أحصاه الله ونسوه

عبد الملك بن قاسم

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين. وبعد: أقدم للقارئ الكريم الجزء السادس من سلسلة أين نحن من هؤلاء؟ تحت عنوان: "أحصاه الله ونسوه" الذي يتحدث عن آفات اللسان ومزالقه. وقد بدأت بمداخل عن اللسان وعظم أمره، ثم آفة الغيبة وأتبعتها النميمة والكذب والاستهزاء. وهي أمراض خبيثة تسري في جسد الأمة فتحصد الحسنات وتجلب السيئات وتضيع الأوقات .. بزلة واحدة تهدم الأسر وتفرق الأحبة وتقطع الأرحام .. وبكلمة واحدة ربما يهوى بها صاحبها في النار سبعين خريفًا. وقد ساعد على تفشي هذه الآفات في المجتمع قلة الوازع الديني، وتيسر أسباب المعيشة وكثرة أوقات الفراغ، كما أن لسهولة الاتصالات الهاتفية سهم في ذلك. حفظ الله ألسنتنا ونزه أسماعنا عن كل ما يعيب. وجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم. عبد الملك بن محمد بن عبد الرحمن القاسم.

مدخل

مدخل إن اللسان من نعم الله العظيمة ولطائف صنعه الغريبة فإنه صغير جرمه، عظيم طاعته وجرمه، إذ لا يستبين الكفر، والإيمان إلا بشهادة اللسان وهما غاية الطاعة والعصيان (¬1). فهذا المخلوق الصغير يعبر الإنسان عن بغيته ويفصح عن مشاعره، به يطلب حاجته ويدافع عن نفسه ويعبر عن مكنون فؤاده، يحادث جليسه ويآنس رفيقه، به السقطة والدنو وبه تظهر الهمة والعلو. واللسان: رحب الميدان ليس له مرد، ولا لمجاله منتهى وحد، له في الخير مجال رحب وله في الشر ذيل سحب، فمن أطلقه عذبه اللسان وأهمله مرخى العنان سلك به الشيطان في كل ميدان وساقه إلى شفا جرف هار إلى أن يضطره إلى دار البوار، ولا يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد. ألسنتهم ولا ينجو من شر اللسان إلا من قيده بلجام الشرع، فلا يطلقه إلا فيما ينفعه في الدنيا والآخرة، ويكفه عن كل ما يخشى غائلته في عاجله وآجله. وعلم ما يحمد فيه إطلاق اللسان أو يذم غامض عزيز والعمل بمقتضاه على من عرفه ثقيل عسير، وأعصى الأعضاء على الإنسان اللسان، فإنه لا تعب في إطلاقه ولا مؤنة في تحريمه وقد تساهل الخلق في الاحتراز عن آفاته وغوائله والحذر من مصائده وحبائله، ¬

_ (¬1) الإحياء: 3/ 117.

وإنه أعظم آلة الشيطان في استغواء الإنسان (¬1). إذا ترك له العنان يصول ويجول .. يتحدث عن فلان ويغتاب فلان، يستهزئ بهذا ويشتم هذا. وقلة هم الذين أمسكوا بعنان ألسنتهم ووقفوا به عن ما لا يعنيهم. فحد الكلام فيما لا يعنيك أن تتكلم بكلام لو سكت عنه لم تأثم ولم تستضر به في حال ولا مال. وينبغي لكل مكلف: أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام: إلا كلاما ظهرت فيه المصلحة، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة فالسنة الإمساك عنه، لإنه قد ينجز الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، وذلك كثير في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء (¬2). وفي اللسان آفتان عظيمتان: إن خلص من أحدهما لم يخلص من الأخرى، آفة الكلام وآفة السكوت. وقد يكون كل منهما أعظم من الأخرى في وقتها، فالساكت عن الحق شيطان أخرس، عاص لله، مراء مداهن إذا لم يخف على نفسه والمتكلم بالباطل شيطان ناطق عاص لله، وأكثر الخلق منحرف في كلامه وسكوته، فهم بين هذين النوعين، وأهل الوسط وهم أهل الصراط المستقيم، كفوا ألسنتهم عن الباطل وأطلقوها ¬

_ (¬1) الإحياء: 3/ 117. (¬2) رياض الصالحين (414).

فيما يعود عليهم نفعه في الآخرة، فلا ترى أحدهم يتكلم بكلمة تذهب عليه ضائعة بلا منفعة، فضلا عن أن تضره في آخرته، وإن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها. ويأتي بسيئات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله وما اتصل به (¬1). وكثرة آفات اللسان: من الخطأ والكذب والغيبة والنميمة والنفاق والفحش والمراء وتزكية النفس والخواص في الباطل والخصومة والفضول والتحريف والزيادة والنقصان، وإيذاء الخلق وهتك العورات، فهذه آفات وهي سياقة إلى اللسان لا تثقل عليه ولها حلاوة في القلب وعليها بواعث من الطبع ومن الشيطان، والخائض فيها قلما يقدر أن يمسك اللسان فيطلقه بما يحب ويكفه عما لا يحب. ففي الخواص خطر وفي الصمت سلامة فذلك عظمت فضيلته، هذا مع ما فيه من جمع الهمم ودوام الوقار والفراغ للفكر والذكر والعبادة والسلامة من تبعات القول في الدنيا ومن حسابه في الآخرة (¬2). وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية موضحًا حال الكثيرين: ¬

_ (¬1) الجواب الكافي (173). (¬2) الإحياء (3/ 121).

ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر، ومن النظر المحرم وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى ترى الرجل ليشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقي لها بالاً، ينزل بالكلمة الواحدة منها أبعد مما بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، ولا يبالي ما يقول (¬1). ¬

_ (¬1) الجواب الكافي (171).

آفات اللسان

آفات اللسان آفات اللسان كثيرة متنوعة، ولها في القلب حلاة ولها بواعث من الطبع، ولا نجاة من خطرها إلا بالصمت أو التحرز في الكلام. ومن آفات اللسان ما يلي: الآفة الأولى: الكلام فيما لا يعني ... اعلم أن من عرف قدر زمانه، وأنه رأس ماله، لم ينفقه إلا في فائدة، وهذه المعرفة توجب حبس اللسان عن الكلام فيما لا يعني، لأن من ترك ذكر الله واشتغل فيما لا يعني كان كمن قدر على أخذ جوهرة، فأخذ عوضها بدرة وهذا خسران العمر. الآفة الثانية: الخوض في الباطل، وهو الكلام في المعاصي، كذكر مجالس الخمر، ومقامات الفساق، وقريب من ذلك الجدال والمراء، وهو كثرة الملاحاة للشخص لبيان غلطه وإفحامه، والباعث على ذلك الترفع فينبغي للإنسان أن ينكر المنكر من القول، ويبين الصواب فإن قبل منه وإلا ترك المماراة، هذا إذا كان معلقا بالدين، فإما إن كان في أمور الدنيا فلا وجه للمجادلة فيه. الآفة الثالثة: التقعر في الكلام، وذلك يكون بالتشدق، وتكلف السجع. الآفة الرابعة: الفحش والسب والبذاء.

الآفة الخامسة

الآفة الخامسة: المزاح ... أما اليسير فلا ينهى عنه إذا كان صدقا. الآفة السادسة: السخرية والاستهزاء .. ومعنى السخرية الاحتقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه. الآفة السابعة: إفشاء السر وإخلاف الوعد والكذب في القول واليمين، وكل ذلك منهي عنه، إلا ما رخص فيه من الكذب لزوجته وفي الحرب فإن ذلك يباح وضابطه: أن كل مقصود محمود لا يمكن التوصل إليه إلا بالكذب، فهو فهي مباح إن كان ذلك المقصود مباحا، وإن كان المقصود واجبا فهو واجب، فينبغي أن يتحرز عن الكذب مهما أمكن. الآفة الثامنة: الغيبة، هي ذكر أخاك الغائب بما يكرهه إذا بلغه، سواء كان نقصًا في بدنه أو في نسبه أو في ثوبه (¬1). الآفة التاسعة: النميمة، وهي إفشاء السر وهتك الستر عما يكره كشفه. وهناك آفات أخرى كثيرة لا يتسع المقام لذكرها .. وقد حذر ¬

_ (¬1) مختصر منهاج القاصدين 165 وما بعدها باختصار.

الله جل وعلا من تلك الآفات وأخبر أنها من الأعمال التي تحصى على ابن آدم ويحاسب عليها. قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]. وقال جل وعلا: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]. ومن الأحاديث ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" رواه البخاري ومسلم. وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" رواه الترمذي وابن ماجه. وحين سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يدخل النار؟ قال: "الفم والفرج" وعندما سأل معاذ بن جبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العمل الذي يدخله الجنة ويباعده من النار، أخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - برأسه وعموده وذروة سنامه، ثم قال: "ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ " قال: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسان نفسه، ثم قال: "كف عليك هذا" فقال: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: "ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم" رواه الترمذي. وانظر أخي الكريم إلى عظم الأمر وخطورة الكلمة فقد قال

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب" متفق عليه. وهذا أبو بكر رضي الله عنه آخذا بطرف لسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد (¬1). والكلام أسيرك فإذا خرج من فيك صرت أنت أسيره، والله عند لسان كل قائل: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] (¬2). وحين سئل الحسن يوما: كيف أصبحت يا أبا سعيد؟ قال: والله ما من انكسرت به سفينة في لجج البحر بأعظم مني مصيبة، قيل: ولم ذاك؟ قال: لأني من ذنوبي على يقين، ومن طاعني وقبول عملي على وجل، لا أدري ِأقبلت مني أم ضرب بها وجهي. فقيل له: وأنت تقول ذلك يا أبا سعيد؟ فقال: ولم لا أقول ذلك، ما الذي يؤمنني من أن يكون الله سبحانه وتعالى قد نظر إليَّ وأنا على بعض هناتي نظرة مقتني بها، فأغلق عني باب التوبة، وحال بيني وبين المغفرة، فأنا أعمل في غير معتمل (¬3). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما من شيء يتكلم به ابن آدم إلا كتب عليه حتى أنينه في مرضه، فلما مرض الإمام أحمد ¬

_ (¬1) صفة الصفوة (1/ 253). (¬2) الجواب الكافي (173) (¬3) الحسن البصري لابن الجوزي (12).

فقيل له: إن طاوسًا كان يكره أنين المرض، فتركه (¬1). والكثير الآن لا يعد الكلام من العمل وما علم أنه يحصى عليه كل لفظ وقول وأنه غدا محاسب على كل كلمة وحديث. قال عمر بن عبد العزيز: من علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه وينفعه (¬2). وأكد ذلك الإمام الأوزاعي بقوله: من أكثر ذكر الموت كفاه اليسير، ومن عرف أن منطقه من عمله قل كلامه (¬3). ولكثرة آفات اللسان والتهاون فيها وإطلاق الألسن في كل مكان وحديث، قال الحسن بن صالح: فتشنا الورع فلم نجده في شيء أقل منه في اللسان (¬4). وغالب آفة اللسان أذى للمسلم ونقص في قدره ورمي له بالتحقير والتصغير ... والفضيل بن عياض يقول في ذلك: والله ما يحل لك أن تؤذي كلبا أو خنزيرًا بغير حق، فكيف تؤذي مسلما؟ ! (¬5). وفي حديث صادق ونصائح غالية هذا ابن عباس رضي الله عنهما يقول: خمس لهن أحب إليَّ من الدهم الموقوفة، لا تتكلم فيما ¬

_ (¬1) البداية والنهاية (9/ 272). (¬2) البداية والنهاية (9/ 225) (¬3) السير (7/ 117) (¬4) صفة الصفوة: (3/ 154) حلية الأولياء (7/ 32). (¬5) السير (8/ 427).

لا يعنيك فإنه فضل ولا آمن عليك الوزر، ولا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعا فإنه ربَّ متكلم في أمر يعنيه قد وضعه في غير موضعه فعنت، ولا تمار حليما ولا سفيها فإن الحليم يقلبك والسفيه يؤذيك، واذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به، واعفه بما تحب أن يعفيك منه، وعامل أخاك بما تحب أن يعاملك به، واعمل عمل رجل يعلم أنه مجازى بالإحسان مأخوذ بالاجترام (¬1). لعمرك ما للمرء كالرب حافظ ... ولا مثل عقل المرء للمرء واعظ لسانك لا يلقيك في الغي لفظه ... فإنك مأخوذ بما أنت لافظ (¬2) قال عطاء بن رباح: إن من كان قبلكم كانوا يعدون فضول الكلام ما عدا كتاب الله، أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، أو أن تنطق في معيشتك التي لا بد منها، أتنكرون أن عليكم حافظين كراما كاتبين، عن اليمين وعن الشمال قعيد، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، أما يستحي أحدكم لو نشرت صحيفته التي أملى صدر نهاره، وليس فيها شيء من أمر آخرته (¬3). هذه حالهم في ذلك الزمن وهم أهل الطاعة والذكر، مجالسهم خالية من الغيبة والنميمة والكذب والاستهزاء بل كانوا يطرزون مجالسهم بالبكاء والخشوع وإظهار الجزع، وكان عامة كلامهم مثل كلام أحدهم وهو ابن سيرين .. سبحان الله العظيم سبحان الله ¬

_ (¬1) الإحياء (3/ 122) أمراض النفوس (30). (¬2) الصمت: (305). (¬3) السير (5/ 86) الإحياء (3/ 123).

وبحمده. هذا نموذج لمجالسهم العامرة بالخير .. وزيادة في الحرص كان عبد الله بن الخيار يقول في مجلسه: اللهم سلمنا، وسلم المؤمنين منا (¬1). وكان عمر بن الخطاب يقول: من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به (¬2). وللخوف من السقوط في النار ... ومن خوف شدة الحساب غدا. أخي: تعهد نفسك في ثلاثة مواضع: إذا علمت فاذكر نظر الله تعالى عليك وإذا تكلمت فانظر سمع الله إليك، وإذا سكت فانظر علم الله فيك (¬3). قال سلمة بن دينار: ينبغي للمؤمن أن يكون أشد حفظا للسانه منه لموضع قدمه (¬4). ولا يكون هذا الحفظ سهلا إلا بمراقبة الله جل وعلا في كل كلمة تخرج وفي كل حركة تظهر. والاقتصاد في الكلام من ¬

_ (¬1) تذكرة الحفاظ: (1/ 139). (¬2) جامع العلوم والحكم: (161). (¬3) حلية الأولياء (8/ 75). (¬4) صفة الصفوة: 2/ 57.

علامات التيقظ والتنبه قال ابن مسعود: إياكم وفضول الكلام حسب امرئ ما بلغ حاجته (¬1). وحتى فضول الكلام الذي هو دون الضرر فإنه حسرات يوم القيامة لأن أزمنة في ما لا فائدة فيه حسرة وندامة ... قال بعض السلف: يعرض على ابن آدم يوم القيامة ساعات عمره، فكل ساعة، لم يذكر الله فيها تتقطع نفسه عليها حسرات. من هنا يعلم أن ما ليس بخير من الكلام فالسكوت عنه أفضل من التكلم به، اللهم إلا ما تدعو إليه الحاجة مما لا بد منه (¬2). وما أدري وإن أملت عمرًا ... لعلي حين أصبح لست أمسي ألم تر أن كل صباح يوم ... وعمرك فيه أقصر من أمس (¬3) قال ابن عباس رضي الله عنهما: يا لسان قل خير تغنم، أو اسكت عن شر تسلم (¬4). فإن العبد لا يبلغ حقيقة الإيمان حتى يحل بذروته ولا يحل بذروته حتى يكون الفقر أحب إليه من الغنى، والتواضع أحب إليه من الشرف، وحتى يكون حامده وذامه عنده سواء، وإن الرجل ليخرج من بيته ومعه دينه فيرجع وما معه من شيء، ويأتي الرجل ¬

_ (¬1) جامع العلوم والحكم: (161). (¬2) جامع العلوم والحكم: (161). (¬3) جامع العلوم والحكم: (466). (¬4) كتاب الصمت (66).

ولا يملك له ولا لنفسه ضرا ولا نفعا، فيقسم له بالله إنك لذيت ولذيت، فيرجع وماجني من حاجته بشيء ويسخط الله عليه (¬1). فهذا الرجل عاد وقد أسخط الله جل وعلا بسبب لسانه الذي لم يتحفظ منه بل أطلقه بالإيمان الكاذب، هذا موقف واحد. أما من تربع في مجلس ساعات طوال لم يسلم المسلمون من لسانه غيبة ونميمة وإفشاء سر وإشاعة فاحشة فإن ذلك محاسب عليه .. لا يرى عيبا إلا أشاعه ولا يسمع حديثا إلا تكلم به. قال عبد الله بن مسعود، كفى بالمرء إثما، أن يحدث بكل ما سمع (¬2). أخي الكريم: ليكن حظ المؤمن منك ثلاث خصال لتكون من المحسنين: أحدهما: إنك إن لم تنفعه فلا تضره. والثانية: إن لم تسره فلا تغمه. والثالثة: إن لم تمدحه فلا تذمه (¬3). فإن أكثر الناس خطايا أفرغهم لذكر خطايا الناس كما قال ذلك محمد بن سيرين (¬4): فإن عبت قوما بالذي فيك مثله ... فكيف يعيب الناس من هو أعور؟ ¬

_ (¬1) الفوائد: 193. (¬2) تذكرة الحفاظ: 3. (¬3) تنبيه الغافلين (1/ 178). (¬4) كتاب الصمت (104).

فذلك عند الله والناس أكبر (¬1) وإن عبت قوما بالذي ليس فيهم إن اتباع الهوى وطول الأمل مادة كل فساد فإن اتباع الهوى يعمي عن الحق معرفة وقصدا، وطول الأمل ينسي الآخرة، ويصد عن الاستعداد لها (¬2). فمن طال أمله قل عمله ومن نسي الآخرة لم يحاسب نفسه ... مجالسنا الطويلة بماذا نعمرها وبأي أمر نجملها وهي مجالس طويلة بعضها يمتد لساعات طوال. قال الزهري: إذا طال المجلس كان للشيطان فيه نصيب (¬3). وإذا لم تكن مجالس خير وذكر فإن الشيطان يحرك الألسن ويشفي الصدور، وقد ينزل إلى شهوات البطن والفرج وقد قال الأحنف بن قيس يحكي صفات الرجولة الحقة .. جنبوا مجالسنا ذكر النساء والطعام، إني أبغض الرجل يكون وصافا لفرجه وبطنه (¬4). ولو خطر في بال أحدنا أن يسجل ما يتحدث به في مجلس واحد .. لرأى كم من الأوراق يحتاج .. ولو حاسب نفسه لوجد الكثير من الزلات والسقطات. وقد حدد الربيع بن خثيم الكلام بأنه لا خير فيه إلا في تسع. ¬

_ (¬1) منهاج القاصدين: (187). (¬2) الفوائد: (130). (¬3) الإحياء: (3/ 366). (¬4) السير (4/ 94).

تهليل وتكبر، وتسبيح وتحميد، وسؤالك من الخير، وتعوذك من الشر، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، وقراءتك القرآن (¬1). أخي الكريم: هل وقفنا بألسنتنا عند هذه الأمور التسعة، فأضحى التهليل والتكبير ملازما لنا، وأصبحنا والقرآن ربيع قلوبنا؟ أم أن نصيب الدنيا في ألسنتنا هو الغالب وذكر الله وقراءة القرآن هو النادر .. ونحن في منحدر من الدنيا وإقبال على الآخرة؟ تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي ... درج الجنان بها فوز العابد ونسيت أن الله أخرج آدمًا ... منها إلى الدنيا بذنب واحد (¬2) عن سفيان قال: طول الصمت مفتاح العبادة (¬3). فإن في طول الصمت تفكرًا وكفًا عن ما لا ينبغي، واستفادة من الأوقات .. ومحاسبة للزلات. قال الفضيل بن عياض: ما حج ولا رباط ولا جهاد أشد من حبس اللسان، ولو أصبحت يهمك لسانك، أصبحت في هم شديد (¬4)، هم وهو يتعاهد لسانه ويحافظ على كلماته. فإن اللفظات حفظها بأن لا يخرج لفظة ضائعة بأن لا يتكلم إلا فيما يرجو فيه الربح والزيادة في دينه، فإذا أراد أن يتكلم ¬

_ (¬1) كتاب الصمت (84). (¬2) عقود اللؤلؤ: 36. (¬3) كتاب الصمت: 222. (¬4) جامع العلوم والحكم: (162).

بالكلمة نظر، هل فيها ربح وفائدة أم لا؟ فإن لم يكن فيها ربح أمسك عنها، وإن كان فيها ربح نظر. هل تفوت بها كلمة هي أربح منها؟ فلا يضيعها بهذه وإذا أردت أن تستدل على ما في القلب فاستدل عليه بحركة اللسان، فإنه يطلعك على ما في القلب، شاء صاحبه أم أبى. قال يحيى بن معاذ: القلوب كالقدور تغلي بما فيها، وألسنتها مغارفها، فانظر إلى الرجل حين يتكلم فإن لسانه يغترف لك مما في قلبه، حلو وحامض، وعذب وأجاج، وغير ذلك، ويبين لك طعم قلبه اغتراف لسانه، أي كما تطعم بلسانك طعم ما في القدور من الطعام فتدرك العلم بحقيقته، كذلك تطعم ما في قلب الرجل من لسانه فتذوق ما في قلبه من لسانه كما تذوق ما في تلك القدور بلسانك (¬1). والكلام إذا كان دفاعًا عن خير ودعوة إلى علم وقراءة للقرآن وذكر لله فذلك. أكثر منه فقد سلكت الجادة، فإنه يسرك يوم القيامة إذا نظرت في صحيفتك .. وأخذت كتابك بيمينك. قيل لإياس بن معاوية: إنك تكثر الكلام؟ قال: أفبصواب أتكلم أم بخطأ؟ قالوا: بصواب، قال: فالإكثار من الصواب أفضل (¬2). ¬

_ (¬1) الجواب الكافي (170). (¬2) كتاب الصمت: (303).

أخي الحبيب: اعلم أن الكلام ترجمان يعبر عن مستودعات الضمائر ويخبر بمكنونات السرائر، لا يمكن استرجاع بوادره، ولا يقدر على رد شوارده، فحق على العاقل أن يحترز من زلله، بالإمساك عنه أو بالإقلال منه (¬1). هنا موقف أبان فيه اللسان عن حقيقة الرجل ولو سكت لجهل أمره، فقد حكي عن أبي يوسف الفقيه أن رجلا كان يجلس إليه، فيطيل الصمت، فقال له أبو يوسف: ألا تسأل؟ قال: بلى، متى يفطر الصائم؟ قال: إذا غربت الشمس، قال: فإن لم تغرب إلى نصف الليل؟ فتبسم أبو يوسف رحمه الله وتمثل ببيتين من الشعر: عجبت لإزراء العي بنفسه ... وصمت الذي قد كان بالقول أعلما وفي الصمت ستر للعي وإنما ... صحيفة لب المرء أن يتكلما (¬2) أقام المنصور بن المعتز: لم يتكلم بكلمة بعد العشاء الآخرة. أربعين سنة، وقيل: ما تكلم الربيع بن خثيم بكلام الدنيا عشرين سنة، وكان إذا أصبح وضع دواة وقرطاسا وقلما فكل ما تكلم به كتبه ثم يحاسب نفسه عند المساء (¬3). أخي الحبيب أين نحن من هؤلاء؟ قيل للقمان الحكيم: ما حكمتك؟ قال: لا أسأل عما كفيت ¬

_ (¬1) أدب الدنيا والدين (265). (¬2) أدب الدنيا والدين (266). (¬3) الإحياء (3/ 121).

ولا أتكلف ما لا يعنيني (¬1). وحكي أن بعض الحكماء رأى رجلا يكثر الكلام ويقل السكوت، فقال: إن الله تعالى إنما خلق لك أذنين ولسانا واحدا ليكون ما تسمعه ضعف ما تتكلم به (¬2). والكثير الآن تجاوز هذا الضعف، يهذر بما يعلم وما لا يعلم، لا يتحدث في علم إلا له فيه قول ... ولا يمر اسم فلان من الناس إلا لمزه وغمزه. وقد حذر الجنيد من ذلك بقوله: أقل ما في الكلام سقوط هيبة الرب جل جلاله من القلب، والقلب إذا عرى من الهيبة عرى من الإيمان (¬3). ولكي يسلم المتحدث من الزلل في حديثه والنقص في مقاله فإن عليه أن يراعي شروطا أربعة: الشرط الأول: أن يكون الكلام لداع يدعو إليه، إما في اجتلاب نفع، أو دفع ضرر. الشرط الثاني: أن يأتي به في موضعه، ويتوخى به إصابة فرصته. الشرط الثالث: أن يقتصر منه على قدر حاجته. ¬

_ (¬1) الإحياء (3/ 121). (¬2) أدب الدنيا والدين: (268). (¬3) السير: (14/ 68).

الشرط الرابع: أن يتخير اللفظ الذي يتكلم به (¬1). إذا توافرت هذه الشروط فعليك بالحديث وإلا فإن الصمت يجمع للرجل خصلتين: السلامة في دينه، والفهم عن صاحبه (¬2). ومن يقدر الآن على الصمت ونحن في زمن يخيل للسامع أن الإنسان خلق بلسان دون أذن .. فالكل يتحدث ترتفع الأصوات في المجالس ويكثر اللغط ولا تعلم من يحدث من؟ ومن يستمع لمن؟ ترى اثنين يتحدثان بصوت مرتفع .. وتبحث عن المستمع فلا ترى أحدا. الكل يتحدث .. ولكن أين المستمع؟ هذا عبد الله بن أبي زكريا يقول: عالجت الصمت ثنتي عشرة سنة، فما بلغت منه ما كنت أرجو (¬3). وقال: مورق العجلي: أمر أنا أطلبه منذ عشر سنين لم أقدر عليه ولست بتارك طلبه، قالوا: وما هو يا أبا المعتمر؟ قال: الصمت عما لا يعنيني (¬4). أخي الحبيب: أين نحن من هؤلاء؟ قوم جاهدوا أنفسهم وحاولوا سنوات طويلة، أفلا نفكر ولو ¬

_ (¬1) أدب الدنيا والدين (266). (¬2) كتاب الصمت (69) الإحياء (3/ 120). (¬3) كتاب الصمت (303). (¬4) كتاب الصمت (97) جامع العلوم والحكم: (138) الإحياء (3/ 122).

أيام معدودة في الصمت عما لا يعنينا؟ ولو لساعات فقط؟ ولكن الأمر كما قال محمد بن واسع لمالك بن دينار: يا أبا يحيى حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدينار والدرهم (¬1). مع أنه ما من أحد من الناس يكون منه لسانه على بال إلا رأيت صلاح ذلك في سائر عمله (¬2). يصاب الفتى من عثرة بلسانه ... وليس يصاب المرء من عثرة الرجل فعثرته بالقول تذهب رأسه ... وعثرة بالرجل تبري على مهل (¬3) انظر يا أخي إلى قول الأوزاعي: من أكثر من ذكر الموت كفاه اليسير ومن علم أن منطقه من عمله قل كلامه. ومن قل كلامه فيما لا فائدة فيه .. استكثر مما لا ينفع في الآخرة .. وحدد محمد بن عجلان الكلام بأربعة أن تذكر الله، وتقرأ القرآن وتسأل عن علم فتخبر به، أو تتكلم فيما يعنيك من أمر دنياك (¬4). فإنه حق على العاقل أن يكون عارفًا بزمانه حافظًا للسانه، مقبلاً على شأنه (¬5). ¬

_ (¬1) الإحياء: (3/ 120). (¬2) الإحياء (3/ 120). (¬3) شذرات الذهب (2/ 106). (¬4) جامع العلوم والحكم (162). (¬5) الإحياء (3/ 120).

فالأمر كما قال الحسن: ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه (¬1). فإن من المحافظة على دين المرء المحافظة على اللسان .. قال رجل لحامد اللفاف، أوصيني قال: اجعل لدينك غلافًا كغلاف المصحف أن تدنسه الآفات قال: وما غلاف الدين؟ قال: ترك طلب الدنيا إلا مما لا بد منه وترك كثرة الكلام إلا فيما لا بد منه وترك مخالطة الناس إلا فيما لا بد منه (¬2). وسبقه عمر بن عبد العزيز برسالة بعث بها: أما بعد: فإن من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، ومن عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه (¬3). أخي الحبيب: من منا الآن من يعد كلامه .. ويقف دون زلاته ... لنعد لحظات نسعد فيها بسماع حديث السلف .. نتربى في مدارسهم ونسير على أثرهم. قال الفضيل: أعرف من يعد كلامه من الجمعة إلى الجمعة (¬4) (¬5). وربما نحاول في مجلس أن نعد كلامنا ... فلا نستطيع .. ما ¬

_ (¬1) الإحياء (3/ 120). (¬2) الإحياء (4/ 58). (¬3) الإحياء (3/ 120). (¬4) أعرف الآن من يعد كلامه من الجمعة إلى الجمعة. (¬5) صيد الخاطر: (619).

بالك إذا كانت أعواما وشهور! ! . صحب بعضهم الربيع بن خثيم عشرين عامًا .. فقال: ما سمعت منه كلمة تعاب (¬1). استر العي ما استطعت بصمت ... إن في الصمت راحة للصموت واجعل الصمت إن عييت جوابا ... رب قول جوابه في السكوت (¬2) وحتى في السكوت ربما يلحقك مذمة، ويتبعك ملامة ولكن عليك أخي الحبيب بقول أبي الدرداء: أدركت الناس ورقًا ولا شوك فيه، فأصبحوا شوكًا لا ورق فيه، إن نقدتهم نقدوك، وإن تركتهم لا يتركوك، قالوا: فكيف نصنع؟ قال: تقرضهم من عرضك ليوم فقرك (¬3). فأقرض يا أخي من عرضك ليوم فقرك. واعلم أنها حسنات تجمع لك تراها يوم القيامة مثل الجبال، يسرك مقدمها في ذلك اليوم العصيب. قال: رباح القيس: قال لي عتبة (الغلام) يا رباح: إن كنت كلما دعتني نفسي إلى الكلام تكلمت، فبئس الناظر لها أنا يا رباح .. إن لي موقفًا تغتبط فيه بطول الصمت عن الفضول (¬4). وهو موقف يوم يشيب فيه الولدان .. حساب ومنصرفان. ¬

_ (¬1) السير (4/ 259). (¬2) كتاب الصمت: (300). (¬3) صفة الصفوة (1/ 638) حلية الأولياء: (1/ 218). (¬4) صفة الصفوة: (3/ 372).

إما إلى الجنة أو إلى النار ولهذا الموقف قال أبو حازم: انظر الذي تحب أن يكون معك في الآخرة، فقدمه اليوم، وانظر الذي تكره، أن يكون معك ثم، فاتركه اليوم (¬1). أخي: يكفي من طول بعض المجالس قليل من الوقت .. فإن طال المجلس .. انتهى حديث السلام والسؤال، وبدأت آفات اللسان. فاحفظ أمرك وحاسب نفسك. لقاء الناس ليس يفيد شيئا ... سوى الهذيان من قيل وقال فأقلل من لقاء الناس إلا ... لأخذ العلم أو إصلاح حال (¬2) قال ابن الحسن بن بشار: منذ ثلاثين سنة ما تكلمت بكلمة أحتاج أن اعتذر منها. لهم باع في الحديث وفي تسيد المجالس لو أرادوا ولكنهم عفوا وحفظوا ألسنتهم يخافون يوما يرجعون فيه إلى الله. قال عمر بن عبد العزيز: إنه ليمنعني من كثير من الكلام مخافة المباهاة (¬3). والإنسان لا يخلو من محادثة الكثير ممن تتفاوت عقولهم وتختلف مداركهم، وتتلون طباعهم ووجه وهب بن منبه لهذا الأمر بقوله: دع المراء والجدل، فإنه لن يعجز أحد رجلين، رجل هو أعلم منك، فكيف تعادي وتجادل من أعلم منك؟ ¬

_ (¬1) شرح الصدور: (21). (¬2) وفيات الأعيان: (4/ 283). (¬3) كتاب الصمت (88).

ورجل أنت أعلم منه، فكيف من أنت أعلم منه، ولا يطيعك؟ (¬1). وخير للمرء إن أراد المحافظة على دينه من النقص وعلى كرامته من الخدش أن يلزم الصمت أو يقول خيرًا. ولا خير في الحياة كما قال سعيد بن عبد العزيز: إلا لأحد رجلين: صموت واع، وناطق عارف (¬2). أخي: ألا ترى معي أن: الصمت أزين بالفتى ... من منطق في غير حينه والصدق أجمل بالفتى ... في القول عندي من يمينه وعلى الفتى بوقاره ... سمت تلوح على جبينه جعلني الله وإياك ممن إذا تكلم نفع وكان حديثا في موازين أعماله، وإن سكت كان خيرا له. قال بشر بن منصور كنا عند أيوب السختياني فلغطنا وتكلمنا، فقال لنا: كفوا .. لو أردت أن أخبركم بكل شيء تكلمت به اليوم لفعلت (¬3). وحديثهم إن تحدثوا فهي كلمات خير. موزونة معلومة .. لا لغط فيها ولا منكر. حدث أبو حيان التيمي عن أبيه قال: رأيت ابنة الربيع بن ¬

_ (¬1) السير (4/ 549). (¬2) السير (8/ 36). (¬3) حلية الأولياء (3/ 8).

خثيم أتته فقالت: يا أبتاه أذهب ألعب؟ قال: يا بنيتي اذهبي قولي خيرا (¬1). وكل ذلك خوفا من أن تسجل كلمة عليه ألا وهي .. الأمر باللعب وهو يعلم أنها ما خلقت لهذا. ووالله إن حفظ اللسان من المجاهدة والمكابرة .. قال محمد بن واسع لمالك بن دينار: يا أبا يحيى حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدينار والدرهم (¬2). وانظر يا أخي إلى أحوال الناس في البيع والشراء والأخذ والعطاء .. ربما يجادل الواحد منهم وقتا طويلا في سبل دريهمات، إن لم يكن فيها شيء من ضياع الوقت وارتفاع الأصوات فإن فيها من رداءه الخلق وشح الأنفس الشيء الكثير. قال شداد بن أوس يوما: هاتوا السفرة نعبث بها، فأخذوها عليه، فقال: أي بني أخي: إني ما تكلمت بكلمة منذ بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا كلمة مزمومة مخطومة قبل هذه (¬3). وأكثر ألسن الناس اليوم ليس لها زمام ولا خطام، ولو أن هذه الألسن تسير في الشوارع والطرقات لضاقت بها الأرض ولما وجدنا موطئ قدم من كثرتها. رأى إبراهيم بن أدهم رجلا يحدث من كلام الدنيا، فوقف ¬

_ (¬1) كتاب الصمت (218). (¬2) الإحياء (3/ 120). (¬3) حلية الأولياء (1/، 265)، والإحياء (3/ 336).

عليه وقال له: كلامك هذا ترجو فيه؟ قال: لا، قال فتأمن عليه؟ قال: لا، قال: فما تصنع بشيء لا ترجو فيه ولا تأمن عليه (¬1). تعاهد لسانك إن اللسان ... سريع إلى المرء في قتله وهذا اللسان بريد الفؤاد ... يدل الرجال على عقله قال أبو الدرداء رضي الله عنه: أنصف أذنيك من وفيك، فإنما جعل للإنسان أذنان، وفم واحد، لتسمع أكثر مما تقول. فإلزم الصمت، فإنه يكسبك صنوف المحبة، ويؤمنك سوء المغبة ويلبسك ثوب الوقار ويكفيك مؤنة الاعتذار (¬2). قال رجل من بني تيم: جالست الربيع بن خثيم، عشر سنوات فما سمعته يسأل عن شيء من أمور الدنيا إلا مرتين، قال مرة: والدتك حية؟ وقال مرة: كم لكم مسجدًا (¬3)؟ وواقعنا اليوم مثل رجل قال لسلمان الفارسي: أوصني قال: لا تتكلم، قال: ما يستطيع من عاش في الناس أن لا يتكلم، قال: فإن تكلمت فتكلم بحق أو أسكت (¬4). وهذه النصيحة تصلح لكل زمان ولزماننا خاصة ولكن يبقى فقط أن نطبقها في واقع حياتنا وفي مجالسنا، ومكالمتنا الهاتفية. عن عبد الله بن مسعود قال: والله الذي لا إله إلا هو ما على ¬

_ (¬1) حلية الأولياء (8/ 16). (¬2) أدب الدنيا والدين: 265. (¬3) حلية الأولياء: (2/ 110). (¬4) جامع العلوم والحكم (162).

وجه الأرض شيء أحوج إلى سجن من لسان (¬1). فإن لم يسجن وأطلق له العنان فإنه كما وصف طاوس: لساني سبع إن أرسلته أكلني (¬2). وهو والله أشد يأكل الحسنات ويجلب السيئات، تفاجأ يوم القيامة بذنوب كالجبال، من آفات وسقطات اللسان. يتعلق بك من بهته ويمسك بك من اغتبته. . ويقبض على رقبتك من استهزأت به قال تعالى: {أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ} حديثك تنساه بمجرد إطلاق الكلمة وانتهاء المجلس .. ولكنه محصى عليك .. موقوف أنت حتى يقتص منك .. يؤخذ من حسناتك لهم فإن فنيت حسناتك أخذ من سيئاتك فحطت عليك ... ! مصيبة أن تفجع في ذلك اليوم بمثل هذا وأنت أحوج ما تكون للحسنة الواحدة. لنرى تحفظ من سبقنا .. وكيف كانوا يملئون صحائفهم؟ قيل للمعافي بن عمران: ما ترى في الرجل يقرض الشعر ويقوله؟ قال: هو عمرك فأفنه بما شئت. وسئل مسروق عن بيت من شعر فكرهه، فقيل له؟ فقال: إني أكره أن يوجد في صحيفتي شعر (¬3). ¬

_ (¬1) صفة الصفوة (1/ 450). (¬2) الإحياء: 3/ 120. (¬3) كتاب الصمت (282).

هذا الشعر ضرب من ضروب الكلام حسنه حسن ورديئه رديء، ولكن أصحاب الهمم ومن يرى أن تسبيحه وتحميده خير له، حفظ سطور صحائفه إلا في رفع درجة وحط خطيئة. وقد قال رجل للربيع بن خثيم ما يمنعك أن تمثل بيتا من الشعر فإن أصحابك قد كانوا يفعلون ذلك؟ قال: إنه ليس أحد يتكلم بكلام إلا كتب، ثم يعرض عليه يوم القيامة، فإني أكره أن أقرأ في كتابي يوم القيامة بيت شعر (¬1). ويا أخي الكريم: هو لسانك، وهذه صحيفتك .. فأمل ما شئت، وقل ما شئت. اجتمع قس بن ساعدة وأكثم بن صيفي، فقال أحدهما لصاحبه: كم وجدت في ابن آدم من العيوب؟ فقال: هي أكثر من أن تحصى، والذي أحصيته ثمانية آلاف عيب، ووجدت خصلة إن استعملها سترت العيوب كلها، قال: وما هي؟ قال: حفظ اللسان (¬2). ¬

_ (¬1) كتاب الصمت (308) حلية الأولياء (2/ 113). (¬2) الأذكار النووية (287).

أخي الحبيب: للسان آفات كثيرة، ومزالق خطيرة وسأقتصر على أربع آفات فقط. الآفة الأولى: الغيبة. الآفة الثانية: النميمة. الآفة الثالثة: الكذب. الآفة الرابعة: الاستهزاء.

الآفة الأولى الغيبة

الآفة الأولى الغيبة

الغيبة

الغيبة اعلم أخي الكريم أن الغيبة أن تذكر أخاك بما يكرهه، لو بلغه، سواء ذكرته بنقص في بدنه أو نسبه أو في خلقه أو في فعله أو في قوله أو في دينه، حتى في ثوبه وداره ودابته. أما البدن: فكذكرك العمش والحول والقرع والقصر والطول والسواد والصفرة وجميع ما يتصور أن يوصف به مما يكرهه كيفما كان. وأما النسب: فبأن تقول أبوه قبطي أو هندي أو فاسق، أو خسيس أو إسكافي أو زبال، أو شيء مما يكرهه كيفما كان. أما الخلق: فبأن تقول هو سيئ الخلق، بخيل، متكبر، مراء، شديد الغضب، جبان، عاجز، ضعيف القلب، متهور، وما يجري مجراه. وأما في أفعاله المتعلقة بالدين: فكقولك هو سارق أو كذاب أو شارب خمر أو خائن أو ظالم أو متهاون بالصلاة أو الزكاة أو لا يحسن الركوع أو السجود أو لا يتحرز من النجاسات أو ليس بارا بوالديه أو لا يضع الزكاة موضعها ولا يحسن قسمها، أو لا يحرس صومه عن الرفث والغيبة والتعرض لأعراض الناس. وأما فعله المتعلق بالدنيا: فكقولك إنه قليل الأدب متهاون بالناس، أو لا يرى لأحد على نفسه حقا أو يرى لنفسه الحق على الناس، أو أنه كثير الكلام نئوم ينام في غير وقت النوم، ويجلس في

غير موضعه. وأما في ثوبه: فكقولك إنه واسع الكم طويل الذيل وسخ الثياب (¬1). وهذه أمثلة بسيطة وإلا ففي أحاديث المجالس كثير من أنواع الغيبة. والغيبة محرمة: بالإجماع ولا يستثنى من ذلك إلا ما رجحت مصلحته كما في الجرح والتعديل والنصيحة (¬2). قال جل وعلا: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12]. قال ثعلب في تفسير هذه الآية: أي لا يتناول بعضكم بعضا بظهر الغيب بما يسوءه. وفي الآية إشارة إلى أن عرض الإنسان كلحمه، وكما أنه يحرم أكل لحمه، يحرم الاستطالة في عرضه، وفي هذا من التنفير عن الغيبة والتوبيخ لها والتوبيخ لفاعلها والتشنيع عليه ما لا يخفى، فإن لحم الإنسان مما تنفر عن أكله الطباع الإنسانية وتستكرهه الجبلة الإنسانية، فضلا عن كونه محرما شرعا (¬3). وقد أبان - صلى الله عليه وسلم - الغيبة فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أتدرون ما الغيبة؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ¬

_ (¬1) الإحياء (3/ 152). (¬2) تفسير ابن كثير (4/ 222). (¬3) فتح القدير: (5/ 65).

"ذكرك أخاك بما يكره" قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته" رواه مسلم. وبهذا يبين - صلى الله عليه وسلم - الفرق بين الغيبة والبهتان وأن الكذب عليه بهتًا له، فالكذب على الشخص حرام كله سواء كان الرجل مسلمًا أو كافرًا، برًّا أو فاجرًا، لكن الافتراء على المؤمن أشد. بل الكذب كله حرام (¬1). والغيبة تعد على أعراض المسلمين والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته يوم النحر بمنى في حجة الوداع: "إن دماءكم وأموالكم، وأعراضكم، حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت" متفق عليه. وفي الحديث الآخر قال - صلى الله عليه وسلم -: "كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه" رواه مسلم. والغيبة: تتناول العرض وقد جمع الله بينه وبين المال والدم (¬2). قال أنس رضي الله عنه خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر الربا وعظم شأنه فقال: "إن الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله في الخطيئة من ست وثلاثين زنية يزنيها الرجل، وأربى الربا عرض المسلم". وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا جلوس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال رجل من القوم: يا رسول الله ما أعجز فلانا؟ فقال رسول ¬

_ (¬1) الفتاوى: (28/ 223). (¬2) الإحياء (3/ 152).

الله - صلى الله عليه وسلم -: "أكلتم لحم أخيكم، واغتبتموه" (¬1). ويقول الإمام القرطبي والإجماع على أنها من الكبائر وأنه يجب التوبة منها إلى الله. ¬

_ (¬1) كتاب الصمت (136).

بواعث الغيبة

بواعث الغيبة لا شك أن هناك بواعث للغيبة منها: 1 - من يغتاب موافقة لجلسائه وأصحابه وعشائره، مع علمه أن المغتاب بريء مما يقولون أو فيه بعض ما يقولون، لكن يرى أنه لو أنكر عليهم لقطع المجلس واستثقله أهل المجلس ونفروا منه. 2 - ومنهم من يخرج الغيبة في مواكب شتى تارة في قالب ديانة وصلاح، ويقول ليس لي عادة أن أذكر أحدًا إلا بخير، ولا أحب الغيبة والكذب، وإنما أخبركم بأحواله ويقول: والله إنه مسكين ورجل جيد، ولكن فيه كيت وكيت، وربما يقول: دعونا منه الله يغفر لنا وله، وقصده من ذلك استنقاصه. 3 - ومنهم من يحمله الحسد على الغيبة فيجمع بين أمرين قبيحين: الغيبة والحسد. 4 - ومنهم من يخرج الغيبة في قالب تسخر ولعب، ليضحك غيره باستهزائه ومحاكاته واستصغار المستهزأ به. 5 - ومنهم من يخرج الغيبة في قالب التعجب، فيقول: تعجبت من فلان، كيف لا يفعل كيت وكيت، ومن فلان كيف وقع منه كيت وكيت. 6 - ومنهم من يخرج الغيبة في قالب الاغتمام فيقول مسكين فلان، غمني ما جرى له، وما تم له، فيظن من يسمعه أنه يغتم له ويتأسف وقلبه منطو على التشفي به، ولو قدر لزاد على ما به وربما يذكره عند أعدائه ليتشفوا به.

7 - ومنهم من يظهر الغيبة في قالب غضب وإنكار منكر، وقصده غير ما أظهر (¬1). أخي الكريم: هذه بواعث للنفوس الضعيفة والقلوب المريضة وإلا فالمؤمن لا يترك لنفسه هواها بل يراعي في ذلك حدود الله وما نهى عنه. ذكر عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله أنه أضاف أناسا فلما قعدوا على الطعام، جعلوا يتناولون رجلا، قال إبراهيم: إن الذين كانوا قلنا، كانوا يأكلون الخبز قبل اللحم، وأنتم بدأتم باللحم قبل الخبز (¬2). وفي ذلك إشارة إلى أنهم يأكلون لحم أخيهم المسلم .. وانظر إلى أثر ذلك في دين الرجل. قال الحسن: والله للغيبة أسرع في دين المؤمن من الآكلة في جسده (¬3). وقال سفيان بن عيينة: الغيبة أشد من الدين، الدين يقضى والغيبة لا تقضي (¬4). ولكي لا يكون عليك دين لا يقضى إلا يوم القيامة .. ليكن حظ المؤمن منك ثلاثًا إن لم تنفعه فلا تضره، وإن لم تفرحه فلا ¬

_ (¬1) الفتاوى باختصار يسير (28/ 237). (¬2) تنبيه الغافلين: (177). (¬3) كتاب الصمت (129) الإحياء (3/ 152). (¬4) حلية الأولياء (7/ 275).

تغمه وإن لم تمدحه فلا تذمه (¬1). قال سفيان بن الحصين: كنت جالسا عند إياس بن معاوية فمر رجل، فنلت منه، فقال: اسكت، ثم قال لي سفيان: هل غزوت الروم؟ قلت: لا، قال: غزوت الترك؟ قلت: لا، قال: سلم منك الروم وسلم منك الترك، ولم يسلم منك أخوك المسلم، قال: فما عدت إلى ذلك بعد (¬2). ولعلنا نكون مثله فيسلم المسلمون منا ونسلم منهم وكفى المرء نبلا أن تعد معايبه .. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية إن بعض الناس لا تراه إلا منتقدا داء ينسى حسنات الطوائف والأجناس ويذكر مثالبهم، فهو مثل الذباب يترك موضع البرء والسلامة ويقع على الجرح والأذى، وهذا من رداءة النفوس وفساد المزاج. أخي الحبيب: هل تقبل أن تكون كذلك؟ أم تقبل أن تكون مستمعًا لما حرم الله من الغيبة؟ وأنت تعلم أن المغتاب لو لم يجد أذنًا صاغية لما اغتاب واسترسل في الحديث .. فأنت باستماعك تكون مشجعا وعونا له على المعصية فلا تكن شريكًا في الإثم. قال الإمام الشافعي: قبول السعاية أضر من السعاية، لأن السعاية دلالة، والقبول إجازة، وليس من دل على شيء كمن قبل ¬

_ (¬1) صفة الصفوة (4/ 91). (¬2) تنبيه الغافلين (1/ 178).

وأجاز، والساعي ممقوت إذا كان صادقًا لهتكه العورة وإضاعته الحرمة، ومعاتب إن كان كاذبًا لمبارزته الله بقول البهتان وشهادة الزور (¬1). واعلم أخي: أن مجالس الغيبة ليست بمجالس خير وهي مجالس تؤكل فيها لحوم المسلمين. روي عن حاتم الزاهد رحمه الله تعالى أنه قال: ثلاثة إذا كن في مجلس فالرحمة عنهم مصروفة: ذكر الدنيا، والضحك، والوقيعة في الناس (¬2). وقال بكر بن عبد الله: إذا رأيتم الرجل موكلاً بعيوب الناس، ناسيًا لعيبه، فأعلموا أنه قد مكر به (¬3). أخي: اعلم أن أحسن أحوالك أن تحفظ ألفاظك من جميع الآفات وتتكلم فيما هو مباح لا ضرر عليك فيه ولا على مسلم أصلاً، إلا أنك تتكلم بما أنت مستغن عنه ولا حاجة لك إليه فإنك تضيع به زمانك، وتحاسب على عمل لسانك وتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير .. ولو هللت الله سبحانه وسبحته لكان خير لك، فكم من كلمة يبني بها قصرًا في الجنة، ومن قدر على أن يأخذ كنزا من الكنوز، فأخذ مكانه قذرة لا ينتفع بها كان خاسرًا خسرانًا مبينًا، وهذا مثال من ترك ذكر الله تعالى واشتغل بمباح لا يعنيه، فإنه ¬

_ (¬1) حلية الأولياء (9/ 123) صفة الصفوة (2/ 253). (¬2) تنبيه الغافلين: (1/ 178). (¬3) صفة الصفوة: (3/ 249).

وإن لم يأثم فقد خسر حيث فاته الربح العظيم بذكر الله تعالى، فإن المؤمن لا يكون صمته إلا فكرًا ونظره إلا عبرة ونطقه إلا ذكرًا، بل رأس مال العبد أوقاته، ومهما صرفها إلى ما لا يعنيه ولم يدخر بها ثوابًا في الآخرة فقد ضيع رأس ماله (¬1). وذكر ذلك عون بن عبد الله في قوله: ما أحسب أحدا تفرغ لعيب الناس إلا من غفلة غفلها عن نفسه (¬2). وهل هناك أكثر من غفلة عن جلب الحسنات واستبدالها بسيئات؟ والمغتاب إذا أطلق لسانه قد لا يسلم منه حتى من قد رحلوا إلى الدار الآخرة، بل للأحياء نصيب وللأموات. قال يحيى بن معين: إنا لنطعن على أقوام لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة من أكثر من مائتي سنة (¬3). دع عنك ذكر فلانة وفلان ... واجنب لما يلهي عن الرحمن واعلم بأن الموت يأتي بغتة ... وجميع ما فوق البسيطة فان فإلى متى تلهو وقلبك غافل ... عن ذكر يوم الحشر والميزان (¬4) ذكر عن إبراهيم بن أدهم .. أنه دعي إلى طعام فلما جلس قالوا: إن فلانا لم يجئ فقال رجل منهم: إن فلانا رجل ثقيل، فقال إبراهيم: إنما فعل هذا بي بطني حين شهدت طعامًا، اغتبت فيه ¬

_ (¬1) الإحياء (3/ 121). (¬2) صفة الصفوة (3/ 101). (¬3) السير (11/ 94) تذكرة الحفاظ (3/ 831). (¬4) شذرات الذهب (5/ 281).

مسلما، فخرج ولم يأكل ثلاثة أيام (¬1). أخي الحبيب أين نحن من هؤلاء؟ قال مالك بن دينار: لو كلف الناس الصحف لأقلوا من المنطق (¬2). والله لاحتاج البعض إلى من يحمل معه تلك الصحف. وأذكر أن إحدى قريباتي ذهبت لزيارة امرأة بها صمم فلا تسمع وكانت طريقة التفاهم معها هي الكتابة وذلك لعدم إجادتها لغة الإشارات فحملت قلمًا وأوراقًا وعندما عادت بدأت تقلب ماذا كتبت فإذا الأمر مهول .. ولو قامت بإحصاء حديث الغيبة لطال الحساب وهي زيارة لم تدم سوى فترة زمنية قصيرة .. أما الحديث الذي لا فائدة فيه فهو كثير. فكيف إذا أحصى حديث اللسان وهو أسرع من الكتابة خاصة أن انتظار الجواب كتابة أيضا وهذا يعني ضياع جزء من الوقت في نفس الكتابة فحسب. فكيف لو كان اللسان منطلقًا والأذن تسمع، فكم من حديث يحاسب عليه الإنسان وهو لا يدري من سرعة مروره وتهاونه فيه ولكن الأمر كما قال أبو بكر بن عبد الرحمن: لا يلهينك الناس عن ذات النفس، فإن الأمر يخلص إليك دونهم ولا ¬

_ (¬1) تنبيه الغافلين (1/ 179). (¬2) كتاب الصمت (484).

تقطع نهارك بكيت وكيت، فإنه محفوظ عليك ما قلت (¬1). ومحاسب على ما قلت .. في يوم أنت أحوج فيه إلى جلب حسنة وإلى دفع سيئة. مر الحسن بشاب وهو مستغرق في ضحكه وهو جالس مع قوم في مجلس، فقال له الحسن: يا فتى هل مررت بالصراط؟ قال: لا، قال فهل تدري إلى الجنة تصير أم إلى النار؟ قال: لا، قال: فما هذا الضحك؟ فما رؤي ذلك الفتى بعدها ضاحكًا (¬2). وكان الربيع بن خثيم إذا قيل له كيف أصبحتم؟ قال: ضعفاء مذنبين نأكل أرزاقنا وننتظر آجالنا (¬3). أخي: والحال هذه، أعمارنا تجري، وألسنتنا تنطق وصحائفنا تسجل، كيف الخلاص من تلك الآفة التي تفتك بالحسنات وتأتي بالحسرات، هذا أحد من حرص على مجاهدة لسانه ومحاسبته، يروي لنا كيف تخلص من هذه الآفة. قال ابن وهب: نذرت إني كلما اغتبت إنسانا أن أصوم يوما، فأجهدني فكنت أصوم وأغتاب، فنويت إني كلما اغتبت إنسانا أن أتصدق بدرهم، فمن حب الدراهم، تركت الغيبة (¬4). ¬

_ (¬1) البداية والنهاية (9/ 130). (¬2) الإحياء: (4/ 194). (¬3) السير (4/ 259). (¬4) السير (9/ 28).

أخي المسلم: لو هللت الله وذكرته وسبحته لكان خيرا لك فكم من كلمة يبني بها قصرًا في الجنة، ومن قدر أن يأخذ كنزًا من الكنوز فأخذ مكانه مدرة لا ينتفع بها كان خاسرًا خسرانًا مبينًا، وهذا مثال من ترك ذكر الله تعالى واشتغل بمباح لا يعنيه، فإنه وإن لم يأثم فقد خسر حيث فاته الربح العظيم بذكر الله تعالى، فإن المؤمن لا يكون صمته إلا فكرا ونظره إلا عبرة ونطقه إلا ذكرا (¬1). وعن الأحنف قال: قال لي عمر بن الخطاب: يا أحنف من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه (¬2). ولو تأمل القارئ كيف تدرج الأمر حتى وصل إلى موت القلب وتساوي الأشياء لنزه نفسه عن هذا وحرص على منطقه وحفظ جوارحه. اغتاب رجل عند معروف الكرخي فقال: اذكر القطن إذا وضع على عينيك (¬3). فمن تذكر تلك اللحظات ... ومصيره بعدها لتراجع عن غيبته وأعاد لسانه قبل أن يتحدث. ¬

_ (¬1) الإحياء: (3/ 121). (¬2) صفوة الصفوة (1/ 87). (¬3) السير: (9/ 141).

هذا عبد الله بن أبي زكريا: يقول: مكثت اثنتي عشرة سنة أتحفظ من لساني (¬1). فمثل نفسك يا مغرور وقد حلت بك السكرات، ونزل بك الأنين والغمرات، فمن قائل يقول: إن فلانا قد أوصى وماله قد أحصى، ومن قائل يقول: إن فلانًا ثقل لسانه، فلا يعرف جيرانه ولا يكلم إخوانه، فكأني أنظر إليك تسمع الخطاب ولا تقدم على رد الجواب، ثم تبكي ابنتك وهي كالأسيرة وتتضرع وتقول: حبيبي أبي، من ليتمي بعدك؟ من لحاجتي؟ وأنت والله تسمع الكلام ولا تقدر على رد الجواب: وأقبلت الصغرى تمرع خدها ... على وجنتي حينًا وحينًا على صدري وتمسك خديها وتبكي بحرقة ... تنادي: أبي إني غلبت على الصبر حبيبي أبي من لليتامى تركتهم ... كأفراخ زغب في بعيد من الوكر (¬2) ورحل بك من هذه الدنيا إلى الدار الآخرة .. حملت أوزارك معك .. ورحلت وحيدًا حيث الحساب والجزاء، فرحم الله من حفظ لسانه ليوم فقره .. ورحم الله من استبدل مكان الشر خيرا فسرته صحيفته إذا رآها غدا. قال سفيان الثوري: أقل من معرفة الناس تقل غيبتك (¬3). ¬

_ (¬1) الزهد لأبي عاصم: 39. (¬2) التذكرة (24). (¬3) حلية الأولياء (7/ 8) السير (7/ 276).

سوى الهذيان من قيل وقال لقاء الناس ليس يفيد شيئًا فأقلل من لقاء الناس إلا ... لأخذ علم أو إصلاح حال (¬1) قال رجل للفضيل بن عياض: إن فلانًا يغتابني قال: قد جلب لك الخير جلبا (¬2). وكتب أشهب بن عبد العزيز: إلى رجل كان يقع فيه: أما بعد: فإنه لم يمنعني أن أكتب إليك أن تتزايد مما أنت فيه إلا كراهية أن أعينك على معصية الله، وأعلم أني أرتع في حسناتك كما ترعى الشاة الخضر والسلام (¬3). وقال: عبد الرحمن بن مهدي: لولا أني أكره أن يعصى الله تمنيت أن لا يبقى في هذا العصر أحد وإلا وقع في واغتابني فأي شيء أهنأ من حسنة يجدها الرجل في صحيفته يوم القيامة لم يعملها ولم يعلم بها (¬4). ويظن البعض أن الغيبة تقتصر على أناس دون آخرين وعلى مجتمع دون آخر بل هي تشمل الجميع وإنها لعمري في العلماء أعظم وأشنع كما أنها في غيرهم سواء .. يتساوى في ذلك من ارتفعت به درجات الدنيا ومن قصرت ممن ولاهم الله أمور المسلمين. قال سفيان: لو كان معكم من يرفع الحديث إلى السلطان، ¬

_ (¬1) تذكرة الحفاظ: (4/ 1222). (¬2) حلية الأولياء: (8/ 108). (¬3) ترتيب المدارك (1/ 450). (¬4) صفة الصفوة (4/ 5).

أكنتم تتكلمون بشيء؟ قلنا: لا، قال: فإن معكم من يرفع الحديث .. يعني الملكان الموكلان: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}. أخي الحبيب: إن من تغتابه غالبا تكرهه وتحمل عليه، ولكن انظر ماذا يصنع معك .. إنه يأخذ منك أكثر مما تأخذ منه. وأين؟ إنه في وقت الشدة وزمن الحاجة: يشاركك المغتاب في حسناته ... ويعطيك أجري صومه وصلاته ويحمل وزرا عنك ضن بحمله ... عن النجب من أبنائه وبناته فلا تعجبوا من جاهل ضر نفسه ... بإمعانه فينفع بعض عداته ويحمل من أوزاره وذنوبه ... ويهلك في تخليصه ونجاته (¬1) من تريد تحقيره في هذه الدنيا .. ها هو الفوز اليوم .. أخذ من حسناتك. فهلا ضننت بحسناتك لنفسك. قال ابن مسعود: أنذرتكم فضول كلامكم، حسب امرئ من الكلام ما بلغ به حاجته (¬2). وقال الحسن: يا ابن آدم بسطت لك صحيفة ووكل بها ملكان كريمان يكتبان أعمالك فاعمل ما شئت وأكثر أو أقل (¬3). ¬

_ (¬1) إرشاد العباد (26). (¬2) الإحياء (3/ 124). (¬3) الإحياء (3/ 124).

دخل على أبي دجانة: وهو مريض وكان وجهه يتهلل، فقيل: ما لوجهك يتهلل؟ فقال: ما من عملي شيء أوثق عندي من اثنتين: أما أحدهما فكنت لا أتكلم فيما لا يعنيني وأما الأخرى فكان قلبي للمسلمين سليمًا. والمؤمن كما قال إبراهيم التيمي: إذا أراد أن يتكلم نظر فإن كان له تكلم وإلا أمسك، والفاجر إنما لسانه رسلا رسلا (¬1). وفي حال الدنيا يتحرز بعض الناس في المجالس ... والسؤال ما دافع هذا التحرز؟ لم يكن هذا الدافع هو الخوف من الله. بل إنه حضور شخص له مكانته وهيبته، فلا تسمع في المجلس إلا خيرًا .. فأين هم من حساب الله يوم القيامة؟ وهم الذين يتحرزون عند حضور هذا الرجل ولا يخافون من الله وهو مطلع على السرائر؟ عن حاتم الأصم قال: لو أن صاحب خير جلس إليك لكنت تتحرز منه، وكلامك يعرض على الله فلا تتحرز منه (¬2). أخي الحبيب: لا يكن الله أهون الناظرين إليك .. وإياك الغيبة فإنها كما قال عنها علي بن الحسين: إدام كلاب ¬

_ (¬1) الإحياء (3/ 124). (¬2) السير (11/ 487).

الناس (¬1). ومن ذا الذي ينجو من الناس سالمًا ... وللناس قال بالظنون وقيل (¬2) قال جبير بن عبد الله: شهدت وهب بن منبه وجاءه رجل فقال: إن فلانا يقع منك فقال وهبك أما وجد الشيطان أحدا يستخف به غيرك؟ فما كان بأسرع من أن جاء الرجل فرفع مجلسه وأكرمه (¬3). وقال رجل للفضل بن بزوان: إن فلانًا يقع فيك، قال: لأغيظن من أمره، غفر الله له، قيل له: من أمره؟ قال الشيطان (¬4). وهذا رجل قال لبكر بن محمد: بلغني أنك تقع في، قال أنت إذا أكرم علي من نفسي. وقصد من هذا أن الحسنات التي يعملها تذهب له إذا اغتابه فجعله بهذا العمل أكرم من نفسه ومقدم عليها في جلب الحسنات. وروى الربيع بن صبيح أن رجلاً قال للحسن: يا أبا سعيد إني أرى أمرًا أكرهه، قال: وما ذاك يا ابن أخي، قال: أرى أقواما يحضرون مجلسك يحفظون عليك سقط كلامك ثم يحكونك ويعيبونك فقال: يا ابن أخي، لا يكبرن هذا عليك، أخبرك بما هو أعجب، قال: وما ذاك يا عم؟ قال: أطعت نفسي في جوار الرحمن ¬

_ (¬1) منهاج القاصدين: (185). (¬2) ديوان أبي العتاهية: (121). (¬3) الورع لعبد الله بن حنبل (186). (¬4) صفة الصفوة (3/ 73).

وملوك الجنان والنجاة من النيران، ومرافقة الأنبياء ولم أطع نفسي في السمعة من الناس، أنه لو سلم من الناس أحد لسلم منهم خالقهم الذي خلقهم فإذا لم يسلم خلقهم فالمخلوق أجدر أن لا يسلم (¬1). وقد كان السلف يحاسب أحدهم نفسه في قوله: يوم حار، ويوم بارد، ولقد رؤي بعض الأكابر من أهل العلم في النوم فسئل عن حاله، فقال أنا موقوف على كلمة قلتها، قلت: ما أحوج الناس إلى غيث، فقيل لي: وما يدريك؟ أنا أعلم بمصلحة عبادي (¬2). قال محمد بن سيرين: يحدث رجلاً: ما رأيت الرجل الأسود ثم قال: استغفر الله، ما أراني إلا اغتبت الرجل (¬3). والإمام البخاري صاحب الكتاب المعروف الذي جاب الآفاق يجمع حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبن باغتياب أحد (¬4). وعقب على هذا الأمر أبو عبد الله الحافظ بقوله: يشهد لهذه المقالة كلامه في الجرح والتعديل فإن أبلغ ما يقول في الرجل المتروك أو الساقط: فيه نظر، سكتوا عنه ولا يكاد يقول فلان كذاب، وفلان يضع الحديث وهذا من شدة ورعه (¬5). ¬

_ (¬1) أمراض النفوس (59). (¬2) الجواب الكافي (173). (¬3) صفة الصفوة (3/ 242). (¬4) طبقات الشافعية (2/ 223). (¬5) طبقات الشافعية: (2/ 224) السير (12/ 439).

أخي الحبيب: أين نحن من هؤلاء؟ رأى عمر بن عتبة مولاه مع رجل وهو يقع في آخر: فقال له: ويلك نزه سمعك عن استماع الخنا، كما تنزه نفسك عن القول به، فالمستمع شريك القائل، وإنما نظر إلى شر ما في وعائه فافرغه في وعائك، ولو رددت كلمة سفيه في فيه لسعد بها رادها كما شقي بها قائلها (¬1). تزود من الدنيا فإنك ميت وإنك مسئول فما أنت قائله (¬2). ووالله إن الزاد هو زاد الآخرة .. فبماذا تزودنا وكيف تجهزنا؟ عن أبي ذر قال: مالي وللناس وقد تركت لهم بيضاءهم وصفراءهم (¬3). لقد ترك الناس وسلم منه المسلمون .. ترك أعراضهم فلم يتناولها وهجر ذهبهم وفضتهم. ماله وللناس رحمه الله استعد لنزل دائم وظل لا يزول، في جنات عرضها السموات والأرض. قال: أبو عاصم النبيل رحمه الله: ما اغتبت مسلمًا منذ علمت أن الله حرم الغيبة (¬4). أدبت نفسي فما وجدت لها ... من بعد تقوى الإله من أدب في كل حالاتها وإن قصرت ... أفضل من صمتها عن الكذب ¬

_ (¬1) البداية والنهاية: (10/ 179). (¬3) الزهد لأبي عاصم: (42). (¬4) كتاب الصمت (300).

نفس فإن السكوت من ذهب (¬1) إن كان من فضة كلامك يا والغيبة محرمة بنص كلام الله جل وعلا وعلى لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - فما هذا التجرؤ على محارم الله وحدوده .. ألا نكون وقافين عندها، طائعين لما فيها؟ قال عبد الله بن محمد بن زياد: كنت عند أحمد بن حنبل فقال له رجل: يا أبا عبد الله قد اغتبتك، فاجعلني في حل، قال: أنت في حل إن لم تعد، فقلت له: أتجعله في حل يا أبا عبد الله وقد اغتابك؟ قال: ألم ترني اشترطت عليه (¬2). وجاء ابن سيرين أناس فقالوا: إنا نلنا منك فاجعلنا في حل، قال: لا أحل لكم شيئا حرمه الله (¬3). أخي الحبيب: إذا شئت أن تحيا ودينك سالم ... وحظك موفور وعرضك صين لسانك لا تذكر به عورة امرئ ... فكلك عورات وللناس ألسن وعينك إن أبدت إليك معايبا ... لقوم فقل يا عين للناس أعين (¬4) قال طوق بن منبه: دخلت على محمد بن سيرين فقال: كأني أراك شاكيًا؟ قلت: أجل، قال: أذهب إلى فلان الطبيب فاستوصفه ثم قال: اذهب إلى فلان فإنه أطب منه، ثم قال: استغفر الله أراني قد ¬

_ (¬1) كتاب الصمت (312). (¬2) حلية الأولياء (9/ 174). (¬3) السير (4/ 620). (¬4) شذرات الذهب (3/ 350).

اغتبته (¬1). وانظر أخي إلى العاقبة الدنيوية لزلات اللسان. قال ابن سيرين عيرت رجلاً وقلت: يا مفلس، فأفلست بعد أربعين سنة (¬2). يمنعني من عيب غيري الذي ... أعرفه عندي فوق العيب عيبي لهم بالظن مني لهم ... ولست من عيبي في ريب إن كان عيبي غاب عنهم فقد ... أحصى عيوبي عالم الغيب (¬3) قال بعضهم: أدركنا السلف وهم لا يرون العبادة في الصوم ولا في الصلاة ولكن في الكف عن أعراض الناس (¬4). أخي الحبيب: هذه نصيحة من الفاروق عمر بن الخطاب. عليكم بذكر الله تعالى فإنه شفاء، وإياكم وذكر الناس فإنه داء (¬5). وبما أن ذكر الناس داء فإن له دواء، أفلا نبحث عنه لنعالج نفوسنا ونبرأ جراح ألسنتنا، ونرفع في الآخرة درجاتنا. ¬

_ (¬1) صفة الصفوة (3/ 242). (¬2) صيد الخاطر: (44). (¬3) طبقات الحنابلة (1/ 190). (¬4) الإحياء (3/ 152). (¬5) الإحياء (3/ 152).

بيان العلاج الذي يمنع اللسان عن الغيبة

بيان العلاج الذي يمنع اللسان عن الغيبة أولاً: أن يعلم أنه بغيبته تعرض لسخط الله تعالى مقته وشديد عقابه. ثانيًا: لا بد أن يدرك أن عمله هذا محبط لحسناته يوم القيامة. ثالثًا: أن يتدبر في نفسه ويصلح عيوبه ويتدارك نفسه. رابعًا: إن كان ما اغتاب في المسلم من عيب غير موجود فيه فليحمد الله وليشكره على نعمته. خامسًا: من اغتابه على سبيل التنقيص والاحتقار، فاز بحسنات يوم القيامة فهو يأخذ الحسنات والمغتاب يكسب السيئات والأوزار. سادسًا: أن يتصور حين يغتاب أخاه المسلم أنه كمن يأكل لحمه وهو ميت. سابعًا: أن يتذكر وهو يغتاب أنه يأكل وينهش في لحم أخيه المسلم. تاسعًا: أن يتذكر موقفه يوم القيامة عند الحساب ذليلا كبلته الذنوب وأحاطت به الأوزار.

باب ما يباح من الغيبة

باب ما يباح من الغيبة (¬1) قد يفاجأنا أخ كريم بقوله إن هذه غيبة مباحة .. فنعرض قوله على شروط إباحة الغيبة .. فإن وافقت فقد أصاب وإلا فلا. تباح الغيبة لغرض صحيح شرعي لا يمكن الوصول إليه إلا بها، وهي ستة أسباب: الأول: التظلم فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولاية، أو قدرة على إنصافه من ظالمه فيقول ظلمني فلان بكذا. الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر، ورد العاصي إلى الصواب، فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر، فلان يعمل كذا فازجره عنه، ونحو ذلك، ويكون مقصوده التوصل إلى إزالة المنكر، فإن لم يقصد ذلك كان حرامًا. الثالث: الاستفتاء فيقول للمفتي: ظلمني أبي، أو أخي، أو زوجي أو فلان بكذا، فهل له ذلك؟ وما طريقي في الخلاص منه، وتحصيل حقي ودفع الظلم؟ ونحو ذلك فهذا جائز للحاجة، ولكن الأحوط والأفضل أن يقول: ما تقول في رجل أو شخص، أو زوج، قال أمره كذا؟ فإنه يحصل به الغرض من غير تعيين ومع ذلك فالتعيين جائز. الرابع: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم، مثل جرح ¬

_ (¬1) للاستزادة انظر رياض الصالحين (419)، الإحياء (3/ 161).

المجروحين من الرواة والشهود، ومنها المشاورة في مصاهرة إنسان أو مشاركته أو غير ذلك، فله أن يبين حاله بنية النصيحة. الخامس: أن يكون مجاهرًا بفسقه، أو بدعته كالمجاهر بشرب الخمر وتولي الأمور الباطلة فيجوز ذكره بما يجاهر به، ويحرم ذكره بغيره من العيوب إلا أن يكون لجوازه سبب آخر مما ذكر. السادس: التعريف فإذا كان الإنسان معروفًا بلقب، كالأعمش والأعرج، والأصم، والأعمى، والأحول، جاز تعريفهم بذلك، ويحرم إطلاقه على جهة التنقص، ولو أمكن تعريفه بغير ذلك كان أولى. أخي الحبيب: إن ضعفت عن ثلاث، فعليك بثلاث، إن ضعفت عن الخير فأمسك عن الشر، وإن كنت لا تستطيع أن تنفع الناس، فأمسك عنهم ضرك، وإن كنت لا تستطيع أن تصوم فلا تأكل لحوم الناس (¬1). روي عن الحسن أن رجلاً قال: إن فلانًا قد اغتابك، فبعث إليه طبقًا من الرطب، وقال: بلغني أنك أهديت إليَّ حسناتك، فأردت أن أكافئك عليها، فأعذرني فإني لا أقدر أن أكافئك بها على التمام (¬2). وذكر عن أبي أمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن ¬

_ (¬1) تنبيه الغافلين (179). (¬2) تنبيه الغافلين (176)، الإحياء (3/ 164).

العبد ليعطى كتابه يوم القيامة فيرى فيه حسنات لم يكن عملها فيقول يا رب، من أين لي هذا؟ فيقول: هذا بما اغتابك الناس وأنت لا تشعر (¬1). فيا عجبا ندري بنار وجنة ... وليس لذي نشتاق أو تلك نحذر إذا لم يكن خوف ولا شوق ولا حيا ... فماذا بقي فينا من الخير يذكر ولسنا صابرين ولا بلى ... فكيف على النيران يا قوم نصبر وفوت جنات الخلد أعظم حسرة ... على تلك فليتحسر المتحسر روى خالد الربعي قال: كنت في المسجد الجامع، فتناولوا رجلاً، فنهيتهم عن ذلك، فكفوا وأخذوا في غيره، ثم عادوا إليه، فدخلت معهم في شيء من أمره، فرأيت تلك الليلة في المنام كأني أتاني رجل أسود طويل، ومعه طبق عليه قطعة من لحم خنزير، فقال لي: كل، فقلت: آكل لحم خنزير؟ والله لا آكله فانتهرني انتهارًا شديدًا، وقال: قد أكلت ما هو شر منه، فجعل يدسه في فمي، حتى استيقظت من منامي، فوالله لقد مكثت ثلاثين يومًا أو أربعين يومًا، ما أكلت طعامًا، إلا وجدت طعم ذلك اللحم ونتنه في فمي (¬2). وذكر عن إبراهيم بن أدهم، أنه قال: يا مكذب، بخلت بدنياك على أصدقائك وسخوت بآخرتك على أعدائك، فلا أنت فيما بخلت به معذور، ولا أنت فيما سخوت به محمود (¬3). ¬

_ (¬1) تنبيه الغافلين (177). (¬2) تنبيه الغافلين (177). (¬3) تنبيه الغافلين (177).

أخي الحبيب: خل جنبيك لرام ... وأمض عنه بسلام مت بداء الصمت خير ... لك من داء الكلام (¬1) والكثير بحمد الله، تتحرك الكلمة على لسانه وتضطرم في صدره ولكنه يمنعها مخافة من الله عز وجل ورغبة فيما عنده أولئك الأحبة الذين قدموا الباقية على العاجلة، جعلنا الله منهم ورزقنا نصيبًا من صمتهم وسكوتهم عما حرم الله. ذكر عن عيسى ابن مريم عليه السلام: أنه قال لأصحابه: أرأيتم لو أتيتم على رجل قائم، قد كشف الريح عند بعض عورته كنتم تسترون عليه؟ قالوا: نعم قال: بل كنتم تكشفون البقية، قالوا: سبحان الله، كيف نكشف البقية. قال: أليس يذكر عندكم الرجل، فتذكرونه بأسوأ ما فيه، فأنتم تكشفون بقية الثوب عن عورته. حمانا الله وإياكم كشف عورات المسلمين وهتك أعراضهم والخوض فيها، باللسان وغيره. اعلم أخي أن الذكر باللسان إنما حرم لأن فيه تفهيم الغير نقصان أخيك وتعريفه بما يكرهه فالتعريض به كالتصريح، والفعل فيه كالقول، والإشارة والإيماء والغمز والهمز والكتابة والحركة، ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد (14/ 193).

وكل ما يفهم المقصود فهو داخل في الغيبة وهو حرام. فمن ذلك قول عائشة رضي الله عنها دخلت علينا امرأة فلما ولت، أومأت بيدي أنها قصيرة، فقال عليه السلام "اغتبتيها" ومن ذلك المحاكاة يمشي متعارجا أو كما يمشي فهو غيبة، بل هو أشد من الغيبة، لأنه أعظم في التصوير والتفهيم، وكذلك الغيبة بالكتابة فإن القلم أحد اللسانين (¬1). روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: هاجت ريح منتنة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن أناسا من المنافقين، قد اغتابوا أناسا من المسلمين فلذلك هاجت هذه الريح النتنة" (¬2). وقيل لبعض الحكماء: ما الحكمة في أن ريح الغيبة ونتنها كانت تتبين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تتبين في يومنا هذا؟ قال: لأن الغيبة قد كثرت في يومنا، فامتلأت الأنوف منها، فلم تتبين الرائحة، وهي النتن، ويكون مثال هذا، مثال رجل دخل الدباغين، لا يقدر على القرار فيها من شدة الرائحة، وأهل تلك الدار، يأكلون فيها الطعام، ويشربون الشراب ولا تتبين لهم الرائحة لأنه قد امتلأت أنوفهم منها، كذلك أمر الغيبة في يومنا هذا (¬3). ولننظر إلى صفاء النفوس، ورفعة النفس وقبل ذلك طاعة الله ¬

_ (¬1) الإحياء (3/ 154). (¬2) تنبيه الغافلين: (175). (¬3) تنبيه الغافلين (175)

عز وجل ورسوله. ذكر عن وهب المكي أنه قال: لأن أدع الغيبة أحب إلي من أن تكون لي الدنيا وما فيها، منذ خلقت إلى أن تفنى، فأجعلها في سبيل الله تعالى ولإن أغض بصري عما حرم الله تعالى أحب إلي من أن تكون لي الدنيا وما فيها فاجعلها في سبيل الله ثم تلا قوله تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} وتلا قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} (¬1). ومع الأسف انتشر في مجالس بعض القوم من جعل الغيبة مصدر رزق له فيسأل عن فلان .. فيتحدث حديثًا بين الجد والهزل تتبعه ضحكات القوم .. ويسترسل في الغيبة ونهش أعراض المسلمين على سبيل الإضحاك .. فلا يبقى لحما لمسلم لم يأكله، ولا يبقى عظما لآخر لم ينهشه .. ويكافأ على ما حرم الله بملئ بطنه أو بملئ كمه .. يستظرف حديثه .. ويستخف دمه .. ليعيث غيبة في أعراض المسلمين. وكان جزاؤه في ما سبق إسكاته أو إخراجه من المجالس لكي لا يفسدها بمعصية الله جل وعلا، وفي بعض المجالس الآن يسأل عن غيابه ولماذا لم يأت فسبحان الله. ولربما رأيته في مجلس آخر ينهش أعراض من تعشى معهم مساء البارحة. ¬

_ (¬1) تنبيه الغافلين (179).

فانظر إلى العدل في المعاملة .. أما في مجتمع بعض النساء .. فالحديث لا يمل .. والإنصات مستمر .. ولو تأملت المتحدثة لرأيتها تجول وتصول في الأعراض. عن يحيى بن معاذ قال: ليكن حظ المؤمن منك ثلاث خصال لتكون من المحسنين. إحداها: إنك لم تنفعه فلا تضره. والثانية: إن لم تسره فلا تغمه. والثالثة: إن لم تمدحه فلا تذمه (¬1). أخي الحبيب: عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم" رواه أبو داود. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" متفق عليه. وهذا الحديث صريح في أنه ينبغي أن لا يتكلم إلا إذا كان الكلام خيرا وهو الذي ظهرت مصلحته، ومتى شك في ظهور المصلحة فلا يتكلم (¬2). ¬

_ (¬1) تنبيه الغافلين: (178). (¬2) رياض الصالحين (418).

أخي الحبيب: هذا اللسان الكريه، العاصي لربه .. هل نتركه يلوث مجالسنا ويحبط أعمالنا. انظر لعظم أجر إسكات المغتاب والرد عليه والدفاع عن أعراض المسلمين وعرضك من أعراضهم ولسان المغتاب ربما افترى عليك في مجلس أنت غائب عنه. عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من رد عن عرض أخيه، رد الله عن وجهه النار يوم القيامة" رواه الترمذي وقال حديث حسن. وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من حمى مؤمنا من منافق يغتابه، بعث الله تعالى إليه ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومن رمى مؤمنا بشيء يريد سبه حبسه الله تعالى على جسر جهنم حتى يخرج مما قال". وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما من امرئ يخذل امرءًا مسلمًا في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله تعالى في مواطن يحب فيها نصرته، وما من امرئ ينصر امرءًا مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله عز وجل في مواطن يحب فيها نصرته" تفرد به أبو داود. قال كعب الأحبار: قرأت في كتاب الأنبياء عليهم السلام أن من مات تائبا من الغيبة كان آخر من يدخل الجنة، ومن مات مصرا

عليها كان أول من يدخل النار (¬1). وروي أن رجلا أتى ابن سيرين فقال: إني اغتبتك فاجعلني في حل فقال: وكيف أحل ما حرم الله؟ فكأنه أشار إليه بالاستغفار، والتوبة إلى الله تعالى مع استحلال منه (¬2). وقال عبد الله بن المبارك: قلت لسفيان الثوري: يا أبا عبد الله ما أبعد أبا حنيفة عن الغيبة، ما سمعته يغتاب عدوا له قط، فقال: هو أعقل من أن يسلط على حسناته ما يذهبها. أخي: هذه أعراض المسلمين فكما أنك لا تقبل أن يكون عرضك حديث المجالس فكيف تقبل هذا لمسلم مثلك .. فربما إذا استمعت للمغتاب اليوم استمع لغيبتك غدا، ولكن رد عن أعراض المسلمين ليرد الله عنك، ولا تقبل أن يكون مجلسك مجلس سوء وشر. ¬

_ (¬1) تنبيه الغافلين (177). (¬2) تنبيه الغافلين (179).

كفارة الغيبة

كفارة الغيبة تؤرقنا تلك الهنات .. وتزل ألسنتنا .. فكيف الطريق إلى محو السيئات وإقالة العثرات. تنازع العلماء في كفارة المغتاب ولكنهم اتفقوا جميعا على توبته كخطوة أولى. وقال العلماء: إن التوبة واجبة من كل ذنب. وشروط توبة المغتاب أربعة: أولاً: أن يقلع عن الغيبة. ثانيًا: أن يندم على فعلها. ثالثًا: أن يعزم على أن لا يعود إليها أبدا. رابعًا: استحلال من وقع في غيبته، فإن لم تبلغ إلى صاحبه تلك الغيبة أو خشي أن يصيبه ضرر من إخباره، فتوبته أن يستغفر الله تعالى. أخي الكريم: هذه شروط التوبة .. وهذا طريق الطاعة .. وإذا كان من الصعوبة استحلال من نغتابهم فإن الأمر الأسهل حفظ ألسنتنا وجوارحنا. هيا نبادر وخيرنا من إذا سمع وعى وإذا ذكر ذكر .. وإذا عوتب أناب وعاد. فاللهم سلم المسلمين منا وسلمنا من المسلمين يا أرحم الراحمين.

النميمة

النميمة

النميمة

النميمة حرم الله على المؤمنين ما يوقع بينهم العداوة والبغضاء كما قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}. وأمتن على عباده بالتأليف بين قلوبهم كما قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} وقال: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} (¬1). وكل أمر يقطع وشائج المحبة وينقض عرى الأخوة فهو مما حذر الله منه، فإن المؤمنين أخوة يجمعهم الخير والتآزر والتآلف. ولهذا المعنى حرم المشي بالنميمة لما فيها إيقاع العداوة والبغضاء وإحلال التدابر والتفرق مكان المحبة والاجتماع. والنميمة: من آفات اللسان وتطلق في الغالب على نقل قول إنسان في إنسان. مثل أن يقول: قال فيك فلان كذا وكذا، وليس مخصوصة بهذا. بل حدها: كشف ما يكره كشفه سواء كان من الأقوال أو ¬

_ (¬1) جامع العلوم والحكم: (328).

الأعمال حتى لو رآه يدفن مالا لنفسه فذكره .. فهو نمام (¬1). وحقيقة النميمة: إفشاء السر وهتك الستر عما يكره كشفه، بل كل ما رآه الإنسان من أحوال الناس مما يكره، فينبغي أن يسكت عنه إلا في حكايته فائدة لمسلم أو دفع لمعصية، كما إذا رأى من يتناول مال غيره، فعليه أن يشهد به مراعاة لحق المشهود له، فأما إذا رآه يخفي مالا لنفسه فذكره فهو نميمة وإفشاء للسر. فإن كان ما ينم به نقصا وعيبا في المحكي عنه، كان قد جمع بين الغيبة والنميمة (¬2). والباعث على النميمة: قلة الخوف من الله جل وعلا وعدم مراقبته. وكذلك إما إرادة السوء للمحكي عنه أو إظهار الحب والتقرب للمحكى له. أو لتفرج بالحديث والخوض في الفضول والباطل. كما أن التشفي والحسد والغيظ من أهم دوافع النميمة. والنميمة خصلة ذميمة قال الله تعالى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} ثم قال: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ}. قال عبد الله بن المبارك: الزنيم ولد الزنا الذي لا يكتم الحديث وأشار به إلى كل من لم يكتم الحديث ومشي بالنميمة دل ¬

_ (¬1) مختصر منهاج القاصدين (174). (¬2) الإحياء (3/ 165).

على أنه ولد زنا استنباطا من الآية الكريمة (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يدخل الجنة قتات" وهو النمام. فإذا لم يدخل الجنة لم يكن مأواه إلا النار لأنه ليس هناك إلا الجنة أو النار فإذا ثبت أنه لا يدخل الجنة ثبت أن مأواه النار (¬2). وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبرين جديدين فقال: "إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين وغرز في كل قبر واحدة" فقالوا يا رسول الله لم صنعت هذا؟ فقال: "لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا" رواه البخاري. ومعنى قوله: "وما يعذبان في كبير" يعني ليس بكبيرة عندكم ولكنه كبيرة عند الله (¬3). وقال الله تعالى: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} قال أكثر المفسرين: إن الحطب أراد به النميمة وإنما سميت النميمة حطبا، لأنها سبب للعداوة والقتال فصار بمنزلة إيقاد النار (¬4). والنميمة حرام لما فيها من السعي بالوشاية بين الناس وإفساد قلوبهم وتغيير أخلاقهم وطبائعهم. ¬

_ (¬1) مكاشفة القلوب (453). (¬2) تنبيه الغافلين: (89). (¬3) تنبيه الغافلين: 89. (¬4) تنبيه الغافلين: (89).

كان بكر بن عبد الله يقول: عليكم بأمر إن أصبتم أجرتم، وإن أخطأتم لم تأثموا، وإياكم وكل أمر إن أصبتم لم تؤجروا وإن أخطأتم أثمتم قيل: وما هو؟ قال: سوء الظن بالناس، فإنكم لو أصبتم لم تؤجروا، وإن أخطأتم أثمتم (¬1). وكان سليمان بن عبد الملك جالسا وعنده الزهري، فجاءه رجل فقال له سليمان: بلغني أنك وقعت في وقلت كذا وكذا فقال الرجل: ما فعلت ولا قلت فقال سليمان: إن الذي أخبرني صادق، فقال له الزهري: لا يكون النمام صادقا، فقال سليمان: صدقت ثم قال للرجل: اذهب بسلام (¬2). فانظر إلى نتيجة عمل النمام ومقام الرجل بين يدي ولي الأمر، فلربما كان سببا في هلاكه أو سجنه أو إيذائه، وأقل ما يأتيه ترويعه بهذا الأمر ولا يجوز ترويع المسلم بشيء. وقد روى عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه دخل عليه رجل فذكر له عن رجل شيئا فقال له عمر: إن شئت نظرنا في أمرك فإن كنت كاذبا فأنت من أهل هذه الآية {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} وإن كنت صادقا فأنت من أهل هذه الآية: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} وإن شئت عفونا عنك؟ فقال: العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبدا (¬3). ¬

_ (¬1) حلية الأولياء: (2/ 226). (¬2) الإحياء (3/ 166) مختصر منهاج القاصدين (174). (¬3) الإحياء: (3/ 166) تنبيه الغافلين: (1/ 186).

وكان يقال: عذاب القبر ثلاثة أثلاث: ثلث من الغيبة وثلث من البول وثلث من النميمة (¬1). فهل منا من يطيق عذاب القبر ونار الآخرة .. ؟ وقال رجل لعمر بن عبيد: إن الأسواري ما يزال يذكرك في قصصه بشر، فقال له عمرو: يا هذا، ما رعيت حق مجالسة الرجل حيث نقلت إلينا حديثه، ولا أديت حقي حين أعلمتني عن أخي ما أكره، ولكن أعلمه أن الموت يعمنا والقبر بضمنا والقيامة تجمعنا والله تعالى يحكم بيننا وهو خير الحاكمين. مثل لقلبك أيها المغرور ... يوم القيامة والسماء تمور قد كورت شمس النهار وصغفت ... حرًا على رأس العباد تفور وإذا الجبال تقلعت بأصولها ... فرأيتها مثل السحاب تسير وإذا العشار تعطلت عن أهلها ... خلت الديار فما بها مغرور وإذا الجنين بأمه متعلق ... خوف الحساب وقلبه مذعور هذا بلا ذنب يخاف لهوله ... كيف المقيم على الذنوب دهور (¬2) رفع بعض السعاة إلى الصاحب بن عباد رقعة نبه فيها على مال يتيم يحمله على أخذه لكثرته فوقع على ظهرها: السعاية قبيحة، وإن كانت صحيحة، فإن كنت أجريتها مجرى النصح فخسرانك فيها أفضل من الربح، ومعاذ الله أن نقبل مهتوكا في مستور، ولولا ¬

_ (¬1) تنبيه الغافلين: (89). (¬2) عقود اللؤلؤ: (352).

أنك في خفارة شيتك لقابلناك بما يقتضيه فعلك في مثلك فتوق العيب، فإن الله أعلم بالغيب الميت رحمه الله واليتيم جبره الله والمال ثمرة الله والساعي لعنه الله (¬1). هذه النميمة لو لقيت بابا مفتوحا لتعدت على مال يتيم والله تعالى يقول {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}. فانظر إلى أين يصير وأين مستقره، والعياذ بالله ولكن رحم الله من ردة مثل الصاحب ذليلا فهذا أقل ما يقابل به. قال أكثم بن صيفي: الأذلاء أربعة: النمام والكذاب والمديون واليتيم (¬2). فالواجب على النمام أن يتوب إلى الله تعالى فإن النمام ذليل في الدنيا وهو في عذاب القبر بعد موته وهو في النار يوم القيامة. آيس من رحمة الله تعالى فإن تاب قبل موته تاب الله عليه (¬3). قال يحيى بن أكثم: النمام شر من الساحر، ويعمل النمام في ساعة ما لا يعمل الساحر في شهر (¬4). بكلمة واحدة يفرق بين زوج وزوجته وبأخرى يقطع الأرحام ويسبب العداوات وهو في كل ذلك ينم لك اليوم وينم ¬

_ (¬1) الإحياء: (3/ 167). (¬2) تنبيه الغافلين (89). (¬3) تنبيه الغافلين (89). (¬4) تنبيه الغافلين (89).

عليك غدا. قال الشافعي: من نم لك نم عليك (¬1). وهذا إشارة إلى أن النمام ينبغي أن يبغض ولا يوثق بقوله ولا بصداقته، لأنه لا يخاف من الله عز وجل فهذا ديدنة وتلك مهنته يحب الفرقة ويزرع الشتات، لا يهنأ بعيش وهو يرى الاجتماع والائتلاف. مل عن النمام وأزجره فما ... بلغ المكروه إلا من نقل روي عن علي رضي الله عنه أن رجلا سعى إليه برجل فقال له: يا هذا نحن نسأل عما قلت، فإن كنت صادقا مقتناك، وإن كنت كاذبا عاقبناك، وإن شئت أن نقيلك أقلناك، فقال: أقلني يا أمير المؤمنين (¬2). ويقال: عمل النمام أضر من عمل الشيطان لأن عمل الشيطان بالخيال والوسوسة، وعمل النمام بالمواجهة والمعاينة (¬3). أخي الحبيب: من نم في الناس لم تؤمن عقاربه ... على الصديق ولم تؤمن أفاعيه كالسيل بالليل لا يدري به أحد ... من أين جاء ولا من أين يأتيه الويل للعهد منه كيف ينقضه ... والويل للود منه كيف ينعيه (¬4) قال رجل لعبد الله بن عمر وكان أميرا بلغني أن فلانا أعلم الأمير أني ذكرته بسوء قال: قد كان ذلك، قال: فأخبرني بما قال لك حتى أظهر كذبه عندك؟ قال: ما أحب أن أشتم نفسي بلساني، وحسبي أني لم أصدقه فيما قال، ولا أقطع عنك الوصال (¬5). أما البهتان على البريء: فأثقل من السموات، وويل لمن سعى بوشاية بريء عند صاحب سلطان .. فصدقه فربما جنى على هذا المسلم بأمر يسوءه وليس له ذنب إلا وشاية كاذبة. قال مصعب بن الزبير: نحن نرى أن قبول السعاية شر من السعاية، لأن السعاية دلالة والقبول إجازة، وليس من دل على شيء فأخبر به كمن قبله وأجازه، فاتقوا الساعي، فلو كان صادقا في قوله لكان لئيما في صدقه حيث لم يحفظ الحرمة ولم يستر العورة. والسعاية هي النميمة إلا أنها إذا كانت إلى من يخاف جانبه سميت سعاية (¬6). والنميمة يا أخي مبنية على الكذب والحسد والنفاق وهي أثافي الذل. قال بعضهم: لو صح ما نقله النمام إليك لكان هو المجترئ ¬

_ (¬1) السير (10/ 99). (¬2) الإحياء (3/ 166). (¬3) تنبيه الغافلين (89). (¬4) مكاشفة القلوب (354). (¬5) الإحياء (3/ 166). (¬6) الإحياء (3/ 167).

بالشتم عليك والمنقول عنه أولى بحلمك لأنه لم يقابلك بشتمك (¬1). وقد ذكر أن حكيما من الحكماء زاره بعض إخوانه فأخبره بخبر عن بعض أصدقائه فقال له الحكيم: قد أبطأت في الزيارة وأتيت بثلاث جنايات: بغضت أخي إلي، وشغلت قلبي الفارغ، واتهمت نفسك الأمينة (¬2). هذه ثلاث مساوئ من أثر النميمة وهناك شرور أشد ومساوئ أكبر، وإليك قصة تحكي شرا من شرور النميمة وأثرا من آثارها. روي عن حماد بن سلمة أنه قال: باع رجلا غلاما فقال للمشتري. ليس فيه عيب إلا أنه نمام، فأستخفه المشتري فاشتراه على ذلك العيب، فمكث الغلام عنده أياما، ثم قال لزوجة مولاه: إن زوجك لا يحبك وهو يريد أن يتسرى عليك، أفتريدين أن يعطف عليك؟ قالت: نعم، قال لها: خذي الموسى وأحلقي شعرات من باطن لحيته إذا نام، ثم جاء إلى الزوج وقال: إن امرأتك تخادنت (يعني اتخذت خليلاً) وهي قائلتك: أتريد أن يتبين لك ذلك؟ قال: نعم، قال فتناوم لها، فتناوم الرجل، فجاءت امرأته بموسى لتحلق الشعرات فظن الزوج أنها تريد قتله، فأخذ منها الموسى فقتلها، ¬

_ (¬1) الإحياء (3/ 167). (¬2) الإحياء: (3/ 167)

فجاء أولياؤها فقتلوه، فجاء أولياء الرجل ووقع القتال بين الطرفين (¬1). أخي المسلم: يجب على كل من حملت إليه النميمة وقيل له: إن فلانا قال فيك كذا وكذا، أو فعل في حقك كذا، أو هو يدبر في إفساد أمرك، أو في ممالأة عدوك أو تقبيح حالك أو ما يجرى مجراه، فعليه ستة أمور: الأول: أن لا يصدقه لأن النمام فاسق وهو مردود الشهادة. الثاني: أن ينهاه عن ذلك وينصح له ويقبح عليه فعله. الثالث: أن يبغضه في الله تعالى فإنه بغيض عند الله تعالى ويجب بغض من يبغض الله تعالى. الرابع: أن لا تظن بأخيك الغائب السوء. الخامس: أن لا يحملك ما حكي لك على التجسس والبحث للتحقق. السادس: أن لا ترضى لنفسك، ما نهيت النمام عنه، ولا تحكي نميمته فتقول: فلأن قد حكى لي كذا وكذا، فتكون به نماما ومغتابا وقد تكون أتيت ما عنه نهيت (¬2). ¬

_ (¬1) تنبيه الغافلين (89) (¬2) الإحياء (3/ 165).

أعظم من الغيبة والنميمة

أعظم من الغيبة والنميمة وأعظم أخي الكريم من الغيبة والنميمة هذا الذي يتردد من المتعاديين، ويكلم كل واحد منهما بكلام يوافقه قال - صلى الله عليه وسلم -: "من كان له وجهان في الدنيا كان له لسانًا من نار يوم القيامة" (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "تجدون من شر عباد الله يوم القيامة ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بحديث وهؤلاء بحديث" أخرجه الشيخان نحوه وهو عند أبي الدنيا بهذا اللفظ. فإن قلت: بماذا يصير الرجل ذا لسانين وما حد ذلك؟ فأقول إذا دخل على متعاديين وجامل كل واحد منهما وكان صادقا فيه لم يكن منافقا ولا ذا لسانين، فإن الواحد قد يصادق متعاديين ولكن صداقة ضعيفة لا تنتهي إلى حد الأخوة، إذ لو تحققت الصداقة لاقتضت معاداة الأعداء، نعم لو نقل كلام كل واحد منهما إلى الآخر فهو ذو لسانين وهو شر من النميمة (¬2). ومن ذي الوجهين: من يمدح الإنسان في وجهه ويبالغ في ذلك لقصد دنيوي ثم في غيبته يذمه عند الناس ويعيبه وهكذا يفعل مع أغلب من لا يناسبه. فلا تكن أخي المسلم عونا للشيطان بتفريق وتمزيق المحبة ¬

_ (¬1) رواه أبو داود وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (889). (¬2) الإحياء (168).

والألفة بينهم بل كن صاحب خير ورسول صلح إلى المتخاصمين تنال بذلك الأجر وكن صدوقا تظهر ما تبطن لا تكن متزلفا ثم مغتابا. أخي ها هو ذو الوجهين: يسعى عليك كما يسعى إليك فلا ... تأمل غوائل ذي الوجهين كياد (¬1) ¬

_ (¬1) مكاشفة القلوب (355).

الكذب

الكذب الكذب من قبائح الذنوب وفواحش العيوب. قال الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا" متفق عليه. وقال - صلى الله عليه وسلم - "أربع من كن فيه، كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها، إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر" متفق عليه. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ولا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا". فالكذب على الشخص حرام سواء كان الرجل مسلما أو كافرًا، برًّا أو فاجرًا، لكن الافتراء على المؤمن أشد، بل الكذب كله حرام (¬1). أخي الحبيب: إياك والكذب فإنه يفسد عليك تصور المعلومات على ما هي عليه، ويفسد عليك تصويرها وتعليمها للناس، فإن الكاذب يصور ¬

_ (¬1) الفتاوى (28/ 223).

المعدوم موجودًا، والموجود معدومًا، والحق باطلاً، والباطل حقًّا، والخير شرًّا، والشر خيرًا، فيفسد عليه تصوره وعلمه عقوبة له، ونفس الكاذب معرضة عن الحقيقة الموجودة نزاعة إلى العدم مؤثرة للباطل (¬1). والكذب أساس الفجور كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار". وأول ما يسرى الكذب من النفس إلى اللسان فيفسده ثم يسري إلى الجوارح فيفسد عليها أعمالها كما أفسد اللسان أقواله فيعم الكذب أقواله وأعماله وأحواله، فيستحكم عليه الفساد ويترامى داؤه إلى الهلكة إن لم يتداركه الله بدواء الصدق يقلع تلك المادة من أصلها (¬2). قال: مالك بن دينار: الصدق والكذب يعتركان في القلب حتى يخرج أحدهما صاحبه (¬3). وقال الحسن: تكلم قوم عند معاوية رحمه الله والأحنف بن قيس ساكت، فقال له: ما لك يا أبا بحر لا تتكلم؟ فقال له: أخشى الله إن كذبت وأخشاك إن صدقت (¬4). وقد قال: عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: ما كذبت منذ ¬

_ (¬1) الفوائد: (178). (¬2) الفوائد: (178) (¬3) الإحياء (3/ 146). (¬4) الإحياء (3/ 120).

علمت أن الكذب يضر أهله (¬1). فالكذب يا أخي يسقي باب كل شر كما يسقى الماء أصول الشجر (¬2). ولأنه باب كل شر قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: ما حلفت بالله صادقا ولا كاذبا (¬3). وافترى رجل على زين العابدين بين الحسين فقال له: إن كنت كما قلت فاستغفر الله، وإن لم أكن كما قلت، فالله يغفر لك، فقبل رأسه وقال: جعلت فداك لست كما قلت، فاغفر، قال: غفر الله لك (¬4). وقال رجل للشعبي كلاما أقذع فيه: فقال له: إن كنت صادقا غفر الله لي وإن كنت كاذبا غفر الله لك (¬5). وأصل أعمال القلوب كلها الصدق وأضدادها من الرياء والعجب والكبر والفخر والخيلاء والبطر والأشر والعجز والجبن والمهانة وغيرها أصلها الكذب، فكل عمل صالح ظاهر أو باطن فمنشؤه الصدق، وكل عمل فاسد ظاهر أو باطن فمنشؤه الكذب، والله تعالى يعاقب الكذاب بأن يقعده ويثبطه عن مصالحه ومنافعه ¬

_ (¬1) السير (5/ 121). (¬2) كتاب الصمت (250). (¬3) السير (10/ 36). (¬4) شذرات الذهب (1/ 105). (¬5) وفيات الأعيان (3/ 14).

ويثيب الصادق بأن يوفقه للقيام بمصالح دنياه وآخرته، فما استجلبت مصالح الدنيا والآخرة بمثل الصدق، ولا مفاسدهما ومضارهما بمثل الكذب (¬1). لا يكذب المرء إلا في مهانته ... أو مفعلة السوء أو من قلة الأدب ولقد استرسل بعض الناس في الكذب وعدوه مندحة وذكاء، والكذب هو الكذب لأي سبب كان، قال عبد الله بن عامر: جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بيتنا وأنا صغير، فذهبت لألعب فقالت أمي: يا عبد الله تعالى حتى أعطيك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وما أردت أن تعطيه" قالت: تمرا، فقال: "أما إنك لو لم تفعلي لكتبت عليك كذبة" رواه أبو داود. روي عن أبي عبد الرحمن الخريبي قال: ما كذبت إلا مرة واحدة قال لي أبي قرأت على المعلم؟ قلت: نعم، ولم أكن قرأت (¬2). وسمع طلحة بن أبي مصرف رجلا يعتذر إلى رجل فقال: لا تكثر الاعتذار إلى أخيك أخاف أن يبلغ بك الكذب (¬3). وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أعظم الخطايا عند الله اللسان الكذوب وشر الندامة ندامة يوم القيامة (¬4). ¬

_ (¬1) الفوائد: (178). (¬2) تذكرة الحفاظ: (1/ 338). (¬3) حلية الأولياء (5/ 17). (¬4) الإحياء (3/ 146).

ولا مثل عقل المرء للمرء حافظ لعمرك ما للمرء كالرب حافظ لسانك لا يلقيك في الغي لفظه ... فإنك مأخوذ بما أنت لافظ (¬1) أخي الحبيب: لنرى مدى الوفاء بوعودهم وصدق حديثهم .. لما حضرت عبد الله بن عمرو الوفاة قال: إنه كان خطب إلي ابنتي رجل من قريش، وقد كان مني إليه شبيه الوعد، فو الله لا ألقى الله عز وجل بثلث النفاق، اشهدوا أني قد زوجتها أياه (¬2). أدبت نفسي فما وجدت لها ... من بعد تقوى الله من أدب في كل حالاتها وإن قصرت ... أفضل من صمتها عن الكذب وغيبة الناس إن غبتهم ... حرمها ذو الجلال في الكتب إن كان من فضة كلامك يا ... نفس فإن السكوت من ذهب (¬3) جاءت أخت الربيع بن خثيم عائدة إلى بني له، فأنكبت عليه، فقالت: كيف أنت يا بني؟ فقال الربيع: أرضعتيه؟ قالت: لا، قال: ما عليك لو قلت يا ابن أخي، فصدقت (¬4). وهذا عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى يقول: ما كذبت كذبة منذ شددت على إزاري (¬5). وحين سئل خالد بن صبيح أيسمى الرجل كاذبا بكذبة ¬

_ (¬1) كتاب الصمت (305). (¬2) صفة الصفوة (1/ 659). (¬3) كتاب الصمت (312). (¬4) كتاب الصمت (255). (¬5) كتاب الصمت (241).

واحدة؟ قال: نعم (¬1). وكانوا من شدة حرصهم على توخي الصدق يعدون زلات لسانهم فهذا الأحنف بن قيس يقول: ما كذبت منذ أسلمت إلا مرة واحدة، فإن عمر سألني عن ثوب: بكم أخذته؟ فأسقطت ثلثي الثمن (¬2). لنرى بعضا من خلق الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى: كان أبو حنيفة قد جعل على نفسه أن لا يحلف بالله في عرض كلامه إلا تصدق بدرهم، فحلف فتصدق به ثم جعل أن يتصدق بدينار، فكان إذا حلف صادقا في عرض الكلام تصدق به، وكان إذا أنفق على عياله نفقة تصدق بمثلها، وكان إذا اكتسى ثوبا جديدا كسى بقدر ثمنه الشيوخ العلماء، وكان إذا وضع بين يديه الطعام أخذ منه فوضعه على الخبز حتى يأخذ منه بقدر ضعف ما كان يأكل، فيضعه على الخبز ثم يعطيه إنسانا فقيرا، فإن كان في الدار من عياله إنسان يحتاج إليه دفعه إليه، وإلا أعطاه مسكينًا (¬3). أخي الحبيب: هل نعجز أن نستفيد من بعض أفعالهم فنطبقها على أنفسنا شيئا فشيئا فالنفس إذا كان لديها الرغبة في الخير أعانها الله ووفقها فلماذا لا نبادر ونعود النفس على الخير والمعروف. ¬

_ (¬1) الإحياء (3/ 146). (¬2) كتاب الصمت (253). (¬3) تاريخ بغداد (3/ 358).

عن أبي بردة بن عبد الله قال كان يقال: إن ربعي بن حراش رضي الله عنه لم يكذب كذبا قط، فأقبل ابناه من خرسان قد تأجلا فجاء العريف إلى الحجاج فقال: أيها الأمير: إن الناس يزعمون أن ربعي بن حراش لم يكذب قط، وقد قدم ابناه من خرسان وهما عاصيان، فقال الحجاج علي به فلما جاء قال: أيها الشيخ، قال: ما تشاء؟ قال: ما فعل ابناك؟ قال: الله المستعان خلفتهما في البيت؟ قال: لا جرم والله لا أسوءك فيهما هما لك (¬1). وما شيء إذا فكرت فيه ... بأذهب للمروءة والجمال من الكذب الذي لا خير فيه ... وأبعد بالبهاء من الرجال (¬2) وقد نقل عن السلف أن في المعاريض مندوحة عن الكذب قال رضي الله عنه: أما في المعاريض ما يكفي الرجل عن الكذب؟ وإنما أرادوا بذلك إذا اضطر الإنسان إلى الكذب فأما إذا لم تكن له حاجة وضرورة فلا يجوز التعريض ولا التصريح جميعا، ولكن التعريض أهون. وكان إبراهيم النخعي إذا طلبه من يكره أن يخرج إليه وهو في الدار قال للجارية: قولي له اطلبه في المسجد ولا تقولي له ليس ههنا كيلا يكون كذبا. وكان الشعبي إذا طلب في المنزل وهو يكرهه خط دائرة ¬

_ (¬1) كتاب الصمت (229). (¬2) أدب الدنيا والدين (253).

وقال للجارية: ضعي الأصبع فيها وقولي ليس ههنا. وهذا كله في موضع الحاجة فأما في غير موضع الحاجة فلا، لأن هذا تفهيم الكذب، وإن لم يكن اللفظ كذبًا فهو مكروه على الجملة (¬1). أخي الحبيب: عود لسانك قول الخير تحظ به ... إن اللسان لما عودت معتاد موكل بتقاضي ما سننت له ... فاختر لنفسك وانظر كيف ترتاد ¬

_ (¬1) الإحياء (3/ 149).

الاستهزاء

الاستهزاء (¬1) مما شاع بين الناس وفي بعض المجالس السخرية والاستهزاء وهو محرم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات: 11]. ومعنى السخرية الاستهانة والتحقير والتنبيه على العيوب والنقائص وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء (¬2). وأشد أنواع الاستهزاء: الاستهزاء بالدين وأهله، ولخطورته وعظم أمره فقد أجمع العلماء على أن الاستهزاء بالله وبدينه وبرسوله كفر بواح، يخرج من الملة بالكلية. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر صاحبه بعد إيمانه (¬3). ولقد تفنن في أنواع السخرية والاستهزاء فهناك من يهزأ بالحجاب وآخر بتنفيذ الأحكام الشرعية ولرجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نصيب من ذلك .. كما أن السنة أيضا لها نصيب فهذا الاستهزاء باللحية وقصر الثوب وغيره. ¬

_ (¬1) هذا الموضوع لم يكن في أصل الكتاب ولأهميته أضفته على ما فيه من قصور. (¬2) الإحياء (3/ 140). (¬3) الفتاوى: (7/ 273).

ولنعلم خطورة الاستهزاء على دين الرجل .. ما نسمعه يتلى في سورة التوبة: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [الآيتان: 65، 66] وقد ورد في سبب نزولها أن رجلا من المنافقين قال: ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا، وأكذبنا ألسنة، وأجبنا عند اللقاء فرفع ذلك إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فجاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ارتحل وركب ناقته فقال يا رسول الله: إنما كنا نخوض ونلعب فقال: {أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} إلى قوله: {مُجْرِمِينَ} وإن رجليه لتنسفان الحجارة وما يلتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متعلق بنسعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وثابت من سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أرحم الناس بالناس، وأقبل الناس عذرا للناس، ومع ذلك كله لم يقبل عذرا لمستهزئ ولم يلتفت لحجة ساخر ضاحك (¬2). ولعلك أخي لحظت في الآية الكريمة أن الله شهد لهم بالإيمان قبل الاستهزاء فقال: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}. ولقد فضح الله تعالى موقف المستهزئين بالمؤمنين فقال تعالى: ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير (4/ 111). (¬2) الاستهزاء بالدين وأهله (11).

{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة: 212]. والبعض إذا قيل له هذا من باب الاستهزاء بالدين، قال: نحن لم نقصد الدين، ولم نقصد الرجل بذاته، بل نمزح ونمرح .. وما علم إلى أين يؤدي به هذا المرح وذاك المزاح؟ خزي في الدنيا وعذاب في الآخرة. هلاك ودمار في العاجلة وعذاب مقيم في الآجلة (¬1). قال الله تعالى: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون: 108 - 111]. وقال جل وعلا: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58]. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليضحك بها جلساءه يهوي بها من أبعد من الثريا" رواه أحمد. وعندما رأى أبو الدرداء امرأة سليطة اللسان قال: لو كانت ¬

_ (¬1) الاستهزاء بالدين وأهله (71) يرجع للكتاب ففيه مباحث هامة واستشهادات جيدة.

هذه خرساء لكان خيرا لها (¬1). وقال عبد الله بن مسعود: لو سخرت من كلب، لخشيت أن أكون كلبا، وإني أكره أن أرى الرجل فارغا ليس في عمل آخرة ولا دينا (¬2). وهذا مالك بن دينار يقول: كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينا للخونة، وكفى المرء شرا أن لا يكون صالحا ويقع في الصالحين (¬3). وكان علي بن الحسين يقول: لا يقول رجل من الخير ما لا يعلم، إلا أوشك أن يقول من الشر ما لا يعلم (¬4). فأحذر زلة لسان تزل بها الأقدام إلى نار تلظى. حمانا الله وإياكم من زلات اللسان ومن غضب الرحمن. أخي الحبيب: قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: "أتدرون من المفلس" قالوا: يا رسول الله المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن مفلس أمتي من يأتي يوم القيامة بقيام وصيام وصلاة وزكاة وحج، ويأتي وقد شتم هذا وسفك دم هذا وأكل مال هذا، ونال من عرض هذا، فيؤخذ لهذا من حسناته ولهذا من حسناته فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار". ¬

_ (¬1) كتاب الصمت (89). (¬2) السير (1/ 496). (¬3) صفة الصفوة (3/ 286). (¬4) البداية والنهاية (9/ 121).

ولقد تحققت كثير من العقوبات على من استهزأ بشيء من كتاب الله أو سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو بعباده الصالحين وأوليائه المتقين. حكى ابن خلكان قال: بلغنا أن رجلا يدعي أبا سلامة من ناحية بصرى كان فيه مجون واستهتار، فذكر عنده السواك وما فيه من الفضيلة فقال: والله لا أستاك إلا في المخرج (يعني دبره) فأخذ سواكا فوضعه في مخرجه ثم أخرجه، فمكث بعده تسعة أشهر وهو يشكو من ألم البطن والمخرج، فوضع ولدا على صفة الجرذان له أربعة قوائم ورأسه كرأس السمكة وله أربعة أنياب بارزة وذنب طويل وأربعة أصابع وله دبر كدبر الأرنب، ولما وضعه صاح ذلك الحيوان ثلاث صيحات فقامت ابنة ذلك الرجل فرضحت رأس الحيوان الغريب وعاش ذلك الرجل بعد وضعه له يومين ومات في الثالث. وكان يقول: هذا الحيوان قتلني وقطع أمعائي، قال ابن كثير: وقد شاهد ذلك جماعة من أهل تلك الناحية وخطباء ذلك المكان ومنهم من رأى ذلك الحيوان حيا ومنهم من رآه بعد موته (¬1). هذه قصة واحدة جرت في زمن مضي، وهناك الكثير لو تتبعنا كتب السير والتاريخ. ونعود لعصرنا الحاضر يحدثنا العلامة أحمد محمد شاكر رحمه الله فيقول: كان (الشيخ طه حسين) طالبا في الجامعة المصرية ¬

_ (¬1) البداية والنهاية (13/ 263) بستان العارفين (51).

القديمة، وتقرر إرساله في بعثة إلى أوربا فأراد حضرة السلطان حسين رحمه الله أن يكرمه بعطفه ورعايته، فاستقبله في قصره استقبالا كريما، وحباه هدية قيمة المغزي والمعنى. وكان من خطباء المساجد التابعين لوزارة الأوقاف، خطيب فصيح متكلم مقتدر، هو الشيخ محمد المهدي خطيب مسجد عزبان، وكان السلطان حسين رحمه الله مواظبا على صلاة الجمعة. فصلى الجمعة يوما ما، بمسجد المبدولي القريب من قصر عابدين العامر، وندبت وزارة الأوقاف ذلك الخطيب لذلك اليوم وأراد الخطيب أن يمدح عظمة السلطان، وأن ينوه بما أكرم (الشيخ طه حسين) وحق له أن يفعل، ولكن خانته فصاحته وغلبه حب التعالي في المدح، فزل زلة لم تقم له قائمة من بعدها. إذ قال أثناء خطبته جاءه الأعمى فما عبس في وجهه وما تولى، وكان من شهود هذه الصلاة والدي الشيخ محمد شاكر وكيل الأزهر سابقا رحمه الله فقام بعد الصلاة يعلن الناس في المسجد أن صلاتهم باطلة، وأمرهم أن يعيدوا صلاة الظهر فأعادوها، ذلك بأن الخطيب كفر بما شتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعريضا لا تصريحا، لأن الله سبحانه عتب على رسوله - صلى الله عليه وسلم - حين جاءه ابن أم مكتوم الأعمى، وهو يحدث بعض صناديد قريش يدعوهم إلى الإسلام. فأعرض عن الأعمى قليلاً حتى يفرغ من حديثه فأنزل الله

عتاب رسوله في هذه السورة الكريمة ثم جاء هذا الخطيب الأحمق الجاهل، يريد أن يتملق عظمة السلطان رحمه الله وهو عن تملقه غني والحمد لله، فمدحه بما يوهم السامع أنه يريد إظهار منقبة لعظمته، بالقياس إلى ما عاتب الله عليه رسوله، واستغفر الله من حكاية هذا فكان صنع الخطيب المسكين تعريضا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يرضى به مسلم وفي مقدمة من ينكره السلطان نفسه. ولكن الله لم يدع لهذا المجرم جرمه في الدنيا قبل أن يجزيه جزاءه في الأخرى، فأقسم بالله: لقد رأيته بعيني رأسي بعد بضع سنين وبعد أن كان متعاليا متنفخا مستعزا بمن لاذبهم من العظماء والكبراء، رأيته مهينا ذليلا خادما على باب مسجد من مساجد القاهرة، يتلقى نعال المصلين يحفظها في ذلة وصغار حتى لقد خجلت أن يراني، وأنا أعرفه وهو يعرفني، لا شفقة عليه فما كان موضعا للشفقة ولا شماتة فيه فالرجل النبيل يسمو على الشماتة، ولكن ما رأيت من عبرة وموعظة (¬1). ¬

_ (¬1) كلمة الحق (173).

كيف كان لسانه - صلى الله عليه وسلم -

كيف كان لسانه - صلى الله عليه وسلم - كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمتاز بفصاحة اللسان، وبلاغة القول، وكان من ذلك بالمحل الأفضل، والموضع الذي لا يجهل، سلاسة لفظ وجزالة قول، وصحة معان، وقلة تكلف، أوتي جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم وعلم ألسنة العرب (¬1). كان - صلى الله عليه وسلم - أعدل الناس وأعفهم وأصدقهم لهجة وأعظمهم أمانة، اعترف له مما ورد أعداؤه، وكان يسمى قبل نبوته الأمين، ويتحاكم إليه في الجاهلية قبل الإسلام. روى الترمذي عن علي: أن أبا جهل قال له: إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به فأنزل الله فيهم {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ} وسأل هرقل أبا سفيان، هل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا (¬2). ومما رواه البحتري قال: ما شتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدا من المؤمنين بشتيمة إلا جعل لها كفارة ورحمة وما لعن امرأة قط ولا خادما بلعنة، وقيل له وهو في القتال: لو لعنتهم يا رسول الله فقال: "إنما بعثت رحمة ولم أبعث لعانا" (¬3). كان - صلى الله عليه وسلم - نزر الكلام سمح المقالة إذا نطق ليس بمهزار وكان ¬

_ (¬1) الرحيق المختوم للمباركفوري (465). (¬2) الرحيق المختوم (461). (¬3) الإحياء: (2/ 394).

كلامه كخرزات نظمن، قالت عائشة رضي الله عنها كان لا يسرد الكلام كسردكم هذا، كان كلامه نزرا وأنتم تنثرون الكلام نثرا (¬1). وكان - صلى الله عليه وسلم - يتكلم بجوامع الكلم لا فضول ولا تقصير كأنه يتبع بعضه بعضا بين كلامه توقف يحفظه سامعه ويعيه (¬2). يحدثنا أنس خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي خدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنوات يقول: ما مسست ديباجًا ولا حريرًا ألين من كف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا شممت رائحة قط أطيب من رائحة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولقد خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين فما قال لي قط، أف، ولا قال لشيء فعلته، لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاحشا ولا متفحشا ولا صخابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة ولكن يعفو ويصفح. وكان جل ضحكه - صلى الله عليه وسلم - التبسم وإذا غضب أعرض وأشاح وإذا فرح غض بصره (¬3). وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقوم ولا يجلس إلا على ذكر. ولنترك هند بن أبي هالة يصف لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كان رسول ¬

_ (¬1) الإحياء (2/ 397). (¬2) الإحياء (2/ 397). (¬3) مختصر الشمائل المحمدية للألباني (21).

الله - صلى الله عليه وسلم - متواصل الأحزان: دائم الفكرة، ليست له راحة ولا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت وكان يخزن لسانه إلا عما يعنيه، يؤلف أصحابه ولا يفرقهم (¬1). وقد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا، وصاروا عنده في الحق متقاربين مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة لا ترفع فيه الأصوات ولا تؤبن فيه الحرم لا تخشى فلتأته يتعاطفون بالتقوى يوقرون الكبير، ويرحمون الصغير، ويرفدون ذا الحاجة ويؤنسون الغريب. كان دائم البشر سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ، ولا غليظ ولا صخاب ولا فحاش، ولا عتاب، ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يقنط منه، قد ترك نفسه من ثلاث: الرياء، والإكثار وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: لا يذم أحدا ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رءوسهم الطير، حديثهم حديث أولهم يضحك بما يضحكون منه، ويعجب مما يعجبون منه، ويصبر على الغريب على الجفوة في المنطق، ويقول: إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها فأرفدوه، ولا يطلب الثناء إلا من مكافئ (¬2). أكمل له جل وعلا الصفات وأحسن له الأدب وأثنى عليه ¬

_ (¬1) الرحيق المختوم للمباركفوري (467). (¬2) الرحيق باختصار (468).

بقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم - اللهم اجمعنا معه في دار كرامتك، فإن كانت بعدت بيننا الأيام .. اللهم لا تحرمنا شفاعته يوم القيامة يا أرحم الراحمين.

المصادر

المصادر 1 - الاستهزاء بالدين وأهله د/ محمد بن سعيد القحطاني دار الوطن ط 1، 1412 هـ. 2 - الأذكار النووية للإمام محيي الدين يحيى بن شرف النووي/ دار الملاح للطباعة 1391 هـ. 3 - إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي دار الكتب العلمية ط 1، 1406 هـ. 4 - أدب الدنيا والدين للماوردي دار الكتب العلمية. 5 - إرشاد العباد للاستعداد ليوم المعاد/ عبد العزيز السلمان ط 1/ 1406 هـ. 6 - أمراض النفوس، إبراهيم محمد الجمل، دار الكتاب العربي ط 2/ 1408 هـ. 7 - البداية والنهاية للحافظ ابن كثير مطبعة المتوسط. 8 - بستان العارفين للإمام أبي يحيى زكريا بن شرف النووي تحقيق محمد الحجار. 9 - تاريخ بغداد للخطيب البغدادي دار الكتب العلمية. 10 - تذكرة الحفاظ للذهبي، دار إحياء التراث. 11 - التذكرة في الاستعداد لليوم الآخر، علي صالح الهزاع (2، 1407) هـ. 12 - ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب الإمام مالك للقاضي عياض، مكتبة الحياة.

13 - تفسير ابن كثير للإمام أبي الفداء إسماعيل بن كثير، دار الفكر للطباعة والنشر (1401 هـ). 14 - تنبيه الغافلين، الفقيه نصر السمرقندي، تحقيق عبد العزيز الوكيل دار الشروق 1410 هـ. 15 - جامع العلوم والحكم ابن رجب الحنبلي ط 5/ 1400 هـ. 16 - الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن قيم الجوزية تحقيق أبي حذيفة دار الكتاب العربي ط 1، 1407 هـ. 17 - الحسن البصري لابن الجوزي. 18 - حصائد الألسن، حسين العوايشة، دار عمار ط 2، 1409 هـ. 19 - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء للحافظ أبي نعيم دار الكتاب العربي. 20 - ديوان أبي العتاهية دار صادر بيروت 1400 هـ. 21 - الرحيق المختوم للمباركفوري، دار العلم بيروت ط 2/ 1408 هـ. 22 - رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين، للإمام النووي دار الجيل بيروت. 23 - كتاب الزهد، أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم، الدار السلفية بالهند ط 2، 1408 هـ.

24 - سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي تحقيق شعيب الأرناؤوط وحسين الأسد مؤسسة السالة 1401 هـ. 25 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد الحنبلي دار إحياء التراث العربي. 26 - شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور للحافظ جلال الدين السيوطي دار الكتب العلمية. 27 - صفة الصفوة لابن الجوزي تحقيق محمود فاخوري محمد رواس دار المعرفة 1405 هـ. 28 - كتاب الصمت وآداب اللسان لابن أبي الدنيا تحقيق أبي إسحاق الجويني الأثري، دار الكتاب العربي ط 1/ 1410 هـ. 29 - صيد الخاطر لابن الجوزي دار الكتاب العربي ط 2/ 1407 هـ. 30 - طبقات الحنابلة للقاضي أبي يعلى، مطبعة السنة المحمدية ودار المعرفة بيروت. 31 - طبقات الشافعية الكبرى لتاج الدين أبي نصر عبد الوهاب بن علي السبكي دار إحياء الكتب العربية. 32 - عقود اللؤلؤ والمرجان في وظائف شهر رمضان، إبراهيم ابن عبيد. 33 - مجموع فتاوى ابن تيمية جمع عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد تصوير ط 1، 1398 هـ.

34 - فتح القدير للإمام محمد بن علي الشوكاني دار المعرفة. 35 - الفوائد لابن القيم دار النفائس. 36 - كلمة الحق أحمد محمد شاكر ط 1/ 1407 هـ دار الكتب السلفية. 37 - مختصر الشمائل المحمدية للإمام الترمذي، اختصره وحققه محمد ناصر الدين الألباني المكتبة الإسلامية عمان الأردن ط 1، 1405 هـ. 38 - مختصر منهاج القاصدين الإمام أحمد بن محمد المقدسي تحقيق زهير الشاويش المكتب الإسلامي ط 7، 1406 هـ. 39 - منهاج القاصدين ابن الجوزي. 40 - مكاشفة القلوب لأبي حامد الغزالي دار إحياء العلوم ط 1، 1403 هـ. 41 - كتاب الورع للإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل تحقيق د/ زينب القاروط دار الكتب العلمية. 42 - وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ابن خلكان دار صادر بيروت 1397 هـ.

§1/1