمه الله- في البيان ورجح الجواب بأن النهي للكراهة وأن الحديث ليس بمنسوخ. البيان والتحصيلى 8/ 446. قلت: وحديث أنس -رضي الله عنه- هذا إذا ثبت فيه دليل على النسخ، والله تعالى أعلم.

مسألة: هل يلحق بالحجامة كسب غيرها من الجراحات فيكره اكله للحر أم لا؟.

صحيح منسوخ، أو صحيح محمول على ما حمل عليه حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- المتقدم. لهذا كله فإنه يترجح في نظري القول بصحة عقد الإجارة على فعل الحجامة وكراهة أكل أجرتها للحر خاصة ... والله أعلم. مسألة: هل يلحق بالحجامة كسب غيرها من الجراحات فيكره اكله للحر أم لا؟. يختص هذا الحكم "أي كراهة أكل كسب الحجامة بجراحتها" ولا يلحق بها غيرها من أنواع الجراحة الطبية الأخرى. فلا يكره للخاتن أكل كسبه من جراحة الختان، وهكذا الطبيب الجراح في عصرنا الحاضر لا يكره له أكل كسبه من الجراحات التي يقوم بفعلها. قال الإمام ابن قدامة -رحمه الله-: "فأما استئجار الحجام لغير الحجامة كالفصد، وحلق الشعر، وتقصيره، والختان، وقطع شيء من الجسد للحاجة إليه فجائز؛ لأن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كسب الحجام خبيث" يعني بالحجامة كما نهى عن مهر البغي أي في البغاء، وكذلك لو كسب بصناعة أخرى لم يكن خبيثًا بغير خلاف" (¬1) اهـ. * * * ¬

_ (¬1) المغني والشرح الكبير لابن قدامة 6/ 123.

المطلب الثاني في (شروط صحة الإجارة على الجراحة)

المطلب الثاني في (شروط صحة الإجارة على الجراحة) للإجارة على الجراحة الطبية شروط لابد من توفرها لكي يحكم بصحة عقدها، وهذه الشروط منها ما يرجع إلى المتعاقدين، ومنها ما يرجع إلى العمل الجراحي ومستلزماته، ومنها ما يرجع إلى الأجرة المبذولة لقاء ذلك العمل. وهذه الشروط مستمدة من الشروط المعتبرة في عقود الإجارات عمومًا والتي نص عليها الفقهاء -رحمهم الله- وبيانها فيما يلي: الشرط الأول: أهلية العاقدين المراد بالأهلية: أن يكون العاقد بالغًا عاقلاً. والمراد بالعاقدين: الطرفان اللذان يتم بينهما إجراء عقد الإجارة، وهما: 1 - المستأجر. 2 - والأجير. فأما الطرف الأول: فهو الشخص المريض، أو من يقوم مقامه سواء كان وليًا، أو وكيلاً.

وأما الطرف الثاني: فهو الطبيب الجراح، ومساعدوه، وتارة يكون مسئول المستشفى الذي يفوض عادة في إجراء هذه العقود. فلابد في هذين الطرفين من أن تتوفر فيهما أهلية التصرف حتى يعتد بقولهما وعليه فإنه لا يصح عقد الإجارة على فعل الجراحة إذا كان أحد الطرفين فاقدًا لأهلية التصرف بأن كان صبيًا أو مجنونًا. وهذا الشرط مبني على ما نص عليه أهل العلم -رحمهم الله- من اشتراط أهلية التصرف في المتعاقدين علي الإجارة (¬1). قال الإمام النووي -رحمه الله- في معرض بيانه لأحكام الإجارة: "الركن الأول: العاقدان، ويعتبر فيهما العقل، والبلوغ كسائر التصرفات" (¬2) اهـ. ومن المعلوم أن عقد الإجارة يعتبر من عقود المعاوضات لاشتماله على بذل الثمن وهو المال عوضًا عن المثمن وهو العمل (¬3). وهنا في عقد الإجارة على الجراحة يبذل المريض الثمن في مقابل العمل الجراحي الذي سيقوم به الطبيب الجراح ومساعدوه، فهو على هذا داخل في عقود المعاوضات المالية. ومعلوم أن الصبي والمجنون محجور عليهما في تصرفاتهما ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع للكاساني 4/ 176، وحاشية الدسوقي 4/ 3، روضة الطالبين للنووى 5/ 173، المغني والشرح الكبير لابن قدامة 6/ 4، المبدع لابن مفلح 5/ 89. (¬2) روضة الطالبين للنووي 5/ 173. (¬3) بداية المجتهد لابن رشد 2/ 218.

الشرط الثاني: رضا المتعاقدين

المالية (¬1)، فلا تصح إجارتهما لاشتمالها على المعاوضة المالية كما لا يصح بيعهما. قال الإمام الكاساني (¬2) -رحمه الله-: "لا تنعقد الإجارة من المجنون، والصبي الذي لا يعقل كما لا ينعقد البيع منهما ... " (¬3) اهـ. الشرط الثاني: رضا المتعاقدين والمراد بهذا الشرط أن تحصل موافقة الطرفين على عقد الإجارة بمحض اختيارهما دون إكراه من الغير. وهذا الشرط مبني على ما نص عليه بعض الفقهاء -رحمهم الله- من اشتراط الرضا في المتعاقدين على الإجارة (¬4). قال الإمام الكاساني -رحمه الله- عند بيانه لشروط صحة الإجارة ما نصه: " ... أما الذي يرجع (¬5) إلى التعاقد، فرضا المتعاقدين لقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ ¬

_ (¬1) نص الفقهاء -رحمهم الله- على مشروعية الحجر على كل منهما في تصرفاته المالية. انظر بداية المجتهد لابن رشد 2/ 276، الهداية للميرغيناني 3/ 226، منح الجليل لعليش 3/ 164، 165، المهذب للشيرازي 1/ 328، منتهى الإرادات للفتوحي 1/ 427. (¬2) هو الإمام أبو بكر بن سعود بن أحمد الكاساني أحد فقهاء الحنفية المشهورين، توفي -رحمه الله- بحلب سنة 587 من الهجرة، وله مصنفات منها: السلطان المبين في أصول الدين، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع. معجم المؤلفين لعمر كحالة 3/ 75، 76. (¬3) بدائع الصنائع للكاساني 4/ 176. (¬4) الفتاوي الهندية 4/ 411. (¬5) أي من شروط الصحة.

الشرط الثالث: أن تكون الجراحة مشروعة

تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬1)، والإجارة تجارة ... إلخ" (¬2) اهـ. وبناء على ما سبق فإنه لا يصح عقد الإجارة على فعل الجراحة إذا أكره المريض أو الطبيب الجراح عليه، ويحرم على الطبيب أن يفعل الوسائل الموجبة لإكراه المريض علي الموافقة كإخباره بعزمه على الجراحة بعد الشروع في بعض مراحلها كما في جراحة الأسنان. وكذلك ما يفعله بعض الأطباء من الضغط على المريض بالمبالغة الكاذبة في وصف المرض إلى درجة يشتد فيها خوف المريض، ويضطر للموافقة على التعاقد مع المستشفى لإجراء تلك الجراحة، وكذلك الكذب عليه بقولهم: إنه إذا لم يبادر فورًا بإجراء الجراحة فإنه مهدد بالموت، أو تلف عضو منه، ويكون الواقع بخلاف ذلك. الشرط الثالث: أن تكون الجراحة مشروعة مما يشترط لصحة عقد الإجارة على فعل الجراحة أن تكون الجراحة جائزة ومشروعة. فلا يصح عقد الإجارة على فعل جراحة محرمة، كجراحة التجميل التحسينية، وجراحة تغيير الجنس والجراحة الوقائية، ونحوها من الجراحات المحرمة. وقد أشار الفقهاء -رحمهم الله- إلى اعتبار هذا الشرط في الإجارة على فعل الجراحة. قال الإمام النووي -رحمه الله-: "العجز الشرعي كالعجز ¬

_ (¬1) سورة النساء (4) آية 29. (¬2) بدائع الصنائع للكاساني 4/ 179.

الحسي، فلا يصح الاستئجار لقلع سن صحيحة، أو قطع يد صحيحة" (¬1) اهـ. وقال الشيخ موسى الحجاوي -رحمه الله-: "ويصح استئجاره لحلق شعره، وتقصيره، ولختان، وقطع شيء من جسده للحاجة إليه، ومع عدمها يحرم، ولا يصح" (¬2). أي مع عدم الحاجة يحرم القطع، ولا يصح الاستئجار عليه (¬3). وقال الخطيب الشربيني -رحمه الله-: ( ... قوله "فلا يصح استئجار لقلع سن صحيحة" لحرمة قلعها، وفي معناها كل عضو سليم من آدمي وغيره ... ) (¬4) اهـ. فقد نصوا على عدم صحة عقد الإجارة على فعل هذه الجراحات، وذلك لحرمة فعلها، كما صرح بذلك الشيخ سليمان الجمل الشافعي -رحمه الله- فقال: " ... لا يصح استئجار لقطع أو قلع ما منع الشرع من قطعه أو قلعه من نحو سن صحيحة، وعضو سليم، وإن لم يكن من آدمي للعجز عنه شرعًا ... " (¬5) اهـ. واشتراط هؤلاء الفقهاء لهذا الشرط في الإجارة على فعل الجراحة يتفق مع ما نصوا عليه من أنه يشترط لصحة عقد الإجارة أن تكون المنفعة مباحة (¬6)، ولذلك نصوا على عدم صحة الإجارة على فعل ¬

_ (¬1) روضة الطالبين للنووي 5/ 184. (¬2) الإقناع للحجاوي 2/ 302. (¬3) كشاف القناع للبهوتي 4/ 9. (¬4) مغني المحتاج للشربيني 2/ 324، ونص فقهاء المالكية -رحمهم الله- على مثل هذا. انظر منح الجليل لعليش ص 776. (¬5) حاشية الجمل على شرح المنهج 3/ 539. (¬6) بدائع الصنائع للكاساني 4/ 189، حاشية الدسوقي 4/ 230، مغني المحتاج =

المحرمات كالغناء، والنياحة، ونحوها من المحرمات. وقد جعل الإمام ابن حجر الهيثمي -رحمه الله- الحكم بحرمة عقد الإجارة على قلع سن صحيحة مبنيًا على هذا الأصل المقرر عند أهل العلم -رحمهم الله- في باب الإجارة، فقال -رحمه الله-: " ... ومن ثم بطلت الإجارة في قلع سن أن حَرُمَ قطعها ... للعجز عنه شرعًا، فهو كالاستئجار لسائر المحرمات كالنياحة والزمر ... " (¬1). ِْ "فجعل الحكم ببطلان الإجارة على القلع المحرم ملحقًا بالإجارة على المحرمات. واشتراط حل المنفعة لكي يحكم بصحة الإجارة مبني على القياس ووجهه: أنه لا تصح الإجارة على المنافع المحرمة كما لا يصح بيع الأعيان المحرمة بجامع كون كل منهما عقد معاوضة. وقد أشار الإمام الشيرازي (¬2) -رحمه الله- إلى مسند هذا الحكم من وجه آخر بقوله: "ولا تجوز (¬3) على المنافع المحرمة؛ لأنه يحرم، فلا يجوز أخذ العوض عليه كالميتة والدم" (¬4) اهـ. ومراده -رحمه الله- أن حرمة الانتفاع بالشيء موجبة لحرمة أخذ العوض عليه كالحال في الميتة والدم فإنه لما حرم الانتفاع بهما حرم ¬

_ = للشربيني 2/ 324، المبدع لابن مفلح 5/ 73، 74. (¬1) فتح الجواد للهيثمي 1/ 589. (¬2) هو الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز آبادي الشيرازي من كبار مجتهدي المذهب الشافعي، ولد -رحمه الله- بفيروز آباد سنة 393 من الهجرة وتوفي ببغداد سنة 476 من الهجرة، ومن مصنفاته: المهذب، والنكت، واللمع. معجم المؤلفين، عمر كحالة 1/ 68، 69. (¬3) أي الإجارة. (¬4) المهذب للشيرازي 1/ 398.

الشرط الرابع: بيان العمل الجراحي ومستلزماته

أخذ العوض عليهما (¬1). وإذا تقرر أن أخذ العوض حرام دل ذلك على حرمة عقد الإجارة الموجب لأخذ العوض. الشرط الرابع: بيان العمل الجراحي ومستلزماته اشترط الفقهاءُ -رحمهم الله- لصحة عقد الإجارة العلم بالمنفعة، وذلك قياسًا على البيع الذي يشترط فيه العلم بالمبيع، وكذلك قطعًا للجهالة المفضية إلى الخصومة والنزاع (¬2). والإجارة على فعل الجراحة الطبية يشملها هذا الشرط، فينبغي على كلا المتعاقدين أن يقوما بتحديد العمل الجراحي وبيانه على وجه ترتفع به الجهالة. فيذكران اسم الجراحة المطلوبة، ومحلها، ونوعية الفحص الذي يجرى قبل مباشرتها، والوسائل التي يتم بها ذلك الفحص من أشعة وتحاليل تحدد نوعيتها، وكذلك يقومان بتحديد نوعية المخدر الذي سيتم إجراؤه هل هو عام أو موضعي، ثم يحددان مكان العمل الجراحي وحدوده، إن احتاج الأمر لذلك، كما في جراحة استئصال السرطان، والأكلة ونحوهما، ثم يقومان بتحديد نوعية الخدمة والعناية التي ستعقب الجراحة، ومدة الأيام التي يقيمها المريض في المستشفى لتلك ¬

_ (¬1) يشهد لهذا الحكم ما ثبت في الصحيح من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله ورسوله حرما بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام " متفق عليه. صحيح البخاري 2/ 29، صحيح مسلم 3/ 37. (¬2) بدائع الصنائع للكاساني 4/ 179، 180، قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي 301، 302، المهذب للشيرازي 1/ 395، 396، المغني والشرح الكبير لابن قدامة 6/ 4، 5.

الشرط الخامس: أن يكون ثمن الجراحة معلوما

الفترة. فبيان هذه الأمور وتوضيحها للمريض يجعله على بينة من أمره، الأمر الذي يؤدي إلى قطع النزاعات والخصومات مستقبلاً، ويجعل الأمور تسير في وضعها الطبيعي دون أن يستغل أحد الطرفين نظيره أو يظلمه. فالطبيب يقوم بعمله المعين، والمريض معه على وفاق تام ينتقل به من مرحلة إلى مرحلة، ولو حدث بينهما أي خلاف أمكن إلزام المعتدي منهما بما اتفقا عليه في العقد المبرم بينهما. وهذا هو مقصود الشرع الذي أشار إليه الفقهاء -رحمهم الله- عند بيانهم لشرط العلم بالمنفعة (¬1). إذ لا يستطيع أحد الطرفين أن يؤذي الآخر أو يجحف به بمطالبته بأمر زائد عن ذلك القدر المتفق عليه بينهما. كما أن علم المستأجر بطبيعة العمل الجراحي يمكنه من المقارنة بين الأطباء لمعرفة الأجر المناسب كما هو الحال في سائر الإجارات. لهذا فإنه من المنبغي العناية ببيان العمل الجراحي ووصفه وصفًا ترتفع به الجهالة المؤثرة مع كتابة عقد بين الطرفين يشتمل على ذلك الوصف في كل جراحة بحسبها. الشرط الخامس: أن يكون ثمن الجراحة معلوماً. مما يشترط لصحة عاقد الإجارة على فعل الجراحة أن يكون الثمن معلومًا عند الطرفين، فلا تجوز الإجارة بثمن مجهول سواء جهله ¬

_ (¬1) انظر المصادر السابقة.

الطرفان أو أحدهما. وترتفع الجهالة عن الثمن بوصفه وبيان قدره، كأن يقول الطبيب -على سبيل المثال- عند تعاقده مع المريض على جراحة استئصال اللوزتين إنهما بخمسمائة ريال سعودي. وهذا الشرط مبني على ما نص عليه الفقهاء -رحمهم الله- من اشتراط العلم بالثمن لصحة عقد الإجارة (¬1). قال الإمام ابن قدامة -رحمه الله-: "يشترط في عوض الإجارة كونه معلومًا لا نعلم في ذلك خلافًا؛ لأنه عوض في عقد معاوضة فوجب أن يكون معلومًا كالثمن في البيع" (¬2) اهـ. وبناء على هذا فإنه لا يصح الإجارة على فعل الجراحة إذا كان الثمن مجهولاً مثل أن يقول المريض للطبيب الجراح: اقلع سني وأنا أرضيك، أو استأصل لي الزائدة الدودية وأنا أعطيك ما تحب ونحو ذلك مما لا يعلم به قدر الثمن ولا صفته. ولو تم العقد بينهما بثمن مجهول فإنه يحكم بفساده، ولو فعل الطبيب الجراحة فإنه يستحق أجرة المثل، قال الإمام النووي -رحمه الله-: "لو قال: اعمل كذا لأرضيك، أو أعطيك شيئًا، وما أشبهه، فسد العقد، وإذا عمل استحق أجرة المثل" (¬3) اهـ. والجراحة الطبية تشتمل على العمل الجراحي، ولوازم أخرى ¬

_ (¬1) الهداية للميرغيناني 3/ 186، 187، حاشية الدسوقي 4/ 3، المهذب للشيرازي 1/ 399، منتهى الإرادات للفتوحي 1/ 477. (¬2) المغني والشرح الكبير لابن قدامة 6/ 11 ومثله في المبدع لابن مفلح 5/ 66. (¬3) روضة الطالبين للنووي 5/ 174.

تعتبر تابعة له، وموجبة لنجاحه كالفحص قبل الجراحة، والتخدير، والعناية التي تتم بعد العمل وتشتمل على تدبير الجرح ومتابعة المريض. وهذه المراحل تعتبر مختلفة عن ذات العمل، وتشتمل على منفعة يستحق القائمون بها في مقابلها الأجرة، فوجب حينئذ بيان تكاليفها، وأجرة العمل الذي يقوم به أصحابها قطعًا للنزاع والخصومة. فهذه هي مجمل الشروط التي ينبغي توفرها لكي يحكم بصحة عقد الإجارة على فعل الجراحة الطبية ... والله أعلم. * * *

المطلب الثالث في (استحقاق الأجرة على فعل الجراحة)

المطلب الثالث في (استحقاق الأجرة على فعل الجراحة) يستحق الأطباء ومساعدوهم الأجرة بمجرد انتهائهم من أداء المهمات المتعلقة بهم كل حسب اختصاصه ومهمته المطلوبة منه (¬1). فيستحق طبيب الفحص الأجرة إذا توصل إلى معرفة نوعية المرض الجراحي، أي بعد انتهائه من مهمتي الفحص والتشخيص. ويستحق مساعدوه الأجرة كل واحد منهم بمجرد انتهائه من مهمته المتعلقة به، فأخصائي المختبر يستحق أجرة التحاليل بعد قيامه بتحليل الدم والبول والبراز وكتابة التقارير عن نتيجة تحليلها. وهكذا الحال بالنسبة للمصور بالأشعة، والمناظير الطبية. وأخصائي التخدير يستحق الأجرة بعد انتهائه من آخر مرحلة من مراحل مهمة التخدير الجراحي، والتي تتمثل في إفاقة المريض بعد انتهاء العمل الجراحي. والطبيب الجراح يستحق أجرة العمل الجراحي بعد انتهاء مهمته الجراحية، وذلك بخياطة الجرح وإغلاقه وهكذا الحال بالنسبة للممرضين، والممرضات كل واحد منهم يستحق الأجرة عن عمله ¬

_ (¬1) نص الفقهاء -رحمهم الله- على أن الأجرة في عقد الإجارة تستحق بعد استيفاء المنفعة من قبل الشخص المستأجر. انظر: بدائع الصنائع للكاساني 4/ 201, حاشية الدسوقي 4/ 3 - 5، المهذب للشيرازي 1/ 399، المغني والشرح الكبير لابن قدامة 6/ 14، 15.

بمجرد انتهائه منه. وهذا الحكم مبني على ما تقرر في الشرع من إلزام المستأجر بدفع الثمن إذا استوفى المنفعة المعقود عليها بالإجارة، وهو أصل شهدت نصوص الكتاب والسنة باعتباره، قال تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (¬1) فألزم الأزواج بدفع الأجرة لقاء منفعة الإرضاع المستوفاة. وفي الصحيح من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: قال الله تعالى: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره" (¬2). فقد دل هذا الحديث على حرمة منع الأجير أجرته بعد استيفاء المنفعة منه. والأطباء ومساعدوهم إذا انتهوا من أداء المهمات المتعلقة بهم كان المريض مستوفيًا للمنفعة منهم، فحرم عليه منعهم من الأجرة، ويعتبر كل واحد منهم بمثابة الشخص المنفرد بعد انتهائه من أداء مهمته. وقد درجت المستشفيات الأهلية على أخذ الأجرة المتعلقة بجميع الجراحة دفعة واحدة قبل تنفيذها، وهذا أمر لا حرج فيه من الناحية الشرعية، إذ هو بمثابة تقديم رأس المال قبل المثمن كالحال في السلم. وإذا اتفق الطرفان على التقديم، أو التأخير، أو تقديم شيء من الأجرة وتأخير الباقى فإنه لا حرج عليهما في ذلك (¬3)، والمقصود من ¬

_ (¬1) سورة الطلاق (65) آية 6. (¬2) رواه البخاري في صحيحه 2/ 34. (¬3) قوانين الأحكام الفقهية لابن جزي 301، 302.

بيان وقت الاستحقاق في الصورة المتقدمة بيان شرعية مطالبة المستشفيات والأطباء للأجرة على هذه المهمات في حال عدم التمكن من إنهاء المهمة فيما لو وجد العذر الشرعي الذي يمنع من ذلك كما في حالة موت المريض أثناء الجراحة، أو اتفاق الطرفين على فسخها قبل مهمة العمل وبعد أداء مهمة الفحص والتشخيص. والله تعالى أعلم.

المطلب الرابع في (فسخ الإجارة على فعل الجراحة)

المطلب الرابع في (فسخ الإجارة على فعل الجراحة) الأصل في عقد الإجارة أنه من العقود اللازمة (¬1)، وذلك لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (¬2) والإجارة عقد ولأنها كالبيع بجامع المعاوضة في كل (¬3). وعلى هذا فإنه إذا تعاقد المريض مع الطبيب والمستشفى على فعل الجراحة بالأجرة، فإنه ينبغي على كلا الطرفين الوفاء بذلك العقد، ما لم يوجد عذر شرعي يجيز لها الفسخ. فإذا امتنع الطبيب عن تنفيذ عقدها بدون عذر ألزمه الحاكم بذلك، وأما المريض فإنه إذا امتنع عن الوفاء لم يجبر على فعلها، وإنما يجبره الحاكم على دفع الأجرة إذا مكنه الطبيب من نفسه مدة يمكنه فيها فعل الجراحة، وإذا حكم بالأجرة للطبيب وأخذها لم تستقر ملكية الطبيب لتلك الأجرة بمعنى أنه إذا وجد العذر الشرعي الموجب لفسخ عقد الإجارة بعد أخذ الطبيب للأجرة وجب عليه ردها. قال الإمام شمس الدين أحمد بن محمد الرملي الشافعي -رحمه ¬

_ (¬1) القول بلزوم عقد الإجارة هو مذهب الجمهور، الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة. انظر بدائع الصنائع للكاساني 4/ 197، وبداية المجتهد لابن رشد 2/ 277، المهذب للشيرازي 1/ 400، كشاف القناع للبهوتي 4/ 17. (¬2) سورة المائدة (5) آية 1. (¬3) بدائع الصنائع للكاساني 4/ 197، المهذب للشيرازي 1/ 400.

الله-: "فإن منعه من قلعها ولم تبرأ لم يجبر عليه، ويستحق الأجرة بتسليم نفسه، ومضي مدة إمكان العمل، لكنها غير مستقرة حتى لو سقطت رد الأجرة كمن مكنت الزوج فلم يطأها ثم فارق. ويفارق ذلك ما لو حبس الدابة مدة إمكان السير حيث تستقر الأجرة عليه لتلف المنافع تحت يده، وما تقرر هنا لا ينافي ما نقل عن الإمام من استقرارها، إذ هو مفروض فيما إذا تبين عدم تدارك الفعل المستأجر عليه، وما مر في إمكانه"اهـ (¬1). فبين -رحمه الله- أن المريض لا يجبر على فعل الجراحة إذا امتنع عنها بعد العقد، وأن الطبيب يستحق الأجرة إذا مكنه من نفسه المدة الكافية لفعل الجراحة، ولم يمكنه ذلك المريض من فعلها (¬2)، ثم بين أن الحكم بالأجرة للطبيب على هذا الوجه لا يوجب استقرار ملكيته لها. وعلى هذا فإن المريض لو تراجع عن الامتناع، وطالب الطبيب بفعل الجراحة ألزم الطبيب بفعلها. ويجوز لكل من الطبيب والمريض فسخ عقد الإجارة على فعل الجراحة في الأحوال التالية: الحالة الأولى: أن يتعذر فعل الجراحة لزوال موجبها. الحالة الثانية: إذا مات أحد الطرفين. ¬

_ (¬1) نهاية المحتاج للرملي 5/ 271، ونص على ذلك غيره. انظر فتح الجواد للهيثمي 1/ 589. (¬2) ومثل هذا الحكم نص عليه بعض فقهاء المالكية والحنابلة -رحمهم الله-. انظر المعيار المعرب للونشريسي 8/ 286، 287، الإنصاف للمرداوي 6/ 75.

1 - أن يتعذر فعل الجراحة لزوال موجبها:

الحالة الثالثة: إذا اتفق الطرفان على الفسخ. وبيان هذه الحالات فيما يلي: 1 - أن يتعذر فعل الجراحة لزوال موجبها: والمراد بذلك أن تزول الحاجة الموجبة لفعل الجراحة، وبزوال تلك الحاجة ينتفي الإذن الشرعي الموجب لإباحة فعلها، ومن ثم يحرم على الطبيب والمريض ذلك الفعل، وقد مثل الفقهاء -رحمهم الله- لهذه الحالة بزوال ألم الضرس المتفق على قلعه، واعتبروا زوال ذلك الألم عجزًا شرعيًا يقوم مقام العجز الحسي الموجب لفسخ عقد الإجارة على الدور والدواب ونحوها (¬1). قال الإمام الكاساني -رحمه الله-: " ... إن استأجر رجلاً ليقصر له ثيابًا أو ليقطعها، أو يخيطها، أو ليقلع ضرسه، أو ليحجم، أو ليفصد ... ثم بدا له أن لا يفعل له أن يفسخ الإجارة، ولا يجبر على شيء من ذلك، لأن القصارة والقطع نقصان عاجل في المال بالغسل والقطع وفيه ضرر .. وقلع الضرس والحجامة، والفصد إتلاف جزء من البدن وفيه ضرر به، إلا أنه استأجره لها لمصلحة تأملها تربو على المضرة، فإذا بدا له علم أنه لا مصلحة فيه فبقي الفعل ضررًا في نفسه، فكان له الامتناع عن الضرر بالفسخ إذ الإنسان لا يجبر على الإضرار بنفسه" (¬2). فبين -رحمه الله- أن وجه الفسخ هو تعذر الانتفاع من فعل ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين 5/ 78، بدائع الصنائع للكاساني 4/ 198، مواهب الجليل للحطاب شرح الخرشي 5/ 30، نهاية المحتاج للرملي 5/ 271، الإنصاف للمرداوي 6/ 75. (¬2) بدائع الصنائع للكاساني 4/ 198.

2 - إذا مات أحد الطرفين:

الجراحة، وأنه إذا زال موجبها صارت ضررًا محضًا، ولا يجبر الإنسان على الإضرار بنفسه. وهذا إنما يتجه إذا زالت الحاجة إلى الجراحة، أما لو بقيت تلك الحاجة، وامتنع المريض من فعلها فإن الحكم ما تقدم بيانه من إجباره على دفع الأجرة للطبيب بتسليمه لنفسه وتمكينه إياه من فعل الجراحة. ومن أمثلة فوات المنفعة بزوال الضرر في الجراحة خروج الحصاة فإذا تعاقد المريض مع المستشفى على إخراجها بالجراحة ثم خرجت بنفسها أو بوسيلة أخرى انفسخ عقد الإجارة الذي بينهما. 2 - إذا مات أحد الطرفين: وهذا مفرع على اعتبار الموت عذرًا موجبًا لفسخ الإجارة، فبموت المريض تزول الحاجة إلى فعل الجراحة ويحرم فعلها بجسده، ومن ثم يبطل عقد الإجارة، والمنفعة المقصودة من الإجارة يتعذر حصولها بعد موت الطبيب والمريض، فلا وجه لبقاء العقد الذي بينهما (¬1). قال الشيخ علاء الدين علي بن سليمان المرداوي الحنبلي -رحمه الله-: "فإن استأجره مدة يكحله، أو يعالجه فيها، فلم يبرأ استحق الأجر، وإن برأ في أثناء المدة انفسخت الإجارة فيما بقى وكذا لو مات" (¬2) اهـ. فاعتبر -رحمه الله - موت المريض موجبًا للحكم بانفساخ عقد الإجارة الذي بينه وبين الطبيب. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين 5/ 68، تبيين الحقائق للزيلعي 5/ 144، تكملة فتح القدير لقاضي زاده 7/ 220. (¬2) الإنصاف للمرداوي 6/ 75.

3 - إذا اتفق الطرفان على الفسخ:

3 - إذا اتفق الطرفان على الفسخ: فكما أن ثبوت العقد مبني على رضاهما كذلك يفسخ برضاهما كالحال في البيع فإنه ينفسخ عقده بالإقالة (¬1)، والإجارة كالبيع بجامع المعاوضة (¬2). فإذا اتفق المريض مع الطبيب أو المستشفى على فسخ عقد الإجارة الذي بينهما وتراضيا على ذلك انفسخ عقدها ... والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع للكاساني 5/ 306، جواهر الإكليل للأبي 2/ 54، المجموع للنووي 9/ 156، منار السبيل لابن ضويان 1/ 325. (¬2) بدائع الصنائع للكاساني 4/ 197.

الخاتمة

الخاتمة فقد توصلت من خلال هذا البحث- بفضل الله تعالى- إلى نتائج من أهمها ما يلي: أ- النتائج الخاصة بموضوع الرسالة: أولاً: الجراحة الطبية مشروعة من حيث الجملة. ثانيًا: أن تعلم الجراحة الطبية، وتعليمها، وتطبيقها يعتبر فرضًا من فروض الكفاية. ثالثًا: أن لعلماء الطب المسلمين فضلاً كبيرًا في تطوير علم الجراحة، والتأليف فيه وأن هذا الفضل يرجع إلى التزامهم بالشرع قولاً، وفعلاً، واعتقادًا. رابعًا: يشترط لجواز فعل الجراحة الطبية ثمانية شروط: أن تكون مشروعة، ويحتاج إليها المريض، ويأذن بفعلها، وأن يكون الطبيب الجراح أهلاً لفعلها، ويغلب على ظنه نجاحها، ولا يوجد البديل الذي هو أخف ضررًا منها، وأن تترتب المصلحة على فعلها، ولا يترتب عليها ضرر أعظم من ضرر المرض الجراحي. خامسًا: تشرع من الجراحة الطبية الأنواع التالية:

الجراحة العلاجية، والكشفية، والولادة، والختان، والتشريح، والتجميل المحتاج إليه. سادسًا: أن الجواز في هذه الأنواع مبني على وجود الحاجة الداعية إلى فعلها، وهي إما أن تبلغ إلى مقام الضروريات كما في الجراحة العلاجية الضرورية، وجراحة الولادة التي يقصد منها إنقاذ الأم، وجنينها، أو واحدًا منهما. وإما أن تبلغ مقام الحاجيات كما في الجراحة العلاجية الحاجية، وجراحة الولادة الحاجية وجراحة التشريح بقصد تعلم الطب، وجراحة الكشف، وجراحة التجميل المحتاج إليها. وإما أن تكون دون مقام الضروريات والحاجيات كما في الجراحة العلاجية الصغرى. وقد يكون جواز الجراحة مبنيًا على ورود إذن خاص من الشرع بفعلها كما في جراحة الختان. سابعًا: يحرم على الأطباء ومساعديهم فعل جراحة التجميل التحسينية (التي لم توجد فيها دوافع ضرورية ولا حاجية)، وجراحة تغيير الجنس، والجراحة الوقائية. ويحرم على غيرهم الإذن بفعلها، والمعونة عليها. ثامنًا: أن الحكم بحرمة هذه الأنواع مبني على عدم وجود الحاجة الداعية إلى فعلها، إضافة إلى ما تشتمل عليه من تغيير لخلق الله تعالى، وعبث فيها، وتَسخُّط على قضاء اللَّه وقدره

تاسعًا: يشرع للأطباء ومساعديهم القيام بمهمة الفحص الطبي بشرط أن تتوفر فيهم الأهلية المعتبرة للقيام بمهمتهم، ولا حرج عليهم، ولا على المرضى في الكشف عن العورة، ولمسها، والنظر إليها بشرط وجود الحاجة الداعية إلى ذلك، وعدم وجود البديل في الجنس والطريقة، وأن يتقيدوا بقدر الحاجة دون زيادة. ولا حرج عليهم في الفحص بالأشعة السينية ونحوها من الوسائل الخطرة بشرط وجود الحاجة، وعدم وجود البديل الذي هو أخف ضررًا منها، وأن يقتصروا فيها على قدر الحاجة. عاشرًا: يشرع للأطباء الحكم بوجود المرض الجراحي، إذا بلغ علمهم بوجوده مرتبة اليقين أو غلبة الظن. ويجب عليهم التوقف في حال الشك (استواء الاحتمالين). ويحرم عليهم الحكم بوجوده إذا كان علمهم مبنيًا على الوهم (الاحتمال المرجوح). الحادي عشر: أ- يستحق الإذن بالجراحة المريض، ووليه، فيعتبر إذنه إذا كان أهلاً بأن كان بالغًا عاقلاً، فلا يعتبر إذن صبي، ولا مجنون، ولا يعتبر إذن الولي إذا أمكن أخذ المريض الأهل، أو امتنع ذلك المريض من الإذن. ب- ويشترط للحكم بصحة الإذن: أن يكون صادرًا ممن له الحق، وأن تتوفر فيه الأهلية، وأن يكون مختارًا، وأن يشتمل الإذن

على إجازة فعل الجراحة، وأن تكون دلالة صيغته صريحة أو قائمة مقام الصريح، وأن يكون المأذون به مشروعًا. جـ- ويستحب للمريض أن يأذن بفعل الجراحة إلا إذا كانت ضرورية فإنه يجب عليه الإذن بها، ولا يعتبر قاتلاً لنفسه لو امتنع ومات بسبب المرض الجراحي. د- ويجوز للأطباء فعل الجراحة بدون أخذ موافقة المريض في حالتين: إذا كان مهددًا بالموت، أو تلف عضو أو أعضاء من جسده، ولم تسمح حالته بأخذ موافقته. أو كان مصابًا بمرض معدي. الثاني عشر: الأصل في المخدرات أنها محرمة كالخمر، ولكن يجوز استعمالها في الجراحة المشروعة، بشرط أن يتقيد المخدر بالقدر المحتاج إليه دون زيادة عليه، ويتقيد بالحدود الشرعية في طريقة التخدير فلا يلجأ إلى التخدير عن طريق العورة، إلا إذا تعذر التخدير عن طريق غيرها. الثالث عشر: أ- يجوز قطع الأعضاء والأجزاء من جسم الآدمي عند وجود الحاجة مع وجوب التقيد بها كما يجوز قطع البواسير بلا كراهة خلافًا لمن قال بكراهته.

وأما الأصبع الزائدة فيجوز قطعها إن وجدت الحاجة الداعية إلى ذلك كالألم وأما إذا لم توجد فإنه يحرم قطعها. ويجوز قطع العصب في جراحة التغلب على الألم إذا تعذر علاجه، وكان ضرر الألم أعظم من ضرر قطع العصب. ويجوز للطبيب إذا قطع جزءًا من الجسم لوجود الحاجة أن يزيد عن الموضع المحتاج إليه على سبيل الاحتياط إذا غلب ظنه سريان الآفة إلى ذلك الجزء المقطوع. ب- يجوز استئصال الأورام والغدد الملتهبة التي تهدد الجسم بضررها سواء كان خطرها مشتملاً عنى هلاك النفس أو على ما دون ذلك كالآلام والمضاعفات المؤذية في المستقبل. جـ- يجوز الشق في الجراحة سواء كان ضروريًا كما في جراحة الولادة التي يقصد منها إنقاذ الأم وجنينها أو واحدًا منهما، أو كان حاجيًا كالشق عن موضع الداء لمعالجته أو معرفة حقيقته. ويجوز شق بطن الحامل بعد موتها لإخراج جنينها إذا رجيت حياته على أصح أقوال أهل العلم -رحمهم الله-. د- نقل وزرع الأعضاء لا يخلو فيه المنقول منه إما أن يكون إنسانًا أو يكون حيوانًا. 1 - فإن كان إنساناً فإنه يجوز النقل منه إذا كان كافرًا، أما إذا كان مسلمًا فإنه لا يجوز النقل منه سواء كان حيًا أو ميتًا، أذن بذلك أو لم يأذن. وتستثنى من الأعضاء التي يجوز نقلها من الكافر الخصيتان، فإنه

لا يجوز نقلها. 2 - وأما إن كان حيوانًا فإنه لا يخلو إما أن يكون طاهرًا، أو يكون نجسًا فإن كان طاهرًا كبهيمة الأنعام المذكاة فإنه يجوز نقل العضو منه. وأما إن كان غير طاهر فإنه لا يجوز الانتفاع بأجزائه ونقلها إلا عند الضرورة وبشرط أن لا يوجد البديل الطاهر. هـ- يجوز الثقب المحتاج إليه كما في ثقب الفرج المسدود، ويجوز ثقب آذان النساء للحلي علي أصح أقوال أهل العلم -رحمهم الله-. و تجوز مهمة الكحت وتوسيع الرحم بشرط وجود الحاجة الداعية إلى فعلها ويتعذر البديل الذي هو أخف مفسدة وضررًا، كما في حالات النزيف الرحمي الحاد. ويجب أن يتولى النساء مهمته فإذا تعذر وجودهن جاز للرجال القيام بمهمته ووجب عليهم أن يلتزموا بالحدود الشرعية في النظر والكشف. ز- يشرع للأطباء أن يقوموا بمهمة إعادة العضو المقطوع إلى موضعه إلا أن يكون قطعه واجبًا بحد أو قصاص فإنه لا تجوز إعادته ولو أذن صاحب الحق على أصح القولين في المسألة. ح- تشرع مهمة زرع الأعضاء المصنوعة في الجسم عند وجود الحاجة الموجبة لذلك. ط- تشرع مهمة رتق الفتوق ونحوها من الآفات التي يحتاج فيها إلى الرتق إلا أن يكون الموضع المراد رتاقه غشاء بكارة فإنه يحرم على

الطبيب رتقه، وعلى المرأة طلب ذلك أو الإذن به مطلقًا، ي- يشرع الكي لإيقاف النزف، ونحوه من الحالات التي يحتاج الأطباء فيها إلى فعله. ك- تشرع خياطة الأجزاء المتمزقة من الجسم عند الحاجة. الرابع عشر: أ- المسئولية عن الجراحة الطبية معتبرة شرعًا. ب- تنقسم هذه المسئولية إلى قسمين: الأول: يتعلق بالآداب. والثاني: يتعلق بالمهنة. جـ- موجبات المسئولية الأدبية: الكذب، وخلف الوعد، وعدم الوفاء بالعقد، وغش المرضى، وكشف عوراتهم والنظر إليها من غير حاجة. د- موجبات المسئولية المهنية: عدم اتباع الأصول العلمية، والخطأ، والجهل، والاعتداء. هـ- ادعاء الموجب يفتقر إلى إثبات يشهد بصدقه، كما الحال في سائر الدعاوى، وعلى القاضي أن يرجع إلى شهادة المختصين من الأطباء، ويحكم بما تضمنته إن اتفقوا أو كملت البينة في جانب دون آخر فإن تساوت شهادتهم بحيث كمل نصاب البينة في الطرفين حكم باعتبار الشهادة الموجبة لبراءة الطبيب لكونها معتضدة بالأصل.

و الجهة المسئولة عن موجب المسئولية الأطباء، ومساعدوهم، والمستشفيات. أما الأطباء ومساعدوهم فإنهم يتحملون المسئولية بنوعيها المباشرة والسببية، فمن باشر فعل الموجب تحمل النوع الأول كالمخدر إذا زاد في كمية المواد المخدرة، ومن لم يباشر ولكن تعاطى سببًا ترتب عليه وقوع الضرر من غيره فإنه يتحمل المسئولية السببية كما هو الحال في الطبيب إذا أحال المريض على مساعد لا تتوفر فيه الأهلية المعتبرة فيمن يقوم بمهمته. ز- تترتب على موجب المسئولية الآثار التالية: الضمان، القصاص، التعزير. 1 - فأما الضمان فإنه يترتب على فعل المهمة في أربع صور: الأولى: أن يكون الأطباء ومساعدوهم جاهلين بها وينتفي فيهم قصد الضرر ولا يعلم المريض بجهلهم. الثانية: أن يكونوا عالمين بالمهمة ولكن لا يتقيدوا بأصولها المعتبرة عند أدائها. الثالثة: أن يكونوا عالمين بالمهمة، ويتقيدوا بأصولها ولكن تزل أيديهم خطأ أثناء العمل. الرابعة: أن يكونوا عالمين بالمهمة ويتقيدوا بأصولها ولكن لم يأذن لهم المريض ولا وليه ولا السلطان بفعلها على أصح القولين عند

أهل العلم -رحمهم الله-. 2 - وأما القصاص فإنه يترتب على ثبوت قصد العدوان من الطبيب سواء تعلق الضرر بالنفس أو بالأطراف. 3 - وأما التعزير فإنه يترتب على موجب الجهل، وعدم اتباع الأصول العلمية المعتبرة عند أهل الاختصاص. الخامس عشر: أ- الجراحة موجبة للترخيص في العبادات: فللمريض أن يعدل إلى التيمم إذا تعذر عليه الغسل لتفشي الجراحة في جسده، وله العدول عن غسل موضع الجراحة إلى مسحه عند خوف الضرر، وله ترك طهارة الخبث لخوف الضرر. كما أنه يرخص له في ترك القيام والركوع والسجود في الصلاة إذا احتاج لذلك ويرخص له في ترك الصيام لمشقة المرض وخوف زيادته أو عدم البرء. كما يرخص له في الحج بحلق موضع الجراحة، وفعلها ولو أدى فعلها إلى فوات الحج ما دام قد تعين وتعذر تأخير الجراحة. (ب) 1 - لا يشترط إسلام الطبيب الجراح ومساعديه، والأولى أن يتولى مهمة الجراحة المسلمون وإذا عالجه الطبيب الكافر لم يعمل بقوله في رخص العبادات. 2 - لا يجوز إجراء الجراحة عند استواء الاحتمالين (نجاحها وعدمه)، وعلى الأطباء التوقف والامتناع عنها إلى أن يترجح أحدهما فيقدموا على الفعل أو الترك بحسب ما ترجح. 3 - تثبت الحاجة إلى الجراحة بشهادة طبيب واحد عدل، فإن

تعذر وجود العدل عمل بشهادة الأمثل فالأمثل كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم -رحمهم الله-. 4 - يشرع للأطباء الرجوع إلى ولي الأمر أو الجهة المفوضة من قبله لأخذ الموافقة على فعل الجراحة الخطيرة كما قرره الإمام مالك -رحمه الله-. 5 - لا يجوز أن يقوم الرجال بفعل الجراحة للنساء ولا العكس إلا إذا تعذر وجود النظير من الرجال أو النساء، أو كان ذلك النظير موجودًا إلا أنه يخشى على المريض لو انتظر إلى حضوره. وإذا قام الرجال بمداواة النساء أو العكس وجب عليهم التقيد بالضوابط الشرعية في الكشف والنظر واللمس. (جـ) 1 - يجوز نقل الدم والتبرع به وقبوله بشروط أربعة هي: الأول: أن يكون المريض محتاجًا إلى نقل الدم، ويثبت ذلك بشهادة الطبيبين العدلين، الطبيب العدل. الثاني: أن يتعذر البديل الذي يمكن إسعافه به. الثالث: أن لا يتضرر الشخص المنقول منه الدم بأخذه منه. الرابع: أن يقتصر في نقل الدم على مقدار الحاجة. ويجوز للإنسان المحتاج للدم أن يأخذه من الغير بعوض مالي إذا لم يجد متبرعًا، والإثم على الآخذ. 2 - إذا فتح الأطباء الموضع الذي يراد فعل الجراحة فيه وتبين لهم أن الواقع بخلاف التقدير المسبق الذي توصلوا إليه من خلال التشخيص فإنه يجب عليهم الرجوع إلى أولياء المريض لأخذ موافقتهم على التغيير، فإذا تعذر ذلك أو خافوا على المريض إذا انتظروهم، فإنه يجوز لهم فعل الجراحة الجديدة إذا كان الداء الموجود فيها أعظم من الداء

الذي وافق عليه المريض أو مساويًا له، أما إذا كان دونه فإنه يجوز لهم في حالة واحدة، وهي إذا خافوا على المريض من ذلك الداء ويعسر فتح موضعه ثانية، وأما ما عداها فإنه يجب عليهم الرجوع إلى المريض أو وليه لأخذ موافقته. (د) 1 - الأعضاء المبتورة يشرع دفنها، ولا ينبغي إحراقها، وإذا خشي من الداء الموجود فيها، فإنه تشرع إزالته بالمواد الموجبة لزواله ثم يدفن العضو بعد ذلك. 2 - لا يجوز بيع الأعضاء الآدمية. (هـ) لا يؤاخذ المريض المخدر بإقراره أثناء التخدير وقبل الإفاقة، ولا يصح طلاقه، وعليه قضاء الصلاة الفائتة. (و) 1 - الإجارة على فعل الجراحة جائزة بدون كراهة. 2 - وتجوز على فعل الحجامة مع الكراهة على أصح أقوال العلماء -رحمهم الله-. 3 - ويشترط لصحة عقد الإجارة على فعل الجراحة: أهلية العاقدين، ورضاهما، وأن تكون الجراحة مشروعة، والعلم بالعمل الجراحي، والأجرة المستحقة. 4 - يستحق الأطباء ومساعدوهم الأجرة بانتهاء المهمة المتعلقة بكل واحد منهم بحسب اختصاصه ومجال عمله. 5 - عقد الإجارة على فعل الجراحة عقد لازم، ويجوز فسخه في ثلاث حالات: أن يتفق الطرفان على ذلك، أو يموت أحدهما، أو يتعذر فعل الجراحة لزوال موجبها.

ب- النتائج العامة:

ب- النتائج العامة: أولاً: ازددت إيمانًا ويقينًا بصلاحية الشريعة الإسلامية، وكمال منهجها، وأنها شريعة خالدة صالحة لكل زمان ومكان، فقد اتسمت مادتها الفقهية بالثراء والوفاء بجميع متطلبات الحياة. ثانيًا: ازددت إيمانًا ويقينًا برحمة الله تعالى، وعظيم لطفه بعباده، وذلك من خلال مطالعتي وبحثي في الكتب التي تحدثت عن علم الجراحة، وما تضمنته من علوم ومعارف ألهمهما الله عز وجل الإنسان لكي تكون سببًا في نجاته من ضرر الأسقام ومشقة الآلام. ثالثًا: أدركت عظيم فضل سلف هذه الأمة من الفقهاء والمحدثين والأصوليين وغيرهم من علماء الإسلام، وأنهم خدموا هذه الشريعة خدمة جليلة، فمهدوا بذلك السبيل لمن جاء بعدهم فجزاهم الله عني وعن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خير ما جزى سلفًا عن خلف. هذه هي أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال بحثي فما كان صوابًا فمن الله وله الحمد والمنة وحده لا شريك له، وما كان خطئًا فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان. اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه. * * *

ثبت المصادر والمراجع

ثبت المصادر والمراجع أولاً: التفسير (1) أحكام القرآن: للإمام أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص المتوفى سنة 370 هـ، مطبعة الأوقاف الإسلامية القسطنطينية سنة 1338 هـ. (2) أحكام القرآن: للإمام الفقيه عماد الدين بن محمد الطبري المعروف بالكيا الهراس المتوفى سنة 504 هـ، مطبعة حسان بمصر القاهرة، تحقيق: موسى محمد علي، والدكتور عزت علي عيد عطية. (3) إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم: للقاضي أبي السعود محمد بن محمد العمادي المتوفى سنة 951 هـ، ط: الأولى، المطبعة المصرية سنة 1347 هـ/1928 م. (4) جامع البيان في تفسير القرآن: للإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310 هـ. ط: الأولى المطبعة الكبرى الأميرية بمصر/القاهرة سنة 1324 هـ، بهامشه غريب القرآن ورغائب الفرقان للنيسابوري. (5) الجامع لأحكام القرآن: للإمام أبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، دار الكتب المصرية بمصر/القاهرة سنة 1356 هـ. (6) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني: للعلامة أبي الفضل شهاب الدين محمود الآلوسي البغدادي المتوفى سنة 1427 هـ، ط. الثانية المطبعة المنيرية بمصر/القاهرة.

ثانيا: العقيدة

(7) زاد المسير في علم التفسير: للإمام أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي المتوفى سنة 597 هـ. ط. الأولى سنة 1387 هـ، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، دمشق. (8) السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الخبير: للشيخ الإمام محمد الشربيني المعروف بالخطيب الشربيني، المطبعة الخيرية بمصر/القاهرة، وبهامشه تفسير أنوار التنزيل، وأسرار التأويل للقاضي البيضاوي. (9) لباب التأويل في معاني التنزيل: للإمام علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي، المتوفى سنة 725 من الهجرة، مطبعة التقدم العلمية بمصر بهامشه تفسير البغوي. (10) النكت والعيون "تفسير الماوردي": للإمام أبي الحسن علي بن حبيب الماوردي البصري المتوفى سنة 450 هـ/ط الأولى، مطابع مقهوي، الكويت سنة 1402 هـ- 1982 م، تحقيق خضر محمد خضر، راجعه د. عبد الستار أبو غدة. ثانيًا: العقيدة (11) العقيدة الطحاوية: لابن أبي العز الحنفي، تحقيق الشيخ الألباني - ط المكتب الإسلامي.

ثالثا: الحديث وعلومه

ثالًثا: الحديث وعلومه أ- متون الحديث: (12) صحيح البخاري "الجامع الصحيح": للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري مطبعة دار إحياء الكتب العربية لمصطفى البابي الحلبى بمصر. (13) صحيح الإمام مسلم: للإمام أبي الحسن مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، المتوفى سنة 261 هـ/مطبعة البابي الحلبي. (14) سنن ابن ماجة: للحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة القزويني المتوفى سنة 275 هـ بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، مطبعة البابي الحلبي بمصر سنة 1372هـ. (15) سنن أبي داود: للحافظ أبي داود سليمان بن داود بن الأشعث السجستاني المتوفى سنة 275 هـ ط. الأولى مطبعة البابي بمصر سنة 1371 هـ، بتعليقات الشيخ أحمد سعد علي. (16) سنن الترمذي: للحافظ أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي المتوفى سنة 279 هـ. ط الثانية، مطبعة البابي الحلبي بمصر سنة 1398 هـ/ 1978 م، بتحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر. (17) سنن الدارقطني: للحافظ علي بن عمر الدارقطني المتوفى سنة 385 هـ، شركة الطباعة الفنية بمصر، بتعليق الشيخ عبد الله هاشم يماني.

(18) سنن النسائي: للحافظ أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي المتوفى سنة 303 هـ، ط الأولى مطبعة البابي الحلبي بمصر سنة 1384 هـ- 1965 م، بهامشه زهر الربى على المجتبى للسيوطي مع تعليقات من حاشية السندي. (19) السنن الكبرى: للحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين علي البيهقي المتوفى سنة 458 هـ. ط. الأولي مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الهند سنة 1355 هـ بهامشه الجوهر النقي لابن التركماني. (20) المستدرك على الصحيحين فى الحديث: للحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري المعروف بالحاكم، المتوفي سنة 405 هـ، مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الهند، بذيله تلخيص المستدرك للحافظ الذهبي. (21) المسند للإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني: المطبعة الميمنية بمصر سنة 1313 هـ، بهامشه منتخب كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، للمتقي الهندي. ب- شروح الحديث: (22) إكمال المعلم شرح صحيح مسلم: للإمام أبي عبد الله محمد بن خليفة الوشتاني الآبي المالكي المتوفى سنة 828 من الهجرة، ط الأولى سنة 1327 هـ مطبعة السعادة بمصر. (23) سبل السلام شرح بلوغ المرام من جمع أدلة الأحكام: للإمام محمد بن إسماعيل الكحلاني ثم الصنعاني المعروف "بالأمير"، المتوفى سنة 1182 هـ.

(24) شرح السنة: للإمام أبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي، المتوفى سنة 516 هـ. ط. الأولى سنة 1396 هـ المكتب الإسلامي تحقيق وتعليق شعيب الأرناؤوط. (25) شرح صحيح مسلم: للإمام محيي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي الشافعي، المتوفى سنة 676 هـ. ط. الأولى بالمطبعة المصرية بالقاهرة سنة 1347 هـ. (26) طرح التثريب فى شرح التقريب: للحافظ عبد الرحيم بن الحسين العراقي المتوفى سنة 806 هـ مع التكملة لابنه الحافظ ولي الدين أبي زرعة المتوفى سنة 818 للهجرة، مطبعة جمعية النشر والتأليف الأزهر بمصر سنة 1353 هـ. (27) فتح الباري بشرح صحيح البخاري: للحافظ أبي الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني. ط. المطبعة الخيرية بمصر. ط. الأولى سنة 1319 هـ، ط السلفية. (28) فيض القدير شرح الجامع الصغير: للعلامة محمد المدعو بعبد الرؤوف المناوي. ط الأولى سنة 1356 هـ، مطبعة البابي الحلبي بمصر. (29) نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار: للإمام محمد بن علي بن محمد الشوكاني المتوفى سنة 1255 هـ، ط. الثانية المطبعة المنيرية بمصر سنة 1344 هـ.

رابعا: الفقه وعلومه

جـ- كتب التخريج والرجال: (30) إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل: للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، ط. الثانية المكتب الإسلامي بدمشق سنة 1405 هـ-1985 م. (31) تلخيص الحبير: للحافظ شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 هـ، طبع شركة الطباعة الفنية بمصر سنة 1384 هـ- 1964 م، بتصحيح السيد عبد الله هاشم يماني. (32) تهذيب التهذيب: للحافظ أبي الفضل أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 هـ، ط الأولى بمطبعة دار المعارف النظامية بالهند سنة 1327 هـ. (33) الهداية في تخريج أحاديث البداية: للشيخ أحمد بن محمد بن الصديق الغماري الحسني. ط. الأولى سنة 1407 هـ عالم الكتب. رابعًا: الفقه وعلومه (1) المذهب الحنفي (34) البحر الرائق شرح كنز الدقائق: للإمام زين العابدين إبراهيم بن نجيم الحنفي المتوفى سنة 970 هـ ط. الأولى بالمطبعة العلمية بمصر سنة 1311 هـ، وبهامشه حاشية منحة الخالق على البحر الرائق لابن عابدين، ومع تكملته للشيخ محمد ابن حسين بن علي الطوري.

(35) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: للإمام علاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني الحنفي المتوفى سنة 587 هـ. ط الأولى سنة 1328 هـ- 1910 م بالمطبعة الجمالية بمصر. (36) تحفة الفقهاء: للإمام علاء الدين السمرقندي الحنفي المتوفى سنة 539 هـ. ط. الأولى بمطبعة دار الكتب العلمية ببيروت- لبنان سنة 1405 هـ. (37) الجوهرة النيرة شرح مختصر قدوري: للعلامة أحمد بن جعفر بن حمدان المتوفى سنة 362 هـ، مطبعة محمود بك سنة 1301 هـ. (38) حاشية ابن عابدين المسماة رد المختار على الدر المختار: للعلامة محمد بن عابدين المطبعة العامرة سنة 1357 هـ. (39) الدر المختار: لمحمد علاء الدين الحصكفي المتوفى سنة 1088 هـ- مطبعة صبيح بمصر. (40) الفتاوى الهندية: لمجموعة من علماء الهند- الطبعة الرابعة دار إحياء التراث العربي ببيروت سنة 1406 هـ. (41) فتح القدير شرح الهداية: للإمام كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي السكندري الحنفي المعروف بابن الهمام المتوفى سنة 861 هـ، ط الأولى بالمطبعة الكبرى الأميرية بمصر سنة 1317 هـ.

(2) المذهب المالكى

(42) فتح المعين على شرح منلا مسكين: للعلامة محمد أبي السعود المصري الحنفي، مطبعة المويلحي سنة 1287 هـ. (43) المبسوط: للإمام شمس الأئمة أبي بكر محمد بن أبي سهل السرخسي الحنفي. ط. الأولى مطبعة السعادة بمصر سنة 1320 هـ. (44) مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر: للفقيه عبد الله بن سليمان الحلبي المعروف بداماد أفندي. طبعة عثمانية دار سعادات سنة 1310 هـ تركيا. (45) الهداية شرح بداية المبتدي: للإمام برهان الدين علي بن أبي بكر الميرغيناني المتوفى سنة 593 هـ، ط. الأولى بالمطبعة الخيرية بمصر سنة 1326 هـ. (2) المذهب المالكى (46) بلغة السالك لأقرب المسالك: للشيخ أحمد الصاوي، المطبعة الأزهرية بمصر سنة 1299 هـ. (47) البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليق في مسائل المستخرجة: للإمام أبي وليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي المتوفى سنة 520 هـ. طبع دار الغرب الإسلامي ببيروت، لبنان سنة 1404 هـ، بتحقيق الأستاذ أحمد الحبابي. (48) الثمر الداني شرح رسالة القيرواني: للشيخ صالح عبد السميع الأبي الأزهري. ط. دار إحياء الكتب العربية للحلبي بمصر.

(49) جواهر الإكليل شرح مختصر خليل: للشيخ صالح عبد الله السميع الأبي الأزهري، مطبعة البابي الحلبي بمصر. (50) حاشية البناني على شرح الزرقاء: للشيخ محمد البناني، ط مطبعة محمد أفندي مصطفى بمصر. (51) حاشية الدسوقي علي شرح أحمد الدردير لمختصر خليل: للشيخ محمد بن عرفة الدسوقي، المطبعة العامرة بمصر سنة 1287هـ. (52) شرح التنوخي على الرسالة: للعلامة قاسم بن عيسى بن ناجي التنوخي المتوفى سنة 837 هـ مطبعة الجمالية بمصر سنة 1332 هـ، ومعه شرح زروق على الرسالة. (53) شرح الخرشي على مختصر خليل: للشيخ أبي عبد الله محمد الخرشي. ط. الأولى، بالمطبعة العامرة بمصر سنة 1316 هـ. (54) شرح الدردير على مختصر خليل: للشيخ أحمد الدردير المطبعة العامرة بمصر سنة 1287 هـ، بهامش حاشية الدسوقي. (55) شرح الزرقاني على مختصر خليل: للشيخ عبد الباقي الزرقاني، طبع مطبعة محمد أفندي مصطفى بمصر، بهامش حاشية البناني. (56) شرح زروق على رسالة ابن أبي زيد القيرواني: للشيخ أحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى البرنسي الفاسي المتوفى سنة 899 هـ، مطبعة الجمالية بمصر سنة 1332 هـ ومعه شرح التنوخي.

(57) شرح المواق على مختصر خليل المسمى بالتاج والإكليل: للشيغ أبي عبد الله محمد بن يوسف بن أبي القاسم العبدري الشهير بالمواق المتوفى سنة 897 هـ، ط الأولى بمطبعة السعادة بمصر سنة 1329 هـ بهامش مواهب الجليل. (58) الفواكه الدواني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني: للشيخ أحمد بن غنيم النفراوي المتوفى سنة 1120 هـ. ط. دار المعرفة ببيروت- لبنان. (59) المدونة الكبرى: لإمام دار الهجرة مالك بن أنس الأصبحي رواية الإمام سحنون عن الإمام عبد الرحمن بن القاسم العتقي. ط الأولى مطبعة السعادة بمصر سنة 1323 هـ. (60) المعيار المعرب والجامع المغرب: للإمام أبي العباس أحمد بن يحيى الونشريسي المتوفى سنة 914 هـ. ط. دار الغرب الإسلامي ببيروت سنة 1401 هـ. (61) المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات: للإمام أبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد المتوفى سنة 520 هـ. ط. الأولى مطبعة السعادة بمصر. (62) منح الجليل على مختصر خليل: للشيخ محمد عليش، طبع بالمطبعة الكبرى العامرة بمصر سنة 1294 هـ، بهامشه حاشيته المسماة تسهيل منح الجليل للمؤلف نفسه. (63) الكافي في فقه أهل المدينة المالكي: للإمام أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري

(3) المذهب الشافعى

القرطبي. ط. الثانية سنة 1400 هـ تحقيق د. محمد محمد أحيد ولد ماديك الموريتاني. (64) مواهب الجليل لشرح مختصر خليل: للشيخ أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن الرعيني المعروف بالحطاب، المتوفى سنة 954 هـ. ط. الأولى بمطبعة السعادة بمصر سنة 1339 هـ. (3) المذهب الشافعى (65) أسنى المطالب شرح روض الطالب: للإمام أبي زكريا الأنصاري طبع المطبعة الميمنية بمصر سنة 1313 هـ، بهامشه حاشية الشهاب الرملي. (66) الأم: للإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي. ط. الأولى بالمطبعة الكبرى الأميرية بمصر سنة 1325 هـ، وبهامشه كتاب اختلاف الحديث للإمام الشافعي. (67) إعانة الطالبين على حل ألفاظ فتح المعين: للعلامة أبي بكر بن محمد بن شطا البكري الدمياطي، طبع بمطبعة دار إحياء الكتب العربية بمصر. (68) الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع: للشيخ شمس الدين محمد بن أحمد الشربيني الخطيب ط. الأخيرة بمطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة 1359 هـ- 1940 م بهامشه تقرير الشيخ عوض وبعض تقارير الباجوري. (69) تحفة المحتاج بشرح المنهاج: للإمام شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي. ط. دار الفكر بيروت. لبنان.

(70) ترشيح المستفيدين على فتح المعين بشرح قرة العين: للعلامة علوي بن أحمد السقاف، مؤسسة دار العلوم لخدمة الكتاب الإسلامي بيروت، ويليه كتاب الباقيات الصالحات والدروع السابغات. (71) حاشية البجيرمي على شرح الخطيب والمسماة بتحفة الحبيب على شرح الخطيب: للشيخ سليمان البجيرمي الشافعي، طبع بمطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة 1338 هـ. (72) حاشية الجمل على شرح المنهج: للعلامة سليمان الجمل، مطبعة محمد البابي الحلبي بمصر سنة 1357هـ. ْ (73) حواشي الشرواني وابن القاسم على تحفة المحتاج شرح المنهاج: وهي للشيخ عبد الحميد الشرواني، والشيخ أحمد بن القاسم العبادي، طبع بالمطبعة الميمنية بمصر سنة 1315 هـ. (74) حاشية قليوبي وعميرة: للشيخ شهاب الدين القليوبي، والشيخ عميرة على شرح العلامة جلال الدين المحلي على منهاج الطالبين للنووي. ط. مطبعة البابي الحلبي. (75) روضة الطالبين: للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي الدمشقي، المتوفى سنة 676 من الهجرة، ط. المكتب الإسلامي. (76) شرح الأنصاري على متن البهجة والمسمى بالغرر البهية

شرح البهجة الوردية: للشيخ أبي يحيى زكريا الأنصاري طبع بالمطبعة الميمنية بمصر سنة 1318 هـ، وبهامشه حاشية ابن القاسم والشربيني. (77) فتح الجواد بشرح الإرشاد: للشيخ أبي العباس أحمد بن شهاب الدين بن حجر الهيتمي، ط. الثانية سنة 1391 هـ، مطبعة البابي الحلبي بمصر. (78) فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب: للإمام أبي يحيى زكريا الأنصاري المتوفى سنة 925 هـ، طبع دار إحياء الكتب العربية للبابي الحلبي بمصر، بهامشه منهج الطلاب والرسائل الذهبية للذهبي. (79) المجموع شرح المهذب: للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي المتوفى سنة 676 هـ. إدارة الطباعة المنيرية بمصر. (80) مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج: للشيخ محمد أحمد الشربيني الخطيب، المطبعة الميمنية بمصر سنة 1329 هـ. (81) المهذب في فقه الإمام الشافعي: للإمام أبي إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز آبادي الشيرازي، دار الفكر بلبنان. (82) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: للإمام شمس الدين محمد بن أبي العباس أحمد بن شهاب الرملي المتوفى سنة 1004 هـ. مطبعة البابي الحلبي بمصر سنة 1357 هـ، وبهامشه حاشيتي الشبراملسي، والرشيدي.

(4) المذهب الحنبلي

(83) كفاية الأخبار في حل غاية الاختصار: للإمام تقي الدين أبي بكر بن محمد الحسيني الحصني الدمشقي طبع دار إحياء الكتب العربية للبابي الحلبي بمصر. (84) الوسيط في المذاهب: للإمام محمد بن محمد بن محمد الغزالي المتوفى سنة 505 هـ. ط. الأولى تحقيق علي محي الدين القره داغي- طبع دار النصر للطباعة الإسلامية بمصر. (4) المذهب الحنبلي (85) الإقناع: للشيخ شرف الدين موسى الحجاوي المقدسي المتوفى سنة 968 هـ، المطبعة المصرية بالأزهر سنة 1351 هـ، بتصحيح وتعليق عبد اللطيف موسى السبكي. (86) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف: للعلامة علاء الدين أبي الحسن علي بن سليمان المرداوي الحنبلي المتوفى سنة 885 هـ، ط. الأولى مطبعة السنة المحمدية سنة 1376 هـ، بتعليق محمد حامد الفقي. (87) شرح منتهى الإرادات المسمى دقائق أولي النهى لشرح المنتهى: للشيخ منصور بن يوسف بن إدريس البهوتي المتوفى سنة 1051 هـ، عالم الكتب ببيروت، لبنان. (88) العدة شرح العمدة: للشيخ بهاء الدين عبد الرحمن بن إبراهيم المقدسي المتوفى سنة

624 هـ المطبعة السلفية بمصر. (89) كشاف القناع: للشيخ منصور بن يوسف بن إدريس البهوتي المتوفى سنة 1051 هـ، مطبعة أنصار السنة المحمدية بمصر سنة 1366 هـ- 1947 م. (90) المبدع في شرح المقنع: للعلامة أبي إسحاق برهان الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن مفلح المتوفى سنة 884 هـ. ط. الأولي، المكتب الإسلامي ببيروت سنة 1399 هـ. (91) المحرر في الفقه: للشيخ الإمام محمد الدين أبي البركات المتوفى سنة 652 هـ، مطبعة السنة المحمدية سنة 1369 هـ، ومعه النكت والفوائد السنية لابن مفلح. (92) المغني شرح مختصر الخرقي: للإمام أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي المتوفى سنة 625 هـ مع الشرح الكبير على متن المقنع لمؤلفه الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن أحمد المقدسي ط. الثانية، مطبعة المنار بمصر سنة 1346 هـ. (93) المقنع: للإمام أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، طبع مكتبة الرياض الحديثة، الرياض سنة 1400 هـ. (94) منار السبيل في شرح الدليل: للشيخ إبراهيم بن محمد بن سالم بن ضويان، تحقيق زهير الشاويش، ط. السادسة، المكتب الإسلامي.

(5) المذاهب المقارنة والإجماعات

(95) منتهى الإرادات فى جمع المقنع مع التنقيح وزيادات: للإمام تقي الدين محمد بن أحمد الفتوحي الشهير بابن النجار، دار الجيل للطباعة بالفجالة سنة 1381 هـ، بتصحيح عبد الغني عبد الخالق. (96) النكت والفوائد السنية على مشكل المحرر: للإمام شمس الدين إبراهيم بن محمد بن مفلح المتوفى سنة 884 هـ، مطبعة السنة المحمدية بمصر سنة 1369 هـ، بهامش المحرر لأبي البركات. (97) نيل المآرب بشرح دليل الطالب: للشيخ عبد القادر بن عمر الشيباني. ط الأولى بالمطبعة الخيرية بمصر سنة 1324 هـ. بهامشه الروض المربع. (98) المحلى: للإمام أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري المتوفى سنة 456 هـ. ط. الأولى بالمطبعة المنيرية بمصر سنة 1351 هـ. (5) المذاهب المقارنة والإجماعات (99) الإجماع: للإمام أبي بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر المتوفى سنة 318 هـ، طبع دار الكتب العلمية. بيروت. لبنان. (100) الإفصاح عن معاني الصحاح: للوزير عون الدين أبي المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة المتوفى سنة 560 هـ. ط. الأولى المطبعة العلمية بحلب سنة 1347 هـ.

(101) البحر الزخار الجامع لمذهب علماء الأمصار: للإمام أحمد بن يحيى المرتضى المتوفى سنة 840 هـ، ط. الأولى مطبعة السنة المحمدية سنة 1368 هـ، بإشراف ومراجعة الشيخ عبد الله محمد الصديق، وعبد الحفيظ سعد عطية، ويليه كتاب جواهر الأخبار والآثار المستخرجة من لجة البحر الزخار للصعدي. (102) بداية المجتهد ونهاية المقتصد: للقاضي أبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، مطبعة دار الكتب العربية الكبرى بمصر سنة 1335 هـ. (103) قوانين الأحكام الشرعية ومسائل الفروع الفقهية: للإمام محمد بن أحمد بن جزي الغرناطي المتوفى سنة 741 هـ، دار العلم للملايين ببيروت. لبنان. (104) مراتب الإجماع: للإمام أبي محمد علي بن أحمد بن حزم المتوفى سنة 456 هـ، مطبعة القدس بمصر سنة 1357 هـ، ومعه نقد مراتب الإجماع لشيخ الإسلام ابن تيمية. (105) مغني ذوي الأفهام عن الكتب الكثيرة فى الأحكام: للإمام جمال الدين يوسف بن عبد الهادي الحنبلي المتوفى سنة 909 هـ، تحقيق الشيخ عبد العزيز بن محمد آل الشيخ. (106) تبصرة الحكام فى أصول الأقضية ومناهج الأحكام: للإمام برهان الدين أبي الوفاء إبراهيم بن محمد بن فرحون المالكي. ط. الأولى بالمطبعة العامرة بمصر سنة 1301 هـ، وبهامشه العقد المنظم للحكام لابن سلمون.

(6) القواعد الفقهية

(107) شرح مجلة الأحكام العدلية: د. سليم رستم باز اللبناني، ط الثالثة سنة 1923 م بالمطبعة الأدبية ببيروت. لبنان. (108) العقد المنظم للحكام فيما يجري بين أيديهم من العقود والأحكام: للشيخ أبي محمد عبد الله بن عبد الله بن سلمون الكناني. ط الأولى بالمطبعة العامرة الشريفة بمصر سنة 1301 هـ، بهامش تبصرة الحكام لابن فرحون المالكي. (109) معالم القربة في أحكام الحسبة: للإمام محمد بن محمد بن أحمد القرشي المعروف بابن الأخوة المتوفى سنة 729 من الهجرة، بتحقيق د. محمد محمود شعبان، صديق أحمد عيسى المطيعي مطبعة الهيئة العامة المصرية سنة 1976 م. (110) معين الحكام: للإمام علاء الدين علي بن محمد بن ناصر الدين الطرابلسي، المتوفى سنة 1032 هـ. ط. الأولى المطبعة الأميرية بولاق 1300 هـ. (111) الأقمار المضيئة فرح القواعد الفقهية: للعلامة عبد الهادي إبراهيم بن محمد بن القاسم الأهدل، ط الأولى سنة 1407 هـ مكتبة جدة. (6) القواعد الفقهية (112) الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية: للإمام جلال الدين عبد الرحمن السيوطي الشافعي المتوفى سنة 911 هـ، ط الأولى، بدار الكتب العلمية ببيروت. لبنان سنة 1403 هـ.

(113) الأشباه والنظائر على مذهب الإمام أبي حنيفة: للشيخ زين العابدين إبراهيم بن نجيم الحنفي المتوفى سنة 970 هـ، دار الكتب العلمية ببيروت- لبنان سنة 1400 هـ. (114) إيصال السالك في أصول الإمام مالك: للعلامة محمد يحيى بن عمر المختار بن الطالب الشنقيطي الولاتي، ط. المطبعة التونسية سنة 1346 هـ. (115) إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك: للإمام أبي العباس أحمد بن يحيى الونشريسي مطبعة فضالة بالمغرب سنة 1980 م. (116) شرح القواعد الفقهية: للشيخ أحمد بن محمد الزرقاء المتوفى سنة 1357 هـ، ط. دار الغرب، ط. الأولى سنة 1403 هـ بتحقيق د. عبد الستار أبو غدة. (117) الفوائد في اختيار المقاصد المسمى بالقواعد الصغرى: للإمام أبي محمد عز الدين بن عبد السلام السلمي المتوفي سنة 660 هجرية، تحقيق د. جلال الدين عبد الرحمن. (118) قواعد الأحكام في مصالح الأنام: للإمام أبي محمد عز الدين بن عبد السلام السلمي الشافعي المتوفى سنة 660 هـ. دار الشرق للطباعة بمصر سنة 1388 هـ. (119) قواعد الفقه: للمفتي محمد عميم الإحسان المجددي البركتي سلسلة مطبوعات لجنة النقابة والنشر والتأليف رقم 6 الطبعة الأولى سنة 1407 هـ. (120) المنثور في القواعد: للإمام بدر الدين محمد بن بهادر الزركشي المتوفى سنة 794 هـ،

(7) الفتاوى والرسائل

ط. الأولى سنة 1402 هـ مؤسسة الفليج بالكويت. بتحقيق د. تيسير فائق أحمد محمود. (7) الفتاوى والرسائل (121) الاختيارات من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: للعلامة علاء الدين أبي الحسن علي بن محمد بن عباس البعلي المتوفى سنة 803 هـ، مطبعة السنة المحمدية بمصر سنة 1369 هـ، بتحقيق محمد حامد الفقي. (122) الفتاوى الكبرى الفقهية: للإمام أحمد بن محمد بن حجر الهيتمي طبع ونشر عبد الحميد حنفي. مصر. (123) فتح العلي المالك فى الفتوى على مذهب مالك: للشيخ أبي عبد الله محمد أحمد عليش المتوفى سنة 1299 هـ. الطبعة الأخيرة بهامشه تبصرة الحكام لابن فرحون. (124) مجموع الفتاوى: لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية، تصوير الطبعة الأولى بدار العربية للطباعة والنشر بلبنان سنة 1398 هـ، جمع وترتيب الشيخ عبد الرحمن ابن محمد بن قاسم العاصمي النجدي بمساعدة ابنه محمد. (125) مختصر الفتاوى المصرية: للشيخ بدر الدين أبي عبد الله محمد بن علي الحنبلي البعلي، مطبعة السنة المحمدية 1368 هـ. تصحيح الشيخ محمد حامد الفقي. (126) التعريفات: للإمام علي بن محمد الجرجاني المعروف بالسيد الشريف المتوفى سنة 816 هـ، مطبعة أحمد كامل باستانبول بتركيا سنة

(8) الكتب والرسائل الفقهية العامة

1327 هـ. (127) من عيون الرسائل من أعيان المسائل: لعبد القادر بن محمد بن الحسيني الطبري، مطبعة السلام القاهرة 1316 هـ .. (8) الكتب والرسائل الفقهية العامة (128) أحكام الأطعمة في الشريعة الإسلامية: للدكتور عبد الله بن محمد بن أحمد الطريقي. ط. الأولى. الرياض 1404 هـ. (129) الأحكام الشرعية للأعمال الطبية: للدكتور أحمد شرف الدين مطابع كويت تايمز 1403 هـ مطبوعات المجلس الوطني للثقافة والفنون بالكويت. (130) أحكام النساء: للحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي. ط. الثانية 1405 هـ. دار الكتب العلمية. (131) الإمتاع والاستقصاء: لحسن بن علي السقاف القرشي. ط. الأولى المطابع التعاونية بالأردن سنة 1409 هـ. (132) تحفة المودود بأحكام المولود: للإمام شمس الدين محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية المتوفى سنة 751 هـ. دار الكتب العلمية. بيروت. (133) الدين الخالص أو إرشاد الخلق إلى دين الحق: للشيخ محمود محمد خطاب السبكي المتوفى عام 1352 هـ. ط. الرابعة 1397 هـ.

خامسا: أصول الفقه

(134) زهر العريش: للإمام بدر الدين الزركشي المتوفى سنة 794 هـ، تحقيق الدكتور السيد أحمد فرج. ط. الأولى دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع بمصر. (135) شرح الرحبية: للشيخ عطية القهرفي المسمى بسبط المارديني ط. الثانية 1404 هـ، بتعليق د. مصطفى ديب البغا، دار القلم بدمشق. (136) شفاء التباريح والأدواء في حكم التشريح ونقل الأعضاء: للشيخ إبراهيم اليعقوبي. ط. الأولى سنة 1407 هـ مطبعة خالد ابن الوليد دمشق. (137) فقه النوازل: للدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد مطابع الفرزدق بالرياض. ط. الأولى 1409 هـ. (138) قضايا فقهية معاصرة: للشيخ محمد برهان الدين السنبهلي. ط. الأولى دار القلم بدمشق، ودار العلم بيروت سنة 1408 هـ. (139) المختارات الجلية: للشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي. ط. المدني 1378 هـ. خامسًا: أصول الفقه (140) تهذيب الفروق: للشيخ محمد علي بن حسين ط. الأولى سنة 1344 هـ بمطبعة البابي الحلبي، بمصر.

سادسا: كتب اللغة العربية

(141) عوارض الأهلية عند الأصوليين: للدكتور حسين خلف الجبوري ط. الأولى 1408 هـ. (142) الفروق: للإمام أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن الصنهاجي الشهير بالقرافي. ط. الأولى سنة 1344 هـ بمطبعة البابي الحلبي بمصر. (143) المستصفى: للإمام أبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي ط. الأولى مطبعة البابي الحلبي بمصر سنة 1356 هـ. (144) الموافقات: للإمام أبي إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي المعروف بالشاطبي، المتوفى سنة 790 من الهجرة، ط. دار الفكر بلبنان سنة 1341 هـ. تعليق الشيخ محمد الخضر حسين التونسي، ط. الشرق الأدنى بالموسكي، بتعليق الشيخ محمد عبد الله دراز. سادسًا: كتب اللغة العربية (145) تاج العروس من جواهر القاموس: للإمام محب الدين أبي الفيض محمد مرتضى الزبيدي، ط الأولى بالمطبعة الخيرية بمصر سنة 1306 هـ. (146) ترتيب القاموس على طريقة المصباح المنير وأساس البلاغة: للأستاذ طاهر أحمد الزاوي الطرابلسي، ط الأولى بمطبعة الرسالة بمصر سنة 1959 هـ.

(147) الصحاح المسمى تاج اللغة وصحاح العربية: للشيخ أبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري، المطبعة الكبرى العامرة بمصر سنة 1292 هـ، وبهامشه كتاب الوشاح وتثقيف الرماح في رد توهيم المجد الصحاح. (148) لسان العرب: للإمام أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي، دار صادر ببيروت لبنان ستة 1955 م- 1375 هـ. (149) المصباح المنير فى غريب الشرح الكبير: للعلامة أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي المتوفى سنة 770 هـ، المكتبة العلمية ببيروت- لبنان. (150) المطلع على أبواب المقنع: للإمام أبي عبد الله شمس الدين محمد بن أبي الفتح البعلي الحنبلي المتوفى سنة 709 هـ، المكتب الإسلامي ببيروت- لبنان سنة 1401 هـ- 1981 م، ومعه ألفاظ الفقه الحنبلي صنع محمد بشير الأدبي، مطبوع مع مجموعة المبدع، لابن مفلح الجزء الحادي عشر. (151) المغرب فى ترتيب المعرب: للإمام أبي الفتح ناضر الدين المطرزي المتوفى سنة 610 هـ، مطبعة النجمة بحلب تحقيق محمود فاخوري/عبد الحميد مختار. (152) المفردات: للإمام أبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني، المتوفى سنة 502 من الهجرة، تحقيق محمد سيد كيلاني، مطبعة البابي الحلبي ط. الأخيرة سنة 1381 هـ.

سابعا: التاريخ والتراجم

سابعًا: التاريخ والتراجم أ- التاريخ (153) البداية والنهاية فى التاريخ: للحافظ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي، المتوفى سنة 774 هـ. مطبعة السعادة بمصر عام 1358 هـ. (154) تاريخ الطب وآدابه وعلومه: لأحمد شوكت الشطي مطبعة طربين. سوريا 1386 هـ. (155) لمحة من تاريخ الطب: بلاكسلاند ستبز ترجمة د. أحمد زكي طه. لجنة البيان العربي 1958 م. (156) نفح الطيب: للشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني، المتوفى سنة 1041 هـ، ط الأولى عام 1367 هـ. مطبعة السعادة بمصر. (157) مختصر تاريخ الطب العربي: كمال السامرائي، وزارة الثقافة والإعلام 1404 هـ. ب- التراجم والطبقات والمعاجم (158) ابن القيم حياته، وآثاره: لفضيلة الشيخ بكر بن عبد الله أبي زيد، ط الأولى بمطابع دار الهلال، بالرياض سنة 1400 هـ- 1980 م. (159) أبو القاسم الزهراوي أول طبيب جراح في العالم: للدكتور عبد العظيم الديب، دار الأنصار بمصر.

(160) أعلام العرب والمسلمين في الطب: د. علي عبد الله الدفاع، ط. الثالثة سنة 1406 هـ، مؤسسة الرسالة- بيروت. (161) جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس: للإمام أبي عبد الله محمد بن فتوح بن عبد الله الأزدي المتوفى سنة 488 هـ، ط. الدار المصرية للتأليف والترجمة سنة 1966 م. (162) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، المتوفى سنة 430 هـ. ط. الأولى بمطبعة السعادة بمصر سنة 1351 هـ. (163) الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب: للإمام إبراهيم بن علي بن محمد بن فرحون، ط. الأولى سنة 1350 هـ. مطبعة الفجالة بمصر. (164) الذيل على طبقات الحنابلة: للإمام زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين أحمد البغدادي ثم الدمشقي الحنبلي المتوفى سنة 795 هـ، مطبعة السنة المحمدية بمصر سنة 1372 هـ، 1952 م. بتصحيح محمد حامد الفقي. (165) شجرة النور الزكية في طبقات المالكية: للشيخ محمد بن محمد مخلوف ط. بالأوفست عن الطبعة الأولى بالمطبعة السلفية سنة 1349 هـ. نشر دار الكتاب العربي. بيروت. (166) شذرات الذهب في أخبار من ذهب: للشيخ عبد الحي بن العماد الحنبلي المتوفى سنة 1089 هـ، نشر مكتبة القدسي بمصر سنة 1350 هـ.

(167) طبقات الأطباء والحكماء: لأبي داود سليمان بن حسان الأندلسي المعروف بابن جلجل. ط. الثانية، مؤسسة الرسالة، بيروت. لبنان سنة 1405 هـ. (168) طبقات الشافعية: للإمام أبي بكر هداية الله الحسيني المتوفى سنة 1014 هـ، ط. الثانية. طبع شركة الخدمات الصحافية والطباعية ببيروت، لبنان. تحقيق عادل نويهض. (169) طبقات المفسرين: للحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي. طبع طهران سنة 1960 م. (170) عيون الأنباء في طبقات الأطباء: لموفق الدين أبي العباس أحمد بن القاسم بن خليفة بن يونس السعدي الخزرجي المعروف بابن أبي أصبعيه شرح وتحقيق. د. نزار رضا. منشورات دار مكتبة الحياة ببيروت. (171) القواعد البهية في تراجم الحنفية: للعلامة أبي الحسنات محمد بن عبد الحي للكنوي الهندي، ط. الأولى بمطبعة السعادة بمصر سنة 1324 هـ، ومعه التعليقات السنية للمؤلف نفسه. (172) فوات الوفيات: لمحمد بن شاكر أحمد الكتبي المتوفى سنة 764 هـ. بتحقيق محيي الدين عبد الحميد مطبعة السعادة بمصر عام 1951 م. (173) معجم الأدباء: للشيخ شهاب الدين ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي. الطبعة الأخيرة. بدار المأمون بمصر سنة 1357 هـ.

جـ- الدراسات التاريخية

(174) معجم العلماء العرب: لباقر أمين الورد. ط. الأولى 1402 هـ بغداد. (175) معجم المؤلفين تراجم مصنفي الكتب العربية: لرضا كحالة مطبعة الترقي بدمشق بسوريا سنة 1377 هـ. (176) نيل الابتهاج بتطريز الديياج: للشيخ أحمد بن أحمد بن أحمد بن عمر بن محمد أقيت التنبكتي ط. الأولى سنة 1351 هـ بمصر. (177) وفيات الأعيان وأنباء الزمان: للإمام أبي العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان، المتوفى سنة 681 هـ. ط. الأولى بمطبعة السعادة بمصر سنة 1367 هـ. تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. جـ- الدراسات التاريخية (178) دراسات في تاريخ العلوم عند العرب: لحكمت نجيب عبد الرحمن ط. الرابعة 1985 م، جامعة الموصل. (179) شمس العرب تسطع على الغرب: للمستشرقة زيغريد هونكه، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت. ط. الثامنة 1406 هـ. (180) الطب عند العرب والمسلمين تاريخ ومساهمات: للدكتور محمود الحاج قاسم محمد. ط. الأولى 1407 هـ، الدار السعودية للنشر والتوزيع.

ثامنا: المواعظ والرقائق

(181) فضل علماء المسلمين على الحضارة الغربية: للدكتور عز الدين فراج. دار الفكر العربي بمصر سنة 1378 هـ. (182) نشأة الطب: للدكتور عبد الله عبد الرزاق مسعود السعيد. دار الفكر، عمان الأردن 1985 م. ثامًنا: المواعظ والرقائق (183) الكبائر: للحافظ أبي عبد الله محمد ببن أحمد بن عثمان الذهبي المتوفى سنة 748 هـ، ط. الثانية مطبعة مصطفى محمد بمصر سنة 1368 هـ. (184) مختصر منهاج القاصدين: أحمد بن عبد الرحمن بن أبي عمر بن قدامة المقدسي، ط. الثانية سنة 1380 هـ، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط نشر المكتب الإسلامي. (185) المدخل: للإمام أبي عبد الله محمد محمد محمد العبدري القبيلي الفاسي، ط. الأولى 1380 هـ، مطبعة البابي الحلبي بمصر. تاسعًا: الأديان والفرق (186) الملل والنحل: للإمام أبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني المتوفى سنة 548 هـ، ط الأولى بالمطبعة الأدبية بمصر سنة 1317 هـ.

عاشرا: علم الطب

عاشرًا: علم الطب أ- الطب الإسلامي: (187) الإسناد الطبي فى الجيوش العربية الإسلامية: د. راجي عباس التكريتي، ط. دائرة الشئون الثقافية بالجمهورية العراقية عام 1984 م. (188) الطب الإسلامي: د. أحمد طه. ط. دار القافلة بمصر. (189) الطب من الكتاب والسنة: للإمام موفق الدين عبد اللطيف البغدادي تحقيق عبد المعطي قلعجي. ط. الأولى 1406 هـ. دار المعرفة. بيروت. (190) الطب النبوي: للإمام محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية. ط. البابي الحلبي 1377 هـ. تعليق عبد الغني عبد الخالق. (191) الطب النبوي والعمل الحديث: د. محمود ناظم النسيمي ط. الثانية 1407 هـ، مؤسسة الرسالة. بيروت. (192) المنهج السوي والمنهل الروي في الطب النبوي: للحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي تحقيق حسن محمد مقبول الأهدل، ط. الأولى 1406 هـ مكتبة الجيل، والكتب الثقافية. ب- الطب الحديث: (193) آفاق جديدة فى الجراحة: لمحمد أكرم الشقيري، مطابع الوطن بالكويت ط. 1986 م.

(194) الاستقصاء والإبرام في علاج الجراحات والأورام: لأبي عبد الله محمد بن علي فرج القربلياني الملقب بالشفرة، مطبوع ضمن كتاب الطب والأطباء في الأندلس الإسلامية، دارسة وتراجم ونصوص، تحقيق وتأليف محمد العربي الخطابي ط. دار الغرب الإسلامي. بيروت. ط. الأولى سنة 1988 م. (195) الأسس الأمراضية لأمراض جهاز الهضم: لملهم الملوحي، معن البدوي، عماد رمضان، عبد الرءوف السلطي. ط. الأولى 1406 هـ دار المأمون للتراث. دمشق. (196) الأمراض الجراحية: د. مظهر المهايني، د. محسن أسود، د. سهيل سمعان، د. محسن بلال. د. يحيى حمادة الخياط، د. رضا عبد الله كنهوش ط. المطبعة الجديدة، دمشق سنة 1403 هـ. (197) أمراض الجهاز البولي والجهاز التناسلي عند الذكور: د. محمد أديب العطار، د. وليد النحاس. المطبعة الجديدة. دمشق سنة 1401 هـ. (198) أمراض الصدر الجراحية: د. محسن أسود. مطبعة رياض دمشق سنة 1402 هـ. (199) أمراض العيون: إعداد محمد رفعت، اشترك في تأليفه عدد من أساتذة كليات الطب بجمهورية مصر العربية. دار المعرفة للطباعة والنشر. بيروت. (200) الأمراض النسائية: د. محمود الحافظ. ط. الأولى 1982 م مطبعة الإنشاء.

(201) أمراض الفم الجراحية: الدكتور عبد الإله طليمات، عصام شعبان، مطبعة جامعة دمشق 1405. (202) تذكرة أولي الألباب والجامع للعجب والعجاب: لداود بن عمر الأنطاكي المتوني سنة 1008 هـ ط. الأخيرة 1371 هـ. مطبعة البابي الحلبي بمصر وبهامشها نزهة المبهجة. (203) التعرف الزين في مناجزة سقم العين: للدكتور محمد عبد العزيز محمد. ط. الأولى 1983 م مطابع الأهرام التجارية. بمصر. (204) التمريض الجراحى والباطني وفروعها: للدكتورة سعاد حسين حسن. ط. دار النفائس ببيروت. (205) التيجان والجسور: للدكتور مصباح دياب. مطبعة جامعة دمشق سنة 1397 هـ. (206) الجديد والقديم في جراحة العظام والتقويم: للدكتور السيد محمد وهب دار المعارف بمصر. (207) جراحة البطن: للدكتور محمد الشامي، الدكتور لطفي اللبابيدي مطبعة الجاحظ. دمشق 1401 هـ. (208) جراحة التجميل: د. فايز طربية.

(209) جراحة الحرب الطارئة: كتاب الحلف الأطلسي عن الجراحة العسكرية، ترجمة الدكتور ياسر الياغي، مراجعة الدكتور نبيه معمر، مؤسسة الأبحاث العربية الطبعة الأولى 1982 م بيروت. (210) الجراحة الصغرى: الدكتور رضوان بابولي، الدكتور أنطون دولي، منشورات جامعة حلب، كلية حلب. سنة 1407 هـ. (211) الجراحة العامة: لمجموعة من الأطباء. ط. مطبعة الإنشاء بسوريا 1399 هـ. (212) الجراحة العصبية: د. محمد فاروق نحاس. مديرية الكتب والمطبوعات الجامعية بدمشق. 1405 هـ. (213) الجراحة العصبية: د. هشام بكداش. ط. الثالثة مطبعة طربين سنة 1401 هـ. (214) جراحة الفم والفكين: بقلم دانتيل لاسكن ترجمة د. عادل زكار دار الحقائق للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت لبنان. (215) جراحة القلب والأوعية الدموية: للدكتور سامي القباني. مطبعة جامعة دمشق 1401 هـ. (216) روافد الجراحة للمرضات: محمود كامل البوز. دار القلم بالكويت. (217) الشفاء بالجراحة: للدكتور محمود فاعور. ط. الأولى 1986 م. دار العلم للملايين. بيروت.

(218) الطب الشرعي العملي والنظري: لسيف النصر محمد عبد العزيز. ط ونشر مكتبة النهضة المصرية 1960 م. (219) الطب عند العرب: لحنيفة الخطيب، الأهلية للنشر والتوزيع. بيروت 1986 م. (220) العمدة في الجراحة: لأبي الفرج ابن موفق الدين يعقوب بن إسحاق الكركي. طبع دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن سنة 1356 هـ. (221) العمليات الجراحية وجراحة التجميل: إعداد محمد رفعت، اشترك في تأليفه عدد من أساتذة الطب في جمهورية مصر العربية. ط. الرابعة 1405 هـ. دار المعرفة للطباعة والنشر. (222) الغدد، أمراضها وعلاجها: لمحمد رفعت. مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر. بيروت 1403 هـ. (223) غرس الأعضاء فى جسم الإنسان "زرع الأعضاء": للدكتور محمد أيمن الصافي. ط. الأولى سنة 1407 هـ. (224) الفحص السريري المنهجي: لمجموعة من الأطباء. مطبعة خالد بن الوليد. دمشق 1407 هـ. (225) فن جراحة التجميل: د. حسن القزويني. شركة مونمارتز للطبع والنشر بباريس. (226) فن الجراحة: الدكتور مظهر المهايني. مطبغة جامعة دمشق 1378 هـ.

(227) القانون في الطب: لأبي علي الحسين بن علي بن سينا المتوفى سنة 428 هـ. ط. دار الفكر. بيروت. (228) مباديء أمراض الأذن والأنف والحنجرة: د. لويس لبيب سامي. دار الجيل للطباعة بمصر. ط. الأولى سنة 1964 م. (229) محاضرات في الجراحة العصبية: د. منذر بركات. مطبعة جامعة حلب 1977 م. (230) المصباح الوضاح في صناعة الجراح: للدكتور جورج بوست. ط. سنة 1873 م. (231) مقدمة في فن التمريض: هدية اللحام، الدكتور سعيد الجاني، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع. ط الأولى. (232) ملحق الجراحة البولية: د. وليد النحاس. مطبعة خالد بن الوليد بدمشق سنة 1404 هـ. (233) ميادين الطب: لمارجريت هايد، ترجمة د. م عيسى. مكتبة النهضة المصرية. إحياء التراث. القاهرة سنة 1406 هـ. (234) موجز الجراحة العامة: د. سميع سفر، د. هاشم عبد الرحمن. مطبعة جامعة بغداد 1978 م.

د- علم التخدير والمخدرات

(235) الموجز في الطب: لعلاء الدين علي بن أبي الحزم القرشي المعروف بابن النفيس المتوفى سنة 687 هـ، تحقيق عبد الكريم العزباوي. مطبوعات المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، لجنة إحياء التراث. (236) نقل وزراعة الأعضاء: للدكتور إسماعيل حسن غسال شهادة دكتوراة في الطب. (237) نقل الدم: لمحمد الصافي. مؤسسة الزعبي ط. الأولى 1392 هـ بسوريا. (238) الوجيز في الجراحة الصدرية والقلبية: د. بشير الكاتب مطبعة جامعة حلب. ط. الثانية سنة 1980 م. (239) الوجيز في علم أمراض اللثة وطرائق معالجتها: أطلس أمراض اللثة. ط. الأولى سنة 1402 هـ. (240) علم الأشعة: الأشعة السينية وبعض تطبيقاتها. د. محمود نصر الدين. د- علم التخدير والمخدرات (241) التخدير: غوردون أوستلر، روجر برايس سمث. ترجمة أعضاء هيئة التدريس بقسم التخدير والإنعاش جامعة دمشق. مطبعة الداودي. عربين 1402 هـ. (242) التخدير الموضعي: د. شفيق الأيوبي. مطبعة جامعة دمشق 1393 هـ. ط. الرابعة.

هـ- الموسوعات الطبية

(243) المخدرات: لمحمد إبراهيم الحسن. (244) المخدرات الخطر الداهم: د. محمد علي البار. ط.- الأولى سنة 1408 هـ، دار القلم، ودار العلوم، بدمشق. (245) المخدرات: د. صلاح يحياوي. ط. الثانية 1408 هـ مؤسسة الرسالة. بيروت. هـ- الموسوعات الطبية (246) الموسوعة الطبية الحديثة: لمجموعة من الأطباء. ط. الثانية 1970 م، لجنة النشر العلمي بوزارة التعليم العالي بجمهورية مصر العربية. (247) الموسوعة الطبية العربية: د. عبد الحسين بيرم. مطبعة دار القادسية. بغداد. والقوانين الطبية (248) السلوك المهني للأطباء: د. راجي عباس التكريتي. دار الأندلس للطباعة والنشر. ط. الثانية 1402 هـ. (249) سلوكيات وآداب وقوانين مزاولة مهنة الطب وكيف يتصرف الطبيب عند اتهامه: إعداد مصطفى عبد اللطيف، وهانيء أحمد جمال الدين. دار الهلال للطباعة والتجارة بمصر 1984م.

قرارات المجامع والهيئات العلمية

(250) المسئولية الجنائية للأطباء: د. أسامة عبد الله قايد ط. 1987 م نشر دار النهضة العربية بمصر. (251) المسئولية الطبية: د. محمد حسين منصور. ط. الفنية بمصر. (252) المسئولية الطبية فى قانون العقوبات: د. فائق الجوهري. دار الجوهري للطبع والنشر بمصر 1951 م. (253) المسئولية الطبية المدنية والجزائية: بسام محتسب بالله. ط. الأولى 1404 هـ. دار الإيمان. بيروت. (254) مسئولية الأطباء والجراحين المدنية: د. حسن زكي الإبراشي. دار النشر للجامعات المصرية. (255) المسئولية المدنية عن الأخطار المهنية: د. عبد اللطيف الحسين. الشركة العالمية للكتاب. (256) المسئولية المدنية للطبيب في الشريعة الإسلامية وفي القانون السوري والمصري والفرنسي: لعبد السلام التونجي. قرارات المجامع والهيئات العلمية (1) قرار مجلس هيئة كبار العلماء رقم 99 تاريخ 6/ 11/1402 هـ بشأن نقل الأعضاء. (2) قرار مجلس هيئة كبار العلماء رقم 136 تاريخ 17/ 6/1406 هـ بشأن منع إعادة العضو المقطوع حدًا أو قصاصًا.

بحوث المؤتمرات والندوات

(3) قرار مجمع الفقه الإسلامي: في الدورة الثامنة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من 28 ربيع الآخر إلى 7 جمادي الأولى 1405 هـ. (4) قرار مجمع الفقه الإسلامي: في المؤتمر الثالث المنعقد بعمان بالمملكة الأردنية الهاشمية في الفترة من 8 - 13 صفر1407 هـ بشأن أجهزة الإنعاش. (5) فتوى دار الإفتاء بجمهورية مصر العربية رقم 491 سجل 88 بجواز نقل الأعضاء. (6) فتوى لجنة الإفتاء بوزارة الأوقاف الكويتية: بشأن نقل الأعضاء رقم 497/ 84 في 22/ 4/1405 هـ. (7) فتوى لجنة الإفتاء بوزارة الأوقاف الكويتية: بشأن موت الدماغ بتاريخ 18/صفر/1402هـ الموافق 14/ 12/1981م. (8) فتوى لجنة الإفتاء بالمملكة الأردنية الهاشمية: بجواز نقل الأعضاء بتاريخ 20/ 5/1397هـ. (9) فتوى لجنة الإفتاء بالمجلس الإسلامي الأعلى في الجزائر تاريخ 6/ 3/1392هـ. بحوث المؤتمرات والندوات (1) بحوث مجمع الفقه الإسلامي في نقل الأعضاء. (2) بحوث مجمع الفقه الإسلامي فى إعادة العضو المقطوع في الحد أو القصاص. (3) بحوث اللجنة الدائمة التابعة لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية.

المجلات والصحف

(4) بحوث المؤتمر الإسلامي العالمي لمكافحة المسكرات والمخدرات: المنعقد بالمدينة المنورة في الفترة عن 27 - 30/ 6/1402هـ. (5) بحوث المؤتمر العالمي الأول عن الطب الإسلامي: المنعقد بالكويت في ربيع الأول عام 1401 هـ. يناير 1981 م. (6) بحوث المؤتمر العالمي الثاني عن الطب الإسلامى: المنعقد بالكويت جمادى الأخرة 1402هـ/1982 م. (7) بحوث ندوة الحياة الإنسانية بدايتها ونهايتها: المنعقدة في الكويت 20 شعبان 1407 هـ الموافق 18 أبريل 1987 م. (8) ملخصات بحوث المؤتمر الطبي العربي الرابع والعشرين: المنعقد بالقاهرة في الفترة 19 - 22 يناير "كانون الثاني" 1988 م الموافق 29 جمادى الأولى- 3 جمادى الثاني 1408 هـ. (9) المؤتمر الأول للتخدير والإنعاش والمعالجة الحثيثة: المنعقد بعمان بالمملكة الأردنية الهاشمية في الفترة 22 - 24 أكتوبر 1985 م. "ورقة العمل الأردنية عن تشخيص موت الدماغ". المجلات والصحف أ- المجلات: (1) مجلة الأزهر: المجلد العشرين عدد محرم سنة 1368 هـ، الجزء التاسع السنة الخامسة والخمسون عدد رمضان 1403 هـ. (2) مجلة الأمة: عدد صفر عام 1405 هـ. (3) مجلة البحوث الإسلامية: العدد 22. (4) المجلة الجنائية القومية: عدد مارس 1978 م.

ب- الصحف:

(5) مجلة دراسات: العدد 11 في 3/ 6/1405 هـ. (6) مجلة الرسالة الإسلامية: العدد 212. (7) مجلة طبيبك الخاص: العدد 249 السنة الحادية والعشرون سبتمبر 1989 م. (8) مجلة الفيصل: العدد 116 السنة 11 عام 1407 هـ. (9) مجلة القافلة: لسنة 1409 هـ عدد 3 ربيع الأول المجلد السابع والثلاثون. (10) مجلة اللواء الإسلامي: عدد 226 تاريخ 27 جمادى الاخرة 1407 هـ. (11) مجلة المجمع الفقهي: السنة الثانية العدد الثالث. ب- الصحف: جريدة الشرق الأوسط: العدد 3725 الأربعاء 8/ 2/1989 م. جريدة المسلمون: الأعداد 203، 204، 205 من السنة الرابعة عام 1409 هـ. * * *

§1/1