أحكام الأضحية والذكاة

ابن عثيمين

خطبة الكتاب

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ خطبة الكتاب الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً. أما بعد: فإن الأضحية شعيرة من شعائر الإسلام، وعبادة عظيمة قرنها الله تعالى بالصلاة، وجاءت السنة ببيان فضلها ومواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليها، ومن أجل ذلك أحببت أن أكتب هذه الرسالة في بيان كثير من أحكامها، وأتبعت ذلك بالكلام على الزكاة وشروطها وآدابها. وقد رتبتها في عشرة فصول: الفصل الأول: في تعريف الأضحية وحكمها. الفصل الثاني: في وقت الأضحية. الفصل الثالث: في جنس ما يضحى به وعمن يجزئ؟ الفصل الرابع: في شروط ما يضحى به، وبيان العيوب المانعة من الإجزاء. الفصل الخامس: في العيوب المكروهة في الأضحية. الفصل السادس: فيما تتعين به الأضحية وأحاكمه. الفصل السابع: فيما يؤكل منها وما يفرق.

الفصل الثامن: فيما يجتنبه من أراد الأضحية. الفصل التاسع: في الذكاة وشروطها. الفصل العاشر: في آداب الزكاة ومكروهاتها. والله أسأل أن يجعل عملي خالصاً لوجهه، موافقاً لمرضاته، نافعاً لعباده، إنه قريب مجيب. المؤلف

الفصل الأول في تعريف الأضحية وحكمها

الفصل الأول في تعريف الأضحية وحكمها الأضحية: ما يذبح من بهيمة الأنعام أيام الأضحى بسبب العيد؛ تقرباً إلى الله عز وجل. وهي من العبادات المشروعة في كتاب الله وسنة رسوله النبي صلى الله عليه وعلي آله وسلم وإجماع المسلمين. فأما كتاب الله: فقد الله تعالي: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (الكوثر: 2) وقال تعالي: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام: 162، 163) . وقال تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا) (الحج: 34) . وهذه الآية تدل على أن الذبح تقرباً إلى الله تعالي مشروع في كل ملة لكل أمة، وهو برهان بين على أنه عباده ومصلحة في كل زمان ومكان وأمَة. وأما سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم: فقد ثبت مشروعية الأضحية فيها بقول النبي صلي الله عليه وسلم وفعله وإقراره، فاجتمعت فيها أنواع السنة الثلاثة: القول، والفعل، والتقرير. ففي: ((الصحيحين)) عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال:

((من ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه، وأصاب سنة المسلمين)) (¬1) . وفيهما أيضاً عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قسم بين أصحابه ضحايا، فصارت لعقبة جذعة، فقال: يا رسول الله؛ صارت لي جذعة. فقال ((ضح بها)) (¬2) . وفي ((الصحيحين)) أيضاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ضحى النبي صلي الله عليه وسلم بكبشين أملحين ذبحهما بيده، وسمي وكبر ووضع رجله على صفاحهما (¬3) . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أقام النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة عشر سنين يضحي. رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن (¬4) . وفي ((الصحيحين)) أيضاً عن جندب سفيان. البجلي قال: شهدت الأضحى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قضي صلاته بالناس نظر إلى غنم قد ذبحت فقال: ((من ذبح قبل الصلاة فليذبح شاة مكانها، ومن لم يكن ذبح فليذبح على اسم الله)) هذا لفظ مسلم (¬5) . وعن عطاء بن يسار قال: سألت أبا أيوب الأنصاري: كيف كانت الضحايا فيكم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كان الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته (الحديث) . رواه ابن ماجه والترمذي وصححه (¬6) . وأما إجماع المسلمين على مشروعية الأضحية فقد نقله غير واحد من أهل العلم. قال في ((في المغني)) : أجمع المسلمون على مشروعية الأضحية. وجاء في ((فتح الباري شرح صحيح البخاري)) : ولا خلاف في كونها من شرائع الدين. وبعد إجماعهم على مشروعية الأضحية اختلفوا: أواجبة هي أم سنة مؤكدة؟ على قولين: القول الأول: أنها واجبة، وهو قول الأوزاعي، والليث، ومذهب أبي حنيفة، وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد، قال شيخ الإسلام: وهو أحد القولين في مذهب مالك، أو ظاهر مذهب مالك. القول الثاني: أنها سنة مؤكدة، وهو قول الجمهور، ومذهب الشافعي، ومالك، وأحمد في المشهور عنهما، لكن صرح كثير من أرباب هذا القول ¬

(¬1) رواه البخاري، كتاب الأضاحي باب الذبح بعد الصلاة، (5560) ومسلم، كتاب الأضاحي باب وقتها، رقم (1961) . (¬2) رواه البخاري، كتاب الأضاحي، باب قسمة الإمام الأضاحي بين الناس، رقم (5547) ومسلم كتاب الأضاحي باب سن الأضحية، رقم (1965) . (¬3) رواه البخاري، كتاب الأضاحي، باب التكبير عند الذبح، رقم (5565) ومسلم، كتاب الأضاحي، باب استحباب الضحية وذبحها مباشرة (1966) . (¬4) رواه أحمد (28/2) والترمذي، كتاب الأضاحي، باب الدليل على أن الأضحية سنة رقم (1507) (¬5) رواه البخاري، كتاب الأضاحي، باب من ذبح قبل الصلاة أعاد، رقم (5562) ومسلم، كتاب الأضاحي، باب وقتها، رقم (1960) . (¬6) رواه الترمذي، كتاب الأضاحي، باب ما جاء أن الشاة الواحدة تجزئ عن أهل البيت، رقم (1505) وابن ماجه، كتاب الأضاحي، باب من ضحي بشاة عن أهله، رقم (3147) .

بأن تركها يكره للقادر، ذكره أصحابنا، نص الإمام أحمد وقطع به في الإقناع، وذكر في ((جواهر الإكليل شرح مختصر خليل)) . أنها إذا تركها أهل بلد قوتلوا عليها؛ لأنها من شعائر الإسلام. أدلة القائلين بالوجوب: الدليل الأول: قوله ـ تعالى ـ: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (الكوثر: 2) فأمر بالنحر، والأصل في الأمر الوجوب. الدليل الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: ((من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا)) رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الحاكم من حديث أبي هريرة. (¬1) قال في ((فتح الباري)) ورجاله ثقات. الدليل الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة: ((يا أيها الناس، إن على أهل كل بيت أضحية في كل عام وعتيرة)) . قال في ((الفتح)) : أخرجه أحمد والأربعة بسند قوي (¬2) . الدليل الرابع: قوله صلى الله عليه وسلم ((من كان ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يكن ذبح حتى صلينا فليذبح باسم الله)) متفق عليه (¬3) . هذه أدلة القائلين بالوجوب، وقد أجاب عنها القائلون بعدم الوجوب واحداً واحداً. فأجابوا عن الدليل الأول: بأنه لا يتعين أن يكون المراد بها نحر القربان، فقد قيل: إن المراد بها وضع اليدين تحت النحر عند القيام في الصلاة، وهذا القول وإن كان ضعيفا لكن مع الاحتمال قد يمتنع الاستدلال. وإذا قلنا: إن المراد بها نحر القربان كما هو ظاهر القرآن، فإنه لا يتعين أن يكون المراد بها فعل النحر، فقد قيل: إن المراد بها تخصيص النحر لله تعالى وإخلاصه له، وهذا واجب بلا شك ولا نزاع. وإذا قلنا: المراد بها فعل النحر كما هو ظاهر الآية؛ فهو أمر مطلق يحصل امتثاله بفعل ما ينحر تقربا إلى الله تعالى من أضحية، أو هدي، أو ¬

(¬1) رواه أحمد (2/321) وابن ماجه، كتاب الأضاحي، باب الأضاحي واجبة هي أم لا؟ رقم (3123) ، والحاكم (2/389) . (¬2) رواه أحمد (4/215) وأبو داود، كتاب الأضاحي، باب ما حاء في إيجاب الأضاحي، رقم (2788) ، والترمذي، كتاب الأضاحي، باب رقم (18) حديث الأضاحي، باب الأضاحي واجبة هي أم لا؟ رقم (3125) . (¬3) تقدم تخريجه.

عقيقة ولو مرة واحدة، فلا يتعين أن يكون المراد به الأضحية كل عام. وهذا تقرير جوابهم عن الآية، وعندي أنه إذا صح الدليل الثالث؛ صار مبينا للآية، وصارت حجة على الوجوب. والله أعلم. وقد يقال: إن وجوب النحر الذي تدل عليه هذه الآية خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم شكرا منه لربه على ما أعطاه من الخير الكثير الذي لم يعطه أحد غيره؛ بدليل ترتيبه عليه بالفاء، وبدليل ما يأتي في الدليل الأول للقائلين بعدم الوجوب. وأجابوا عن الدليل الثاني: بأن الراجح أنه موقوف، ولعل أبا هريرة قاله حين كان والياً على المدينة، قال في ((بلوغ المرام)) : رجح الأئمة وقفه، اه. لكن قال في ((الدراية)) : إن الذي رفعه ثقة. قلت: وإذا كان الذي رفعه ثقة؛ فالمشهور عند المحدثين أنه إذا تعارض الوقف والرفع، وكان الرافع ثقة فالحكم للرفع؛ لأنه زيادة من ثقة مقبولة، لكن قال في ((الفتح)) : إنه ليس صريحا في الإيجاب. قلت: هو ليس بصريح في الإيجاب، إذ يحتمل أن منعه من المسجد، وحرمانه من حضور الصلاة ودعوة المسلمين عقوبة له على ترك هذه الشعيرة، وإن لم تكن واجبة، لكن من أجل تأكدها، لكن هو ظاهر في الإيجاب، ولا يلزم في إثبات الحكم أن يكون الدليل صريحا في الدلالة عليه، بل يكفي الظاهر إذا لم يعارضه ما هو أقوى منه. وأجابوا عن الدليل الثالث: بأن أحد رواته أبو رملة (عامر) قال في ((التقريب)) : لا يعرف. وقال الخطابي: مجهول والحديث ضعيف المخرج. وقال المعافري: هذا الحديث ضعيف لا يحتج به. قلت: وقد سبق أن صاحب ((الفتح)) وصف سنده بالقوة؛ لكنه قال: لا حجة فيه؛ لأن الصيغة ليست صريحة في الوجوب المطلق، وقد ذكر معها العتيرة، وليست بواجبة عند من قال بوجوب الأضحية. اهـ. وقد سبق الجواب بأنه لا يلزم في إثبات الحكم أن يكون الدليل صريحا في الدلالة عليه بل يكفي الظاهر إذا لم يعارضه ما هو أقوى منه، وأما ذكر العتيرة معها وهي غير واجبة؛ فقد ورد ما يخرجها عن الوجوب بل عن المشروعية عند كثير من أهل العلم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في حديث

أبي هريرة: ((لا فرع ولا عتيرة)) (¬1) . متفق عليه. لكن العلة في الدليل جهالة أبي رملة. والله أعلم. أجابوا عن الدليل الرابع: بأن الأمر إنما هو بذبح بدلها وهو ظاهر؛ لأنهم لما أوجبوها تعينت، وذبحهم إياها قبل الوقت لا يجزئ، فوجب عليهم ضمانها بأن يذبحوا بدلها، ونحن نقول بمقتضى هذا الحديث، وأنه لو أوجب أضحية لوجب عليه ذبح بدلها. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((ومن لم يذبح فليذبح باسم الله)) فهو أمر بكون الذبح على اسم الله لا بمطلق الذبح، فلا يكون فيه دليل على وجوب الأضحية. أدلة القائلين بعدم وجوب: الدليل الأول: حديث: ((هن على فرائض ولكم تطوع: النحر، والوتر، وركعتا الضحى)) . أخرجه الحاكم والبزاز وابن عدي، وروى نحوه أحمد، وأبو يعلى، والحاكم (¬2) ، وذكر في التخليص له طرقا كلها ضعيفة، وقال: أطلق الأئمة على هذا الحديث الضعف كأحمد، والبيهقي، وابن الصلاح، وابن الجوزي، والنووي وغيرهم. قلت: والضعيف لا يحتج به في إثبات الأحكام. الدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى عن أمته، فعن على بن الحسين عن أبي رافع رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم كان إذا ضحى؛ اشترى كبشين أقرنين سمينين أملحين، فإذا صلى وخطب؛ أتي بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية، ثم يقول: ((اللهم هذا عن أمتي جميعا من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ)) ، ثم يؤتي بالآخر فيذبحه بنفسه ويقول: ((هذا عن محمد، وآل محمد)) . فيطعمها جميعا المساكين، ويأكل هو وأهله منهما، فمكثنا سنين ليس لرجل من بني هاشم يضحي قد كفاه الله المؤونة برسول الله صلى الله عليه وسلم والغرم. أخرجه أحمد والبزاز (¬3) ، قال في مجمع الزوائد (¬4) : وإسناده حسن، سكت عنه في التلخيص، وله شواهد عند أحمد، والطبراني، وأبن ماجه، والبيهقي، والحاكم (¬5) . ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بالواجب عن أمته فيكون الباقي تطوعا، ¬

(¬1) رواه البخاري، كتاب العقيقة، باب الفرع، رقم (5473) ومسلم، كتاب الأضاحي باب الفرع والعتيرة، رقم (1976) (¬2) أخرجه أحمد (1/231) ، والحاكم (1/300) والبيهقي (9/264) (¬3) أخرجه أحمد (6/8391) ، والبزار (9/319) وابن ماجه، كتاب الأضاحي باب أضاحي رسول الله النبى صلي الله عليه وعلي آله وسلم، رقم (3122) . (¬4) ((مجمع الزوائد)) (4/22) . (¬5) راجع: أحمد (6/391) والطبراني في ((الكبير)) (1/311) ابن ماجه رقم (3122) ، والبيهقي (9/259) والحاكم (2/425)

ولذلك مكث بنو هاشم سنين لا يضحون على مقتضى هذا الحديث. الدليل الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي؛ فليمسك عن شعره وأظفاره)) رواه الجماعة إلا البخاري (¬1) ، وفي رواية لمسلم: ((فلا يمس من شعره وبشره شيئا)) (¬2) ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم فوض الأضحية إلى الإرادة، وتفويضها إلى الإرادة ينافي وجوبها، إذ الوجوب لزوم لا يفوض إلى الإرادة، هكذا قالوا. وعندي أن التفويض إلى الإرادة لا ينافي الوجوب إذا قام عليه الدليل، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في المواقيت: ((هن لهن ولمن أتي عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج والعمرة)) (¬3) . ولم يمنع ذلك من وجوب الحج والعمرة بدليل آخر مرة في العمر، فالتعليق على الإرادة ليس معناه أن الإنسان مخير في المراد على الإطلاق، فقد يجب أن يريد إذا قام مقتضى الوجوب، وقد لا يجب أن يريد إذا لم يكن دليل على الوجوب، كما لو قلت: يجب الوضوء على من أراد الصلاة. والصلاة منها ما تجب إرادته كالفريضة، ومنها ما لا تجب كالتطوع. وأيضا فالأضحية لا تجب على المعسر فهو غير مريد لها، فصح تقسيم الناس فيها إلى مريد وغير مريد باعتبار اليسار والإعسار. الدليل الرابع: أنه صح عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما لا يضحيان مخافة أن يظن أن الأضحية واجبة (¬4) . وعن أبي مسعود رضي الله عنه أنه قال: أني لأدع الأضحية، وأنا من أيسركم، كراهة أن يعتقد الناس أنها حتم واجب. أخرجه سعيد بن منصور بسند صحيح، وذكره البيهقي عن ابن عباس وابن عمر وبلال رضي الله عنهم (¬5) . قلت: وإذا صح الوجوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن قول غيره حجة عليه. الدليل الخامس: التمسك بالأصل، فإن الأصل براءة الذمة حتى يقوم دليل الوجوب السالم من المعارضة. قلت: وهذا دليل قوي جدا لكن القائلين بالوجوب يقولون: إنه قد ¬

(¬1) رواه مسلم، كتاب الأضاحي، باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة وهو مريد..، رقم (1977) وأبو داود، كتاب الضحايا باب الرجل يأخذ من شعره في العشر، رقم (2971) ، والترمذي، كتاب الأضاحي، باب من ترك أخذ الشعر لمن أراد أن يضحي، رقم (1523) ، والنسائي، كتاب الضحايا باب رقم (1) حديث رقم (4361) ، وابن ماجه، كتاب الأضاحي، باب من أراد أن يضحي فلا يأخذ في العشر..، رقم 03149) (¬2) رواه مسلم، كتاب الأضاحي، رقم (1977) (¬3) رواه البخاري، كتاب الحج، باب مهل أهل الشام، رقم (1526) ، ومسلم، كتاب الحج باب مواقيت الحج والعمرة، رقم (1181) (¬4) ((السنن الكبري) للبيهقي (9/264) . (¬5) ((السنن الكبري)) البيهقي (9/265)

قام دليل الوجوب السالم من المعارضة فثبت الحكم. الدليل السادس: أن رجلا قال: يا رسول الله، أرايت إن لم أجد إلا منيحة أنثى أفأضحي بها؟ قال: ((لا، ولكن تأخذ من شعرك وأظفارك وتقص شاربك، وتحلق عانتك، فتلك تمام أضحيتك عند الله عز وجل)) . رواه أبو داود والنسائي، ورواته ثقات (¬1) . والمنيحة: شاة اللبن تعطى للفقير يحلبها ويشرب لبنها ثم يردها، وهذا سنة، ولو كانت الأضحية واجبة لم تترك من أجل فعل السنة، إذ المسنون لا يعارض الواجب. وهذا تقرير جيد وفيه تأمل. قال شيخ الإسلام ابن تيميه: والأظهر وجوبها (يعني الأضحية) فإنها من أعظم شعائر الإسلام، وهي النسك العام في جميع الأمصار، والنسك مقرون بالصلاة، وهي من ملة إبراهيم الذي أمرنا باتباع ملته، وقد جاءت الأحاديث بالأمر بها، ونفاه الوجوب ليس معهم نص، فإن عمدتهم قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أراد أن يضحي ودخل العشر فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره)) (¬2) . قالوا: والواجب لا يعلق بالإرادة، وهذا كلام مجمل، فإن الواجب لا يوكل إلى إرادة العبد، فيقال: إن شئت فافعله، بل يعلق الواجب بالشرط لبيان حكم من الأحكام. قلت: مثل أن تقول: إذا أردت أن تصلي الظهر فتوضأ، فصلاة الظهر واجبة لكن تعليقها بالإرادة لبيان حكم الوضوء لها. قال شيخ الإسلام في بقية كلامه على الأضحية: ووجوبها مشروط بأن يقدر عليها فاضلا عن حوائجه الأصلية كصدقة الفطر. اهـ. ملخصاً من ((مجموع الفتاوى)) لابن قاسم (من ص162 ـ 164 ـ مجلد 32) . هذه آراء العلماء وأدلتهم سقناها ليبين شأن الأضحية وأهميتها في الدين، والأدلة فيها تكاد تكون متكافئة، وسلوك سبيل الاحتياط أن لا يدعها مع القدرة عليها، لما فيها من تعظيم الله وذكره وبراءة الذمة بيقين. ¬

(¬1) رواه أبو داود، كتاب الضحايا، باب ما جاء في إيجاب الضاحي، رقم (2789) والنسائي، كتاب الضحايا باب من لم يجد الأضحية، رقم (4365) . (¬2) سبق تخريجه ص12

فصل وذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها، نص عليه الإمام أحمد رحمه الله، قال ابن القيم ـ وهو أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيميه البارزين ـ: ((الذبح في موضعه أفضل من الصدقة بثمنه، ولو زاد (يعني ولو زاد في ثمنه فتصدق بأكثر منه) كالهدايا والضحايا، فإن نفس الذبح وإراقة الدم مقصود، فإنه عبادة مقرونة بالصلاة كما قال تعالى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (الكوثر: 2) ، وقال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام: 162) ، ففي كل ملة صلاة ونسيكة لا يقوم غيرهما مقامهما، ولهذا لو تصدق عن دم المتعة والقران أضعاف القيمة؛ لم يقم مقامه، وكذلك الأضحية. اهـ. ويدل على أن ذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها: أنه هو عمل النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فإنهم كانوا يضحون، ولو كانت الصدقة بثمن الأضحية أفضل؛ لعدلوا إليها وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعمل عملا مفضولا يستمر عليه منذ أن كان في المدينة إلى أن توفاه الله مع وجود الأفضل وتيسره ثم لا يفعله مرة واحدة، ولا يبين ذلك لأمته بقوله، بل استمرار النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه على الأضحية يدل على أن الصدقة بثمن الأضحية لا تساوي ذبح الأضحية فضلا عن أن تكون أفضل منه، إذ لو كانت تساويه لعملوا بها أحيانا؛ لأنها أيسر وأسهل، أو تصدق بعضهم وضحى بعضهم كما في كثير من العبادات المتساوية، فلما لم يكن ذلك؛ علم أن ذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها. ويدل على أن ذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها: أن الناس أصابهم ذات سنة مجاعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في زمن الأضحية، ولم يأمرهم بصرف ثمنها إلى المحتاجين، بل أقرهم على ذبحها، وأمرهم بتفريق لحمها كما في الصحيحين عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة في بيته شيء)) فلما كان العام المقبل قالوا: يا رسول الله، نفعل كما فعلنا في العام الماضي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((كلوا وأطعموا وادخروا، فإن ذلك العام كان في الناس جهد فأردت أن تعينوا فيها)) (¬1) . ¬

(¬1) رواه البخاري، كتاب الأضاحي، باب ما يؤكل من لحوم الأضاحي ومايتزود منها، رقم (5569) ، ومسلم، كتاب الأضاحي باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث، رقم (1974) .

وفي صحيح البخاري أن عائشة رضي الله عنه سئلت: أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الأضاحي أن تؤكل فوق ثلاث؟ فقالت: ما فعله إلا عام جاع الناس فيه فأراد أن يطعم الغني الفقير (¬1) . ويدل على أن ذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها: أن العلماء اختلفوا في وجوبها، وأن القائلين بأنها سنة صرح أكثرهم أو كثير منهم بأنه يكره تركها للقادر، وبعضهم صرح بأنه يقاتل أهل بلد تركوها، ولم نعلم أن مثل ذلك حصل في مجرد الصدقة المسنونة. ويدل على أن ذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها: أن الناس لو عدلوا عنه إلى الصدقة؛ لتعطلت شعيرة عظيمة نوه الله عليها في كتابه في عدة آيات، وفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعلها المسلمون، وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة المسلمين. قال شيخ الإسلام ابن تيميه: فكيف يجوز أن المسلمين كلهم يتركون هذا لا يفعله أحد منهم، وترك المسلمين كلهم هذا أعظم من ترك الحج في بعض السنين، كذا قال. قال: وقد قالوا إن الحج كل عام فرض على الكفاية؛ لأنه من شعائر الإسلام، والضحايا في عيد النحر كذلك، بل هذه تفعل في كل بلد هي والصلاة، فيظهر بها من عبادة الله وذكره والذبح له والنسك له ما لا يظهر بالحج كما يظهر ذكر الله بالتكبير في الأعياد. اهـ. . والأصل في الأضحية أنها للحي كما كان النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه يضحون عن أنفسهم وأهليهم خلافا لما يظنه بعض العامة أنها للأموات فقط. وأما الأضحية عن الأموات؛ فهي ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن تكون تبعا للأحياء، كما لو ضحى الإنسان عن نفسه وأهله وفيهم أموات، فقد كان النبي صلي الله عليه وسلم يضحي ويقول: ((اللهم هذا عن محمد وعن آل محمد)) (¬2) وفيهم من مات سابقا. القسم الثاني: أن يضحي عن الميت استقلالا تبرعا، مثل: أن يتبرع لشخص ميت مسلم بأضحية، فقد نص فقهاء الحنابلة على أن ذلك من الخير، وأن ثوابها يصل إلى الميت وينتفع به؛ قياسا على الصدقة عنه، ولم ير ¬

(¬1) رواه البخاري، كتاب الأطعمة باب ما كان السلف يدخرون في بيوتهم واسفارهم..، رقم (5423) . (¬2) سبق تخريجه

بعض العلماء أن يضحي أحد عن الميت إلا أن يوصي به. لكن من الخطأ ما يفعله بعض الناس اليوم يضحون عن الأموات تبرعا أو بمقتضى وصاياهم، ثم لا يضحون عن أنفسهم وأهليهم الأحياء، فيتركون ما جاءت به السنة، ويحرمون أنفسهم فضيلة الأضحية، وهذا من الجهل، وإلا فلو علموا بان السنة أن يضحي الإنسان عنه وعن أهل بيته فيشمل الأحياء والأموات، وفضل الله واسع. القسم الثالث: أن يضحي عن الميت بموجب وصية منه تنفيذا لوصيته، فتنفذ كما أوصى بدون زيادة ولا نقص، والأصل في ذلك قوله تعالى في الوصية: (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 181) . وروي عن على بن أبي طالب رضي الله عنه أنه ضحى بكبشين وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اوصاني أن أضحي عنه فأنا أضحي عنه. رواه أبو داود، ورواه بنحوه الترمذي وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث شريك (¬1) . اهـ. قلت: وفي إسناده مقال. وإذا كانت الوصية بأضاحي متعددة ولم يكف المغل لتنفيذها مثل أن يوصي شخص بأربع ضحايا: واحدة لأمه، وواحدة لأبيه وواحدة لأولاده، وواحد لأجداده وجداته، ولم يكف المغل إلا لواحدة فإن تبرع الوصي بتكميل الضحايا الأربع من عنده فنرجو أن يكون حسنا، وإن لم يتبرع جمع الجميع في أضحية واحدة كما لو ضحى عنهم في حياته. وإن كانت الوصية في أضحية واحدة ولم يكف المغل لها فإن تبرع الوصي بتكميلها من عنده فنرجو أن يكون حسنا، وإن لم يتبرع أبقى المغل إلى السنة الثانية والثالثة حتى يكفي الأضحية فيضحي به، فإن كان المغل ضئيلا لا يكفي لأضحية إلا بعد سنوات يخشى من ضياعه في إبقائه إليها، أو من أن تزايد قيم الأضاحي فإن الوصي يتصدق بالمغل في عشر ذي الحجة ولا يبقيه؛ لأنه عرضة لتلفه، وربما تتزايد قيم الأضاحي كل عام، فلا يبلغ قيمة الأضحية مهما جمعه، فالصدقة به خير. ¬

(¬1) رواه أبو داود، كتاب الضحايا باب الأضحية عن الميت، رقم (2790) والترمذي، كتاب الأضاحي باب ما جاء في الأضحية عن الميت، رقم (1495)

واخترنا أن يتصدق به في عشر ذي الحجة؛ لأنه الزمن الذي عين الموصي تنفيذ وصيته فيه، ولأن العشر أيام فاضلة، والعمل الصالح فيها محبوب إلى الله عز وجل، قال النبي صلي الله عليه وسلم: ((ما من أيام العمل الصالح فيها محبوب إلى الله من هذه الأيام العشر)) وقالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء)) (¬1) . (تنبيه عام) : يذكر بعض الموصين في وصيته قدراً معيناً للموصي به مثل أن يقول: يضحي عني ولو بلغت الأضحية ريالا. يقصد المغالاة في ثمنها؛ لأنها في وقت وصيته بربع ريال أو نحوه، فيقوم بعض من لا يخشى الله من الأوصياء فيعطل الوصية بحجة أن الريال لا يمكن أن يبلغ ثمن الأضحية الآن، وهذا حرام عليه، وهو آثم بذلك، ويجب تنفيذ الوصية بالأضحية، وإن بلغت آلاف الريالات مادام المغل يكفي لذلك؛ لأن مقصود الموصي معلوم، وهو المبالغة في قيمة الأضحية مهما زادت، وذكره الريال على سبيل التمثيل، لا على سبيل التحديد. ¬

(¬1) رواه البخاري، كتاب العيدين باب فضل العمل في أيام التشريق، رقم (969) وأبو داود، كتاب الصوم، باب في صوم العشر، رقم 02438) والترمذي، كتاب الصوم باب ما جاء في العمل في أيام العشر، رقم (757) وابن ماجه، كتاب الصيام، باب صيام العشر، رقم (1727) .

الفصل الثاني في وقت الأضحية

الفصل الثاني في وقت الأضحية الأضحية عبادة موقتة لا تجزئ قبل وقتها على كل حال، ولا تجزئ بعده إلا على سبيل القضاء إذا أخرها لعذر. وأول وقتها بعد صلاة العيد لمن يصلون كأهل البلدان، أو بعد قدرها من يوم العيد لمن لا يصلون كالمسافرين وأهل البادية، فمن ذبح قبل الصلاة فشاته شاة لحم، وليست بأضحية ويجب عليه ذبح بدلها على صفتها بعد الصلاة؛ لما روى البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله، وليس من النسك في شيء)) (¬1) ، وفيه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه، وأصاب سنة المسلمين)) (¬2) . وفيه أيضا عن جندب بن سفيان البجلي رضي الله عنه قال شهدت النبي صلى الله عليه وسلم قال ((من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى)) (¬3) . والأفضل أن يؤخر الذبح حتى تنتهي الخطبتان؛ لأن ذلك فعل النبي صل الله عليه وسلم، قال جندب بن سفيان البجلي رضي الله عنه: صلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر ثم خطب ثم ذبح. الحديث رواه البخاري (¬4) . والأفضل أن لا يذبح حتى يذبح الإمام إن كان الإمام يذبح في المصلى اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يذبح وينحر بالمصلى (¬5) . يعنى يبرز أضحيته عند المصلى العيد فيذبحها هناك؛ إظهاراً لشعائر الله، وليعلم الناس بالفعل كيفية ذبح الأضحية، وليسهل تناول الفقراء منها، وليس المعنى أنه ¬

(¬1) رواه البخاري، كتاب الأضاحي، باب سنة الأضحية، برقم (5545) / ومسلم، كتاب الأضاحي، باب وقتها، رقم (1961) (¬2) تقدم تخريجه (¬3) تقدم تخريجه (¬4) رواه البخاري، كتاب العيدين باب كلام الإمام والناس في خطبة العيد، رقم (985) . (¬5) رواه البخاري، كتاب العيدين باب النحر والذبح بالمصلي يوم العيد. رقم (982)

يذبحها في نفس المصلى؛ لأنه مسجد، والمسجد لا يلوث بالدم والفرث. وفي صحيح البخاري أيضا عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب يوم عيد الأضحى قال: فانكفأ إلى كبشين ـ يعنى فذبحهما ـ ثم انكفأ الناس إلى غنيمة فذبحوها (¬1) . وعن جابر رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر بالمدينة فتقدم رجال فنحروا وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نحر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان نحر قبله أن يعيد بنحر آخر، ولا ينحروا حتى ينحر النبي صلى الله عليه وسلم رواه أحمد ومسلم (¬2) . وينتهي وقت الأضحية بغروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق، وهو اليوم الثالث عشر من ذي الحجة، فيكون الذبح في أربعة أيام: يوم العيد، واليوم الحادي عشر، واليوم الثاني عشر، واليوم الثالث عشر. وثلاث ليال: ليلة الحادي عشر، وليلة الثاني عشر، وليلة الثالث عشر. هذا هو القول الراجح من أقوال أهل العلم، وبه قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه -في إحدى الروايتين عنه، قال ابن القيم: وهو مذهب إمام أهل البصرة الحسن البصري، وإمام أهل الشام الأوزاعي، وإمام فقهاء أهل الحديث الشافعي، واختاره ابن المنذر. قلت: واختاره الشيخ تقي الدين بن تيميه وهو ظاهر ترجيح ابن القيم لقوله تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ) (الحج: 28) (¬3) . قال ابن عباس رضي الله عنهما: الأيام المعلومات: يوم النحر، وثلاثة أيام بعده (¬4) . وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كل أيام التشريق ذبح)) رواه أحمد، والبيهقي، وابن حبان في صحيحه (¬5) ، وأعل بالانقطاع لكن يؤيده قوله صلى الله عليه وسلمً: ((أيام التشريق أكل وشرب وذكر لله عز وجل)) . رواه مسلم (¬6) . فجعل النبي صلى الله عليه وسلم باب هذه الأيام واحدا في كونها أيام ذكر لله عز وجل، وهذا يتناول الذكر المطلق والذكر المقيد على بهيمة الأنعام، ولأن هذه الأيام مشتركة في جميع ¬

(¬1) رواه البخاري، كتاب الأضاحي، باب من ذبح قبل الصلاة أعاد، رقم (5561) . (¬2) رواه مسلم، كتاب الأضاحي، باب سن الأضحية، (1964) وأحمد (3/294) (¬3) ذكر اسم الله على ذلك يتناول ذكر اسمه عند ذبحها وعند أكلها. (المؤلف) (¬4) رواه ابن حاتم في تفسيره (8/2489) (¬5) رواه أحمد (4/82) والبيهقي (9/256) ، وابن حبان (9/166) (¬6) رواه مسلم، كتاب الصيام/ باب تحريم صوم أيام التشريق، رقم (1141)

الأحكام ما عدا محل النزاع، فكلها أيام منى، وأيام رمي للجمار، وأيام ذكر لله وصيامها حرام، فما الذي يخرج الذبح عن ذلك حتى يختص منها باليومين الأولين؟ والذبح في النهار أفضل، ويجوز في الليل؛ لأن الأيام إذا أطلقت دخلت فيها الليالي، ولذلك دخلت الليالي في الأيام في الذكر حيث كانت وقتا له كما كان النهار وقتا له، فكذلك تدخل في الذبح فتكون وقتا له كالنهار. ولا يكره الذبح في الليل؛ لأنه لا دليل على الكراهة، والكراهة حكم شرعي يفتقر إلى دليل. وأما ما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الذبح ليلا، فقال في ((التلخيص)) : فيه سليمان بن سلمة الخبائري، وهو متروك (¬1) . وأما قول بعضهم: يكره الذبح ليلا خروجا من الخلاف؛ فالتعليل ليس حجة شرعية، قال شيخ الإسلام ابن تيمبة: تعليل الأحكام بالخلاف علة باطلة في نفس الأمر، فإن الخلاف ليس من الصفات التي يعلق الشارع بها الأحكام، فإنه وصف حادث بعد النبي صلى الله عليه وسلم ولكن يسلكه من لم يكن عارفا بالأدلة الشرعية في نفس الأمر لطلب الاحتياط. اهـ. وكثير من المسائل الخلافية لم يراع فيها جانب الخلاف، ولم يؤثر الخلاف فيها شيئا، وها هو الخلاف هنا ثابت في امتداد وقت ذبح الأضحية إلى ما بعد يوم النحر. ولم يقل القائلون بامتداده أنه يكره الذبح فيما بعد يوم العيد، لكن إن قوي دليل المخالف بحيث يثير شبهة؛ كانت مراعاته من باب: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) (¬2) . ¬

(¬1) ((تلخيص الحبير)) (4/142) (¬2) ذكره البخاري تعليقاً في كتاب البيوع، باب تفسير المشبهات، ورواه الترمذي من حديث حسن بن على مرفوعاً، كتاب صفة القيامة باب رقم (60) حديث رقم (2158) وصححه (6/153) .

الفصل الثالث في جنس ما يضحى به وعمن يجزئ؟

الفصل الثالث في جنس ما يضحى به وعمن يجزئ؟ الجنس الذي يضحى به: بهيمة الأنعام فقط لقوله تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ) (الحج: 34) . وبهيمة الأنعام هي: الإبل، والبقر، والغنم من ضأن ومعز، جزم به ابن كثير وقال: قاله الحسن وقتادة وغير واحد، قال ابن جرير: وكذلك هو عند العرب. اهـ. ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن)) . رواه مسلم (¬1) . والمسنة: الثنية فما فوقها من الإبل والبقر والغنم، قاله أهل العلم رحمهم الله. ولأن الأضحية عبادة كالهدي، فلا يشرع منها إلا ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه أهدى أو ضحى بغير الإبل والبقر والغنم. والأفضل منها: الإبل ثم البقر ثم الضأن ثم المعز ثم سبع البعير ثم سبع البقرة. والأفضل من كل جنس أسمنه، وأكثره لحما، وأكمله خلقة، وأحسنه منظراً، وفي ((صحيح البخاري)) عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي بكبشين أقرنين أملحين (¬2) . والأملح ما خالط بياضه سواد. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبش أقرن فحيل يأكل في سواد، وينظر في سواد، ويمشي في سواد. أخرجه الأربعة. وقال الترمذي: حسن صحيح (¬3) . وعن أبي رافع مولى ¬

(¬1) رواه مسلم كتاب الأضاحي باب سن الأضحية، رقم (1963) (¬2) تقدم تخريجه (¬3) رواه أبو داود، كتاب الضحايا باب ما يستحب من الضحايا، رقم (2796) ، والترمذي، كتاب الأضاحي باب ما يستحب من الأضاحي رقم (1496) ، والنسائي، كتاب الضحايا، باب الكبش رقم (4390) وابن ماجه كتاب الأضاحي باب ما يستحب من الأضاحي (3128) .

النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ضحى اشترى كبشين سمينين، وفي لفظ: موجوأين يعنى خصيين. رواه أحمد (¬1) . فالفحل أفضل من الخصي من حيث كمال الخلقة؛ لأن جميع أعضائه لم يفقد منها شيء، والخصي أفضل من حيث أنه أطيب لحما في الغالب. فصل وتجزئ الواحدة من الغنم عن الشخص الواحد، ويجزئ سبع البعير أو البقرة عما تجزئ عنه الواحدة من الغنم؛ لحديث جابر رضي الله عنه قال: نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة. رواه مسلم (¬2) . وفي رواية قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر، كل سبعة منا في بدنة (¬3) . ففي هذا دليل على أن سبع البعير أو البقرة قائم مقام الواحدة من الغنم، ومجزئ عما تجزئ عنه؛ لأن الواجب في الإحصار والتمتع هدي على كل واحد، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم البدنة عن سبعة فدل على أن سبعها يحل محل الواحدة من الغنم ويكون بدلا عنها والبدل له حكم المبدل. فأما اشترك عدد في واحدة من الغنم أو في سبع بعير أو بقرة؛ فعلى وجهين: الوجه الأول: الاشتراك في الثواب، بأن يكون مالك الأضحية واحد ويشرك معه غيره من المسلمين في ثوابها فهذا جائز مهما كثر الأشخاص فإن فضل الله واسع، وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها في قصة أضحيته بكبش قال لها: ((يا عائشة، هلمي المدية)) (يعني السكين) ثم قال: ((اشحذيها بحجر)) ففعلت، ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه ثم قال ((بسم الله، اللهم تقبل من محمد ومن آل محمد ومن أمة محمد)) ثم ضحي به (¬4) . وفي مسند الإمام أحمد من حديث عائشة وأبي رافع رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي بكبشين: أحدهما عنه وعن آله، والآخر عن أمته جميعا (¬5) . ¬

(¬1) رواه أحمد 06/22) وابن ماجه كتاب الاضاحي باب أضاحي رسول الله اصلى الله عليه وسلم رقم (3122) (¬2) رواه مسلم، كتاب الحج باب الاشتراك في الهدي، رقم (1318) (¬3) انظر الحديث السابق. (¬4) رواه مسلم، كتاب الأضاحي، باب استحباب الأضحية وذبحها مباشرة، رقم (1967) . (¬5) رواه أحمد (6/8)

ومن حديث جابر وأبي سعيد رضي الله عنهما يضحي بكبش عنه وعمن لم يضح من أمته (¬1) . وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: كان الرجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون، رواه ابن ماجه والترمذي وصححه (¬2) . فإذا ضحى الرجل بالشاة عنه وعن أهل بيته أو من شاء من المسلمين صح ذلك، وإذا ضحى بسبع البعير أو البقرة عنه وعن أهل بيته أو من شاء من المسلمين صح ذلك، لما سبق من أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل السبع منهما قائما مقام الشاة في الهدي، فكذلك في الأضحية ولا فرق. ومن تراجم صاحب ((المنتقى)) : باب أن البدنة من الإبل والبقر عن سبع شياه وبالعكس. وقال في كتابه المحرر: ويجزئ عن الشاة سبع من بدنة، وعن البدنة بقرة، وقال في ((الكافي)) في تعليل له: لأن كل سبع مقام شاة. الوجه الثاني: الاشتراك في الملك، بأن يشترك شخصان فأكثر في ملك أضحية ويضحيا بها، فهذا لا يجوز، ولا يصح أضحية إلا في الإبل والبقر إلى سبعة فقط، وذلك لأن الأضحية عبادة وقربة إلى الله تعالى، فلا يجوز إيقاعها ولا التعبد بها إلا على الوجه المشروع زمناً وعدداً وكيفية. فإن قيل: لماذا لا يصح وقد قال الله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (الزلزلة: 7) . وكما لو اشتركا في شراء لحم فتصدقا به ولكل منهما من الأجر بحسبه؟ فالجواب: أنه ليس المقصود من الأضحية مجرد اللحم للانتفاع أو الصدقة به، وإنما المقصود بالأضحية إقامة شعيرة من شعائر الله على الوجه الذي شرعه الله ورسوله، فوجب تقييدها بحسب ما جاء به الشرع، ولذلك فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين شاة اللحم وشاة النسك حيث قال: ((من ذبح قبل الصلاة فشاته شاة اللحم أو فهو لحم قدمه لأهله، ومن ذبح بعد الصلاة؛ فقد أصاب النسك ـ أو قال: فقد تم نسكه، وأصاب سنة المسلمين)) (¬3) ، كما فرق صلى الله عليه وسلم في زكاة الفطر بين ما دفع قبل الصلاة وما دفع بعدها، فالأول زكاة مقبولة، ¬

(¬1) رواه الترمذي، كتاب الاضاحي باب رقم (20) حديث رقم (1521) وأحمد (3/8، 3/356) . (¬2) تقدم تخريجه (¬3) سبق تخريجه

والثاني صدقة من الصدقات، مع أن كلا منهما صاع من طعام، لكن لما كان المدفوع قبل الصلاة على وفق الحدود الشرعية؛ كان زكاة مقبولة، ولما كان المدفوع بعدها على غير وفق الحدود الشرعية؛ لم يكن زكاة مقبولة، وهذه هي القاعدة العامة الشرعية. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)) (¬1) ، أي: مردود على صاحبه، وإن كانت نيته حسنة؛ لعموم الحديث. ولو كان التشريك في الملك جائزا في الأضحية بغير الإبل والبقر؛ لفعله الصحابة رضي الله عنهم؛ لقوة المقتضى لفعله فيهم، فإنهم كانوا أحرص الناس على الخير، وفيهم فقراء كثيرون قد لا يستطيعون ثمن الأضحية كاملة، ولو فعلوه لنقل عنهم؛ لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله لحاجة الأمة إليه. ولا أعلم في ذلك حديثا إلا ما رواه الإمام أحمد من حديث أبي الأشد عن أبيه عن جده قال: كنت سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرنا نجمع لكل واحد منا درهماً فاشترينا أضحية بسبعة دراهم فقلنا: يا رسول الله، لقد أغلينا بها فقال: ((إن أفضل الضحايا أغلاها وأسمنها)) فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ رجل برجل، ورجل برجل، ورجل بيد، ورجل بيد، ورجل بقرن، ورجل بقرن، وذبحها السابع وكبرنا عليها جميعا (¬2) . قال الهيثمي: أبو الأشد لم أجد من وثقه ولا من جرحه، وكذلك أبوه. اه،. وقال في بلوغ الأماني شرح ترتيب المسند)) : والظاهر أن هذه الأضحية كانت من البقر؛ لأن الكبش لا يجزئ عن سبعة، والبعير لا قرون له، والبقرة هي التي تجزئ عن سبعة ولها قرون، فتعين أن تكون من البقر والله أعلم. وما استظهره ظاهر، ويؤيده أن الكبش لا يحتاج أن يمسك به السبعة، وفي إمساكهم به عسر وضيق، ويكفي في إمساكه واحد، اللهم إلا أن يقال: إن تكلف إمساكهم به ليس من أجل استعصائه؛ بل من أجل أن يحصل اشتراك الجميع في ذبحه، والله أعلم. ونزل ابن القيم هذا الحديث على معنى آخر وهو أن هؤلاء السبعة كانوا رفقة واحدة فنزلهم النبي صلى الله عليه وسلم منزلة أهل البيت الواحد في إجزاء الشاة ¬

(¬1) رواه مسلم، كتاب الأضحية، باب نقض الأحاكم الباطلة، رقم (1718) (¬2) رواه أحمد (3/424)

عنهم. قلت: وفيه شيء؛ لأن أهل البيت لا يشتركون في الأضحية اشتراك ملك، وإنما يضحي الرجل عنه، وعن أهل بيته من ماله وحده فيتأدى به شعار الأضحية عن الجميع. وقد صرح الشافعية بمنع التشريك في الملك دون الثواب فقال النووي في ((المنهاج وشرحه)) : لو اشترك اثنان في شاة لم تجز، والأحاديث كذلك كحديث: ((اللهم هذا عن محمد، وآل محمد)) (¬1) ، على أن المراد التشريك في الثواب لا الأضحية. اهـ. وفي ((شرح المهذب)) : لو اشترك اثنان في شاتين للتضحية لم تجزئهما في أصح الوجهين، ولا يجزئ بعض شاة بلا خلاف بكل حال. اهـ. وحمل حديث: ((اللهم هذا عن محمد، وآل محمد)) ، محمولة على أن المراد التشريك في الثواب متعين وظاهر؛ فإن آل محمد صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يشاركونه في شرائها، وقد سبق في حديث أبي رافع قوله: فمكثنا سنين ليس لرجل من بني هاشم يضحي قد كفاه الله المؤونة برسول الله صلى الله عليه وسلم والغرم. وعلى هذا فإذا وجد وصايا لجماعة، كل واحد موص بأضحية ولم يكف المغل كل واحد منهم لأضحيته التي أوصى بها؛ فإنه لا يجوز جمع هذه الوصايا في أضحية واحدة لما عرفت من أنه لا يجوز اشتراك اثنين فأكثر اشتراك ملك في الأضحية إلا في الإبل والبقر. لكن لو اشترك شخصان فاكثر في واحدة من الغنم أو في سبع من بعير أو بقرة ليضحيا به عن شخص واحد؛ فالظاهر الجواز، فلو اشترى اثنان شاة أو كانا يملكانها بإرث أو هبة أو نحوهما ثم ضحيا بها عن أمهما أو عن أبيهما جاز، لأن الأضحية هنا لم تكن عن أكثر من واحد، وكما دفعا ثمنها إلى أمهما أو أبيهما فاشترى به أضحية فضحى بها؛ فهو جائز بلا ريب. وكذلك لو تعدد الموصون بالأضحية واتحد الموصى له بها ولم تكف غلة كل منهما لأضحيته؛ فالظاهر جواز جمع وصيتيهما مثل أن يوصي أخوان كل واحد منهما بأضحية لوالدتهما ثم لا تكفي غلة كل واحد منهما ¬

(¬1) سبق تخريجه

لأضحية كاملة فتجمع الوصيتان في أضحية واحدة قياسا على ما لو اشتركا في أضحية لها حال الحياة، وهذا ما ظهر لي في هذين الفرعين، والعلم عند الله سبحانه وتعالى.

الفصل الرابع في شروط ما يضحى به، وبيان العيوب المانعة من الإجزاء

الفصل الرابع في شروط ما يضحى به، وبيان العيوب المانعة من الإجزاء الأضحية عبادة وقربة إلى الله تعالى فلا تصح إلا بما يرضاه سبحانه، ولا يرضى الله من العبادات إلا ما جمع شرطين: أحدهما: الإخلاص لله تعالى، بأن يخلص النية له، فلا يقصد رياء ولا سمعة ولا رئاسة ولا جاهاً، ولا عرضاً من أعراض الدنيا، ولا تقربا إلى مخلوق. الثاني: المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) (البينة: 5) فإن لم تكن خالصة لله؛ فهي غير مقبولة، قال الله تعالى في الحديث القدسي: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، ومن عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)) (¬1) . وكذلك إن لم تكن على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي مردودة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)) (¬2) وفي رواية: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) (¬3) ، أي مردود. ولا تكن الأضحية على أمر النبي صلى الله عليه وسلم إلا باجتماع شروطها وانتفاء موانعها. وشروطها أنواع: منها ما يعود للوقت، ومنها ما يعود لعدد المضحين بها، وسبق تفصيل القول فيهما، ومنها ما يعود للمضحي به وهي أربعة: ¬

(¬1) رواه مسلم، كتاب الزهد والرقائق باب من أشرك في عمله غير الله، رقم (2985) (¬2) سبق تخريجه (¬3) رواه البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، رقم (2697) ، ومسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، رقم (1718)

الأول: أن يكون ملكا للمضحي غير متعلق به حق غيره، فلا تصح الأضحية بما لا يملكه؛ كالمغصوب والمسروق والمأخوذ بدعوى باطلة ونحوه؛ لأن الأضحية قربة إلى الله عز وجل، وأكل مال الغير بغير حق معصية، ولا يصح التقرب إلى الله بمعصية، ولا تصح الأضحية أيضا بما تعلق به حق الغير كالمرهون إلا برضا من له الحق، ونقل في ((المغني)) عن أبي حنيفة فيمن غصب شاة فذبحها عن الواجب عليه تجزئه إن رضي مالكها، ووجهه أنه إنما منع منها لحق الغير، فإذا علم رضاه بذلك زال المانع. الثاني: أن يكون من الجنس الذي عينه الشارع، وهو الإبل والبقر والغنم ضأنها ومعزها، وسبق بيان ذلك. الثالث: بلوغ السن المعتبر شرعا، بأن تكون ثنيا إن كان من الإبل أو البقر أو المعز، وجذعا إن كان من الضأن؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم ((لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن)) رواه مسلم (¬1) . وظاهره لا تجزئ الجذعة من الضأن إلا عند تعسر المسنة، ولكن حمله الجمهور على أن هذا على سبيل الأفضلية وقالوا: تجزئ الجذعة من الضأن ولو مع وجود الثنية وتيسرها، واستدلوا بحديث أم بلال ـ امرأة من أسلم ـ عن أبيها هلال عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يجوز الجذع من الضأن ضحية)) ، رواه أحمد وابن ماجه (¬2) وله شواهد منها: حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: ضحينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجذع من الضأن، رواه النسائي (¬3) ، قال في ((نيل الأوطار)) : إسناد رجاله ثقات. ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((نعم أو نعمت الأضحية الجذع من الضأن)) ، رواه أحمد والترمذي (¬4) . وفي ((الصحيحين)) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم بين أصحابه ضحايا فصارت لعقبة جذعة، فقال يا رسول الله، صارت لي جذعة، فقال: ((ضح بها)) (¬5) . ¬

(¬1) سبق تخريجه (¬2) رواه أحمد (6/368) وابن ماجه كتاب الأضاحي باب ما تجزئ من الأضاحي، رقم (3139) (¬3) رواه النسائ كتاب الضحايا، باب المسنة والجذعة، رقم (4382) (¬4) رواه الترمذي، كتاب الأضاحي، باب ما جاء في الجذع من الضان في الأضاحي، رقم 01499) ، وأحمد (2/445) (¬5) سبق تخريجه

فالثني من الإبل: ما تم له خمس سنين، والثني من البقر ما تم له سنتان، والثني من الغنم ضأنها ومعزها ما تم له سنة، والجذع من الضأن: ما تم له نصف سنة. الرابع: السلامة من العيوب المانعة من الإجزاء، وهي المذكورة في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أربع لا تجوز في الأضاحي ـ وفي رواية: لا تجزئ ـ: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ظلعها، والكسير التي لا تنقي)) . رواه الخمسة. وقال الترمذي: حسن صحيح (¬1) . والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم، وفي رواية للنسائي قلت: ـ يعني للبراء ـ فإني أكره أن يكون نقص في القرن، وفي أخري أكره أن يكون في القرن نقص، أو أن يكون في السن نقص، فقال ـ يعنى البراء ـ: ما كرهت فدعه ولا تحرمه على أحد (¬2) . وقد صحح النووي في ((شرح المهذب)) هذا الحديث وقال: قال أحمد بن حنبل: ما أحسنه من حديث، ورواه مالك في الموطأ)) عن البراء بن عازب بلفظ: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا يتقى من الضحايا؟ فأشار بيده وقال: ((أربعا: العرجاء البين ظلعها، والعوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء التي لا تنقي)) (¬3) وذكرت العجفاء في رواية الترمذي وفي رواية النسائي بدلا عن الكسير. فهذه أربع منصوص على منع الأضحية بها وعدم إجزائها. الأولى: العوراء البين عورها، وهي التي انخسفت عينها أو برزت، فإن كانت لا تبصر بعينها ولكن عورها غير بين أجزأت، والسليمة من ذلك أولى. الثانية: المريضة البين مرضها، وهي التي ظهر عليه آثار المرض مثل الحمى التي تقعدها عن المرعى، ومثل الجرب الظاهر المفسد للحمها أو المؤثر في صحتها، ونحو ذلك مما يعده الناس مرضا بينا، فإن كان فيها كسل أو فتور لا يمنعها من المرعى والأكل أجزأت لكن السلامة منه أولى. ¬

(¬1) رواه أبو داود، كتاب الضحايا، باب ما يكره من الضحايا، رقم (2802) ، والترمذي، كتاب الأضاحي باب ما لا يجوز من الأضاحي، رقم (1497) والنسائي، كتاب الضحايا باب ما نهي من الاضاحي، رقم (4369) ، وابن ماجه، كتاب الأضاحي، باب ما يكره أن يضحي به، رقم 03144) وأحمد (4/300) . (¬2) رواه النسائي، كتاب الضحايا، باب العرجاء رقم (4370) (¬3) رواه مالك في الموطأ، كتاب الضحايا (1)

الثالثة: العرجاء البين ظلعها، وهي التي لا تستطيع معانقة السليمة في الممشى، فإن كان فيها عرج يسير لا يمنعها من معانقة السليمة أجزأت، والسلامة منه أولى. الرابعة: الكسيرة أو العجفاء (يعنى الهزيلة) التي لا تنقي، أي ليس فيها مخ، فإن كانت هزيلة فيها مخ أو كسيرة فيها مخ أجزأت إلا أن يكون فيها عرج بين، والسمينة السليمة أولى. هذه هي الأربع المنصوص عليها، وعليها أهل العلم، قال في ((المغني)) : لا نعلم خلافا في أنها تمنع الإجزاء. اهـ. ويلحق بهذه الأربع ما كان بمعناها أو أولى، فيلحق بها: العمياء: التي لا تبصر بعينها؛ لأنها أولى بعدم الإجزاء من العوراء البين عورها. فأما العشواء التي تبصر في النهار، ولا تبصر في الليل فصرح الشافعية بأنها تجزئ؛ لأن في ذلك ليس عورا بينا ولا عمى دائما يؤثر في رعيها ونموها، ولكن السلامة منه أولى. الثانية: المبشومة حتى تثلط؛ لأن البشم عارض خطير كالمرض البين، فإذا ثلطت زال خطرها وأجزأت إن لم يحدث لها بذلك مرض بين. الثالثة: ما أخذتها الولادة حتى تنجو؛ لأن ذلك خطر قد يودي بحياتها، فأشبه المرض البين، ويحتمل أن تجزئ إذا كانت ولادتها على العادة ولم يمض عليها زمن يتغير به اللحم ويفسد. الرابعة: ما أصابها سبب الموت كالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع؛ لأن هذه أولى بعدم الإجزاء من المريضة البين مرضها، والعرجاء البين ظلعها.

الخامسة: الزمنى وهي العاجزة عن المشي لعاهة؛ لأنها أولى بعدم الإجزاء من العرجاء البين ظلعها. فأما العاجزة عن المشي لسمن فصرح المالكية بأنها تجزئ، لأنه لا عاهة فيها ولا نقص في لحمها. السادسة: مقطوعة إحدى اليدين أو الرجلين؛ لأنها أولى بعدم الإجزاء من العرجاء البين ظلعها، ولأنها ناقصة بعضو مقصود فأشبهت ما قطعت أليتها. هذه هي العيوب المانعة من الإجزاء وهي عشرة: أربعة منها بالنص وستة بالقياس، فمتى وجد واحد منها في بهيمة لم تجز التضحية بها؛ لفقد أحد الشروط وهو السلامة من العيوب المانعة من الإجزاء.

الفصل الخامس في العيوب المكروهة في الأضحية

الفصل الخامس في العيوب المكروهة في الأضحية ذكرنا في الفصل السابق العيوب المانعة من الإجزاء المنصوص عليها والمقيسة، وها نحن بعون الله نذكر العيوب المكروهة التي لا تمنع الإجزاء وهي: الأولي: العضباء، وهي مقطوعة القرن أو الأذن، لما روى قتادة عن جري بن كليب عن على بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي أن يضحي بأعضب الأذن والقرن. قال قتادة: فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب فقال: العضب: النصف فأكثر من ذلك. رواه الخمسة. وقال الترمذي: حسن صحيح (¬1) . قلت: جري بن كليب قال عنه في ((خلاصة التذهيب)) : روى عنه قتادة فقط. وقال أبو حاتم: لا يحتج به. اهـ. ولذلك قال في ((الفروع)) وفي صحة الخبر ـ يعنى خبر العضب ـ نظر. فأما مفقودة القرن والأذن بأصل الخلقة فلا تكره، لكن غيرها أولى. الثانية: المقابلة، وهي التي شقت أذنها من الأمام عرضاً. الثالثة: المدابرة، وهي التي شقت أذنها من الخلف عرضاً. الرابعة: الشرقاء، وهي التي شقت أذنها طولا. الخامسة: الخرقاء، وهي التي خرقت أذنها. لحديث على رضي الله عنه، قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف ¬

(¬1) رواه الترمذي، كتاب الأضاحي، باب في الضحية بعضباء القرن والأذن، رقم (1504)

العين والأذن، وأن لا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء. رواه الخمسة، وقال الترمذي: حسن صحيح (¬1) . وأخرجه ابن حبان والحاكم والبيهقي والبزار (¬2) ، وأعله الدارقطني، ونقل في ((عون المعبود)) عن البخاري أن هذا الحديث لم يثبت رفعه، والله أعلم. السادسة، المصفرة، وهي التي تستأصل أذنها حتى يبدو صماخها، وهكذا في الخبر، وفي ((التلخيص)) : أنها المهزولة، وذكرها في النهاية بقيل كذا وقيل كذا. السابعة: المستأصلة، وهي التي ذهب قرنها من أصله. الثامنة: البخقاء، وهي التي بخقت عينها، قال في ((النهاية)) : والبخق أن يذهب البصر وتبقى العين قائمة. وفي ((القاموس)) : البخق أقبح العور وأكثره غمصا، وعلى هذا فإذا كان البخق عورا بينا لم تجز كما يدل عليه حديث البراء السابق. التاسعة: المشيعة، وهي التي لا تتبع الغنم عجفاً وضعفا، تكون وراء الغنم كالمشيع للمسافر، وقيل بفتح الياء لحاجتها إلى من يشيعها لتلحق بالغنم، وهذه إن لم يكن فيها مخ فلا تجزئ لحديث البراء، وإن كان فيها مخ ولا تستطيع معانقة الغنم لم تجز أيضا؛ لأنها كالعرجاء البين ظلعها، وإن كانت تستطيع معانقة الغنم إذا زجرت فهي مكروهة؛ لحديث يزيد ذي مصر قال: أتيت عتبة بن عبد السلمي فقلت: يا أبا الوليد، إني خرجت ألتمس الضحايا فلم أجد شيئا يعجبني غير ثرماء فما تقول؟ . قال: ألا جئتني أضحي بها؟ قلت: سبحان الله، تجوز عنك ولا تجوز عني. قال نعم، إنك تشك ولا أشك، إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المصفرة والمستأصلة والبخقاء والمشيعة، والكسراء، فالمصفرة التي تستأصل أذنها حتى يبدو صماخها، والمستأصلة التي ذهب قرنها من أصله، والبخقاء التي تبخق عينها، والمشيعة التي لا تتبع الغنم عجفاء وضعفا، والكسراء التي لا تنقي، رواه أحمد وأبو داود والبخاري في تاريخه، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم ¬

(¬1) رواه أحمد (1/149) والترمذي، كتاب الأضاحي، باب ما يكره من الأضاحي، رقم (1498) ، والنسائي في (الكبري) رقم (4462) وابن ماجه، كتاب الأضاحي، باب ما يكره أن يضحي به، رقم (3142، 3143) . (¬2) رواه البزار (2/321) والحاكم (4/249) والبيهقي (9/275) .

يخرجاه (¬1) . وقوله: والكسراء التي لا تنفي سبق ذكرها في العيوب المانعة من الإجزاء. وإنما قلنا: هذه العيوب التسعة مكروهة لورود النهي أو الأمر بعدم التضحية بما عاب بها، ولم نقل: إنها مانعة من الإجزاء؛ لأن حديث البراء بن عازب رضي الله عنه خرج مخرج البيان والحصر؛ لأنه جواب سؤال، والظاهر أنه كان حال خطبة وإعلان، ولو كان غير العيوب المذكورة فيه مانعاً من الإجزاء؛ للزم ذكره لامتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة، فالجمع بينه وبين هذه الأحاديث لا يتأتى إلا على هذا الوجه بأن نقول: العيوب المذكورة في حديث البراء مانعة من الإجزاء، والعيوب المذكورة في هذه الأحاديث موجبة للكراهة غير مانعة من الإجزاء لما يقتضيه سياق حديث البراء؛ ولأنها دون العيوب المذكورة فيه، وقد فهم الترمذي رحمه الله ذلك فترجم على حديث البراء: (باب ما لا يجوز من الأضاحي) وعلى حديث علي: (باب ما يكره من الأضاحي) . ويلحق بهذه العيوب المكروهة ما يأتي: الأولى: البتراء من الإبل والبقر والمعز، وهي التي قطع ذنبها، فتكره التضحية بها قياسا على العضباء؛ لأن في الذنب مصلحة كبيرة للحيوان ودفاعا عما يؤذيه، وجمالا لمؤخره، وفي قطعه فوات هذه الأمور. فأما البتراء بأصل الخلقة فلا تكره لكن غيرها أولى. وأما البتراء من الضأن وهي التي قطعت أليتها أو أكثرها فلا تجزئ؛ لأن ذلك نقص بين في جزء مقصود منها. فأما إن قطع من أليتها النصف فأقل فإنها تجزئ مع الكراهة قياسا على العضباء، قال الشافعية: إلا التطريف وهو قطع شي يسير من طرف الألية، فإنه لا يضر؛ لأن ذلك ينجبر بزيادة سمنها فأشبه الخصاء. وأما مفقودة الألية بأصل الخلقة فإن كانت من جنس لا ألية له في ¬

(¬1) رواه أحمد (4/185) وأبو داود، كتاب الضحايا باب ما يكره من الضحايا، رقم (2803) ، والحاكم (4/250)

العادة أجزأت بدون كراهة؛ لأنها لا نقص فيها عن جنسها، وإن كانت من جنس له ألية في العادة لكن لم يخلق لها أجزأت، وفي الكراهة تردد؛ لأننا إذا نظرنا إليها باعتبار جنسها قلنا: إنها ناقصة بفقد جزء مقصود لكن لا يمنع الإجزاء لأنه بأصل الخلقة، وإذا نظرنا إليها باعتبار الخلقة قلنا: إنها ناقصة فلم تكره كالجماء. وعلى كل حال فغيرها أولى منها. الثانية: ما قطع ذكره فتكره التضحية به قياسا على العضباء، فأما ما قطعت خصيتاه فلا تكره التضحية به لما سبق من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى به، ولأن الخصاء يزيد في سمنه وطيب لحمه. الثالثة: الهتماء، وهي التي سقط بعض أسنانها، فتكره التضحية بها قياسا على عضباء القرن، فإن في الأسنان جمالا ومنفعة، ففقد شيء منها يخل بذلك. فإن فقد شيء منها بأصل الخلقة لم تكره إلا أن يؤثر ذلك في اعتلافها. الرابعة: ما قطع شيء من حلمات ضرعها، فتكره التضحية بها قياساً على العضباء. فإن فقد شيء منها بأصل الخلقة لم تكره قياسا على المخلوقة بلا أذن. وإن توقف ضرعها عن الدر فنشف لبنها أجزأت بلا كراهة؛ لأنه لا نقص في لحمها ولا في خلقتها، واللبن غير مقصود في الأضحية، والأصل الإجزاء وعدم الكراهة حتى يقوم دليل على خلاف ذلك. هذه هي العيوب المكروهة التي يوجب وجودها في الأضحية كراهة التضحية بها، ولا يمنع من إجزائها وهي ثلاثة عشر: تسعة منها ورد بها النص، وأربعة منها رأيناها مقيسة على ما ورد به النص، وأسأل الله تعالى أن نكون فيها موفقين للصواب هداة مهتدين.

الفصل السادس فيما تتعين به الأضحية وأحكامه

الفصل السادس فيما تتعين به الأضحية وأحكامه تتعين الأضحية أضحية بواحد من أمرين: أحدهما: اللفظ بتعيينها أضحية بأن يقول: هذه أضحية قاصدا بذلك إنشاء تعيينها. فأما إن قصد الإخبار عما سيصرفها إليه في المستقبل؛ فإنها لا تتعين بذلك؛ لأن هذا إخبار عما في نيته أن يفعل، وليس للتعيين. الثاني: ذبحها بنية الأضحية، فمتى ذبحها بنية الأضحية؛ ثبت لها حكم الأضحية، وإن لم يتلفظ بذلك قبل الذبح، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وهو مذهب الشافعي، أعني أن الأضحية تتعين بأحد هذين الأمرين، وزاد شيخ الإسلام ابن تيمية أمراً ثالثاً وهو: الشراء بنية الأضحية، فإذا اشتراها بنية الأضحية تعينت، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة. والأول أرجح كما لو اشترى عبداً يريد عتقه فإنه لا يعتق، وكما لو اشترى بيتا ليجعله وقفا؛ فإنه لا يصير وقفا بمجرد النية، وكما لو أخرج من جيبه دراهم ليتصدق بها؛ فإنها لا تتعين الصدقة بها بل هو بالخيار إن شاء أنفذها وإن شاء منعها. ويستثني من ذلك ما إذا اشترى أضحية بدلاً عن معينة فإنها تتعين بمجرد الشراء مع النية. وإذا تعينت أضحية تعلق بذلك أحكام: أحدها: أنه لا يجوز نقل الملك فيها ببيع ولا هبة ولا غيرهما إلا أن

يبدلها بخير منها، أو يبيعها ليشتري خيراً منها فيضحي به. وإن مات من عينها لم يملك الورثة إبطال تعيينها، ولزمهم ذبحها أضحية، ويفرقون منها ويأكلون. الثاني: أنه لا يجوز أن يتصرف فيها تصرفا مطلقا، فلا يستعملها في حرث ونحوه، ولا يركبها بدون حاجة ولا مع ضرر، ولا يحلب من لبنها ما فيه نقص عليها أو يحتاجه ولدها المتعين معها. ولا يجز شيئا من صوفها ونحوه إلا أن يكون أنفع لها، وإذا جزه فليتصدق به أو ينتفع، والصدقة أفضل. الثالث: أنها إذا تعيبت عيباً يمنع الإجزاء فله حالان: الحال الأولى: أن يكون ذلك بدون فعل منه ولا تفريط؛ فيذبحها وتجزئه إلا أن تكون واجبة في ذمته قبل التعيين؛ لأنها أمانة عنده، فإذا تعيبت بدون فعل منه ولا تفريط فلا حرج عليه. مثال ذلك: أن يشتري شاةً فيعينها أضحية، ثم تعثر وتنكسر بدون سبب منه فيذبحها وتجزئه أضحية. فإن كانت واجبة في ذمته قبل التعيين كما لو نذر أن يضحي ثم عين عن نذره شاة فتعيبت بدون فعل من ولا تفريط وجب عليه إبدالها بسليمة تجزئ عما في ذمته؛ لأن ذمته مشغولة بأضحية سليمة قبل أن يعينها، فلا يخرج من عهدة الواجب إلا بأضحية سليمة. الحال الثانية: أن يكون تعيبها بفعله أو تفريط؛ فيلزمه إبدالها بمثلها على كل حال، سواء كانت واجبة في ذمته قبل التعيين أم لا، وسواء كانت بقدر ما يجزئ في الأضحية أو أعلى منه. مثال ذلك: أن يشتري شاة سمينة فيعينها أضحية ثم يربطها برباط ضيق كان سببا في كسرها فتنكسر؛ فيلزمه إبدالها بشاة سمينة يضحي بها. وإذا ضحى بالبدل فهل يلزمه ذبح المتعيب أيضا، أو يعود ملكا له؟ على روايتين عن أحمد:

إحداهما: يلزمه ذبح المتعيب، وهو المذهب المشهور عند الأصحاب لتعلق حق الفقراء فيه يتعيينه. الثانية: لا يلزمه ذبحه لبراءة ذمته بذبح بدله، فلم يضع حق الفقراء فيه، وهذا هو القول الراجح، اختاره الموفق والشارح وغيرهما، وعلى هذا فيعود المتعيب ملكا له يصنع فيه ما شاء من أكل وبيع وهدية وصدقة وغير ذلك. الرابع: أنها ضلت (ضاعت) أو سرقت فثم حالان: الحال الأولى: أن يكون ذلك بدون تفريط منه فلا ضمان عليه إلا أن تكون واجبة في ذمته قبل التعيين؛ لأنها أمانة عنده، والأمين لا ضمان عليه إذا لم يفرط، لكن متى وجدها أو استنقذها من السارق؛ لزمه ذبحها ولو فات وقت الذبح، وإن كانت واجبة في ذمته قبل التعيين وجب عليه ذبح بدلها على أقل ما تبرأ به الذمة كما سبق، فإن وجدها أو استنقذها من السارق بعد ذبح بدلها لم يلزمه ذبحها لبراءة ذمته، وسقوط حق الفقراء بذبح البدل، لكن إن كان البدل الذي ذبحه أنقص لزمه الصدقة بأرش النقص؛ لتعلق حق الفقراء به، والله أعلم. الحال الثانية: أن يكون ذلك بتفريط منه فيلزمه إبدالها بمثلها على كل حال، أي سواء كانت واجبة في ذمته قبل التعيين أو لا، وسواء كانت بقدر ما يجزئ في الأضحية أم أعلى منه. مثال ذلك: اشترى شاة فعينها أضحية، ثم وضعها في مكان غير محرز فسرقت أو خرجت فضاعت؛ فيلزمه إبدالها بأضحية مثلها على صفتها، وإن شاء أعلى منها. وإذا ضحى بالبدل ثم وجدها أو استنقذها من السارق؛ عادت ملكا له يصنع بها ما شاء من بيع وهبة وصدقة وغير ذلك؛ لأنه برئت ذمته بذبح بدلها، وسقط به حق الفقراء. الخامس: أنها إذا تلفت فلها ثلاث حالات:

الحال الأولى: ان يكون تلفها بأمر لا صنع للآدمي فيه؛ كمرض أو آفة سماوية أو سبب تفعله هي، فلا يلزمه بدلها إلا أن تكون واجبة في ذمته قبل التعيين؛ لأنها أمانة عنده، والأمين لا ضمان عليه في مثل ذلك، فإن كانت واجبة في ذمته قبل التعيين؛ لزمه ذبح بدلها على أقل ما تبرأ به ذمته، وإن شاء أعلى منه. الحال الثانية: أن يكون تلفها بفعل مالكها، فيلزمه ذبح بدلها على صفتها بكل حال، أي سواء كانت واجبة في ذمته قبل التعيين أم لا، وسواء كانت بقدر ما يجزئ في الأضحية أم أعلى منه؛ لقول النبى صلى الله عليه وسلم: ((من ذبح قبل أن يصلى فليعد مكانها أخرى)) (¬1) وكما لو تعيبت بفعله فيلزمه بدلها على صفتها كما سبق. الحال الثالثة: أن يكون تلفها بفعل آدمي غير مالكها، فإن كان لا يمكن تضمينه كقطاع الطريق؛ فحكمه حكم تلفها بأمر لا صنع للآدمي فيه على ما سبق في الحال الأولى. وإن كان يمكن تضمينه كشخص معين ذبحها فأكلها، فإنه يلزمه ضمانها بمثلها يدفعه إلى مالكها ليضحي به، وقيل: يلزمه ضمانها بالقيمة، والأول أصح، فإن الحيوان يضمن بمثله على القول الراجح؛ لما روى البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه بعيرا ـ وفي رواية فأغلظ له ـ فهم به أصحابه فقال: ((دعوه، فإن لصاحب الحق مقالاً، واشتروا له بعيرا فأعطوه إياه، وقالوا: لا نجد إلا أفضل من سنه، قال: اشتروا له وأعطوه إياه، فإن خيركم أحسنكم قضاء)) (¬2) . ولمسلم نحوه (¬3) ولو كان البدل الواجب في الحيوان قيمته لم يعدل النبي صلى الله عليه وسلم عنها، ولم يكلفهم الشراء له. السادس: أنها إذا ذبحت قبل وقت الذبح ولو بنية الأضحية؛ فحكمه حكم إتلافها على ما سبق، وإن ذبحت في وقت الذبح فإن كان الذابح صاحبها أو وكيله؛ فقد وقعت موقعها. وإن كان الذبح غير صاحبها ولا وكيله؛ فله ثلاث حالات: الحال الأولى: أن ينويها عن صاحبها، فإن رضي صاحبها بذلك أجزأت بلا ريب، وإن لم يرض أجزأت أيضا على المشهور من مذهب أحمد والشافعي وأبي حنيفة، ونقل في المغني عن مالك أنها لا ¬

(¬1) سبق تخريجه (¬2) رواه البخاري، كتاب الاستقراض، باب استقراض الإبل، رقم (2390) (¬3) رواه مسلم، كتاب المساقاة، باب من استسلف شيئاً فقضى خيراً منه، رقم (1601)

تجزئ، وعلى هذا فينبغي أن يلزم الذابح ضمانها بمثلها يدفعه إلى مالكها ليضحي به كالإتلاف، ويكون اللحم للذابح إلا أن يرضى صاحبها بأخذه مع الأرش وهو فرق ما بين قيمتها حية ومذبوحة، فيملكه ويذبح بدلها. الحال الثانية: أن ينويها عن نفسه لا عن صاحبها، فإن كان يعلم أنها أضحية غيره لم تجز عنه ولا عن صاحبها؛ لأنه غاضب معتد فلا يكون فعله قربة، ويلزمه ضمانها بمثلها يدفعه إلى صاحبها ليضحي به وقيل: تجزئ عن صاحبها إلغاء لنية الذابح دون فعله، وعلى هذا فلا يضمن إلا ما فرق من اللحم، وإن كان لا يعلم أنها أضحية غيره؛ أجزأت عن صاحبها بكل حال، وقيل: إن فرق لحمها لم تجز عن واحد منهما، والأول أظهر؛ لأن تفرقه اللحم لا أثر لها في الإجزاء وعدمه؛ بدليل ما لو ذبحها ثم سرقت قبل تفريقها فإنها تجزئ. نعم تفريق اللحم له أثر في الضمان وعدمه، فإنه إذا فرق اللحم؛ لزمه ضمانه لصاحبها ما لم يرض بتفريقه إياه. الحال الثالثة: أن يذبحها مع الإطلاق؛ فلا ينويها عن صاحبها ولا عن نفسه، فتجزئ عن صاحبها أيضا؛ لأنها معينة من قبله، وقيل: لا تجزئ عن واحد منهما. (تنبيه) : في حال إجزاء المذبوح عن صاحبه فيما سبق، إن كان اللحم باقيا أخذه صاحبه وفرقه أضحية، وإن كان الذابح قد فرقه تفريق أضحية ورضي به صاحبها، فقد وقع الموقع، وإن لم يرض ضمنه لصاحبه ليفرقه بنفسه. (تنبيه ثان) محل ما ذكر من التفصيل إن قلنا بحل ما ذكاه الغير بغير إذن مالكه، وإلا فلا تجزئ بكل حال وعليه الضمان. (تتمه) : قال الأصحاب: وإن ضحى اثنان كل منهما بأضحية الآخر عن نفسه غلظاً كفتهما ولا ضمان، فإن فرقاً اللحم؛ فقد وقع موقعه وإلا تراداه ليفرق كل واحد منهما لحم أضحيته.

(فائدتان) : (الأولى) : إذا تلفت بعد الذبح أو سرقت أو أخذها من لا تمكن مطالبته، ولم يفرط صاحبها فلا ضمان عليه، وإن فرط ضمن ما تجب به الصدقة منها قط. (الثانية) : إذا ولدت بعد التعيين فحكم ولدها حكمها في جميع ما تقدم سواء حملت به بعد التعيين أم قبله، وأما ما ولدته قبل التعيين فهو مستقل في حكم نفسه فلا يتبع أمه.

الفصل السابع فيما يؤكل منها وما يفرق

الفصل السابع فيما يؤكل منها وما يفرق قال الله تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) (الحج: 28) ، وقال تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ) (الحج: 34) وقال النبي صلى الله عليه وسلم ((كلوا وادخروا وتصدقوا)) . رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها (¬1) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كلوا وأطعموا وادخروا)) . رواه البخاري من حديث سلمة بن الأكوع (¬2) ، وهو أعم من الأول؛ لأن الإطعام يشمل الصدقة على الفقراء والهدية للأغنياء، وقال أبو بردة للنبي صلى الله عليه وسلم: إني عجلت نسيكتي لأطعم أهلي وجيراني وأهل داري ـ أي أهل محلتي (¬3) . وليس في هذه الآية والأحاديث نص في مقدار ما يؤكل ويتصدق به ويهدى، ولذلك اختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ في مقدار ذلك، فقال الإمام أحمد: نحن نذهب إلى حديث عبد الله: يأكل هو الثلث، ويطعم من أراد الثلث، ويتصدق بالثلث على المساكين، وقال الشافعي: أحب أن لا يتجاوز بالأكل والادخار الثلث، وأن يهدي الثلث، ويتصدق بالثلث، ويعني الإمام أحمد بحديث عبد الله ما ذكره علقمة قال بعث معي عبد الله ـ يعني ابن مسعود ـ بهدية فأمرني أن آكل ثلثا، وأن أرسل إلى أهل أخيه عتبة بثلث، وأن أتصدق بثلث (¬4) ، وعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: الضحايا والهدايا: ثلث لك، وثلث لأهلك، وثلث للمساكين. ومراده بالأهل: الأقارب الذين لا تعولهم، نقل هذين الأثرين في ((المغني)) ثم قال: ولنا ما روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في صفة أضحية النبي صلى الله عليه وسلم قال: ويطعم أهل بيته الثلث، ¬

(¬1) رواه مسلم، كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي، رقم (1971) (¬2) رواه البخاري، كتاب الأضاحي، باب ما يؤكل من لحوم الاضاحي وما يتزود منها، رقم (5569) (¬3) رواه مسلم، كتاب الأضاحي، باب وقتها، رقم (1961) (¬4) تفسير ابن أبي حاتم (8/2489)

ويطعم فقراء جيرانه الثلث، ويتصدق على السؤال بالثلث. رواه الحافظ أبو موسى الأصفهاني في الوظائف وقال: حديث حسن؛ ولأنه قول ابن مسعود وابن عمر، ولم نعرف لهما مخالفا في الصحابة فكان إجماع. اهـ. والقول القديم للشافعي يأكل النصف، ويتصدق بالنصف؛ لقوله تعالى: (ِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) (الحج: من الآية28) فجعلها بين اثنين فدل على أنها بينهما نصفين قال في ((المغني)) : والأمر في ذلك واسع، فلو تصدق بها كلها أو بأكثرها جاز، وإن أكلها إلا أوقية تصدق بها جاز. وقال أصحاب الشافعي: يجوز أكلها كلها. أه. وما ذكرناه من الأكل والإهداء؛ فعلى سبيل الاستحباب لا الوجوب، وذهب بعض العلماء إلى وجوب الأكل منها، ومنع الصدقة بجميعها لظاهر الآية والأحاديث، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في حجة الوداع من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر فطبخت، فأكل من لحمها وشرب من مرقها. رواه مسلم من حديث جابر (¬1) . ويجوز ادخار ما يجوز أكله منها؛ لأن النهي عن الادخار منها فوق ثلاث منسوخ على قول الجمهور، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: بل حكمه باق عند وجود سببه وهو المجاعة؛ لحديث سلمة بن الأكوع ـ رضي الله عنه ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة وفي بيته منه شيء)) ، فلما كان العام المقبل قالوا يا رسول الله، نفعل كما فعلنا في العام الماضي، فقال صلى الله عليه وسلم: ((كلوا وأطعموا وادخروا، فإن ذلك العام كان الناس في جهد فأردت أن تعينوا فيها)) . متفق عليه (¬2) . فإذا كان في الناس مجاعة زمن الأضحى؛ حرم الادخار فوق ثلاث وإلا فلا بأس به. ولا فرق فيما سبق من الأكل والصدقة والإهداء من لحوم الأضاحي بين الأضحية الواجبة والتطوع، ولا بين الأضحية عن الميت أو الحي، ولا بين الأضحية التي ذبحها من عنده أو التي ذبحها لغيره بوصية، فإن الموصى إليه يقوم مقام الموصي في الأكل والإهداء والصدقة، فأما الوكيل عن الحي ¬

(¬1) رواه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم رقم 01218) (¬2) سبق تخريجه

فإن أذن له الموكل في ذلك أو دلت القرينة أو العرف عليه فعله، وإلا سلمها للموكل كاملة وهو الذي يقوم بتوزيعها. ويحرم أن يبيع شيئا منها من لحم أو شحم أو دهن أو جلد أو غيره؛ لأنها مال أخرجه لله فلا يجوز الرجوع فيه كالصدقة، ولا يعطي الجازر شيئا منها في مقابلة أجرته أو بعضها؛ لأن ذلك بمعنى البيع. فأما من أهدي له شيء منها أو تصدق به عليه فله أن يتصرف فيه بما شاء من بيع وغيره؛ لأنه ملكه ملكا تاما فجاز له التصرف فيه، وفي ((الصحيحين)) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيته فدعا بطعام فأتي بخبز وأدم من أدم البيت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألم أر البرمة فيها لحم؟)) قالوا: بلى، ولكن ذلك لحم تصدق به على بريرة وأنت لا تأكل الصدقة، قال ((عليها صدقة ولنا هدية)) وفي لفظ البخاري: ((ولكنه لحم تصدق به على بريرة فأهدته لنا)) ولمسلم: ((هو عليها صدقة، وهو منها لنا هدية)) (¬1) . لكن لا يشتريه من أهداه أو تصدق به؛ لأنه نوع من الرجوع في الهبة والصدقة، وفي ((الصحيحين)) عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال: حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده فأردت أن أشتريه منه وظننت أنه بائعه برخص، فسألت عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال ((لا تشتره وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه)) (¬2) فإن عاد إلى من أهداه أو تصدق به بإرث مثل أن يهدي إلى قريب له أو يتصدق عليه ثم يموت فيرثه من أهداه أو تصدق به، فإنه يعود إليه ملكا تاما يتصرف فيه كما شاء على وجه مباح؛ لما رواه مسلم عن بريدة ـ رضي الله عنه ـ أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، (1620) إني تصدقت على أمي بجارية وإنها ماتت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وجب أجرك وردها عليك الميراث)) (¬3) . ¬

(¬1) رواه البخاري، كتاب النكاح، باب الحرة تحت العبد، رقم (5097) ومسلم، كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، رقم (1504) (¬2) رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب هل يشتري صدقته؟ رقم (1490) ، ومسلم كتاب الهبات، باب كراهة شراء الإنسان ما تصدق به، رقم (1620) . (¬3) رواه مسلم، كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت، رقم (1149)

الفصل الثامن فيما يجتنبه من أراد الأضحية

الفصل الثامن فيما يجتنبه من أراد الأضحية عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا رأيتم هلال ذي الحجة ـ وفي لفظ: إذا دخلت العشر ـ وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره)) . رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه (¬1) ، وفي لفظ لمسلم وأبي داود والنسائي (¬2) : ((فلا يأخذ من شعره شيئا حتى يضحي)) ، ولمسلم والنسائي أيضا وابن ماجه (¬3) : ((فلا يمس من شعره ولا بشره شيئا)) . ففي هذا الحديث النهي عن أخذ شيء من الشعر أو الظفر أو البشرة ممن أراد أن يضحي من دخول شهر ذي الحجة حتى يضحي، فإن دخل العشر وهو لا يريد الأضحية ثم أرادها في أثناء العشر أمسك عن أخذ ذلك منذ إرادته، ولا يضره ما أخذ قبل إرادته. وقد اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في هذا النهي، هل هو للكراهة أو للتحريم؟ والأصح أنه للتحريم؛ لأنه الأصل في النهي ولا دليل يصرفه عنه، ولكن لا فدية فيه إذا أخذه لعدم الدليل على ذلك. والحكمة في هذا النهي ـ والله أعلم ـ أنه لما كان المضحي مشاركا للمحرم في بعض أعمال النسك، وهو التقرب إلى الله بذبح القربان، كان من الحكمة أن يعطى بعض أحكامه، وقد قال الله في المحرمين: (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) (البقرة: 196) . وقيل: الحكمة أن يبقى المضحي كامل الأجزاء للعتق من النار، ¬

(¬1) رواه مسلم، باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة وهو مريد التضحية أن يأخذ من شعره ... ، رقم (1977) ، وأبو داود، كتاب الضحايا، باب الرجل يأخذ من شعره في العشر، رقم (2791) ، والترمذي، كتاب الأضاحي، باب ترك أخذ الشعر لمن أراد أن يضحي، رقم (1523) والنسائي، كتاب الضحايا، باب رقم (1) حديث رقم (4361) وابن ماجه كتاب الاضاحي، باب من أراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ... ، رقم (3149) ، وأحمد (6/289) . (¬2) انظر تخريج الحديث السابق. (¬3) رواه مسلم، كتاب الأضاحي، باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة ... ، رقم (1977) ، والنسائي، كتاب الضحايا، باب رقم (1) حديث رقم (4364) ، وابن ماجه، كتاب الأضاحي، باب من أراد أن يضحي فلا يأخذ في العشر من شعره..، رقم (3149)

ولعل قائل ذلك استند إلى ما ورد من أن الله تعالى يعتق من النار بكل عضو من الأضحية عضوا من المضحي، لكن هذا الحديث قال ابن الصلاح: غير معروف ولم نجد له سندا يثبت به، ثم هو منقوض بما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أيما رجل مسلم أعتق امرأً مسلما استنقذ الله بكل عضو منه عضوا منه من النار)) (¬1) ولم ينه من أراد العتق عن أخذ شيء من شعره وظفره وبشرته حتى يعتق. وقيل: الحكمة: التشبه بالمحرم، وفيه نظر، فإن المضحي لا يحرم عليه الطيب والنكاح والصيد واللباس المحرم على المحرم، فهو مخالف للمحرم في أكثر الأحكام، ثم رأيت ابن القيم أشار إلى أن الحكمة توفير الشعر والظفر ليأخذه مع الأضحية، فيكون ذلك من تمام الأضحية عند الله وكمال التعبد بها، والله أعلم. (تنبيه) : يتوهم بعض العامة أن من أراد الأضحية ثم أخذ من شعره أو ظفره أو بشرته شيئا في أيام العشر؛ لم تقبل أضحيته، وهذا خطأ بين، فلا علاقة بين قبول الأضحية والأخذ مما ذكر، لكن من أخذ بدون عذر فقد خالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإمساك، ووقع فيما نهى عنه من الأخذ، فعليه أن يستغفر الله ويتوب إليه ولا يعود، وأما أضحيته فلا يمنع قبولها أخذه من ذلك. وأما من احتاج إلى أخذ الشعر والظفر والبشرة فأخذها فلا حرج عليه، مثل أن يكون به جرح فيحتاج إلى قص الشعر عنه، أو ينكسر ظفره فيؤذيه فيقص ما يتأذى به، أو تتدلى قشرة من جلده فتؤذيه فيقصها، فلا حرج عليه في ذلك كله. (تنبيه ثان) : ظاهر الحديث وكلام أهل العلم أن نهي المضحي عن أخذ الشعر والظفر والبشرة يشمل ما إذا نوى الأضحية عن نفسه أو تبرع بها عن غيره، وهو كذلك، وذكر بعض المحشين من أصحابنا أن من تبرع بالأضحية عن غيره لا يشمله النهي، وما ذكرناه أولى وأحوط. فأما من ضحى عن غيره بوكالة أو وصية؛ فلا يشمله النهي بلا ريب. ¬

(¬1) رواه البخاري، كتاب العتق، باب في العتق وفضله، رقم (2517) ، ومسلم، كتاب العتق، رقم (1509)

وأما من يضحى عنه فظاهر الحديث وكلام كثير من أهل العلم أن النهي لا يشمله، فيجوز له الأخذ من شعره وظفره وبشرته، ويؤيد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي عن آل محمد ولم ينقل أنه كان ينهاهم عن ذلك، وذكر المتأخرون من أصحابنا أنه يشمل المضحى عنه، فلا يأخذ من شعره ولا ظفره ولا بشرته من دخول شهر ذي الحجة، أو من حين يعلم أنه سيضحى عنه إن كان لم يعلم حتى تذبح الأضحية وذلك لأنه مشارك للمضحي في الثواب، فشاركه في الحكم، والله أعلم.

الفصل التاسع في الذكاة وشروطها

الفصل التاسع في الذكاة وشروطها أخرنا الكلام عن الذكاة وشروطها وما يتعلق بها؛ لأن أحكامها عامة في الأضحية وغيرها. الذكاة: نحر الحيوان البري الحلال أو ذبحه أو جرحه في أي موضع من بدنه. فالنحر للإبل، والذبح لما سواها، والجرح لكل ما لا يقدر عليه إلا به من إبل وغيرها. ويشترط لحل الحيوان بالذكاة شروط تسعة: الأول: أن يكون المذكي ممن يمكن منه قصد التذكية، وهو المميز العاقل، فلا يحل ما ذكاه صغير دون التمييز، ولا هرم ذهب تمييزه، والتمييز فهم الخطاب والجواب بالصواب. ولا يحل ما ذكاه مجنون وسكران ومبرسم ونحوهم؛ لعدم إمكان القصد من هؤلاء. وإنما اشترط إمكان القصد؛ لأن الله أضاف التذكية إلى المخاطبين في قوله: (إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ) (المائدة: 3) وهو ظاهر في إرادة الفعل، ومن لا يمكن منه القصد تمكن منه الإرادة. الشرط الثاني: أن يكون المذكي مسلما أو كتابيا، وهو من ينتسب لدين اليهود أو النصارى. فأما المسلم فيحل ما ذكاه وإن كان فاسقا أو مبتدعا

ببدعة غير مكفرة، أو صبيا مميزاً، أو امرأة؛ لعموم الأدلة وعدم المخصص، قال في ((المغني)) عن ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إباحة ذبيحة المرأة والصبي، قال: وقد روي أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى غنما بسلع فأصيبت شاة منها فأدركتها فذكتها بحجر، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال (كلوها) (¬1) متفق عليه. قال: وفي هذا الحديث فوائد سبع: إحداها: إباحة ذبيحة المرأة. الثانية: إباحة ذبيحة الأمة. الثالثة: إباحة ذبيحة الحائض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل. الرابعة: إباحة الذبح بحجر. الخامسة: إباحة ذبح ما خيف عليه الموت. السادسة: حل ما يذبحه غير مالكه بغير أذنه. السابعة: إباحة ذبحه لغير مالكه عند الخوف عليه. اهـ. قلت: وفائدة ثامنة: وهي إباحة ذبح الجنب. وتاسعة: وهي أن الأصل في تصرفات من يصح تصرفه الحل والصحة حيث لم يسأل: أذكرت اسم الله عليها أم لا، وزاد في ((شرح المنتهى)) حل ذبيحة الفاسق والأقلف (¬2) فتكون الفوائد إحدى عشرة. وقول الشيخ رحمه الله في ((المغني)) : السادسة: حل ما يذبحه غير مالكه بغير إذنه، إن كان مراده بالغير من كان أمينا عليه أو ذبحه لمصلحة مالكه فمسلم وواضح، وإن كان مراده ما يشمل الغاصب ونحوه؛ ففيه خلاف يأتي إن شاء الله، والحديث المذكور لا يدل على حل ما ذكاه ولا عدمه؛ لأن الذكاة فيه واقعة من الجارية التي ترعى الغنم وهي أمينة عليها، ثم إنها لمصلحة مالكها أيضا. وقوله: السابعة: إباحة ذبحه لغير مالكه عند الخوف عليه: إن أراد به الإباحة المطلقة التي تقتضي أن يكون مستوي الطرفين، ففيه نظر، وإن أراد ¬

(¬1) رواه البخاري، كتاب الوكالة، باب إذا أبصر الراعي أو الوكيل شاة تموت ... ، رقم (2304) . (¬2) الأقلف: هو الذي لم يختن سمي بذلك لأن قلفته لم تقطع.

الإباحة في المنع فلا تنافي الوجوب فمسلم، وذلك أن الأمين إذا رأى فيما اؤتمن عليه خوف ضياع أو تلف وجب عليه أن يتدارك ذلك؛ لأنه مؤتمن عليه، يجب عليه فعل الأصلح، ففي مثل هذه الصورة يجب على الراعي تذكيتها؛ لأنه أصلح الأمرين، وهو أمين مقبول قوله في خوف التلف، أما غير الأمين فلا يجب عليه ذلك إن خاف تبعة، والله أعلم. ومقتضى ما سبق حل ذكاة الأقلف بدون كراهة، وهو ظاهر النصوص وإطلاق كثير من أصحابنا منهم صاحب المنتهى، ونقل في المغني عن ابن عباس: لا تؤكل ذبيحة الأقلف، وأن عن الإمام أحمد مثله، قال في ((الرعاية)) : وعنه تكره ذبيحة الأقلف والجنب والحائض والنفساء، وجزم بكراهة ذكاة الأقلف في ((الإقناع)) . وأما الكتابي: فيحل ما ذكاه بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله ـ تعالى ـ: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) (المائدة: 5) قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: طعامهم ذبائحهم، وروي ذلك عن مجاهد وسعيد والحسن وغيرهم. وأما السنة: ففي صحيح مسلم عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها. الحديث (¬1) . وفي مسند الإمام عن أنس أيضا أن يهوديا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خبز شعير وإهالة سنخة فأجابه (¬2) . والإهالة السنخة: الشحم المذاب إذا تغيرت رائحته، وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مغفل قال: كنا محاصرين قصر خيبر فرمى إنسان بجراب فيه شحم، وفي صحيح مسلم قال: فالتزمته فقلت: لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا، فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مبتسما (¬3) . وأما الإجماع: فقد حكى إجماع المسلمين على حل ذبائح أهل الكتاب غير واحد من العلماء، منهم صاحب ((المغني)) وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن كثير في تفسيره، قال شيخ الإسلام: ومن المعلوم أن حل ذبائحهم ونسائهم ثبت بالكتاب والسنة والإجماع، قال: وما زال المسلمون في كل ¬

(¬1) رواه البخاري، كتاب الهبة، باب قبول الهدية من المشركين، رقم (2617) ، ومسلم كتاب الطب، باب السم، رقم (2190) (¬2) رواه أحمد (3/210) (¬3) رواه البخاري، كتاب فرض الخمس، باب ما يصيب من الطعام في أرض الحرب، رقم (3153) ، ومسلم، كتاب الجهاد والسير باب أخذ الطعام من أرض العدو، رقم (1772)

عصر ومصر يأكلون ذبائحهم، فمن خالف ذلك؛ فقد أنكر إجماع المسلمين. اهـ. واختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ: هل يشترط لحل ما ذكاه الكتابي أن يكون أبواه كتابيين، أو أن المعتبر هو بنفسه بقطع النظر عن أبويه؟ فالمشهور من المذهب أن ذلك شرط، وانه لا يحل ما ذكاه كتابي أبوه أو أمه من المجوس أو نحوهم، والصحيح أن ذلك ليس بشرط، وأن المعتبر هو بنفسه، فإذا كان كتابيا؛ حل ما ذكاه، وإن كان أبواه أو أحدهما من غير أهل الكتاب، قال شيخ الإسلام ابن تيميه: الصواب المقطوع به أن كون الرجل كتابيا أو غير كتابي هو حكم يستفيده بنفسه لا بنسبه، فكل من تدين بدين أهل الكتاب؛ فهو منهم سواء كان أبوه أو جده داخلا في دينهم، أو لم يدخل، وسواء كان دخوله قبل النسخ والتبديل أو بعد ذلك، وهذا مذهب جمهور العلماء كأبي حنيفة ومالك والمنصوص الصريح عن أحمد وإن كان في ذلك بين أصحابه نزاع معروف وهذا القول هو الثابت عن الصحابة، ـ رضي الله عنهم ـ ولا أعلم في ذلك بينهم نزاعا، وقد ذكر الطحاوى أن هذا إجماع قديم. اهـ. وأما غير الكتابي فلا يحل ما ذكاه؛ لمفهوم قوله تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) (المائدة: 5) . قال الخازن في تفسيره: أجمعوا على تحريم ذبائح المجوس وسائر أهل الشرك من مشركي العرب وعبدة الأصنام ومن لا كتاب له، وقال الإمام أحمد: لا أعلم أحدا قال بخلافه إلا أن يكون صاحب بدعة. الشرط الثالث: أن يقصد التذكية، فإن لم يقصد التذكية؛ لم تحل الذبيحة، مثل أن تصول عليه بهيمة فيذبحها للدفاع عن نفسه فقط، أو يريد قطع شيء فتصيب السكين حلق بهيمة فلا تحل؛ لقوله ـ تعالى ـ: (إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ) (المائدة: 3) فأضاف الفعل إلى المخاطبين، وهو فعل خاص (تذكية) فيحتاج إلى نيته؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) (¬1) . وهل يشترط مع ذلك أن يقصد الأكل؟ على قولين: أحدهما: لا يشترط فلو ذكاها لإراحتها أو تنفيذا ليمين حلف به كقوله: والله لأذبحن هذه الشاة، فذبحها لتنفيذ يمينه فقط حلت لعموم الأدلة. القول الثاني: أنه يشترط، اختاره الشيخ ¬

(¬1) رواه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف بدء الوحي إلى رسول الله ... ، رقم (1) ومسلم، كتاب الجهاد، باب قوله النبي صلى الله عليه وعلي آله وسلم: ((إنما الأعمال بالنية)) رقم (1907) .

تقي الدين فقال: وإذا لم يقصد المذكي الأكل أو قصد حل يمينه لم تبح الذبيحة. اهـ. وفي ((سنن النسائي)) عن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((ما من إنسان قتل عصفوراً فما فوق بغير حقها إلا سأله الله عز وجل عنها)) وفي رواية: ((عنها يوم القيامة)) قيل يا رسول الله، فما حقها؟ قال ((حقها أن تذبحها فتأكلها، ولا تقطع رأسها فترمي بها)) (¬1) ، وله من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((من قتل عصفوراً عبثا عج إلى الله يوم القيامة يقول: إن فلانا قتلني عبثا، ولم يقتلني لمنفعة)) (¬2) . ونقل صاحب الفروع عن صاحب الفنون وهو ابن عقيل الحنبلي أن بعض المالكية قال له: الصيد فرجة ونزهة ميتة لعدم قصد الأكل، قال: وما أحسن ما قال؛ لأنه عبث محرم، ولا أحد أحق بهذا من مذهب أحمد حيث جعل في إحدى الروايتين كل حظر في مقصود شرعي يمنع صحته. اهـ. الشرط الرابع: أن لا يذبح لغير الله، مثل أن يذبح تقربا لصنم أو وثن أو صاحب قبر، أو يذبح تعظيما لملك أو رئيس أو وزير أو وجيه أو والد أو غيرهم من المخلوقين، فإن ذبح لغير الله لم يحل وإن ذكر اسم الله عليه؛ لقوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) إلى قوله تعالى: (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) (المائدة: 3) وقول النبي صلى الله عليه وسلم ((لعن الله من ذبح لغير الله) . رواه مسلم من حديث على بن أبي طالب رضي الله عنه (¬3) . الشرط الخامس: ألا يهل لغير الله به، بأن يذكر عليه اسم غير الله مثل أن يقول: باسم النبي، أو باسم جبريل، أو باسم الحزب الفلاني، أو الشعب الفلاني، أو الملك، أو الرئيس، أو نحو ذلك، فإن ذكر عليه اسم غير الله لم يحل وإن ذبح لله أو ذكر معه اسمه؛ لقوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) (المائدة: 3) إلى قوله تعالى: (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) وقد ذكر ابن كثير في تفسير الإجماع على تحريم ما أهل لغير الله به. الشرط السادس: أن يسمي الله عليها؛ لقوله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) (الأنعام: 118) ، وقوله (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ¬

(¬1) رواه النسائي، كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة أكل العصافير، رقم (4349) (¬2) رواه النسائي، كتاب الضحايا، باب من قتل عصفوراً بغير حقها، رقم (4446) (¬3) رواه مسلم، كتاب الأضاحي، باب تحريم الذبح لغير الله، رقم (1978)

اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) (الأنعام: 121) وقول النبي صلى الله عليه وسلم ((ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا)) . أخرجه الجماعة واللفظ للبخاري (¬1) . فشرط النبي صلى الله عليه وسلم للحل ذكر اسم الله عليه مع إنهار الدم. ويشترط أن تكون التسمية عند إرادة الذبح، فلو فصل بينهما وبين الذبح بفاصل كثير لم تنفع؛ لقوله ـ تعالى ـ: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) (الأنعام 18) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((وذكر اسم الله عليه)) وكلمة (عَلَيْهِ) تدل على حضوره وأن التسمية تكون عند الفعل، ولأن التسمية ذكر مشترط لفعل فاعتبر اقترانها به لتصح نسبتها إليه، لكن لو كان الفصل من أجل تهيئة الذبيحة كاضجاعها واخذ السكين لم يضر ما دام يريد التسمية على الذبح لا على فعل التهيئة، قياسا على ما لو فصل بين أعضاء الوضوء لأمر يتعلق بالطهارة. ويشترط أن تكون بلفظ بسم الله، فلو قال بسم الرحمن أو باسم رب العالمين لم تجز، هذا هو المشهور من المذهب، والصواب أنه إذا أضاف التسمية إلى ما يختص بالله كالرحمن ورب العالمين ومنزل الكتاب وخالق الناس أو إلى ما يشركه فيه غيره وينصرف إليه تعالى عند الإطلاق ونواه به، كالمولى والعظيم ونحوهما مثل أن يقول: باسم الرحمن أو باسم العظيم وينوي به الله؛ فإنه يجزئ لحصول المقصود بذلك، والله أعلم. ويعتبر أن تكون التسمية على ما أراد ذبحه، فلو سمى على شاة ثم تركها إلى غيرها أعاد التسمية، وأما تغيير الآلة فلا يضر، فلو سمى وبيده سكين ثم ألقاه وذبح بغيرها فلا بأس. واختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ فيما إذا ترك التسمية على الذبيحة فهل تحل الذبيحة؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تحل سواء ترك التسمية عالما ذاكرا أم جاهلا ناسيا، وهو مذهب الشافعي بناء على أن التسمية سنة ولا شرط. الثاني: أنها تحل إن تركها نسيانا، ولا تحل إن تركها عمدا ولو جاهلا، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في المشهور عنه، وهنا فرقوا بين ¬

(¬1) رواه البخاري، كتاب الشركة، باب قسمة الغنم، رقم (2488) ، ومسلم، كتاب الأضاحي، باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم إلا السن..، رقم 01968) ، وأبو داود، كتاب الضحايا، باب في الذبيحة بالمروة، رقم (2821 والترمذي، كتاب الصيد، باب ما جاء في الذكاة بالقصب وغيره، رقم (1491) والنسائي، كتاب الضحايا، باب ذكر المنفلتة التي لا يقدر على أخذها، رقم (4409، 4410) ، وابن ماجه، كتاب الذبائح، باب ما يذكي به، رقم (3178)

النسيان والجهل، فقالوا: إن ترك التسمية ناسياً حلت الذبيحة، وإن تركها جاهلا لم تحل، كما فرق أصحابنا بين الذبيحة والصيد، فقالوا في الذبيحة كما ترى، وقالوا في الصيد: إن ترك التسمية عليه لم يحل سواء تركها عالما ذاكرا أم جاهلاً ناسيا. القول الثالث: أنها لا تحل سواء ترك التسمية عالما ذاكرا أم جاهلا ناسيا، وهو إحدى الروايتين عن أحمد قدمه في الفروع، واختاره أبو الخطاب في خلافه وشيخ الإسلام ابن تيمية وقال: إنه قول غير واحد من السلف. وهذا هو القول الصحيح؛ لقوله تعالى ـ: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) (الأنعام: 121) ، وهذا عام، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ((ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا)) (¬1) ، فقرن بين إنهار الدم وذكر اسم الله على الذبيحة في شرط الحل، فكما أنه لو لم ينهر الدم ناسيا أو جاهلا لم تحل الذبيحة، فكذلك إذا لم يسم؛ لأنهما شرطان قرن بينهما النبي صلى الله عليه وسلم في جملة واحدة، فلا يمكن التفريق بينهما إلا بدليل صحيح، ولأن التسمية شرط وجودي، والشرط الوجودي لا يسقط بالنسيان كما لو صلى بغير وضوء ناسيا، فإن صلاته لا تصح، وكما لو رمى صيدا بغير تسمية ناسيا، فإن الصيد لا يحل عند المفرقين بين الذبيحة والصيد، كما لو ذبح بغير تسمية جاهلا، فإن الذبيحة لا تحل عند المفرقين بين الجهل والنسيان، مع الجهل عذر مقرون بالنسيان في الكتاب والسنة ومساو له، وربما يكون أحق بكونه عذرا؛ كجهل حديث العهد بالإسلام الذي لم يمض عليه زمن يتمكن من العلم. فإن قيل: ما الجواب عن قوله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (البقرة: 286) ، وقد فعل سبحانه وتعالى، وقوله تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُم) (الأحزاب: 5) والجاهل مخطئ، والناسي لم يتعمد قلبه، وقد رفع الله عنهما المؤاخذة والجناح. قلنا: الجواب: أننا نقول بمقتضى هاتين الآيتين الكريمتين ولا نعدو قول ربنا، فمن ترك التسمية على الذبيحة ناسيا أو جاهلا فلا مؤاخذة عليه ولا جناح، لكن لا يلزم من انتفائهما عنه حل ذبيحته، فإن حل ذبيحته أثر ¬

(¬1) سبق تخريجه

حكم وضعي حيث إنه مرتب على شرط يوجد بوجوده وينتفى بانتفائه، وأما المؤاخذة والجناح فهما أثر حكم تكليفي من شرطه الذكر والعلم، فلذلك انتفيا بانتفائهما. يوضح ذلك: أنه لو صلى بغير وضوء ناسيا فلا مؤاخذة عليه ولا جناح، ولا يلزم من انتفائهما عنه صحة صلاته، فصلاته باطلة وإن كان ناسيا لفقد شرطها الوجودي وهو الوضوء. ويوضح ذلك أيضا: أنه لو ذبحها في غير محل الذبح ناسيا أو جاهلا فلا مؤاخذة عليه ولا جناح، ولا يلزم من انتفائهما عنه حل ذبيحته، فذبيحته حرام لفقد شرطها الوجودي، وهو إنهار الدم في محل الذبح. فإن قيل: ما الجواب عما ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها: أن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قوما يأتوننا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال: ((سموا عليه أنتم وكلوه)) قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر (¬1) . قلنا: الجواب: أننا نقول بمقتضى هذا الحديث، وأنه لو أتانا من تحل ذكاته من مسلم أو كتابي بلحم حل لنا أكله وإن كنا لا ندري هل ذكر اسم الله عليه أو لا، لأن الأصل في التصرفات الواقعة من أهلها الصحة حتى يقوم دليل الفساد، ولسنا مخاطبين بفعل غيرنا، وإنما نخاطب بفعلنا نحن، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك حيث قال: ((سموا عليه أنتم وكلوه)) كأنه يقول: أنتم مخاطبون بالتسمية عند فعلكم وهو الأكل، فسموا عليه، وأما الذبح والتسمية عليه فمخاطب به غيركم، فعليكم ما حملتم وعليهم ما حملوا، وليس يعني أن تسميتكم هذه تغني عن التسمية على الذبح، وذلك لأن الذبح قد فات. وليس في الحديث دليل على سقوط التسمية بالجهل، ولا على أنها ليست بشرط لحل الذبيحة؛ لأنه ليس فيه أنهم تركوا التسمية فأحل لهم النبي صلى الله عليه وسلم اللحم، وإنما فيه أنهم لا يدرون أذكروا اسم الله عليه أم لا، والأصل أن الفعل وقع على الصحة، بل قد يقال: إن في الحديث دليلا على أن ¬

(¬1) رواه البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب ذبيحة الأعراب ونحوهم، رقم (5507)

التسمية شرط لحل الذبيحة، وأنه لابد منها، وإلا لما أشكل حكم هذا اللحم على الصحابة حتى سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عنه، ثم لو كانت التسمية غير شرط أو كانت تسقط في مثل هذه الحال لقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: وما يضركم إذا تركوها أو نحو هذا الكلام؛ لأنه أبين وابلغ في إظهار الحكم وسقوط التسمية، ولم يرشدهم إلى ما ينبغي أن يعتنوا به وهو التسمية على فعلهم. فإن قيل: ما الجواب عن الآثار التي احتج بها من لا يرى أن التسمية شرط لحل الذبيحة أو أنها تسقط بالنسيان؟ قلنا: الجواب: أن هذه الآثار لا تصح مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هي موقوفة على بعض الصحابة على ما في أسانيدها من مقال، فلا يعارض بها ظاهر الكتاب والسنة. فإن قيل: ما الجواب عما قاله ابن جرير رحمه الله من أن القول بتحريم ما لم يذكر اسم الله عليه نسيانا خارج عما عليه الحجة مجمعة من تحليله، يعني أن الإجماع على تحليل ما لم يذكر اسم الله عليه نسيانا؛ فالقول بتحريمه خارج عن الإجماع؟ قلنا: الجواب عليه: أنه مدفوع بما نقله غيره من الخلاف فيه، فقد قال شيخ الإسلام: إن القول بالتحريم قول غير واحد من السلف، وقد قال ابن كثير: إنه مروي عن ابن عمر ونافع مولاه وعامر الشعبي ومحمد بن سيرين، وهو رواية عن الإمام مالك ورواية عن أحمد ابن حنبل، نصرها طائفة من أصحابه المتقدمين والمتأخرين، وهو اختيار أبي ثور وداود الظاهري، واختار ذلك أبو الفتوح محمد بن محمد بن على الطائي من متأخري الشافعية في كتابه ((الأربعين)) ، قال ابن الجوزي: وإلى هذا المعنى ذهب عبد الله بن يزيد الخطمي. قلت: واختاره ابن حزم وذكر أدلته، وأجاب عن الآثار المروية في الحل. فإن قيل: إن تحريمها إضاعة للمال، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال.

فالجواب: أن الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عليها ليست بمال؛ لأنها ميتة حيث لم تذك ذكاة شرعية لفقد شرط من شروط الذكاة، فليس تحريمها بإضاعة للمال، وإنما هو امتثال وطاعة لله تعالى في قوله: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) (الأنعام: 121) على أن تحريم أكلها لا يمنع من الانتفاع بشحمها وودكها على وجه لا يتعدى كطلي السفن وإيقاد المصابيح ونحو ذلك، فعن ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: مر النبي صلى الله عليه وسلم بشاة يجرونها، فقال: ((لو أخذتم إهابها)) فقالوا: إنها ميتة. قال: ((يطهرها الماء والقرظ)) أخرجه أبو داود النسائي (¬1) ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دبغ الإهاب فقد طهر)) . رواه مسلم (¬2) . وعنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بشاة ميتة فقال: ((هلا استمتعتم بإهابها)) قالوا: إنها ميتة. قال: ((إنما حرم أكلها)) . رواه البخاري (¬3) . فإن قيل: إن في تحريمها حرجا وتضييقا على الناس حيث يكثر نسيان التسمية فيكثر ما يضيع عليهم من أموالهم، وقد نفى الله سبحانه الحرج في الدين فقال تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: 78) . فالجواب: أننا نقول بمقتضى هذه الآية الكريمة، وأن دين الإسلام ليس فيه ـ ولله الحمد ـ حرج ولا ضيق، فكل شيء أمر الله به؛ فلا حرج في فعله، وكل شيء نهى الله عنه؛ فلا حرج في تركه لمن قويت عزيمته، وصحت رغبته في دين الله، وها هو الجهاد أمر الله به وهو من أشق شيء على النفوس من حيث طبيعتها لما فيه من عرض الرقاب للسيوف وترك الأموال والأولاد والمألوف، ومع هذا نفى بعد الأمر به أن يكون قد جعل علينا في الدين حرجاً فقال تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: 78) ، وأي حرج في اجتناب ذبيحة لم يذكر اسم الله عليها يتركها طاعة لربه في قوله (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْه) وهو ليس مضطراً إليها، ولو اضطر إليها في مخمصة غير متجانف لإثم لو سعته رحمة ربه وحلت له. ثم إن في تحريم الذبيحة إذا لم يذكر اسم الله عليها نسيانا تقليلا ¬

(¬1) رواه أبو داود، كتاب اللباس، باب في أهب الميتة، رقم (4126) ، والنسائي، كتاب الفرع والعتيرة، باب ما يدبغ به جلود الميتة، رقم (4248) . (¬2) رواه مسلم، كتاب الحيض، باب طهارة جلود الميتة بالدباغ، رقم (366) (¬3) رواه البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب جلود الميتة، رقم (5531)

للنسيان، فإن الإنسان إذا حرمها بعد أن ذبحها وتشوفت نفسه لها من أجل أنه لم يسم الله عليها؛ فسوف ينتبه في المستقبل ولا ينسى التسمية. وبعد، فإنما أطلنا الكلام في هذا لأهميته؛ ولأن الإنسان ربما لا يظن أن القول بتحريم الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عليها نسيانا يبلغ إلى هذا المكان من القوة، والله الموفق. (تتمه) يشترط التلفظ بالتسمية إلا مع العجز عن النطق، فتكفي الإشارة. الشرط السابع: أن تكون الذكاة بمحدد ينهر الدم غير سن وظفر من حديد وحجر وخشب وزجاج وغيرها، لحديث رافع بن خديج رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ما لم يكن سناً أو ظفراً، وسأحدثكم عن ذلك، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة)) رواه الجماعة (¬1) . وقوله ((وسأحدثكم عن ذلك)) إلى آخره زعم ابن القطان أنها مدرجة، نقله ابن حجر في ((الدراية)) وهذا الزعم مردود بما جاء في بعض روايات البخاري بلفظ: ((غير السن والظفر، فإن السن عظم، والظفر مدى الحبشة)) ، وبأن الأصل عدم الإدراج، فلا يصار إليه إلا بدليل لفظي أو معنوي. فإن ذبحها بغير محدد مثل أن يقتلها بالخنق أو بالصعق الكهربائي أو غيره، أو بالصدم أو بضرب الرأس ونحوه حتى تموت لم تحل، وإن ذبحها بالسن أو بالظفر لم تحل وإن جرى دمها بذلك. وظاهر الحديث لا فرق في السن والظفر بين أن يكونا متصلين أو منفصلين من آدمي أو غيره للعموم، خلافا للحنفية حيث خصوه بالمتصل وقالوا: إنه الواقع من فعل الحبشة، وظاهر تعليلهم أنه خاص بظفر الآدمي، قال في ((المغني)) ردا عليهم: ولنا عموم حديث رافع، ولأن ما لم تجز الذكاة به متصلا لم تجز به منفصلا كغير المحدد. اهـ. وفي تشبيهه بغير المحدد غموض. وقد علل النبي صلى الله عليه وسلم منع الذكاة بالسن بأنه عظم، فاختلف العلماء ¬

(¬1) سبق تخريجه

رحمهم الله هل الحكم خاص في محله وهو السن أو عام في جميع العظام لعموم علته على قولين: أحدهما: أنه خاص في محله وهو السن، وأما ما عداه من العظام فتحل الذكاة به، وهو مذهب أبي حنيفة والمشهور من مذهب أحمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو أراد العموم لقال غير العظم والظفر لكونه أخصر وأبين، والنبي صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم ومفاتيح البيان، ولأننا لا نعلم وجه الحكمة في تأثير العظم فكيف نعدي الحكم مع الجهل. الثاني: أن الحكم عام في جميع العظام، لعموم العلة، وهو قول الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد؛ لأن النص على العلة يدل على أنها مناط الحكم، متى وجدت وجد الحكم، وتخصيص السن بالذكر قد يكون من أجل أنه عادة يرتكبها بعض الناس بالتذكية به، ثم أشار إلى عموم الحكم بذكر العلة، أو يقال: إن تعليله بكونه عظما يدل على أنه كان من المتقرر عندهم أن العظام لا يذكى بها، وهذا القول أحوط. وأما كوننا لا نعلم وجه الحكمة في تأثير العظم، فهذا لا يمنع من تعدية الحكم إلى ما ينطبق عليه اسم العظم؛ لأنه معلوم على أنه يمكن أن يقال: وجه الحكمة: أنه إن كان العظم طاهرا فهو طعام إخواننا من الجن، ففي الذبح به تلويث له بالنجاسة، وإن كان العظم نجسا فليس من الحكمة أن يكون وسيلة للذكاة التي بها تطهير الحيوان وطيبه للتضاد، والله أعلم. وأما الظفر: فعلله النبي صلى الله عليه وسلم بمدى الحبشة، وظاهر التعليل مشكل إن قلنا: أن الحكم عام بعموم علته؛ لأنه يقتضي منع الذكاة بما يختص به الحبشة من المدى ولو كان حديدا أو خشبا أو نحوهما مما تجوز الذكاة به. والأقرب عندي: أن الأصل في ذلك أن الحبشة كانوا يذبحون بأظافرهم، فنهى الشارع عن ذلك؛ لأنه يقتضي مخالفة الفطرة من وجهين: أحدهما: أنه يستلزم توفير الأظافر ليذبح بها، وهذا مخالف للفطرة التي هي تقليم الأظافر.

الثاني: أن في القتل بالظفر مشابهة لسباع البهائم والطيور التي فضلنا عليها ونهينا عن التشبه به، ولذلك تجد الإنسان لا يشبه البهائم إلا في مقام الذم. الشرط الثامن: إنهار الدم، أي إجراؤه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل)) (¬1) وله حالان: الحال الأولى: أن يكون المذكي غير مقدور عليه، مثل أن يهرب أو يسقط في بئر أو في مكان سحيق لا يمكن الوصول إليه، أو يدخل مقدمه في غار بحيث لا يمكن الوصول إلى رقبته أو نحو ذلك فيكفي في هذه الحال إنهار الدم في أي موضع كان من بدنه حتى يموت، والأولى أن يتحرى أسرع شيء في موته، وفي ((الصحيحين)) من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة فأصابوا إبلاً وغنماً فند منها بعير فرماه رجل فحبسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن لهذه الإبل أوابد الوحش، فإذا غلبكم منها شيء فاصنعوا به هكذا)) (¬2) . وفي لفظ لمسلم: فند علينا بعير منها فرميناه بالنبل حتى وهصناه. وهصناه (¬3) : رميناه رميا شديدا حتى سقط على الأرض، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما أعجزك من البهائم مما في يديك فهو كالصيد، وفي بعير تردى في بئر من حيث قدرت عليه فذكه. رواه البخاري تعليقا. قال: ورأى ذلك علي وابن عمر وعائشة (¬4) . الحال الثانية: أن يكون مقدوراً عليه بحيث يكون حاضرا أو يمكن إحضاره بين يدي المذكي، فيشترط أن يكون الإنهار في موضع معين وهو الرقبة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: الذكاة في الحلق واللبة. وقال عطاء: لا ذبح ولا نحر إلا في المذبح والمنحر، ذكره البخاري عنهما تعليقا. وتمام ذلك بقطع أربعة أشياء وهي: 1ـ الحلقوم، وهو مجرى النفس، وفي قطعه حبس النفس الذي لا بقاء للحيوان مع انحباسه. ¬

(¬1) سبق تخريجه (¬2) سبق تخريجه (¬3) رواه مسلم، كتاب الأضاحي، باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم إلا ... رقم (1968) (¬4) صحيح البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب ما ند من البهائم فهو بمنزلة الوحش.

2ـ المريء، وهو مجرى الطعام والشراب، وفي قطعه منع وصول الغذاء إلى الحيوان من طريقه المعتاد. 3، 4 ـ الودجان، وهما عرقان غليظان محيطان بالحلقوم والمريء، وفي قطعهما تفريغ الدم الذي به بقاء الحيوان حيا وتنقية الحيوان من انحباس الدم الضار فيه بعد الموت. فمتى قطعت هذه الأشياء الأربعة؛ حلت المذكاة بإجماع أهل العلم، ثم اختلفوا: فقال بعضهم: لابد من قطع الأربعة كلها، ونقله النووي عن الليث وداود وقال: اختاره ابن المنذر. قلت: هو رواية عن أحمد نقلها في ((المغني)) و ((الإنصاف)) وقال: اختاره أبو بكر وابن البناء، وجزم به في الروضة، واختاره أبو محمد الجوزي، قال في ((الكافي)) : الأولى قطع الجميع. القول الثاني: لابد من قطع ثلاثة معينة وهي إما (الحلقوم والودجان) كما هو مذهب مالك، ونقله في الإنصاف عن الإيضاح. وإما (المريء والودجان) نقله في (الإنصاف) عن كتاب الإشارة. القول الثالث: لابد من قطع ثلاثة: اثنان منهما على التعيين وواحد غير معين، وهي الحلقوم والمريء وأحد الودجين وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد، وأحد القولين في مذهب أبي حنيفة. القول الرابع: لابد من قطع ثلاثة بدون تعيين وهي: إما (الحلقوم والودجان) ، وإما (المريء والودجان) ، وإما (الحلقوم والمريء وأحد الودجين) وهو المشهور من مذهب أبي حنيفة، وأحد الوجهين في مذهب أحمد، اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وقال: إن قطع الودجين أبلغ من قطع الحلقوم وأبلغ في إنهار الدم. القول الخامس: لابد من قطع اثنين على التعيين وهما: إما (الحلقوم والمريء) وهو المشهور من مذهب أحمد والشافعي، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وعلى هذا فقطع أحد الودجين والحلقوم أولى بالإباحة

من قطع الحلقوم والمريء. وإما (الودجان) فقط وهو إحدى الروايات عن أحمد ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية، ونقل عن مالك، والمشهور عنه ما سبق، وذكره في ((الإنصاف)) عن ((الرعاية)) و ((الكافي)) . قلت: عبارة ((الكافي)) : وإن قطع الأوداج وحدها فينبغي أن تحل استدلالا بالحديث والمعنى. اهـ. ويعني بالحديث ما رواه أبو داود في النهي عن شريطة الشيطان، وسنذكره إن شاء الله، ويعني بالمعنى ما قطع في الأوداج من إنهار الدم المنصوص على اعتباره. فهذه أراء العلماء فيما يشترط قطعه في محل الذكاة، ثم اختلفوا أيضا فيما يشترط قطعه من ذلك، هل يشترط فيه تمام القطع بحيث ينفصل المقطوع بعضه عن بعض أولا يشترط؟ على قولين: أحدهما: لا يشترط، فلو قطع بعض ما يجب قطعه؛ حلت الذبيحة وإن لم ينفصل بعض المقطوع عن بعض، وهو المشهور من مذهب أحمد، وظاهر مذهب أبي حنيفة، وهو الصواب إذا حصل إنهار الدم بذلك لحصول المقصود. الثاني: يشترط، فيجب أن تستوعب القطع ما يجب قطعه بحيث ينفصل بعض المقطوع عن بعض، وهو قول مالك والشافعي وبعض أصحاب أحمد. واختلفوا أيضا هل يشترط أن يكون القطع من ناحية الحلق أو لا يشترط؟ على قولين: أحدهما: لا يشترط، فلو ذكاها من قفا الرقبة حلت إن وصل إلى محل الذكاة قبل أن تموت، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وهو الصواب لحصول الذكاة بذلك. الثاني: يشترط فلو ذبحها من قفا الرقبة لم تحل، وهو مذهب مالك. وسبب اختلاف العلماء فيما يشترط قطعه في الذكاة وفي كيفيته أنه ليس في النصوص الواردة ذكر ما يقطع، وإنما فيها اعتبار إنهار الدم، وفيها

أيضا تعيين الأوداج بالقطع فيما رواه أبو داود عن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شريطة الشيطان، وهي التي تذبح فيقطع الجلد ولا تفرى الأوداج، ثم تترك حتى تموت (¬1) ، وفيما رواه ابن أبي شيبة عن رافع بن خديج رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الذبح بالليطة (¬2) فقال: ((كل ما أفرى الأوداج إلا سناً أو ظفراً)) (¬3) وفيما أخرجه الطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كل ما أفرى الأوداج ما لم يكن قرض سن أو حز ظفر)) (¬4) ، وهذه الأحاديث وإن كانت ضعيفة لا تقوم بها الحجة بمفردها إلا أنها تعضد بمعنى ما ثبت في الصحيحين من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ما لم يكن سنا أو ظفر)) ، فعلق الحكم على إنهار الدم، ومن المعلوم أن أبلغ ما يكون به الإنهار قطع الودجين. وعلى هذا فيشترط لحل الذبيحة بالزكاة قطع الودجين، فلو ذبحها ولم يقطعهما لم تحل، ولو قطعهما حلت وإن لم يقطع الحلقوم أو المريء. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كل ما أفرى الأوداج غير مترد، ذكره عنه في ((المحلى)) قال: وعن النخعي والشعبي وجابر بن زيد ويحيى بن يعمر كذلك. وقال عطاء: الذبح قطع الأوداج (¬5) ، وقال سفيان الثوري: إن قطع الودجين فقط؛ حل أكله. وليس في اشتراط قطع الحلقوم والمريء نص يجب المصير إليه، قال ابن رشد في ((بداية المجتهد)) : وأما من اشترط قطع الحلقوم والمريء ¬

(¬1) رواه أبو داود، كتاب الضحايا، باب في المبالغة في الذبح، رقم (2826) (¬2) قال في: ((النهاية)) الليط قشر القصب والقناة وكل شيء كانت له صلابة ومتانة، والقطعة منه: ليطة. (¬3) رواه ابن شيبة (4/253، 255) (¬4) رواه الطبراني في ((الكبير)) (8/211) (¬5) ذكره عنه البخاري تعليقاً في كتاب الذبائح والصيد، باب النحر والذبح.

فليس له حجة من السماع، وأكثر من ذلك من اشتراط المريء والحلقوم دون الودجين. اهـ. والرقبة كلها محل للذكاة، فلو ذكى من أعلى الرقبة أو أسفلها أو وسطها حلت الذبيحة، لكن الأفضل نحر الإبل وذبح ما سواها. والنحر: يكون في أسفل الرقبة مما يلى الصدر في الوهدة التي بين الصدر وأصل العنق. والذبح: يكون فيما فوق ذلك إلى اللحيين، فلو ذبحها من فوق الجوزة وهي العقدة الناتئة في أعلى الحلقوم، وصارت العقدة تبع الرقبة؛ حلت الذبيحة على القول الصحيح؛ لأن ذلك من الرقبة وهي محل الذكاة. وإن قطع الرأس مرة واحدة؛ حلت لحصول الذكاة بذلك، وقد روى ابن حزم من طريق ابن أبي شيبة عن على بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سئل عن رجل ضرب عنق بعير بالسيف، وذكر اسم الله فقطعه، فقال علي رضي الله عنه: ذكاة وحية أي سريعة، وقال ابن عمر وابن عباس وانس رضي الله عنهم: إذا قطع الرأس فلا بأس، ذكره البخاري تعليقا. وإن شرع يذبحها فرأى في السكين خللا فألقاها وأخذ غيرها ثم أتم الذكاة قبل موت الذبيحة حلت، وكذلك لو رفع يده بعد أن شرع في ذبحها ليستمكن منها ثم أتم الذكاة قبل موتها حلت؛ لحصول المقصود بذلك، وليست بأقل حالا مما أكل السبع فأدركناه حيا وذكيناه فإنه حلال بنص القرآن. وإذا حصلت الذكاة لما أصابها سبب الموت؛ حلت إذا أدركها وفيها حياة، لقوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ) (المائدة: 3) فالمنخنقة المنحبس نفسها، والموقوذة المضروبة بعصا ونحوها حتى تدهور حياتها، والمتردية الهاوية من جبل أو في بئر ونحوه، والنطيحة التي نطحتها أختها حتى أردتها، وما أكل السبع ما أكلها ذئب ونحوه، فكل

هذه الخمس إذا ذكيت قبل أن تموت؛ فهي حلال، ويعرف عدم موتها بأحد أمرين: الأول: الحركة، فمتى تحركت بعد ذكاتها بحركة قليلة أو كثيرة بيد أو رجل أو عين أو أذن أو ذنب حلت. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله تعالى: (إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ) إن مصعت بذنبها أو ركضت برجلها أو طرفت بعينها فكل، وقال نحوه غير واحد من السلف، ولأن الحركة دليل بين علي بقاء الروح فيها إذ الميت لا يتحرك. الأمر الثاني: جريان الدم بقوة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل)) . فمتى ذكيت فجرى منها الدم الأحمر الذي يخرج من المذكى المذبوح عادة حلت وإن لم تتحرك، قاله شيخ الإسلام ابن تيمية، قال: والناس يفرقون بين دم ما كان حياً ودم ما كان ميتاً، فإن الميت يجمد دمه ويسود. قلت: ولذلك يكون باردا بطيئا. وإذا شك في وجود ما يعرف به عدم الموت بأن شك في حركتها أو في حمرة الدم وجريانه كما يجري دم المذبوح عادة ـ لم تحل الذبيحة؛ لقوله تعالى: (إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ) وما شككنا في بقاء حياته ـ لم تتحقق ذكاته. فإن قيل: الأصل بقاء الحياة فلنحكم به فتحل الذبيحة إلا أن نتيقن الموت. الجواب: الأصل بقاء الحياة لكن عارضه ظاهر أقوى منه وهو السبب المفضي إلى الموت، فأنيط الحكم به ما لم نتحقق بقاء حياته. (تنبيه) المنفصل من أكيلة السبع ونحوها قبل ذكاتها ليس بحلال؛ لأنه بائن من حي، وما بان من حي فهو كميته، فإن انفصل شيء من المذكاة قبل موتها فهو حلال، لكن الواجب الانتظار في قطعه حتى تموت. الشرط التاسع: أن يكون المذكي مأذونا في ذكاته شرعاً، فإن كان غير مأذون فيها شرعاً ـ فهو على قسمين:

القسم الأول: أن يكون ممنوعاً منه لحق الله تعالى كالصيد في الحرم، أو حال الإحرام بحج أو عمرة، فمتى صاد صيدا فذبحه وهو محرم، أو ذبح صيداً داخل حدود الحرم؛ فهو حرام؛ لقوله تعالى: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) (المائدة: 1) ، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) (المائدة: 95) ، وقوله سبحانه: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً) (المائدة: 96) ، قال في المغني: ولا خلاف في تحريم الصيد على المحرم إذا صاده أو ذبحه. ثم قال بعد فصول: وإذا ذبحه صار ميتة يحرم أكله على جميع الناس، وهذا قول الحسن، والقاسم، والشافعي، وإسحاق، والأوزاعي، وأصحاب الرأي، قال: كذلك الحكم في صيد الحرم إذا ذبحه الحلال. اهـ. القسم الثاني: أن يكون ممنوعاً منه لحق الآدمي، وهو ما ليس ملكا له، ولا يملك ذبحه بوكالة أو نحوها؛ كالمغصوب يذبحه الغاصب، والمسروق يذبحه السارق ونحو ذلك، ففي حله قولان لأهل العلم: أحدهما: لا يحل، وهو قول إسحاق، وأهل الظاهر، وإحدى الروايتين عن أحمد، اختارها أبو بكر من أصحابنا، وإليه ميل البخاري، قال في ((صحيحه)) : باب إذا أصاب قوم غنيمة فذبح بعضهم غنما أو إبلا بغير أمر أصحابها لم تؤكل؛ لحديث رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم ذكر حديث رافع بسنده وفيه: وتقدم سرعان الناس فأصابوا من الغنائم والنبي صلى الله عليه وسلم في آخر الناس فنصبوا قدورا، فأمر بها فأكفئت فقسم بينهم وعدل بعيراً بعشرة شياه (¬1) . وروى أبو داود من طريق عاصم بن كليب عن أبيه عن رجل من الأنصار قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأصاب الناس حاجة شديد وجهد، فأصابوا غنما فانتهبوها، فإن قدورنا لتغلي إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي على قوسه فأكفأ قدورنا بقوسه، ثم جعل يرمل اللحم بالتراب ثم قال: ((إن النهبة ليست بأحل من الميتة، أو إن الميتة ليست بأحل من النهبة)) (¬2) . قال أبو داود: الشك من هناد ـ يعني أحد رواته. ¬

(¬1) رواه البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب إذا أصاب قوم غنيمة..، رقم (5543) (¬2) رواه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في النهي عن النهي..ن رقم (2705)

القول الثاني: أنه يحل، وهو المشهور من مذهب أحمد وقول جمهور العلماء لما روى أحمد وأبو داود من حديث جابر رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة، فلما رجع استقبله داعي امرأة ـ وفي لفظ لأحمد داعي امرأة من قريش ـ فقال يا رسول الله، إن فلانة تدعوك ومن معك إلى طعام فانصرف، فانصرفنا معه فجيء بالطعام فوضع يده ثم وضع القوم أيديهم، فنظر آباؤنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوك لقمة في فمه ثم قال: ((أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها)) فأرسلت المرأة ـ وفي رواية: قامت ـ فقالت: يا رسول الله، إني أرسلت إلى البقيع من يشتري لي شاة فلم أجد، فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة أن أرسل إلي بها بثمنها، فلم أجد، فأرسلت إلى امرأته فأرسلت إلي بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أطعميه الأسارى)) (¬1) . هذا ما استدل به الجمهور، ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإطعامه الأسارى، ولو كان حراما ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإطعامهم إياه. وأجابوا عن دليلي القائلين بعدم الحل بأن إكفاء القدور على سبيل التعزير والمبالغة في الزجر، وهو جواب قوي لكن يعكر عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن النهبة ليست بأحل من الميتة)) إلا أن يقال: المراد بيان حكم أصل النهبة، وأن من انتهب شيئا بغير حق ـ كان حراما عليه كالميتة وإن لم يكن من شرطه الذكاة، وأنه ليس المراد أن ذبح المنهوب لا يحله فيكون ميتة، والله أعلم. وأما حديث جابر الذي استدل به الجمهور على الحل؛ فليس بظاهر الدلالة إذ ليس أخذ المرأة للشاة عدواناً محضاً، فإنما أخذتها مضمونة بالثمن من امرأة المالك، وقد جرت العادة بالسماح في مثل ذلك غالبا لاسيما وهي مقدمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فهو من المشتبه الذي ينبغي التنزه عنه عند عدم الحاجة إليه ولذا تنزه عنه النبي صلى الله عليه وسلم لعدم حاجته إليه، وأمر بإطعامه الأسارى لحاجتهم إليه غالبا. وإذا تبين ألا دلالة للجمهور فيما استدلوا به ولا لمخالفيهم؛ وجب الرجوع إلى القواعد الشرعية العامة. فنقول: المغصوب ونحوه مما أخذ بغير رضا صاحبه حرام على ¬

(¬1) رواه أحمد (5/294) وأبو داود، كتاب البيوع، باب في اجتناب الشبهات، رقم (3332)

الغاصب ونحوه، وعلى كل من علم به، سواء أكان مما يشترط بحله في الأصل الذكاة أم لا، حتى لو غصب لحماً كان حراماً عليه وعلى من علم به وأما ذكاة الغاصب ونحوه؛ فهي ذكاة من مسلم أهل ذكر اسم الله عليها بما ينهر الدم، فكانت مبيحة للمذكى كغير الغاصب، والله أعلم بالصواب.

فصل في خلاصة ما سبق من الشروط لما كان الكلام في بعض شروط الذكاة مطولاً؛ أحببنا أن نذكر في هذا الفصل خلاصة تلك الشروط؛ ليكون أيسر في حصرها، فنقول: خلاصة ما سبق من الشروط التسعة كما يلي: الأول: أن يكون المذكي ممن يمكن منه قصد التذكية، وهو المميز العاقل. الثاني: أن يكون مسلما أو كتابيا. الثالث: أن يقصد التذكية. الرابع: أن لا يذبح لغير الله. الخامس: أن لا يهل لغير الله به، بأن يذكر عليه اسم غير الله. السادس: أن يسمي الله عليها. السابع: أن تكون الذكاة بمحدد ينهر الدم غير سن وظفر. الثامن: إنهار الدم في موضعه. التاسع: أن يكون المذكى مأذوناً في ذكاته شرعا. ولا تأثير للذكاة في محرم الأكل؛ كالحمار والكلب والخنزير، فهذه ونحوه من الحيوانات المحرمة لا تحل بالذكاة، ولا تشترط الذكاة في حل حيوان البحر، فجميع ما في البحر من حيوان فهو حلال حيا وميتا صغيرا أو كبيرا؛ لقوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ) (المائدة: 96) قال ابن عباس

رضي الله عنهما: صيد البحر ما أخذ حياً، وطعامه ما لفظه ميتاً، وروى ذلك عن غير واحد من الصحابة والتابعين. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الوضوء بماء البحر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هو الطهور ماؤه الحل ميتته)) قال في ((بلوغ المرام)) : أخرجه الأربعة وابن أبي شيبة واللفظ له، وصححه ابن خزيمة والترمذي، ورواه مالك والشافعي وأحمد (¬1) . وفي ((الصحيحين)) من حديث جابر رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر علينا أبا عبيدة نتلقى عيرا لقريش، وزودنا جراباً من تمر لم يجد لنا غيره، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها الماء فتكفينا يومنا إلى الليل، وكنا نضرب بعصينا الخبط ثم نبله بالماء فنأكله، وانطلقنا على ساحل البحر،، فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا هي دابة تدعى العنبر، فقال أبو عبيدة: ميتة ثم قال: لا، نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله وقد اضطررتم فكلوا، قال: فأقمنا عليه شهرا ونحن ثلاثمائة حتى سمنا، ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه بالقلال الدهن، ونقتطع منه الفدر كقدر الثور، وأخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلاً فأقعدهم في وقب عينه، وأخذ ضلعا من أضلاعه فأقامها، ثم رحل أعظم بعير معنا فمر من تحتها، وتزودنا من لحمه وشائق حتى قدمنا المدينة فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا)) فأرسلنا إليه منه فأكله (¬2) . ولا تشترط الذكاة في حل الجراد ونحوه مما لا دم له، لحديث ابن عمر: ((أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان: فالجراد والحوت، وأما الدمان: فالكبد والطحال)) أخرجه أحمد وابن ماجه (¬3) . ولأن الغرض من الذكاة إنهار الدم، فما لا دم له لا يحتاج لذكاة. ¬

(¬1) رواه أبو داود، كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر، رقم (83) ، والترمذي، كتاب الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور، رقم (69) ، والنسائي، كتاب الطهارةن باب ماء البحر، رقم (59) ، وابن ماجه، كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر، رقم (386) وأحمد (2/361) (¬2) رواه البخاري، كتاب الشركة، باب الشركة في الطعام..، رقم (2483) ، ومسلم، كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة ميتة البحر، رقم (1935) . (¬3) رواه أحمد (2/97) وابن ماجه، كتاب الأطعمة، باب الكبد والطحال، رقم (3314)

الفصل العاشر في آداب الذكاة ومكروهاتها

الفصل العاشر في آداب الذكاة ومكروهاتها للزكاة شروط تجب مراعاتها، ولا تحل المذكاة بدونها، وتقدم الكلام عليها في الفصل السابق، ولها آداب ينبغي مراعاتها وتحل المذكاة بدونها، فمن آدابها: 1ـ استقبال القبلة بالذبيحة عند الذبح؛ لحديث جابر رضي الله عنه قال: ضحى النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد بكبشين فقال حين وجههما ... (الحديث) . رواه أبو داود وابن ماجه (¬1) ، وفي إسناد مقال. 2ـ الإحسان إلى الذبيحة بعمل كل ما يريحها عند الذكاة، بأن تكون الذكاة بآلة حادة، وأن يمرها على محل الذكاة بقوة وسرعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم؛ فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم؛ فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)) رواه مسلم (¬2) . قال الشيخ تقي الدين شيخ الإسلام ابن تيمية: في هذا الحديث أن الإحسان واجب على كل حال حتى في حال إزهاق النفوس ناطقها وبهيمها، فعليه أن يحسن القتلة للآدميين والذبحة للبهائم. وذكر في ((الإنصاف)) استحباب الرفق بالذبيحة، والحمل على الآلة بقوة وإسراعه بالشحط، قال: وفي كلام الشيخ تقي الدين إيماء إلى وجوب ذلك. 3ـ أن ينحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى؛ لقوله تعالى: (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافّ) (الحج: 36) قال ابن عباس رضي الله عنهما: قياما على ¬

(¬1) رواه أبو داود، كتاب الضحايا، باب ما يستحب من الضحايا، رقم (2795) وابن ماجه، كتاب الأضاحي، باب أضاحي رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم (3121) . (¬2) رواه مسلم، كتاب الصيد والذبائح، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل، (1955)

ثلاث قوائم معقولة يدها اليسرى. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدن معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها. رواه أبو داود (¬1) ، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه أتى على رجل قد أناخ بدنته ينحرها فقال: ابعثها قياماً مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم. متفق عليه (¬2) ، فإن لم يتيسر له نحرها قائمة؛ جاز له نحرها باركة إذا أتى بما يجب في الذكاة لحصول المقصود بذلك. 4ـ أن يذبح غير الإبل مضجعة على جنبها، ويضع رجله على صفحة عنقها ليتمكن منها؛ لما روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين ـ وفي رواية: أقرنين ـ فرأيته واضعاً قدمه على صفاحهما يسمى ويكبر فذبحهما بيده. رواه البخاري (¬3) . ويكون الإضجاع على الجنب الأيسر، لأنه اسهل للذبح، فإن كان الذابح أعسر وهو الأشدف الذي يعمل بيده اليسرى عمل اليد اليمني، وكان اليسر له أن يضجعها على الجنب الأيمن، فلا بأس أن يضجعها عليه؛ لأن المهم راحة الذبيحة. وينبغي أن يمسك برأسها ويرفعه قليلاً ليبين محل الذبح، وأما الإمساك بيدي الذبيحة ورجليها عند ذبحها لئلا تتحرك، فظاهر حديث أنس السابق أنه لا يستحب؛ لأنه لم يذكر أن أحداً امسك بها عندما ذبحها النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان مشروعاً لفعله النبي صلى الله عليه وسلم ثم نقل عنه لأهميته كما نقل عنه وضع قدمه على صفاحهما، بل صرح النووي في شرح المهذب أنه يستحب أن لا يمسكها بعد الذبح مانعاً لها من الاضطراب، إلا أنه ذكر استحباب شد قوائهما الثلاث وترك الرجل اليميني ولم يذكر له دليلاً، وابدي بعض المعاصرين حكمة في إرسال قوائمها وعدم إمساكها بأن من فوائد إطلاقها وعدم إمساكها أن حركتها تزيد في إنهار الدم وإفراغه من الجسم، ولا أعلم للإمساك بيدي الذبيحة ورجليها ¬

(¬1) رواه أبو داود، كتاب المناسك، باب كيف تنحر البدن، رقم (1767) (¬2) رواه البخاري، كتاب الحج، باب نحر الإبل مقيدة، رقم (1713) ، ومسلم، كتاب الحج، باب نحر البدن قياماً مقيدة، رقم (1320) (¬3) سبق تخريجه

عند ذبحها أصلاً سوى ما سبق من حديث أبي الأشد عن أبيه عن جده في السبعة الذين اشتركوا في أضحية وتقدم ما فيه، وأما لي يد الذبيحة من وراء عنقها كما يفعله بعض العامة فلا أصل له، ولا ينبغي فعله؛ لأنه تعذيب للبهيمة بلا فائدة ولا حاجة. 5- استكمال قطع الحلقوم والمريء والودجين، وسبق الكلام على ما يشترط قطعه من هذه الأربعة، ولا يتجاوز قطع هذه الأربعة. 6- عرض الماء عليها عند الذبح، ذكره بعض الشافعية ولم يذكروا دليله، ولا أعلم له أصلاً، لكن لو علم منها طلب الماء مثل أن تري الماء فتحاول الذهاب إليه فلا ينبغي منعها منه حينئذ. 7- أن يواري عنها السكين، يعني يسترها عنها بحيث لا تراها إلا ساعة ذبحها، قال الإمام أحمد رحمه الله: تقاد إلى الذبح قوداً رفيقاً، وتوارى السكين عنها، ولا يظهر السكين إلا عند الذبح، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أن توارى الشفار. اهـ. الشفار جمع شفرة وهي السكين. وفي مسند الإمام أحمد عن معاوية بن قرة عن أبيه أن رجلاً قال: يا رسول الله؛ إني لأذبح الشاة وأنا ارحمها أو قال: إني لأرحم الشاة أن أذبحها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((والشاة إن رحمتها رحمك الله)) (¬1) . وفي الصحيحين عن أسامة ابن زيد رضي الله عنه في قصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما يرحم الله من عباده الرحماء)) (¬2) . وفي صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((من لا يرحم لا يرحم)) (¬3) . 8ـ زيادة التكبير بعد التسمية فيقول: بسم الله والله أكبر؛ لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين يسمي ويكبر. متفق عليه (¬4) . وعموم كلام الأصحاب أن زيادة التكبير سنة في ذبيحة القربان وذبيحة اللحم. ولا تسن الزيادة في الذكر على التسمية والتكبير لعدم ¬

(¬1) رواه أحمد (3/436) (¬2) رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبى صلى الله عليه وسلم: ((ويعذب الميت ببعض بكاء أهله)) رقم (1284) ، ومسلم، كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت، رقم (923) (¬3) رواه البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، رقم (5997) ، ومسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال ... ، رقم (2318) . (¬4) سبق تخريجه

وروده، ولا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هنا؛ لأنه غير لائق بالمقام، وذكر في ((شرح المهذب)) عن القاضي عياض أنه نقل عن مالك وسائر العلماء كراهة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: ولا يذكر عند الذبح إلا الله وحده. 9ـ أن يسمي عند ذبح الأضحية أو العقيقة من هي له؛ لحديث جابر رضي الله عنه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم عيد الأضحى، فلما انصرف أتى بكبش فذبحه فقال: ((بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي)) . رواه أحمد وأبو داود والترمذي (¬1) . وعن أبي رافع في أضحية النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين قال: فإذا صلى وخطب أتى بأحدهما فذبحه بنفسه ثم يقول: ((اللهم هذا عن أمتي جميعا من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ)) الحديث؛ رواه أحمد (¬2) . قال الهيثمي: إسناده حسن. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبش أقرن وقال: ((هذا عني وعمن لم يضح من أمتي)) . رواه أحمد (¬3) . وإذا ذبحها ونوى من هي له بدون تسمية أجزأت النية؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) (¬4) . والتسمية المشروعة هي ما ذكرناه من تسمية من هي له حال الذبح، وأما ما يفعله بعض العامة من مسح ظهر الأضحية مرددين اسم من هي له، فلا أعلم له أصلا، ولا ينبغي فعله؛ لأن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد علمت كيفية تسميته. 10ـ أن يدعو عند ذبح الأضحية بالقبول؛ لحديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن يطأ في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد، فأتي به ليضحي به فقال لها: ((يا عائشة، هلمي المدية)) ثم قال: ((اشحذيها بحجر)) ففعلت، ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه ثم قال: ((بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد)) رواه أحمد ومسلم (¬5) . وقولها: ثم ذبحه ثم قال: بسم الله متأول بمعنى: ثم شرع في ذبحه أو هيأه للذبح أو بأنه على التقديم والتأخير، والله أعلم. ¬

(¬1) رواه أبو داود، كتاب الضحايا، باب في الشاة يضحى بها عن جماعة، رقم (2810) ، والترمذي، كتاب الأضاحي، باب ما جاء أن الشاة الواحدة تجزي عن أهل البيت، رقم (1505) ، وأحمد (3/8) (¬2) سبق تخريجه (¬3) رواه أحمد (6/391) (¬4) سبق تخريجه (¬5) سبق تخريجه

وأما مكروهات الذكاة فهي: 1ـ أن يذكيها بآلة كالة؛ لمخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإحداد الشفرة ولما فيه من تعذيب الحيوان، وقيل: يحرم ذلك. 2ـ أن يحد السكين والبهيمة تنظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن تحد الشفار، وأن توارى عن البهائم. رواه أحمد وابن ماجه (¬1) ، ورأى رجلا أضجع شاة وهو يحد شفرته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لقد أردت أن تميتها موتان، هلا حددتها قبل أن تضجعها)) . رواه الحاكم والطبراني (¬2) . ولأن حد الشفرة وهي تنظر يوجب إزعاجها وذعرها، وهو ينافي الرحمة المطلوبة. 3ـ أن يذكيها والأخرى تنظر إليها، هكذا قال أهل العلم، وذلك؛ لأنها تنزعج إذا رأت أختها تذكى بنحر أو ذبح، فإنها تشعر بذلك كما هو مشاهد، فإنك ترى القطيع أو الذود ينفر إذا نفرت منه واحدة وإن لم ير السبب الذي نفرت منه. 4ـ أن لا يفعل ما يؤلمها قبل زهوق نفسها، مثل أن يكسر عنقها، أو يبدأ بسلخها، أو يقطع شيئا من أعضائها قبل أن تموت، وقيل: يحرم ذلك، وهو الصحيح لما فيه من الألم الشديد عليها بدون فائدة أو حاجة، وعلى هذا فلو شرع في سلخها ثم تحركت وجب عليه أن يمسك حتى يتيقن موتها. 5ـ أن يوجهها إلى غير القبلة عند الذبح، ذكره الأصحاب ولم يذكروا دليلا يوجب الكراهة، والأصل عدمها، وترك المستحب لا يلزم منه ¬

(¬1) رواه أحمد (2/108) ، وابن ماجه، كتاب الذبائح، باب إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، رقم (3172) (¬2) رواه الحاكم (4/233) ، وصححه، وسكت عنه الذهبي.

الكراهة؛ لأن الكراهة حكم وجودي يحتاج إلى دليل وإلا لقلنا: إن كل من ترك شيئا من المستحبات لزم أن يكون فاعلا مكروها، ولا شك أن الأولى توجيه الذبيحة إلى القبلة لاسيما الذبح الذي يتقرب به إلى الله كالأضحية. وإلى هنا انتهى ما أردنا كتابته في اليوم العاشر من شهر رجب سنة ست وتسعين وثلاثمائة وألف، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. قال ذلك جامعه الفقير إلى الله سبحانه محمد الصالح العثيمين، غفر الله له ولوالديه ولإخوانه المسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

§1/1