أجنحة المكر الثلاثة

الميداني، عبد الرحمن حبنكة

دعاء

دعاء بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على أنبيائه الذين اصطفى، ورسله الذين اجتبى، ونعوذ برب الفلق من شر ما خلق، ومن شر غاسق إذا وقب، ومن شر النفاثات في العقد، ومن شر حاسد إذا حسد، ونعوذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس، من شر الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس، من الجنة والناس. اللهم من كادنا فكده، ومن بغى علينا فأهلكه. يا من كفانا ولم يكفه شيء، اكفنا شر كيد أعدائنا، اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بنا غضبك، أو يحل علينا سخطك، أو تمكن منا عدونا وعدوك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.

القسم الأول الغزو بالحيل ووسائل المكر غير المباشرة

القِسمُ الأول الغَزوُ بالحِيَل وَوَسَائل المَكْرِ غَيْر المبَاشِرَة وفيه أربعة عشر فصلاً: الفصل الأول: مقدمات عامة. الفصل الثاني: المبشرون وأعمالهم. الفصل الثالث: المستشرقون وأعمالهم. الفصل الرابع: الاستعمار والمستعمرون. الفصل الخامس: عناصر التلاقي والأهداف والأعمال المشتركة للأجنحة الثلاثة. الفصل السادس: وسائل الغزاة وحيلهم. الفصل السابع: من وسائل الغزو الجديد: التفريغ والملء. الفصل الثامن: خطط العدوّ لغزو الإسلام بتفريغه من مضامينه الصحيحة. الفصل التاسع: الغزاة وأعمالهم في هدم وحدة المسلمين وتقليل أعدادهم. الفصل العاشر: الغزو بفكرة القومية. الفصل الحادي عشر: أعمال الغزاة ضد اللغة العربية. الفصل الثاني عشر: الغزاة وتفصيل أعمالهم في الإفساد الخلقي والسلوكي. الفصل الثالث عشر: الغزو بالمذاهب الاقتصادية. الفصل الرابع عشر: ما تعانيه الحركات والمؤسسات الإسلامية من قبل الغزاة وأنصارهم.

الفصل الأول من القسم الأول مقدمات عامة

الفصل الأوّل من القسم الأول مقَدِّمَات عَامَّة 1- الحروب الصّليبية وخيبتها وتحوّل اتجاهها. 2- الغزو الفكري وخطره. 3- تاريخ ظاهرة الغزو الفكري. 4- المهمات الرئيسية لأعداء الإسلام. 5- المنهج الرئيسي للغزو الفكري. 6- الوسائل الرئيسية لأعداء الإسلام. 7- تعريفات للأجنحة الثلاثة. 8- المؤازرون من الداخل لقوى المكر الخارجية.

(1) الحروب الصليبية وخيبتها وتحول اتجاهها

(1) الحروب الصليبية وخيبتها وتحول اتجاهها - العوامل التي مهّدت لطمع الصليبيين بالمسلمين تواطأت الدول النصرانية كلُّها على الإسلام والمسلمين منذ بيَّتَت المكيدة، ودبرت الخطة، وأعدت العدة للحروب الصليبية، ثم قامت فعلاً بهذه الحروب، وقدمت لها حشوداً كبيرة من رجالها، وأموالها، وأعتدتها، وواتتها فرصة العمل، لأن المسلمين قد أمسَوا في واقع من التخلف والتفرق ومجافاة الإسلام لا يُحسدون عليه، بل يرثى لحالهم فيه. فالإسلام في مفاهيمه الصحيحة قد كان بينه وبين تطبيقات المسلمين العملية مسافة المخالفة والمعصية والإثم، وكان بينه وبين تصور جمهور المسلمين له خلاف في كثير من الأمور. وكانت الحكومات الإسلامية في مختلف الأمصار متنازعة متنافرة، قد أوهنتها عوامل العداء والطمع والأثرة وحب الذات. وكانت الشعوب الإسلامية قد نالت من كيانها عوامل حب الدنيا، والانغماس في الشهوات، والإخلاد إلى الأرض، وحطمت من قواها عدة عوامل، منها البخل بالأموال وبالأنفس، وفقد الثقة بالنفس، وضعف اليقين بالله والاعتماد عليه، وهذا هو المرض الذي يصيب كل أمة ذات مجد رفيع، متى بدأت عجلات مركبة المجد فيها تنحدر إلى ما دون القمة، بسبب الغرور بمظاهر القوة وتراث المجد، وبسبب الانغماس بالشهوات، والاستغراق في مفاتن الحياة الدنيا من مال وجاه، وبسبب التنازع والتفرق والغفلة عن مكامن الخطر، وإهمال ما يجب عليها من الصيانة المستمرة لكل قواعد مجدها،وأسس عزتها،

سواء أكانت فكرية أم نفسية أم خلقية أم سياسية، وسواء أكانت فردية أم اجتماعية. وكان هذا الواقع في المسلمين المباين لتعاليم الإسلام من أبرز الأسباب التي مكنت عدوها من أن يجد لنفسه ثغرات في صفوف المسلمين، ينفذ منها إلى نواصي قوتهم، فيعمل على توهينها، وتجزئتها، وتبديد ما يستطيع منها؛ بكل وسيلة من وسائل القوة والبأس، أو الخديعة والمكر. ولدى البحث والتأمل نلاحظ أن نفوسهم التي بين جنوبهم قد كانت أول عدوٍّ داخلي لهم مكن لعدوّهم من خارج الحدود أن يدخل إليهم، ويقاتلهم في مرابعهم وأمصارهم، ثم يستولي عليهم، ويستعمر لنفسه بلادهم. إن العدو من شأنه أن يمكر ويبيت كل سوء، ولكن الذي يمكن عدوه من نفسه أشد عداوة لنفسه من عدوه، لأنه يفعل في نفسه ما لا يفعله أحدٌ به، وذلك بسبب غفلته، أو شهوته أو سوء تفكيره وتقديره وتدبيره أو سوء تصرفه وسوء عمله. تلخيص العوامل: 1- بعد المسلمين عن تطبيق الإسلام تطبيقاً صحيحاً. 2- بعد جمهور المسلمين عن فهم الإسلام فهماً سليماً. 3- تنازع حكام وأمراء المسلمين، وتقاتلهم من أجل السلطة. 4- تعلق جماهير المسلمين بحبّ الدنيا، والانغماس في الشهوات، واتباع الهوى. 5- البخل بالأموال والأنفس، وكراهية الموت. 6- ضعف اليقين بالله، وفقد الثقة بالنفس. - الحروب الصليبية أيقظت المسلمين من نومهم كانت الحروب الصليبية عاملاً محركاً للمسلمين، وموقظاً لهم من نومهم أو من غفواتهم، حتى يهبوا ويلتفتوا إلى سهام عدوهم، التي بدأت تجتاز الثغور إلى مقاتلهم، ويدركوا واقعهم، ويتبصروا أسباب الضعف الذي أصابهم،

ويعملوا على ترميم القواعد التي تآكلت من بنيانهم، والأسس التي خلخلها المنافقون الذين دخلوا في صفوفهم، عاملين على تقويض كل حقيقة للإسلام، وكل مجد للمسلمين، فكان موقف المسلمين يومئذٍ يحمل خطتين من خطط العمل، على شيء من الضعف في تركيزهما. الخطة الأولى: خطة الدفاع عن البلاد الواقعة هدفاً للعدو الصليبي، ضمن الإمكانات التي تسمح بها حالة تجميع القوى المبعثرة عند حلول الأزمة. الخطة الثانية: خطة العمل على إصلاح الداخل الذي نخرت عظامه أسباب الفساد والتخلف والفرقة بين صفوف المسلمين. وقيّض الله للمسلمين الشهيد نور الدين، ثم البطل صلاح الدين، ثم فيضاً آخر من أبطال المسلمين عرباً وغير عرب، ولم يتم للمسلمين النصر على عدوهم ورد كيدهم إلا بمقدار ما أصلحوا من واقعهم، وقوّموا من معوجهم. اجتهدوا وجهِدوا في إزالة عوامل الضعف من صفوفهم، فاستجمعوا قوتهم، وردتهم المحنة الكبرى التي أصابتهم إلى الله، فالتجأوا إليه، والتمسوا النصر من عنده، فألهمهم الله أن يحققوا في أنفسهم أسباب النصر، ثم منحهم من فضله التأييد على عدوهم، لما استكملوا من شروطه وأسبابه ما يكفي لتأييدهم بالنصر وفق سنة الله في عباده، ولن تجد لسنة الله تبديلاً. وتم جلاء الصليبيين عن بلاد المسلمين بعد حقبة من الدهر، كانت سياط التأديب الإلهي فيها تصيبهم من كل جانب، وقد لبثوا خلالها بين كر وفر مع عدوين: عدو صليبي محارب، وعدو من داخل الأنفس يغري بالجبن والبخل، وبالدعة واتباع الشهوات، ويغذي بالتحاسد والتباغض والفرقة ومعصية الله والرسول، وبالتثاقل عن كل واجب، وتباطؤ الهمة عن كل إصلاح أو تغيير. ولدى التأمل في الحكمة الربانية، نرى أن في تسليط جيوش الصليبيين على بلاد المسلمين حينئذٍ لوناً من ألوان التأديب الرباني، الذي رد للمسلمين شيئاً من كيانهم الذاتي، الذي كان به مجدهم واصطفاؤهم على الأمم، والذي كانوا به أمةً وسطاً، وخير أمةٍ أخرجت للناس، ألا وهو كونهم مسلمين حقاً،

عقيدةً وعملاً، ودعوة إلى الله وجهاداً في سبيله، فهم يحققون في أنفسهم كل أسباب النصر التي أمر الله بها، في عباداتهم، وفي معاملاتهم، وفي نظم حياتهم، وفي أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وفي جهادهم في سبيل نشر دين الله، والدفاع عن الإسلام وجماعة المسلمين. إنه ليس بين الله وبين أحدٍ من عباده نسب ولا قرابة، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فليس أحد بأكرم عند الله من أحد من هذه الناحية، الناس كلهم عباده مخلوقون بقدرته، ولكن لله أوامر ونواهي وسنناً، وعلى مقدار نصيب العبد من التقوى يكون نصيبه من إكرام الله وتأييده، وما النصر إلا من عند الله يؤتيه من يشاء وفق حكمته، وحكمته قضت بنصر المؤمنين "وكان حقاً علينا نصر المؤمنين"، ومهما ابتعد الخصمان عن طاعة الله وتأييد دينه وكَلَهما الله لأسبابهما الدنيوية، وأغرى بينهما العداوة والبغضاء. - تجربة حروب أقنعت الصليبيين بضرورة التحوّل إلى مخطّط آخر كانت خطة مدبري الحروب الصليبية القيام بحرب مادية مسلحة بالأسلحة العسكرية، لغزو بلاد المسلمين، واستلاب أموالهم، وهدم حضارتهم، وتحويلهم عن دينهم الذي هو مصدر قوتهم ووحدتهم، ومنبع حضارتهم وتقدّمهم في شتّى المجالات الإنسانية. كانت هذه خطة الصليبيين، يوم كانت عقول المسلمين وأفكارهم ونفوسهم لا تسمح لعوامل التنصير أن تؤثر فيها، يوم كانت العواصم الإسلامية في العالم تعيش في خيرات مجدٍ خلَّفَهُ المدّ الإسلامي في العلم والحضارة والتقدّم، في مختلف مجالات المعرفة الإنسانية المادّية والنظرية، بالإضافة إلى ألوان المعارف الروحية الدينية، والكمالات الأخلاقية، والنظم التشريعية الشاملة كل شؤون السلوك الإنساني الفردية والاجتماعية، والكفيلة بضمان الحق والعدل والسعادة. بينما كانت عواصم العالم الآخر غارقة في أوحال الجهالة والتخلف، والبعد

عن القيم الحقيقية للأخلاق الفاضلة الكريمة، والكمالات الإنسانية، والمفاهيم الصحيحة للحياة، بدءاً ومعاشاً ومعاداً. ثم أرسل مدبرو الحروب الصليبية عيونهم إلى البلاد الإسلامية، وبثوا جواسيسهم، ليتحسَّسُوا واقع المسلمين، وليكتشفوا مواطن القوة والضعف لديهم، وليتخذوا لهم من ضمن البلاد الإسلامية أعواناً لهم يوالونهم. وقد ظفروا من ذلك بنصيب كبير تصيّدوه من أهل الذمّة، ومن الطوائف والفرق المنحرفة، التي كانت قد نشأت في جسم الأمة الإسلامية بأنواع الكيد اليهودي والمجوسي والصليبي، وليحدّدوا لأنفسهم أخيراً الثغرات التي يمكن أن يظفروا بها، إذا جمعوا جموعهم، وأعدّوا عدّتهم، وهيَّئوا قوتهم. ثم لما سنحت لهم الفرصة ركبت قراصنتهم البحار، ولعاب الأمل بانتزاع الأرض المباركة من أيدي المسلمين يسيل على عرض أشداقهم، وأحلام الظفر بعرش المشرق العربي الإسلامي، وسائر بلاد المسلمين تتراقص لهم، واحتلوا بعض الثغور الإسلامية على حين غِرّة من المسلمين، يرافقها ضعف في قوتهم، وتفرق في صفوفهم. واستمرت الحروب بينهم وبين المسلمين قرابة قرنين كاملين، هما القرنان

الثاني عشر والثالث عشر من الميلاد، ثم انتهت بجلائهم بعد أن أسسوا لأنفسهم في المشرق العربي الإسلامي عروشاً صغيرة تابعة لممالكهم من وراء البحار. ولما كتب الله عليهم الجلاء، على أيدي الأبطال المسلمين الذين رفعوا راية الإسلام، وقاتلوا في سبيل الله، وباعوا الله أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، فأظفرهم الله بعدوهم، وأيدهم بنصره، كانت عظة هذه الحروب في نفوس الصليبيين وجوب تحويل المعركة مع المسلمين من حرب سافرة مسلحة توقظهم من سباتهم، وتعيدهم إلى أسس دينهم، وتحيي فيهم روح الجهاد في سبيل الله، إلى حرب مقنَّعةٍ يدخل في حسابها الغزو الفكري والنفسي والخلقي، والغزو الحضاري والمدني والاقتصادي، وأخذ مفكروهم يضعون الخطط لتنفيذ هذه الحروب المقنّعة. وبدأ جنود هذه الحروب القادمون بأقنعة شتى ينفذون خططها بكل مكر ودهاء وخبث، متسترين بالعلم أو بالتجارة أو بالصناعة أو بتحسين مظاهر المدنية أو بالتعاون والمحبة الإنسانية أو بالطب والمستشفيات أو بالخبرات الفنية في مختلف مجالات الحياة إلى غير ذلك من أقنعة جميلة مقبولة لدى أنفس الشعوب. وكانت ثمرة هذه الحروب المقنّعة وافرة لأعداء الإسلام والمسلمين. - التحول الصليبي إلى خطط الغزو الفكري مع ما يتيسر لهم من غزو عسكري إذن فقد كان الاتجاه عند أعداء الإسلام والمسلمين منذ قرون خلت أن يباشروا أولاً بالغزو المادي المسلح، ليؤدي وظيفته المادية من جهة، وليكون سبيلاً للغزو الفكري والنفسي والخلقي من جهة ثانية، حتى إذا تم للغازي الاحتلال الفكري والنفسي كانت ضحيته مركباً ذلولاً يصرفها طوع بنانه، ومرتعاً سهلاً يفعل به ما يريد. ثم تحول الاتجاه عند أعداء الإسلام بعد تجاربهم الطويلة مع المسلمين، فغدا أن يعملوا على تهيئة الشعوب الإسلامية من الداخل، وذلك بأسلوب الغزو الفكري والنفسي والخلقي عن طريق عملائهم وأجرائهم، وتحت ستار

المبادئ التي تزعم أنها إنسانية، لتكون الشعوب مؤهلة فكرياً ونفسياً لتسليم قيادهم طائعة مختار لأعدائها، في غزو مادي لا يحمل الغزاة فيه سلاحاً، ولا يكلفهم قتالاً. لقد أدركوا بعد التجارب الطويلة أن الغزو المادي قبل الغزو الفكري والنفسي والخلقي يولد في الشعوب رد فعل عنيف، يحمي أكثريتها من تقبل الغزو بكل أنواعه، لما فيه من العداء السافر، والتسلط بالقهر والغلبة المكروه للنفوس، حتى إذا تحركت كوامن النهضة في الشعوب، وواتتها الفرصة، ردت الغزاة على أعقابهم، وكان عمر الاحتلال في البلاد قصيراً، في حساب تاريخ الشعوب، مهما عظمت فيها قلاعه، وتكاثرت فيها جيوشه. والغزو الجديد الفكري والنفسي والخلقي الذي خططوا له يحمل في ثناياه أفدح الأخطاء على كيان الشعوب الإسلامية، ووحدتها وأسس مجدها، ويجعلها طعمة سائغة يزدردها العدو دون أن يجد من ذلك غصَّةً في حلقومه، كما يفقدها كل مقوم من مقوماتها الإنسانية الراقية، التي بها كانت خير أمة أخرجت للناس، ويجعلها كبقرة حلوب، تُعلفُ بمقدار ما تستثمر من لبن أو لحم أو حرث. وما دام الإنسان إنساناً فإن معظم تصرفاته خاضعة لإرادته، وإرادته خاضعة لمفاهيمه في الحياة خيراً كانت هذه المفاهيم أم شراً، وقد أدرك المخططون للغزو الجديد أن المكر والحيلة أجدى في الإنسان من أية وسيلة، وأن القوى المختلفة التي في أيدي المسلمين يمكن بالمكر والحيلة أن تسخر ضدهم، وذلك إذا تحولت أفكارهم عن مفاهيم إسلامهم، وفسد منطقهم وإدراكهم للأمور، وغدت تصوراتهم تخدم أغراض عدوهم منهم، وانتهى المخططون إلى أن وضعوا لأنفسهم القاعدة التالية: " إذا أرهبك سلاح عدوك فأفسد فكره، ينتحر به " وكذلك فعلوا وكذلك يفعلون باستمرار في الشعوب الإسلامية. وكلما استجمعت هذه الشعوب شيئاً من قوتها، وأبصرت مراكز عدوها، وأرادت أن ترفع رأسها إلى المجد مكر بها أعداؤها وأعداء دينها، فأفسدوا لديها جانباً من جوانب الفهم السليم للأمور، والفكر الصحيح في معالجة المشكلات الكبرى،

(2) الغزو الفكري وخطره

ثم استدرجوها إلى مزالق خطرة تلجأ فيها إلى استخدام أسلحتها ضد أنفسها، فتكون بمثابة من ينحر نفسه حماقة وجهلاً. فمن أهم واجبات المسلمين والحالة هذه أن يتبصروا دائماً بهذا السلام الجديد الخطر، ويصروا على الاستمساك بمفاهيمهم الصحيحة التي تهديهم إليها تعاليم دينها، مهما زيَّن لهم أعداؤهم غيرها. * * * (2) الغزو الفكري وخطره تعريف الغزو الفكري: الغزو الفكري: عنوان أطلق في الثلث الأخير من القرن الرابع عشر الهجري، الموافق للثلث الثالث من القرن العشرين الميلادي، على المخططات والأعمال الفكرية والتثقيفية والتدريبية والتربوية والتوجيهية وسائر وسائل التأثير النفسي والخلقي والتوجيه السلوكي الفردي والاجتماعي، التي تقوم بها المنظمات والمؤسسات الدولية والشعبية من أعداء الإسلام والمسلمين، بغية تحويل المسلمين عن دينهم تحويلاً كليَّاً أو جزئيَّاً، وتجزئتهم وتمزيق وحدتهم وتقطيع روابطهم الاجتماعية، وإضعاف قوتهم لاستعمارهم فكرياً ونفسياً، ثم استعمارهم سياسياً وعسكرياً واقتصادياً استعماراً مباشراً أو غير مباشر. وأُعطي هذا العنوان لأن الفكر أهم عناصره بدءاً أو انتهاءً. خطر الغزو الفكري إن اليد التي يمكن أن تضغط على زناد المدفع، فتنطلق منه قذيفة تدك بنياناً شامخاً، والتي يمكن أن تحرك مفتاحاً فينبعث منه صاروخ يروّع ويقتل ألوفاً

من الناس، والتي يمكن أن تغمز زراً في آلة فتندفع منها قنبلة ذرية أو هيدروجينية فتدكّ مدينة، وتقتل شعباً، وتقوّض حضارة، والتي يمكن أن تخطّ أمراً إلى جيش فيتوجّه إلى حربٍ طاحنة يتحكم بها ويوجّه حركاتها - نفس صاحبها التي تسيطر عليها فكرة مهيمنة على عقله فعواطفه فإرادته. من هذا يظهر لنا أن الفكرة من وراء القوى الإنسانية أقوى قوة تتحكم بهذه القوة، وأقدر الناس على التحكم بالقوى المادية هم أقدرهم على تزويد العقول بالأفكار التي يريدون إقناع العقول بها،وأعجز الناس في ذلك هم أكثرهم تهاوناً ببث الأفكار التي يمكن أن تخدم غاياتهم. ومهما بلغت أمة من الضعف في القوى المادية أمام أمة أخرى، فإنما تستطيع أن تستخدم لغاياتها قوى الأمم الأخرى، متى استطاعت أن تغذي عقولهم بما تشاء من أفكار، وتملأ قلوبهم بما تشاء من قناعات ومعتقدات. وقد أدرك أعداء الإسلام هذه الحقيقة، وهالتهم قوة المسلمين الضاربة في أكثر من نصف المعمورة أيام كان للمسلمين تلك القوة، فأخذوا يحركون جيوش الغزو الفكري من كل مكان، ويوجهونها شطر بلاد المسلمين، ليهدموا الوحدة الفكرية الناظمة لهم في سلك وحدة جماعة المسلمين، ولتكون مُحدَثات الأفكار التي تدخل إلى أفرادهم بمثابة جيش سحري غير مرئي، يمعن في صفوف المسلمين قتلاً وتشريداً، ويمعن في قلاعهم هدماً وتخريباً، دون أن يصيبه سهم واحدٌ في هذه الحرب الخبيثة، التي يغفل عنها السواد الأعظم من الذين توجّه ضدّهم هذه الحرب. وكان في مقدمة أعداء الإسلام الذين خططوا لهذا الغزو الفكري طائفة يهود، وقد كانوا بمثابة الشيطان في عصابة المجرمين، ثم سار الصليبيون هذه المسيرة ضد المسلمين بتعصب مقيت، بعد خيبة الحروب الصليبية، وجندوا لذلك الجيوش الكثيرة، وجربوا خلال عدة قرون مخططات شتى، أخضعوها للتطوير والتحسين، لتُظفرهم بمكاسب أوفر مما يبتغون تحقيقه في الشعوب الإسلامية.

(3) تاريخ ظاهرة الغزو الفكري

وكان لهذا الغزو الشيطاني الخبيث أثره البالغ، وقطف أعداء الإسلام من ثمره، ووهنت قوة المسلمين، وتشتت شملهم، واستجاب كثير من أبناء المسلمين لوساوس الغزاة ودسائسهم، فاتبعوهم في كثير من أفكارهم، ونظم حياتهم وطرائق عيشهم وأخلاقهم وعاداتهم. ويتابع أعداء الإسلام عمليات هذا الغزو الشيطاني الخبيث، بغية القضاء على الإسلام، وتحويل المسلمين عنه تحويلاً تاماً، ومن وسائلهم تحريف الحقائق الإسلامية وتشويهها، وتزيين زيوف الأفكار الغازية وتحسينها. وكان ما بذله أعداء الإسلام من جهود يكفي لتحقيق ما جعلوه هدفاً لهم، لولا أن الإسلام حق من عند الله، ولولا أن الله عز وجل يصونه من أعدائه ويحميه باستمرار، وذلك بما يقيض له من رجال يحافظون عليه ويدافعون عنه، لا يضرّهم من خالفهم. ألا وإن من واجب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن يتنبهوا إلى هذا الغزو المركز على عقولهم وقلوبهم ونفوسهم أفراداً وجماعات، ويفيدوا من خطط أعدائهم، ويحملوا أفكارهم ومعارفهم الحقة إلى العالم أجمع، وليس عليهم في إقناع الناس بالإسلام كبير عناء، يكفيهم أن يعرضوا تعاليمه عرضاً منطقياً ميسراً بألسنتهم وأقلامهم، وأن يلتزموا بمنهج الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، وأن يحملوا أنواره بأعمالهم وتطبيقاتهم، ويخلصوا لله في أقوالهم وأعمالهم، وما أسرع ما يقطفون ثمرات جهودهم وافرة بإذن الله تعالى، وتوفيقه ونصره المبين. * * * (3) تاريخ ظاهرة الغزو الفكري بدأت ظاهرة الغزو الفكري للإسلام والمسلمين منذ فجر الإسلام، وكان دهاة هذا الغزو الماكر الخبيث من اليهود.

فقد واجه اليهود الإسلام والمسلمين في المدينة بألوان مختلفات، وأشكال شتى، من وسائل الكيد للتأثير على الإسلام بغية التحريف فيه، وللتأثير على مشركي العرب بغية صدهم عن الدخول في الإسلام، وللتأثير على المسلمين بغية إخراجهم وتشجيعهم على الردة عنه. واستخدموا وسيلة النفاق ضمن وسائلهم الكثيرة، ولكن الله عز وجل حمى دينه ورسوله والمسلمين من مكايدهم، مدة عصر الرسول، ومدة خلافة أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - حتى سقط عمر صريع اغتيال كان للمكر اليهودي أصابع خبيثة خفيّة فيه. ثم كان لهم في المسلمين عبر تاريخهم حتى عصرنا هذا مكايد كثيرة، من مكايد الغزو الفكري، ظهرت في مؤامرات المنافق اليهودي "عبد الله بن سبأ" التي نجم عنها ظهور فرق الشيعة الغلاة، وأشنعهم الذين ألَّهوا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، ثم ظهرت في مؤامرات المنافق اليهودي "ميمون بن ديصان القَدَّاح" التي نجم عنها ظهور فرق الباطنية على اختلاف نزغاتها، وما كان من عصاباتهم من كيد ضدّ الإسلام والمسلمين الذي اكتوى المسلمون بناره طوال قرون. ثم ظهرت في مكايد يهود "الدونمة" ضد السلطنة العثمانية الإسلامية وضد المسلمين عامة. ثم ظهرت في مؤسسي الشيوعية في بلدان العالم الإسلامي، وناشري المذاهب الفكرية المعاصرة الرامية إلى هدم الدين والأخلاق والشرائع والنظم الاجتماعية الحسنة. ومع المكر اليهودي التقى المكر المجوسي منذ القرن الأول الهجري، ومع ظهور الإسلام وانتشاره ضعف مكر المجوس، ولم يبق منه إلا مسائل فكرية مندسة، في بعض أصحاب الأهواء من الفرق المنحرفة المنتمية إلى الإسلام والمسلمين. وكان للنصارى تحركات في الغزو الفكري المندس منذ فجر الإسلام، إلا أنها لم تكن ذات أثر قوي ظاهر، حتى قامت الحروب الصليبية، وباءت بالخيبة، وبدأ مفكروهم يخطّطون لتنصير العالم الإسلامي، أو صرفه عن الإسلام ولو إلى الإلحاد والكفر بكل دين.

ثم اتسعت دوائر الغزو الفكري اليهودية النصرانية التبشيرية والاستشراقية، مرافقة للتحركات الاستعمارية التي قامت بها الدول النصرانية ضد العالم الإسلامي، وأخذت وسائل هذا الغزو تتنامى وتتكامل، وتجري فيها تعديلات وتبديلات نبّهت عليها التجارب وساعدت عليها الوسائل الحضارية الحديثة، حتى أخذت نضجها الشيطاني في القرن الرابع عشر الهجري (العشرين الميلادي) . فقد كانت وسائله تبشيراً بالنصرانية بصورة بدائية، تستخدم المناقشة والمجادلة في المسائل العقدية الدينية، وهذه مُنيت بالهزائم المنكرة، أمام جدليات علماء المسلمين ومناظراتهم، حتى أمام صغار مثقفي المسلمين وعامتهم. ثم تواصى الغزاة بترك هذه الوسيلة من وسائل الغزو الفكري، وبالتحول إلى وسائل أخرى ليس فيها مواجهة صريحة مباشرة. صور من حملات الغزو الفكري وفيما يلي صور من حملات الغزو الفكري التبشيري الاستعماري: (1) تحت عنوان الحركة التبشيرية: جاء في كتاب "لبنان في التاريخ" "وكان من نتائج الحروب الصليبية فكرة اجتذاب المسلمين إلى اعتناق المسيحية عن طريق الإقناع، بدلاً من طريق القوة والإكراه. وهي فكرة كان لها فيما بعد أبعد الأثر في الحياة الثقافية في الشرق الأدنى. إن الخيبة التي منيت بها الحملات الصليبية في الوصول إلى غايتها، وموت الدوافع التي كانت تدفع بالناس للالتحاق بها، مهّد الطريق لفكرة جديدة: استمالة المسلمين واجتذابهم بطرق سلميّة وديّة، وهذه الفكرة هي أساس مبدأ التبشير المسيحي". ففي عام (1154م) أسس راهب صليبي في الأرض المقدسة رهبنة عرفت فيما بعد بالرهبنة الكرملية،نسبة إلى جبل الكرمل حيث كانت تقيم. ثم انتشروا في سورية ولبنان، وقد أسسوا لهم مركزاً في طرابلس. وتلا

ذلك تأسيس رهبنتين جديدتين، عند مستهل القرن الثالث عشر: الفرنسسكان والدومينيكان. وبعد مدة قصيرة أُسست إرسالية تبشيرية فرنسسكانية في مدينة طرابلس، وأُسس ديرٌ لهم في بيروت. وفي عام (1230م) وصلت دمشق إرسالة دومينيكانية، ومن ثَمَّ تقدّمت إلى طرابلس وعكة، وأماكن أخرى، حيث أسست لها أديرة. وكتب أحد أساقفة الدومينيكان "وليم الطرابلسي" سنة (1270م) كتاباً جاء فيه: نريد مرسلين لا جنوداً، لاسترداد الأرض المقدسة. وقد لاقت هذه الفكرة الجديدة استحساناً عظيماً عند رجل يدعى "ريموند لَلْ" الذي أصبح زعيم الحركة المفوه (توفي عام 1315م) كان "لَلْ" قسطلانياً يجيد العربية". الوجود المسيحي في الخليج وجاء في الترجمة الملخصة عن الوجود المسيحي في الخليج العربي إعداد: أحمد فون، ونفر من المؤسسة الإسلامية في ليستر - بريطانيا، ما يلي: بدأ وصول الكنائس الغربية ووكلاؤها بالمنطقة في عصر الاستعمار، وفي عام (1870م) قامت الكنيسة الأمريكية الإصلاحية بمدّ نشاطها إلى التاريخ، من خلال جهودها الطيّبة والعلمية، وذلك في مقرّها القديم في العراق. أما الكنيسة الإنكليكية فكان لها صلة قديمة مع الجيوش البريطانية، الموجودة في الخليج. والكاثوليك وصلوا خاصة من الهند وإفريقية الشرقية، وكثير من موظفي الشركات البترولية أسسوا الكنائس على المستوى المحلّي، وبالإضافة إلى ذلك توجد الكنائس الجديدة التي أقامتها الطبقة العاملة المهاجرة من الهند والباكستان. إن عدد المسيحيين الوطنيين بدول الخليج ليس بكثير، بل هو قليل جداً، إذ يقدّر عددهم بأقل من (150) وهناك مصادر أخرى تقول بأنهم (500) على

الشاطئ الممتد من الكويت إلى عدن. ولكن عددهم كثير بين العمال المهاجرين والمسيحيين المقيمين في دولة الكويت والبحرين وقطر وأبو ظبي ودُبي وعمان، إذ يصل عددهم إلى (60.000) ستين ألفاً وذلك مقابل مجموع السكان الذي يقدر بحوالي (3.1) مليون شخص، وهذه هي القوة العددية المسيحية بالمنطقة التي كانت مسلمة كلّيّاً. منظمات التبشير المسيحية: يعدد المؤلف أسماء المنظمات التبشيرية ويذكر أنه توجد 12 بعثة إنجليزية في منطقة الخليج و42 أمريكية، وكلها تصنف تحت ثلاثة أقسام رئيسية: 1- جمعية البعثات الكنسية. 2- جمعية الكنيسة العالمية. 3- زمالة الإنجيل والبعثة الطبية. ويعدد المنظمات المختلفة العاملة في منطقة دول الخليج ويذكر: 1- جمعية البعثة الكنسية (cms) مؤسسة عام 1799م، ويذكر منها 3 في البحرين، وواحد في عمان، وواحدة في أبو ظبي وتعمل في مجال وزارة الصحة والتعليم وميزانيتها لعام 1979م هي 2.100.108 جنيه استرليني. 2- زمالة الإخلاص للمسلمين (FFM) مؤسسة عام 1915م، وتعمل مباشرة في وسط المسلمين ومهمتها تنظيم المؤتمرات وإعداد الكتب للمسلمين وخاصة الذين ينتصرون منهم. 3- جمعية تنصير الشرق الأوسط (MECO) تأسست عام 1976م، ومهمتها الرئيسية إنتاج الكتب ونشرها في أوساط المسلمين وباللغة العربية وخاصة للشرق الأوسط ومنطقة الخليج، وأحدث مشروع لها الإنجيل للأطفال بالعربية وطبع في قبرص، وتنظيم تدريب المبشرين في دولة الإمارات العربية المتحدة. 4- الكنيسة الإصلاحية في أمريكا (RCA) وهي بروتستانتية أمريكية تعود لعام

1857م، وباشرت نشاطها في البحرين والكويت وعمان منذ عام 1889 وميزانيتها 4.533.763 دولار سنوياً، ولها 6 بعثات في البحرين 3 في الكويت 12 في عمان. 5- عملية التحريك (OM) تأسست عام 1958م، وتهتم بتنظيم وتدريب المبشرين المتطوعين لفترات قصيرة، ومن أهم أعمالها أنه تتبعها سفينتان عائمتان متنقلتان تحويان مخازن هائلة من الكتب ومراكز لتدريب المبشرين، اسمها لوجوس وبها 16 بعثة متفرغة، ودولوس وبها 25 بعثة متفرغة، الأولى متخصصة في آسيا وموانئ الخليج، والثانية في أمريكا الشمالية. 6- بعثة الإنجيل المتحدة (TEAM) تأسست عام 1890م في إسكندنافيا، وتغير اسمها عام 1949م، وهي منظمة دولية تهتم بالأمور التربوية والطبية والإذاعية، ومركز الخليج الرئيسي في أبو ظبي، وميزانيتها 9 ملايين دولار سنوياً، ويتركز نشاطها في المستشفى التابعة لها في أبو ظبي، ولها 15 بعثة في الإمارات العربية المتحدة. 7- الصليب الإفنجيلي على اتساع العالم (WEC) ، تأسست عام 1913م.... وتهتم بالأمور الطبية والثقافية والتدريب والكتب وأعمال الترجمة وتدير عيادة في دولة الإمارات العربية المتحدة ولها خمسة أعضاء متفرغين. تعرض المؤلف بعد ذلك إلى سرد تاريخ البعثات التنصيرية، ووضع الكنائس التي في منطقة الخليج. فسرد دول البحرين والكويت وعمان وقطر ودولة الإمارات العربية المتحدة واستعرض في كل دولة منها البعثات والكنائس والمعاهد التابعة لها. 1- البحرين: ذكر أن أول بعثة دخلتها كان منذ عام 1890م حيث دخلها المدعو (صموئيل زويمر) ، ومنذ عام 1894م والكنيسة لها وجود في مجال الطب، وأنشأ عيادات طبية في كل من البحرين والكويت ومسقط وعمان. وهذه

الطريقة مكّنت الاتصال المباشر بالمسلمين،إلى أن تأسس المستشفى الأمريكي في البحرين عام 1902 م، ثم المدارس للبنين والبنات،ومن الأهمية بمكان الأدب النصراني، والإذاعة النصرانية، والمكتبة النصرانية المدعوة مكتبة العائلة في البحرين حيث تبيع الإنجيل والكتب النصرانية الأخرى بمعدل 1/2 مليون دولار سنوياً، وأما الراديو فهو باللغة العربية وموجه إلى منطقة الخليج، وله أهمية كبرى ويرسل من إسبانيا وفرنسا ويعدد الكنائس والملل التابعة لها: الكنيسة السورية الأرثوذكسية - الكاثوليكية - الرومانية والإنجيلية والكنيسة الوطنية الإفنجيلية (بروتستانت) ، وكنيسة الله،والمباني التابعة لها في المنامة والعوالي. يلفت النظر هن إلى أن الكنيسة لاوطنية البروتستانتية تضم 150 عربياً نصرانياً، منهم 60 يحملون الجنسية البحرينية، وتتمتع بميزات خاصة. ويعدد المؤلف الكنائس والمستشفيات والمدارس التابعة لها في البحرين. 2- الكويت: يقول المؤلف إنه منذ عام 1920 م أسست الكنيسة الإصلاحية مستشفى بالكويت، أدير من قبل الأمريكان حتى عام 1967م، حيث استولت عليها الحكومة الكويتية وكذلك المدارس ويوجد روم كاثوليك وأرثوذكس في الكويت، وركّزوا جهودهم لتنصير المسلمين، وتوجد اليوم مكتبة نصرانية في الكويت، تلبي حاجات النصارى وربما المسلمين وكذلك راديو التنصير يلعب دوراً هاماً كما هو الحال في البحرين. ويعدد المؤلف الكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية والأرثوذكسية في الكويت والمباني التابعة لها والمدارس والمكتبات ومما هو جدير بالذكر أن الكويت هي البلد الوحدي في الخليج التي بها مجلس اتحاد للكنائس. 3- أما بالنسبة لعمان: فإن زويمر وزميله كانتين قد دخلا البلاد، وأسسا بعثة طبية ومدارس كستار لنشاطهما، ويتركز النشاط الآن في المكتبات والكتب النصرانية، والإنجيل والإذاعة. أما عن الكنائس ففيها نشاط كبير للإصلاحيين الأمريكان والكاثوليك والأثوذكس. وتوجد (5) كنائس في ماطرا ومسقط وثلاث

مستشفيات تملكها الحكومة ولكن تدار بواسطة البعثات التبشيرية ومدارس أيضاً تملكها الحكومة وتديرها الكنيسة. 4- قطر: أول عيادة تبشيرية أسست فيها عام 1948م، ولكن الحكومة استولت عليها بعد 3 سنوات، ويظهر أنه لا توجد معاهد تربية للتبشير في قطر ولا مكتبات. إلا أن راديو التنصير يبث في قطر مثل سائر دول الخليج. أما الكنائس في قطر فهي كاثوليكية تضم 2500 عضواً معظمهم هنود، ولا يوجد بناء كنسي رسمي. وقد رفضت الحكومة مؤخراً اقتراحاً بذلك، ومعظم أعمال التبشير تتم في بيوت تملكها شركات البترول، والروتستانتية ومارثوما الهندية الأرثوذكسية. 5- الإمارات العربية المتحدة: يقول المؤلف إن دولة الإمارات العربية المتحدة فيها حوالي 50 ألف نصراني، ويتركز العمل في مستشفى العين، الذي يضم 40 سريراً، ومع أبو ظبي تشكلان أهم مراكز للتبشير والتنصير في المنطقة، ويتم توزيع الكتب النصرانية في ساحة المستشفى للزوار. أما المرضى فيركز عليهم وتعطى لهم نسخ الإنجيل ولهم قاعة للمطالعة، وتوجد عدة عيادات تدار من البعثات التبشيرية، واحدة في الفجيرة، وأخرى في الشارقة (أقفلت حالياً) ، وكانت تدار من قبل نساء نصرانيات. ويوجد منذ عام 1960م مستشفى في واحة البريمي، تابع للتنصير وتوجد مدرستان تابعتان للكاتدرائية في أبو ظبي، يدرس بها حوالي 800 طفلاً، وبهذا يتركز النشاط في المجالات الطبية والتربوية. وتوجد مكتبات توزع الكتب بكافة اللغات ومناهج إنجيلية وإذاعة الراديو التنصيري. أما عن الكنائس فالبروتستانتية تركز نشاطها في دُبي وأبو ظبي والعين والكنيسة في العين يرأسها لبناني وفي المستشفى هناك نشاط كبير. وأما المجموعة الأخرى فيقودها راهب سوري ضم إليه مسلمين تنصروا والكاثوليكية والأرثوذكسية لها 6 كنائس ضخمة في أبو ظبي ودُبي والعين. أما عن المستشفيات فهي خمس أيضاً: في العين والشارقة والفجيرة والبريمي. وأما مستشفى رأس الخيمة فقد أقفل عام 1978م. والمدارس اثنتان والمكتبات ثلاث.

ذكر المؤلف بعد ذلك اهتمام الكنيسة بالعمال المهاجرين في الخليج، وذكر نشاط منظمة باكستان النصرانية. وأما عن منطقة الخليج كحقل تبشيري اليوم فقد ذكر المؤلف أن القوى التي تعمل على التنصير هي: 1- البعثات الرسمية التنصيرية منها 80 في الخليج. 2- صانعو الخيام وهم مبشرون على شكل فنيين وأطباء ومدرسين. 3- المسلمون الذين درسوا في الغرب وعادوا ربما يتنصرون مستقبلاً. ولهذا كما يذكر المؤلف يهتم النصارى بتدريب العرب المسيحيين من لبنان وأقباط مصر لهذا الغرض. وأما الطرق التي يتبعها النصارى لتنصير المسلمين في الخليج فهي أربع: 1- العمل الطبي: حيث ينتج الاتصال المباشر. والمسلم بحاجة للنصراني فيذهب إليه، ويتم نشر عملية التنصير كما هي الحال في الإمارات في مستشفى العين. 2- الاتصال على المستوى الشخصي: يتم ذلك بواسطة صانعي الخيام، وإذا وجدوا تجاوباً يتعمقون فيه، وخاصة لدى بعض المسلمين في مجالات العمل والتقنية وصانعو الخيام مبشرون، يأتون على شكل حرفيين كأطباء لإدارة المستشفيات، أو مدرسين للتعليم ومهندسين وتدفع لهم رواتب عالية ويختارون بعناية. 3- إنتاج الأدب: إنتاج الأدب وتوزيعه في سبيل تنصير المسلمين، كالمكتبات والمعاهد، وخاصة سفينة لوجوس في موانئ الخليج. 4- راديو التنصير: وهو وسيلة هامة جداً ويذيع باللغة العربية من إسبانيا وفرنسا

وليبيريا وسيشل. هذا بالإضافة إلى المدارس هناك وكتب الأدب وقصص الأطفال ثم الأشرطة والأفلام. ويظهر أن راديو التنصير مع صانعي الخيام هي استراتيجية التنصير في الخليج، بينما المستشفيات والمكتبات ساعدت كخطوة سابقة في عمل التنصير الحالي. يختتم المؤلف دراسته بإعطاء إحصائية وجدول عن كل قطر من أقطار الخليج فيذكر في جدول -1-: البلد...................عدد السكان الكلي ... نسبة الغرباء في البلاد المئوية 1- البحرين............216078..........17% أجانب 2- الكويت............1.130000.......53% أجانب 3- عمان...............800000.........20% أجانب 4- قطر................200000..........68% أجانب 5- الإمارات المتحدة....800000.........48% أجانب 6 المجموع...............3.146078......41.8% أجانب وتتناول عدد المسلمين والمسيحيين ونسبهم في كل بلد على حدة: البلد.............. نسبة المسلمين....نسبة المسيحيين....عدد المسيحيين....فئات أخرى البحرين..............98%............1%.............4515..........1% الكويت..............82%...........4%...........50600........14% عمان................99%......1% مع فئات أخرى ... 1655.... - قطر.................97%...........2.5%..........3200....1.5% الإمارات المتحدة....94%............5%..........25960.... 1% ملاحظات: 1- البحرين والإمارات مراكز حساسة وخطرة، والنفوذ النصراني فيها قوي.

2- الكويت بها أعلى نسبة من السيخ والبوذيين والوثنيين 14%. 3- يتركز الموارنة في الكويت والإمارات. 4- الهنود المسيحيون يدخلون دول الخليج بصورة غير مشروعة، ويتكاثرون هناك. 5- لا بد من فضح هذه المخططات لإيقاف تيار التنصير قبل فوات الأوان. * * * خطاب البابا شنودة لشعب الكنيسة ومن خطاب البابا شنودة لشعب الكنيسة في مصر نقرأ ما يلي:"يجب مضاعفة الجهود التبشيرية الحالية، إذ إن الخطة التبشيرية التي وضعت على أساس اتفق عليه للمرحلة القادمة، وهو زحزحة أكبر عدد ممكن من المسلمين عن دينهم والتمسك به. على أن لا يكون من الضروري اعتناقهم المسيحية، فإن الهدف هو زعزعة الدين في نفوسهم، وتشكيك الجموع الغفيرة منهم في كتابهم وصدق محمد، ومن ثم يجب عمل كل الطرق واستغلال كل الإمكانيات الكنسية للتشكيك في القرآن، وإثبات بطلانه وتكذيب محمد. وإذا أفلحنا في تنفيذ هذا المخطط التبشيري في المرحلة المقبلة، فإننا نكون قد نجحنا في إزاحة هذه الفئة من طريقنا، وإن لم تكن هذه الفئات مستقبلاً معنا فلن تكون علينا. غير أنه ينبغي أن يراعى في تنفيذ هذا المخطط التبشيري أن يتم بطريقة هادئة لبقة وذكية، حتى لا يكون ذلك سبباً في إثارة حفيظة المسلمين أو يقظتهم". * * * وفي هذا الكتاب يجد القارئ منهجهم المعاصر المقرون بالتحليل والتحذير التوجيه.

عمليّات التنصير في أندونوسيا: جاء في الرسالة التي نشرها المجلس الأعلى الأندنوسي للدعوة الإسلامية بجاكرتا، والصادرة في سنة (1410هـ و1989م) تعريف موجز بأعمال التنصير التي قامت به المؤسسات التنصيرية في أندونوسيا، وأهم ما جاء فيها ما يلي: نظرة تاريخية: * بدأ انتشار الإسلام في أندونوسيا منذ أواخر القرن السابع الميلادي عن طريق الدعوة السلمية، التي كان يقوم بها التجار المسلمون. * ثم بدأ يدخل الدين النصراني إلى أندونوسيا عن طريق المستعمرين البرتغاليين والأسبانيين، وذلك في القرن السادس عشر الميلادي. ففي عام (1519م) أخذ الاستعماريون ينشرون النصرانية في جزيرة "تيرناتي" فقاومهم المسلمون. وفي عام (1549م) قامت حرب بين الوافدين المستعمرين النصارى وبين السُكان المسلمين بقيادة: "سلطان باب الله". وفي عام (1605م) كانت القيادة العليا في البلاد بأيدي الاستعمار الهولندي الذي أبدى قسوة وعنفاً. وبدأت إقامة الكنائس في "جاكرتا" سنة "1855 م" وفي "سور أبايا" سنة "1856م" وفي "سمارانغ" عام "1858م". ومن ذلك الوقت توالت إقامة الكنائس والمدارس النصرانية في جزيرة "جاوا". وقد تمكن المستعمرون الهولنديّون من السيطرة على جميع الأراضي التي أخذوها من الشركة التجارية، التي تحمل اسم "شركة الهند الشرقية الهولندية" سنة "1799م".

* وبعدما انتهت الحرب العالمية الثانية سنة (1945م) تمكّن الشعب الأندنوسي من إعلان استقلاله، وكان عدد السكان (170 مليون) 90 في المائة منهم مسلمون. * وصار المبشرون يستخدمون وسائلهم الماكرة للتنصير، ولا يبدون أي تسامح تجاه المسلمين. الأنشطة التنصيرية في أندونوسيا: تتلخص الأنشطة التنصيرية التي يقوم بها المنصرون في أندونوسيا بما يلي: (1) اختيار القُرى النائية، وإغراء الفقراء والمساكين ليتنصروا بالمساعدات الإنسانية: (مواد غذائية - ملابس مستعملة - أدوية - نقود - مواشي "أغنام وأبقار" - آت زراعية - تهيئة مياه - ترميم بيوت قديمة - تقديم العلاج اللازم للمرضى ومن مات منهم دُفِنَ وفق المراسم النصرانية) . (2) تقديم فرص العمل مقترنة بالإغراء بالدخول بالنصرانية. (3) عرض الأفلام ذات التعليمات النصرانية، والأفلام التي تعرض الرذيلة وتشجع على الفاحشة. (4) التدريبات المهنية المجانية استمالة للتنصر. (5) استخدام عادات المسلمين التقليدية في الأذكار والأوراد والعبادات مع تبديل المضمون بعبارات نصرانية، فبدل عبارة: "لا إله إلا الله" يجعلون المسلمين يرددون عبارة: "الإله الابن". ويعقد المبشرون في وقت صلاة الجمعة لقاء دورياً مشابهاً مع تغيير في المضمون يشتمل على مفاهيم وطقوس نصرانية. ( 6) الدخول مع المهاجرين المسلمين من مناطق مزدحمة إلى جزر قليلة الازدحام، حتى إذا تمكنوا فيها جلبوا القساوسة المنصرين , وتعاونوا معهم لتنصير أهل هذه الجزر. (7) بناء الكنائس والأديرة.

(4) المهمات الرئيسية لأعداء الإسلام

(8) دعوة المسلمين والمسلمات لحضور سهرات أعياد الميلاد النصرانية الماجنة، التي تيسر السبيل للعلاقات الفاحشة المختلطة، والتي تستدرج إلى زواج الذكور النصارى بالمسلمات، تمهيداً لتنصيرهن. (9) إقامة مؤسسات تجارية تعاونية بين المسلمين والنصارى لاستدراج المسلمين إلى قبول الدخول في الديانة النصرانية. (10) استغلال المناصب الحكومية التي يحتلها النصارى، لتأمين مصالح النصارى، وكل من يتنصر من المسلمين. (11) استخدام التعليم وسيلة للتنصير ونشر التعاليم والعادات وأنواع السلوك النصرانية. * * * (4) المهمات الرئيسية لأعداء الإسلام لدى البحث العميق، والتحري الدقيق تقصياً للحقائق، نلاحظ أن كثيراً من الأفكار المشوهة عن الإسلام وتاريخ المسلمين والمضادة لهما المنتشرة في صفوف الأجيال الحديثة من أبناء المسلمين، والمنتشرة في معظم البلاد غير الإسلامية، ليست إلا أثراً مباشراً أو غير مباشر، من آثار دسائس المبشرين، والمستشرقين والمستعمرين ضد الإسلام ومن ورائهم كيد يهودي يعمل لمصلحة نفسه ويستغل جهود كل مفسدة. ومعهم في حرب الإسلام الشيوعيون والمنافقون والملحدون وسائر الكفرة بالله واليوم الآخر. وقد وفد هؤلاء إلى البلاد الإسلامية وفي حقائبهم العلمية أو الدعائية أو الدبلوماسية تعليمات مكتوبة وغير مكتوبة تحمّلهم مهمات متعددة. وأكبّ فريق منهم على دراسة معارف المسلمين دون أن يفدوا إلى بلاد المسلمين. ونستطيع أن نستبين من نتائج أعمالهم المهمات التالية:

المهمة الأولى: هدم الإسلام في عقائده وعباداته ونظمه وأخلاقه ولكن هذه المهمة التي يحملونها في محافظ أيديهم وحفائظ نفوسهم وقلوبهم وأفكارهم يضفون عليها أول الأمر أقنعة مبهرجة براقة تخدع الناظرين وتستميل قلوبهم ونفوسهم وأفكارها لتوقعهم في الشرك حتى إذا ظفروا بصيدهم شدوا عليهم وثاق الأسر المعنوي الشامل للأسر الفكري والقلبي والنفسي. وأثر الأسر الفكري يكون بربط أفكار أبناء المسلمين وبناتهم بمجموعة المعارف المزيفة، التي يُلبسونها أثواب الحقائق المسلمة، ضمن حشد من المعارف المادية الحقة، المسلمة منطقياً، والمؤيدة بالشواهد الواقعية. والواقع تحت الأسر الفكري يجد نفسه مشدوداً فكرياً بأسباب خفية إلى مواقع الغزاة. وأثر الأسْرِ القلبي يكون بتوليد عواطف الميل أو الرضى أو الحب لما يأتي به هؤلاء الغزاة، من كل أمرٍ مضاد لرسالة الإسلام وتاريخ المسلمين. وأثر الأسْرِ النفسي يكون بربط الأهواء والشهوات والغرائز النفسية بأسباب الفتنة المادية التي ينشرها الغزاة بينهم. المهمة الثانية: تجزئة المسلمين أينما كانوا من الأرض، حتى يمسوا أشتاتاً متباعدة متنافرة متقاطعة مبددة، ولا تجمعهم جامعة ولا تؤلف بين قلوبهم مودة ولا تعقد بين جماعاتهم أواصر دينية أو تاريخية أو مصلحية. المهمة الثالثة: تشويه صورة الأمة الإسلامية الحالية والتاريخية الغابرة، بكل وسيلة من وسائل الكذب والافتراء، والتزوير للحقائق، وذلك بغية حقن هذا الجيل من أحفاد المسلمين بالشعور بالنقص والتخلف، كما يكون أطوع للسوق في أيدي الغزاة إلى ركب أعداء الإسلام، الذين يتابعون كل أثر إسلامي بالهدم والتدمير ومحاولات الإبادة، وبغية حقن الشعوب الأخرى بالكراهية للمسلمين، والنفور منهم، ولا سيما الشعوب التي كانت تجد فيهم صورة رائعة من صور العدل، وصورة عظيمة من صور القوة الكبرى، والمعرفة

المتقدمة المتنامية المتكاثرة التي لا تقنع بأية مرحلة بلغتها من مراحل البحث والمتابعة، لأن الإسلام قد وضع لها زمرة من أسس حوافز المتابعة الدائبة الدائمة للمعرفة. المهمة الرابعة: خداع الشعوب الإسلامية بربط كل صورة من صور التقدم الحضاري والمدني بخطة هدم الإسلام وتجزئة المسلمين، التي يزينونها لهم، ويربط كل صورة من صور التخلف الحضاري والمدني بالاستمساك بالإسلام وبالمفاهيم والمعارف التي يحملها علماء المسلمين وخداع الشعوب الأخرى التي كان بينها وبين المسلمين مشاركات وطنية داخل البلاد الإسلامية في تعاطف متبادل وتعاون كريم، وذلك بإلقاء مسؤولية تخلفها على المسلمين وبث الكراهية والبغضاء في قلوبها عليهم، بغية إيجاد طوابير التي تُجنَّد لحرب المسلمين داخل بلادهم. وانطلقت كتائب هذا الجيش الثلاثي المؤلف من المبشرين والمستشرقين والمستعمرين بوسائلها المتنوعة، غازية على نطاق واسع كل بلد من بلاد المسلمين، في غارة تاريخية طويلة الأمد، محكمة الكيد لم يعرف التاريخ لها نظيراً، فلم تدع بلداً من بلاد المسلمين إلا دخلته، ولم تترك ميداناً من ميادينهم إلا أجرت خيولها فيه , ولا قمة من قممهم إلا حاولت أن تعتلي صهوتها وتهدمها، ولا حصناً من حصونهم إلا أنفذت إلى داخله رهطاً من المخربين المفسدين، إلا أن جوهر الإسلام الحق استطاع أن يحافظ على نقائه، في روائع نصوصه، وفي طوائف من المسلمين قائمين على الحق، لا يضرهم من خالفهم، مهما كثر الخبث وانتشر الفساد في الأرض، وهؤلاء هم بذور النماء التي ستهيئ لها الموجات التاريخية بإذن الله وتوفيقه فرصة التكاثر السريع، مهما اجتث أعداء الإسلام من أفرادها في كل عصر. * * *

(5) المنهج الرئيسي للغزو الفكري

(5) المنهج الرئيسي للغزو الفكري لدى سبر ما يمكن اتخاذه من خطط كيدٍ ضد مذهب أو فكرة أو دين له أمة من الناس تؤمن به، ولدى استقصاء هذه الخطط عن طريق التقسيم العقلي الذي يفيد الحصر، يظهر لنا ما يلي: إن الغزاة يضعون هدفهم غزو أمرين رئيسيين لدى أعدائهم وهما: الأمر الأول: الفكر الذي يمثّل عقائد الأمّة المغزوّة ومفاهيمها ومبادئها. الأمر الثاني: السلوك النفسي والظاهر، الذي هو تعبير حركي عن عقيدة الإنسان ومفاهيمه ومبادئه. ومن الظاهر في التصرفات الإنسانية أنَّ تغير العقائد والمفاهيم والمبادئ ينجم عنه تغيير في السلوك يلائم العقائد والمفاهيم والمبادئ الجديدة، ثم لا يبقى من السلوك القديم إلا ما هو متأصل عضوياً بتأثير العادة. ويلاحظ أيضاً أن تغيير السلوك بالممارسات العملية المقترنة بالاستحسان أو الاستمتاع أو إرضاء الغرائز والشهوات، سينجم عنه ولو بعد حين تغيير في العقائد والمفاهيم والمبادئ، ولا يبقى من القديم إلا مفاهيم تجريدية عامة مقطوعة الصلة بالسلوك الذي هو الأمر القائم في الممارسة، أو مفاهيم ذات آثار شكلية لا تتعارض مع هذا السلوك. والسبب في هذه الظاهرة الإنسانية أن الإنسان يحاول ما استطاع أن لا يكون متناقضاً مع نفسه، وأن لا يكون مزدوج الشخصية، أي: أن لا يكون سلوكه مناقضاً لمفاهيمه ومبادئه وعقائده، أو أن لا تكون مفاهيمه ومبادئه وعقائده مناقضة لسلوكه. إن التناقض في داخل النفس الواحدة، ذاتِ التركيب الفطري المتلائم المتناسق، يحدث ازدواجاً متصارعاً،من آثاره القلق والتوتر النفسي وعدم

الارتياح الداخلي، وهي أعراض علة مرضية نفسية يحاول الإنسان أن يتخلص منها ما استطاع. قد تحدث المصالحة التوفيقية لمدة من الزمن، عن طريق الاعتراف الداخلي بالمعصية، إرضاءً للشهوات والنزوات والأهواء، ولكن متى طال الزمن وفقدت المفاهيم والعقائد والمبادئ تغذيتها عن طريق الفكر أو عن طريق السلوك ضمرت ثم تضاءلت ثم تلاشت ثم جاءت المفاهيم والعقائد والمبادئ الأخرى الملائمة للسلوك الممارس، فاكتسحت البقايا وحلّت محلّها. وغزو كلٍّ من الفكر والسلوك إما أن يكون عن طريق الفكر، وإما أن يكون عن طريق السلوك التطبيقي. ووفق القسمة العقلية الحاصرة، الناتجة عن ضرب اثنين في اثنين،تظهر لنا الشعب الرئيسية الأربع لهذا المنهج، وهي الشعب المبينة في الجدول التالي: القوة الغازية....الأمة المغزوة 1- شعبة غزو الفكر.... للفكر 2- شعبة غزو الفكر.... للسلوك 3- شعبة غزو السلوك العملي.... للفكر 4- شعبة غزو السلوك العملي.... للسلوك هذه شعب أربع رئيسية، ويتفرع عنها سبل فرعية كثيرة، ولها وسائل متنوعة كثيرة لا تكاد تحصر. وفيما يلي شرح هذه الشعب الأربع: الأولى: شعبة غزو الفكر للفكر: ويكون فيها أمران: 1- تزيين الأفكار التي يراد الغزو بها، والإقناع بأنها صحيحة ونافعة لاعتقادها واتخاذها مبادئ للحياة ومناهجها.

2- تشويه وتقبيح الأفكار التي يراد حربُها، ونسخُها من أذهان وقلوب الأمة المغزوة، ويراد تغيير آثارها في السلوك. وكلٌّ من التزيين والتقبيح يعتمد على زخرف القول، وأنواع التضليلات الفكرية، والمغالطات والجدليات الباطلة. ومن أمثلة ذلك: تزيين فكرة النظام الرأسمالي الغربي، أو النظام الشيوعي، وتشويه وتقبيح نظام الإسلام الاقتصادي. الثانية: شعبة غزو الفكر للسلوك: ويكون فيها أمران: 1- تزيين السلوك الذي يراد تحويل الأمة المغزوّة إليه عن طريق الفكر، والإقناع بأنه هو السلوك الأفضل والأحسن لحياة الإنسان. 2- تقبيح السلوك الذي يراد تحويل الأمة المغزوة عنه، عن طريق الفكر والإقناع بأنه سلوك لا يلائم مصلحة الناس، ولا يلائم ما ينفعهم، ولا يحقق لهم سعادتهم. وكلٌّ من التزيين والتقبيح يعتمد على زخرف القول وأنواع التضليلات الفكرية والمغالطات والجدليات الباطلة. ومن أمثلة ذلك: تزيين فكرة الاختلاط المطلق بين الذكور والإناث. وتقبيح واقع المجتمع الإسلامي الملتزم بتعاليم الإسلام، والبعيد عن مفاسد الاختلاط. الثالثة: شعبة غزو السلوك العملي للفكر: ويكون الغزو فيها بأمرين: 1- بعرض أنماط السلوك النفسي أو العملي الجسدي، المعبّرة عن مفاهيم الغزاة وعقائدهم ومبادئهم بصورة مزينة محببة مغرية للتأثير غير المباشر على أفكار الأمة المغزوّة وإقناعها بصحة مفاهيم الغزاة وعقائدهم ومبادئهم.

كعرض أنماط سفور المرأة وعريها بطرق شائقة جذابة، ترغب في فكر سفور المرأة وعريها. 2- بعرض أنماط السلوك النفسي أو العملي الجسدي المعبّرة عن مفاهيم الأمة المغزوة وعقائدها ومبادئها. وتُعرض هذه الأنماط بصورة مشوهة منفرة، للتأثير غير المباشر على أفكار الأمة المغزوة، وإقناعها بالتخلي عن مفاهيمها وعقائدها ومبادئها التي تؤمن بها. كتشويه مظاهر حجاب المرأة المسلمة، بممارسات عملية مشوهة، مدفوعة أو مندسة للتنفير من فكرة حجاب المرأة الإسلامي والحكم الشرعي الآمر به. الرابعة: شعبة غزو السلوك العملي للسلوك: ويكون الغزو فيها بالاستدراج التطبيقي لأنماط السلوك النفسي والعملي الجسدي، الملائمة للأفكار والمفاهيم والعقائد والمبادئ التي يراد الغزو بها، والتي هي مظاهر لها ومعبرات عنا، بغية تحويل الأمة الإسلامية عن أنماط سلوكها القديم الملائم لمفاهيمها وعقائدها ومبادئها. ومن أمثلة ذلك إقامة الاقتصاد عملياً في البلاد الإسلامية على النظام الربوي، وافتتاح دور الفسق والفجور باسم الفن، أو بأسماء أخرى. وبعد اعتياد السلوك الجديد المصحوب بما يرضي المطامع، أو الأهواء والشهوات والغرائز يسهل جداً على الغزاة أن يزينوا للمستجيبين لهذا السلوك الفكرة التي يريدون غزوه بها، ويسهل عليهم إقناعهم بصحتها، كما يسهل عليهم إقناعهم بعدم صحة أفكارهم ومفاهيمهم وعقائدهم ومبادئهم القديمة، ذات المظاهر السلوكية المخالفة لما اعتادوه في سلوكهم الجديد. يضاف إلى ذلك، أن الإنسان يحاول دائماً أن يجد الأفكار والمفاهيم والمبادئ التي تؤيّد وتبرّر أنماط سلوكه التي تأصّلت عليها عادته، واستحلتها أهواؤه وشهواته وغرائزه ومطامعه، مهما كانت فاسدة وضارة ومخالفة لقيم الحق والخير والجمال والفضيلة الخلقية، ويحاول ما استطاع أن لا يكون متناقضاً مع

(6) الوسائل الرئيسية للغزو الفكري

نفسه، بين مفاهيمه وسلوكه، وأن لا يكون مزدوج الشخصية يعاني من صراع داخلي، كما سبقت الإشارة إليه في مقدمة هذا البحث. ومع الاستدراج التطبيقي لأنماط السلوك الغازي يكون الاستدراج التزييني للتخلي عن أنماط السلوك النفسي العملي الجسدي، الملائمة للمفاهيم والعقائد والمبادئ التي يراد مكافحتها وتحويل الأمة المغزوة عنها. ومتى تخلّى الإنسان عن السلوك المعبر عن مفاهيمه وعقائده ومبادئه، وطال عليه الأمد، ضمرت في عمقه مفاهيمه القديمة وعقائده ومبادئه، ثم تستمر في الضمور حتى تضمحل وتتلاشى، وعندئذ تحل محلها المفاهيم والعقائد والمبادئ الملائمة لأنماط سلوكه الجديد، الذي غدا هو المسيطر على ممارساته وأعماله وعاداته. وفي هذه الحالة يسهل على الغزاة الإقناع بالتخلي عنها كلياً. * * * (6) الوسائل الرئيسية للغزو الفكري اشتملت الفقرة السابقة على شرح المنهج الرئيسي للغزو الفكري، بشعبه الأربع. ولكن يتفرع عن هذا المنهج الرئيسي سُبُل فرعية كثيرة يستخدم الغزاة فيها عدة وسائل لتحقيق أهدافهم. وبنظرة سريعة تنكشف للباحث الوسائل الرئيسية التالية: الوسيلة الأولى: تشويه عقائد المسلمين ومفاهيمهم الفكرية، وتشويه النظم الإسلامية، وسائر أحكام الإسلام وشرائعه وأخلاقه وكل ما يتعلق بالتراث الإسلامي وتاريخ المسلمين.

وقد اهتمّ أعداء الإسلام باستخدام هذه الوسيلة اهتماماً عظيماً، لصدّ الناس عن الإسلام، وتنفير أبناء المسلمين منه، وتقبيح صورة الإسلام في أفكارهم ونفوسهم. والسبب في ذلك أن أعداء الإسلام قد عرفوا حقاً قوة الإسلام، وقدرته على الانتشار والاتساع وما فيه من حق غلاب، ذي سطوة على الأفكار والنفوس، وما فيه من ملاءمة للفطرة الإنسانية، وملاءمة للمصالح البشرية التي تكشفها التجربة الطويلة. ويستخدم الغزاة للوصول إلى هذا التشويه ما يلي: أ- التشكيك بالحق، عن طريق زخرف القول. ب- إلقاء الشبهات، وتوجيه المطاعن افتراءً وزوراً. جـ- المغالطات الجدلية التي تعتمد على الأكاذيب والتزييفات وحيل التحريف والإيهام وكتم الحق وتلبيس الحق بالباطل وحيل إظهار بعض الأمر وإخفاء بعضه. إلى غير ذلك من أمور. الوسيلة الثانية: محاربة اللغة العربية الفصحى واللغات الإسلامية الأخرى ومحاولة طمس علومها وآدابها بمختلف الوسائل بغية صرف المسلمين عن مصادر التشريع الإسلامي وسائر التراث الإسلامي وبغية تجزئة المسلمين. وقد اتخذت هذه المحاربة صوراً ماكرة متعددة، استخدم فيها أسلوب النصيحة حيناً والتسلل بما يُسمّى "علم اللغات العامة" حيناً آخر، وهذا التسلل دخل إلى الدراسات الجامعية. وظهرت هذه المحاربة في الدعوة إلى إحلال اللهجات العامية محل العربية الفصحى، أو التعديل في قواعدها وقوانينها، أو تبديل كتابتها إلى الحرف اللاتيني، أو التعديل في طريقة كتابتها.

وظهرت أيضاً بتشييع الآداب الشعبية، والفنون الشعبية (الفولكلور) والتبعية لأساليب الآداب الغربية كنظام ما يسمى بالشعر الحر. الوسيلة الثالثة: إحياء القوميات القديمة، وتراثها وتاريخها الجاهلي، وآثارها وآدابها الجاهلية، لمزاحمة الإسلام من جهة ولتفتيت الشعوب الإسلامية من جهة ثانية، وذلك بربطها بجاهلياتها القديمة ونعراتها القومية وعصبياتها العرقية. الوسيلة الرابعة: استخدم الأجراء أو المندسين واستغلال المغفلين والجهلة وأصحاب الأهواء والمنحرفين في سلوكهم من الفساق وعصاة المسلمين لتحريف عقائد المسلمين ومفاهيمهم الفكرية مقدمة للإقناع بفساد العقائد والمفاهيم والشرائع الإسلامية، وضرورة نبذها والتخلي عنها. واستخدام هؤلاء أيضاً لتشويه التطبيقات الإسلامية وتحويلها إلى بدع وخرافات ليكون ذلك ذريعة لمحاربة الإسلام تحت ستار أن هذه التطبيقات المشوهة هي تطبيقات إسلامية. الوسيلة الخامسة: الاستدراج البطيء إلى ممارسة السلوك الذي يراد الغزو به، وترك السلوك الذي يراد التحويل عنه، ويكون ذلك: أ- بالرفقة والمصاحبة. ب- بإغراء الأهواء والشهوات والمطامع. جـ- بشراء الضمائر. د- بالغمس بالبيئات الفاسدة، استدراجاً إليها وهي في بلاد الغزاة أو إنشاءً لها بالتدرج داخل بلاد المسلمين. هـ - بعرض نماذج هذا السلوك مزيناً محبباً للنفوس، والتأثير عليها بطرق غير مباشرة، كالقصص والتمثيليات والمسرحيات. الوسيلة السادسة: استخدام النفاق والمنافقين والأقنعة المزوّرة، ويكون ذلك بما يلي:

أ- بإدخال الكفرة في صفوف المسلمين متظاهرين بالإسلام، لإفساد حال المسلمين فكراً وسلوكاً، والإضرار بهم وهم داخل صفوفهم. ب- بإخراج بعض أبناء المسلمين من دينهم إخراجاً فكرياً وقلبيّاً، وتوصيتهم بأن يظلّوا متظاهرين بالإسلام نفاقاً، ليقوموا بما يريده الغزاة من غزوٍ فكري وسلوكي داخل أمتهم التي هم من سلالتها، وينتمون إليها في الظاهر. الوسيلة السابعة: استغلال ردود الأفعال بعد أحداث طارئة أو أحداث مفتعلة أو بعد هجوم فكري منظم. كاستغلال حالة انفعال المسلمين تجاه هجوم طارئ أو تجاه هجوم مفتعل عليهم، لإشعال نيران فتنة بينهم وبين غيرهم، واستدراجهم إلى مذابح تقضي على قسم كبير منه، أو إلى ثورات واضطرابات تبدّد طاقاتهم وتجزّئ صفوفهم. ومن أمثلة استغلال رد الفعل غير الواعي ما فعله المستشرقون من الهجوم الفكري على الإسلام بأنه لم ينتشر في العالم عن طريق الإقناع، وإنما انتشر عن طريق الإكراه بالسيف، فكان رد الفعل لدى بعض المسلمين مقالتهم بأن الإسلام ليس فيه إلا قتال الدفاع فقط، وهذا هو ما يريده أصحاب الهجوم أنفسهم. الوسيلة الثامنة: استخدام الخطوات المتدرجة للنقل من موقع فكري إلى موقع فكري آخر. وذلك لأنَّ النقل المفاجئ السريع أمرٌ تأباه النفوس، وتقابله تلقائياً بالعناد والرفض. ومن الخطوات المتدرجة التحريف في مفاهيم الإسلام شيئاً فشيئاً، على فترات زمنية متباعدة.

وهذه الوسيلة هي من وسائل الشيطان التي حذرنا الله منها، في أربعة مواضع من القرآن الكريم. الموضع الأول: في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول) المكية، وفي سياق التحذير من تحريم ما أحل الله من بهيمة ألأنعام، فقال الله تعالى فيها خطاباً للناس عامة: {كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} وفي هذا دلالة على أن للشيطان خطوات يبدأ فيها بتزيين تحريم بعض ما أحلَّ الله، ثم ينتقل إلى تزيين تحريم أمر آخر، ثم إلى تزيين إباحة ما حرم الله، وتستمرّ الخطوات تتتابع حتى يكون الشيطان هو معبود الناس، ويتخذه الناس شريكاً لله. الموضع الثاني: في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) أول سورة مدنية، وقد أتبع الله النهي عن اتباع خطوات الشيطان ببيان أن الشيطان يأمر بالسوء والفحشاء والافتراء على الله، فيبدأ بالمعاصي الصغرى على اختلاف دركاتها، وعنوانها (السوء) ، ثم ينتقل إلى المعاصي الكبرى على اختلاف دركاتها، وعنوانها (الفحشاء) ، ثم ينتقل إلى أكبر الكبائر ومشاركة الله في إلهيته، وعنوان ذلك (الافتراء على الله) . فقال الله عز وجل فيها خطاباً للناس أجمعين: {ياأَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} الموضع الثالث: في سورة (البقرة) أيضاً، وفي سياق التعريف بقسم من الناس يعجب السامع قوله في الحياة الدنيا، ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام. ولعل هذا السياق يشعر بالتحذير من ذوي الأقوال المزخرفة المعجبة، التي تستدرج إلى مواقع الضلال الفكري أو الانحراف السلوكي.

(7) تعريفات للأجنحة الثلاثة

فقال الله تعالى فيها خطاباً للذين آمنوا: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} وفي أمر المؤمنين بأن يدخلوا في السلم كافة إلزام لهم بأن لا يكون بينهم تقاتل ولا صراع مهما دعت الدواعي. وبعد هذا حذرهم من اتباع خطوات الشيطان، وذلك لأن من خطواته استدراج المؤمنين إلى الخلاف فالعداوة والبغضاء فالقتال. ويتعاون شياطين الإنس الذين تعجب أقوالهم في الحياة الدنيا مع شياطين الجن الذين يوسوسون لإلقاء الخلاف والعداوة والبغضاء بين صفوف المؤمنين، ليقتتلوا، فتُدمَّر قواهم، وتجزّأ وحدتهم، ويظفر بهم عدوّهم. الموضع الرابع: في سورة (النور/24 مصحف/102 نزول) المدنية، وفي سياق عرض قصة الإفك على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وأحكام الله في القذف، والتحذير من إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، ونشر شائعات السوء، لأن ذلك من الخطوات التي تشجّع على ارتكاب الفاحشة، مع ما فيه من إثارة العداوة والبغضاء بين المؤمنين، وتقطيع أواصر الأخوة الإيمانية، فقال الله تعالى فيها: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ....} . * * * (7) تعريفات للأجنحة الثلاثة أطلقت كلمات التبشير والمبشرين، والاستشراق والمستشرقين والاستعمار والمستعمرين بمعانٍ ودلالات جرى بها العرف في الغرب والشرق،

وغدت مصطلحاتٍ يراد منها ما شاع في العرف، فنحن نطلقها وفق ما جرى عليه الاصطلاح، ولو كانت دلالاتها اللغوية الأصلية تخالف ما تطوّرت إليه في الاصطلاح أو في واقع ما تطلق عليه، أو من تطلق عليه. وفيما يلي تعريف بهذه الكلمات: التبشير: تعريف أطلقه رجال الكنيسة النصرانية على الأعمال التي يقومون بها لتنصير الشعوب غير النصرانية،ولا سيّما المسلمون. ثمّ تحوّل هدف التبشير داخل الشعوب المسلمة إلى غاية التكفير، وإخراج المسلمين عن دينهم، ولو إلى الإلحاد والكفر بكل دين. والمبشرون: هم الذين يجنّدون أنفسهم للقيام بمهمات التبشير، سواء أكانوا من العاملين أو العاملات في السلك الكنسي أو المتطوعين والمتطوعات من ذوي الاختصاصات الأخرى، وذلك عن طريق الدعوة إلى النصرانية صراحة، أو عن طريق التعليم المنهجي، أو التثقيف العام، أو الخدمات الصحية أو الاجتماعية أو غيرها ودسّ الأفكار التبشيرية فيها. وأصل (التبشير) في اللغة الإخبار بما هو خير، أو تبليغ ما هو خير، ولكن واقع حال المبشرين الصليبيين وأهدافهم من التبشير، جعلت التبشير يحمل معنىً آخر غير معناه اللغوي الأصلي. فحملت كلمة (التبشير) الدلالة التي سبق بيانها لدى تعريفه الاصطلاحي الشائع. الاستشراق: تعبير أطلقه الغربيون على الدراسات المتعلقة بالشرقيين، شعوبهم وتاريخهم وأديانهم ولغاتهم وأوضاعهم الاجتماعية، وبلادهم وأرضهم وحضاراتهم وكل ما يتعلق بهم. وكان هدفهم الأساسي دراسة الإسلام والشعوب الإسلامية، لخدمة أغراض التبشير من جهة، وخدمة أغراض الاستعمار الغربي لبلدان المسلمين من جهة أخرى، ولإعداد الدراسات اللازمة لمحاربة الإسلام وتحطيم الأمة الإسلامية.

والمستشرقون: هم الذين يقومون بهذه الدراسات من غير الشرقيين، ويقدّمون الدراسات اللازمة للمبشرين، بغية تحقيق أهداف التبشير، وللدوائر الاستعمارية بغية تحقيق أهداف الاستعمار. ومع الدراسات الاستشراقية الموجهة لأغراض التبشير والاستعمار قام بعض محبي العلم بدراسات استشراقية حيادية غير موجهة، وكان من بعض هؤلاء إنصاف للحقيقة، وبعض هؤلاء المنصفين تأثر بالإسلام وبالحضارة الإسلامية فأسلم. الاستعمار: تعبير أطلق على استيلاء شعب بالقوة العسكرية على شعب آخر لنهب ثرواته واستغلال أرضه وتسخير طاقات أفراده لمصالح المستعمرين. ويرافق ذلك اتخاذ مخططات تحويل هذا الشعب عن دينه ومفاهيمه ومبادئه وأخلاقه وسلوكه الفردي والاجتماعي إلى ما عليه دولة الشعب الغالب المستعمر، من مبادئ ونظم وعادات إذا كان بين الغالب والمغلوب تباين في ذلك. وأصل الاستعمار في اللغة طلب التعمير والسعي لتحقيق العمران، ولكن الواقع والأهداف النفسية للمستعمرين أمور جعلت الاستعمار يحمل معنى آخر غير معناه اللغوي الأصلي، فحملت كلمة "الاستعمار" الدلالة التي سبق بيانها لدى تعريفه الاصطلاحي الشائع.

(8) المؤازرون من الداخل لقوى المكر الخارجية

(8) المؤازرون من الداخل لقوى المكر الخارجية يمكن حصر القوى المؤازرة من داخل صفوف المسلمين لكتائب الجيوش الغازية لبلاد المسلمين غزواً فكرياً، بغية هدم الإسلام وتجزئة المسلمين في أربعة أصناف منبثة داخل الشعوب الإسلامية. وقد تكون مؤازرتهم لهم بقصد وقد تكون بغير قصد، وربما تكون في صورة مقارعة كتائب هذا الجيش الغازي ومحاربتها لتضليل الجماهير عن حقيقة المؤازرة. وبعض هؤلاء المؤازرين من هذه الأصناف يسيئون إلى الإسلام والمسلمين بحسن نية، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وذلك بالانتصار للإسلام وفق الصور الخاطئة التي يفهمونها عنه. والأصناف المؤازرة لكتائب جيوش أعداء الإسلام هي الأصناف الأربعة التالية: الصنف الأول: الأجراء، وهم الذين باعوا نفوسهم لأعداء دينهم وأمتهم بثمن بخس دراهم معدودة أو منافع محدودة أو مناصب موعودة أو شهوات مبذولة ومتع مرذولة. وكم سَّلم صنف الأجراء لأعداء الإسلام مفاتيح مادية ومعنوية لكنوز عظيمة داخل الحصون الإسلامية، فمن صنف الأجراء زمر سياسيون يطبقون خطط أعداء الإسلام عن طريق السياسة، ومنهم زمر عسكريون يفعلون مثل ذلك في الميادين العسكرية، ومن صنف الأجراء أيضاً زمر ضعفاء النفوس من المتعلمين وذوي المكانة الدينية يصطنعون لأعداء الإسلام المبررات، ويسهلون لهم المهمات، ويبردون حماسة الناس ضدهم. وقد يستخرجون لهم الفتاوى والتأويلات، وقد يتصيدون لهم من بطون الكتب الإسلامية الآراء الضعيفة المردودة، التي اقتضت الحركة العلمية الحية المتقدمة في عصور ازدهار الثقافات الإسلامية عرضها ومناقشتها وردها بالحجج والبراهين، ولكن هؤلاء

الأجراء يتعمدون التقاطها وعرضها من جديد، وربما يكونون متطوعين يغفلون عن أثرها السيء الذي تفعله في نفوس الأجيال الناشئة، بما تعطيه من مفاهيم خاطئة عن الإسلام. أما هدف أعداء الإسلام منها فيتلخص في أمرين: الأمر الأول: تشجيع فريق من المسلمين للأخذ بها واعتناقاها، إبعاداً لهم عن حقيقة الإسلام النقية الصافية. الأمر الثاني: إبراز صورة مشوهة عن الإسلام للأجيال التي يريدون أن يسبوها سبياً فكرياً ونفسياً من أحضان أسرتها وبيآتها الإسلامية، وبها يستطيعون أن يهدموا الإسلام من أفكار هؤلاء الناشئين، وأن ينفروهم من طريقة آبائهم وأسرهم، الملتزمين بالصورة المشوهة التي ساهم الأجراء باستخراجها وبثها، أو تحويرها والتلاعب فيها. الصنف الثاني: الخارجون. وهم الذين خرجوا عن دينهم وأمتهم خروجاً كلياً أو جزئياً. وأخطر هؤلاء الخارجين الخارجون من طبقة المثقفين بالثقافات الحديثة، وهم في الحقيقة جنود من جنود العدو في أثواب وطنية، ولا تعدو مهمتهم أن تكون صورة تامة لمهمة المستشرقين والمبشرين والمستعمرين، إلا أنهم يستعلنون بوجه وطني، لأنهم من الأمة أعراقاً وأنساباً، وهذا الوجه الوطني لا يستطيع أن يلبسه العدو الأصلي، لذلك فإن تأثيره يظل أقل وأضعف حينما يباشر مكيدته بنفسه بصورة علنية. وهؤلاء الخارجون يستوردون المبادئ والمذاهب الفكرية البعيدة عن مجال التقدم المادي للحياة الإنسانية، مما تصنعه الخطط الأجنبية المعادية للإسلام والمسلمين، ويعرضونها بأقلامهم بين الأجيال الناشئة من أبناء المسلمين، ويرفعون من شأنها، ويمجدون أصحابها، ويغرسون في قلوب هذه الأجيال حبَّها والتعلق بها، واعتبارها حقاً وفتحاً عظيماً في ميادين المعرفة، ثم يتعهدون غراسها بالسقي والحضانة والتغذية المستمرة، حتى يثمر في أفكارهم وقلوبهم إلحاداً بالله وكفراً وتنكراً وازدراء لدينهم وأمتهم، وكراهية لكل ما يتصل

بالإسلام من حقائق، ولكل ما يتصل بتاريخ المسلمين من عزٍّ وطيد، ومجدٍ تليد. الصنف الثالث: المتهاونون، وهم الذين لا يبالون الأحداث ولا يكترثون بالأمور، ولا هم لهم في الحياة إلا أكل وشربٌ ومسكن ونكاح،وتكاثر وتفاخر بأعراض من الحياة الدنيا، ويبذلون في ميادين هذه الأمور كل ما وهبهم الله من قوى فكرية وجسدية ونفسية، فكل وقدة حرارية تتدفق بها حياتهم لا يرون لها سبيلاً إلا هذه الميادين، ولا ينظرون إلى أمور دينهم وأمتهم إلا بمقدار ما يكون لهذه الأمور من تأثير على الميادين التي فتنوا بها فتنة سلبتهم كل تفكير بغيرها. وقد نجد فريقاً من هؤلاء سليم العقيدة الشخصية ظاهر التدين، وهو مع ذلك يروى مانعاً مثلاً من ترويج كتب الإلحاد والكفر بالله، وكتب إفساد الأخلاق ونشر الرذيلة، إذا كان له منها ربح كثير، ولا يرى مانعاً من ترويج سلع الفحش والرذيلة والتجارة بالمحرمات الشرعية حينما يكون الربح الكثير مرتبطاً بذلك، ولا يرى مانعاً من الرضى بحكم أعداء الإسلام حينما تكون مصالحه التجارية أو الوظيفية ميسرة عن طريقهم. ولا يرى مانعاً من تسليم أبنائه وبناته إلى أيدي المبشرين والمستعمرين، يربونهم تربيةً معادية للإسلام والمسلمين، رغبة بأن يتقنوا لغة أجنبية إتقاناً حسناً، ليساعدوهم على تسهيل مصالح الاستيراد والتصدير. ولا يرون مانعاً أيضاً من استيراد الخمور ونحوها رغبة بزيادة موارد خزينة الدولة، عن طريق الضرائب على ما يستورد منها، إلى غير ذلك من أمثلة كثيرة. وهؤلاء المتهاونون الذين لا يبالون الدين، ولا يكترثون بما يهدمه ولا بما يبنيه، هم السواد الأعظم داخل الشعوب الإسلامية، وهم في الحقيقة حقول العمل والاستغلال، التي تنتشر فيها قوى أعداء الإسلام. ولئن لم يكن لهؤلاء أعمال إيجابية ظاهرة تساهم مع الأعداء في هدم الإسلام وتوهين المسلمين، فإن استكانتهم واستخذاءهم وتهاونهم مساهمة سلبية خطيرة تعطي كل الفرص الملائمة للأعمال الإيجابية المضادة، وخطر

هذا التهاون من أبلغ الخطر. إنه أشد خطراً من الفرار في المعارك الحاسمة مع العدو إذ هو مساهمة صامتة. الصنف الرابع: المنفرون من الدعاة، وهم بعض القائمين بالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيان أحكام الدين، وهم جهلة بحقيقة الإسلام أو بطرق الدعوة إليه، مع تعصبهم لما يرون من فكر غير صحيح عن الإسلام، أو عن طريق الدعوة إليه والعمل له. ونجد هذا القسم أحياناً متصدراً مراكز إسلامية مرموقة. وعناصر هذا القسم يقدمون بما يقولون وبما يعملون صورة للإسلام مشوهة منفرة، ويكون ضررهم أشد وأبلغ حينما لا يرى الناس الإسلام إلا من خلال الصورة المشوهة المنفرة التي يقدمونها. وجهل هؤلاء يساعد أعداء الإسلام على بث أفكارهم بين أبناء المسلمين، فهم في الحقيقة قوة مؤازرة مساعدة وهم لا يعلمون، ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً وهم لا يشعرون. وكثيراً ما يكون هؤلاء بمثابة عقبات صادة، تصد من لديهم استعدادات حسنة لالتزام الإسلام عقيدة وعملاً. * * *

الفصل الثاني المبشرون وأعمالهم

الفصْل الثاني المبشِّرون وأعمالهمْ 1- عرض موجز لتاريخ التبشير وأعمال المبشرين. 2- مؤتمرات المبشرين. 3- مجالات أنشطة المبشرين. 4- التآزر بين المبشرين والمستعمرين.

(1) عرض موجز لتاريخ التبشير وأعمال المبشرين 1- الغارة على العالم الإسلامي من كلام المستشرق المبشر الفرنسي (لُ. شاتيليه) : قام المبشرون على اختلاف نزعاتهم الدينية، وتعدد مذاهبهم المتصارعة، وجمعياتهم التبشيرية، برسم خارطة العالم الإسلامي رسماً دقيقاً تناول جميع الجوانب البشرية وغير البشرية وأعدوا للعالم الإسلامي في خطتهم للإغارة عليه حشداً عظيماً من إرساليات التبشير، وعزموا على أن يتناسوا ما بينهم من خلافات مذهبية عنيفة؛ بغية جمع طاقاتهم لمحاربة الإسلام، وهدم دعائمه، وتحويل المسلمين عن تعاليمه، وإيقاف امتداده الطبيعي. ويستطيع الباحث أن يطلع على معلومات بالغة الأهمية، تتعلق بأعمال المبشرين في العالم الإسلامي، من البحث المستفيض الذي نشرته مجلة العالم الإسلامي الفرنسي الاستشراقية ثم التبشيرية، في سنة (1912م) تحت عنوان: "الغارة على العالم الإسلامي". وهذه المجلة كانت تصدرها جمعية اسمها: "الإرسالية العلمية المغربية" مؤلفة من عدد من المستشرقين، وكان رئيس تحرير المجلة يومئذٍ المستشرق المسيو "لُ. شاتليه".

وباستطاعتنا أن نكشف الأهداف التي يلتقي عليها المستشرقون والمبشرون من كلام المسيو (لُ. شاتليه) في مقدمته للبحث المشار إليه إذ يقول: "قلنا في سنة (1910م) عندما كنا نخوض على صفحات هذه المجلة في موضوع السياسة الإسلامية: ينبغي لفرنسا أن يكون عملها في الشرق مبيناً قبل كل شيء على قواعد التربية العقلية، ليتسنى لها توسيع نطاق هذا العمل، والتثبت من فائدته. ويجدر بنا لتحقيق هذا بالفعل أن لا نقتصر على المشروعات الخاصة التي يقوم بها الرهبان المبشرون وغيرهم، لأن لهذه المشروعات أغراضاً خاصة. ثم ليس للقائمين بها حول ولا قوة في هيئتنا الاجتماعية، التي من رأيها الاتكال على الحكومة، وعدم الإقبال على مساعدة المشروعات الخاصة التي يقوم بها الأفراد، فتبقى مجهوداتهم ضئيلة بالنسبة إلى الغرض العام الذي نتوخاه، وهو غرض لا يمكن الوصول إليه إلا بالتعليم الذي يكون تحت الجامعات الفرنسية، نظراً لما اختص به هذا التعليم من الوسائل العقلية والعلمية المبنية على قوة الإرادة. وأنا أرجو أن يخرج هذا التعليم إلى حيز الفعل ليبث في دين الإسلام التعاليم المستمدة من المدرسة الجامعة الفرنسية. هذا ما ارتأيناه يومئذ، وسيظهر ما يؤيده في الفصول التالية المتعلقة بإرساليات التبشير البرتستانتي الانجلوسكسونية والجرمانية الدائبة على العمل في العالم الإسلامي، حتى أصبحت أهميتها تفوق بكثير ما اعتاد الفرنسيون أن يتصوروه، لأن النشاط وقوة الجأش التي يظهرها القائمون بأعمال هذه الإرساليات تختلف عن التي تمتاز بها أمتنا. وكنا منذ أمد بعيد نودّ أن نخوض في ذكر تفاصيل أعمال هذه الإرساليات التي اشتهرت بخطتها، ووفرة الوسائل التي أعدَّتها وتوسلت بها لمقاومة دين الإسلام". ثم يمضي هذا الكاتب المستشرق الفرنسي فيستشهد ببعض المؤسسات التعليمية التابعة لبعض إرساليات البشير في البلاد العربية والتركية ثم يقول:

"ومن هذا يتبين لنا أن إرساليات التبشير الدينية التي لديها أموال جسيمة، وتدار أعمالها بتدبير وحكمة تأتي بالنفع الكثير في البلاد الإسلامية من حيث إنها تبثُّ الأفكار الأوروبية. إلا أن لإرساليات التبشير مطامع أخرى كما يتبين من الجملة الآتية التي استخرجتها من رسالة أرسلها إليَّ من جزيرة البحرين في 2 آب (أغسطس) /سنة 1911م/ حضرة القسيس المحترم صموئيل زويمر منشئ مجلة العالم الإسلامي الإنكليزية، وهو يبني فيها صروح آمال شامخة على أعمال المبشرين البروتستانت، قال: (إن لنتيجة إرساليات التبشير في البلاد الإسلامية مزيتين: مزيد تشييد ومزية هدم، أو بالأحرى مزيتي تحليل وتركيب) . والأمر الذي لا مرية فيه هو أن حظ المبشرين من التغيير الذي أخذ يدخل على عقائد الإسلام ومبادئه الخلقية.... أكثر بكثير من حظ الحضارة الغربية منه" انتهى. فإذا أخذنا بقاعدة من فمك أدينك؛ وجدنا في كلام هذا المستشرق ما يدين المستشرقين والمبشرين بأنهم قد قاموا بحرب مركزة ضد الإسلام صاحب رسالة الهداية للناس أجمعين، وهم يعمون أنهم يريدون هداية الناس إلى الحق والخير. 2- لمحة عن تاريخ التبشير اقتباساً من "أدوين بلس": منذ أن انتشر الإسلام وظهر على الدين كله، وأهل الكتاب من يهود ونصارى يضمرون له ولأهل الحقد العظيم، وزاد الأمر بالنسبة إلى النصارى أن دخيلاً دخل على نفوس قادتهم الدينين والسياسيين منذ الحروب الصليبية، وارتداد الصليبيين على أدبارهم مهزومين إثر حروب قرنين من الزمان، فولَّد هذا في نفوس هؤلاء أحقاداً وآلاماً صعب عليهم أن ينسوها، فكان من

نتائجها مخططاتهم الهادفة للغارة على العالم الإسلامي بحروب من نوع آخر، منها مخططات التبشير بالنصرانية بين الشعوب الإسلامية، أو تحويل المسلمين عن دينهم ولو إلى الإلحاد والكفر بكل دين. وأفضل ما يرجع إليه لدى دراسة تاريخ التبشير ما كتبه مؤرخوهم. جاء في كتاب (ملخص تاريخ التبشير) لمؤلفه "إدوين بلس" البروتستانتي: إن "ريمون لول" الإسباني هو أول من تولى التبشير بعد أن فشلت الحروب الصليبية في مهمتها، فتعلم (لول) اللغة العربية بكل مشقة، وجال في بلاد الإسلام، وناقش علماء المسلمين في بلاد كثيرة. ثم تحدث مؤلفه عن إرساليات التبشير في القرون الوسطى إلى الهند وجزائر السند وجاوة، وعن اختلاط المبشرين بالمسلمين منذ ذلك الحين، وعن اهتمام هولندة بالتبشير في جاوة في أوائل القرن الثامن عشر، وعن محاولات المبشرين إخراج المسلمين عن دينهم، وأشار إلى "بترِ هيلِنبغ" الذي أبدى نشاطاً تبشيرياً قوياً بين مسلمي سواحل إفريقية. وفي سنة (1664م) حضَّ البارون "دويتز" على تأسيس مدرسة كلية تكون قاعدة لتخريج المبشرين بعد تعليمهم أصول التبشير ووسائله، وارتأى أحد الأحبار أن يعهد إلى الأروام بمسؤولية تبشير الأتراك المسلمين، إلا أن البارون قد فشل في مشروعه يومئذ. ثم تحدث عن تاريخ تنظيم الإرساليات البروتستانتية من دانمركية وانكليزية وألمانية وهولندية، وأخبار اتصال بعضها ببعض، وأسماء الملوك والأمراء الذين كانوا عضداً لها، ومؤيدين لأعمالها في القرن السابع عشر وما بعده في أقطار العالم. أما أعمال إرساليات التبشير في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر فقد ذكر مؤلف الكتاب: أن المستر (كاري) هو الذي فاق أسلافه في مهنة التبشير، فدرس لغات اللاتين، واليونان والفرنسيين والهولنديين والعبرانيين كما تعلم كثيراً من العلوم. وأخذ ينشر الكتب في التحريض على التبشير. وقد

قوبلت هذه الكتب بالاستحسان في أوربا، وبدأ المتبرعون يقدمون له المساعدات المالية لدعمه في مهمته، وسافر إلى الهند بغرض التبشير، ولتنظيم أعماله، وصارت الأموال ترسل إليه من اللجان التي أخذت في أوربا تجمع له المساعدات من المكتتبين في مشروعه، ثم طلب أن يرسل إليه رجال يؤازرونه في التبشير، ونجم عن ذلك تأسيس "جمعية لندن التبشيرية" في عام (1795م) ، ثم تأسست جمعيات مماثلة في (اسكوتلندة) وفي (نيويورك) ، وانتشرت هذه الفكرة في ألمانيا والدانمرك وهولندة والسويد ونرويج وسويسرا وغيرها. وتأسست أيضاً جمعيات فرعية كثيرة، منها "جمعية التبشير في أرض التوراة العثمانية" أي: البلاد العربية التي كانت تحت حكم السلطنة العثمانية يومئذ. وزاد الشغف في أوربا بأعمال التبشير الهادفة إلى إخراج المسلمين عن دينهم، إلى أن تأسست إرساليات تبشير طيبة على سبيل التجربة، لتلحق بالإرساليات العامة. وذكر مؤلف الكتاب أن هذه الإرساليات نجحت نجاحاً باهراً، لذلك أخذت تنمو وتزداد، وتألفت لها أقسام نسائي، وقد أرسل بعضها إلى الهند والأناضول. وفي عام (1855م) تألفت "جمعية الشبان المتطوعين للتبشير في البلاد الأجنبية" ويقول مؤلف الكتاب: إنها لعبت دوراً مهماً في تبشير المسلمين على الخصوص. ثم تبع ذلك تأسيس جمعيات التبشير في كل البلاد البروتستانت. وفي عام (1902م) تأسست "جمعية تبشير الشبان" ومهمتها استمالة النساء والبنات والشبان والطلبة على استماع صوت المبشرين. وفي عام (1907م) تأسست جمعية أخرى لتبشير الكهول، وأخذت تباشر مهماتها وترفع التقارير بذلك. ويقول "إدوين بلس" في كتابه هذا: إن الدين الإسلامي هو العقبة القائمة في طريق تقدم التبشير في إفريقية، والمسلم فقط هو العدو اللدود لنا.

ويقول أيضاً: دخل المبشرون الكاثوليك ربوع إفريقية منذ القرن الخامس عشر، أي في أثناء الاكتشافات البرتغالية، وبعد ذلك بكثير أخذت ترد إرساليات التبشير البروتستانتية الإنكليزية والألمانية، وكذلك إرساليات التبشير الفرنسية. ولم تهتم جمعية الكنيسة البروتستانتية بالتبشير في إفريقية الغربية إلى منذ سنة (1804م) حيث تعاونت إرسالياتها، وانكفأت على الكونغو. ثم يقول: وهذه الجمعية تقاتل الآن (أي: أيام كتابته مؤلفه) بمؤازرة الأسقف "صموئيل كروتز" الزنجي سلطة الإسلام المتدفق في النيجر الغربية. وفي سنة (1819م) اتفقت جمعية الكنيسة البروتستانتية مع الأقباط، وألفت في مصر إرسالية عهدت إليها بالتبشير في إفريقية الشرقية، وقررت إرسال مبشرين إلى الحبشة، ولكنها فشلت بسبب المنافسة بين اليسوعيين والبروتستانت، ثم أخذ المبشرون السويديون والإنكليز يرتادون غربي إفريقية، وتبعهم مبشرو المدرسة الجامعة، فهبطوا مدينة "ممباسة". ثم عززت ألمانيا إرسالياتها عقب اتساع مستعمراتها. وتوافد المبشرون على إفريقية الوسطى عقب بعثة "لفنسنون" و"ستانلي" سنة (1878م) ، فاقتسموا مناطقها مع اختلاف جنسياتهم، بين ألماني واسكوتلندي وانكليزي ومورافي، وقد انتشرت إرساليات هؤلاء بدون انقطاع من شرقي إفريقية إلى أواسطها حتى الخرطوم والحبشة وبلاد الجُلاَ. أما بلاد المغرب فلها مبشرون خاصون بها ترسلهم "جمعية تبشير شمال إفريقية" وهم منتشرون في المغرب والجزائر وتونس وسائر بلاد المغرب، ومنهم المبشرون والأطباء التابعون لهم. ثم ذكر أن المبشرين البروتستانت يقومون في جزيرة مدغشقر بخدمة مهنتهم بكل جد ونشاط. ثم يقول متحدثاً عن المبشرين في آسيا الغربية:

كان للمبشر "هنري مارتين" يد طولى في إرسال المبشرين إلى بلاد آسيا الغربية، فبعد أن أقام في الهند مدة عرَّج على فارس والبلاد العثمانية، وتوفي سنة (1812م) وبعده أخذت إرساليات التبشير تشد الرحال إلى الأناضول، وفلسطين واتخذت لها مراكز في إزمير والقسطنطينية وبيت المقدس. ثم يقول المؤلف: ولما حدثت حوادث سنة (1860م) في سورية توجهت الأنظار إلى جبل لبنان، وبعد عشر سنوات انتشرت لجنة التبشير الأمريكية في البلاد العثمانية عدا سورية. وعلى إثر تأسيس المركز البروتستانتي في الآستانة سنة (1846م) صارت الآستانة مركزاً عاماً آمناً لأعمال المبشرين. ثم يقول متحدثاً عن المبشرين في الهند: انتشرت إرساليات التبشير في الهند عقب إرسالية "جمعية لندن التبشيرية" التي قام بها (كاري) ثم تبعتها الإرساليات الأمريكية، والاسكوتلندية والهولندية والنرويجية وغيرها. وكلها تؤدي وظائفها بنشاط وتقوم بأعمالها بكل دقة. وقد وقع هؤلاء في الحيرة أول الأمر، لأنهم لم يعلموا بمن يبدأون في التبشير، ثم اكتشفوا خطة التقاط الأطفال الذين يعضهم ناب الفاقة والفقر، فيحسنون إليهم ويستجلبونهم نحوهم. وقرر مؤتمر التبشير الذي عقد في شيكاغو أن ينظر في وسائل تعميم التبشير في الهند. ثم تحدث عن التبشير في الملايو، وذكر أن أهالي هذه البلاد اقتبسوا شيئاً من مذهب الكاثوليك عقب ظهور البرتغاليين، ومن مذهب البروتستانت بعد استيلاء الهولنديين على هذه البلاد، وقد أبدى الهولنديون قسوة وعدم تسامح في القرون الوسطى لنشر عقيدتهم. ثم يقول: وفي هذه الأيام (أي: أيام كتب مؤلفه) ذهبت إرساليات كثيرة إلى الملايو لتبشيرهم. ثم تحدث المؤلف عن التبشير في الصين فقال:

وتاريخ ذهاب إرساليات التبشير إلى الصين يرجع إلى سنة (1813م) ، ولما افتتحت الثغور الصينية بعد ذلك انتشر فيها المبشرون والأطباء والممرضون التابعون لهم انتشاراً هائلاً، واتسع نطاق أعمالهم وجاءت بثمرات كثيرة. وهكذا يحدثنا (إدوين بلس) عن تاريخ التبشير، وقد استشهد المبشرون أنفسهم بكلامه وأثنوا عليه واعتمدوا على كتابه. واتسعت دوائر التبشير وتنوعت أساليبها داخل البلاد الإسلامية وبين المسلمين. فلينظر المسلمون ماذا جرى في بلادهم وبين شعوبهم وماذا يجري باستمرار، وهم عن أعدائهم غافلون،ولما يجب عليهم نحوهم مهملون. 3- المبشر "زويمر" وكتابه "العالم الإسلامي اليوم" نشر المبشر القسيس "زويمر" الذي كان رئيساً لإرسالية التبشير في البحرين بمؤازرة بعض رفاقه في مهنة التبشير كتاباً بعنوان "العالم الإسلامي اليوم"، جمع فيه طائفة من التقارير والمباحث التاريخية والاجتماعية، مما كتبه المبشرون عن أحوال المسلمين القاطنين في مناطقهم التبشيرية، وخلاصة عن أعمال المبشرين التي قاموا بها في مختلف البلاد، وما نتج عنها من ثمرات لصالح مهمة التبشير. وقد جاء في مقدمة هذا الكتاب الإلحاح على ضرورة التبشير بين المسلمين، وانتقاد المؤسسات التبشيرية العالمية بأنها ارتكبت خطأ كبيراً بتركها المسلمين وشأنهم، إذ ظهر لها أن أهمية الإسلام هي في الدرجة الثانية بالنسبة إلى ثمانمائة مليون وثني رأت أن تشتغل بهم، ولم تنتبه إلى خطر الإسلام وحقيقة قوته وسرعة نموه إلا منذ ثلاثين عاماً فقط (أي: رجوعاً من تاريخ كتابة زويمر كتابه هذا الذي ظهر في أوائل القرن العشرين) . وجاء في مقدمة هذا الكتاب أيضاً: أن أبواب التبشير صارت مفتوحة الآن في ممالك العالم الإسلامي، مثل الهند والصين الجنوبية الشرقية ومصر وتونس والجزائر. ومن النصائح التي جاءت فيها للمبشرين ما يلي:

1- يجب أن يكون تبشير المسلمين بواسطة رسول من أنفسهم ومن بين صفوفهم، لأن الشجرة يجب أن يقطعها أحد أعضائها. 2- ينبغي للمبشرين أن لا يقطنوا إذا رأوا تبشيرهم المسلمين ضعيفة، إذ من المحقق أن المسلمين قد نما في قلوبهم الميل الشديد إلى علوم الأوروبيين وتحرير النساء. وفي هذا الكتاب فصل بعنوان "الإسلام في مصر" وقد تضمن هذا الفصل ملخص أعمال المبشرين البروتستانت في مصر، والوسائل التي يتذرعون بها، والنتائج التي توصلوا إليها. وفيه أن أهم معاهد التبشير التي أنشئت في مصر المعهد الذي أسسته جمعية اتحاد مبشري أمريكا الشمالية سنة (1854م) . وقد استطاع المبشرون منذ هذه الحقبة حتى سنة (1904م) أن يحتكوا المسلمين عن طريق مؤلفاتهم ومدارسهم وعن طريق المحاضرات العامة التي يقيمونها مرتين في كل أسبوع، للموازنة والمناظرة بين الإسلام وبين الدين المسيحي، ويحضر هذه المحاضرات جمع غفير من المسلمين، ويسمح لهم أن يتكلموا. وقد غدا لدى مدارس المبشرين في القطر المصري (3000) ثلاثة آلاف طالب مسلم، وخُمس هؤلاء من البنات المسلمات. وفي سنة (1882م) تأسس في مصر معهد علمي للتبشير، تابع لجمعية تبشير الكنيسة، وله أربعة فروع كما يلي: الأول: قسم طبي. الثاني: مدرسة للصبيان. الثالث: مدرسة للبنات. الرابع: مدرسة لنشر الإنجيل. وينشر مبشرو هذا المعهد مجلة أسبوعية، وكراسات ولهم مكتبة خاصة بهم. وكان لأعمال هؤلاء المبشرين نتيجتان: الأولى: إخراج عدد قليل من الشبان والفتيات عن الإسلام، وغرس العقائد التبشيرية في قلوبهم.

الثانية: تعويد كل طبقات المسلمين أن يقتبسوا بالتدريج الأفكار غير الإسلامية. وفي سنة (1898م) تأسست الجمعية العامة لتبشير مصر، فكان لها معاهد في الدلتا والسويس، وأخذت تدير مدارس للصبيان والبنات، وتبث فيهم المسيحية، ونشطت هذه الجمعية حتى كان لها مجلة منتشرة جداً وبخاصة بين المسلمين، وكان لها خزائن كتب تحوي كتباً عربية ذات علاقة بالإسلام. وأقل إرساليات التبشير أهمية في القطر المصري الإرسالية الهولندية،التي تمركزت في قيلوب، ومن أعمالها أنها أنشأت ملجأ تبشيرياً للأيتام. وقد جاء في هذا الفصل من الكتاب أن العقبة الوحيدة التي تقف في سبيل إرساليات التبشير هي أنه ليس لديها قوة تزيل بها الضرر الذي يحف بالذين يرتدون عن دينهم من المسلمين، بسبب مقاطعة المسلمين لهم. 4- ما كتبه المبشر المستر "م. هْوُرّي" حول التبشير في الهند من الذين كتبوا في موضوع "الإسلام وإرساليات التبشير في الهند" المبشر المستر "م. هوري" فقد تكلم عن حالة التبشير في شمالي الهند، وعن انتشار الإسلام ووسائطه، وأشار إلى دعاة جمعية "انجمن الإسلام" وتحدث عن التقدم الفكري والاجتماعي الذي حدث في هذه الجهات، وأن الإسلام عرقل سير التبشير. وفي حديثه عن تاريخ التبشير في الهند قال: إنه ابتدأ منذ مائة سنة (أي: من أوائل القرن التاسع عشر) وذلك عندما نال المبشر "جيروم كزافيه" اليسوعي إذناً بالتبشير في (لاهور) ، ففتح باب الجدال في مسائل التوحيد والتثليث وألوهية المسيح. ثم جاء المبشر "هنري مارتين" فوضع أساساً قوياً للتبشير. ثم تلاه "فاندر" فترجم كتابه "ميزان الحق" من الفارسي إلى الأردية،

وزاد عليه ترجمة كتاب "طريق الحياة" وكتاب "مفتاح الأسرار" وبهذا آثار "فاندر" مجادلات شديدة مع علماء الإسلام في (دهلي) و (أكرا) و (لكنو) . ثم تحدث عن جمعيات التبشير في شمال الهند فقال: وفي شمال الهند الان (أي: في أوائل القرن العشرين) ما لا يقل عن (12) جمعية تبشيرية بين إنكليزية وأمريكية وأسترالية، وكلها ترمي إلى غاية واحدة. قال: وقد اشتد انتباه المبشرين إلى مكافحة الإسلام في الأيام الأخيرة،فمنت فيهم فكرة الاختصاص بتبشير المسلمين على إثر كتابات الدكتور "مردوتش"، وبادرت جمعيات متعددة إلى إرسال مبشرين اختصاصيين لهذا الغرض. أما ثمرة التبشير في أواسط الهند فهي أضعف بكثير من ثمرة التبشير في شمالي الهند، بالرغم من اجتهاد جمعية "تبشير الكنيسة" التي في "مدراس" و"حيدر أباد" وبالرغم من تفاني إرسالية "زنانة التبشيرية" وفوق كل ذلك يكثر في هذه الجهات انتقال غير المسلمين إلى الإسلام، وجمعية "انجمن الإسلام" تنجح دائماً بما لها من النشاط في حمل عدد كبير من غير المسلمين على اعتناق الإسلام. ومؤتمر المبشرين الذي عقد في القاهرة سنة (1906م) لم يفته البحث في حركة الإصلاح التي دخلت في مسلمي الهند، ولم تفته الإشارة إلى "السير سيد أحمد خان" زعيم تلك النهضة، وما تبذله مدرسته الإسلامية في (عليكرا) ومؤتمر التربية الإسلامية. وقد خطب القسيس "ويتبرتشّت" في مؤتمر القاهرة بموضوع "الإسلام الجديد" فذكر أن تعاليم أوربا تقرب المسلمين من الاستجابة للمبشرين، ثم قال: يجب أن ننشئ جسراً فوق الهاوية التي تفصل بين العناصر، ولتتوصل إلى ذلك يجب أن ننتفع من وجو الطلبة المسلمين في انكلترا. ويجب أن تلقى محاضرات ودروس منظمة بمراقبة رجال ممتازين. وأن تصرف العناية إلى المناقشات. ويجب أن يوسع نطاق المطبوعات بالأردية، مثل مجلة (ترقي) ، وأن يترجم تاريخ التوراة للدكتور "بلاكي" وأن يتذرع لترويج ذلك بنشر الجرائد والكتب الإنكليزية التي يأنس بها المسلمون المتعلمون.

5- تقريرات حول التبشير في البلاد العربية وضع المبشر القسّيس "أناتوليكوس" تقريراً حول موضوع التبشير في البلاد الإسلامية الخاضعة للدولة العثمانية في أوائل القرن العشرين. فقال في تقريره عن سورية وفلسطين: تقف في طريق تبشير هذه البلاد عقبات خاصة، بعضها من الحكومة وبعضها الآخر ناشئ عن حالة البلاد وموقفها الحاضر، فسورية وفلسطين مملوءتان بالمذاهب المختلفة، وللدين فيهما ارتباط بالسياسة. وأهم الوسائل التي يستخدمها المبشرون لتذليل هذه الصعوبات هي ما يلي: 1- توزيع نسخ الكتاب المقدس. 2- التبشير عن طريق الطب، لأنه في مأمن من مناوأة الحكومة له، والمسلمون يلجأون بأنفسهم إلى مستشفيات المبشرين ومستوصفاتهم. 3- الأعمال التهذيبية كالمدارس والكليات التي تقبل أبناء المسلمين. 4- الأعمال النسائية، مثل زيارة المبشرات لمنازل المسلمين، وإلقائهن المحاضرات الخاصة. 5- توزيع الكتب والمؤلفات التبشيرية. التبشير في الجزيرة العربية وقد نظر المبشرون إلى الجزيرة العربية بحنق شديد، لأنها قد كانت في يوم من الأيام مشرق شمس الإسلام، ولأن فيها أماكن مقدسة يحج إليها المسلمون في كل عام وافدين من أقطار الدنيا. فقال المبشر "وليم جيفور بالكراف": متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في سبيل الحضارة التي لم يبعده عنها إلا محمد وكتابه!!. وقال مؤلف كتاب "العالم الإسلامي اليوم" تعقيباً على فكرة "بالكراف": وقد أدرك أهمية هذه الفكرة القسيس "يانغ" صاحب التقرير عن التبشير في جزيرة العرب، فجعلها نصب عينيه في كل الأعمال، قال: ولكننا نتساءل عما

إذا كان قد حان الوقت للعمل بها، وعما تكون نتيجة التبشير حينئذ. وللمبشر القسيس "زويمر" رئيس إرسالية التبشير في البحرين سَبْقٌ في هذا المضمار، فقد ألف كتاباً سماه "مهد الإسلام"، تحدث فيه عن إرساليات التبشير في الجزيرة العربية، وانتقل بعد هذا إلى ذكر النفقات الجسيمة التي تتكبدها إرساليات التبشير في جزيرة العرب، ومما قاله: إن مرتبات المبشرين والموظفين عندهم وبائعي كتبهم تساوي ثلاثة أضعاف مرتبات أمثالهم في الهند، ومما يخفف أمر هذه النفقات أن المبشرين في بلاد العرب اتخذوا لهم مراكز تمهد لهم سبيل التوغل في داخل الجزيرة. وكل الإرساليات هناك على اختلاف نزعاتها وأشكالها ومعاهدها الطبية والتهذيبية والأدبية ترمي إلى غاية واحدة، والمرضى يشدون الرحال من أصقاع بعيدة إلى مستشفيات المبشرين في الموصل وبغداد والبصرة والبحرين والشيخ عثمان وعدن. وعندما يرحل الأطباء جائبين البلاد، ينثرون في النفوس بذوراً يمكن للمبشرين وبائعي الكتب أن يحصدوها بعد ذلك، وينمّو غراسها. والتعليم المدرسي والتربية اللذان يعنى بهما المبشرون قد أسفرا عن نتائج جمة، وأثمرا ثمرات نافعة في الأطفال والمراهقين على السواء. 6- اهتمام المبشرين بالمرأة عرف المبشرون ماللمرأة من تأثير على الأسرة، وعلى المجتمع كله بوجه عام، فوجَّهوا شطراً كبيراً من أعمالهم التبشيرية إليها. ولما كانت المرأة المسلمة الملتزمة بآداب الإسلام بعيدة عن الاختلاط في مجتمعات الرجال، اضطر المبشرون أول الأمر أن يضموا إليهم فريقاً من المبشرات اللواتي يحملن مهمة التبشير إلى النساء المسلمات، كما بدا لهم أن يؤسسوا جمعيات نسائية، كجمعية الشابات المسيحيات، وأن يؤسسوا مدارس للبنات

على نسق المدارس التي أسسوها للذكور، وأن يوجهوا عناية لفتح المدارس الداخلية، لأن فرص التأثير فيها أكثر، وأن يشجعوا التعليم المختلط، وأن يفتحوا دوراً خاصة بالطالبات تشرف عليها طائفة من المبشرات، وأن يقيموا الأندية النسائية والمخيمات الكشفية النسائية، ثم ما زالوا يتدرجون في كسر الحواجز بين الذكور والإناث، حتى شاعت المجتمعات المختلطة بين المسلمين والمسلمات بتأثير العدوى والسِّراية. وصفق المبشرون كثيراً ابتهاجاً وسروراً حينما فتحت المرأة المسلمة أبوابها، ونزعت عنها جلبابها، لأن ذلك قد أتاح لهم كل الفرص الملائمة للتغلغل عن طريقها إلى داخل الأسرة المسلمة كي يبثُّوا ما يريدون بثَّه من تعاليم تمليها عليهم مهمَّاتهم التبشيرية. يقول نفر من المبشرين: "بما أن الأثر الذي تحدثه الأمّ في أطفالها - ذكوراً وإناثاً- حتى السنة العاشرة من عمرهم بالغ الأهمية، وبما أن النساء هنّ العنصر المحافظ في الدفاع عن العقيدة، فإننا نعتقد أن الهيئات التبشيرية يجب أن تؤكد جانب العمل بين النساء المسلمات، على أنه وسيلة مهمَّة في التعجيل بتحويل البلاد الإسلامية إلى المسيحية". وفي مؤتمر القاهرة التبشيري الذي عُقد في عام (1906م) قدَّم الأعضاء المبشرات النداء التالي: ".... لا سبيل إلا بجلب النساء المسلمات إلى المسيح. إن عدد النساء المسلمات عظيم جداً.... فكل نشاطٍ مجدٍ للوصول إليهن يجب أن يكون أوسع مما بذل إلى الآن، نحن لا نقترح منظّمات جديدة، ولكن نطلب من كلّ هيئة تبشيرية أن تحمل فرعها النسائي على العمل واضعة نصب عينيها هدفاً جديداً، هو الوصول إلى جميع نساء العالم المسلمات في هذا الجيل..". وحين سمع القسيس الدكتور "صموئيل زويمر" قطب التبشير الصليبي الشكوى من استعصاء المسلم على المبشرين، وعجزهم عن التأثير في قلبه، أبان في تعقيبه: أنه ليس غرض التبشير التنصير فقط، ولكن أقصى ما يجب على المسلم عمله هو تفريغ القلب المسلم من الإيمان بالله، ثم قرر لهم أن أقصر

طريق لذلك هو اجتذاب الفتاة المسلمة إلى مدارسهم بكل الوسائل الممكنة، لأنها هي التي تتولى عنهم مهمة تحويل المجتمع الإسلامي وسلخه من مقومات دينه. وقد ابتكر المبشرون وسيلة لتصيّد الفتيات اللاتي يتعرضن لأزمات عاطفية أو عائلية أو اقتصادية، والتأثير عليهن وتبشيرهن، وقد لخّص هذه الوسيلة مؤتمر قسنطينة التبشيري، الذي انعقد في الجزائر بما يلي: "إن الحاجة الملحة المستعجلة إنما هي إلى إنشاء بيت أو بيوت للفتيات المطلّقات وللأرامل الصغار، ويجب أن لا تكون هذه البيوت مؤسسات كبيرة، بل أماكن يخيم عليها الجو العائلي، ثم تفرق النساء فيها حسب أحوالهن وحاجاتهن، وكذلك مُكثُ هؤلاء النسوة في تلك البيوت يجب أن يطول أو يقصر حسب المقتضيات الشخصية لكل واحدة منهن.... وأخيراً نرى أن أمثال هؤلاء النسوة يكُنّ في أثناء مكثهن في هذه البيوت تحت تأثير الإنجيل، ثم إننا نختار منهم أولئك اللواتي يرجى أن يُمرّنّ أكثر من غيرهنّ، ليكنّ بدورهنّ مبشرات بين قومهنّ. ولقد اعتنق الإفرنسيون أيضاً هذا الرأي في التبشير بين النساء". وهكذا تتنوع أساليب المبشرين، وتتعدد وسائلهم، ولا تعدو جميعها أن تكون فخاخاً للصيد، والذي يؤسف له أن التبشير ليس له غاية في ذاته، لأنه لا يدعو إلى حق تدعمه الأدلة العقلية أو الأدلة العلمية، إنما يدعو إلى دين دخل التحريف والتبديل إلى أصوله الكبرى، ولا يستمسك أتباعه به إلا بدوافع التعصب الأعمى، ومعظم أهداف التبشير تتجه أخيراً إلى تحقيق أهداف الدول الاستعمارية الطامعة بديار المسلمين وبخيراتهم. 7- يتخوف المبشرون من الإسلام أكثر مما يتخوفون من أية قوة أخرى لقد كان جميلاً بالمبشرين وهم يدعون أنهم أنصار رسالة سماوية أن يتآزروا مع المسلمين لمحاربة الإلحاد بالله، ولنشر الخير والفضيلة بين الشعوب،

ومقاومة الشر والرذيلة، وإقامة العدل والأمن والسلام العالمي، ونظائر هذه الأمور التي تلتقي عليها الأصول الصحيحة للشرائع السماوية كلها. فإن لم يحلُ لهم التآزر مع المسلمين فلا أقلّ من تجنب كلٍّ من الفريقين حقول عمل الفريق الآخر، وأماكن سيادته، أو تجنُّب التماس والتصادم،حتى لا يظفر دعاة الإلحاد بالله، وحملة الوجودية أو الفوضوية المطلقة، بكلٍ منها. إلا أن كل الدلائل القولية والفعلية ما زالت تدل على أن المبشرين ينظرون إلى ألإسلام -وهو خاتم الأديان الربانية وصاحب سفينة النجاة العالمية المشحونة بالحق والخير والفضيلة والجمال- بتخوف شديد، أكثر مما يتخوفون من الكتل البشرية الهائلة، التي قد تجمع نحو ثلث سكان الأرض في دولة واحدة، لا تدين بالديانة المسيحية. فهل بلغت في نفوس المبشرين عوامل التنافس بينهم وبين المسلمين من القوة والشدة أكثر مما بلغته عوامل العداء الحقيقي بينهم وبين دعاة الإلحاد بالله والكفر به وإنكار كل رسالة ربانية أنزلها الله لعباده على ألسنة رسله؟ لقد كان على المبشرين أن يوجهوا كل جهودهم لعدو الأديان المشترك، الذي لا يفرق بين دين ودين، ولا بين مذهب ومذهب، وإنما يرفع لواء المادية والوجودية ويفاخر بعقائده الكافرة بكل رسالة ربانية، وقد غزت هذه الدعوات الإلحادية معظم شعوبهم، فبينما تعمل جيوشهم التبشيرية في البلاد الإسلامية التي لا تعطيهم خلال عشرات السنين إلا أضعف الثمرات لصالح أهداف التبشير بالمسيحية، تنتشر جيوش الإلحاد من وراء ظهورهم غازية بلادهم غربية كانت أم شرقية، وغازية أبناء جلدتهم،بمبادئها الوجودية، وأخلاقها المنحلة، ومذاهبها الاجتماعية الهادمة لكل المعاقل الدينية، التي بناها أسلافهم خلال عشرين قرناً مضت في أوربا وأمريكا وسائر بلاد الدنيا، وأمست هذه الجيوش الإلحادية تعيث في بلادهم فساداً. فأين المبشرون من مصادر الخطر الحقيقية على دينهم إن كانوا صادقين مع رسالتهم الدينية التي يزعمون أنهم يحملونها للناس؟!

أما الإسلام فلا خطر على الحق والخير والعدل والأديان السماوية من قِبَله، لقد استطاع المسلمون خلال أربعة عشر قرناً، بما فيها أيام مجدهم وقوتهم ودولتهم الكبرى، أن يعيشوا في ودٍ ووئام وبعدٍ عن كل تصادم ديني - إلا ما كان من قبيل الدفاع - مع سائر المنتسبين إلى الأديان السماوية الأخرى، وإن كانت محرفة في نظره، وانتهى دور العمل بها. فما بال المبشر "لورنس براون" يقول: " لقد كان نخوف بشعوب مختلفة، ولكننا بعد اختبار لم نجد مبرراً لمثل هذه المخاوف، لقد كنا نخوف من قبل بالخطر اليهودي، وبالخطر الأصفر،وبالخطر البلشفي، إلا أن هذا التخوف كله لم يتفق كما تخيلناه، إننا وجدنا اليهود أصدقاء لنا، وعلى هذا يكون كل مضطهد لهم عدونا الألد، ثم رأينا أن البلاشفة حلفاء لنا، أما الشعوب الصفر فهنالك دول ديمقراطية كبرى تقاومها.... ولكن الخطر الحقيقي كان في نظام الإسلام، وفي قوته على التوسع والإخضاع، وفي حيويته، إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوربي"؟!. هذا كلام أحد أقطاب المبشرين في العالم، ولو أنه كان يهودياً لم يزد في حديثه عن اليهود على ما قال، مع أن الشعوب النصرانية تعاني من الكيد اليهودي لدينها ومجتمعاتها ولكل مقوم من مقوماتها أكثر مما عانته الشعوب المسلمة، بما في ذلك مشكلة فلسطين التي استخدم اليهود الدول النصرانية لدعمهم فيها ضد المسلمين. ولا عجب بعد هذه النصيحة التي قدمها هذا المبشر للشعوب النصرانية، والنصائح المماثلة التي يقدمها زملاؤه، أن نجد دولاً كبرى في العالم تدعم باطل اليهود ضد حق المسلمين، وأن نجد دولاً مختلفة في مذاهبها العقائدية والاجتماعية تتصافح وتتآزر فيما بينها لمقاومة الإسلام. وليس لنا أمام هذه القوى العالمية المتآزرة ضدنا إلا أن نكافح ونصبر ونصمد ونقول: والله من ورائهم محيط، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

8- السياسة التعليمية عند المبشرين تنحصر السياسة التعليمية عند المبشرين بأنها سياسة تهدف إلى استخدام العلم وسيلة لأغراض التبشير من جهة، ولأغراض الدول الاستعمارية من جهة أخرى. وبمقدار ما يحقق التعليم لهم من هذه الأغراض يوسعون فيه ويضيّقون منه، ويوجِّهون مناهجه وخططه الدراسية، والكتب المصنفة له والوسائل المستخدمة فيها والعناصر التعليمية التي تمارسه وتشرف عليه. ونجد في أقوال المبشرين حشداً كبيراً من النصوص الدالة على أن التعليم عندهم لم يكن إلا وسيلة لتحقيق أغراض المبشرين. يقول نفر من المبشرين: "إن أهداف المدارس والكليات التي تشرف عليها الإرساليات في جميع البلاد كانت دائماً متشابهة. إن المدارس والكليات كانت تعتبر في الدرجة الأولى وسيلة لتحقيق أهداف التبشير.... حتى إن الموضوعات العلمية البحتة التي تُعلّم من كتب غربية وعلى أيدي مدرسين غربيين تحمل معها الآراء التبشيرية....". ويرى المبشِّر "هنري هريس جَسَب" "أن التعليم في الإرساليات التبشيرية إنما هو وسيلة إلى غاية فقط، هذه الغاية هي قيادة الناس وتعليمهم حتى يصبحوا أفراداً مسيحيين وشعوباً مسيحية، ولكن حينما يخطو التعليم وراء هذه الحدود ليصبح غاية في نفسه، وليخرج لنا خيرة علماء الفلك وعلماء طبقات الأرض وعلماء النبات، وخيرة الجراحين والأطباء في سبيل الزهو العلمي.... فإننا لا نتردد حينئذٍ في أن نقول: إن رسالة مثل هذه قد خرجت عن المدى التبشيري إلى مدىً علماني محض، إلى مدىً علمي دنيوي....". ويقول "هنري هريس جَسَبْ" أيضاً: "إن المدارس شرطٌ أساسي لنجاح التبشير، وهي بعد هذا وسيلة إلى غاية،لا غاية في نفسها، لقد كانت

المدارس تسمّى بالإضافة إلى التبشير: (دقَّ الإسفين) وكانت على الحقيقة كذلك في إدخال الإنجيل إلى مناطق كثيرة لم يكن بالإمكان أن يصل إليها الإنجيل أو المبشرون من طريق آخر". ويرى بعض المبشرين: "أن المدارس قوة لجعل الناشئين تحت تأثير التعليم المسيحي أكثر من كل قوة أخرى، ثم إن هذا التأثير يستمر حتى يشمل أولئك الذين سيصبحون في يوم ما قادة في أوطانهم". ونلمح في هذا الغرض السياسي الذي ظهرت آثاره فيما بعد،إذ تسلَّم القيادة السياسية في بلاد كثيرة من بلاد المسلمين، من تخرَّجوا عل أيدي المبشرين وحملوا في نفوسهم ما أراد المبشرون أن يحملوه،وأخذوا يطبقون المناهج والخطط الدراسية التي تخدم ما حملوه في نفوسهم من نفثات أعداء الإسلام والمسلمين. ولم يكن في استطاعة السياسة التعليمية عند المبشرين أن تتسامح في أمر يمسّ هدف التبشير، فلم يكن في استطاعتها أن تقبل في مدارسها معلمين من المسلمين لأبناء المسلمين الذين يفدون إليها، مهما كانت قدرتهم العلمية وكفاءتهم التعليمية، لأن قبول مثل هؤلاء المعلمين يعتبر من وجهة نظر المبشرين مؤثراً على الأهداف التبشيرية، ولئن قبلت بعض المعلمين من المسلمين فلغرض التمويه، وإخفاء التعصب ضدّهم. عهد مؤتمر القدس التبشيري الذي انعقد في نيسان سنة (1935م) إلى المبشر "هـ دانبي" بأن يضع كتاباً توجيهياً، يتضمن ما وصل إليه المؤتمرون من الملاحظات والآراء، فوضع هذا الكتاب الذي عُهد به إليه،وقد جاء فيه ما يلي: "ثم يتسع الشك على كل حال حينما نأتي إلى استخدام معلم غير مسيحي ليعلم موضوعات لا نجد لتعليمها معلماً مسيحياً، أجل: إن البراعة في التعليم

لا صلة لها بدين المعلم، ومما لا ريب فيه أن معلماً مسلماً ذا خبرة بمهنته وذا كفاءة، يمكن أن يكون له من الجاذب الشخصي وقوة الخلقِ والشعور بالواجب ما يجعل منه معلماً يبعث الحياة في طلابه، أو مربياً صالحاً، ثم هو يمكن أن يؤثر في طلابه أكثر من المعلم المسيحي المجرَّد من الصفات التي يتصف بها ذلك المعلم المسلم، ولكن إذا كانت الغاية من التعليم في المدارس التبشيرية - كما يجب أن تكون - إنما هي تزويد الطلاب باستشراف مسيحي للحياة، وتمرين لهم على ممارسة المبادئ المسيحية، وتقريبهم من اختبار شخصي للإيمان المسيحي، فكيف للمسلم الأمين أن يعاوننا على بلوغ هذه الغاية؟ ثم إذا كان هو يعتقد بهذه الغاية، ولكنه لا يخطو خطوة يصبح بها مسيحياً، أفلا يكون له حينئذٍ على تلاميذه تأثير سلبي، فيستنتجون من سلوكه أن الدين ليس موضوعاً ذا أهمية حاسمة؟ ". هذا هو تفكيرهم تجاه أي معلم مسلم. فكيف نحن المسلمين أن نضع أبناءنا في أحضان المبشرين، يعلمونهم كما يشاؤون؟ وكيف نرسل أبناءنا إلى المستشرقين الذين هم مبشرون في معاهد العلم الكبرى، أو أنصاف مبشرين، يخدمون أغراض التبشير وأغراض بلادهم الاستعمارية؟ ونبعثهم لا لتعلم العلوم البحتة، وإنما لتعلم العلوم الإنسانية أو العلوم الدينية والعربية،أفنريد أن نجعل الأزهر أو كليات الشريعة في العالم الإسلامي فروعاً للكنيسة في بلاد المسلمين؟!. أفلا يتدبرون المسلمون أمرهم من قبل أن يفلت الأمر نهائياً من أيديهم. 9- المدارس الأجنبيّة والتبشيرية فتن المترفون من المسلمين بمظاهر العناية التعليمية والتربوية التي تقدمها المدارس الأجنبية والتبشيرية للتلاميذ الذين يتعلمون ويتربون فيها، وفتنوا بما فيها من تعليم جيد للتكلم باللغات الأجنبية، فصاروا يتسابقون إلى دفع أبنائهم وبناتهم إليها، ويبذلون لأصحابها الأجور الشهرية أو السنوية الكبيرة،

ثمن قبول أبنائهم تلاميذ فيها. وتقبل هذه المدارس أبناء أثرياء المسلمين وبناتهم بصلف ظاهر، وزهد متصنع في بعض الأحيان، مع لهفة شديدة مكتومة إلى قبولهم،لأن المشرفين على هذه المدارس يعلمون أنهم كلما قبلوا وافداً جديداً من أبناء المسلمين وبناتهم فقد ظفروا بصيد جديد، وسرقوا من ذرياتهم عجينة لينة بكراً، يطبعونها كما يشاؤون، ويصورونها كما يريدون، ويخرجونها من الإسلام إخراجاً سهلاً، وهم يأخذون من أوليائها الأجر الباهظ على ذلك. ويعيش هؤلاء الأبناء ضمن هذه المدارس غرباء في كل شيء،غرباء في الدين، وغرباء في اللغة،وغرباء في التقاليد والعادات، ثم تلجئهم الضرورة إلى التكيف مع الواقع الذي يعيشون فيه،وتقليد كل ما يشاهدونه، ومحاكات الأوضاع الاجتماعية التي تفرض عليهم. وبعد فترة من الزمن تصبح هذه الأمور التي اقتبسوها بالمحاكاة والتقليد ومحاولة التكيف مع الواقع جزءاً من حياتهم وأسلوباً محبباً. فإذا رجعوا إلى أهليهم نفروا من واقعهم واستنكروه، وشعروا بأنهم غرباء، ووقعوا في صراع عنيف بين الحياة التي نشأوا عليها في مدارسهم، وبين الحياة التي يشعرون بأنها حياة أهلهم وقومهم، ولكن تأثير الحياة التي عاشوها في هذه المدارس المنطلقة من القيود الدينية وقيود المجتمعات الإسلامية، والمزينة بمظاهر الأناقة والترتيب والنظام، تظل أقرب إلى أهوائهم ونفوسهم وما يشتهون. لذلك فهم يحاولون بكل وسيلة أن يعملوا على تحويل واقع أسرهم وواقع مجتمعهم، حتى يكونوا صورة للحياة التي عاشوا في هذه المدارس، يهودية كانت أو نصرانية أو ملحدة كافرة بكل الأديان الربانية. وبعد سنوات التعليم ذات العدد، يخرج الأبناء والبنات بزاد واسع من اللغات الأجنبية، وبجهل كبير باللغة العربية، لغة قومهم ودينهم، وبجهل بتاريخ أمتهم وتشويه له، وبجهل تام بالإسلام وبمصادره من قرآن وسنة، يضاف إلى ذلك ما يحملون من ميل إلى أساليب الحياة غير الإسلامية، وطرائق السلوك المجافية لأخلاق المسلمين وآدابهم.

وقد عانيت ألماً شديداً حينما رأيتُ بعض أبناء المسلمين المنتسبين إلى هذه المدارس يحسن التكلم باللغة الإنكليزية أو الفرنسية أكثر مما يحسن التكلم بالعامية الشائعة في مجتمعه العربي، فضلاً عن اللغة العربية الفصيحة، لغة قومه ولغة دينه ولغة القرآن المجيد. وزاد ألمي كثيراً حينما طلبت من أحدهم أن يقرأ سورة الفاتحة فلم يحسن قراءتها، لأنه لم يتعلمها ولم يكلف حفظها فيما سلف من عمره. والأشد من كل ذلك ما يتعلمه هؤلاء التلاميذ في هذه المدارس من أكاذيب وأضاليل وتشويهات متعمدة للحقائق عن الرسول محمد، وعن القرآن الكريم وعن الحديث الشريف،وعن التاريخ الإسلامي وعن مقاصد الشريعة وعن أحكامها وعن كل ما يتعلق بالإسلام والمسلمين عرباً أو غير عرب. وقد ذكر لي منتسبون إلى بعض هذه المدارس المؤسسة في بعض بلاد العربية زمرة مما يدرسونه فيها عن الإسلام وتاريخ العرب وسائر المسلمين، وما يدرسونه عن محمد في الكتب المدرسية المقررة عليهم، والمكتوبة باللغات الأجنبية التي يدرسونها فيها. فنالني ذهول لم أستطع دفعه لهول ما سمعت من أكاذيب، وتشويه للحقائق العلمية المعروفة في بدهيات الإسلام وتاريخ المسلمين،ولا يمكن أن يعزى ذلك إلى مجرد الجهل، بل إلى مبلغ الحقد الذي تحمله، والكيد الذي تكيده هذه المؤسسات التعليمية للإسلام والمسلمين، وهو ما يدفعها إلى أن تسلك مسالك الكذب على الحقائق العلمية الناصعة، وتقدمه إلى رواد معارفها باسم العلم، وتحت ستار المعرفة النزيهة البعيدة عن التحيز والتعصب. وهي المعرفة التي تفرض على ناشديها أن يكونوا صادقين في عرضها، مهما كانت مخالفة لأهوائهم ولما يشتهون. ولكننا إذا تدبرنا في الغاية التي أسست هذه المدارس من أجلها لم يخف علينا أنها أبعد المؤسسات التعليمية عن العلم الصحيح، والنزاهة العلمية، لأنها في جميع ما تقدمه إلى طلابها من أبناء المسلمين تهدف إلى محاربة الإسلام في الصميم،وهدم كيان جماعة المسلمين.

ومن مفتريات هذه المدارس التبشيرية على الإسلام ولهذه المدارس التبشيرية المعادية للإسلام مفتريات كثيرة عليه، منها ما يلي: 1- من عجيب النبأ ما ذكر لي بعض الطلبة من أبناء المسلمين الذين يدرسون في بعض هذه المدارس، أن من الشائع في المدرسة التي يتلقى تعليمه فيها أن القرآن الكريم من وضع الراهب بَحيرى، وأن هذا الراهب قد أخذ الإنجيل وصاغه صياغة جديدة، وزاد عليه التشريعات التي توافق زمنه، وهي التي تطابق ما جاء في السور المدنية، ثم إن هذا الراهب قد أعطى كل ذلك لمحمد، فتبناه وسماه قرآناً. ومن عجيب هذه الفرية المختلقة الحديثة، التي يتعلمها أبناء المسلمين في بعض المدارس التبشيرية النصرانية أنها لا تستند إلى أية أكذوبة تاريخية، سبق أن افتراها معاد قديم للإسلام، وأن بدهيات التاريخ تثبت وقاحة مفتريها البالغة، وتحديهم الأحمق للحقائق التاريخية الناصعة. فمن أية شبهة تصيد هؤلاء الأفاكون فريتهم هذه على رسول الله وعلى القرآن الكريم كتاب الله، وظاهر في هذه الأخبار عن الرهبان تأكيد نبوة الرسول محمد بما عند أهل الكتاب من بشارات وعلامات لا تنطبق إلا عليه. وهل يليق بالأمانة العلمية المجردة أن يلجأوا إلى تضليلٍ مثل هذا التضليل، وإلى افتراء مفضوح مكشوف مثل هذا الافتراء. إن فريتهم هذه أقل شأناً من فرية مشركي العرب، إذ زعموا أن النبي كان يتعلم القرآن الكريم من رجل أعجمي كان في الحجاز، فأنزل الله قوله في سورة (النحل/16 مصحف/70 نزول) : {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} 2- ومن التحويرات في الحقائق التاريخية التي تدسها المدارس التبشيرية

والأجنبية والمستشرقون في عقول أبناء المسلمين الذين يتلقون علومهم على أيدي علماء الإسلام، زعمهم أن الفتح الذي قام به العرب المسلمون إنما كان توسعاً عربياً لا امتداداً إسلامياً. ويركزون على هذا التضليل كثيراً من البحوث التاريخية والاجتماعية وغيرها، ويهتمون باختيار الأسئلة الموجهة على وفقه، ويطرحون هذه الأسئلة في الامتحانات التي يتوقف عليها نجاح تلاميذهم أو رسوبهم، ويشحنون بهذه الأكاذيب عقول أبناء المسلمين، ويسمونها علوماً، وذلك من أدهى وسائل التضليل، وهو شرٌ من الجهل، لأن الجاهل يظل صامتاً فلا يتحدث بما لا يعلم، ويتلقّف العلم من العالم به،ولكن الذي يُلقّن الأكاذيب على أنها من الحقائق العلمية، ويأخذ بذلك الشهادات العالية، يرفع نفسه إلى مستوى العلماء، ويقدمه المجتمع بسبب شهاداته إلى سدة القيادة التعليمية، فينشر في أمته ما كان قد تلقاه من إفك في مدارس أعداء الإسلام. إن الدعوى التي يزعمون فيها أن الفتح الذي قام بها العرب المسلمون قد كان توسعاً عربياً لا إسلامياً لا تستند إلى حقيقة تاريخية، وإنما هي أوهام لا وجود لها إلا في نفوس أعداء الإسلام الحاقدين، الذين أكل الحقد قلوبهم من ظاهرة الفتح الإسلامي الذي حار فلاسفة مؤرخيهم في تعليله تعليلاً مادياً، لأنهم أبعدوا أنفسهم عن تعليله تعليلاً دينياً إسلامياً، فأوقعوها في متاهات مظلمة لا يهتدون فيها إلى ما يشفي تعطشهم لمعرفة السبب الحقيقي، فأخذوا يرشقون التاريخ الإسلامي بسهامٍ مسمومة، بغية أن يفرقوا الشعوب الإسلامية غير العربية عن العرب المسلمين، ويهدموا كتلتهم العالمية الكبرى. ولدى مناقشة هذه الدعوى المفتراة، لا بد أن نضع آثار الفتح الذي قام به العرب المسلمون، في ميدان الموازنة بين ما جناه الإسلام من الفتح وما استفاده العرب منه، ثم نضع في جانب آخر آثار الغزو الذي قامت به الدول الاستعمارية والخيرات التي جنتها هذه الدول ونقلتها إلى بلادها،

من البلاد التي استعمرتها حقبة من الزمن، تحت ستار بعض الشعارات الإصلاحية، التي كانت تزعم أنها تهدف إليها. إن نظرة سريعة إلى واقع حال الجزيرة العربية التي انطلق منها الفاتحون المسلمون من العرب، تكشف أن مدن هذه الجزيرة قد بقيت أكثر البلاد الإسلامية فقراً، وتخلفاً عن مظاهر الغنى والتقدم العمراني، حتى قبيل منتصف القرن العشرين وظهور البترول فيها هو الذي جعلها تبدأ في مسايرة التقدم العمراني. بينما نشاهد الآثار العربية الإسلامية العظيمة، التي تكشف للأجيال صورة تقدم الحضارة الإسلامية الباهرة، موجودة في معظم المدن الواقعة خارج حدود الأرض التي انطلق منها الفاتحون من العرب والمسلمين. ففي الشام والعراق وإيران وتركيا والهند ومصر والمغرب والأندلس، وغيرها من الأقطار التي فتحها العرب المسلمون،آثار باهرة عظيمة، تشهد للفتح الإسلامي بظاهرة التقدم المدني الحضاري،أما مكة والمدينة وسائر مدن وقرى الجزيرة فقد بقيت على حالها، لم تلبس لباس أصغر المدن الأخرى التي عمرها الفاتحون المسلمون من العرب. فلو كانت الغاية من الفتح غاية عربية لا إسلامية، لاستطاع الفاتحون العرب بكل سهولة أن ينقلوا الأموال الكثيرة التي كانت تتدفق عليهم من أقطار الأرض إلى داخل جزيرتهم، ويجعلوها صورة رائعة لمملكة عربية ذات مجد تليد، كما فعل بعض أجدادهم حينما ظفروا بملك صغير في بعض المناطق العربية، كتدمر والحيرة. ولكنها الحقيقة التاريخية الخالدة، التي لا تغيرها أوهام المحرفين لحقائق التاريخ، وهي أن الفتح قد كان فتحاً إسلامياً بحتاً، ومن أجل ذلك استقبلته شعوب الأرض استقبال الأرض الظامئة للسحاب المثقلات بالخصب والخير الكثير، ومن أجل ذلك انصهرت شعوب كثيرة في لغة الفاتحين، وهجرت لغاتها الأولى.

وفي مقابل هذه الصورة الرائعة الخالدة نشاهد صورة الدول الاستعمارية التي افترست أمماً وحضارات، كيف صنعت بالبلاد التي دخلتها، وكيف أفقرتها، وكيف نقلت خيراتها إلى بلادها بكل وسيلة من وسائل السلب والنهب والاستيلاء، لأن غزوها قد كان لصالح قومياتها وشعوبها، لا لصالح الشعارات التي حملوا رايتها كاذبين. 3- ذكر لي بعض أبناء المسلمين الذين يتلقون علومهم في هذا النوع من المدارس التبشيرية المعادية للإسلام، أن مما يحاوله المعلمون فيها إقناع أبناء المسلمين من طلابهم بأن المسلمين يعبدون الكعبة وهي حجارة مبنية، ويعبدون الحجر الأسود فيسجدون له ويقبلونه. وغرضهم من ذلك إلقاء الشبهة بأن عبادات المسلمين لون من ألوان العبادات الوثنية، التي ينكرها المسلمون على غيرها ممن يتخذون من البشر آلهة يعبدونها، ويعبدون صورها وأوثانها من دون الله. ويطمسون بهذا التمويه والتشويه وجه الحقيقة الناصع، الذي عليه العبادات والمناسك الإسلامية، مع أنه ليس بخفي على باحثيهم أن الإسلام حينما أمر بالاتجاه للكعبة في الصلاة، وأمر بالطواف حولها، قد أثبت في قلوب المسلمين مجموعة من العقائد التي هي من أسس العقيدة الإسلامية، وهي العقائد التالية: العقيدة الأولى: أن الكعبة بناء أرضي لا يضر بذاته ولا ينفع. العقيدة الثانية: أن الصلاة وسائر أشكال العبادات إنما هي لله وحده لا شريك له. العقيدة الثالثة: أن الاتجاه إلى الكعبة ليس بحال من الأحوال عبادة لها، وإنما هو طاعة لأمر الله، وقد أمر الله بالاتجاه إليها توحيداً للجهة التي يتجه إليها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، حينما يعبدون الله في صلاتهم، وليس اتجاههم إليها عبادة لها،كما أن سجودهم ووضع جباههم على الأرض ليس عبادة للأرض.

العقيدة الرابعة: أن من يقصد عبادة الكعبة حينما يتجه إليها في الصلاة فإنه يشرك بالله الواحد الأحد، ويتخذ الكعبة إلهاً من دون الله، كما يتخذ عُبَّاد الأوثان أوثانهم آلهة من دون الله، ويخالف بذلك أسس العقيدة الإسلامية ويخرج عن دائرتها. وتأسيساً لهذه العقائد قال الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) : {وَللَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} وقال تعالى فيها أيضاً: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَآءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوآ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} وبياناً لمعنى المسجد الحرام ليس إلا قبلة يتجه المسلمون شطرها حينما يعبدون الله في صلواتهم قال الله تعالى مخاطباً رسوله محمداً، ثم مخاطباً سائر المؤمنين في سورة (البقرة) : {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} ومن الأمور البدهية أن ضرورة توحيد جماعة المسلمين تستدعي تحديد شكل عبادتهم لله تعالى، وتستدعي توحيد الجبهة التي يجب أن يتجهوا جميعاً إليها حينما يعبدون الله تعالى، وقد اختار الله من أرضه الواسعة مكاناً غير ذي زرع من أمكنتها،وجعل له تاريخاً دينياً مجيداً على أيدي صفوة من أنبيائه ورسله،فكان أول بيت عبادة وضعه الله

للناس، مُطَهَّراً للطائفين والعاكفين والركع السجود، قال الله تعالى في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول) : {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} . وقال تعالى في سورة (الحج/22 مصحف/103 نزول) : {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْقَآئِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} وأما الحجر الأسود فمعاذ الله أن يعبده أحد من المسلمين وإن لمسوه وقبلوه، مهما كذب عليهم أعداء الإسلام،وما الحجر الأسود في نظر المسلمين إلا كأحد الحجارة التي خلقها الله في كونه، ولكن كما جعل الله الكعبة قبلة يتجه إليها المسلمون في صلواتهم، ويدورون حولها حينما يعبدون الله في طوافهم، جعل الحجر الأسود مشيراً إلى ركن من أركان الكعبة، الذي تبتدئ أشواط الطواف عند محاذاته، وما لمسه وتقبيله إلا رمز مبايع الله على الإخلاص له في العبادة، وهو المنزه عن التشبيه بأي مخلوق مادي، كما هو لون من ألوان عبادة الله المسنونة كالسجود لله على الأرض ومعلوم أن أي ساجد على الأرض لا يعبد مكان سجوده. وبياناً لهذه الحقيقة قال عمر بن الخطاب مخاطباً الحجر الأسود بعد أن قبَّله: "إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك". 4- ومن الأمثلة ما أعلنته الصحف مؤخراً عن طرد المعلمة البريطانية "شيلابورتر" ناظرة المدرسة الإنكليزية بالدوحة، ومؤلفة كتاب: "العصور الوسطى" وإغلاق هذه المدرسة التبشيرية. فقد جاء في كتابها هذا الذي كان يدرَّس في المدرسة للطلاب العرب

والأجانب في قطر الدسائس والأباطيل المفتريات التالية: الأولى: أن الإسلام منقول عن الثقافة الهيلنية الإغريقية. ومتأثر بالفلسفات اليونانية والوثنية. الثانية: أن الإسلام أذاب شخصية الفرد وقضى على كبريائه خاصة في البلاد التي شهدت الفتوحات الإسلامية. الثالثة: أن الإسلام جعل الإنسان المسلم غيبياً واتكالياً "ميتافيزيقيا" بتأكيده على مبدأ القناعة والتوكل والاعتماد على القضاء والقدر. الرابعة: أن الإسلام غذَّى النزعة الحربية والعدائية تجاه الشعوب، ودرَّب أنصاره على مبدأ الحرب. الخامسة: أن الإسلام جعل المسلم يركع ويمرّغ جبهته في الأرض خلال صلواته خمس مرات يومياً، لتكون العبادة مسألة شكلية ليس إلا. السادسة: أن الحضارة التي ينسبها المسلمون إلى أنفسهم، ليست إلا حضارة هندية أو إغريقية أو فارسية، وليس للعرب سوى الاقتباس والأخذ عن هذه الحضارات. السابعة: أن الفتوحات الإسلامية اعتمدت على تدمير الشعوب،وإذلال المجتمعات التي وقعت تحت رحمة الغزو العربي الإسلامي. الثامنة: أن الرسول محمداً () شخصية ذات سطوة قمعية، ترى أن الرأي رأيها، ولأنه سليل أسرة قرشية عريقة،فقد فرض زعامته عن طريق جده، وساعدته خديجة في تمكين هذا النفوذ، لأنه لم يكن مفكراً بل كان أمياً. وغير ذلك من افتراءات واضحة، يستطيع أن يكشف زيفها أصغر طلاب العلوم الإسلامية , ولكن المبشرين يلقون هذه الزيوف على طلاب المدارس الابتدائية الذين تقل أعمارهم عن (12) سنة.

(2) مؤتمرات المبشرين

(2) مؤتمرات المبشرين مرت أعمال المبشرين في مراحل تكاملت فيها خططهم وبرامجهم وأعمالهم الرامية إلى تحقيق أهدافهم، وأخذوا خلال هذه المراحل يعدّلون فيها ويحسِّنون، فيحذفون أشياء ويضيفون أخرى، وجعلوا يطورون وسائلهم، ويبتكرون فيها أشياء جديدة، توصل إليها حيل الذكاء، والتجارب والاختبارات ورصد نتائج الأعمال، أو ترشد إليها مداولات الآراء في المؤتمرات التي يعقدونها لهذه الغاية. ولما كانت مؤتمراتهم تمثّل جانباً مهماً من تاريخ التبشير والمبشرين، اقتضى البحث في تاريخ التبشير عرض أمثلة موجزة منها، وفيما يلي طائفة من ذلك: 1- المؤتمر التبشيري الذي انعقد في القاهرة سنة (1906م) كان "زويمر" رئيس إرسالية التبشير في البحرين أول من ابتكر فكرة عقد مؤتمر عام يجمع إرساليات التبشير البروتستانتية للتفكير في مسألة التبشير بين المسلمين. وفي سنة (1906م) أذاع اقتراحه، وأبان الكيفية التي يكون بها، فوضعت هذه الفكرة على بساط البحث في "ميسور" من ولاية "كرناكا" في الهند، نظراً إلى أن هذه الولاية كانت ذات أهمية كبرى عند المبشرين، فيما يتعلق بالمسائل الإسلامية، لوجود مدرسة "عليكرا" هناك. ثم عرض الاقتراح على مؤتمر التبشير الذي كان ينعقد في مدينة "مرداس" الهندية كل عشر سنوات، فأقر المؤتمرون عقد المؤتمر الذي قدم "زومير" الاقتراح بشأنه. ولما تقرر عقد المؤتمر شرع المبشر "زويمر" مع زميل له يعدان ما يلزم لتأليف لجنة مؤقتة تضع جدول أعماله، وتدعو المبشرين المنتشرين في كل البلاد للاشتراك فيه.

وفي اليوم الرابع من شهر نيسان "إبريل" من سنة (1906م) تم انعقاد المؤتمر في القاهرة، وحضر فيه ممثلون عن إرساليات التبشير الأمريكية، والإنكليزية والإسكتلندية والألمانية والهولندية والسويسرية وعن إرسالية التبشير الدانمركية الموجودة في الغرب. وانتخب "زويمر" رئيساً للمؤتمر، وقد تناول جدول أعمال المؤتمر مداولة المسائل التالية: 1- ملخص إحصائي عن عدد المسلمين في العالم. 2- الإسلام في إفريقية. 3- الإسلام في السلطنة العثمانية. 4- الإسلام في الهند. 5- الإسلام في فارس. 6- الإسلام في الملايو. 7- الإسلام في الصين. 8- النشرات التي ينبغي إذاعتها بين المسلمين المتنورين والمسلمين العوام. 9- الارتداد. 10- وسائل إسعاف الذين يضطهدون بسبب تركهم للإسلام. 11- شؤون نسائية إسلامية. 12- موضوعات تتعلق بتربية المبشرين والعلاقات بينهم وكيفية التعليم في الإسلام. ومن البحوث التفصيلية التي دارت في المؤتمر الصعوبات التي تحول دون تبشير المسلمين العوام، والوسائل التي يمكن استجلابهم بها، وتحبب المبشرين إليهم، وقد وجه المؤتمرون لضرورة استخدام الوسائل التالية في التبشير: أ- استخدام وسيلة العزف بالموسيقى الذي يميل إليه الشرقيون كثيراً. ب- عرض مناظر الفانوس السحري على المسلمين. جـ- تأسيس الإرساليات الطبية التي يجب أن ينبث بينهم. د- ضرورة تعلم المبشرين لهجات المسلمين العامية، واصطلاحاتها نظرياً

وعملياً وضرورة دراستهم للقرآن حتى يقفوا على ما يحتويه. هـ- أن يخاطب المبشرون عوام المسلمين على قدر عقولهم ومستوى علمهم. و ينبغي أن يلقي المبشرون الخطب على عوام المسلمين بأصوات رخيمة، وبفصاحة. وينبغي أن يخطب المبشر وهو جالس ليكون تأثيره أشد على السامعين. وأن لا تتخلل خطاباته كلمات أجنبية عنهم، وأن يبذل عنايته في اختيار الموضوعات، وأن يكون بصيراً بآيات القرآن والإنجيل، عارفاً بمحل المناقشة. وأن يستعمل التشبيه والتمثيل أكثر مما يستعمل القواعد المنطقية. ز- ضرورة كون المبشر خبيراً بالنفس الشرقية. وناقش المؤتمر الصعوبات التي يلاقيها المبشرون لدى تبشير المتنورين من المسلمين، وهذه الصعوبات هي التي جعلت المؤتمر يبحث في الوسائل التي يكون لها تأثير ما على عقيدة الأجيال الناشئة الإسلامية المتنورة. وهنا قال أمين سر المؤتمر: إن الخطة العدائية التي انتهجها الشبان المسلمون المتعلمون ضد المبشرين؛ اضطرت المبشرين في القطر المصري إلى محاولة إعادة ثقة الشبان المسلمين بهم. فصار هؤلاء المبشرون يلقون محاضراتهم في موضوعات اجتماعية وخلقية وتاريخية، ولا يستطردون فيها إلى مباحث دينية، رغبة في جلب قلوب المسلمين إليهم. وأنشأوا بعد ذلك في القاهرة مجلة أسبوعية اسمها: "الشرق والغرب" افتتحوا فيها باباً غير ديني، وأخذوا يبحثون فيه أموراً تتعلق بالشؤون الاجتماعية التاريخية. وأسسوا أيضاً مكتبة لبيع الكتب بأثمان قليلة. والغرض من ذلك اجتلاب الزبائن ومحادثتهم أثناء البيع. وبعد ثلاث سنوات فقط تسنى للمبشرين أن يتوصلوا إلى النتائج التالية: الأولى: أنهم عرفوا أحوال البلاد، وأفكار المسلمين وشعورهم وعواطفهم وميولهم. الثانية: أنهم حصلوا على ثقة عدد من المسلمين بهم.

الثالثة: أن المبشرين تحققوا أنهم بتظاهرهم في وداد المسلمين وميلهم إلى ما تطمح إليه نفوسهم من الاستقلال السياسي والاجتماعي والنشأة القومية يمكنهم أن يدخلوا إلى قلوبهم. ثم عرض أمين سر المؤتمر اقتراحاً بتأسيس مدرسة جامعة تشترك فيها المؤسسات التبشيرية كلها؛ على اختلاف مذاهبها، لتتمكن من مزاحمة الجامع الأزهر بسهولة. وتتكفل هذه المدرسة الجامعة بإتقان تعليم اللغة العربية،وقال: إن في الإمكان مباشرة هذا العمل في دوائر صغيرة. ثم اقترح أحد المندوبين في المؤتمر أن تراجع المؤلفات التي قدم عليها العهد لإصلاحها، واستخدامها في تبشير المسلمين المتنورين، الذين اقتبسوا علومهم في المعاهد العصرية مثل مدرسة أكفسورد وبرلين وأشار إلى وجوب تخفيف اللهجة في المجادلات الدينية. ثم بحث المؤتمر بعد ذلك في مسألة إرساليات التبشير الطبية، فقام المستر "هاريس" وأبان عن وجوب الإكثار من الإرساليات الطبية، لأن رجالها يحتكون دائماً بالجماهير، ويكون لهم تأثير على المسلمين أكثر مما للمبشرين الآخرين. ثم قام الدكتور "ارهارس" طبيب إرسالية التبشير في طرابلس الشام، فقال: إنه قد مر عليه اثنان وثلاثون عاماً، وهو في مهنته التبشيرية عن طريق الطب، فلم يفشل إلا مرتين وذلك عقب منع الحكومة العثمانية أو أحد الشيوخ لاثنين من زبائنه من الحضور إليه. وأورد إحصاء لزبائنه فقال: إن (68) في المائة منهم مسلمون، ونصف هؤلاء من النساء، ثم قال: يجب على طبيب إرساليات التبشير أن لا ينسى ولا في لحظة واحد أنه مبشر قبل كل شيء، ثم هو طبيب بعد ذلك. ثم تكلم المبشر الطبيب الدكتور "تمباني" وذكر الصعوبات التي يلقاها الطبيب في التوفيق بين مهنتي التبشير والطب، كما حدث معه هو، إلا أن ما بذله من المجهودات قد أعانه على النجاح، حتى تمكن من تأسيس مستشفى

التبشير عن طريق التبرعات، وكان أول متبرع لهذا المستشفى رجلاً من المسلمين. وخطب الأستاذ "ممبسون" بعد ذلك فتحدث عن فضل الإرساليات الطبية، ومما قاله: إن المرضى والذين ينازعون الموت بوجه خاص لا بد لهم من مراجعة الطبيب، وحسن أن يكون هذا الطبيب في جانب المريض حينما يكون في حالة الاحتضار، التي لا بد أن يبلغها كل واحد من أفراد البشر. ثم خطبت المبشرة "أناوستون" فتحدثت عن إرسالية التبشير الطبية في مدينة طنطا قائلة: إن ثلاثين في المئة من الذين يعالجون في مستشفى هذه الإرسالية هم من الفلاحين المسلمين وأكثرهم من النساء. وتحدث المؤتمر عن ألأعمال النسائية في التبشير، وكان لهذا الأمر اهتمام كبير من قبل الأعضاء لأنه خاص كما قالوا بنصف مسلمي العالم. فقالت المبشرة "ولسون": إن النساء المبشرات يستعنَّ في الهند بالمدارس وبالعيادات الطبية، وزيارة قرى الفلاحين لينشرن أفكارهن بين طبقات الناس. ثم حثت المبشرة "هلداي" على الرفق بالمرأة المسلمة ز ثم تناوب الحديث عدد من المبشرات، فتحدثن عن نجاحهن في المناطق التي انتدبن للتبشير فيها، وقالت إحداهن: إن المسلمات الفارسيات يظهرن ميلاً شديداً للعلم، بالرغم من جهلهن باتساع نطاقه. وهن يعتقدن أن الذي يعرف جغرافية البلاد نابغة. ثم انتقل المؤتمر إلى بحث موضوع تربية النساء اللاتي يتطوعن للتبشير. وناقش المؤتمر بعد ذلك بعض وسائل التبشير الحكيم، فعرض المبشر القسيس "هاريك" على المؤتمر نتائج أبحاثه التي أجراها في بلاد السلطنة العثمانية، فكان مما عرضه أنه لا فائدة ترجى من استخدام وسيلة المناظرة والجدل، التي وضعها المبشر الدكتور "فاندر" وذكر أن نشر الكتب التبشيرية بدون مناقشة أو جدل أكثر فائدة وأعم نفعاً. وقال: إن الجدل والمناظرة يبعدان

المحبة التي لها وقع كبير على قلوب الأغيار.... فالمحبة والمجاملة هما آلة المبشر، لأن طريق الاعتقاد غايته دائماً هي قلب الإنسان. وأكد المبشر "هاريك" على أنه يجب على المبشر أن يتحلى بمبادئ الدعوة التي يبشر بها قبل أن يُعنى بالأمور النظرية. ثم عرض المبشر القسيس "ثرونتن" على المؤتمر بعض النظريات الأولية في أساليب التبشير بين المسلمين، واستنتج منها القواعد التالية: القاعدة الأولى: يجب على المبشر ألا يثير نزاعاً مع مسلم. القاعدة الثانية: يجب على المبشر ألا يحرض المسلم على الموافقة التسليم بالمبادئ التي تخالف دينه إلا عرضاً، وبعد أن يشعر المبشر بأن الشروط الطبيعية والعقلية والروحية قد توافرت في ذلك المسلم. القاعدة الثالثة: إذا حدث سوء تفاهم حول المبادئ التي يُدعى المسلم إلى الاعتقاد بها، فيجب أن يزال في الحال، ولو أفضى الأمر إلى ترك المناقشة. ثم أكد الأسقف لاهور ضرورة استخدام الوسائل اللينة في التبشير، فكان مما رآه ما يلي: 1- إن المبشر الذي يُعدّ نفسه لمجادلة المسلمين في أمور الدين يجب أن تتفوق فيه الصفات الخلقية والاستقامة التامة على المزايا العقلية. 2- أن يكون صحيح المجاملة. وأن يضع الأمل بالفوز على خصمه نُصب عينيه. ثم أبدى استنكاره لقسوة التعاليم القديمة، وأنها كانت ترمي إلى التغلب على العدو، لا إلى اكتساب مودته. ثم قال: ويظهر لي أن كثيراً من إخواننا المبشرين يريدون أن يبشروا الناس برشقهم بالحجارة. وختم كلامه بقوله: يجب على المبشر أن يتذرع بالصبر السكينة، وأن

يكون حاكماً على عواطفه إلى الغاية القصوى، وأن لا يخالج نفسه أقل ريب في أنه هو الذي سيفوز. ثم انتهى المؤتمر، وختمه رئيسه المبشر "زويمر" فقال: "إن انعقاد هذا المؤتمر كان بالتقريب نتيجة لأعمال "شبان التبشير المتطوعين" أما البحث في أحوال العالم الإسلامي وتبشيره فقد سبق الخوض فيه في مؤتمر "كلفلند"، وهذه الخريطة التي نراها أمامنا الآن موسومة باسم "خريطة تنصير العالم الإسلامي في هذا العصر" قد بعثت الأمل في قلوب ألوف من الطلبة في مؤتمر "ناشفيل" الذي انعقد في شهر فبراير (شباط) الماضي (أي من سنة 1906م) ، والتبشير متوقف على وجود زمرة من المبشرين المتطوعين الذين يقفون حياتهم ويضحونها في هذا السبيل. ثم ختم كلامه راجياً أن يكون لندائه صدىً في المدارس والجامعات في أوربا وأمريكا. 2- مؤتمر "ادنبرج" التبشيري في شهر أيلول (سبتمبر) من سنة (1910م) انعقد مؤتمر ادنبرج التبشيري وكان للمسائل الإسلامية حظ كبير من مداولات أعضائه. وقد تفرغت فيه لجنتان من أهم لجانه للبحث في أمر الإسلام والمسلمين، وكيفية القيام بمهام التبشير بينهم. وقد نشرت أعمال هذا المؤتمر في تسع مجلدات، وتحدثت ثلاث مجلدات تبشيرية عن بعض ما جرى فيه من بحوث، وهي: 1- "مجلة الشرق المسيحي" التابعة لجمعية التبشير الشرقية الألمانية. 2- "مجلة العالم الإسلامي" التبشيرية الإنكليزية. 3- "مجلة إرساليات التبشير البروتستانتية" التابعة لجمعية التبشير في بال بسويسرا. وقد جاء في مجلة "العالم الإسلامي" الفرنسية التبشيرية لدى حديثها عن هذا المؤتمر: وأعمال مؤتمر إدنبرج لم تكن حبراً على ورق، بدليل أن المؤتمر الاستعماري الألماني الذي عقد عقب مؤتمر إدنبرج التبشيري اهتمّ بأمر

إرساليات التبشير الجرمانية، حتى خُيّل إلى الناس أن هذا المؤتمر الاستعماري السياسي تحول إلى مؤتمر تبشيري ديني. ونشرت "مجلة الشرق المسيحي" التابعة لجمعية التبشير الشرقية الألمانية مقالة بقلم المبشر الألماني "فون لبسيوس" تحت عنوان "دخول التبشير العام في طور جديد" ذكر فيها أهمية مؤتمر إدنبرج الذي أبان عن ارتقاء في أعمال المبشرين. وقد حضر هذا المؤتمر (1200) مئتان وألف مندوب، منهم بعض كبار السياسيين في دول عالمية كبرى. واقتبس صاحب هذه المقالة من مستندات مؤتمر (إدنبرج) أن عدد جيش المبشرين البروتستانت قد بلغ (98388) ثمانية وتسعين ألفاً وثلاثمائة وثمانية وثمانين، تعضدهم لجان يبلغ عدد أعضائها خمسة ملايين ونصف المليون. يضاف إلى ذلك أعداد كثيرة أخرى من رجال ونساء وطلاب وأساتذة وأطباء وممرضات وغيرهم. وقد كان هذا كله في سنة (1902م) ، ومن يقارن بينه وبين ما وصل إليه إحصاء العاملين في مهمات التبشير سنة (1911م) يلاحظ ارتقاء باهراً، لأن عدد إرساليات التبشير العامة في هذه السنة قد بلغ (3838) ، وأما الإرساليات التي هي في الدرجة الثانية فقد بلغ عددها (34719) ، وعدد الأساتذة والتلاميذ قد بلغ مليوناً ونصف المليون تقريباً. ووصل عدد الجامعات والكليات إلى ثمانية وثمانين، وصار لدى المبشرين خمسمائة واثنتان وعشرون مدرسة دينية لتخريج المبشرين. هذا إلى جانب حشد كبير من المدارس العليا والابتدائية والمستشفيات والصيدليات. ويشرف على إرساليات التبشير نحو ألف جمعية ما بين جمعيات عمومية عاملة، وجمعيات لإعانتها وجمعيات أخرى. وجاء في "مجلة العالم الإسلامي" الإنكليزية التبشيرية التابعة لإرسالية البحرين ما يلي: ومجلتنا تستحسن الاهتمام الشديد الذي أبداه مؤتمر "إدنبرج" وستجتهد في متابعة البحث والمداولة في المسائل التي بحث المؤتمر فيها. وقد نشرت هذه المجلة مقالة بقلم المبشر المستر "تشارلس وطسون" تحت عنوان "العالم الإسلامي" قال فيها: إن من الخطأ الحكم على مؤتمر (إدنبرج) بأنه لم يهتم بالمسائل الإسلامية.... فقد كان المؤتمر مؤلفاً من ثمان لجان،

اختصت الأولى والرابعة منها بالتوسع في بحث المسألة الإسلامية، أما مهمة اللجنة الأولى فهي أن تبحث في المسائل الإسلامية من الوجهة الخارجية، وفي إيجاد ميدان عام مشترك لأعمال المبشرين واختيار خطة الهجوم والغارة وتقرير هذه اللجنة يتضمن إحصاءً متعلقاً بالمسلمين وعددهم ومبلغ ارتقائهم في كل قطر. ثم تناولت اللجنة البحث في الأمور الاجتماعية الإسلامية التي تمهد السبيل لتحويل المسلمين عن دينهم، فحضّت جمعيات التبشير على توسيع نطاق التعليم الذي يشرف عليه المبشرون، وحصرت قراراتها بجملتين اثنتين: وقد جاء في الجملة الثانية منهما ما يلي: "إن المسائل الإسلامية في الشرق على الخصوص صار لها مكان هام في أعمال المبشرين، عقب الانقلابات التي حدثت في بلاد الدولة العثمانية وفارس. ولذلك أصبح من مقتضيات الظروف أن تقوم إرساليات التبشير بعمل ينطبق على المسائل الإسلامية". وقالت اللجنة الثالثة في تقريرها: "اتفقت آراء سفراء الدول الكبرى في عاصمة السلطنة العثمانية على أن معاهد التعليم الثانوية التي أسسها الأوروبيون كان لها تأثير في حل المسألة الشرقية، يرجح على تأثير العمل المشترك الذي قامت به دول أوربا كلها". وتداولت اللجنة الخامسة في كيفية تعليم المبشرين وتربيتهم، وألحت على ضرورة تعليم الذين يقومون بالتبشير في البلاد الإسلامية دين الإسلام، ولغة البلاد. وجاء في تقرير اللجنة الثامنة قولها: "الأمر الذي لا مرية فيه أن المهمة الصعبة التي يقوم بها المبشرون في البلاد الإسلامية لم تظهر في غاية الصعوبة إلا لأنه يعسر على جمعية تبشير واحدة أن تقوم بها، ولكن وحدة العمل ستكون أحسن وأسرع لهذه المعضلة في إكمال مهمة التبشير". وتحدثت "مجلة إرساليات التبشير البروتستانتية" التابعة لجمعية التبشير في مدينة بال بسويسرا عن مؤتمر "إدنبرج" في سلسلة مقالات، ومنها مقالة بقلم المبشر "شلاثار" وجاء فيها ما يلي:"ولما انتهت اللجنة السابعة من أعمالها قال

"اللورد بلفور" رئيس الشرف: "إن المبشرين هم ساعد لكل الحكومات في أمور هامة، ولولاهم لتعذر عليها أن تقاوم كثيراً من العقبات. وعلى هذا فنحن في حاجة إلى لجنة دائمة يناط بها التوسط والعمل لما فيه مصلحة المبشرين" فأجيب "اللورد بلفور" إلى اقتراحه، وتألّفت لجنة مختلطة، ولجنة لمواصلة العمل. نتائج مؤتمر إدنبرج وعلى إثر انتهاء أعمال مؤتمر "إدنبرج" تألَّفت لجنة لمواصلة الأعمال التي بدأ بها، وانبثق عن هذه اللجنة فروع كثيرة، بعضها للإحصائيات، وبعضها للنشر والمطبوعات، وبعضها للتربة والتعليم، وآخر لحسم المشكلات بين المبشرين، وفرع خاصٌ لدراسة علاقات المبشرين بالحكومات (أي: الاستعمارية) كما خُصّص أحد الفروع لدراسة العقبات التي تحول دون التبشير بين المسلمين. وفي شهر أيار (مايو) من سنة (1911م) اجتمعت لجنة مواصلة أعمال المؤتمر، وبحثت في طرائق التربية والتعليم التي ينبغي للذين يقومون بمهمة التبشير بين المسلمين أن يتَّبعوها. وقررت أن تنتهز الفرص وتنتفع بالظروف السانحة، وأن تنشر مجلة مشتركة تصدر سنة (1912م) مرة في كل ثلاثة أشهر. وتقول "مجلة العالم الإسلامي" الإنكليزية التبشيرية: إن أول ما ينفذ من قرارات مؤتمر "إدنبرج" إنشاء مدرسة تبشير مشتركة بين كل الفرق البروتستانتية، وتكون خاصة بتعليم مبشري الأقطار الإسلامية. وهذه المدرسة يحتفل بافتتاحها في خريف سنة (1911م) وتقبل النساء والرجال، وتُعلم فيها اللغة العربية والعلوم الإسلامية، وتاريخ الأوضاع الإسلامية والأمور الاجتماعية التي اقتبسها المبشرون من بلاد الإسلام. وسيكون لهذه المدرسة مكتبة تحتوي على أمهات الكتب العربية وغير العربية المتعلقة بالإسلام. 3- مؤتمر "لكنو" التبشيري في مطلع سنة (1911م) انعقد في الهند مؤتمر "لكنو" التبشيري. وتداول

المؤتمرون أموراً كثيرة تتعلق بالعالم الإسلامي، وكيفية إحكام الخناق عليه، وتفكيك أواصر وحدة المسلمين. فكان ممن تكلم فيه المبشر القسيس "سيمون" فتحدث عن فكرة الجامعة الإسلامية التي تهيمن على الشعوب المسلمة في مختلف بلاد الإسلام، ثم قال: "ولكن عبثاً يبني هؤلاء آمالهم على الجامعة الإسلامية، لأن التربية غير الإسلامية قد انبثت في دمائهم بفضل مدارس التبشير". وتحدث في المؤتمر المبشر الأستاذ "مينهُف" فكان مما قاله: "ينبغي لإرساليات التبشير أن تحتك بالمسلمين، وتتسلح بالمعدات الكافية لقتالهم. وأن لا تخشى ذلك كما كانت تفعل حتى الآن. وينبغي لهم أن لا تكون أعمالهم لاهوتية فقط، بل ينبغي أن يطرقوا أبواب الطب والصناعة وكل الأعمال التي يتفوق فيها الأوربي على الشرقي". أما المبشر الأستاذ "استِوَرد كروفورد" فقد علق في المؤتمر المذكور أهمية كبرى لدى تبشير المسلمين على أسلوب التدرج والصبر، ثم قال: "إن المسلمين يقتبسون من حيث لا يشعرون شطراً من المدنية المسيحية، ويدخلونها في ارتقائهم الاجتماعي. وما دامت الشعوب الإسلامية تتدرج إلى غايات ونزعات ذات علاقة بالإنجيل؛ فإن الاستعداد لاقتباس المسيحية يتولد فيها من غير قصد منها.. وفي تقرير المبشر القسيس "ويسلون" ما يفصح عن أن "ويلسون" هذا لا يشك في أن التربية الغربية هي بمثابة قوة تنحل بها عرى الروابط الإسلامية. وقال المبشر القسيس "جون تكل" في تقريره: "إن الوقوف على أسباب نمو الإسلام يمهد للحصول على وسائل توقيف تياره" ثم أورد بعض مقترحات تتعلق بالاحتياطات التي يجدر بالمبشرين اتخاذها، وأهمها ضرورة زيادة القوى البشرية الاختصاصية. أما القرارات التي دونها هذا المؤتمر التبشيري في محضر جلساته فقد كان منها ما يلي:

1- يعقد المؤتمر مرة أخرى في القاهرة سنة (1916م) وإذا طرأت أمور سياسية، أو أمور أخرى تحول دون اجتماعه في هذه المدينة، فيعقد في لندن. 2- مؤتمر "لنكو" يوافق مؤتمر إرساليات التبشير الذي عقد سنة (1910م) على ضرورة حصر الجهود في القارة الإفريقية، دون أن تمس الجهود التي تبذل في البلاد الأخرى. ولذلك فهو يرى أنه يجدر بالجمعيات التبشيرية، أن تتكاتف وتتعاضد لكي تؤلف سلسلة قوية من إرساليات التبشير تطوف كل إفريقية، وتؤسس مراكز قوية في الأماكن التي هي موطن الخطر. ويجب أن يكون إخراج هذه الفكرة إلى حيز الفعل موضع بحثٍ أهم وأوسع مما كان في السابق، سواء من جهة تربية المبشرين، أو من جهة حسن اختيارهم. الأمر الذي يحتم اتخاذ التدابير بلا تأخير لإتمام المشروعات التي بوشر بها. 3- ويرى المؤتمر أنه من الضروري العاجل تأسيس مدرسة في مصر خاصة بالتبشير، تكون عامة لكل الفرق البروتستانتية. ويشدد بلزوم التدقيق التام في انتقاء المبشرين الأكفاء الممتازين بصفاتهم ومواهبهم العقلية، وبلزوم تعليمهم اللغة العربية بوجه خاص. 4- مؤتمر القدس التبشيري كان القسيس الدكتور "صموئيل زويمر" رئيس إرسالية التبشير في البحرين منذ مقدمه إلى الشرق في أوائل القرن العشرين، إلا أن نشاطه التبشيري الزائد، وسعيه لعقد مختلف المؤتمرات التبشيرية، جعله يرتقي في المراتب بين المبشرين حتى صار رئيس المبشرين في الشرق.وحتى صاروا يلقبونه بالرسول المختار إلى العالم الإسلامي، أي: حامل رسالة تحويل المسلمين عن دينهم. فمن المؤتمرات التبشيرية التي دعا إليها هذا القس مؤتمر القدس الذي

تم انعقاده برئاسته في نيسان سنة (1935م) إبان الاحتلال البريطاني لفلسطين. وبعد أن شرح أعضاء المؤتمر العقبات الكثيرة التي اعترضت سبيل المبشرين، والتي لم تسمح لهم بأن يخرجوا المسلمين عن دينهم، ويدخلوهم في المسيحية، وبعد أن خطب كثير منهم خطبهم اليائسة، قام "زويمر" رئيس المؤتمر، وألقى على المؤتمرين الخطبة التالية: "أيها الإخوان الأبطال، والزملاء الذين كتب الله لهم الجهاد في سبيل المسيحية، واستعمارهم لبلاد الإسلام، فأحاطتكم عناية الرب بالتوفيق الجليل المقدّس، لقد أدّيتم الرسالة التي نيطت بكم أحسن أداء، ووفقتم لها أسمى توفيق. وإن كان ليخيل إليَّ أنه مع إتمامكم العمل على أكمل الوجوه لم يفطن بعضكم إلى الغاية الأساسية منه. إنني أقركم على أن الذين دخلوا من المسلمين في حظيرة المسيحية لم يكونوا مسلمين حقيقيين، لقد كانوا كما قلتم أحد ثلاثة: * إما صغير لم يكن له من أهله من يعرّفه ما هو الإسلام. * أو رجلٌ مستخف بالأديان لا يبغي غير الحصول على قوته، وقد اشتدّ به الفقر، وعزت عليه لقمة العيش. * وآخر يبغي الوصول إلى غاية من الغايات الشخصية. ولكن مهمة التبشير التي ندبتكم دول المسيحية للقيام بها في البلاد المحمّدية ليست هي إدخال المسلمين في المسيحية، فإنَّ في هذا هداية لهم وتكريماً، وإنما مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام، ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله، وبالتالي فلا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، وبذلك تكونون أنتم بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية. وهذا ما قمتم به خلال الأعوام المائة السالفة خير قيام، وهذا ما أهنئكم عليه، وتهنئكم الدول المسيحية والمسيحيون جميعاً عليه كل التهنئة.

لقد قبضنا أيها الإخوان في هذه الحقبة من الدهر من ثلث القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا على جميع برامج التعليم في الممالك الإسلامية، ونشرنا في تلك الربوع مكامن التبشير والكنائس والجمعيات والمدارس المسيحية الكثيرة التي تهيمن عليها الدول الأوربية والأمريكية، والفضل إليكم وحدكم أيها الزملاء. إنكم أعددتم له بوسائلكم جميع العقول في الممالك الإسلامية إلى قبول السير في الطريق الذي مهدتم له كل التمهيد. إنكم أعددتم شباباً في ديار المسلمين لا يعرف الصلة بالله،ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام، ولم تدخلوه في المسيحية، وبالتالي جاء النشء الإسلامي طبقاً لما أراده له الاستعمار، لا يهتم للعظائم ويحب الراحة والكسل. ولا يصرف همه في دنياه إلا في الشهوات فإذا تعلم فللشهوات، وإذا جمع المال فللشهوات، وإن تبوأ أسمى المراكز فللشهوات، ففي سبيل الشهوات يجود بكل شيء. إن مهمتكم تمت على أكمل الوجوه، وانتهيتم إلى خير النتائج، وباركتم المسيحية،ورضي عنكم الاستعمار، فاستمروا في أداء رسالتكم فقد أصبحتم بفضل جهادكم المبارك موضع بركات الرب". وبهذه الكلمات انتهى خطابه، وما أحسب هذا الخطاب بحاجة إلى أي تعليق عليه، ولكنني لست أدري ما هو هذا الرب الذي تُلتمس بركاته ثواباً على تضليل الناس، وإخراجهم من دينهم وعقائدهم بالله وبرسالاته، وغمسهم بالشهوات والموبقات والرذائل؟!. ويكفيني عن أي تعليق قول الله تعالى في سورة (الجاثية/45 مصحف/65 نزول) : {أَفَرَأَيْتَ مَنِ ?تَّخَذَ إِلَـ?هَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ?للَّهُ عَلَى? عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى? سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى? بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ?للَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} . وقد بلغ القسيس زويمر الخامسة والثمانين ومات سنة (1952م) دون أن يظفر بما كان يصبو إليه، إلا أنه قد لقي عند ربه جهنم وبئس المصير، إذ كرّس حياته لتضليل أهل الإيمان، وتحويلهم عن صراط الله.

5- مؤتمرات أخرى وما يزال المبشرون يعقدون المؤتمرات لتطوير وتحسين وسائلهم لتنصير العالم الإسلامي. ومن هذه المؤتمرات مؤتمر كنسي عقد في ولاية "كولارادو" بأمريكا في عام (1977م) .وموضوع هذا المؤتمر هو ما يلي: "العمل على اكتشاف وتحديد المسؤوليات المسيحية في أمريكا الشمالية تجاه تنصير المسلمين". وهذا المؤتمر امتداد لمؤتمرات أخرى عقدت لهذا الغرض في "لوزان" عام (1974م) بهدف تنصير شعوب العالم. وتم اختيار المرشحين لهذا المؤتمر من المبشرين المهتمين بتنصير المسلمين. وكان الإحساس السائد بين المشاركين في المؤتمر أنه يجب تغيير طريقة العمل الرئيسية وفقاً لوضع العالم الإسلام المعاصر. وأنه يجب قبول مبدأ قدرة الله وسيطرته وتحكمه، لإزالة الشك الذي لدى المسلمين الذي يرى أن العالم المسيحي يشجع بقوة عملية توجيه العالم الإسلامي إلى العلمانية. ووافق المشتركون في المؤتمر على أن الموقف المتشدد تجاه العالم الإسلامي لن يعين في عملية تنصير العالم الإسلامي، لذلك فهي يعتقدون أنه يجب العمل على إيجاد جوّ ودّي بينهما. ومن مقررات هذا المؤتمر ما يلي: 1- يجب بذل الاهتمام الكافي والتركيز بقوة على زرع جاليات مسيحية في قلب العالم الإسلامي، وهم سيحاولون بدورهم تطويل وإيجاد وسائل منهجية جديدة أكثر ملاءمة عند تقديم الإنجيل للمسلمين. ويجب الاهتمام الشديد باستخدام الآيات القرآنية ذات الصلة بهذه الموضوعات، وخاصة في المراحل الأولية لعملية التنصير.

(3) مجالات أنشطة المبشرين

2- بناء وزرع الكنائس التي تهتم بالمتنصرين، والترتيبات الخاصة بهم والشعائر الدينية. إلى غير ذلك من مقررات. (3) مجالات أنشطة المبشرين 1- التحدي المباشر للإسلام عن طريق المناظرة لعلماء المسلمين. كان المجال الأول الذي بدأ به المبشرون (المنصّرون) هو مجال التحدي المباشر للإسلام، عن طريق المناظرة لعلماء المسلمين. وقد بدأ هذا التحدي القس "فاندر" أحد مؤلفي كتاب "ميزان الحق" عمدة المبشرين والمستشرقين في مناظراتهم للمسلمين. وتصدى له في الهند الشيخ رحمة الله الهندي (الكيرانوي) (1233-1308هـ) صاحب كتاب "إظهار الحق". وقامت بينهما مناظرة علنية في (11 رجب سنة 1270هـ) الموافق لـ (10 نيسان 1854م) في مدينة "أكبر آباد آكره" إحدى مجالات النشاط التبشيري في الهند. وقد حضر هذه المناظرة ولاة المديرية، وموظفو الثكنة الإنكليزية من الإنكليز، وعدد كبير من أعيان البلد ووجهائه. وقد أسفرت هذه المناظرة في يومها الأول عن اعتراف القس "فاندر" بوقوع التحريف في ثمانية مواضع من الإنجيل. وفي اليوم التالي تزايد عدد الذين حضروا المناظرة من الحكام الإنجليز والمسيحين والهنادك والسيخ، وظهر ضعف القس "فاندر" في المناظرة وظهر تعنته. وفي اليوم الثالث لم يعد القس إلى مجلس المناظرة التي لم تنته، وكان كلما علم بوجود الشيخ "رحمة الله" في مكان غادره.

ثم عدل المبشرون عن مثل هذه المواجهة الصريحة، وانطلقوا في المجالات الأخرى غير المباشرة. 2- مجال الخدمات الصحية وكان ذلك بتأسيس المستشفيات والمستوصفات التبشيرية، وتوجيه الأطباء المتنقلين، والمستوصفات المتنقلة، وقد تحملوا في ذلك مشقات الدخول في أصعب الأماكن الإفريقية، وغيرها. وقد وجهوا اهتمامات كبرى لتنصير المسلمين في مجال خدماتهم الطبية، في معظم بلدان العالم الإسلامي الكبرى والصغرى، واستثمروا مؤسساتهم الطبية استثماراً اقتصادياً واسعاً مع قيامهم بمهمّات التنصير. 3- مجال تأسيس الكنائس والأديرة والرهبنات وذلك في كل بلد إسلامي يوجد فيه نصارى، ولو لم يتجاوزوا عدد أصابع اليدين، لتكون هذه المؤسسات الدينية بؤرة للتنصير، ومسوغاً للادعاءات المستقبلية بحقوق تاريخية في بلاد المسلمين. 4- مجال تأسيس المدارس وذلك في المرحلة دون المرحلة الجامعية التي هي من اختصاص المستشرقين، وقد أسسوا في هذا المجال مدارس كثيرة في بلدان العالم الإسلامي، من دور الحضانة حتى شهادة الدراسة الثانوية، وأتقنوا بناءها ونظامها،واجتذبوا إليها أعداداً هائلة من أبناء وبنات المسلمين، وكان من ثمراتها إخراج أجيال متنكرة لدينها ولأمتها ولأوطانها تابعة للغرب، متشبثة بذيول الحضارة الأوروبية، وبريق ألوانها مع ما فيها من انحلال وفوضى خلقية وسلوكية، دون الأخذ بعوامل النهضة المادية الحقيقية. ومن الأمثلة على ذلك: ما تكشفه الإحصائيات عن وجود قرابة (140) مدرسة طائفية وأجنبية في الأردن في السبعينات من القرن العشرين الميلادي الجاري، وعدد الطلاب والطالبات فيها يزيد على ثلاثين ألفاً، معظمهم من أبناء وبنات المسلمين، والمعلمون والمعلمات فيها معظم من غير المسلمين.

5- مجال الخدمات الاجتماعية المختلفة كدور الأيتام والعجزة الأرامل والمطلقات ونحو ذلك. 6- مجال العلاقات الاجتماعية: فمن ذلك الصلات الودية الشخصية والصداقات والزيارات العائلية والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المختلفة، واتخاذ هذه الأمور وسيلة لإفساد المسلمين والمسلمات. 7- استغلال الأزمات والكوارث الفردية والاجتماعية ويتجلى ذلك بتصيد اللقطاء والمشردين والمشردات وأصحاب الأزمات المختلفة من أبناء وبنات المسلمين، وكذلك الذين فقدوا أهلهم في الحروب، والفتن والمجاعات والكوارث الطبيعية والأزمات الأخرى وإيوائهم لتنصيرهم. ومن أمثلة ذلك: الحملات المكثفة التبشيرية لتنصير أطفال المسلمين اللاجئين في الصومال، التي نشرت الصحف عنها في عام (1402م) . والحملات التبشيرية لتنصير أطفال لاجئي الأفغان في باكستان، الذين فرَّ بهم أهلوهم، خوفاً عليهم من التدمير الشيوعي الأحمر، وقد نُشر عنها في عام (1403هـ) . وهذه الحملات تأتي تحت قناع هيئة الصليب الأحمر. وكذلك الحملات التبشيرية لتنصير أطفال من أندنوسيا، ليكونوا إذا كبروا مبشرين بالنصرانية بين ذويهم، وقد أسموا هذا المشروع بمشروع "الأسر البديلة". وحصل ما هو أشنع من ذلك في أطفال المسلمين اللبنانيين، وذلك في الفتن السياسية التي قامت بين الطوائف اللبنانية المختلفة، في السبعينات، وأوائل الثمانينات من القرن العشرين الجاري، إذ كانوا يُلتقطون ليؤخذوا إلى معسكرات وملاجئ التنصير، أو إلى القتل.

ونشرت الصحف أنَّ بعض النصارى اللبنانيين باعوا ألفين من أطفال المسلمين في لبنان، إلى المؤسسات التنصيرية في أوربا وأمريكا. ونشرت الصحف أيضاً ما يثبت أن هناك منظمات سرية يشرف عليها قساوسة لشراء أطفال من أبناء المسلمين، بغية أخذهم إلى معسكرات التنصير. 8- تأسيس الإذاعات وهي الإذاعات الخاصة بالدعوة إلى النصرانية،ونشر الإنجيل بصورة علنية ظاهرة، أو بصورة خفية متوارية. ومن هذه الإذاعات: 1- إذاعة "مونت كارلو". 2- إذاعة "صوت الغفران". 3- إذاعة "مركز النهضة". 4- إذاعة قبرص في نيقوسيا. 5- إذاعة فيبا بجمهورية السيثيل في المحيط الهندي. 9- توزيع المطبوعات والمنشورات الداعية إلى النصرانية وذلك ببثها بين صفوف المسلمين، مقروناً بالأساليب الودية، والوعد بتلبية المطالب. والمبشرون بالنصرانية يستغلون إمكاناتهم الواسعة المادية والعلمية والبشرية، لطبع ملايين الكتب والرسائل والمنشورات وتوزيعها بين المسلمين. ومع ما لديهم من أموال وفيرة تحوَّل إليهم فوائد ودائع المسلمين في البنوك الغربية، الذين يودعون أموالهم فيها ولا يأخذون فوائدها الربوية، وهم بذلك قد ساعدوا أعداء الإسلام بأموالهم مرتين. 10- الإغراء بين الجنسين وذلك بتصيد الشباب عن طريق الفتيات الحسناوات المرضيات

بصداقاتهن الخاصة والآسرات للنفوس والباذلات أجسادهن ولو بطرق محرّمة. 11- تأسيس الجمعيات والمنظمات والنوادي ومن مجالات أنشطة المبشرين بالنصرانية، الجمعيات والمنظمات والنوادي ذات النشاط الاجتماعي أو الأدبي أو الثقافي، أو الفني أو الرياضي. ومن هذه المنظمات ما يلي: 1- منظمة "نداء الرجاء" بمدينة "شتوتكارت" الألمانية. 2- منظمة "بعثة الصداقة" التي لها فروع في لبنان وهولندا وألمانيا وفرنسا وأمريكا. 3- منظمة "مركز الشبيبة النصراني" ومركزها الرئيسي بألمانيا الغربية، ومؤسسها "فالترشرمان" الألماني الجنسية. إلى غيرها من المنظمات. 12- المساعدة على افتتاح أكبر عدد ممكن من دور الخمر وقد تمَّ ذلك في بلدان العالم الإسلامي، لنشر معاقرة الخمور بين المسلمين. وقد لاحظ المتتبعون في السودان أن الكنيسة والمؤسسات وراء تعطيل أي مشروع لتحريم الخمر، فعندما أعلن مجلس منطقة أم درمان تحريم بيع الخمور، قامت الكنيسة بمعارضة ذلك، واضطربت ودفعت الأموال الطائلة لتعطيل تنفيذ القرار. 13- الاهتمام بالمجتمعات الإسلامية النامية والنائية تهتم حركات التنصير بالمجتمعات النائية والنامية، والتي يكثر فيها الأمية، وينتشر فيها الفقر والمرض لاستغلال حاجاتهم والبؤس الذي يعانون منه. الأمر الذي قد يسهّل عليهم بيع دينهم لتحصيل الغذاء والدواء والكساء، والعمل الذي يحصّلون عن طريقه أرزاقهم.

ويقنع المنصّرون بمن يتنصّر طمعاً بتأمين حاجاته،لا عن إيمان بالنصرانية ولا عن اعتقاد بصحتها. 14- استغلال أشرطة "الكاسيت" واستخدمت حركات التنصير - مع انتشار آلات التسجيل على نطاق واسع في العالم - طبع أشرطة "الكاسيت" وحشوها بما يريدون بثّه من أفكار، وتوزيعها في مجالات أنشطتهم. 15- تأسيس منظمات سرية تعمل في الخفاء ومن أمثلة هذه المنظمات السرية ما أعلنته الصحف السودانية في أواخر السبعينات من أن سلطات الأمن السودانية اكتشفت خلية سرية تعمل في الخفاء لبث الدسائس والأفكار المعادية للإسلام والداعية إلى النصرانية وذلك إذ داهمت هذه السلطات وكر خلية من خلايا هذه المنظمة في "الخرطوم" العاصمة السودانية. وزعيم هذه الخلية طبيب سويسري يعمل في "الخرطوم". وهي تابعة لمنظمة دولية مركزها في "بازل" بسويسرا. ولهذه المنظمة فروع في ألمانيا، والنمسا ولبنان. وحين تمت مداهمة هذا المركز عثر على (200) ألف كتاب من الكتب المعادية للدين الإسلامي والمحرفة له والمشوهة لصورته الحقيقية والداعية إلى الردة عنه. وضبطت فيه أيضاً كميات كبيرة من الأشرطة التي سجلت فيها موضوعات وأحاديث مناوئة للإسلام. وبعضها يشتمل على تلاوات شبيهة بالتلاوات القرآنية وهي ليست قرآناً بل معادية ومناقضة له، بغية تضليل عوام المنتمي إلى الإسلام في إفريقية وغيرها، حيث الجهل بالإسلام منتشر. وذكرت الصحف السودانية آنئذٍ أن رئيس هذه المنظمة، هو الألماني "فالترفشرمان"، وأنه كان قد بعث بخطاب إلى الطبيب السويسري مدير الخلية

في "الخرطوم" يدعوه فيه إلى تكثيف النشاط للحدّ من المدّ الإسلامي. 16- مجال المسابقات بأنواعها ومن هذه المسابقات الإعلان عن مسابقات عن طريق المراسلة، ومضامين هذه المسابقات تتطلب التعرف على موضوعات يُهم المبشرين التعريف بها. وتُرصد لهذه المسابقات جوائز مادّية وعينية قيمة، بغية شد انتباه الناس إليها، وتحريك مطامع ذوي المطامع للمشاركة فيها. 17- تأليف الكتب وهي الكتب المعدة لتكون مراجع للبحوث الدينية، ومنها الكتب التالية: 1- "ميزان الحق" مؤلف من ثلاثة أجزاء. 2- "تنوير الأفهام في مصادر الإسلام". 3- "الهداية" مؤلف من أربعة أجزاء. 4- "مقالة في الإسلام". 5- "الباكورة الشهية في الروايات الدينية". 6- "دعوة الحق". 7- "أصول الإيمان". 8- "الصليب في الإنجيل والقرآن". 9- "دين المسيح لم ينسخ". 10- "شخصية المسيح في الإنجيل والقرآن". 18- مجال الفنادق العالمية الكبرى وذلك باستغلال الفنادق العالمية الكبرى ذات الفروع في معظم عواصم العالم، ودس ما يمكن عن طريقها من غزو تبشيري صليبي، وسلوك غربي يخدم مصالح الاستعمار الغربي، ويحوّل المسلمين عن مفاهيمهم الإسلامية، وأنواع سلوكهم الإسلامي.

(4) التآزر بين المبشرين والمستعمرين

19- استخدام الأسواق المجمعة "السوبر ماركت" يتم ذلك باستغلالها لترويج ما يخدم أفكار الغزاة، ويشجع على ممارسة أنواع سلوكهم وطرائق حياتهم. 20- إنشاء معاهد لإعداد المنصّرين المتخصصين بتنصير المسلمين مثل: "معهد صمويل زويمر" الذي أنشئ في شمال كاليفورنيا، وقرروا إنشاء معهد آخر ورصدوا له مليار دولار أمريكي. وهناك مجالات كثير أخرى قائمة، أو يمكن أن تتفتق أذهان أعداء الإسلام لاستخدامها.1- تتابعت مخططات المبشرين الهادفة إلى محو الإسلام من الوجود، وتمزيق وحدة المسلمين، واتسعت دوائر أعمالهم وملاحقتهم للإسلام في كل بلد اتساعاً كبيراً، ولكنهم لم يظفروا بكل ما يريدون تحقيقه داخل المجتمعات الإسلامية، عن طريق أعمالهم ونشاطاتهم الخاصة المنفصلة عن الحكومات الاستعمارية، فلجأوا إلى هذه الحكومات يلتمسون منها العون والتأييد المالي والسياسي والعسكري. (4) التآزر بين المبشرين والمستعمرين 1- تتابعت مخططات المبشرين الهادفة إلى محو الإسلام من الوجود، وتمزيق وحدة المسلمين، واتسعت دوائر أعمالهم وملاحقتهم للإسلام في كل بلد اتساعاً كبيراً، ولكنهم لم يظفروا بكل ما يريدون تحقيقه داخل المجتمعات الإسلامية، عن طريق أعمالهم ونشاطاتهم الخاصة المنفصلة عن الحكومات الاستعمارية، فلجأوا إلى هذه الحكومات يلتمسون منها العون والتأييد المالي والسياسي والعسكري. فرأت الدول الاستعمارية جيوش المبشرين كنزاً ثميناً لها، فقررت أن تدعمها في أهدافها التبشيرية، لتستخدمها في الأهداف الاستعمارية. وقد كان المبشرون الذين يفدون إلى البلاد الإسلامية، يأتون أول الأمر متسترين بأسماء مختلفة، فإذا استقروا في البلاد أخذوا يقومون بالتبشير على مقدار وسعهم، فإذا وجدوا من الدول الإسلامية مراقبة لهم وتذمراً من أعمالهم وملاحقة لتصرفاتهم لجأوا إلى قناصلهم طالبين حمايتهم، وكان المسؤولون في القنصليات الأجنبية يدافعون عنهم ويحمونهم بوصفهم من

رعاياهم. وكلما ضعفت الدول الإسلامية أمام نفوذ الدول الأجنبية زادت هذه الدول في دعم المبشرين داخل البلاد الإسلامية، وفي حمايتهم وتأييدهم. ومن أمثلة ذلك: لما أراد الخديوي إسماعيل باشا أن يغلق مدارس المبشرين البروتستانت في مصر، لأن هؤلاء كانوا يتدخلون في السياسة، ويثيرون الاضطرابات في البلاد، ويزيدون مشاكل الحكومة تدخلت في الأمر قنصليتان تابعتان لأكبر دولتين يومئذٍ، فأيدتا المبشرين، وحملتا الحكومة المصرية على أن تتقيد بالخط الهمايوني (أي: بالدستور) الذي ينص على احترام الحرية الدينية. علماً بأن احترام الحرية الدينية لا يتعارض مع الأمر بإغلاق مدارس تبشيرية أجنبية،تحاول أن تعبث بعقائد المسلمين وتخرجهم عن دينهم. ولكن سياسة دعم المبشرين هي التي حرضت الدول الأجنبية على أن تتدخل لصالح التبشير هذا التدخل السافر. 2- ويكشف سياسة التآزر بين المبشرين والمستعمرين ما جاء في الكتاب المئوي للمبشرين اليسوعيين، بعد أن أمست سورية ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، وهو قولهم: "أجل لقد كنا نعتمد على مساعدة فرنسا الظافرة والآن ها هي فرنسا هنا". 3- وفي المؤتمر الذي أقامه المبشرون على ظهر الباخرة "غالف" في البحر الأحمر، صرح حاكم إفريقية الشرقية: بأنه يجب على الحكومة وعلى المبشرين أن يشتركوا في العمل ضد الإسلام. 4- وفي سبيل مؤازرة المبشرين للدولة الاستعمارية المتربصة، أخذ المبشرون يفتعِلُون داخل البلاد الإسلامية الأسباب التي تقود إلى الحرب، لأن الحرب ستضعف الدولة الإسلامية. ومن خلال ذلك يجد المبشرون منافذ واسعة لهم كي يقوموا بمهمة التبشير بين المسلمين على ما يحبون. ويحاول المستعمرون من جهتهم تحقيق أهدافهم الاستعمارية، بينما يحاول المبشرون تحقيق أهدافهم التبشيرية.

وهذا ما أعطى الحروب التي كانت تُشن ضد العالم الإسلامي صفة دينية صليبية بما في ذلك الحروب التي شنتها الدول الأوربية على الحكومات الإسلامية في القرنين التاسع عشر والعشرين. يقول المبشر لورانس براون: "وكذلك شنت الدول الأوربية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين حروباً عدوانية على الحكومات المسلمة، ثم انتزعت منها أراضيَ ضمتها إلى سلطانها هي. ولقد كانت النتائج في أحوال كثيرة غير سارة لبعض الشعوب التي استعبدت، وخصوصاً من المسلمين، ولكن هذه الشعوب لم تصل بعد إلى درجة تشعر فيها بأنها أصبحت أقليات مضطهدة". ويقول "وليم كاش" في كتاب صغير له: "قبل هذه التطورات التي طرأت على العالم الإسلامي بعد الحرب العالمية الأولى، كان المبشرون قد اتخذوا مراكز استراتيجية في العالم الإسلامي، واستطاعوا في أثناء الثورات والحروب والاضطرابات أن يتابعوا عملهم بهدوء وثبات. ولقد كتب هذا الكتاب الصغير ليدل على هذه التطورات التي حدثت، وليبين للكنائس تلك الحاجة الملحة للتقدم بمشروعها في يوم الفرصة السانحة". وقبل أن يحتل الاستعمار الإيطالي أرتيريا استخدم الطليان المبشر الطلياني الأب "سابيتو" ليتاع لهم "عَصَب" من الأريتريين، ففعل، وكان ذلك هو البداية للاحتلال الاستعماري. وكذلك كانت للمبشرين أدوار كثيرة مماثلة في التمهيد للاستعمار، كما كان للدول الاستعمارية أدوار كثيرة في مساعدة المبشرين ومؤازرتهم وحمايتهم لهم، وخطط العمل من الفريقين يكمل بعضها بعضاً. 5- ونجد الآن بعد استقلال البلاد الإسلامية من الاستعمار المباشر، نشاطاً كبيراً للمبشرين في بلاد كثيرة من بلاد المسلمين، وهذا النشاط تدعمه الدول الاستعمارية الكبرى. منه نشاط المبشرين في إفريقية ونشاط المبشرين الكبير في أندونيسيا، إذ تتزايد فيها الإرساليات التبشيرية تزايداً كبيراً.

نشرت صحيفة "واشنطن بوست" في عددها الصادر في (7/9/1973م) تعليقاً بعنوان: "تعاظم التنصير في أندونيسيا" أشارت فيه إلى ازدياد عدد الكنائس في وسط أندونيسيا المسلمة.... وذكرت أن جاوه - وهي أكثر الجزر ازدحاماً بالسكان - إذ تبلغ نسبة عدد سكانها (65%) من مجموع سكان أندونيسيا، أصبحت تربة صالحة لنشاط الإرساليات التبشيرية، وقد تضاعف عدد كنائس البروتستانت والكاثوليك في جاوه الوسطى والشرقية إلى أربعة أضعاف ما كان عليه.... ويبلغ عدد أعضاء كنيسة جاوه الشرقية وحدها "210000" واحداً وعشرين ألف شخص.... ورغم ما يواجه رجال التبشير في بعض المناطق الإسلامية من مقاومة وإعراض، إلا أنهم بالإغراء المادي المسيحي استطاعوا أن يتغلبوا على هذه المصاعب. وقالت الجريدة: إنه توجد في أندونيسيا الآن جريدتان إحداهما للبروتستانت،والأخرى للكاثوليك. وقالت: إن المسيحيين الذين تبلغ نسبتهم (5%) من مجموع سكان البلاد يسيطرون على بعض المرافق. وأعادت الصحيفة إلى الأذهان أن طلائع البعثات التبشيرية دخلت أندونيسيا في عام (1500م) مع البرتغاليين الذين استعمروا جزر البهارات.... وقد استمرت الحملات التبشيرية وبعثاتها تتوالى على البلاد في مختلف العهود التي مرت بها. انتهى. ومع تزايد النشاط التبشيري في أندونيسيا أخذت الأموال تتدفق عليها من دول الغرب ومن أمريكا بالذات، ومعظم هذه الأموال لخدمة أهداف المبشرين الرامية إلى تنصير الشعب المسلم في أندونيسيا.

6- ومما يدل على أن التبشير تمهيد للاستعمار ومقدمة له، ما جاء في خطاب القسيس "زويمر" الذي ألقاه في مؤتمر القدس التبشيري الذي سبق بيانه إذ قال فيه للمؤتمرين: "وبذلك تكونون أنتم بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية". ويقول المبشر "لورنس براون" - وهو أ؛ د أقطاب المبشرين في العالم: ".. ولكن الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام، وفي قوته على التوسع والإخضاع وفي حيويته. إنه الجدال الوحيد في وجه الاستعمار الأوربي". وتقول مجلة العالم الإسلامي الإنكليزية: "إن شيئاً من الخوف يجب أن يسيطر على العالم الغربي، ولهذا الخوف أسباب منها: أن الإسلام منذ أن ظهر في مكة لم يضعف عددياً، بل هو دائماً في ازدياد واتساع، ثم إن الإسلام ليس ديناً فحسب، بل إن من أركانه الجهاد، ولم يتفق قط أن شعباً دخل في الإسلام ثم عاد نصرانياً". 7- ويكشف سياسة التآزر بين المبشرين والمستعمرين ما جرى في المؤتمر الاستعماري الألماني. فقد نشرت "مجلة إرساليات التبشير البروتستانتية" التابعة لجمعية التبشير في مدينة بال بسويسرا مقالة ذات شأن عن موقف إرساليات التبشير في المؤتمر الاستعماري الألماني. ومما يزيد في أهمية هذه المقالة أنها مكتوبة بقلم المبشر "م. ك. اكسنفلد" صاحب التقرير عن الفرع المختص بالإسلام في المؤتمر الاستعماري المذكور. وهو أيضاً أمين سر جمعية التبشير في برلين. قال صاحب المقالة: إن المؤتمر الاستعماري امتاز بمزيتين: الأولى: أنه بحث في الشؤون الصناعية والاقتصادية. الثانية: إجماعه على وجوب ضم المقاصد السياسية والاقتصادية إلى الأعمال الأخلاقية والدينية في سياسة الاستعمار الألماني. واستشهد بقول "شنكال" رئيس غرفة التجارة في همبرغ: "إن نمو ثروة

الاستعمار متوقف على أهمية الرجال الذين يذهبون إلى المستعمرات، وأهم وسيلة للحصول على هذه الأمنية إدخال الدين المسيحي في البلاد المستعمرة،لأن هذا هو الشرط الجوهري للحصول على الأمنية المنشودة، حتى من الوجهة "الاقتصادية". ثم حضَّ "اكسنفلد" على تقدير عمل المبشرين، وإحلاله في محله اللائق به. وعندما أخذ المؤتمر الاستعماري يبحث في أعمال فرعه الرابع الخاص بالمسألة الإسلامية أفاض المبشرون المشتركون في المؤتمر، وتوسعوا في القول، حتى خُيّل للجميع أن المؤتمر الاستعماري تحول إلى مؤتمر تبشيري. وجاء في قرارات المؤتمر الاستعماري المذكور ما يلي: "إن ارتقاء الإسلام يتهدد نمو مستعمراتنا بخطر عظيم، ولذلك فإن المؤتمر الاستعماري ينصح الحكومة بزيادة الإشراف والمراقبة على أدوار هذه الحركة ز والمؤتمر الاستعماري مع اعترافه بضرورة المحافظة على خطة الحياد تماماً في الشؤون الدينية يشير على الذين في أيديهم زمام المستعمرات أن يقاوموا كل عمل من شأنه توسيع نطاق الإسلام، وأن يزيلوا العراقيل من طريق انتشار المسيحية، وأن ينتفعوا من أعمال إرساليات التبشير التي تبث مبادئ المدنية، خصوصاً بخدماتهم التهذيبية والطبية. ومن رأي المؤتمر " أن الخطر الإسلامي يدعو إلى ضرورة الانتباه لاتخاذ التدابير - من غير تسويف - في كل الأرجاء التي لم يصل إليها الإسلام بعد". وجاء في خطاب ألقاه الأستاذ "باكر" أحد أعضاء المؤتمر الاستعماري الألماني: "إن السياسة التي ينبغي الجري عليها في معاملة المسلمين تحتم علينا وضع خطة جديدة في مجرى سياسة حكومتنا.. والمبشرون هم الذين اختصوا وحدهم بالاهتمام بأمر الإسلام، والبحث في شؤونه في كل مستعمراتنا الألمانية إلى هذه الأيام الأخيرة.... وأنا لا أرى أن تظل الحالة على ما هي عليه، بل من رأيي أن تنتقل أزمة السياسة الإسلامية منذ الآن

وبعد الآن إلى يد الحكومة في مستعمراتنا، ويجب على حكومتنا في هذه الخطة الجديدة التي أشير إليها أن تستعين بالوجهة الوطنية لا بالوجهة الدينية، كيما تتوصل إلى مقاصدها". ثم قال: وأنا أقترح على حكومتنا أن تضع خطة موطدة الأركان في الأمور الآتية: الأول: في الخطة العامة للنظام الإداري والديني. الثاني: في علاقة الشرع الإسلامي بالقوانين الأوربية. الثالث: في نظام التعليم. ثم ختم خطابه بقوله: "يجب علينا بالرغم من العناية برعاية الإسلام أن نهتم بمقاومة انتشاره في مستعمراتنا على قدر الإمكان، وليس هنالك غير وساطة واحدة توصلنا إلى هذه الغاية، وهي إنشاء مراكز ثابتة الأركان، كما تفعل إرساليات التبشير". 8- ويكشف سياسة التآزر بين المبشرين والمستعمرين ما قاله القس اليسوعي "مييز" في معرض حديثه عن سياسة فرنسا الدينية في الشرق: "إن الحرب الصليبية الهادئة التي بدأها مبشرونا في القرن السابع عشر، لا تزال مستمرة إلى أيامنا هذه، ولقد احتفظت فرنسا طويلاً بروح الحرب الصليبية، وبالحنين إلى تلك الحروب الحية نفسها، وكان من غايات الامتيازات الأجنبية دائماً أن تحتفظ فرنسا بالدور الذي يلعبه رهبانها، وقد اعْتُرِفَ لقناصلنا وسُفرائنا بالحماية للنصارى، وكثيراً ما اختارت فرنسا قناصِلَها وسفراءها من رجال الدين". 9- ويكشف سياسة التآزر بين المبشرين والمستعمرين الكتاب الذي أصدرته

لجنة التبشير الأمريكي، والتي تهتم بالاستفادة من الحروب في أعمال التبشير في عام (1920م) وقد جاء في مقدمة هذا الكتاب: "من أبرز الأمور المتعلقة بدخول الولايات المتحدة في الحرب العالمية الأولى، أن الآراء والمبادئ التي كانت تهدف إليها الإرساليات التبشيرية، وقد تبنتها الآن الأمة الأمريكية، ثم أعلنت أنها هي أهدافها الأخلاقية، وغاياتها من خوض تلك الحرب، إن هذه المبادئ التبشيرية قد سمّيت الآن أسماء سياسية فقط". (5) الأموال التي تجمع للتنصير مع إعداد المنصرين ووسائل التنصير (1) إينا "نيويورك" ذكرت مجلة أمريكية أن ما تم جمعه خلال العام الماضي من تبرعات لأغراض كنسية من غرب أوربا وشمال أمريكا بلغ (151) بليون دولار، وذلك لتمويل النشاط الكنسي في إفريقية، ولدى المؤسسات التنصيرية "1900" محطة إذاعة وتليفزيون، ولديهم أربعة ملايين وعشرين ألف منصر متفرغ، وأربعمائة مجلة دورية مسيحية. (2) وجاء في مقالة كتبه: "د. كامل الدقس": "أن مجلس الكنائس العالمي رصد (130) بليون دولار أمريكي لتنصير قارة آسيا وأفريقية. وقد رصدوا لجزيرة جاوة وحدها بليون دولار، لكي تكون مسيحية بحلول سنة "2000م" وقد جمع "بيلي جراهام" زعيم البروتستانتيين في أمريكا بليوني دولار أمريكي لتمويل مشروعاته التنصيرية في أفريقية وآسيا. ولدى الفاتيكان ميزانية ضخمة للتنصير قدّرها بعضها الاقتصاديين بأنها تجعل من العالم الثالث أغنى دول العالم". * * *

الفصل الثالث المستشرقون وأعمالهم

الفصْل الثالث المستَشرقون وَأعمَالهمْ 1- تعريف عام بالاستشراق والمستشرقين. 2- موجز تاريخ الاستشراق. 3- مدارس الاستشراق. 4- دوافع المستشرقين وأهدافهم. 5- مجالات أنشطة المستشرقين. 6- أخطر وسائل المستشرقين الفكرية. 7- موازين البحث عند المستشرقين. 8- الجامعات الغربية وأثر المستشرقين فيها على المسلمين. 9- مقارنة بين التبشير والاستشراق وأعمالهما. 10- المستشرقون يدركون قدرة الإسلام الذاتية.

(1) تعريف عام بالاستشراق والمستشرقين

(1) تعريف عام بالاستشراق والمستشرقين سبق في الفصل الثاني من هذا الكتاب تعريف الاستشراق والمستشرقين، وإعادةً توضيحاً له في بدء الفصل الخاصّ ببحث هذا الجناح من أجنحة المكر بالإسلام والمسلمين أبيّن ما يلي: تعريف الاستشراق تعبير أطلقه غير الشرقيين على الدراسات المتعلقة بالشرقيين: (شعوبهم وتاريخهم وأديانهم ولغاتهم وأوضاعهم الاجتماعية وبلدانهم وسائر أراضيهم وما فيها من كنوز وخيرات وحضاراتهم وكل ما يتعلق بهم) . وكان هدف الغربيين من هذا الإطلاق العام الذي يشمل كل الشرق والشرقيين، مسلمين أو غير مسلمين، أن يكون غطاءً للهدف الأساسي، الذي هو دراسة كل ما يتعلق بالإسلام والمسلمين لخدمة أغراض التبشير من جهة، وأغراض الاستعمار الغربي لبلدان المسلمين من جهة أخرى، ثم لإعداد الدراسات اللازمة لمحاربة الإسلام وتحطيم الأمة الإسلامية وتجزئتها وتفتيت وحدتها. ثم توسعت الدراسات الاستشراقية بعد توسع الاستعمار الغربي في الشرق، فتناولت جميع ديانات الشرق وعاداته وحضاراته وجغرافيته وتقاليده ولغاته وكل ما يتعلق به.

المستشرقون هم الذين يقومون بالدراسات الاستشراقية من غير الشرقيين، ويقدمون دراساتهم ونصائحهم ووصاياهم: 1- للمبشرين بغية تحقيق أهداف التبشير. 2- وللدوائر الاستعمارية بغية تحقيق أهداف الاستعمار. وكثير من المستشرقين قساوسة منتظمون في السلك الكنسي، فهم بمقتضى مهنتهم أصحاب مهمات تبشيرية. وآخرون منهم موظفون ببلدانهم في الدوائر السياسية والإدارية المختصة بشؤون الاستعمار بصفة باحثين أو مستشارين أو نحو ذلك. واندس في الاستشراق يهود كثيرون ينافقون النصارى ويخدمون سراً أهدافاً يهودية ضمن المخطط اليهودي العام. وظهر ضمن المستشرقين نفرٌ عُني بالدراسات الاستشراقية، رغبة في البحث العلمي المتجرد، دون أن يكون مدفوعاً بدافع تبشيري، أو دافع استعماري، وكان من بعض هؤلاء إنصاف للحقيقة دون تحيز، وبعض هؤلاء المنصفين تأثر بالإسلام وبالحضارة الإسلامية، واستطاع أن يتحرر من تقاليده العمياء وعصبيته الجاهلية فأسلم. ثم اتسعت الدراسات الاستشراقية لأهداف متعددة، اقتصادية وسياسية وعسكرية وعلمية وغير ذلك. واحتلَّ كثير من المستشرقين مراكز علمية مرموقة في الجامعات الغربية، وأوكل إليهم في هذه الجامعات أمر منح الشرقيين في العلوم الإسلامية والعربية الشهادات العليا: (الماجستير والدكتوراة) ، بغية صناعة حملة شهادات من بلدان العالم الإسلامي، طبق ما يريد المبشرون والمستعمرون. واستغلّ اليهود هذا المجال من مجالات الاستشراق استغلالاً واسعاً، حتى أمسى عدد وفير من كراسي الأستاذية للدراسات الاستشراقية في الجامعات

(2) موجز تاريخ الاستشراق

الغربية يحتله يهود، يعملون لتحقيق أهداف يهودية، وهم يلبسون بين النصارى أقنعة مزوّرة، كما أن لليهود مندسين كثيرين في كل مجال من مجالات الاستشراق الأخرى بأسماء يهودية أو بأسماء مستعارة أخرى. (2) موجز تاريخ الاستشراق لا يعرف بالضبط من هو أوَّل غربي عني بالدراسات الشرقية،ولا في أي وقت كان ذلك، ولكن من المؤكد أن بعض الرهبان الغربيين قصدوا الأندلس في إبان عظمتها ومجدها، وتثقفوا في مدارسها، وترجموا القرآن والكتب العربية إلى لغاتهم، وتتلمذوا على علماء المسلمين في مختلف العلوم، وبخاصة في الفلسفة والطب والرياضيات.... ومن أوائل هؤلاء الرهبان الراهب الفرنسي "جربرت" الذي انتخت بابا لكنيسة روما عام (999م) ، بعد تعلمه في معاهد الأندلس وعودته إلى بلاده، ومنهم الراهب "بطرس المحترم 1092-1156"، ومنهم الراهب "جيراردي كريمون 1114-1187". وبعد أن عاد هؤلاء الرهبان إلى بلادهم نشروا الثقافة المكتوبة باللسان العربي، ومؤلفات أشهر علمائهم، ثم أسست المعاهد للدراسات العربية أمثال مدرسة "بادوي" العربية، وأخذت الأديرة والمدارس الغربية تدرس مؤلفات العرب المترجمة إلى اللاتينية - وهي لغة العلم في جميع بلاد أوربا يومئذ-، واستمرت الجامعات الغربية تعتمد على الكتب العربية وتعتبرها المراجع الأصلية للدراسة قرابة ستة قرون. ولم ينقطع منذ ذلك الوقت وجود أفراد درسوا الإسلام واللغة العربية وترجموا القرآن وبعض الكتب العربية العلمية والأدبية، حتى جاء القرن الثامن عشر - وهو العصر الذي بدأ فيه الغرب في استعمار العالم الإسلامي والاستيلاء على ممتلكاته - فإذا بعدد من علماء الغرب ينبغون في الاستشراق، ويصدرون

لذلك المجلات في جميع الممالك الغربية، ويغيرون على المخطوطات العربية في البلاد العربية والإسلامية، فيشترونها من أصحابها الجهلة، أو يسرقونها من المكتبات العامة التي كانت في نهاية الفوضى، وينقلونها إلى بلادهم ومكتباتهم، وإذ بأعداد هائلة من نوادر المخطوطات العربية تنتقل إلى مكتبات أوربا، وقد بلغت في أوائل القرن التاسع عشر مائتين وخمسين ألف مجلداً، وما زال هذا العدد يتزايد حتى اليوم. وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر عقد أول مؤتمر للمستشرقين في باريس عام (1873م) ، وتتالى عقد المؤتمرات التي تلقى فيها الدراسات عن الشرق وأديانه وحضاراته، وما تزال تعقد حتى هذه الأيام. فقد بدأ الاستشراق إذن منذ دقَّت جيوش الفتح الإسلامي أبواب أوربا العريضة، وكان المسلمون قد احتلوا عرش السيادة الدولية، وملأوا سمع الزمان وبصره وقلبه وسائر مشاعره. وأخذت أوربا الغارقة في الجهل والتخلف الحضاري يومئذ تبحث عن أسباب نهضة المسلمين، وبلوغهم هذا المجد العظيم الذي بلغوه، وأخذ بعض رجال الكنيسة الأوربيين يدرسون علوم هؤلاء الفاتحين ولغاتهم، لعلهم يظفرون بما يوقفون به مد هذا الفتح الإسلامي، ولعلهم يكتبسون من علوم المسلمين ما ينفعهم في إنقاذهم من تخلفهم، ويفتح لهم أبواب الارتقاء، فكان الاستشراق طلباً لعلوم الشرقيين ولغاتهم وأوضاعهم، وبحثاً عنها. وفي أعقاب الحروب الصليبية وضعت الخطة لغزو المسلمين بوسائل أخرى غير وسيلة الحرب المسلحة بالأسلحة المادية، واقتضت خطة الغزو الجديد التوسع في الدراسات الاستشراقية، لتكون تمهيداً لهذا الغزو، وإعداداً لشروطه الفكرية والنفسية. ولما كان المحركون للحرب الصليبية من رجال الكهنوت الأوربيين والعلوم العليا تكاد تكون منحصرة في الكنيسة لديهم يومئذ، كان أوائل

المتوجهين للدراسات الشرقية من هؤلاء الرجال، ولا ريب أن أغراضهم في ذلك تواكب أغراض الحروب الصليبية التي أخذت أسلوباً جديداً في الغزو، غير أسلوب الغزو المادي المسلح بالأدوات الحديدية،وتتفق مع أهداف التبشير بالمسيحية. وانطلق المتوجهون للدراسات الشرقية يعملون في هذا المضمار بجد، ويترجمون إلى لغاتهم كتباً كثيرة من كتب المسلمين. ونبتت نابتة الفكر الاستعماري في دول أوربا بعد نهضتها، واحتاج الطامعون باستعمار بلاد المسلمين إلى زاد من الدراسات الشرقية، فوجهت الدوائر الاستعمارية أعداداً من المتعلمين في بلادها للتفرغ للدراسات الشرقية، من جوانب متعددة: لغوية ودينية واجتماعية وتاريخية وسياسية وغير ذلك. وكان كثير منهم من منسوبي الكنيسة الذين يحملون في نفوسهم أهداف التبشير. فالتقت في الاستشراق أهداف جمعيات التبشير وأهداف الدوائر الاستعمارية، ومن طبيعة الأهداف التي تسبق الأعمال في التصور أن تكون موجهة للأعمال ومؤثرة فيها. إلا من نما في قلبه وجدان حب الحق، وسيطرت عليه الرغبة بنصرته ولو كان ضد هواه، وضد عصبياته الخاصة. ثم أسست للاستشراق معاهد، وتألفت جمعيات من المستشرقين للتعاون في الأعمال المتعلقة بالدراسات والعلوم الشرقية، كنشر بعض المخطوطات العربية ووضع الفهارس الشاملة لبعض الكتب الإسلامية الأصول , ووضع بعض المعاجم المفهرسة، وتفصيل آيات القرآن الكريم بحسب موضوعاتها، ونحو ذلك. ودخلت هذه الدراسات الشرقية في الجامعات الكبرى، فكان لها فروع حتى مستوى تحصيل شهادة الدكتوراة، وأخذ فريق من المستشرقين يؤلف المؤلفات المتعلقة بالعلوم الإسلامية لخدمة أهداف الاستشراق الأساسية الرامية إلى

تشويه الإسلام وتشويه التاريخ ألإسلامي ووضع الشبهات وتصيد الأدلة لها، وتوجيه الانتقادات الملفقة إلى أحكام الإسلام وشرائعه، وتتبع الأخبار الساقطة والأقوال الضعيفة المردودة، وتفسير الظواهر تفسيراً مادياً بحسب ما يروق لهم، وشرح النصوص القرآنية على أساس أن القرآن ليس من كلام الله،وليس كتاباً منزلاً، وشرح الأحاديث النبوية على أساس أن محمداً عبقري من الناس وليس برسول كسائر الرسل، وتعليل الفتح الإسلامي بالرغبات الشخصية المماثلة للرغبات التي توجد عند الاستعماريين، وإبعاد كل دافع ديني إسلامي عن كل حدث تاريخي للمسلمين، ومحاولات التحريف في النصوص عند الاستشهاد بها، واللجوء إلى المغالطات الكثيرة لدى مناقشة الموضوعات الإسلامية، وتعمد إبراز سقطات الفساق من المسلمين في مدى تاريخهم الطويل والتشكيك بصحة الأحاديث الصحيحة المروية بتوجيه المطاعن إلى رواة الحديث ولو كانوا من أصحاب الرسول، والتشكيك بالقرآن الكريم، بتوجيه المطاعن المفتراة إلى نقله وتدوينه والقراءات الثابتة فيه وإلى مضامينه، وبتوجيه المطاعن إلى ظاهرة الوحي التي تلقى بها الرسول كتاب ربه، إلى غير ذلك من أمور لا تحصى، وأساسها جميعاً الرغبة بإبطال الحق تعصباً واتباعاً للهوى. ورأى اليهود الاستشراق باباً خطيراً من أبواب التسلسل إلى البلاد التي يحلمون بالسيطرة عليها وفق طريقتهم، ويريدون أن يتخذوا لأنفسهم صنائع فيها من أبنائها، فتخصص فريق منهم بالدراسات الشرقية وتابعوا المسيرة ضمن الخطط اليهودية، حتى احتل اليهود عدداً وفيراً من كراسي الدراسات الشرقية في الجامعات الكبرى، وأخذوا يخدمون الأغراض اليهودية الصهيونية في هذا المجال تحت ستار خدمة أغراض المستشرقين المسيحيين وأغراض الدوائر الاستعمارية. ودخل الأوربيون الشرقيون بعد نجاح الثورة الشيوعية في بلادهم ميادين الاستشراق تبعاً للغرب وبغية استخدام دراساتهم في هذا المجال لتقويض الإسلام واستدراج الشعوب الإسلامية إلى الشيوعية.

(3) مدارس الاستشراق

(3) مدارس الاستشراق وإذْ دخل ميادين الاستشراق عناصر مختلفة الغايات والأهداف، على الرغم من أن ساحة عمل الجميع واحدة،كان باستطاعتنا أن نلاحظ أنه قد غدا للاستشراق عدة مدارس، كلُّ منها له أهداف تنسجم مع المذهب الفكري أو الديني الذي يتبعه المنتسبون إليها. وباستطاعتنا أن نقسّم هذه المدارس إلى ما يلي: 1- المدرسة النصرانية، وهي تنقسم إلى فرعين: أ- الكاثوليكية. ب- البروتستانتية. وهذان الفرعان يلتقيان في الأعمال والأهداف، وإن اختلفا في بعض الآراء المذهبية. 2- المدرسة اليهودية: وهذه المدرسة ذات أهداف خاصة تخدم مخططات اليهودية العالمية، مهما لبست في البيئات التي تكون فيها من ألبسة النفاق تمالئ فيها هذه البيئات، ومهما سترت وجهها الحقيقي بأقنعة مزورة. 3- المدرسة الإلحادية العامة: والمنتمون إلى هذه المدرسة هم المستشرقون الملحدون في الغرب، وتتلخص أهدافهم بنشر الفكر الإلحادي، وإقامة مفاهيم الحياة على المادية التي تنكر وجود الله عز وجل، وهؤلاء موزعون في مختلف المذاهب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. 4- المدرسة الإلحادية الشيوعية: والمنتمون إلى هذه المدرسة هم المستشرقون الشيوعيون، وتتلخص

(4) دوافع المستشرقين وأهدافهم

أهدافهم بنشر الإلحاد والشيوعية معاً، واستدراج شعوب الأمة الإسلامية إليهما. (4) دوافع المستشرقين وأهدافهم باستطاعتنا أن نتلمس دوافع المستشرقين وأهدافهم من أعمالهم، ومما حققوه من أهداف، ومن النظرات التاريخية إلى واقع حال الدول الغربية، قبل أن تنبت فيها نابتة الاستشراق، وإلى واقع حالها بعد ذلك،ومن النظر إلى صلة الاستشراق بالتبشير بالنصرانية، وإلى صلته بالاستعمار. وفيما يلي خلاصة عن دوافعهم وأهدافهم مع العلم بأن الدوافع تلتقي مع الأهداف،باعتبار أن الدافع يمثل المحرض النفسي لاتخاذ الوسائل التي توصل إلى الأهداف الغائية من العمل. الأول: الدافع الديني أو المذهبي ضد الإسلام والمسلمين عرفنا أن الاستشراق بدأ بالرهبان والقساوسة والنصارى، ثم استمر بعد ذلك ومعظم المستشرقين من رجال الكهنوت المسيحي، وكان هؤلاء مدفوعين بدافع الانتصار للنصرانية، والرغبة بتنصير المسلمين الذين اكتسحوا امبراطوريتهم واستطاع دينهم الحق أن يغلب النصرانية المحرفة في نفوس أتباعها. واتجه هؤلاء للطعن في الإسلام وتشويه محاسنه وتحريف حقائقه بغية إقناع جماهيرهم التي تخضع لزعاماتهم الدينية بأن الإسلام دين لا يستحق الانتشار، وبأن المسلمين قوم همج لصوص سفاكو دماء يحثهم دينهم على الملذات الجسدية ويبعدهم عن كل سمو روحي وخلقي. ثم اشتدت حاجتهم إلى هذا الهجوم في العصر الحاضر، بعد أن رأوا الحضارة الحديثة قد زعزعت أسس العقيدة بالنصرانية عند الغربيين، وأخذ تشكُّكُهم بكل التعاليم التي كانوا يتلقونها عن رجال الدين عندهم يزداد، فلم

يجدوا وسيلة أجدى من تشديد الهجوم على الإسلام لصرف أنظار الغربيين عن نقد ما عندهم من عقيدة وكتب مقدسة. وهم يعلمون ما تركته الفتوحات الإسلامية الأولى، ثم الحروب الصليبية ثم الفتوحات الإسلامية العثمانية في أوربا بعد ذلك في نفوس الغربيين من خوف شديد من قوة الإسلام، ومن كره لأهله، فاستغلوا هذا الجو النفسي، وازدادوا نشاطاً في الدراسات الإسلامية. وحين قامت جمعيات التبشير، ووضعت من أهدافها تحويل المسلمين عن دينهم إلى النصرانية، أو إلى اللادينية والإلحاد الكامل، كانت دوافع الاستشراق لدى المبشرين وأنصارهم ومؤيديهم هي دوافع التبشير أنفسها، وهي تتلخص بالرغبة الملحة في سلخ المسلمين عن دينهم، ومحاولة إدخالهم في النصرانية، أو إبقائهم ملاحدة لا دين لهم، حتى يكونوا أطوع للدول النصرانية الطامعة باستعمار بلاد المسلمين، واستغلال خيراتها. ومن خلال معرفتنا لهذا الدافع نستطيع معرفة الهدف الغائي المرتبط به. فهدف هذا الدافع: هو إخراج المسلمين عن دينهم، فإن أمكن تنصيرهم فذالك، وإلا فإبقاؤهم لا دين لهم مطلقاً هدف مرجو يحقق للنصارى منافع ومصالح سياسية واقتصادية واستعمارية وغير ذلك. ولإخراج المسلمين عن دينهم وسائل كثيرة، منها: 1- تنفير المسلمين من دينهم وحملهم على كراهيته. 2- تشويه الإسلام، والتشكيك في أسسه، وتوجيه المطاعن له. 3- تشويه التاريخ الإسلامي، وتشويه حضارة المسلمين، وكل ما يتصل بالإسلام من علم وأدب وتراث. 4- نبش الحضارات القديمة وإحياء معارفها، وبعث الطوائف الضالة والحركات الهدامة القديمة. 5- تزيين ما في المسيحية من تعاليم وأحكام. 6- استدراج المسلمين للأخذ بالحضارة المادية الحديثة، وما فيها من مغريات

للنفوس، ومرضيات للأهواء، وآسرات للشهوات، وباهرات للنظر. 7- ادعاء أن الفقه الإسلامي مقتبس من القانون الروماني. 8- ادعاء أن أحكام الشريعة الإسلامية لا تتلاءم مع التطور الحضاري. 9- الدعوة إلى نبذ اللغة العربية وتبديل طريقة كتابتها. الثاني: الدافع الاستعماري لم ييأس الصليبيون بعد هزيمتهم في الحروب الصليبية من العودة إلى احتلال بلاد العرب وسائر بلاد المسلمين، فاتجهوا لدراسة هذه البلاد، في كل شؤونها: من عقيدة وعادات وأخلاق وثروات ولغات وتاريخ وغير ذلك مما يتعلق بها من جغرافية وسكان بغية أن يتعرفوا إلى مواطن القوة فيها فيضعفوها، وإلى مواطن الضعف فيغتنموها. ثم لما تم لهم الاستيلاء العسكري والسيطرة السياسية، كان من دوافع الدراسات الاستشراقية الرغبة بإضعاف المقاومة الروحية والمعنوية في نفوس المسلمين، وبث الوهن والارتباك في تفكيرهم، وكان لهم في ذلك وساوس كثيرة، تسللوا بها إلى نفوس أبناء المسلمين، ومن هذه الوساوس ما يلي: 1 ً- التشكيك بفائدة ما في أيدي المسلمين من تراث، وبما عندهم من عقيدة وشريعة وقيم إنسانية. والغرض من ذلك أن يفقدوا ثقتهم بأنفسهم، ويرتموا في أحضان الغرب، يستجدون منه المقاييس الأخلاقية والمبادئ والعقائد والحلول لمشاكلهم الحياتية والعادات والتقاليد وأنواع السلوك ليتم للغرب بذلك إخضاع المسلمين لحضارته وثقافته إخضاعاً كاملاً. 2 ً- إحلال مفاهيم جديدة، أو إحياء مفاهيم ماتت منذ تمكن الإسلام من قلوب المسلمين، كالقوميات الفرعونية والفينيقية والآشورية والعربية الكردية والتركية والفارسية ونحو ذلك ليتسنى لهم تشتيت شمل الأمة الإسلامية الواحدة، التي تجمعها رابطة واحدة، هي وحدة الدين الذي يهيمن على جميع مشاعر الإنسان الداخلية وسلوكه الظاهر.

وللاستشراق الذي يقوم به الشيوعيون دافع مشابه، وهو دافع يطمع بالتسلط الكامل على بلاد المسلمين. ومن خلال معرفتنا لهذا الدافع نستطيع معرفة الهدف الغائي المرتبط به. فهدف هذا الدافع: هو السيطرة على بلدان العالم الإسلامي، وعلى الشعوب الإسلامية، طمعاً باستغلال الأرض واستعباد الناس والسيطرة على كل شيء وسيلة لتحقيق أهواء النفوس وشهواتها،وأن يكن لها العلو في الأرض. الثالث: الدافع الاقتصادي ومن الدوافع التي حرضت كثيراً من الغربيين على الدراسات الاستشراقية رغبتهم بغزو البلاد الإسلامية غزواً اقتصادياً،يهدفون فيه إلى الاستيلاء على الأسواق التجارية والمؤسسات المالية المختلفة والاستيلاء على الثروات الأرضية واستغلال الموارد الطبيعية والحصول عليها بأبخس الأثمان وإماتة الصناعات المحلية القديمة، لتكون بلاد المسلمين بلاد استهلاك لما تصدره المصانع الآلية الغربية. وضمن هذا الدافع وجهت المؤسسات الاقتصادية الغربية، من يهتمون بالدراسات الاستشراقية، ليكونوا وسطاءهم ورسلهم ومستشاريهم والمترجمين لهم في مهماتهم ومطالبهم الاقتصادية أو أبدت استعدادها لاستخدام من يعمل لهم في هذا المجال، فاتجه فريق من الغربيين لهذه الدراسات، طمعاً بأن يجدوا أعمالاً لهم لدى المؤسسات الاقتصادية. وظهر أيضاً فريق من الباحثين العلميين اهتم بالدراسات الاستشراقية، ليقوم نشر كتب التراث الإسلامي، والاستفادة من نشرها في تحصيل الثروات التي يحصل عليها الناشرون عادة. وهكذا صارت الدراسات الاستشراقية وسيلة من وسائل كسب المال لكثير من المستشرقين. ومن خلال معرفتنا لهذا الدافع نستطيع معرفة الهدف الغائي المرتبط به.

فهدف هذا الدافع: تحصيل الأموال والمطامع الاقتصادية. الرابع: الدافع السياسي قبل الاستعمار وبعد تحرر البلاد الإسلامية منه رأت الدوائر الاستعمارية أن حاجتها السياسية تقضي بأن يكون لها في قنصلياتها، وسفاراتها ومندوبيها في الأمم المتحدة وسائر المؤسسات الدولية، من لديهم زاد جيد من الدراسات الاستشراقية، ليقوم لهم هؤلاء بمهمات سياسية متعددة مرتبطة بالشعوب الإسلامية، وبلدان العالم الإسلامي، ومنها ما يلي: 1 ً- الاتصال بالسياسيين والتفاوض معهم، لمعرفة آرائهم واتجاهاتهم. 2 ً- الاتصال برجال الفكر والصحافة للتعرف على أفكارهم وواقع بلادهم. 3 ً- بث الاتجاهات السياسية التي تريدها دولهم، فيمن يريدون بثها فيهم، وإقناعهم بها. 4 ً- الاتصال بعملائهم وأجرائهم الذين يخدمون أغراضهم السياسية داخل شعوب الأمة الإسلامية. وكم بثَّ حاملو هذا الدافع في شعوب المسلمين من أفكار؟! وكم دسوا من دسائس؟! وكم استخدموا من أجراء لإثارة الفتن وإقامة ثورات وانقلابات عسكرية؟!. إلى غير ذلك من أعمال. ومن خلال معرفتنا لهذا الدافع نستطيع معرفة الهدف الغائي المرتبط به. فهدف هذا الدافع: تحقيق غايات سياسية، تريد تحقيقها الدول الموجهة لهذا النوع من الدراسات لتسيير دول العالم الإسلامي في أفلاكها. الخامس: الدافع العلمي النزيه ومن المستشرقين نفر قليل جداً أقبلوا على الدراسات الاستشراقية بدافع من حب الاطلاع على حضارات الأمم وأديانها وثقافاتها ولغاتها. وكان هؤلاء النفر من المستشرقين أقل من غيرهم خطأً في فهم الإسلام

وتراثه، لأنهم لم يكونوا يتعمدون أن يدسوا أو يحرفوا. لذلك جاءت بحوث هؤلاء أقرب إلى الحق، وإلى المنهج العلمي السليم، من أبحاث الجمهرة الغالبة من المستشرقين، بل منهم من اهتدى بدراسته إلى الإسلام، وآمن به، وانتمى إلى الأمة الإسلامية. على أن هؤلاء قلما يوجدون إلا حين يكون لهم من الموارد المالية الخاصة ما يمكنهم من الانصراف إلى الدراسات الاستشراقية بأمانة وإخلاص، لأن أبحاثهم المجردة عن الهوى الجانح لا تلقى رواجاً لا عند رجال الدين، ولا عند رجال السياسة، ولا عند عامة الباحثين الغربيين. بل كثيراً ما يتعرض هؤلاء لمضايقات ومقاومات شديدة، من قبل رجال الدين ورجال السياسة في بلدانهم. ولما كان الاستشراق النزيه الراغب بالبحث العلمي الحيادي المتجرد عن الهوى الجانح، لا يدر على مرتاديه مكاسب ومغانم، كان من الطبيعي أن يندر وجود هؤلاء المرتادين في أوساط المستشرقين. ومن خلال معرفتنا لهذا الدافع نستطيع معرفة الهدف الغائي المرتبط به. فهدف هذا الدافع: إشباع نهم علمي متجرد، وتحصيل معرفة صحيحة تتصل بأمة ذات علم، وحضارة أصيلة. وهؤلاء مع إخلاصهم في البحث والدراسة لا يسلمون من الأخطاء والاستنتاجات البعيدة عن الحق، إما لجهلهم بأساليب اللغة العربية، وإما لجهلهم بالأجواء الإسلامية التاريخية على حقيقتها، فيتصورونها كما يتصورون مجتمعاتها، ناسين الفروق الطبيعية والنفسية والزمنية التي تفرق بين الأجواء التاريخية التي يدرسونها، وبين الأجواء الحاضرة التي يعيشونها. ومن هؤلاء من يعيش بقلبه وفكره في جو البيئة التي يدرسها، فيأتي بنتائج تنطبق مع الحق والصدق والواقع، ولكن هؤلاء يلقون عنتاً من سائر المستشرقين، إذ سرعان ما يتهمون بالانحراف عن المنهج العلمي، أو الانسياق

وراء العاطفة، أو الرغبة في مجاملة المسلمين والتقرب إليهم، كما فعلوا مع "توماس أرنولد" حين أنصف المسلمين في كتابه العظيم "الدعوة إلى الإسلام"، فقد برهن فيه على تسامح المسلمين في جميع العصور مع مخالفيهم في الدين، على عكس مخالفيهم معهم. هذا الكتاب الذي يعتبر من أدق وأوثق المراجع في تاريخ التسامح الديني في الإسلام، يطعن فيه المستشرقون المتعصبون بأن مؤلفه كان مندفعاً بعاطفة قوية من الحب والعطف على المسلمين، مع أنه لم يذكر حادثة إلا أرجعها إلى مصدرها. ومن هؤلاء من يؤدي به البحث الخالص لوجه الحق إلى اعتناق الإسلام والدفاع عنه في أوساط أقوامهم الغربيين، كما فعل المستشرق الفرنسي الفنان "دينيه" الذي عاش في الجزائر فأعجب بالإسلام وأعلن إسلامه، وتسمى باسم ناصر الدين دينيه" وألف مع عالم جزائري كتاباً عن سيرة الرسول، وله كتاب "أشعة خاصة بنور الإسلام" بيَّن فيه تحامل قومه على الإسلام ورسوله، وقد توفي هذا المستشرق المسلم في فرنسا، ونقل جثمانه إلى الجزائر ودفن فيها. ومنهم أيضاً المستشرق "عبد الكريم جرمانوس" وهو عالم مجري اعتنق الإسلام في الهند، ولد سنة (1885) وتوفي سنة (1979م) وكان يتمنى أن يعيش مائة عام، لأن اللغة العربية في رأيه تحتاج إلى مائة سنة لفهمها. كان عضواً في المجمع اللغوي في القاهرة. أحب الإسلام واللغة العربية وخدمهما. ألف أكثر من مائة وخمسين كتاباً عن الإسلام، منها: 1- الله أكبر. 2- الحركات الحديثة في الإسلام. 3- شوامخ الأدب العربي. 4- معاني القرآن.

(5) مجالات أنشطة المستشرقين

5- دراسات في التركيبات اللغوية العربية. وقد أجاد عدة لغات منها الإنكليزية والفارسية والأردية والتركية مع العربية. ومنهم الطبيب الفرنسي "موريس بوكاي" صاحب كتاب "دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة" الذي أثبت فيه موافقة ما جاء في القرآن لأحدث الحقائق العلمية التي توصل إليها الناس بوسائلهم، بخلاف ما في الكتب التي يزعم أهل الكتاب من اليهود والنصارى أنها مقدسة. ومنهم المستشرق الأسباني الدكتور "سيمون هايك" كما نقل عنه: محمود بيومي في جريدة المدينة العدد (8203) الخميس 27/03/1410هـ. وغيرهم ممن عرفوا الحق واتبعوه. (5) مجالات أنشطة المستشرقين تخصص المستشرقون في مجالات الأنشطة المعرفية والتوجيهية العليا، منها: التعليم الجامعي، والمؤسسات العالمية لتوجيه التعليم والتثقيف، والوظائف الاستشارية العليا للدول الغربية، وتأليف وإصدار الكتب والموسوعات العلمية، وإصدار المجلات الثقافية، وعقد مؤتمرات وإلقاء محاضرات علمية، وعقد ندوات، ولقاءات حوار حول موضوعات يهم المستشرقين دس أفكارهم فيها، ونحو ذلك. وقد تفرغ منهم مجموعات متعددة لأداء المهمات الاستشراقية، في كل مجال من المجالات التالية: الأول: كراسي الدراسات الإسلامية العربية والشرقية بوجه عام، في الجامعات الغربية، واتخاذها بؤرة لاصطياد أبناء الشعوب الإسلامية، والتأثير عليهم فكرياً وسلوكياً ونفسياً. الثاني: تأسيس الجامعات العلمية في بلدان العالم الإسلامي خاصة

وبلدان الشرق عامة، لتخريج أجيال منسلخة من إسلامها، ومستعدة لتقبل المذاهب الفكرية المعاصرة الوافدة، ولكل ما يلقى إليها من أفكار ومبادئ. مثل: كلية بغداد التي أسسها المطران: "وليم آ - رايس) والأب: "إدوارد ف. مدارس" كما ذكر المبشر، الأب: "رتشرد يوسف مكارتي اليسوعي" في إهداءه لكتاب التمهيد للباقلاني، الذي حققه وأخرجه عام 1975م والجامعة الأمريكية في بيروت، والجامعة الأمريكية في مصر، والجامعة الأمريكية في تركيا. الثالث: إنشاء الموسوعات العلمية الإسلامية، والشرقية بوجه عام، التي تتناول الشرقيات من جميع جوانب المعرفة، واتخاذها وسيلة لدس الأفكار الاستشراقية السامة التي يريدون دسها، وإقناع أجيال الشعوب الإسلامية بها. والموسوعة الإسلامية التي أصدرها المستشرقون بعدة لغات، قد حُشد لها كبار المستشرقين، وأشدهم عداءً للإسلام،ودُسَّ فيها السم بالدسم، ونثرت فيها أباطيل كثيرة عن الإسلام والمسلمين، ومن المؤسف أنها مرجع لكثير من المثقفين من المسلمين، إذ يعتبرونها حجة فيما تورده من معارف حول قضايا إسلامية، وهي فيها غير نزيهة، لأن كتابها منحازون ضد معظم قضايا الإسلام والمسلمين. وكذلك الموسوعات العامة: كالموسوعة الفرنسية (لاروس) والموسوعة البريطانية. الرابع: عقد المؤتمرات الاستشراقية، لتبادل الرأي فيما يحقق أهداف الاستشراق، وما زالوا يعقدون هذه المؤتمرات منذ عام (1873م) وحتى الآن. الخامس: عقد الندوات ولقاءات التحاور الرامية إلى بث الأفكار الاستشراقية والترويج لها، وإقناع مثقفي العالم الإسلامي بها. وفي هذه الندوات ولقاءات التحاور يستدرجون بعض المسلمين من حيث يشعر هؤلاء أو لا يشعرون لتحريف الإسلام، دفاعاً عنه حيناً، وتطويعاً له حتى يساير المفاهيم الغربية حيناً آخر، بحيلة مرونة الشريعة الإسلامية.

السادس: إصدار المجلات الخاصة ببحوثهم حول الإسلام والمسلمين وشعوبهم وبلادهم وكل ما يتعلق بهم. السابع: إمداد إرساليات التبشير بالخبراء من المستشرقين، ودعمها بما تحتاج إليه من جهودهم. الثامن: تأليف الكتب في موضوعات مختلفات عن الإسلام، والرسول، والقرآن وتاريخ المسلمين ومجتمعاتهم. وفي معظم هذه الكتب كثير من التحريف المتعمد في نقل النصوص أو ابتسارها أو في فهمها واستنباط المعاني منها. وفيها أيضاً كثير من التحريف في تفسير الوقائع التاريخية، وتعليل أحداثها. ومن مظاهر تزييفهم ومغالطاتهم في الوقائع التاريخية التعميمات الفاسدة، إذ يأخذون الحوادث الفردية القليلة من حوادث التاريخ، ويتخذون منها قاعدة عامة شاملة يدينون بها كل الأفراد، ويعتبرونها صورة لكل تاريخ المسلمين، وهذا من التضليلات التي يرفضها أي باحث علمي، ولا يقبلها صغار العامة فضلاً عن المثقفين، فكيف بمن يدعون الأمانة العلمية، ويتظاهرون بالحرص عليها. وغدت هذه الكتب مرجعاً للمبشرين، ولكل الدارسين من المسلمين في الجامعات الغربية، ولكل المستغربين من أبناء الشعوب الإسلامية. التاسع: إلقاء المحاضرات في الجامعات، والجمعيات والأندية العلمية، ومن المؤسف أن أشدهم خطراً وعداءً للإسلام يستطيعون تحريك الأيدي الخفية لاستدعائهم إلى الجامعات العربية والإسلامية، لإلقاء المحاضرات التي يتحدثون فيها عن الإسلام، ويدسون فيها ما يستطيعون دسه من أفكار، رغبة في بثها والإقناع بها. العاشر: نقشر المقالات في المجلات والصحف المحلية للبلاد الإسلامية، لبث أفكارهم عن طريقها، والترويج لها بين المسلمين.

وقد استطاعوا أن يستأجروا عدداً من هذه المجلات والصحف لنشر مقالاتهم، والترويج لأفكارهم. واستطاعوا أيضاً أن يستأجروا كتاباً وأساتذة جامعيين وغير جامعيين، وأدباء وشعراء يحملون أفكارهم من أبناء الشعوب المسلمة وينشرونها بأقلامهم وألسنتهم ليكونوا أكثر تأثيراً في الأجيال الناشئة وهؤلاء هم أتباع المستشرقين وذيولهم وأجراؤهم وعملاؤهم من الشرقيين فهم شرقيون مستغربون. الحادي عشر: ووجه المستشرقون عناية عظمى لإفساد المرأة المسلمة، عن طريق دعوات تحريرها، وانطلاقها للعمل في شتى حقول المجتمع، وإعطائها - بحسب دعواهم المضللة - كامل حريتها وكامل حقوقها. وأثاروا الشبهات حول أحكام الإسلام الخاصة بشأن المرأة. وافتروا أنواعاً كثيرة من المفتريات. وتبع المستشرقين في ذلك غير المسلمين من مواطني البلاد الإسلامية ومعهم المستغربون الملاحدة والأجراء من أبناء المسلمين. ولما رأى أعداء الإسلام أن الريف في البلاد الإسلامية ظل بعيداً عن تيار الاستغراب، تحركوا بخطوات منظمة لإفساد الريف بوجه عام، وإفساد المرأة فيه بوجه خاص، فانطلق المستشرقون يخططون عن طريق التعليم في الريف لإقامة ما أسموه "التربية الأساسية"، وجاءت التوصيات بضرورة العناية بمراكز "التربية الأساسية" في الريف، لتؤدي دورها المرسوم لها، في إفساد الريف وتغريبه لا سيما المرأة فيه.

(6) أخطر وسائل المستشرقين الفكرية

(6) أخطر وسائل المستشرقين الفكرية التشكيك - إلقاء الشبهات - المغالطات - تزيين الأفكار البديلة - افتراء الأكاذيب - دس السموم الفكرية بخفاء وتدرج. ترجع الوسائل الفكرية الرئيسية التي استخدمها المستشرقون لهدم الإسلام وتجزئة المسلمين وتشويه تاريخ الأمة الإسلامية، وتشويه حاضرها، وخداع أجيال هذه الأمة بنبذ الإسلام واتباع مناهج وأساليب الحضارة المادية المعاصرة إلى الأصول التالية: 1- التشكيك في مصادر الدين الإسلامي وصحة نبوة الرسول. 2- إلقاء الشبهات حول أحكام الإسلام التشريعية ومصادرها. 3- المغالطات. 4- تزيين الأفكار البديلة. 5- افتراء الأكاذيب واختراع التعليلات والتفسيرات الباطلات. 6- التلطف في دس السموم الفكرية بصورة خفية ومتدرجة، حتى يبتلعها المغزوّون وهم لا يشعرون، وقد يأخذونها وهم فرحون بحلاوة ما يرافقها. ونلاحظ في مكتوباتهم حول الإسلام والمسلمين ما يلي: الأول: التشكيك في صحة رسالة النبي محمد، فجمهور المستشرقين ينكرون أن يكون محمد نبياً أوحى الله إليه، وأنزل عليه كتاباً من لدنه، ويتخبطون في تفسير مظاهر الوحي التي كان يراها أصحابه، لا سيما عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، فمن المستشرقين من يرجع ذلك إلى "صرع" كان ينتاب النبي حيناً بعد حين، ومنهم من يرجعه إلى تخيلات كانت تملأ ذهن النبي،ومنهم من يفسرها بمرض نفسي، إلى غير ذلك. مع أنهم لا ينكرون ظاهرة الوحي في الواقع الإنساني، لأنهم يعترفون بأنبياء التوراة، فهم إما يهود أو نصارى، وكل تفسير سلكوه لظاهرة الوحي عند

محمد يمكن أن تفسر به ظاهرة الوحي عند أنبيائهم الذين يعترفون هم بنبواتهم، إلا أن تعنتاً مبعثه التعصب الديني هو الذي جعلهم يفرقون بين أمرين متساويين تماماً، فيعترفون بأحدهما ويجحدون الآخر عصبية عمياء. الثاني: ويتبع التشكيك في رسالة محمد إنكارهم كون القرآن كتاباً منزلاً عليه من عند الله عز وجل، وحين يفحمهم ما ورد في القرآن من حقائق تاريخية عن الأمم الماضية، مما يستحيل صدوره عن أمي مثل محمد يزعمون ما زعمه المشركون الجاهليون في عهد الرسول، فيقولون: إن محمداً استمد هذه المعلومات من أناس كانوا يخبرونه بها، ويجعلون القرآن مأخوذاً من كتب أهل الكتاب، ويتخبطون في ذلك تخبطاً عجيباً. وحين يفحمهم ما جاء في القرآن من حقائق علمية لم تعرف ولم تكتشف إلا في هذا العصر، يرجعون ذلك إلى ذكاء محمد وعبقريته الخاصة، فيقعون في تخبط أشد غرابة من سابقه. الثالث: وإذ أنكروا رسالة محمد وزعموا أن القرآن ليس بكلام الله، لزمهم أن يعلنوا أن الإسلام ليس ديناً منزلاً من عند الله، وإنما هو ملفق من الديانتين اليهودية والنصرانية، وهم في هذا يخبطون خبط عشواء، إذ لا يملكون أي مستند يؤيده البحث العلمي السليم. جلُّ ما يملكونه ادعاءات تستند إلى وجود نقاط التقاء بين الإسلام والديانتين السابقتين، الأمر الذي يرجع في حقيقته إلى وحدة الرسالات الربانية في أصولها الصحيحة. ويلاحظ أن المستشرقين اليهود - أمثال "جولدتسيهر" و"شاخت" - هم أشد حرصاً على ادعاء استمداد الإسلام من اليهودية وتأثيرها فيه. أما المستشرقون المسيحيون فيجرون وراءهم في هذه الدعوى، إذ ليس في المسيحية تشريع يستطيعون أن يزعموا تأثر الإسلام به، وأخذه منه، وإنما في المسيحية مبادئ أخلاقية وبعض تعديلات تشريعية، زعموا أنها أثرت في الإسلام، ودخلت عليه منها، وقد يعممون من غير أي أصل يستندون عليه. ولم يكن التشابه في الأديان السابقة سبباً في نظرهم في إنكار المتأخر منها، ثم ليس المفروض في الديانات الربانية أن تتعارض أو تتناقض في أصلوها أو مبادئها أو تشريعاتها، بل المفروض فيها ما دام مصدرها واحداً أن تتلاقى

وتتفق، ويدعم بعضها بعضها، وأن يكون المتأخر منهما متمماً للسابق، وهذه هي حقيقة الدين الرباني، الذي أرسل الله لتبليغه للناس رسلاً تترى، وختمهم بمحمد بن عبد الله. الرابع: التشكيك في صحة الحديث النبوي الذي اعتمده علماء المسلمين المحققون، ويتذرع هؤلاء المستشرقون بما دخل على الحديث النبوي من وضع ودس، متجاهلين تلك الجهود التي بذلها علماء المسلمين لتنقية الحديث الصحيح، مستندين إلى قواعد بالغة الدقة في التثبت والتحري، مما لم يعهد عندهم في ديانتهم عشر معشاره في التأكد من صحة الكتب المقدسة عندهم. والذي حملهم على الشطط في دعواهم هذه ما رأوه في الحديث النبوي الذي اعتمده علماء المسلمين من ثروة فكرية وتشريعية مدهشة، وهم لا يؤمنون بنبوة الرسول محمد، فادعوا أن هذا لا يعقل أن يصدر كله عن رجل واحد أمي، إنما هو عمل المسلمين خلال القرون الثلاثة الأولى، فالعقدة النفسية عندهم هي عدم تصديقهم بنبوة محمد، ومن هذه العقدة تنبعث تخبطاتهم وأوهامهم. الخامس: التشكيك في قيمة الفقه الإسلامي الذاتية، ذلك التشريع العظيم الذي لم يجتمع مثله لجميع الأمم في جميع العصور. لقد سُقط في أيديهم حين اطلاعه على عظمته وهم لا يؤمنون بنبوة محمد، فلم يجدوا بداً من الزعم بأن هذا الفقه مستمد من القانون الروماني، أي: أنه مستمد من الغربيين، وقد بين علماء المسلمين الباحثون تهافت هذه الدعوى وفيما قرره مؤتمر الفقه المقارن المنعقد بلاهاي من أن الفقه الإسلامي فقه مستقل بذاته وليس مستمداً من أي فقه آخر، ما يفحم المتعنتين منهم، ويقنع المنصفين الذين لا يبغون غير الحق سبيلاً. السادس: التشكيك في قدرة اللغة العربية على مسايرة التطور العلمي، لتظل الأمة العربية المسلمة عالة على مصطلحات الغربيين، وبذلك تشعر هذه الأمة بفضل الغربيين وسلطانهم الأدبي.

والتشكيك في غنى الأدب العربي، وإظهاره على أنه مجدب فقير، بغية أن تتجه الأمة العربية إلى آداب الغربيين، وهذا هو الاستعمار الأدبي الذي يبغونه مع الاستعمار العسكري الذي يباشرونه. السابع: تشكيك المسلمين في قيمة تراثهم الحضاري، إذ يدعون أن الحضارة الإسلامية منقولة عن حضارة الرومان،وأن المسلمين لم يكونوا إلا نقلة لفلسفة تلك الحضارة وآثارها، ولم يكن لهم إبداع فكري ولا ابتكار حضاري، وحين يتحدثون بشيء من الحضارة الإسلامية وحسناتها، فإنما يذكرونها على مضض ومع انتقاص كبير. الثامن: إضعاف ثقة المسلمين بتراثهم، وبث روح الشك في كل ما بين أيديهم من قيم وعقيدة ومثل عليا، ليسهل على الاستعمار المباشر وغير المباشر تشديد وطأته عليهم، ونشر ثقافته الحضارية فيما بينهم، فيكونوا عبيداً لها،يجرهم حبها إلى حبهم أو إلى إضعاف روح المقاومة في نفوسهم. التاسع: إضعاف روح الإخاء الإسلامي بين المسلمين في مختلف أقطارهم، وذلك عن طريق إحياء القوميات القديمة، وإثارة النعرات بين شعوبهم، وإقامة الحواجز المصطنعة بين بلدانهم وأقاليمهم، وإقامة العقبات الكثيرة دون تقاربهم، ووحدة كلمتهم، ووحدة صفهم، والعمل على تعميق تجزئتهم في دويلات صغرى متعادية متناحرة. وفيما يلي أمثلة من افتراءاتهم: المثال الأول: يحاول فريق من المستشرقين إقناع العالم الغربي، والذين يتأثرون بهم من الشعوب الأخرى، ومن الجهلة من أبناء المسلمين، بأن الإسلام شكل جديد للوثنية، وأن محمداً نصب تمثاله الذهبي في الكعبة المحرمة بعد ما أخرج منها التماثيل والأصنام القديمة وكسرها. هذه فرية ظاهرة جداً، لا يقبلها من الغربيين أنفسهم، من اطلع على القدر اليسير من الأصول الإسلامية المنقولة بأمانة. المثال الثاني: فريتهم المفضوحة التي زعموا فيها أن محمداً أخذ

القرآن عن بحيرا الراهب في بصرى الشام، حين سافر مع عمه أبي طالب إلى الشام وهو غلام، وقد سبق شرح هذه الفرية. المثال الثالث: زعمهم أن الفقه الإسلامي مستمد من القانون الروماني، مع أن أي ناظر في مصادر التشريع الإسلامي يكتشف بأدنى تأمل أن الفقه الإسلامي مستنبط من القرآن والسنة، وأن أدلة مسائله أحكامه مبينة في كتب الفقه الإسلامي، فلا وجود لأية أمارة ظاهرة أو خفية تسمح بإثارة هذه الشبهة، فضلاً عن أن تتحول إلى قضية تطرح في ميدان البحث العلمي. المثال الرابع: الترويج للرواية التاريخية الساقطة التي تزعم أن القائد الأموي لجيش يزيد بن معاوية بعد أن أخضع المدينة المنورة، وقتل من أهلها من قتل، أباحها لجنوده ثلاثاً عملاً بوصية يزيد الذي أمره بذلك. المثال الخامس: تفسير الفتح الإسلامي بأنه لم يكن لنشر دين الله، ولإعلاء كلمته، وإنما كان هدفه الحصول على وسائل العيش الثرة،في بلاد الشام والعراق وفارس ومصر، والتخلص من ظروف العيش السيئ داخل الجزيرة العربية. المثال السادس: فرية بعضهم أن محمداً نقل معظم أصول الدين الإسلامي وفروعه من اليهودية والنصرانية، أو من الأمم الأخرى الهندية والفارسية، وصاغها بطريقته الخاصة صياغة عربية. هذه أمثلة مفضوحة مكشوفة، زيفها واضح، والافتراء فيها بين، ولكن توجد مئات القضايا الجزئية التي أدخلها المستشرقون في بياناتهم لمفاهيم الإسلام وتعاليمه، ومنها ما قد يخفى على بعض أهل العلم والخبرة لأن التحريف فيها يسير قد يظنه الخبير خطأً في الاجتهاد، أو قصوراً في الفهم. وهم يسلكون في الأفكار المحرفة أسلوب التدرج، إذ قد يبدأ التحريف بمقدار درجة واحدة من درجات الدائرة الهندسية، حتى إذا استقرت فكرة هذا التحريف انتقلوا إلى درجة وراءها، وهكذا تسلسلاً، حتى يكون بين المحرف والأصل مسافة كبيرة جداً.

وعلى الباحث أن يحذر الدسائس حذراً شديداً، وأن يكون على بصيرة دائمة، وارتباط وثيق بنصوص الإسلام الكبرى ومصادره الأولى، وما كان عليه سلف الأمة الصالح، وأن يغلب جانب الشك في كل ما يقوله المستشرقون وتلامذتهم من أفكار ومفاهيم وأخبار وروايات عن الإسلام وتاريخ الأمة الإسلامية، وحاضر العالم الإسلامي، وإن كان الكلام مغلفاً بالثناء والإطراء والتمجيد. فقد علمتنا الملاحظة والتجربة الطويلة أن كيد هؤلاء عظيم، قد يدخل على أكثر أهل العلم يقظة وحذراً. (7) موازين البحث عن المستشرقين نظرة عامة: يعتمد جمهور المستشرقين في تحرير أبحاثهم عن الشريعة الإسلامية على ميزان غريب بالغ الغرابة في ميدان البحث العلمي، فمن المعروف أن العالم المخلص يتجرد عن كل هوى وميل شخصي فيما يريد البحث عنه، ويتابع النصوص المراجع الموثوق بها، فما أدت إليه بعد المقارنة والتمحيص كان هو النتيجة الحتمية التي ينبغي له اعتمادها والأخذ بها. إلا أن أغلب المستشرقين يضعون في أذهانهم فكرة معينة يريدون تصيد الأدلة لإثباتها، وحين يبحثون عن هذه الأدلة لا تهمهم صحتها بمقدار ما يهمهم الاستفادة منها لدعم آرائهم الشخصية، وكثيراً ما يستنبطون الأمر الكلي من حادثة جزئية، ومن هنا يقعون في مفارقات عجيبة، لولا الهوى والغرض المريض لربأوا بأنفسهم عنها، وكثيراً ما يعتمدون على الوهم المجرد لتفسير الأمور، ويقيسون المسلم الذي يؤمن بالله ويخشاه على الذين لا تردعهم

دين ولا خلق قويم، ويعتبرون أن كل سلوك المسلمين أفراداً وجماعات، لا بد أن يفسر بالأغراض الشخصية والنوازع النفسية الدنيوية، وأن أي دافع ديني أخروي يبتغي به وجه الله لا وجود له عندهم، إلى غير ذلك من موازين ساقطة في نظر أي باحث علمي يخلص للحقيقة ويحترم منطقه وعقله. وفيما يلي طائفة من الأمثلة التي تكشف هذه الموازين عند المستشرقين، حينما يكتبون في الإسلام وتاريخ المسلمين. 1- في محاولة المستشرق "جولدتسيهر" لإثبات زعمه بأن الحديث في مجموعه من صنع القرون الثلاثة الأولى للهجرة، وليس من قول الرسول، ادعى أن أحكام الشريعة لم تكن معروفة لجمهور المسلمين في الصدر الأول من الإسلام، وأن الجهل بها وبتاريخ الرسول كان لاصقاً بكبار الأئمة، وقد حشد لذلك بعض الروايات الساقطة المتهافتة، من ذلك ما نقله عن كتاب "حياة الحيوان" للدميري، من أن أبا حنيفة رحمه الله لم يكن يعرف هل كانت معركة بدر قبل أحد أم كانت أحد قبلها!!. وما لا شك فيه أن أقل الناس اطلاعاً على التاريخ يرد مثل هذه الرواية، فأبو حنيفة وهو من أشهر أئمة الإسلام الذين تحدثوا عن أحكام الحرب في الإسلام حديثاً مستفيضاً، وذلك في فقهه الذي أثر عنه، وفي كتب تلامذته الذين نشروا علمه كأبي يوسف ومحمد، من غير المتصور بحال من الأحوال أن يكون جاهلاً بوقائع سيرة الرسول ومغازيه،وهي التي استمد منها فقهه في أحكام الحرب، ويكفي ذكر كتابين في فقهه في هذا الموضوع يعتبران من أهم الكتب المؤلفة في التشريع الدولي في الإسلام. أولهما - كتاب الرد على سير الأوزاعي لأبي يوسف رحمه الله. ثانيهما - كتاب السير الكبير لمحمد بن الحسن رحمه الله، وقد شرحه السرخسي وهو من أقدم وأهم مراجع الفقه الإسلامي في العلاقات الدولية، وقد طبع هذا الكتاب تحت إشراف جامعة الدول العربية، برغبة من جمعية محمد بن الحسن الشيباني للحقوق الدولية.

وفي هذين الكتابين يتضح إلمام تلامذة الإمام - وهم حاملو علمه - بتاريخ المعارك الإسلامية في عهد الرسول وعهد خلفائه الراشدين. و"جولدتسيهر" لا يخفى عليه أمر هذين الكتابين، وكان بإمكانه لو أراد الحق أن يعرف ما إذا كان أبو حنيفة جاهلاً بالسيرة أو عالماً بها، من غير أن يلجأ إلى رواية "الدميري" في كتابه "الحيوان" وهو ليس مؤرخاً، وكتابه ليس كتاب فقه ولا تاريخ، وإنما يحشر فيه كل ما يرى إيراده من حكايات ونوادر تتصل بموضوع كتابه،من غير بحث عن صحتها. ولا يخفى ما كان من أبي حنيفة ومعاصريه ومقلديهم من بعدهم من خصومة في المنهج الاجتهادي الذي اعتمده، وقد كانت هذه الخصومة مادة دسمة لرواة الأخبار ومؤلفي كتب الحكايات والنوادر، لنسبة حوادث وحكايات، منها ما يرفع من شأن أبي حنيفة، ومنها ما يضع من سمعته، وأكثرها ملفق مختلق، موضوع للمسامرة والتندر من قبل محبيه أو كارهيه على السواء، الأمر الذي يجعلها عديمة القيمة العلمية في نظر العلماء والباحثين. فـ"جولدتسيهر" أعرض عن كل ما دون من تاريخ أبي حنيفة تدويناً علمياً ثابتاً، واعتمد رواية مكذوبة ليدعم بها ما تخليه من أن السنة النبوية من صنع المسلمين في القرون الثلاثة الأولى. 2- أعرض المستشرق "جولدتسيهر" عما أجمعت عليه كتب الجرح والتعديل وكتب التاريخ، من صدق الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري رحمه الله (50-124هـ) ، وورعه وأمانته ودينه، وزعم أن الزهري لم يكن كذلك، بل كان يضع الحديث للأمويين، وهو الذي وضع حديث: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد إلخ..) لعبد الملك بن مروان، وكل حجته أن هذا الحديث من رواية الزهري، وأن الزهري كان معاصراً لعبد الملك ابن مروان!!. 3- يحاول المستشرقون أن يؤكدوا تعالي العرب الفاتحين عن المسلمين الأعاجم، وانتقاصهم من مكانتهم، وغرض المستشرقين من هذا إفساد قلوب

المسلمين من غير العرب على المسلمين من العرب، لإقامة الحواجز القومية بينهم. يقول المستشرق "بروكلمان" في كتابه "تاريخ الشعوب الإسلامية": "وإذا كان العرب يؤلفون طبقة الحاكمين فقد كان الأعاجم من الجهة الثانية هم الرعية، أي: القطيع. وجمعها رعايا كما يدعوهم، وهو تشبيه سامٍ قديم كان مألوفاً حتى عند الآشوريين". لقد تجاهل "بروكلمان" جميع الوثائق التاريخية التي تؤكد عدالة الفاتحين المسلمين، ومعاملتهم أفراد الشعب على السواء، من غير تفرقة بين عربي وغيره، وتعلق بلفظ "الرعية" تعلقاً لغوياً، واستنتج منها أن المسلمين نظروا إلى الأعاجم نظر القطيع من الغنم، ولو رجعنا إلى مادة "رعى" في قواميس اللغة وجدناها تقول كما يلي: "الراعي: الوالي. والرعية: العامة. ورعى الأمير رعيته رعاية. وكل من ولي أمر قوم فهو راعيهم، وهم رعيته، فعيلة بمعنى مفعول. وقد استرعاه إياهم استحفظه. واسترعيته الشيء فرعاه". فالراعي في اللغة يطلق على رئيس القوم وولي أمرهم، كما يطلق على راعي الغنم، والرعية تطلق في اللغة على القوم، ومن معاني الرعاية الحفظ والإحسان. فإطلاق لفظ الرعية على القوم وضع لغوي، ولم يجعل المسلمون إطلاق هذه الكلمة خاصاً بالأعاجم، بل إطلاقها شامل كل قوم عرباً كانوا أو عجماً، تبعاً للوضع اللغوي، والأحاديث في ذلك كثيرة معروفة، منها قول الرسول في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره: "ألا كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم، وعبد

الرجل راع على مال سيده وهو مسوؤل عنه، ألا فكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته". قال الحافظ ابن حجر في كتابه "فتح الباري 13/96" لدى شرحه هذا الحديث: "والراعي: هو الحافظ المؤتمن صلاح ما اؤتمن على حفظه، فهو مطلوب بالعدل فيه والقيام بمصالحه". وقد جاء أيضاً إطلاق الرعية على المسلمين في الحديث الذي رواه البخاري وغيره: "ما من والٍ يلي رعية من المسلمين، فيموت وهو غاشٌّ لهم إلا حرم الله عليه الجنة". فكيف أغمض "بروكلمان" عينيه عن هذا كله، واستجاز لعلمه أن يدعي بأن المسلمين نظروا إلى الأعاجم نظرة القطيع، وأنهم أطلقوا عليهم وحدهم لفظ الرعية؟ أليس هذا خيانة علمية، وتضليلاً مكشوفاً؟. أين ادِّعاؤه هذا من النصوص الكثيرة التي ألغت الفوارق القومية والعرقية واللونية، وجعلت المسلمين جميعاً سواسية في الحقوق العامة؟. إن الهوى الجانح والغرض المريض يعميان البصائر عن رؤية الحق، ويصمان الآذان عن سماعه. 4- زعم المستشرق "مايور" كما نقله عنه "مرجليوث" أن أهل البدو كانوا كثيري الاهتمام بتعلم البلاغة وطلاقة اللسان، أن النبي مارس هذا الفن حتى نبغ فيه. وهذا يعطينا صورة عن موازين البحث الفاسدة عند هؤلاء، حينما يبحثون المسائل المتعلقة بالإسلام. إن المسألة هنا عند "مايور" تقوم على استنتاج وهمي من أمرٍ لم يقع، فلا العرب كانوا يتعلمون البلاغة، ولا كانت لها مدارس وتلامذة يضعون قواعدها، ولا النبي عرف عنه قبل النبوة فعل ذلك، وليس

بين أيدينا نص واحد يثبته، بل إن المؤكد أن الرسول لم ينقل عنه أثر من نثر أو شعر قبل النبوة، وقبل أن يتنزل عليه القرآن الكريم. 5- يفرط المستشرقون في اختراع العلل والأسباب والحوادث التي يدرسونها اختراعاً ليس له سند إلا التخيل والتحكم، ويزيد في فساد أسلوبهم هذا أنهم يتخليون أحداث الشرق والعرب والمسلمين وعاداتهم وأخلاقهم، بأوهامهم وخيالاتهم الغريبة البعيدة عن واقع حال الشرق والعرب والمسلمين، ولا يريدون أن يعترفوا بأن لكل بيئة مقاييسها وأذواقها وعاداتها. وقد أحسن المستشرق الفرنسي المسلم "ناصر الدين دينيه" في حديثه عن أسلوب المستشرقين وموازينهم في الحكم على الأشياء، مما جعلهم يتناقضون فيما بينهم تناقضاً واضحاً في الحكم على شيء واحد، كل ذلك لأنهم حاولوا أن يحللوا السيرة المحمدية وتاريخ ظهور الإسلام بحسب العقلية الأوروبية، فضلوا بذلك ضلالاً بعيداً، لأن هذا غير هذا، ولأن المنطق الأوروبي لا يمكن أن يأتي بنتائج صحيحة في تاريخ الأنبياء الشرقيين. قم قال: إن هؤلاء المستشرقين الذين حاولوا نقد سيرة النبي بهذا الأسلوب الأوروبي البحث، لبثوا ثلاثة أرباع قرن يدققون ويمحصون بزعمهم، حتى يهدموا ما اتفق عليه الجمهور من المسلمين من سيرة نبيهم، وكان ينبغي لهم بعد هذه التدقيقات الطويلة العريضة العميقة أن يتمكنوا من هدم الآراء المقررة والروايات المشهورة من السيرة النبوية،فهل تسنى لهم شيء من ذلك؟ الجواب: أنهم لم يتمكنوا من إثبات أقل شيء جديد، بل إذا أمعنا النظر في الآراء الجديدة التي أتى بها هؤلاء المستشرقون، من فرنسيين وإنكليز وألمان وبلجيكيين وهولنديين وغيرهم لا نجد إلا خلطاً وخبطاً، وإنك لترى كل واحدٍ منهم يقرر ما نقضه غيره من هؤلاء المدققين بزعمهم، أو ينقض ما قرره.

(7) موازين البحث عند المستشرقين

ثم أخذ "دينيه" يورد الأمثال على هذه المتناقضات، وختم كلامه بقوله: "وإن أردنا استقصاء هذه المتناقضات التي نجدها بين تمحيصات هؤلاء الممحصين بزعمهم يطول بنا الأمر، ولا نقدر أن نعرف أية حقيقة، ولا يبقى أمامنا إلا أن نرجع إلى السيرة النبوية التي كتبها العرب، فأما المؤلفون الذين زعموا أنهم يريدون ترجمة محمد بصورة عملية شديدة التدقيق، فلم يتفقوا منها ولو على نقطة مهمة، وبرغم جميع ما نقبوه ونقروه، وحاولوا كشفه بزعمهم، فلم يصلوا ولن يصلوا إلا إلى تمثيل أشخاص في تلك السيرة،ليسوا أعرق في الحقيق الواقعية من أبطال أقاصيص "فالترسكوت" و"اسكندردوماس" فهؤلاء القصاص تخيلوا أشخاصاً من أبناء جنسهم يقدرون أن يفهموهم، ولم يلحظوا إلا اختلاف الأدوار بينهم، أما أولئك المستشرقون فنسوا أنه كان عليهم قبل كل شيء أن يسدوا الهوة السحيقة التي تفصل بين عقليتهم الغربية والأشخاص الشرقيين الذين يترجمونهم،وأنهم بدون هذه الملاحظة جديرون بأن يقعوا في الوهم في كل نقطة. (7) موازين البحث عند المستشرقين ويمكن تلخيص موازين البحث عند المستشرقين في الموضوعات الإسلامية بما يلي: 1- تحكيم الهوى ونزعات العداء للإسلام والمسلمين , والتعصب الأعمى للنصرانية، وللشعوب والأمم المنتمية إليها. 2- وضع الفكرة مقدماً ثم البحث عن أدلة تؤيدها مهما كانت ضعيفة واهية، ولو اضطرهم الأمر إلى اعتماد أسلوب المغالطات والأكاذيب، واقتطاع النصوص، وهذا عكس المنهج العلمي الاستدلالي السليم.

3- تفسير النصوص والحوادث والوقائع والنيات والغايات تفسيراً لا تتفق مع دلالاتها وأماراتها الحقيقة، ولا مع النتائج التي أثبتها تاريخ الأمة الإسلامية. 4- تضخيم الأخطاء الصغر، وجعلها تطغى على ساحة صورة تاريخ المسلمين، وطمس الصور الرائعة المشرقة في هذا التاريخ. 5- تجميع الهفوات التي لا تخلو منها أمة مهما عظمت كمالاتها، ووضعها في صورة واحدة، وتقديمها على أنها هي كل صورة تاريخ المسلمين. 6- تصيد الشبهات التي يشتبه وجه الحق فيها على كثير من الناس. ولا يستبين لهم ما لم يمتحنوها بالتجارب الطويلة، وإثارة الانتقادات حولها، وتحريك الزوابع المملوءة بالغبار وما تحمله من قمامات. وفي ذلك يستغلون أنانيات النفوس وأهواءها وشهواتها،ويستغلون شعارات خادعات براقة المظهر، زخرفية القول، كشعار حرية المرأة. 7- اعتماد ما يوافق هواهم من كل خبر ضعيف، ورأي مردود شاذ، وقول ساقط لا سند له من عقل ولا نقل صحيح. 8- رفض الحق بالنفي المجرد، الذي لا يدعمه دليل صحيح مقبول في المنهج العلمي السليم. 9- تفسير التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية بالمنظار الذي يفسرون به التاريخ الغربي والحضارة الغربية، مع تباين الواقعين عقيدة ونظاماً وشريعة، وبيئة ودوافع تبايناً كلياً. 10- استنباط القواعد الكلية العامة من الحوادث الفردية الجزئية، التي لا يصح منطقياً تعميمها. 11- الاعتماد على الوهم المجرد لتفسير الأمور والوقائع. 12- قياس المؤمن المسلم الذي يخشى الله على الذين لا تردعهم روادع دين ولا خلق.

(8) الجامعات الغربية وأثر المستشرقين فيها على المسلمين

وتفسيرهم لسلوك المسلمين أفراداً وجماعات بأنه مدفوع بأغراض شخصية، ونوازع نفسية دنيوية، وليس أثراً لدافع ابتغاء مرضاة الله وثواب الآخرة. (8) الجامعات الغربية وأثر المستشرقين فيها على المسلمين رافق جهود المستشرقين فتنة المسلمين بالحضارة المادية الغربية، ووقعهم فريسة خطط التحويل عن طريق برامج التعليم ومناهجه وأساليبه ومضامينه في كل العلوم بما فيها العلوم الإنسانية والعلوم الدينية والعربية وفتنة المسلمين بالشهادات التي تمنحها الجامعات الغربية، لا سيما شهادات الماجستير والدكتوراه، يضاف إلى ذلك غزو آخر ماكر، جعل الجامعات في بلاد المسلمين تحصر المراتب العلمية فيها بحملة هذه الشهادات العليا، وتؤثر وتقدم حامليها من الجامعات الغربية على حامليها من الجامعات الإسلامية، ووضعت بهذا الغزو الماكر شروط خاصة وشكليات معينة للتدريس في هذه الجامعات، وهذه الشروط والشكليات تحجب عن التدريس فيها الذين لا يحملون الشهادات العليا، مهما كانوا على درجة كبيرة من العلم، وتدفع إلى احتلال مراكز التعليم ونيل الألقاب الكبيرة حملة هذه الشهادات، وإن كانوا فارغين من العلم، ومحرومين من الإخلاص لدينهم وأمتهم، وإن كانوا أدوات لتنفيذ خطط الأعداء داخل بلادهم. مع أن الشهادات العليا الجارية على أصولها دون غش ولا تزوير، إنما هي أول الطريق الذي يهيئ للدارس الجاد وسائل متابعة المعرفة، فإما أن يبدأ الدارس -بعمله الذاتي- تكوين نفسه بالبحث الجاد الدؤوب، وإما أن يجعل الشهادة غاية ينتهي عندها، ويقف عند حدودها. وقد أعلن هذه الحقيقة البروفيسور "ارنولدون" إذ يقول كما جاء في كتاب: Revol Against Reason Prof. مطبوعة لندن عام 1948 ص192:

"إن عصرنا هو عصر عقدة الشهادات، فالماجستير والدكتوراه أصبحت غاية في حد ذاتها لشبابنا، ولكن كل ينسى هذه الحقيقة: وهي أن الماجستير والدكتوراه ما هي إلا حروف الأبجدية الأولى لبداية المعرفة، والمعرفة لا يمكن تخزينها في زجاجة الماجستير أو الدكتوراه. إن هذه لنظرة مزيفة،جامعاتنا هي فقط مؤسسات علمية لإعداد الطلبة ليتعرفوا على كيفية التحصيل العلمي والمعرفة" اهـ. وقد أدرك المبشرون والمستشرقون عقدة الشهادات في البلاد الإسلامية، فوجهوا توصيتهم للجامعات الغربية، بشراء من يستطيعون شراءه من أبناء المسلمين بالشهادات، فقد جاء ما يلي في كتاب المشكلة الشرقية Eastern Problem London. 1957-P.149: " لا شك أن المبشرين فيما يتعلق بتخريب وتشويه عقيدة المسلمين قد فشلوا تماماً، ولكن هذه الغاية يمكن الوصول إليها من خلال الجامعات الغربية، فيجب أن تختار طلبة من ذوي الطبائع الضعيفة والشخصية الممزقة والسلوك المنحل من الشرق ولا سيما من البلاد الإسلامية، وتمنحهم المنح الدراسية، حتى تبيع لهم الشهادات بأي سعر، ليكونوا المبشرين المجهولين لنا، لتأسيس السلوك الاجتماعي والسياسي الذي نصبوا إليه في البلاد الإسلامية. إن اعتقادي لقوي بأن الجامعات الغربية يجب أن تستغل استغلالاً تاماً جنون الشرقيين للدرجات العلمية والشهادات. واستعمال أمثال هؤلاء الطلبة كمبشرين ووعاظ ومدرسين لأهدافنا ومآربنا باسم تهذيب المسلمين والإسلام". تحت كل هذه المؤثرات المتعددة اندفع فريق من أبناء المسلمين إلى الجامعات الغربية، لنيل شهادة الماجستير والدكتوراة في مختلف العلوم، بما في ذلك العلوم الدينية والعلوم العربية، والعلوم الإنسانية والاجتماعية، التي أولاها المستشرقون عناية خاصة، لجعلها شبكة مقنعة لاصطياد أبناء المسلمين، وبنائهم بناء جديداً، يجعلهم خدام أغراض الاستشراق وأغراض التبشير والاستعمار، في أفكارهم ومفاهيمهم وفي أعماله وتنظيماتهم، داخل بلاد المسلمين من حيث يشعرون أو من حيث لا يشعرون، ويمنحونهم الشهادات العليا، والألقاب العلمية الكبيرة، لأقل بحث يكتبونه في غير العلوم البحتة،

ويربطون من يربطون منهم بوسائلهم الكثيرة، الموصولة بأجهزتهم المستورة، ويعودون إلى بلادهم وقد امتلأت نفوسهم غروراً، يضاف إلى ذلك ما تعرضوا إليه من تحول في السلوك، ضمن البيئات الغربية التي أقاموا فيها خلال فترة التحصيل , وافتتان بمظاهر الحضارة المادية التي شاهدوها. وسقطت معظم الجامعات المنشأة في بلاد المسلمين تحت الأيدي الخفية للاستشراق والتبشير والدوائر الاستعمارية، وغدت خططها ومناهجها وتوجيهاتها تخضع بطريق غير مباشر لما تفرضه وتمليه هذه الأيدي الخفية، وغدت الكنيسة الغربية تفخر بأن العلوم الإسلامية والعلوم العربية تدرس على طريقتها التي تخدم أغراضها في بلاد المسلمين، وبأن المشرفين على تدريس هذه العلوم من تلامذة أبنائها. وأي انتكاس أقبح من هذا الانتكاس، أن يتعلم المسلمون دينهم ولغاتهم وفق طرائق أعدائهم وأعداء دينهم، ووفق دسائسهم وتشويهاتهم وتحويراتهم وأكاذيبهم وافتراءاتهم. هل يقبل اليهود والنصارى أن يتعلموا أصول ديانتهم وفروعها على أيدي علماء المسلمين وأن يأخذوا منهم الشهادات لذلك؟. فما بال المسلمين يسقطون من هذا الانتكاس الشائن؟ إن الاستعمار المادي المباشر أهون من هذا اللون من ألوان الاستعمار، الذي وصل إلى القاعدة الكبرى التي تقوم عليها الأمة الإسلامية، وهي قاعدة دينها وعلومها المتصلة بهذا الدين. وتأثر كثيرون من الذين درسوا في الجامعات الغربية من أبناء المسلمين بدراسات المستشرقين، وانخدعوا بأساليبهم, وأخذوا يرددون شبهاتهم ويروجون لها بين المسلمين ويعتبرونها حقائق علمية مسلماً بها، وأخذوا يعلمونها طلابهم من المسلمين، ويكتبون فيها المؤلفات العديدة، وتعمل الدوائر الاستعمارية على ترويج هذه الكتب، ودعم مؤلفيها، ودفعهم بأيد خفية إلى أعلى مراكز الإدارة والتوجيه داخل بلادهم، للاستفادة منهم في خدمة أغراض التبشير والاستعمار، وفي تهديم الإسلام وتشويه تاريخ المسلمين.

وغدا كثير من الكتاب في العلوم الإسلامية، وفي التاريخ الإسلامي، وفي اللغة العربية، لا يرجع إلا إلى ما كتبه المستشرقون، ويعتبرون ذلك أفضل المصادر التي يرجعون إليها، أما المصادر الإسلامية فلا يكلفون نفوسهم عناء الرجوع إليها، ولا البحث فيها، ثقة عمياء بما كتبه المستشرقون، أو خدمة مأجورة لما توجههم له الدوائر الاستعمارية، وأجهزة الاستشراق، وجمعيات التبشير. ومن غريب الأباطيل التي يروجها المستشرقون ما حدثنيه الأستاذ الدكتور (وصفي أبو مغلي) عن صديقه وأستاذه الدكتور (بحر محمد بحر) وهو سوداني ويعمل مدرساً في جامعة عين شمس في مصر، أنه حينما كان يدرس في انجلترا، قال أحد المدرسين وهو يتحدث عن الحضارة الإسلامية: كان إله محمد الناقة التي كان يركبها، والدليل على ذلك أنه حينما هادر إلى المدينة ودعاه أهلها للنزول عندهم قال لهم: دعوا الناقة حيث تبرك، فاستدل من ذلك على أنه كان يعبد الناقة ويتلقى منها الوحي. هل يحتاج مثل هذا التضليل إلى تعليق أكثر من إطلاق ضحكات سخرية وتعجب؟!. شهادة صدق عرض الأستاذ الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله لقاءاته المباشرة لعدد من المستشرقين في جولة طاف فيها على أكثر جامعات أوربا عام (1956 م) ، وما جرى بينه وبينهم من أسئلة ومناقشات، واستخلص من هذه الجولة النتائج التالية: أولاً: أن المستشرقين - في جمهورهم- لا يخلو أحدهم من أن يكون قسيساً أو استعمارياً أو يهودياً، وقد يشذ عن ذلك أفراد. ثانياً: أن الاستشراق في الدول الغربية غير الاستعمارية _ كالدول السكندنافية _ أضعف منه عند الدول الاستعمارية.

ثالثاً: أن المستشرين المعاصرين في الدول غير الاستعمارية يتخلون عن "جولدتسيهر" وأمثاله المفضوحين في تعصبهم. رابعاً: أن الاستشراق بصورة عامة ينبعث من الكنيسة، وفي الدول الاستعمارية يسير مع الكنيسة ووزارة الخارجية جنباً إلى جنب، ويلقى منهما كل تأييد. خامساً أن الدول الاستعمارية كبريطانيا وفرنسا ما تزال حريصة على توجيه الاستشراق وجهته التقليدية، من كونه أداة هدم للإسلام وتشويه لسمعة المسلمين. ففي فرنسا لا يزال "بلاشير" و"ماسينيون" وهما شيخا المستشرقين الفرنسيين في وقتنا الحاضر يعملان في وزارة الخارجية الفرنسية، كخبيرين في شؤون العرب والمسلمين. وفي إنكلترا رأينا أن الاستشراق له مكان محترم في جامعات لندن وأكسفورد وكمبردج وأدنبرة وجلاسكو وغيرها، ويشرف عليه يهود وإنكليز استعماريون ومبشرون، وهم يحرصون على أن تظل مؤلفات "جولدتسيهر" و"مرجليوث" ثم "شاخت" من بعدهما، هي المراجع الأصلية لطلاب الاستشراق من الغربيين، وللراغبين في حمل شهادة الدكتوراة عندهم من العرب والمسلمين، وهم لا يوافقون على رسالة لطلب الدكتوراه يكون موضوعها إنصاف الإسلام، وكشف دسائس أولئك المستشرقين. وأثبت في غضون مقاله أسماء أخطر المستشرقين المعاصرين وأهم في رسالة صادرة عن دار البيان في الكويت عام (1387هـ) . أما لقاءاته للمستشرقين فقد ذكر فيها عليه رحمة الله ما يلي، تحت عنوان: (مع المستشرقين وجهاً لوجه في أوروبا) : "لقد كنت كتبت عن المستشرقين كلمة موجزة في كتابي "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" قبل أن أزور أكثر جامعات أوربا عام (1956م) وأختلط

بهم وأتحدث إليهم وأناقشهم. فلما تم لي ذلك ازددت إيماناً بما كتبته عنهم، واقتناعاً بخطرهم على تراثنا الإسلامي كله سواء كان تشريعياً أم حضارياً، لما يملأ نفوسهم من تعصب ضد الإسلام والعرب والمسلمين. كان أول من اجتمعت بهم هو البروفسور "أندرسون" رئيس قسم قوانين الأحوال الشخصية المعمول بها في العالم الإسلامي - في معهد الدراسات الشرقية في جامعة لندن - وهو متخرج من كلية اللاهوت في جامعة "كمبردج"، وكان من أركان حرب الجيش البريطاني في مصر خلال الحرب العالمية الثانية ـ كما حدثنا هو بذلك عن نفسه ـ, تعلم اللغة العربية من دروس اللغة العربية التي كان يلقيها بعض علماء الأزهر في الجامعة الأميركية في القاهرة، ساعة واحدة في كل أسبوع لمدة سنة واحدة. كما تعلم العامية المصرية من اختلاطه بالشعب المصري حين توليه عمله العسكري الآنف الذكر، وتخصص في دراسة الإسلام من المحاضرات العامة التي كان يلقيها المرحوم "أحمد أمين" والدكتور "طه حسين" والمرحوم الشيخ "أحمد إبراهيم". ثم انتقل من الخدمة العسكرية بعد الحرب إلى رئاسة قسم قوانين الأحوال الشخصية في جامعة (لندن) كما ذكرنا. لا أريد أن أذكر أمثلة عن تعصبه ضد الإسلام وقد حدثني كثيراً ذلك المرحوم الدكتور (حمود غرابة) مدير المركز الثقافي الإسلامي في لندن حينذاك. ولكني أكتفي بأن أذكر ما حدثني به البروفسور "أندرسون" نفسه، من أنه أسقط أحد المتخرجين من الأزهر، الذين أرادوا نوال شهادة الدكتوراه في التشريع الإسلامي من جامعة لندن، لسبب واحد هو أنه قدم أطروحته عن حقوق المرأة في الإسلام، وقد برهن فيها على أن الإسلام أعطى المرأة حقوقها الكاملة، فعجبت من ذلك، وسألت هذا المستشرق: وكيف أسقطته ومنعته من نوال الدكتوراه لهذا السبب، وأنتم تدعون حرية الفكر في جامعاتكم؟ قال: لأنه كان يقول: الإسلام يمنح المرأة كذا، والإسلام قرر للمرأة كذا, فهل هو ناطق رسمي باسم الإسلام؟ هل هو أبو حنيفة أو الشافعي حتى يقول هذا

الكلام ويتكلم باسم الإسلام؟ إن آراءه في حقوق المرأة لم ينص عليها فقهاء الإسلام الأقدمون، فهذا رجل مغرور بنفسه حين ادعى أنه يفهم الإسلام أكثر مما فهمه أبو حنيفة والشافعي. وزرت جامعة أدنبرة "اسكتلندة"، فكان المستشرق الذي يرأس الدراسات الإسلامية فيها قسيساً بلباس مدني، وقد وضع لقبه الديني مع اسمه على باب بيته. وفي جامعة "جلاسكو" (استكلندة أيضاً) كان رئيس الدراسات العربية فيها قسيسا عاش رئيساً للإرسالية التبشيرية في القدس قرابة عشرين سنة، حتى أصبح يتكلم العربية كأهلها. وقد حدثني بذلك عن نفسه في الزيارة، وكنت قد اجتمعت به قبل ذلك في المؤتمر الإسلامي المسيحي الذي انعقد في "بحمدون" (لبنان) عام (1954م) . وفي جامعة أكسفورد وجدنا رئيس قسم الدراسات الإسلامية والعربية فيها يهودياً يتكلم العربية ببطء وصعوبة، وكان أيضاً يعمل في دائرة الاستخبارات البريطانية في ليبيا خلال الحرب العالمية الثانية، وهناك تعلم العربية العامية، ثم عاد إلى بلاده انكلترا ليرأس هذا القسم في جامعة اكسفورد. ومن العجيب أني رأيت في منهاج دراساته التي يلقيها على طلاب الاستشراق: تفسير آيات من القرآن الكريم من الكشاف للزمخشري - وهو لا يحسن فهم عبارة بسيطة في جريدة عادية - ودراسة أحاديث من البخاري ومسلم، وأبواب من الفقه في أمهات كتب الحنفية والحنابلة، وسألته عن مراجع هذه الدراسات: فأخبرني أنها من كتب المستشرقين أمثال: جولدتسيهر؛ ومرجليوث، وشاخت، وحسبك بهؤلاء عنواناً على الدراسات المدخولة المدسوسة الموجهة ضد الإسلام والمسلمين. أما في جامعة كمبردج فكانت رئاسة قسم الدراسات العربية والإسلامية فيها للمستشرق المعروف "آربري" واختصاصه في اللغة العربية فحسب. وقد قال لي - خلال أحاديثي معه _: بأننا نحن المستشرقين نقع في أخطاء كثيرة في

بحوثنا عن الإسلام، ومن الواجب أن لا نخوض في هذا الميدان، لأنكم _ أنتم المسلمين العرب - أقدر منا على الخوض في هذه الأبحاث, وربما قال هذه مجاملة أو اعتقاداً منه بصحته. وفي مانشستر (انكلترا) اجتمعت بالبروفسور "روبسون" وكان يقابل سنن أبي داود على نسخة مخطوطة، وله كتابات في تاريخ الحديث، يتفق فيها غالباً مع آراء المستشرقين المتحاملين، وقد حرصت على أن أبين له أن الدراسات الاستشراقية السابقة فيها تحامل وبعد عن الحقيقة, وتعرضت لآراء جولدتسيهر, وأثبت له أخطاءه التاريخية والعلمية، فكان مما أجاب به عنه: "لا شك أن المستشرقين في هذا العصر أكثر اطلاعاً على المصادر الإسلامية من جولدتسيهر نظراً لما طبع ونشر وعرف من مؤلفات إسلامية كانت غير معلومة في عصر جولدتسيهر". فقلت له: أرجو أن تكون أبحاثكم - المستشرقين - في هذا العصر أقرب إلى الحق والإنصاف من جولدتسيهر، ومرجليوث، وأمثالها. فقال: أرجو ذلك. سوفي جامعة "ليدن" بهولندا اجتمعت بالمستشرق الألماني اليهودي "شاخت" وهو الذي يحمل في عصرنا هذا رسالة "جولدتسيهر" في الدس على الإسلام، والكيد له، وتشويه حقائقه، وباحثته طويلاً في أخطاء "جولدتسيهر" وتعمده تحريف النصوص التي ينقلها عن كتبنا، فأنكر ذلك أول الأمر، فضربت له مثلاً واحداً مما كتبه جولدتسيهر - وكنا نجلس في مكتبته الخاصة _فقال: معك الحق، إن جولدتسيهر أخطأ هنا. قلت له: هل هو مجرد خطأ؟ فاحتد وقال: لماذا تسيؤون الظن به؟ فانتقلت إلى بحث تحليله لموقف الزهري من عبد الملك ابن مروان، وذكرت له من الحقائق التاريخية ما ينفي ما زعمه جولدتسيهر وبعد مناقشة في هذا الموضوع قال: وهذا خطأ أيضاً من جولدتسيهر، ألا يخطئ العلماء؟ قلت له: إن جولد تسيهر هو مؤسس المدرسة الاستشراقية التي تبني حكمها في التشريع الإسلامي على وقائع التاريخ نفسه، فلماذا لم يستعمل مبدأه هنا حين تكلم عن الزهري؟ وكيف جاز له أن يحكم على الزهري بأنه

وضع حديث فضل المسجد الأقصى إرضاءً لعبد الملك ضد ابن الزبير، مع أن الزهري لم يلق عبد الملك إلا بعد سنوات من مقتل ابن الزبير؟ وهنا اصفر وجه "شاخت" وأخذ يفرك يدا بيد، وبدا عليه الغيظ والاضطراب، فأنهيت الحديث معه بأن قلت له: لقد كان مثل هذه "الأخطاء" كما تسميها أنت، تشتهر في القرن الماضي، وينتاقلها مستشرق منكم عن آخر على أنها حقائق علمية، قبل أن نقرأ -نحن المسلمين- تلك المؤلفات إلا بعد موت مؤلفيها، أما الآن فأرجو أن تسمعوا منا ملاحظاتنا على "أخطائكم" لتصححوها في حياتكم قبل أن تتقرر كحقائق علمية. ومن الملاحظ أن هذا المستشرق كان يدرس في جامعة القاهرة - فؤاد سابقا - وله مؤلف في تاريخ التشريع الإسلامي كله دس وتحريف، على أسلوب شيخه جولدتسيهر. وفي جامعة "أبسلا" في السويد التقيت بالشيخ المستشرق "نيبرج" وهو الذي كان قد أشرف على تصحيح كتاب "الانتصار لابن الخياط" - على ما أظن - وطبعته قديما "لجنة التأليف والترجمة في القاهرة"، وجرى بيني وبينه حديث طويل كان أكثره حول أبحاث المستشرقين ومؤلفاتهم عن الإسلام وتاريخه، وجعلت "جولدتسيهر" محور الحديث عن المستشرقين، وذكرت له أمثلة من أخطائه وتحريفه للحقائق، فكان مما قاله بعد ذلك: إن جولدتسيهر كان في القرن الماضي ذا شهرة علمية، ومرجعا للمستشرقين، أما في هذا العصر - بعد انتشار الكتب المطبوعة في بلادكم عن العلوم الإسلامية - فلم يعد جولدتسيهر مرجعا كما كان في القرن الماضي.. لقد مضى عهد جولتسيهر في رأينا. وقد أتيح لي خلال تلك الرحلة أن أواصل زيارة الجامعات عدا ما ذكرته منها في عواصم كل من: (بلجيكا) و (الدانيمرك) و (النرويج) و (فنلندا) و (ألمانيا) و (سويسرا) و (فرنسا) ، واجتمعت بمن كان موجودا فيها حينئذ من المستشرقين".

(9) مقارنة بين التبشير والاستشراق وأعمالها

(9) مقارنة بين التبشير والاستشراق وأعمالها مما كتب الأستاذ "إبراهيم خليل أحمد" في كتابه "المستشرقون والمبشرون في العالم العربي والإسلامي" أستفيد المقارنة التالية، ومن الجدير بالذكر أن المذكور قد كان قسيساً وعاملاً في مضمار التبشير بالمسيحية بين المسلمين، ثم هداه الله إلى اعتناق الإسلام، فهو ذو خبرة مباشرة بالعمل التبشيري، وعلى اطلاع حسن بأعمال المستشرقين وأهدافهم، وقد كشف بعد اعتناقه الإسلام كثيرا من الحقائق التي يعرفها، وقدم بها شهادة عارف خبير. أ- التبشير والاستشراق دعامتان من دعائم الاستعمار، وعملاء التبشير والاستشراق عملاء للاستعمار وخدام لسياسته، وإن ظهروا بوجوه مقاومة الاستعمار وتحرير البلاد منه. ب- تقاسم التبشير والاستشراق والاستعمار جوانب الأعمال المقررة في الخطة العامة لغزوة الإسلام والمسلمين وديار الإسلام. فحمل الاستشراق أعباء الأعمال في ميادين المعرفة الأكاديمية، وادعى لبحثه الطابع العلمي العالي، واستخدم الكتابة والتأليف وإلقاء المحاضرات، والمناقشات في المؤتمرات العلمية العامة، وكراسي التدريس في الجامعات. فألف المستشرقون المؤلفات الكثيرة، وألقوا المحاضرات والدروس الكثيرة، وجمعوا الأموال، وأنشأوا الجمعيات الاستشراقية، وعقدوا المؤتمرات، وأصدروا الصحف والمجلات، وسلكوا مسالك أخرى كثيرة، مما رجوا أن يحقق أهدافهم. وحمل التبشير أعباء الدعوة الجماهيرية، في حدود مظاهر العقلية العامة، التي تتناسب مع مفاهيم الجماهير، استخدم وسائل التعليم المدرسي في دور الحضانة ورياض الأطفال والمراحل الابتدائية والثانوية للبنين والبنات، واستخدم أيضا إنشاء المؤسسات الخيرية التي تتظاهر بالعمل الخيري، كالمستشفيات، ودور الضيافة، والملاجئ للكبار، ودور

الأيتام، وكان له نشاط دعائي عن طريق الطباعة والنشر والأعمال الصحفية. ج- استطاع الأمريكيون تحت لواء الامتيازات الممنوحة للأجانب، وباسم الصداقة للشعوب الآسيوية الأفريقية أن يغزوا آسيا وأفريقية بوفود المبشرين والمستشرقين، واستطاعوا بأموالهم أن يؤسسوا لهم مراكز تبشيرية وعلمية كثيرة في العالم الإسلامي. د- يسير العمل التبشيري في البلاد التي تتمتع باستقلالها وحريتها مستخدما أسلوب الدهاء المكر، وذلك باستخدام تلاميذ المبشرين والمستشرقين من الوطنيين، حتى لا يصطدموا بقوانين البلاد فيكرهوا على الرحيل الفوري. هـ - استعان التبشير بالقوى العسكرية الاستعمارية ليقوم بمهماته وهو آمن على نفسه، واستعان بأفكار ومؤلفات المستشرقين. و ينقسم العمل التبشيري ثلاثة أقسام: 1- التبشير بين الجماعات: وهذا يحدث بالمدارس والمستشفيات والندوات الدينية العامة. 2- التبشير مع الفرد الواحد: وهذا يحتاج إلى مثابرة وصبر واستعداد للترحاب بالضيف، وإظهار كل إمكانيات الود والصداقة، حتى يأنس إليه الفرد ويثق به،وهنا يصبح آلة مسخرة يكيفها المبشر كما يشاء، ويصل بها إلى النصرانية طواعية واختياراً. 3- العمل التبشيري الصامت: ويكون هذا بتوزيع الكتاب المقدس، وتوزيع النشرات الدينية، والصور، والأيقونات. ز- من الكتب الجدلية التي يستعين بها المبشر للوصول إلى غايته ما يلي: 1- كتاب "ميزان الحق" للدكتور فاندر المستشرق الأمريكي، والدكتور سنكلير تسدل.

2- كتاب "الهداية" ويقع في أربع أجزاء، وهو يشتمل على مطاعن كثيرة للإسلام والقرآن الكريم. 3- كتاب "مقالة في الإسلام" تأليف المستشرق الدكتور سال. 4- كتاب "مصادر الإسلام" تأليف الدكتور سنكلير تسدل. وهذه الكتب الأربعة تعتبر للمستشرقين والمبشرين من أخطر المراجع، للهجوم على الإسلام والقرآن والرسول محمد صلوات الله عليه. ح - نجح التبشير والاستشراق والاستعمار في كثير من البلاد الإسلامية بتربية أجيال متعاقبة، لا تفقه الإسلام، ولا تحفظ القرآن إلا آيات معدودة، ولذا كان من اليسير جداً غزوهم غزواً فكرياً واسعاً. ط- يدعو المبشرون والمستشرقون إلى قراءة الكتب ضمن الخطط التي يرسمونها، فيؤسسون المكتبات العامة، ويؤثثونها بكل وسائل الراحة للقراء والمطالعين، ويزودونها بمختلف أنواع الكتب في شتى العلوم والفنون، وبدار طباعة لطبع جريدة أسبوعية باسم الصداقة، ويرسلونها إلى المترددين على مكتباتهم العامة، ويستغلون المكتبة في القيادة التوجيهية للمترددين عليها، ويعملون مسابقات في المطالعة بتلخيص مجموعة في المكتب تختار من بين مجموعة تعرضها لجنة المكتبة، ويمنحون جوائز تشجيعية في حفل رائع للفائزين. ي- لم يكن المبشرون ولا معظم المستشرقين يوما ما ينصفون الحقيقة العلمية للعلم بل كانت أبحاثهم موسومة بصورة واضحة من أسس عقائدهم، ومقاصدهم الخبيثة. ك- سلك المبشرون والمستشرقون كل مسلك ظنوه محققاً لأهدافهم، واستطاعوا أن يتسللوا إلى المجمع اللغوي بمصر، والمجمع العلمي بدمشق، والمجمع العلمي ببغداد، كما تدخلوا - بتأييد من الاستعمار - في مجال التربية والتعليم محاولين غرس مبادئ التربية الغربية في نفوس المسلمين، ونجحوا في هذا إلى حدٍ كبير.

فمن المستشرقين الذين اشتركوا في المجالات العلمية الرسمية المستشرقون التالية أسماؤهم: 1- هـ ا. ر. جب، أكبر مستشرق إنكليزي، وكان عضوا بالمجمع اللغوي بمصر، وهو الآن أستاذ الدراسات الإسلامية والعربية في جامعة هارفارد الأمريكية، ومن كبار محرري وناشري (دائرة المعارف الإسلامية) ، وله كتابات كثيرة فيها عمق وخطورة، وهذا هو شر خطورته. 2- لوي ماسينيون، أكبر مستشرق فرنسي معاصر، وهو مستشار وزارة المستعمرات الفرنسية في شؤون شمال أفريقية، والراعي الروحي للجمعيات التبشيرية الفرنسية في مصر، وكان عضوا بالمجمع اللغوي المصري، والمجمع العلمي العربي بدمشق، وهو متخصص في الفلسفة والتصوف الإسلامي. 3- د. س. مرجوليوث، مستشرق إنكليزي متعصب ضد الإسلام، ومن محرري (دائرة المعارف الإسلامية) ، كان عضواً بالمجمع اللغوي المصري، والمجمع العلمي بدمشق. 4- ر. ا. نيكولسون، كان من أكبر مستشرقي إنجلترا المعاصرين، ومن محرري (دائرة المعارف الإسلامية) ، تخصص في التصوف الإسلامي والفلسفة، وكان عضواً بالمجمع اللغوي بمصر، وهو من المنكرين على الإسلام أنه دين روحي، ويصفه بالمادية وعدم السمو الإنساني. 5- جريفني، الإيطالي، وكان عضواً بالمجمع العلمي بدمشق. 6- جوتهيل، الكولومبي، وكان عضواً بالمجمع العلمي بدمشق. 7- جويدي، الإيطالي، وكان عضواً بالمجمع العلمي بدمشق. 8- جي سو، الفرنسي، وكان عضواً بالمجمع العلمي بدمشق.

9- نالينو، الإيطالي، وكان عضواً بالمجمع العلمي بدمشق، وهو مشهور بكتاباته ضد الإسلام. 10- هارتمان، ألماني الأصل، وكان عضواً بالمجمع العلمي بدمشق، ومن مؤلفاته: "الإسلام والقومية". 11- م. هوتمان، الهولندي، وكان عضوا بالمجمع العلمي بدمشق، ومن محرري (دائرة المعارف الإسلامية) . ل- يعمل المستشرقون وفق خطط مدروسة، إذ يجتمعون في هيئة مؤتمرات بين الحين والحين، وكذلك يعمل المبشرون. م- من المستشرقين نفر اشتغلوا بالآداب الشرقية والعربية والعلوم الإسلامية، ثم ساروا بدراستهم إلى الموازنة بين الآداب الغربية وسمّوها وكمالها والآداب العربية (الإسلامية) وتخلفها عن ركب الحياة (كما يزعمون) . ن- إذا كان الاستشراق والتبشير قد قام على أكتاف الرهبان والآباء في أول الأمر، ثم اتصل من بعد ذلك بالمستعمرين، فإنه لا يزال حتى اليوم يعتمد على أولئك، وإن تظاهروا برسالتهم الدينية والخيرية فإنهم يقظون دائما، يحدقون بعيونهم ويصيخون بآذانهم إلى مختلف الأوساط لمعرفة كل الاتجاهات، حتى يستطيعوا أن يذللوا أي عقبة تعترض سبيل نشاطهم وعملهم، فهم في سرية أعمالهم كالجمعية الماسونية، تنشد في الظاهر السلام العالمي، لكنها دعوة سرية لاستتباب حكم التوراة في ربوع العالم. س- يعتمد المستشرقون والمبشرون في تحقيق أهدافهم وتمويلها على ما تقوم به المؤسسات الدينية والسياسية والتجارية في الغرب، وكان ملوك وأمراء أوربا وأثرياء أمريكا يحبسون أوقافاً لهذا ومنحاً لهذا العمل.

(10) المستشرقون يدركون قدرة الإسلام الذاتية

(10) المستشرقون يدركون قدرة الإسلام الذاتية كتب المستشرق البريطاني البروفسور "مونتجمري وات" مقالاً في جريدة التايمز اللندنية في (8/3/1968م) جاء فيه: "إذا وجد القائد المناسب الذي يتكلم الكلام المناسب عن الإسلام، فإنه من الممكن لهذا الدين أن يظهر كإحدى القوى السياسية العظمى في العالم مرة أخرى". واستطرد معبّراً عن قلقه بتأكيد قول أحد زملائه، وهو المستشرق "السير هاملتون جيب" فقال: "وكما نوه (السير هاملتون جيب) : فإن هنالك احتمالاً من الحكمة للغرب أن لا يقلّل من شأنه، ألا وهو ظهور الإسلام من جديد، وكقوَّةٍ عالميّة". * * *

الفصل الرابع الاستعمار والمستعمرون

الفصْل الرابع الاسْتِعْمَار وَالمُسْتَعْمِرُون 1- فكرة عامة عن بدء الاستعمار. 2- الاستعمار الغربي للبلاد الإسلامية العربية. 3- الاستعمار البريطاني للهند وآثاره. 4- أبرز أعمال الكيد التي قام بها الاستعمار في بلاد المسلمين. 5- وثيقة من دولة استعمارية لنصارى وطنيين.

(1) فكرة عامة عن بدء الاستعمار

1- كانت الامبراطوريات القديمة الرومانية والفارسية وغيرها إحدى مظاهر الاستعمار القديم، وقد انهارت هذه الإمبراطوريات بظهور الدولة الإسلامية الكبرى الفاتحة، تحمل لواء الإسلام، وتدعو إلى عبادة الله وحده، وتنادي بوحدة الأمة الإسلامية، مهما اختلفت أعراقها،ولغاتها وبلدانها ومواطنها من الأرض. (1) فكرة عامة عن بدء الاستعمار 1- كانت الامبراطوريات القديمة الرومانية والفارسية وغيرها إحدى مظاهر الاستعمار القديم، وقد انهارت هذه الإمبراطوريات بظهور الدولة الإسلامية الكبرى الفاتحة، تحمل لواء الإسلام، وتدعو إلى عبادة الله وحده، وتنادي بوحدة الأمة الإسلامية، مهما اختلفت أعراقها،ولغاتها وبلدانها ومواطنها من الأرض. 2- ولما دب الوهن في الأمة الإسلامية، بابتعادها عن تطبيق أحكام الإسلام، ودخول الاختلافات الفكرية المذهبية الاعتقادية في كتل كبرى من المنتمين إليه، ودخول التنازل على السلطة ومطامع الحياة الدنيا في صفوف ذوي السلطان والمال والاستغراق في متاع الحياة الدنيا، توجهت مطامع الدول الصليبية الأوروبية لمحاربة المسلمين، بحجة استعادة الأرض المقدسة لدى النصارى في بلاد الشام. 3- وبعد حروب دامت قرابة قرنين من الزمان، وخيبة الصليبيين في تحقيق أهدافهم، وطرد المسلمين لهم، وعودتهم إلى بلدانهم معتقدين أن ما خسروه في حروبهم شيء عظيم، وأنه ما كان من مصلحتهم أن يغامروا فيما غامروا فيه طوال هذه الحروب -صرفوا النظر عن القيام بمغامرات جديدة مماثلة، قبل أن يهيئوا شعوب الأمة الإسلامية لتقبل حكم الغرب، وتقل سيادته عليهم، دينياً ونفسياً واجتماعياً. 4- عندئذ تحولت النزعة الاستعمارية لدى الغربيين لاكتشاف مواطن في العالم

غنية يمتلكونها، ولا يصارعون لامتلاكها شعوباً تنتمي إلى الإسلام، وتحميها مراكز القوة في العالم الإسلامية. ومع بداية القرن الثالث عشر الميلادي (السادس الهجري) ظهر في الغرب ما يعرف بعهد الكشوف الجغرافية، وقد تضافرت في الغرب عدة عوامل أدت إلى ظهور حركة الكشف الجغرافي، أهمها العوامل التالية: الأول: العامل السياسي، وقد قوي مع ظهور الدولة الوطنية الحديثة، ذات الرغبة الملحة في بسط سيطرتها على غيرها من الأمم والشعوب. الثاني: العامل الاقتصادي، الذي دفع الغربيين للتخلص من سيطرة المسلمين على الطرق البحرية التي تصل الغرب بالشرق، والذي حرك أطماع الغربيين في الحصول على الذهب والأرض والعبيد. الثالث: العامل الديني، الذي كان له دور كبير في دفع حركة الكشف الجغرافي، بغية نشر النصرانية، وقد برز هذا العامل بوضوح لدى البرتغاليين، والأسبانيين، منذ القرن الرابع عشر الميلادي. فبعد إخراج المسلمين من الأندلس صار لدى نصارى شبه جزيرة إيبريا رغبة قوية في مطاردة المسلمين خارجها. وانتقل نشاطهم إلى شمال إفريقية وغربها يتعقبون المسلمين. وراودتهم الآمال بإمكان محاصرة الإسلام عن طريق البحر، وطعنه من الخلف، ولا تزال مدينتا "سبتة" و"مليلة" المغربيتان ثغراً المغرب على البحر الأبيض المتوسط مستعمرتين من قبل الإسبان منذ ستة قرون. وكان من أهداف البرتغاليين تحويل المسلمين في غرب إفريقية وفي غيرها من البلدان الآهلة بهم إلى النصرانية، ومن المؤكد لدى المؤرخين أن الرغبة في نشر المسيحية، ومعاداة الإسلام، كانت من الحوافز التي دفعت

المغامرين من البرتغال وأسبانيا لتحمل المشقات العظمية أثناء رحلاتهم. وظل هذا الحافز الديني يوجه جهود المكتشفين والمستعمرين الأوروبيين، وكان محل رضى عدد من البابوات، فأصدروا مراسيم متلاحقة تخول ملوك الببرتغال وأسبانيا الحق في ملكية كل إقليم جديد، وكل بحر جديد يتم اكتشافه في الحاضر والمستقبل. ووصف بعض البابوات في هذه المراسيم الإسلام بأنه "طاعون" وطالبوا ببذل أقصى الجهود لتنصير سكان المناطق التي اكتشفت أو سوف تكتشف، والحيلولة بينهم وبين الإصابة بطاعون الإسلام. وبذل البابوات نفوذهم الديني والأدبي لإغراء البحارة على الانخراط في سلك البعثات الكشفية، وصاروا يعدون المشتركين في تلك الرحلات بالعفو يوم القيامة، وبدخول الجنة. وصدرت الأوامر البابوية برسم الصلبان على أشرعة السفن وكان المبشرون بالنصرانية من رجال الكنيسة يرافقون الرحلات الكشفية للقيام بمهمات التبشير. 5- وفي أواخر القرن الخامس عشر (1497-1499م) قام "فاسكوداجاما" بأول رحلاته المشهورة للوصول إلى الهند واجتاز رأس الرجاء الصالح، واستعان بالملاح المسلم "شهاب الدين أحمد بن ماجد" في الوصول إلى ساحل "مليبار". وهذه الرحلة فتحت الطريق أمام البرتغاليين للسيطرة على البحار الشرقية، واحتكار تجارة الشرق، ونقلها إلى أوربا عن طريق رأس الرجاء الصالح، بعيداً عن الطرق الأخرى التي يسيطر عليها المسلمون. 6- ثم رأى البرتغاليون مصلحتهم في القضاء على المسلمين في هذه البحار التي يسيطرون عليها، فقاموا بحملات تصادم مع المسلمين انتهت بسيطرتهم على هذه البحار الموصلة إلى الهند، وإقامة مستعمرات هي بمثابة مراكز تجارية على السواحل.

وساعد البرتغاليين على تحقيق أغراضهم الاستعمارية في مواطن المسلمين واقع الانقسامات بين المسلمين، والخلاف الشديد القائم بين الدولة العثمانية،والدولة المملوكية في مصر والشام، والدولة الصفوية في فارس. 7- وفي النصف الأول من القرن السادس عشر الميلادي كان البرتغاليون قد استولوا على مجموعة من الممتلكات على طول شواطئ شرق إفريقية وغربها وفارس والخليج العربي، والمليبار وسيلان والهند الصينية وأرخبيل الملايو. 8- ومع أوائل القرن السادس عشر الميلادي اكتشف "كولمبس" باسم مملكة أسبانيا "العالم الجديد" الذي كان يظنه جزر الهند الشرقية، ثم صار يعرف بجزر الهند الغربية، وهي في الحقيقة من أمريكا الجنوبية. ثم اتجه بعض الأسبان صوب أمريكا الشمالية، في الوقت الذي كانوا يؤسسون فيه مستعمراتهم في أمريكا الوسطى، وأمريكا الجنوبية، ودخلوا الأقاليم المعروفة الآن باسم الولايات المتحدة الأمريكية. وظهر للأسبان مستعمرات واسعة في أمريكا. 9- يلخص المؤرخون نظام الاستعمار الأسباني في العالم الجديد بما يلي: "قد عمل على إخضاع جماعات كبيرة العدد من الأهالي الهادئين النشيطين لحفنة قليلة من العسكريين والتجار المخاطرين، الذين لم يكن لهم همٌُّ سوى جمع الثروة في أسرع وقت ممكن، وأصبح ملايين الهنود تحت رحمة بضعة آلاف من الغزاة الجبابرة العتاة، وفتح الأسبانيون مناجم غنية كان يعمل فهيا عشرات الألوف من الهنود حتى الموت. أما سكان البلاد الأصليون والزنوج الذين جلبوا من الخارج عن

طريق الاسترقاق القهري، ومواليدهم، فقد سخرهم الغزاة المستعمرون عبيداً أرقاء يعملون لهم في الأرض. وتكدَّست الثروة في أيدي عدد قليل من الناس، أما سائر الناس فهم في فقر وضنك من العيش". 10- وفي أواخر القرن السادس العشري الميلادي بدأ الإنكليز يسيطرون على الساحل الشرقي لأمريكا الشمالية، ويؤسسون فيه مستعمراتهم، بعد انتصاراتهم على الأسطول الأسباني. وبدأ الاستعمار الإنكليزي في العالم الجديد بعام (1578م) . ثم أخذت السفن الإنكليزية في القرن السادس عشر الميلادي تدخل البحر المتوسط، بحثاً عن السع الشرقية والاتِّجار فيها. ومع انتهاء هذا القرن أيقن الإنكليز أنه لا توجد وسيلة للوصول إلى ثروة الشرق إلا بمزاحمة البرتغاليين مباشرة في الأسواق الشرقية. وتحولت الملاحة البريطانية من طرق البحر المتوسط إلى طريق رأس الرجاء الصالح. وتأسست شركة الهند الشرقية الإنكليزية سنة (1600م) ، وحصلت على براءة ملكية تمنحها حق احتكار التجارة في المنطقة الواقعة إلى الشرق من رأس الرجال الصالح، وحق شراء الأراضي في هذه المنطقة. ونزل الإنكليز أيضاً في إفريقية الغربية، وتأسست الشركة الإفريقية عام (1618م) . وسيطر الإنكليز على الهند عن طريق شركة الهند الشرقية البريطانية عام (1748م) حتى عام (1858م) ، ثم أخضعتها بريطانيا لإدارتها المباشرة. 11- وشاركت فرنسا متأخرة في حملاتها الراغبة باستعمار مواطن في العالم الجديد.

وخلال القرنين السابع عشر والثامن عشر حاولت فرنسا أن تحصل على موطئ قدم في جزيرة "مدغشقر". ثم أضحى ساحل هذه الجزيرة مكمناً مفضَّلاً للقراصنة الأوربيين، لا سيما الفرنسيون والهولنديّون والإنكليز. ولم تنجح فرنسا في إقامة مراكز صغيرة لها على الجزيرة، رغم محاولات عديدة من جانب التجار الفرنسيين. وحاولت فرنسا منذ عام (1601م) إقامة مستعمرات كبرى لها في هندستان، إلا أن القوة العسكرية للأباطرة المغول أحبطت كلَّ محاولاتها. ثم انتزعت انكلترا من فرنسا أكبر مستعمراتها في الهند في صلح باريس عام (1763م) . 12- وطعمت "هولندة" بأن يكون لها نصيب في الاستعمار، فبعثت رحلاتها إلى العالم الجديد. وفي عام (1614م) ادَّعوا أنَّ لهم حقوقاً في استعمار وامتلاك المنطقة الساحلية في أمريكا الشمالية. وفي عام (1626م) صارت "نيونذرلند" أو "هولندة الجديدة" مستعمرة حقيقية لهولندة. ثم استردها الإنكليز منها عام (1664م) . وفي عام (1673م) احتل الهولنديون "نيويورك" وأعادوا إليها اسمها الهولندي، ولكن لم يلبث البريطانيون أن استردوها منهم عام (1674م) وظلَّت إنكليزية حتى قيام الثورة الأمريكية. وفي الشرق احتل الهولنديون جزيرة "سنت هيلانة". وأقاموا مستعمرة عند رأس الرجاء الصالح سنة (1652م) . وأقاموا محطات لتجارة الحرير في موانئ فارس، والخليج العربي، ومحطة لتجارة البنّ في "مخا" باليمن. لكن اهتمام الهولنديين الرئيسي قد كان موجّهاً لأرخبيل الملايو،

(2) الاستعمار الغربي للبلاد الإسلامية العربية

إذ طردوا البرتغاليين، وجعلوا أنفسهم سادة جزر الهند الشرقية. وفي منتصف القرن السابع عشر صار الهولنديون أكبر قوة أوربية في البحار الشرقية. (2) الاستعمار الغربي للبلاد الإسلامية العربية 1- بدأ الغزو الاستعماري الفرنسي للجزائر بحصار بحري في شهر (مايو) أيار سنة (1827م) ، وتذرعت فرنسا بعدة أعذار. وكان للعامل الديني المعادي للإسلام أثره القوي في هذا الاحتلال، فقد كانت رغبة الفرنسيين قوية في تنصير الجزائريين الذين كانوا ألد أعداء المسيحيين. فقد أعلن الملك "شارل العاشر" اعتزامه إنشاء مستعمرة ذات شأن في شمال أفريقية، تكون نواتها الجزائر. وفي عام (1830م) نزل الجيش الفرنسي المكوّن من حوالى خمس وثلاثين ألف مقاتل إلى أرض الجزائر. ولكن حصرت المقاومة الجزائرية الزحف الفرنسي في شريط ساحلي لا يشمل كل الشاطئ , وخلال الأعوام من (1830إلى 1839م) كانت سياسة فرنسا قائمة على فكرة الاحتلال المحدود المقتصر على الساحل دون الداخل. وقامت صدامات دموية وثورات قوية ضد فرنسا , ثم اتجهت فرنسا للاحتلال الشامل لكل الجزائر. وضعفت مقاومة الجزائريين تدريجيا , حتى أمست البلاد خاضعة للحكم الفرنسي عام (1848 م) . ومع ذلك فقد استمرت بعض المقاومات المحدودة طوال قرابة عشر سنين أخرى , إلى أن استتب الأمر للفرنسيين عام (1857 م) . وبين حين وآخر كانت تتفجر ثورات جزئية تنتهي بقمع المحتلين لها.

وفي سنة (1881 م) صدر مرسوم فرنسي بإلحاق الجزائر إداريا بفرنسا , وحكمة فرنسا الجزائر حكما استعماريا شاملا. إلى أن قامت الثورة الجزائرية الكبرى التي انتهت بخروج فرنسا، وتحرر الجزائر من استعمارها. ثم كان احتلال فرنسا لتونس عام (1881 م) نتيجة طبيعية لإخضاعها الجزائر إخضاعا كاملا , إذ وقعت منذ ذلك الحين تحت الحماية الفرنسية. 2- في عام (1798 م) غزت فرنسا مصر , ونبه عمل فرنسا هذا إنكلترا على ضرورة الاهتمام بمصر , فشاركت في حمل فرنسا على الجلاء عن مصر بالقوة , فاضطرت هذه أن تغادر قواتها مصر عام (1801 م) . ثم حاولت إنكلترا أن يكون لها النفوذ الأعلى في مصر أوائل القرن التاسع عشر , وحاولت احتلالها فيما عرف بحملة "فريزر" عام (1807 م) . لكنها لم تنجح , وانسحبت تحت ضغط المقاومة الشعبية المصرية. واستمرت محاولات إنكلترا من أجل فرض نفوذها في مصر , حتى احتلتها عام (1882 م) بدعوى إنقاذ مصر من الفوضى التي انتشرت في البلاد المصرية , وإعادة حياة الاستقرار والاطمئنان , وإدخال أساليب المدنية الحديثة إلى مصر , وحماية الأقليات والجاليات الأجنبية في مصر , والمحافظة على مصالحهم , وحماية المصالح الإنكليزية الخاصة السياسية والاقتصادية وغيرها. وكان طابع الاحتلال الإنكليزي لمصر طابع الحكم المستأثر المسيطر , أما المصريون فيجب أن يكونوا تابعين ومحكومين. ويؤكد هذا الطابع تقرير كتبه المعتمد البريطاني في مصر اللورد "كرومر" سنة (1903 م) جاء فيه ما يلي: يحسن بكل بريطاني موظف في الحكومة المصرية أن يعرف الظروف

الخاصة التي يعمل بها في هذه البلاد , هذه الظروف ينتج عنها بالضرورة أن يكون الأوربي متقدما , والمصري تابعا له , حتى ولو كان منصب الأوربي دون منصب المصري اسما , وأن تكون القيادة للموظف الأوربي بالضرورة. وسيطر اللورد "كرومر" على مقدرات الأمور في مصر سيطرة شديدة , وحرم المصريين من كل سلطة , واتخذ مواقف متشددة من الحركة الوطنية المصرية , ورسم سياسة إجلاء المصريين عن السودان , وإحلال السيطرة الإنكليزية محلها. وعملت بريطانيا على فصل السودان عن مصر , منتهزة فرصة الثورة المهدية عام (1881 م) . واستمرت الدعاوى الإنكليزية تقول: إن الاحتلال مؤقت , حتى شبت الحرب العالمية الأولى - وكانت مصر ما زالت من الناحية الشكلية تابعة لسيادة تركيا - فانتهزت إنكلترا فرصة اشتراك تركيا إلى جانب ألمانيا في الحرب ضد الحلفاء , فأعلنت الحماية البريطانية على مصر , وفصلت مصر عن تركيا. 3- ومن عدن انطلق الإنكليز للسيطرة على بقية أجزاء الجنوب العربي. ومن عام (1761 م) انتقل المركز الرئيسي للتجارة الإنكليزية في الخليج إلى البصرة. وصار مركز بريطانيا التجاري في الخليج لا يضارع , وهي في هذا قد ورثت النفوذ البرتغالي والهولندي والفرنسي. ومنذ أواخر القرن الثامن عشر أخذ الإنكليز يمارسون أنواعا من التدخل في شؤون إمارات الخليج العربي , وأخذ نفوذهم يقوى فيه طوال القرن التاسع عشر. 4- في فلسطين وشرقي الأردن كان نشاط البعثات التبشيرية النصرانية أسلوبا من أساليب التغلغل الأجنبي في الأقطار العربية.

وقد شاركت إنكلترا في حماية هذه البعثات التي تنتسب إليها , وساعدتها على فتح المؤسسات المتعددة كالمدارس والكنائس. واهتم القنصل الإنكليزي في القدس بالمشروعات التي من شأنها المساعدة على هجرة يهودية كبيرة إلى فلسطين , تمهيدا لإقامة دولة صهيونية فيها. 5- وبناء على اتفاقات دولية بين الدول الاستعمارية غزت إيطاليا ليبيا في شهر سبتمبر عام (1911م) , ولكن الليبيين قاوموا الاحتلال الإيطالي مقاومة عنيفة حتى عام (1931 م) . ولم تخرج إيطاليا من ليبيا إلا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية , ووقعت الصومال أيضا تحت الاستعمار الإيطالي. 6- وفي عام (1912 م) وقعت مراكش تحت الحماية الفرنسية. 7- وأرادت بريطانيا أن تدخل كل مناطق العراق تحت سيطرتها. ففي عام (1916 م) كان من بنود اتفاق مؤتمر (سايكس بيكو) بين بريطانيا وفرنسا وروسيا دخول العراق تحت الانتداب الإنكليزي عقب انتهاء معارك الحرب العالمية الأولى. وكان اتفاق "سايكس بيكو" من أجل تقسيم أملاك الدولة العثمانية بين الدول الثلاث , إذ كان من بنوده ما يلي: أ- أن يكون لفرنسا الجزء الأكبر من سوريا وجانب كبير من جنوب الأناضول , ومنطقة الموصل في العراق. ب- أن يكون لإنكلترا البلاد الواقعة بين الخليج والمنطقة الفرنسية (العراق وشرق الأردن ثم حيفا وعكا) . جـ- إنشاء إدارة دولية في فلسطين بسبب وجود الأماكن المقدسة فيها. د- حقوق لروسيا في الأناضول والمضايق. وفي سنة (1917 م) أعلنت إنكلترا على لسان وزير خارجيتها اللورد

"بلفور" وعدا بإنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين. 8- وفي عام (1920 م) قررت الدول الاستعمارية الصليبية في مؤتمر سان ريمو ما يلي: أ - جعل منطقة شرقي الأردن من نصيب بريطانيا , كجزء من دائرة الوصاية على فلسطين. ب - فرض الانتداب الفرنسي على كل من سوريا ولبنان. جـ - فرض الانتداب البريطاني على العراق وفلسطين. الإمارات والسلطنات في الجزيرة العربية وقعت معظم السواحل الجنوبية للجزيرة العربية الممتدة على شواطئ المحيط الهندي , والخليج العربي , تحت السيطرة البريطانية , المباشرة أو غير المباشرة منذ عام (1839 م) وأطلقت عليها بريطانيا اسم محميات , وكان غرض بريطانيا من بسط سلطانها على هذه المناطق العربية تأمين سلامة مواصلاتها إلى الهند. (1) ففي سنة (1839 م) سقطت عدن في يد الإنكليز , وجعلوها قسمين: * "محمية عدن الشرقية" وألحقوا بها ثلاثا من السلطنات أو المشيخات السابقة. * "ومحمية عدن الغربية" والحقوا بها السلطنات الأخرى العشرين. وخرج الإنكليز من عدن سنة (1967 م) . (2) وفي سنة (1915 م) احتلت بريطانيا جزيرة "كامران" اليمنية , وظلت كذلك , حتى سنة (1967 م) عندما اقترع سكانها العرب على تفضيلهم الانضمام إلى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية. (3) وفي سنة (1738 م) احتلت فرنسا جزيرة بريم اليمنية , ثم احتلتها

(3) الاستعمار البريطاني للهند وآثاره

بريطانيا سنة (1799 م) وتخلت عنها في السنة نفسها , ثم عادة واحتلتها عام (1851 م) ثم تحررت سنة (1967 م) . عمان غزاها البرتغاليون , واحتلوها من سنة (1507 م) حتى سنة (1650 م) إذ قام عليهم الإمام ناصر بن مرشد وسلطان بن سيف اليعربي وأجلوهم عنها , ولم يكتف اليعربي بإجلائهم عن شواطئ البلاد , بل طاردهم إلى سواحل الهند وأفريقية الشرقية. وفي سنة (1891 م) فرضت عليها معاهدة حماية بريطانية , وجددت مرة ثانية سنة (1939 م) وجددت مرة ثالثة سنة (1951 م) لمدة خمسة عشر عاما , ثم اندلعت حرب بين القبائل العمانية وقوات الاحتلال البريطاني في سنتي (1956م - 1957 م) واستقلت في سنة (1967 م) . وأعيدت إلى عمان جزر (كوريا موريا) التي كانت بريطانيا تحتلها منذ سنة 1854 م عند استقلالها. (3) الاستعمار البريطاني للهند وآثاره 1- سقطت الهند في يد الاستعمار البريطاني الذي زحف من منغوليها إليها , وذلك في عام (1857 م) , وكانت حتى ذلك التاريخ في يد الدولة المنغولية , واستمرت تحت الاستعمار البريطاني حتى استقلت عام (1947 م) . 2- وأول ما بدأ به الاستعمار البريطاني محو الشخصية الإسلامية من الدولة , واتبع لذلك أساليب متعددة منها الأساليب التالية: أ- حملات التبشير المؤيدة من السلطة الاستعمارية , والتي اتخذت صبغة حكومية في بعض أوقاتها. ب- حرمان الجماعات المسلمة من حقوقها في التعليم , وفرض سياسة

التجهيل عليها , والقضاء على قوة المسلمين الصناعية والحضارية بمحاولات الضغط على كبار أرباب الصناعات أو إبادتهم. جـ- استغلال أطفال المسلمين في ميادين العمل منذ سن مبكرة , مستغلين في ذلك فقر العائلات المسلمة , الأمر الذي يضطرها إلى استخدام أطفالها لتأمين لقمة العيش. د - حرمان المسلمين من تولي المراكز القيادية وذات الأهمية , وعزلهم عن الدولة , وفصلهم اجتماعيا وثقافيا. ولتحقيق ذلك عمد البريطانيون إلى تشجيع الهندوس من الوثنيين , وتسليمهم تدريجيا مقاليد الحكم والإدارة في البلاد , وإلى تأليب الهندوس والطوائف الأخرى ضد المسلمين. ونتيجة لتحريض الطوائف غير المسلمة على المسلمين , بدأت حملات الإبادة المنظمة ضد المسلمين , بدءا بفتنة عام (1918 م) , التي جرت مسلسلا دمويا رهيبا , دفع المسلمين في شبه القارة الهندية إلى المطالبة بدولة إسلامية مستقلة. وتبين الإحصائيات أن المذابح والاضطرابات التي شهدتها الهند منذ استقلالها بلغت أكثر من (8080) مذبحة واضطراب , وقد كانت حصيلة ضحاياها أكثر من مليون مسلم. 3- وبعد منح الهند استقلالها ضمن إطار دستوري , عمدت الحكومات الهندية المتعاقبة على استبعاد المسلمين عن المراكز المهمة في البلاد , وشرعت في تنفيذ هذه السياسة باتباع الأعمال التالية: أ- إبعاد المسلمين عن القوات المسلحة , وتسريح من كان يعمل فيها فعلا. ب- حرمان المسلمين من المراكز القيادية في الدولة.

(4) أبرز أعمال الكيد التي قام بها الاستعمار في بلاد المسلمين

جـ- احتلال المقاطعات الإسلامية , بوضع اليد على شؤونها , لا سيما الكبرى منها , مثل "حيدر أباد" و "جوناكرة" و "مناور". د- حرمان المسلمين من فرص العمل , ومن التسهيلات الاقتصادية , التي أمست حكرا على الهندوس , وحرمانهم من التجارة في بعض السلع كالسجاد , والأدوات المنزلية. هـ- وضع العقبات أمام انتساب المسلمين إلى الكليات والثانويات الإسلامية بوضع يد الدولة عليها وتحويلها إلى مدارس عامة. و إعلان قانون عام (1975 م) وفيه محاربة التعليم الإسلامي , وإجبار المسلمين على التعقيم , وقد ألغي قانون التعقيم سنة (1982 م) تحت تأثير احتجاجات المسلمين الشديدة في العالم. (4) أبرز أعمال الكيد التي قام بها الاستعمار في بلاد المسلمين مهما اختلف الاستعماريون فيما بينهم على المصالح , اختلافا قد يصل إلى قيام حروب طاحنة فيما بينهم , فإنهم كانوا متفقين اتفاقا كاملا على مخطط كيدي موحد ضد الأمة الإسلامية , وكانت أعمالهم متشابهة في البلدان التي استعمروها من بلدان العالم الإسلامي. وباستطاعة الباحث المتتبع أن يكتشف من أعمالهم الأعمال الكيدية التالية: الأول: تذليل مهمات المبشرين بالنصرانية , ومهمات المستشرقين العاملين على تنصير أبناء المسلمين , أو إخراجهم من الإسلام إلى الإلحاد والكفر بكل القيم الدينية. الثاني: فصل الدين عن الدولة وسائر الأمور السياسية , وإلغاء الحكم الإسلامي نهائيا. الثالث: افتتاح المدارس والمعاهد والجامعات العلمانية في صورتيها المعادية للدين صراحة , والمتظاهرة نحوه بالحياد كمدارس "اللاييك".

الرابع: التخطيط للتعليم العلماني في المؤسسات التعليمية الوطنية , وتوجيهها لما يحقق إبعاد كل تعليم إسلامي عنها. الخامس: الضغط على التعليم الإسلامي التقليدي , واتخاذ مختلف الوسائل التي تفضي إلى إلغائه نهائيا. السادس: إخضاع نظم البلاد للقوانين المدنية الوضعية الغربية , أو غيرها بدل أحكام الشريعة الإسلامية. السابع: التوسل إلى إلغاء القضاء الشرعي الإسلامي بمختلف الوسائل الظاهرة , أو الخفية الماكرة , وإلغاء الأوقاف الإسلامية شكلا ومضمونا , أو مضمونا فقط. الثامن: إفساد أخلاق الشعوب المسلمة , وتقطيع روابطها الاجتماعية بمختلف الوسائل , كنشر الرشوة , والكذب , والخيانة , والإهمال الوظيفي , وتعود البطالة والكسل.... وغير ذلك من المفاسد الأخلاقية الفردية والاجتماعية. التاسع: نشر أسلوب الحياة الغربية الإباحية بين الشعوب المسلمة , المحكومة بالدول الاستعمارية مباشرة , أو المتأثرة بها عن طريق الجوار , أو السراية والعدوى من بعيد. العاشر: نشر لغة المستعمر في البلاد , وإحلالها محل لغة الشعب الوطنية , ومحاربة اللغة العربية على وجه الخصوص , لأنها لغة القرآن ومصادر التشريع الإسلامي الأخرى , ولغة التراث الأكبر للمسلمين. الحادي عشر: استغلال خيرات البلاد الإسلامية , والاستيلاء على ثرواتها المختلفة , بما في ذلك ثرواتها العلمية , والفنية , والصناعية , ونقلها إلى بلاد المستعمرين. مع امتصاص الطاقات البشرية في تلك المستعمرات تحت أسوأ الظروف لتقديم أكبر كمية إنتاج بأقل أجر ممكن. الثاني عشر: محاولة الامتلاك الاستيطاني لبعض البلاد الإسلامية المجاورة لدولة الاستعمار , كما حصل في الجزائر.

الثالث عشر: وضع السلطات الإدارية الفعالة في البلاد في أيدي النصارى الوطنيين , ثم في أيدي الأقليات الطائفية غير الإسلامية , ثم في أيدي ذيولهم من مستغربين علمانيين وملاحدة وماسونيين وأشباههم , ومساعدة هؤلاء على تعلم العلوم التي تميزهم وتؤهلهم لاحتلال أرفع المناصب العلمية والعملية في البلاد مع حرمان أبناء المسلمين من ذلك. الرابع عشر: تمكين النصارى الوطنيين ثم الطوائف غير الإسلامية من السيطرة على اقتصاديات البلاد , والمراكز ذات الأهمية المناخية , والاقتصادية , والحربية , في المدن والقرى والثغور , ومنحهم امتيازات خاصة يحرم منها المسلمون. الخامس عشر: إثارة الفتن والنعرات الطائفية بين المسلمين وغيرهم , والنعرات القومية والمذهبية والحزبية , لاتخاذ ذلك ذريعة للضغط على المسلمين , وتبديد قواهم جميعا , وتمكين الطوائف غير المسلمة من مواطن القوة والمعرفة والمال في البلاد. واصطناع فرق منحرفة عملية ضمن شعوب الأمة الإسلامية. السادس عشر: تقسيم البلاد وتجزئتها إلى وحدات صغرى , وبذر بزور الشقاق والخلاف فيما بينها , وغرس ما ينجم عنه تباين المصالح فيما بينها , حتى لا تتهيأ لها في المستقبل الظروف المناسبة لإعادة اتحادها , ضمن كتلة مسلمة واحدة ذات إدارة سياسية واحدة قوية. السابع عشر: إيجاد قواعد دائمة للاستعمار , ذات كيان سياسي مستقل , ضمن بلاد المسلمين , من طوائف غير مسلمة , لتقوم هذه بمصالح دولة الاستعمار السياسية وغيرها في مجموعة البلاد الإسلامية المجاورة لها , إذا اضطرت دولة الاستعمار إلى الخروج منها. الثامن عشر: ربط اقتصاديات البلاد المستعمرة , وربط نقدها , بدولة الاستعمار , لتكون هذه البلاد تابعة لها , ولو خرجت الدولة الاستعمارية منها كما هو واقع الحال بالنسبة إلى (الكومنولث البريطاني) .

التاسع عشر: السيطرة على وسائل الإعلام المختلفة لتوجيه الرأي العام ضمن المخططات التي تضعها قيادات أجنحة المكر. العشرون: دس الدسائس لإثارة الحروب بين البلاد الإسلامية , بغية تعميق العداوة والبغضاء فيما بينها , وإضعاف قواها جميعا , واستنزاف طاقاتها , وتحطيم كتلها البشرية , ومن وسائل الاستعمار إلى ذلك إبلاغ عملائهم إلى مراكز الحكم , وتوجيههم لإشعال هذه الحروب. الحادي والعشرون: القضاء على حركات الجهاد الإسلامي , وإلغاء فكرة الجهاد في سبيل الله بمختلف الوسائل. الثاني والعشرون: تربية أجيال موالية للدول الاستعمارية ومحبة لشعوبها , ومعجبة بطرائق حياتها , وكارهة للإسلام وقيمه وأحكامه , وعاملة في بلدانها بدائل للاستعمار المباشر في تنفيذ مخططاته بعد رحيله. الثالث والعشرون: أما الاستعمار الشيوعي الشرقي , فيتلخص بنظرية واحدة , هي: الاستيلاء القاهر على البلاد وما فيها ومن فيها امتلاكا , واستعبادا , وفرض نظام الدولة المستولية , وعقيدتها , وفرض إرادتها ومبادئها قهرا , أو السحق والموت الشنيع. الرابع والعشرون: وللدول الصليبية الاستعمارية بعد خروجها من البلاد , وكذلك التي لم يسبق لها أن كانت دولة استعمارية , أعمال كيدية كثيرة يحققون بها ما يريدون داخل البلاد الإسلامية , كالتعليم اللاديني , والتربية على طريقة الحياة الإباحية وإفساد الأخلاق والضمائر , والضغط على الإدارات السياسية , وشراء العملاء من المتعلمين والعسكريين والتجار , وربط المصالح التجارية والثقافية والعسكرية وغيرها بتحقيق أهدافهم , سواء أكان ذلك فيما يسمى بالقطاع العام أو بالقطاع الخاص. ومن مظاهر ذلك نشاهد مؤسسات تجارية قوية أصحابها مسلمون , وهذه المؤسسات تبذل بسخاء لإنشاء كنائس في بلاد إسلامية وومؤسسات تعليمية وغيرها للمبشرين والمستشرقين.

(5) وثيقة من دولة استعمارية لنصارى وطنيين

(5) وثيقة من دولة استعمارية لنصارى وطنيين من الدولة الأم إلى أبنائها المخلصين. إلى أبناء يسوع المسيح , فيا من صبرتم على الذل والهوان عبر القرون دفاعا عن عقيدتكم , أيها الشرفاء الأطهار. لا تنسوا هذه الوصايا العشر: 1- قد رتبنا لكم أهم الأشياء التي تضمن لكم معيشة حسنة على هذه المنطقة , مثل تمليك الأراضي , والوكالات الأجنبية , والوضع السياسي , وشؤون النقد , ويبقى عليكم أن تحافظوا على هذه المكاسب وزيادتها مع الأيام. 2- إن هذا الوطن لم يخلق إلا لكم , حتى تجمعوا شملكم وتباشروا حريتكم بعد الحروب الخيرة التاريخية , فاعلموا جيدا أن كلمة لبناني معناها مسيحي , أما العرب الذين جاؤوا من الصحراء فيجب أن يعودوا إليها. 3- جاهدوا للسيطرة على المصايف وأمور السياحة وامتلاك ساحل البحر وأخرجوهم من قراكم كلما أصبحتم أغلبية , ولا تنسوا تجهيز ميناء احتياطي في مدينة غير بيروت , لا يكون فيها مسلمون , وذلك عندما تسنح لكم الفرص. 4- عليكم بأسباب القوة من رياضة وسلاح وتنظيمات للشباب , واهتموا بالجيش وعليكم بكتمان أموركم. 5- احرصوا على الزعامة الأدبية , مثل نشر الكتب , والسيطرة على النقابات والاتحادات , ولا تعترفوا بأن تراث لغتكم وتاريخكم ملك للمسلمين , وحاربوا (بلا هوادة) الأفكار والأشخاص الذين يعاكسون اتجاهكم.

6- إن الاختلافات المذهبية بينكم يجب أن لا تخرج عن النظرية السطحية , لأن حياتكم مرهونة باتحادكم أمام العدو الكافر , من حيث إنك أبناء يسوع الذي علمنا المحبة. 7- ادرسوا دائما مخططات الآخرين , وتدخلوا معهم لكي تعرفوا ما عندهم , ولا مانع للبعض من التظاهر بتأييدهم عند الضرورة , ولكن على كل واحد منكم أن يبقى مرتبطا برؤسائه وكنيسته....؟ 8- ارفعوا رؤوسكم في كل مكان مرتفع , واعلموا بأن كل القوى الجبارة في العالم الحر تساعدكم , وتقف لجانبكم في أسرع وقت , ولكن عليكم أن تتصرفوا كأنكم لا تعرفون ذلك. 9- اجتهدوا بالتقرب من ملوك العرب ورؤسائهم بالخدمات الشخصية , وهذا شيء سهل جدا , ولكنه يفتح لكم مجالات واسعة للعمل , ويدر عليكم أموالا هائلة , ونفوذا أكبر , حتى في البلدان المستعصية عليكم. 10- إن حركة الجنسية اللبنانية شديدة الأهمية , فدققوا كثيرا في ذلك , واهتموا بإخوانكم المغتربين , والذين نزلوا عليكم من البلدان الأخرى , حتى لا تضيع الأغلبية المقررة لكم , ألا جدوا كل الجد.

الفصل الخامس عناصر التلاقي والأهداف والأعمال المشتركة

الفصل الخامس عناصر التلاقي والأهداف والأعمال المشتركة للأجنحة الثلاثة 1- الالتقاء على الكراهية والحقد. 2- الالتقاء على كسب المغانم. 3- الالتقاء على محاربة الإسلام وتطبيقاته. 4- محاولات الفصل الكلي بين الإسلام والمسلمين. 5- محاولات الفصل الجزئي بين الإسلام والمسلمين.

(1) الالتقاء على الكراهية والحقد

(1) الالتقاء على الكراهية والحقد يكاد الكره والحقد الموروثان في نفوس الأجنحة الثلاثة لجيش الغزو الظالم الآثم ضد الإسلام والمسلمين يكونان عنصر الالتقاء الرئيسي بينها. ولا نعلم سببا صحيحا ناتجا عن مبدأ إنساني كريم يبرر وجود هذا الكره والحقد في نفوسهم. أ- أما الدعوة الإسلامية فلم يكن فيها ما يستدعي ذلك , لأنها قامت على أساس تصحيح اعتقادي , مستند إلى أدلة علمية , ومناقشات منطقية , ومبني على أساس تكميل ديني مرتكز على مبدأ وحدة الرسالات الربانية , في أسسها وفي مصدرها , وأن اللاحقة منها تكمل السابقة , حسب الإرادة الربانية التي أنزلتها جميعا , وأن الذين قبلوا التعاليم السابقة ملزمون أيضا بأن يقبلوا التعاليم اللاحقة , بما فيها من تعديلات قررتها إدارة منزل التعاليم , حسب مقتضيات علمه وحكمته. ومثل ذلك في الأرضيات الإنسانية كمثل من يقبل قانون الدولة السابق , ثم يرفض قانونها اللاحق المكمل والمعدل للأول , دون أن يكون له حجة في رفضه إلا مجرد التعصب للسابق , لأنه صار مأنوسا مألوفا له , أو مطوعا بالتحريف لهواه. والتصحيح الاعتقادي قضية علمية بحتة , تعرض نفسها للمناقشة والبحث , وينبغي أن لا يكون فيها مجال للتعصب النفسي , ولا أثر من آثار الانفعال , فالباحثون العلميون يطرحون باستمرار نظرياتهم العلمية

على مختلف المدارس الفكرية دون أن يجد أنصار إحداها غضاضة في هذا الطرح , لأنهم جميعا وحينما تقوم الأدلة القاطعة على رأي من الآراء العلمية يترك أصحاب المذاهب والمدارس الفكرية المختلفة آراءهم السابقة , ويقبلون الحقيقة الناصعة , التي قامت عليها الأدلة القاطعة , أما التعصب للخطأ الموروث والاستمساك بالباطل فليس من شأن الإنسان العاقل المنصف الباحث عن الحقيقة. وأمام هذا المنطق الهادئ البعيد عن كل عنف وتعصب نجد الإسلام يعلم المسلمين أن يقولوا للآخرين عند الجدال في قضايا الدين ما جاء في سورة (سبأ / 34 مصحف/ 58 نزول) : {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} . كما يأمرهم بأن يجادلوا أهل الكتاب بالتي هي أحسن , فقال الله تعالى في سورة (العنكبوت /29 / 85 نزول) : {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا ءامنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} . وقد أمر الله رسول الله محمد بأن يدعو أهل الكتاب دعوة مشبعة بالرفق واللين , وذلك بأن يقول لهم كما جاء في سورة (آل عمران / 3 مصحف / 89 نزول) : {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} . ب- وأما المسلمون فلم يكن منهم في مواجهة أهل الكتاب إلا الرفق واللين والتسامح والدعوة الخيرة , وهذا ما جعل النسبة العظمى من سكان البلاد التي دخلها الإسلام بما فيهم أهل الكتاب يسرعون إلى الدخول في الإسلام طواعية دون إكراه , إدراكا منهم للحق , وشعورا بسلامة أسس الدعوة الجديدة , ومطابقتها للأسس الصحيحة التي يعلمونها من رسالة

موسى وعيسى وسائر النبيين عليهم الصلاة والسلام. وهذا ما دعا بعض المنصفين منهم إلى أن يعترف بذلك اعترافا صريحا , ومن أمثلة ذلك شهادة "غوستاف لوبون" المشهورة إذ يقول فيها: "ما عرف التاريخ فاتحا أرحم من العرب" ومنها تحسر الأديب الفرنسي الكبير "أناتول فرانس" إذ يقول: "ليت شارل مارتل قطعت يده ولم ينتصر على القائد الإسلامي (عبد الرحمن الغافقي) , إن انتصاره عليه أخر المدنية عدة قرون إلى الوراء". إلا أن روح التعصب الذميم الذي لا يمكن أن يكون من صفات طلاب الحق ودعاته هو الذي أملى على جيش الغزو ذي الأجنحة الثالثة الكراهية والحقد , ويشهد لروح التعصب هذه المشبعة بالكراهية للإسلام والمسلمين والحقد عليهما أقوال كثيرة صادرة عنهم , مضافا إليها أعمالهم الجماعية المستمرة الدالة على مبلغ التعصب الذميم المسيطر على نفوسهم , فمن أقوالهم ما يلي: 1- لما دخل القائد الاستعماري الفرنسي "غورو" "دمشق" في الربع الأول من القرن العشرين الميلادي منتصرا على الشعب العربي الأعزل في سورية , ووصل إلى مثوى البطل الإسلامي صلاح الدين الأيوبي , ضرب قبره بقدمه , وقال كلمته المشهورة: "ها قد عدنا يا صلاح الدين " وقد هان عليه أن ينفس عن حقده أمام قبور الموتى , لأنه لم يجد في الأحياء من يرد بأسه. ولما دخل الجنرال: "اللنبي" قائد جيوش الحلفاء مدينة القدس قال: "الآن انتهت الحروب الصليبية" 2- مقالة قالها زعماء المبشرين جاء فيها: "ألم نكن نحن ورثة الصليبيين؟ ألم نرجع تحت راية الصليب لنستأنف التسرب التبشيري والتمدين المسيحي" 3- ما ذكره المستشرق الألماني "بيلر" في قوله: "إن هناك عداء من النصرانية

(2) الالتقاء على كسب المغانم

للإسلام بسبب أن الإسلام عندما انتشر في العصور الوسطى أقام سدا منيعا في وجه انتشار النصرانية , ثم امتد إلى البلاد التي كانت خاضعة لصولجانها ". فالسياسيون والعسكريون _ وارثوا الكراهية والحقد من جراء الخيبة التي منيت بها الحروب الصليبية _ يشتركون مع المبشرين والمستشرقين _ وارثي الكراهية والحقد أيضا _ من أجدادهم الذين حرضوا الجيوش الصليبية لغزو البلاد الإسلامية خلال قرنين كاملين , فلم يظفروا منها بطائل , وارتدوا منها على أعقابهم خاسرين. ولدى تحليل الأسباب تحليلا إنسانيا كريما نجدها نوعا من التعصب القبيح الذميم , وضيق الأفق النفسي , والأنانية الشديدة , وهي كلها مرفوضة لدى العقول السليمة , والأفكار المستقيمة , والنفوس الكريمة , التي تسعى إلى الحق أين كان , وتريد الخير لأنفسها وللإنسانية جمعاء. (2) الالتقاء على كسب المغانم نقطة لقاء تلتقي عليها أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها إنها كسب المغانم والاستثمارات المادية. أ- أما المستعمرون فيكاد يكون الهدف الرئيسي لهم كسب المغانم الكثيرة من المسلمين وبلادهم , ويضاف إلى هذا الهدف أهداف كثيرة أخرى ستأتي الإشارة إليها. إن المستعمرين لما عرفوا أوضاع المسلمين , ودرسوا أحوال بلادهم , وما فيها من خيرات كثيرة , وما للأرض التي تمتد شعوبهم في أرجائها من فضائل وحسنات اقتصادية وسياسية وعسكرية , تحلبت أشداقهم شرها إليها , وطعما باقتناص خيراتها والاستيلاء على كنوزها , واستغلال كل ما أمكن استغلاله فيها , وتسخير الطاقات البشرية المسلمة

التي تعيش عليها في خدمة أهدافهم الاستغلالية الاستثمارية , مع حجب الخبرات الفنية عنها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. وقد مهدوا لاحتلالهم البلاد الإسلامية بالمبشرين ومؤسساتهم , فأمدوهم بإمدادات كبيرة سخية , ليكونوا قاعدتهم الأولى لتحقيق أهدافهم الاستعمارية , ومهدوا له أيضا بالمؤسسات التجارية والاستثمارية والتعليمية , وبالبعوث من المستشرقين , ثم استطاعوا بحيلهم وألاعيبهم ورشواتهم أن ينتزعوا الامتيازات الضخمة لشركاتهم الكبيرة , بالاتفاقات الدولية , وأن يدخلوها إلى العواصم الكبرى في البلاد الإسلامية , وهي تحمل في حقيبتها غايتين: الأولى: اقتصادية طامعة بالاستغلال والربح. الثانية: سياسية تعمل على تهيئة القواعد السياسية والاجتماعية المناسبة , الممهدة لدخول القوات العسكرية الغازية , الطامعة ببسط سلطانها المباشر. ودخلت قوات المستعمرين العسكرية بعد أن تهيأت لهم الظروف الدولية المناسبة وساعدهم على ذلك وصول الشعب المسلمة إلى دور الانحطاط النسبي الذي دفعتهم إليه عوامل شتى , داخلية وخارجية , ومن هذه العوامل ما يلي: 1- فقدان الوعي الإسلامي العام , وعزوف الناس عن المعارف والعلوم المختلفة , الدينية والكونية , واشتغالهم في ميادين التجارة والزراعة والصناعة التقليدية , دون أن يدخلوا عليها شيئا من التطوير والتحسين. 2- نقص الخبرات الفنية المتعلقة بالمكتشفات العلمية , والمخترعات الآلية الحديثة , والتخلف في التطبيقات التكنولوجية. 3- تفرق كلمة المسلمين , وقلة مبالاتهم بأمور أنفسهم الكبرى، وبأمور المسلمين العامة. 4- انتشار حشد من المفاهيم الخاطئة بينهم , منها ما يتعلق بالأمور الدينية

البحث , ومنها ما يتعلق بالأمور الدنيوية التي يأمر بها الدين , ويرشد فيها إلى أقوم السبل. 5- المؤتمرات التي تدبر ضدهم في المحافل الدولية الكبرى , ويستخدم لتنفيذها الأجراء من داخل الإسلامية. 6- إثارة الفتن الطائفية التي يقصد منها إعطاء الجيوش الاستعمارية ذرائع الاحتلال باسم حماية الأقليات. إلى غير ذلك من عوامل شتى. ب- وأما المبشرون فبالإضافة إلى أهدافهم ومهماتهم الرئيسية , المتعلقة بالتبشير , والمتعلقة بالتمهيد للاستعمار السياسي والعسكري , والتمكين له , كانت لهم أهداف أخرى لها صلة بالاستثمار والاستغلال , ذلك لأن مؤسساتهم التعليمية التي تبدأ من دور الحضانة وتترقى حتى المراحل الجامعية العليا , ومؤسساتهم الصحية التي تبدأ من نشر الأطباء والممرضين والممرضات في المدن والقرى , وترتقي حتى تصل إلى إنشاء المستشفيات الكبرى , ومؤسساتهم الاجتماعية المختلفة وقد كانت مراكز استثمار تتدفق لهم منها أرباح وفيرة , تدعم ميزانياتهم التبشيرية دعما قويا , وتهيئ لهم الفرص الملائمة للاستزادة والتوسع. فبينما ترضى المؤسسات التعليمية الإسلامية بمقدار الكفاف من الأقساط الشهرية أو السنوية التي يدفعها أولياء التلاميذ , مع النسب المجانية المرهقة , تصر المؤسسات التبشيرية على تحديد الأقساط العالية جدا , التي لا يستطيع تقديمها إلا طبقة الأغنياء والمترفين , بغية تسديد هدفين محكمين. الهدف الأول: تربية أبناء الطبقة الثرية تربية مناسبة تخدم أهداف المبشرين خدمات جلى , نظرا إلى أنهم قد كانوا في أغلب الأحيان هم الذين يرشحون لاستلام مراكز الإدارة والحكم. الهدف الثاني: تحصيل الأرباح الوفيرة منهم , لأنهم هم الذين

(3) الالتقاء على محاربة الإسلام وتطبيقاته

يستطيعون تقديم الأجور الشهرية أو السنوية الكبيرة لتعليم أبنائهم. جـ- وأما المستشرقون فإن مطامعهم الشخصية بالأرباح والمغانم مرتبطة بنجاح الجناحين الآنفي الذكر: المستعمرين والمبشرين , لأن هذين الجناحين هما اللذان يقدمان لمعظم المستشرقين ما يحتاجون إليه من دعم مادي وأدبي كبيرين , وقد يكون الدعم المادي لهم مفتوح الحدود العليا , فهم يتصرفون كما يشاؤون , ويرضون مطالب نفوسهم على ما يشتهون. بينما يتضور الباحثون من المسلمين قلة وفاقة , فلا يجدون من يسد حاجاتهم وحاجات أسرهم. (3) الالتقاء على محاربة الإسلام وتطبيقاته ويلتقي الغزاة المستعمرون والمبشرون ومعظم المستشرقين على محاربة الإسلام ومقاومة دعوته وهدم أبنيته. وسبب التقائهم على محاربته واضح لا يحتاج إلى تأمل كثير , فالإسلام بعقائده الحقة , وتعاليمه المشرقة , ودعوته الإنسانية العامة , وحيويته الكبرى , وفاعليته في نفوس المستمسكين به , هو الجدار الوحيد الذي يقف دون تحقيق المطامع المختلفة التي يهدف إليها كل جناح من الأجنحة الثلاثة , كما هو القوة المحركة في صد الحروب الصليبية التي قادها أجدادهم لغزو البلاد العربية الإسلامية طوال قرنين من الزمان , حتى اضطروا أن يرضوا من الغنيمة بالإياب , فأورثهم ذلك كراهية وحقدا , يصاف إلى ذلك أن الإسلام بما يتمتع به من حق ذاتي استطاع أن يقف في وجه توسع الأديان الأخرى , التي يحرص دعاتها على نشرها , إذ احتل مركز الصف الأول في التوسع وتقبل الشعوب المختلفة له , ومنهم أفواج كثيرة من أصحاب الديانات السابقة , الذين رأوا فيه الصورة الصحيحة للدين الرباني الحق , الذي أنزله الله على أنبيائه ورسله في مختلف أدوار التاريخ.

وقد أخذت محاربة هذا المثلث للإسلام تتمثل بمحاولة النيل منه على قدر المستطاع من جهودهم الضخمة , وهدفهم البعيد الذين يكدحون من أجله هو الوصول إلى هدم الإسلام هدما كليا , ونسخه من الوجود , ولذلك نجد المبشر "جسب" يود لو يمحي الإسلام من العالم. ولكنهم بعد الدراسة والتجربة رأوا أن هذا مطلب متعذر المنال ما دام في العالم مئات الملايين من الشعوب المختلفة التي تدين بالإسلام , فانتقلوا إلى محاولات تحقيق أهداف دون ذلك , وتتلخص هذه الأهداف بما يلي: الهدف الأول: الفصل الكلي بين الإسلام وبين معظم المسلمين فصلا فكريا وتطبيقيا , أو فصلا تطبيقا فقط , تمهيدا للفصل الفكري , لأنه متى طال العهد بين فكرة ما وبين تطبيقها غدا انتزاعها من أساسها أيسر وأقرب منالا , لأن شجرتها المغروسة في النفس تمسي حينئذ ضعيفة الجذور واهية واهنة , بسبب انعدام ثمارها وأزهارها وأوراقها , وما مثل التطبيق للأفكار إلا كمثل أوراق الأشجار وأزهارها وثمارها , وحينما تحبس الشجرة في جو خانق فاسد , أو تطلى بطلاءات تمنع تفتح أفنانها وأكمامها تذبل أغصانها , ثم تموت , وتموت معها جذورها , وتمسي حطبا ينادي على نفسه بالكسر والتحريق. الهدف الثاني: الفصل الجزئي بين الإسلام وبين المسلمين , فصلا فكريا وتطبيقيا , أو فصلا تطبيقيا فقط , والفصل التطبيقي على طول الخط مرحلة تمهيدية للفصل الفكري. ويختار أعداء الإسلام لدى محاولات هذا الفصل الجزئي أن يحصروا الإسلام في أمور العبادات , ثم يضيقوا عليه الخناق , حتى لا يخرج من المسجد إلى أي مجال من مجالات الحياة , ويحاولون أن يجعلوا السيادة في هذه المجالات المختلفة لأنظمة غير إسلامية , وقوانين غير إسلامية , ومفاهيم غير إسلامية , وتطبيقات بعيدة عن الإسلام بعد الباطل عن الحق , وبعد الظلمة عن النور. وتنفيذ هذا الهدف يأتي سابقا لتنفيذ الهدف الأول , عملا بسياسة التدرج. الهدف الثالث: ويأتي تنفيذه مرافقا لتنفيذ الهدفين السابقين , وهو تشويه

صورة الإسلام في نفوس المسلمين , وذلك بعدة خطط من خطط الهجوم الظالمة الآثمة منها الخطط التالية: 1- إثارة الشبهات حول أحكام الإسلام وتشريعاته وأنظمته المختلفة. 2- إثارة الشبهات حول القرآن الكريم والسنة المطهرة. 3- دس الأفكار الفاسدة , وإغراء بعض ضعفاء النفوس أو ضعفاء العقول من المسلمين باعتناقها على أنها من تعاليم الإسلام ومفاهيمه , ثم محاربة الإسلام بها. 4- اختلاق الأكاذيب والافتراءات على الإسلام وتاريخ المسلمين , وتشويه غايات الفتح الإسلامي. 5- مقابلة بعض أحكام الإسلام وأركانه وتشريعاته بالاستهزاء والسخرية والازدراء , ووصف المستمسكين بها بالرجعية والتأخر والتعصب والجمود , ونحو ذلك من العبارات التي تضعف حماسة المتدينين للتمسك بدينهم , وتفت في أعضادهم , في ركب المتحللين من الدين. 6- احتقار علماء الدين الإسلامي وازدراؤهم , وإلجاؤهم إلى أضيق مسالك اكتساب الرزق , لتنفير المسلمين منهم ومن طريقتهم , ثم تقديم جهلة منحرفين إلى مراكز الصدارة , ليعطوا صورة مشوهة سيئة عن التطبيق الإسلامي , توسلا إلى تشويه الإسلام نفسه عن طريقهم. 7- متابعة تركيز الهجوم ضد الإسلام , وتكريره بإلحاح , أملا بحدوث الغفلة من الدعاة المسلمين الذين ينشرون المفاهيم الإسلامية ويحذرون من دسائس أعداء الإسلام , وأنت خبير بما للتكرار الملح من تأثير في نفوس الناس , ولو كان مضمونه كذبا وباطلا , وهذا ما تلجأ إليه وسائل الإعلام الحديثة المضللة للجماهير.

(4) محاولات الفصل الكلي بين الإسلام والمسلمين

(4) محاولات الفصل الكلي بين الإسلام والمسلمين وضح لدينا أن الغزاة يحاولن إحداث الفصل الكلي بين الإسلام والمسلمين , وتتخذ محاولات هذا الفصل طابع الفصل الفكري الذي يلازمه الفصل التطبيقي حتماً , فإن لم يتحقق لهم ذلك اكتفوا بمحاولات الفصل التطبيقي , الذي ينجم عنه بعد طول العهد ضعف الارتباط الفكري , ثم ذبوله , حتى لا يبقى منه إلا عصبية النسبة , ثم انقطاعه , وعندئذ يتم الانفصال الذاتي , أو الفصل بأقل جهد. والخطط التي تهدف إلى إحداث هذا الفصل تعتمد على توجيه مختلف الأسلحة الفكرية والمادية لأسس العقيدة الإسلامية , ولأركان الإسلام بشكل مباشر , فيوجه الغزاة وسائل حربهم إلى أسس الإسلام الاعتقادية والعملية الكبرى , ويتناولون في هجومهم المضلل عن الحق العناصر التالية: 1- عقيدة الإيمان بالله وبصفاته , إذا يحاربونها بدعوات الإلحاد بالله , وبالنظرات الوجودية , والفلسفات المادية , ودسائس التشكيك , أو بدعوات الصرف عن الإيمان بالله وحده , إلى التلفيقات الوثنية , والعقائد المصنوعة المختلفة , وهذا ما لا يستخدمه المبشرون إلا نادراً , لئلا يقعوا في تناقض مع أصل مهمتهم , وهي مهمة التبشير بالعقيدة النصرانية. 2- عقيدة الإيمان بالكائنات الغيبية عن حواسنا , كالملائكة والجن , وذلك بالبحوث التي تشكك بوجود أشياء غيبية , وتحاول إنكارها وجحودها مستندة إلى إيهامات مادية بحت بعيدة عن مستوى الفكر الراقي. 3- عقيدة الإيمان بالرسل عليهم الصلاة والسلام. أما الملحدون الذين يعلنون إنكار الرسالات الربانية كلها أو المتظاهرون بالإلحاد فإنهم يواجهون كل العقائد بالإنكار والجحود , ويحجرون على عقولهم , كي تظل حبيسة في الماديات المدركة بالحواس الظاهرة , ولا تلجئهم عقائد أخرى إلى التحايل للتفريق بين عقيدة

وأخرى , وبين رسول من عند الله ورسول آخر من عنده. وأما الذين يعلنون أنهم يتبعون أو يعبدون أحل الرسل السابقين , فيركزون هجومهم على التكذيب برسالة محمد صلوات الله عليه , لينقضوا بذلك الإسلام من جذوره , وقد يدفعون من وراء الستار من يتبنى الإلحاد ليصرف المسلمين عن عقائدهم ويجعلهم ملحدين , شعوراً منهم بأن الملحدين أهون عليهم من أصحاب دينٍ حقٍ منافسٍ لهم , مقبولٍ لدى العقول والنفوس. 4- عقيدة الإيمان بالكتب الربانية السماوية , ويحاول مدعو حملة رسالة أخرى غير الإسلام أن يوجهوا أسلحتهم الظالمة الآثمة ضد القرآن , أعظم كتاب سماوي عرفته الإنسانية , وذلك بالتشكيك فيه , وبادعاء أنه من صنع محمد , أو أنه مقتبس من الكتب السابقة , أو أن فيه أشياء لا يعقل أن تصدر عن الله , أو نحو ذلك من دسائس مختلفة , وهم يعلمون أن كل ادعاءاتهم أكاذيب يفترونها ويلفقونا , ليخدعوا بها الجهلة من أبناء المسلمين. وقد تصدى لدفع شبهاتهم وفضح أكاذيبهم وافتراءاتهم عدد كثير من الباحثين المسلمين. 5- عقيدة الإيمان باليوم الآخر وما أعد الله فيه من جزاء بالثواب أو بالعقاب. أما الملحدون أو المتظاهرون بالإلحاد فيبثون بين أبناء المسلمين النظريات المادية البحت , ويقطعون الصلة بين الإنسان وبين فكرة العدل والجزاء , التي قامت عليها حكمة الابتلاء , والتي يكمن فيها سر خلق الله الإنسان , وهو ما أعلنه سبحانه في سورة (الملك/67مصحف/77نزول) : {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} . وأما مدعو اتباع رسالة ربانية أخرى فيوجهون هجومهم إلى صورة

العقيدة الإسلامية بالدار الآخرة , وما فيها من جنة ونار ونعيم وعذاب ماديين , مع أن أصول الشرائع الربانية الصحيحة كلها متفقة على هذه الحقيقة التي جاءت في الإسلام , وأوضح تفصيلاتها القرآن العظيم , وأما التحريفات الدخيلة على الأديان الأخرى فهي أوضاع إنسانية لا يحتج بها على الأخبار الربانية , وهي مرفوضة أصلاً وفرعاً. 6-عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر , وترتبط خطة هجوم أعداء الإسلام على هذه العقيدة بهجومهم على الإيمان بالله وبصفاته , لأن القضاء والقدر مظهران من مظاهر صفات الخالق جلا وعلا. ويحاول الأعداء الغزاة أن يشوهوا صورة العقيدة الإسلامية المتعلقة بهذا الركن من أركان الإيمان , إذ يجعلونها على الصورة الجبرية التي يزعمها الجبريون , ويغالطون المسلمين في ذلك , ويخفون عنهم لدى توجيه دسائسهم الصورة النقية الرائعة , التي يعتقدها معظم المسلمين , والتي تدل عليها نصوص الإسلام المختلفة , وهي الصورة المثالية التي توضح أن الإنسان مسؤول عن جميع أعماله وتصرفاته الإرادية , وأنه كاسب لها بإرادته الحرة , وتوضح أن الله تعالى بيده الخلق والأمر وهو على كل شيء قدير. 7- أركان الإسلام الكبرى , كالصلاة , والزكاة , والصيام , والحج , ولواحقها , كالجهاد في سبيل الله , ونظام الحكم في الإسلام , ونظام كسب المال وإنفاقه , وأحكام الأحوال الشخصية التي يعتمد عليها بناء الأسرة , إلى غير ذلك من تعاليم الإسلام وأحكامه في الحلال والحرام. وهكذا يحاول الأعداء الغزاة أن يركزوا هجومهم على أصول الإسلام وأركانه وفروعه , لفصل المسلمين عنه فصلاً كلياً , ولما كانت العقائد والتعاليم والأحكام الإسلامية من الصلابة والمتانة ومطابقة الحق وثباتها في نفوس المؤمنين بمنزلة لا تعادلها أية نظريات أخرى , استطاعت أن تصمد لكل محاولات الهدم الظالمة الآثمة , التي يوجهها الأعداء الغزاة ضدها.

(5) محاولات الفصل الجزئي بين الإسلام والمسلمين

(5) محاولات الفصل الجزئي بين الإسلام والمسلمين عن أبي أمامة عن النبي قال: ((لتنقضن عرا الإسلام عروةً عروة , فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها , فأولهن نقضاً الحكم , وآخرهن الصلاة)) . حينما لا يتمكن الأعداء الغزاة من إحداث الفصل الكلي بين الإسلام والمسلمين ويتعذر عليهم تحقيق هذا المطلب , يكتفون بمحاولات إحداث الفصل الجزئي. وتتخذ محاولات إحداث هذا الفصل طابع الفصل الفكري , الذي يلازمه باستمرار الفصل التطبيقي , نظراً إلى أن التطبيق ثمرة العقائد والمفاهيم الفكرية , فإن لم يتحقق لهم ذلك اكتفوا بمحاولات الفصل التطبيقي الذي ينجم عنه بعد طول العهد ضعف الارتباط الفكري , ثم ذبوله , حتى لا يبقى منه إلا الذكرى , ثم انقطاعه انقطاعاً تاماً , وعندئذ يتم الانفصال الفكري انفصالاً ذاتياً , أو يتم الفصل بأدنى جهد. والخطط التي تهدف إلى إحداث هذا الفصل الجزئي تعتمد على توجيه مختلف الأسلحة الفكرية والمادية إلى بعض أركان الإسلام العملية , وأحكامه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية , التي يهم الأعداء الغزاة إلغاؤها , لأنها تمثل عقبات كبرى في طريق تحقيق أغراضهم العدوانية , الرامية إلى الاستيلاء والاستعباد واستنزاف الخيرات والطاقات الأرضية والبشرية داخل البلاد الإسلامية , والرامية إلى دفع المسلمين للمسير في الركب المعادي للإسلام والمناهض له. وهم في هذه الخطط يحاولون أن يأتوا الإسلام فينقصوه من أطرافه , وينهشوا منه على قدر استطاعتهم , مزينين للمسلمين ذلك , متخذين في تزيينهم كل صور الخداع , فمنها ما يكون بقالب نفسي , ومنها ما يكون بقالب علمي ,

ومنها ما يكون على وجه النصيحة والرغبة بمساعدة المسلمين على التقدم والرقي , إلى غير ذلك من صور. وكل دارس لتاريخ المسلمين المعاصر يلاحظ أن أعداء الإسلام الغزاة قد عملوا على الفصل بين المسلمين وبين العناصر التالية من إسلامهم: العنصر الأول: الجهاد في سبيل الله , لأن هذا الركن التشريعي في الإسلام يمثل القوة الهائلة لصيانة المسلمين من أعدائهم , واستغلالهم لهم , واحتلالهم أرضهم , ويمثل القوة الهائلة أيضاً لإزاحة العقبات من طرق انتشار الإسلام بين مختلف الأمم والشعوب في طول الأرض وعرضها , وللمحافظة عليه من التخلخل والضعف داخل الأمم والشعوب الإسلامية. العنصر الثاني: نظام الحكم في الإسلام , ويلح الأعداء الغزاة على اتخاذ الوسائل المختلفة الكثيرة للفصل بين هذا النظام وبين المسلمين , لأنه يمثل الدرع الواقي , الذي يمنع تسرب أعداء الإسلام أو أجرائهم إلى سدة حكم المسلمين. العنصر الثالث: نظام المال في الإسلام , ويلح الأعداء الغزاة أيضاً على اتخاذ الخطوات الجبارة لإحداث الفصل بين هذا النظام وبين المسلمين , لأنه متى طبق على صورته الصحيحة وعلى الوجه الأتم , ورافقت تطبيقه خشية الله ومراقبته الدائمة أعطى الثمرات التاليات: 1- تخفيف الفوارق الفاحشة في التملك المالي , الأمر الذي يؤدي إلى توزيع ثروات البلاد توزيعاً يحقق الكفاية للجميع , ويحقق الرفاه للنسبة العظمى من جماهير الأمة , وهذه الثمرة تسيء إلى مطامع أعداء الإسلام , أما الشرقيون منهم فيجدونها درعاً يقي المسلمين من تسرب مذاهبهم الاقتصادية الملحدة إلى صفوفهم , وهي المذاهب التي تمثل طلائع الجيش الشرقي الطامع بغزو البلاد الإسلامية , وأما الغربيون فيجدونها أيضاً درعاً بقي المسلمين من تكالب مطامع كل الطامعين باستغلال خيراتهم وابتزاز أموالهم , وهم يريدون شعوباً تفتح كل خزائنها لهم حتى يرضوا مطامعهم بسلبها.

2- الازدهار الاقتصادي الذي يعتمد على حشد مختلف طاقات الأمة في العمل والإنتاج والاستثمار , وهذه الثمرة لا ترضي أيضاً مطامع أعداء الإسلام , الذين يريدون استغلال هذه الطاقات لأنفسهم , كما لا ترضيهم من وجه آخر , وهو أن الازدهار الاقتصادي أحد سبل القوة التي تتمتع بها الشعوب , والأعداء الغزاة يحرصون على أن تظل الشعوب الإسلامية بعيدة عن كل سبيلٍ من سبل القوة. 3- إبراز المجتمع الإسلامي بواقع اقتصادي محبب جذاب , يقدم للناس أفضل صورة تطبيقية حيةٍ لنظامٍ تامٍ , يحقق للناس الكفاية والرفاهية والتعاون , الأمر الذي يفتح للإسلام ولأنظمته الربانية طرق التوسع والانتشار , وضرورة انجذاب الشعوب وتقبلها لكل صالح ونافع فيه الخير والسعادة , وذلك متى شهدت له صورة تطبيقية حية , تدعمها قوة مادية , وهذه الثمرة تسوء أيضاً أعداء الإسلام الذين يعملون جهدهم لإلغائه ومحوه من الوجود وتنفير الناس عنه. العنصر الرابع: التعليم الديني الصحيح لأبناء المسلمين وبناتهم , ويتخذ الأعداء الغزاة الخطوات الجبارة لإحداث الفصل بين الشعوب المسلمة وبين تعلم العلوم الإسلامية المختلفة تعلماً صحيحاً مقروناً باطلاع واسع على الثقافات المعاصرة , لأن دراسة هذه العلوم على الطريقة المثلى تشكل في نفوس المسلمين منطقاً ثقافياً واعياً , لديه ما يكفي من قوة المحاكمة للأمور , وقوة الحجة , وقوة الجدل والدفاع , وقوة تجلية الحق وإبرازه بالتعبير المؤثر الجذاب , كما أنها تمثل قوة الحماية لعقول المسلمين وقلوبهم من أن تتسرب إليها الدسائس الفكرية , التي يحاول الأعداء الغزاة إقناعهم بها , وتمثل أيضاً قوة التوعية الدائمة والتحذير من مكايد أعداء الإسلام والمسلمين على اختلاف اتجاهاتهم وأغراضهم. وكل واحد من هذه الأمور يغيظ أعداء الإسلام الذين يعملون ويكدحون لهدمه , ويعملون ويكدحون لابتزاز خيرات المسلمين وتسخير طاقاتهم واستعبادها.

العنصر الخامس: أحكام المعاملات المختلفة , التي اشتمل عليها نظام الإسلام وهي الأحكام التي يجب أن يتقيد بها الحكم والقضاء. ويتخذ الأعداء الغزاة الخطوات الجبارة لإحداث الفصل بين الشعوب المسلمة وبين تطبيق الأحكام الإسلامية في حكمها وقضائها , ولإحلال القوانين المدنية محلها , لأن الأحكام الإسلامية تمنع تصرف أعداء الإسلام في بلاد المسلمين بحسب أهوائهم , نظراً إلى الحصانة الكبرى التي يتمتع بها القضاء الإسلامي والأحكام الشرعية , ونظراً إلى ثبات أسس الأحكام الشرعية , وعدم قابليتها لأن تتبدل بتبدل أهواء الحكام ومصالحهم إذ هي تستند إلى مصادر التشريع الإسلامي الثابتة كما يحقق تطبيقها العدل والاستقرار , بما فيها من اتباعٍ للحق , واعتصام بالحزم , وأخذ بجوانب الرحمة التي لا تشجع المفسدين , ولا تظلم أحداً , ولا تهضم حقاً. والثمرات العظيمة التي تقدمها الأحكام الإسلامية التي يتقيد بها القضاء الإسلامي السليم النزيه , تسيء إلى أعداء الإسلام إساءات بالغات , إذ تحرمهم من سلطة التلاعب بالقوانين حسب أهوائهم ومصالحهم , كما تبقي للإسلام نوعاً من السلطة التنفيذية , إذ يظل المسلمون عن طريقها مرتبطين بإسلامهم , يضاف إلى ذلك ما يمنحه تطبيق أحكام الإسلام من طمأنينة واستقرار وتخفيف من المشكلات الاجتماعية , نظراً إلى شعور المسلمين بأن الأحكام الربانية هي التي تطبق عليهم , وهذا الشعور يفرغ على قلوبهم رضى بها , وسر ذلك أن الأحكام الإسلامية الموضوعة قيد التطبيق في الحكم تجمع في وقت واحد السلطة المادية والسلطة الروحية. العنصر السادس: أحكام الأحوال الشخصية , الشاملة لأنظمة بناء الأسرة وحقوقها وواجباتها. ويتخذ الأعداء الغزاة الخطوات الجبارة لإحداث الفصل بين المسلمين وبين تطبيق الأحكام الإسلامية المتعلقة بالأحوال الشخصية , التي تتناول أحكام عقد الزواج وحله , وتتناول ضوابط العفة , وأصول الأسرة , وأسس روابطها , وواجبات أعضائها وحقوقهم , وتتناول أحكام تكافلهم , وحدود النفقة

الواجبة , ومن يتحمل مسؤوليتها , ومن يستفيد منها , ويلحق بذلك أحكام المواريث. ويحاول الأعداء الغزاة أن يحلوا محل أحكام الإسلام المتعلقة بالأحوال الشخصية فوضويات مختلفة , وقوانين فاسدة أو ناقصة من أوضاع الناس , بغية خلخلة بناء الأسرة الإسلامية , وإحداث الفصل الجزئي بين المسلمين والإسلام , تمهيداً لإحداث الفصل الكلي بينهم وبينه. إنه متى فقدت الأسرة المسلمة نظامها المحكم القائم على التعاليم الإسلامية انحلت روابطها , وانتزعت منها روح التعاطف والمودة والثقة المتبادلة , ونمت الأنانية الفردية , وشعر كل فرد بأن مسؤولياته نحو أفراد أسرته أعباء لا موجب لها , وتمسي علاقات الأسرة إذا وجدت علاقات مادية صرفة قائمة على أسس تبادل المصالح والمنافع , كالأسس التي تقوم عليها التجارة , والمعاملات الاقتصادية الأخرى , وهذا ما وصلت إليه الأسرة الأوربية التي أخذت في طريق الانحدار , مستهينة بتقاليدها وأنظمتها الموروثة , المستقاة أصولها من بقايا التعاليم الدينية القديمة. وحينما يفقد عقد الزواج قدسيته وأحكامه الربانية , وتقوم الارتباطات الأسرية على اتفاقات فوضوية , تتحكم بكل من الرجل والمرأة أهواؤهما ونزواتهما العارضة التي ينحل بها الارتباط , ليقوم مقامه صفقة ارتباط آخر , ثم تنشأ مشكلة المسؤولية نحو الأولاد إذا وجدوا , وعندها تتوارد مشكلات اجتماعية كثيرة , تستدعي إنشاء دور اللقطاء , وملاجئ المشردين الذين لا أسر لهم , ويكثر أطباء الإجهاض الذين يقتلون الأجنة , ويتفشى في الفتيات تعاطي حبوب منع الحمل , وتتفشى في الناس الأمراض الخطيرة , التي تمثل العقاب الإلهي للفوضى الجنسية. وحينما تفقد أعضاء الأسرة ضوابط العفة التي أمرت بها الشرائع الربانية كلها , تمسي العلاقات قائمة على أساس فقد الثقة , ومع فقد الثقة يذبل الشعور بالمسؤولية نحو الأولاد , والشعور بالعطف والمودة نحوهم ونحو التي أنجبتهم , ومع هذه الخاطرات النفسية القلقة تنمو الأنانية الذاتية وتفقد الأسرة

جزءاً كبيراً من أركانها المعنوية , وهذا ما يريده أعداء الإسلام للمجتمعات الإسلامية. وحينما تفقد الأسرة أصول تكوينها وأسس روابطها تتدفق سيول المشكلات الحقوقية , التي تدفع معها كتلاً صلبة كثيرة من الجرائم الإنسانية المؤلمة , وهذا ما يريده أيضاً أعداء المسلمين للمجتمعات الإسلامية. وحينما تمسي واجبات أعضاء الأسرة واجبات غير ربانية , وتكون عرضة للتحولات والتبدلات بحسب آراء المقننين ينحل من نفوس الأفراد عنصر كبير من العناصر المحرضة على الالتزام , الدافعة له بقوة , ألا وهو عنصر مراقبة الله وخشيته , وعندئذ تنشأ آلام اجتماعية كثيرة , ويتهرب الناس من تأدية الحقوق متى وجدوا إلى ذلك سبيلاً يحميهم من عقاب السلطة الحاكمة. ونظام الميراث يمثل رابطاً قوياً من الروابط المادية للأسرة , إضافة إلى الروابط المعنوية الأخرى , وبانقطاع هذا الرابط تفقد عوامل بناء الثروة العامة شطراً كبيراً من عناصرها النفسية , لأن معظم الناس يضاعفون كدحهم في الحياة رغبة في إسعاد وإغناء أولادهم وذرياتهم من بعدهم , فإذا انقطعت آمالهم من ذلك تضاءلت القوى المحرضة لهم على العمل والإنتاج , وأمست قاصرة على تحقيق المطامع التي تتعلق بأشخاصهم فقط. ويتخذ أعداء الإسلام لهدم الأنظمة الإسلامية المتعلقة بالأحوال الشخصية عدة وسائل , منها الوسائل التالية: 1- التلاعب بالنظريات الحقوقية , وبث نظريات مختلفة مزخرفة , يلبسونها أثواب التحرر. 2- نشر المذاهب الفكرية الإلحادية القائمة على أساس إلغاء نظام الأسرة وضوابط العفة , وبث المجتمعات الإنسانية بثاً بهمياً. 3- الغزو بأنواع السلوك المقرون بالفوضى الجنسية , وهذا الغزو قد جاءت أمواجه إلى أبناء المسلمين وبناتهم متدفقةً من الغرب ومن الشرق.

4- وكان من الوسائل خطط تهدف إلى إفساد الوضع التطبيقي للقضاء الإسلامي والقضاة المسلمين , أو إيجاد العقبات دون إصلاح وضعه الفاسد , والغرض من ذلك أن يحمل هذا الوضع الفاسد مبررات إلغائه , وبعد إلغائه يتم إلغاء أصوله وأحكامه , وإحلال القوانين المدنية محله , وهذا ما جرى فعلاً في بعض البلاد الإسلامية. العنصر السابع: الأخلاق الإسلامية , وسائر أنواع السلوك الإسلامي الفردي والجماعي , فعملوا على نشر الفساد الخلقي والسلوكي بين المسلمين. واهتموا اهتماماً بالغاً بإفساد المرأة عن طريق نظريات تحريرها , وإغرائها بالانطلاق من قيود العفة , ورقابة الأسرة , ونقد المجتمع , وخدعوها بشعارات الحرية والمساواة , وحرضوها هم وأجراؤهم على السفور والاختلاط , حتى انجرفت إلى مزالق كثيرة. العنصر الثامن: العبادات الإسلامية الفردية والجماعية , وسائر شرائع الإسلام وأحكامه , ومفاهيمه المتعلقة بشتى شؤون النفس والحياة والفكر والعمل. العصر التاسع: لب دائرة الإسلام الذي ترتكز فيه أركان العقيدة الإيمانية , وهو الهدف الأخير. ويحاول الأعداء الوصول إلى هدم هذا العنصر الذي هو أساس الدين , بعد عمليات الفصل الجزئي للعناصر السابقة , ومتى تم هدم هذا العنصر فقد تم هدم الإسلام كله , بحل آخر عروة من عرا الإسلام.

الفصل السادس وسائل الغزاة وحيلهم

الفصل السادس وسائل الغزاة وحيلهم 1- مقدمة عامة 2- وسائل الغزو غير المسلح. 3- شرح الوسائل.

(1) مقدمة عامة

(1) مقدمة عامة استخدم الأعداء الغزاة عدة وسائل لتحقيق أهدافهم , وتنقسم هذه الوسائل إلى قسمين رئيسين: القسم الأول: وسائل الغزو المسلح الذي يشترك فيه المستعمرون وسائر الطامعين بالتسلط سياسيين كانوا أو عسكريين , تؤازرهم في ذلك سائر القوى المادية والمعنوية التي تتجند معهم في حملات الغزو. القسم الثاني: وسائل الغزو غير المسلح , ويشترك فيه المبشرون والمستشرقون وبعض السياسيين والاستعماريين , ويؤازرهم في ذلك الشركات والمؤسسات ذات الاختصاصات المتنوعة , تجارية كانت أو صناعية , أو إنشائية عمرانية , أو هندسية , أو غير ذلك , وتؤازرهم أيضاً البعوث العلمية , والمؤسسات التعليمية على اختلاف درجاتها , وتفاوت مستوياتها , وكذلك الخبراء الفنيون والإداريون في شتى نواحي الحياة , حينما تدعوهم الضرورة إلى ذلك وتتسنى لهم المؤازرة والتأييد. أما وسائل الغزو المسلح فقد تختفي مقدماتها تحت أستار الخداع السياسي أو الاقتصادي , أو التعليمي , أو العسكري , وحينما يجد الغزاة الطامعون أن الفرص السياسية والعسكرية قد أصبحت مواتية لهم يفتعلون الأحداث لإثارة طيش الجهة التي يهدفون إلى غزوها , أو يفتعلون الفتن الداخلية الطائفية أو الطبقية أو القومية , أو يرشون من يطلب منهم التدخل , ليتخذوا من إحداها

(2) وسائل الغزو غير المسلح

مبرراً لتدخلهم السافر , بحجة التأديب والانتقام , أو حجة حماية الأقليات , أو بحجة العمل على فرض الأمن والاستقرار , أو حجة تلبية طلب بعض أهل البلاد لنجدتهم , أو حجة التمدين والمساعدة على التقدم , أو حجة تماثل بحجة الذئب ضد الخروف في الحمام , إذ قال الذئب للخروف بعد أن نظر إليه بشراسة ولؤم ونهم إلى افتراسه: لماذا تثير الغبار علي أيها الخروف الوقح؟ . فقال له الخروف: وهل في الحمام يا صاحب السلطان والصولجان غبار؟ ألا ترى أنه لا يوجد في الحمام إلا بلاط وماء , ولكن قل لي: أريد أن آكلك , وكفى , ولا تفتعل المبررات المرفوضة شكلاً وموضوعاً , فغريزة العدوان وحب السطو في نفسك كافية لأن تبرر لك كل جريمة , ولكن الذئب اعتبر كشف هذه الحقيقة إهانة بالغة له فسطا على الخروف فأكله وأخرس لسانه. ثم التفت فرأى في ناحية نائية من الحمام خروفاً آخر , فقال له: وأنت؟! . فقال له الخروف: أما أنا فلم أثر غباراً ولم أوجه اعتراضاً. فقال له الذئب: ولكنك من صنف من اعترض علي وناقشني , ثم سطا عليه وافترسه. وهكذا يتم بسط نفوذ الطامعين , حينما تتوافر لديهم القوى المادية الكافية , أو حينما تنجح حيلهم التي تظفرهم بمطامعهم , دون أن يكلفهم الظفر بها نفقات كثيرة ودماء غزيرة , وقتالاً مضنياً. أخرى , استطاعت أن تصمد لكل محاولات الهدم الظالمة الآثمة , التي يوجهها الأعداء الغزاة ضدها. (2) وسائل الغزو غير المسلح وأما سوائل الغزو غير المسلح فكثيرة جداً يخططها الدهاء والمكر الشديد , وينفذها الجد والصبر وطول الأمل , ومن هذه الوسائل ما يلي: 1- الوجوه المستعارة التي تظهر معاني إنسانية جميلة يستأنس بها الناس , وتخفي من ورائها رؤوس ونفوس الوحوش الضاريات. 2- الخداع السياسي , وتتولاه الأجهزة السياسية للدول ذات المطامع بالسيطرة , ولهذا الخداع أشكال مختلفة كثيرة , تعتمد على الكذب والنفاق والحيلة والاستدراج والدفع إلى المزالق.

3- الضغط السياسي , ويكون باستخدام وسائل الضغط الدولية والمحلية. 4- الحصار الاقتصادي , وله أشكال مختلفة كثيرة , والغرض منه الإلجاء إلى الخضوع والخنوع والموافقة على الشروط التي تمليها السلطات الطامعة. 5- الحصار العلمي والثقافي , وله أشكال كثيرة , والغرض منه الإبقاء في دائرة التخلف , والإلجاء للموافقة على قبول المذاهب الفكرية أو الاجتماعية أو الدينية التي تمليها السلطات الطامعة , أو الرضى بتنفيذ خططهم السياسية والعسكرية. 6- التمييز الطائفي , وهو نوع من الإلجاء إلى الانتساب إلى الطائفة المميزة لتحصيل الفوائد المالية أو العلمية أو الاجتماعية أو المغانم السياسية أو العسكرية التي تميز بها من غيرها من الطوائف. 7- التمييز العنصري , وهو مظهر من مظاهر العصبيات الجاهلية التي تدعو إلى سيطرة بعض العناصر البشرية على بعض , وإن اتفقت في أديانها ومذاهبها الفكرية والاجتماعية , وأوطانها ولغاتها. 8- التضليل الفكري , وذلك لتحويل مناهج سلوك الشعوب التي يوجه لها هذا التضليل. 9- العبث النفسي , وذلك بالتلاعب بالانفعالات الآنية والعواطف الثابتة لاستثمار ذلك في تحقيق الأهداف التي يرمي إليها الطامعون بالتسلط. 10- حيل السلب المالي , وذلك لتحقيق ما يمكن استلابه من المطامع المالية عن طريق الحيلة 11- الإفساد الاجتماعي ببث عوامل الخلاف والضعف في صفوف الأمة , وذلك لإضعاف قوتها الجماعية , ولدفعها إلى سحيق التخلف حتى تفقد ثقتها بنفسها وترضى مواقف الاستعباد 12- الإفساد الخلقي , لما لهذا من نتائج وخيمة , تظهر بانهيار الشعوب التي تفسد أخلاقها , وتظهر بضعفها وتخلفها , وتمزق وحدتها , وكل روابط

(3) شرح الوسائل

التماسك فيها , وعندئذ يتمكن الطامعون من السيطرة عليها سيطرة تامة. 13- إقامة أنواع الصراع الطبقي , والطائفي , والحزبي , والمذهبي , والقومي , والعرقي , والإقليمي , وغيرها. وفيما يلي شرح إجمالي لهذه الوسائل من وسائل الغزو غير المسلح: (3) شرح الوسائل الوسيلة الأولى: الوجوه المستعارة حينما تريد كتائب الغزو غير المسلح تحقيق أهدافها المختلفة في الشعوب المسلمة فإنها تلبس لذلك وجوهاً مستعارة متنوعة , لتخفي بها هويتها الحقيقية. وقد استطاع الدهاة العالميون أن يبتكروا للذين يريدون التنكر وإخفاء أهدافهم وجوهاً مستعارة كثيرة , ومعظم هذه الوجوه المستعارة إنساني السمات , ولكن الوجوه الحقيقية التي تختفي وراء هذه الوجوه المستعارة لا تمت إلى الإنسانية بصلة. وفي داخل الأقفاص الحديدية يشاهد زائرو الأجنحة الخطرة من حدائق الحيوانات أشباه هذه الوجوه الحقيقة , إلا أنها من الآدميين تسترها وجوه مستعارة خادعة يستأنس بها. ومن الوجوه المستعارة المؤسسات التعليمية التي يصدرها إلى البلاد الإسلامية المبشرون والمستعمرون والملحدون , ويتبعها مناهجهم التعليمية , وحشد الكتب التي تحمل ألوان الثقافة المدسوسة بما يريدون غزو الشعوب الإسلامية به , مما يهدم دينهم وكيانهم الذاتي , ويمزق شخصيتهم الواحدة إلى أشلاء متناثرة. فما لا شك فيه أن العلم وجه إنساني مشرق , ولكن العلم متى أخفى وراءه خطة من خطط الإفساد والتضليل أمسى في الحقيقة وجهاً من الوجوه

الوحشية المفترسة للإنسانية وفضائلها وكمالاتها , ولا بد أن ينحسر عنه ذلك الوجه المستعار مهما طال أمد المصانعة والرياء والنفاق. ومن الوجوه المستعارة أيضاً المؤسسات الصحية التي يصدرها المبشرون إلى بعض البلاد الإسلامية، يقول المبشر ((موريسون)) : ((نحن متفقون بلا ريب على أن الغاية الأساسية من أعمال التنصير بين المرضى , أن ندخلهم أعضاءً عاملين في الكنيسة المسيحية الحية , وتحرص مؤتمرات التبشير على أن تكون توجيهاتها وقراراتها مؤكدة لخطورة استخدام العلاج الطبي في التبشير)) . ومما لا ريب فيه أيضاً أن الطب وجه إنساني مشرق , ولكن الطب متى غدا وسيلة من وسائل التضليل الفكري , وإفساد العقائد الصحيحة التي تدين بها الشعوب الإسلامية , أمسى في الحقيقة وجهاً من وجوه الثعالب الشيطانية , التي تخادع الإنسانية لترمي بها في الجحيم , وتدفعها إلى الشر والإثم والباطل , ومهما طال الأمد فلا بد أن ينحسر ذلك القناع الخادع , ويظهر الوجه الحقيقي اللئيم. ومن الوجوه المستعارة المساعدات الاقتصادية والمعونات المادية التي تقدمها الدول الاستعمارية الطامعة. وخليق بالمساعدات والمعونات أن تكون وجهاً إنسانياً مشرقاً , ولكنها حينما تكون وسيلة للتسلط , أو وسيلة لفرض شروط معينة تتعلق بالكرامة , أو بالسيادة , أو بالعقائد , أو بالأخلاق , أو بكيان الأمة الإسلامية الواحدة , فإنها لا غرو أن تمسي وجهاً متوحشاً مفترساً , يقدم لفريسته الطعم , لينقض عليها متى دنت منه , ولا بد أن ينحسر القناع , ويظهر الوجه الشره الفراس مهما طال أمد المصانعة والمداراة والنفاق. ومن الوجوه المستعارة المساعدات العسكرية بالأعتدة الحربية , أو بالرجال , أو بالخبراء والفنيين.

الوسيلة الثانية الخداع السياسي

وخليق أيضاً بالمساعدات العسكرية التي يقصد منها صد عدوان المعتدين وإقامة الحق والعدل أن تكون وجهاً من الوجوه الإنسانية المشرقة , ولكنها حينما تكون وسيلة للتسلط , أو تكون مصحوبة بشروط تمس كرامة الأمة , أو سيادتها , أو عقائدها أو أخلاقها , أو كيانها المتماسك القوي , أو تكون مقيدة بقيود تحجزها عن الحركة الفعلية في صد العدوان أو استرداد الحق المغصوب , فإنها لا بد أن تسفر عن وجه من الوجوه المتجهمة المتوحشة المفترسة , التي تتصنع لفريستها , فتلبس أمامها وجهاً مستعاراً تأنس به وتميل إليه , وذلك لتتمكن من تحقيق أهدافها دون أن تثير حذر فريستها , وتلجئها إلى المخابئ. وهكذا تتنوع الوجوه المستعارة التي تخفي وراءها وجوهاً مختلفة شتى , يلاحظ أهل البصر النافذ فيه وجوه الثعالب , والذئاب , والضباع , والثعابين , والتماسيح , والفهود , والنمور وغير ذلك من وحوش البر والبحر. أما الموقف الحزين فهو موقف الإنسانية الكريمة , التي تقف ذليلة مهينة متألمة تنظر شطر السماء , وتتحرق خجلاً من انتساب هذه الوحوش الضارية إلى سلالتها البشرية. الوسيلة الثانية الخداع السياسي مراقبو الأحداث يشاهدون كم نكبت البلاد الإسلامية بحيلٍ مختلفة من حيل الخداع السياسي الذي مهره الغزاة الطامعون الغربيون والشرقيون مهارة فائقة. وعناصر الخداع السياسي ترجع إلى مجموعة من الرذائل الخلقية , كالكذب والنفاق والرياء والخيانة ونقض العهد وعدم الوفاء بالوعد ونحو ذلك. وتاريخ المآسي التي اكتوى المسلمون بنارها على أيدي الأعداء الغزاة والطامعين مشحون بأمثلة الخداع السياسي , ومنها الأمثلة التالية: أ - الخديعة التي وقعت الأمة العربية في فخها على أيدي الاستعماريين خلال الربع الأول من القرن العشرين للميلاد , فأدت إلى قصم ظهر الوحدة

الإسلامية , بقيام الثورة العربية ضد الشعب التركي المسلم , لا ضد سلطاته الحاكمة فقط , وذلك في عام (1916م) , ثم إلى تقسيم الأمة العربية إلى دويلات , وبسط النفوذ الاستعماري عليها , وقد رافق هذه الأحداث الجسام سلسلة متعاقبة من حلقات الخداع السياسي الذي تصيد به المستعمرون مشاعر الأمة العربية أولاً , واستغلوا به ضعفهم وغفلتهم وجهلهم بألاعيب السياسة الدولية وحيلها وأكاذيبها , ونقضها للعهود , وعدم وفائها بالوعود , ومطامعها بالاستغلال وبسط السلطات , ونهب خيرات البلاد , وابتزاز أموالها وثرواتها وطاقاتها. وقد بدأت الخديعة بإثارة مشاعر الاستقلال والتحرر في شعوب الأمة العربية , ثم انتقلت إلى خديعة تقديم المساعدات المالية والعسكرية , لإشعال الثورة العربية , ثم انتقلت إلى خديعة التحالف مع زعماء الشعب العربي يومئذ. وبينما كانت بنود التحالف تنص على تأسيس دولة عربية موحدة تضم الجزيرة العربية وفلسطين وشرق الأردن ولبنان وسورية والعراق , كانت تجري مباحثات ((سايكس - بيكو)) بين فريقين من الدول الاستعمارية , بغية تقسيم البلاد العربية وإخضاع دول الهلال الخصيب لسلطة الانتداب , فكانت العراق وفلسطين والأردن من نصيب بريطانيا , وكانت سوريا ولبنان من نصيب فرنسا. وفي الوقت نفسه كانت الترتيبات تهيأ لإعلان وعد ((بلفور)) الذي يتضمن العطف على اليهود لإقامة وطن قومي لهم في فلسطين , فكان ذلك الإعلان في الثاني من شهر تشرين الثاني لعام (1917م) , ثم بدأت السلطات الاستعمارية تهيئ ما يلزم لتنفيذ الوعد , ثم قامت دولة اليهود , وسارعت الدول الكبرى للاعتراف بها , وحلت المصيبة بالعالم العربي والعالم الإسلامي أجمع. ب - ومن أمثلة الخداع السياسي الدولي الهدنة التي فرضت على الدول العربية المحيطة بالدولة اليهودية المصطنعة في قلب الأمة العربية عام (1948م) ,

وقد فرضت هذه الهدنة لتهيئة الفرصة الكافية لهذه الدولة الغاصبة كي تتمكن في الأرض , وتنشئ في جوٍ من الطمأنينة دولتها العدوانية داخل جسم الأمة العربية , ومن حولها سائر الشعوب الإسلامية , وقد استثمر اليهود والدول المساندة لهم هذه الخديعة أو في استثمار , وكان ذلك على حساب الأمة العربية والشعوب الإسلامية الأخرى. جـ - ومن أمثلة الخداع السياسي الوعود السرية بتحقيق آمال الأمة العربية أو بعض المطامع الشخصية أو الحزبية , وهي الوعود التي تقدمها بعض الدول الكبرى مقابل إثارة اضطرابات وثورات , ونزعات متباينة متناقضة , ومقابل رج الأوضاع المختلفة داخل البلاد العربية , أملاً بتصحيح الأمور الفاسدة المنتشرة فيها , فتقدم الأمة العربية - وهي الطرف الضعيف - الثمن الباهظ المفروض عليها , وتنفذ ما يملى عليها تنفيذاً دقيقاً , مع زيادات تقتضيها ظروف الهدم لم تكن تتوقعها , حتى إذا قدمت من جانبها كل شيء وجدت نفسها في فخ الخديعة مقبوضاً عليها من كل جانب , وعندئذ تلبث تجتر الندم , ولكن حيث لا ينفع الندم , إذ تكون الآلام الكثيرة قد انتشرت , والأوضاع الفاسدة السيئة قد زادة فساداً وسوءاً , وأضيفت إليها عناصر فساد جديدة لم تكن تعرفها الأمة العربية من قبل. وأما الآمال المنشودة الأولى التي كانت تملأ أنوارها عرض الأفق فإنها تنطفئ فجأة بخيبة قاتلة , لتحل محلها آمال جديدة هي آمال الخلاص من عضة الفخ. والذي أوصل إلى هذه النتائج سلسلة من المؤامرات الدولية الكبرى , التي يظهر تنفيذها بشكل مفاجئ بعد خداع سياسي طويل , والتي تسوق الطرف الضعيف المقصود بالمكيدة إلى مزالق خطيرة , قد تلجئه إلى أن يرمي نفسه في أتون المهالك وهو يحسب أنه يحسن صنعاً. د - ومن أمثلة الخداع السياسي التطمينات والتحذيرات والتهديدات الدولية الكاذبة , التي تباشرها الدول الكبرى الطامعة , مصحوبة ببعض

الإمدادات العسكرية وغير العسكرية , وما هي إلا حفنة من الحيل التي يعرفها الصيادون السياسيون ويستخدمونها في تحقيق مطامعهم. وربما دار الزمن دورته التاريخية على أحداث هذه الحقبة التي يعاصرها جيل الربع الثالث من القرن العشرين للميلاد , فاستطاع العالم الإسلامي الذي يغط في سبات الآلام الجاثمة , والآمال المقهورة أن يطلع على أكداس السجلات الدولية المشحونة بأمثلة الخداع السياسي , الذي عانت الأمة الإسلامية منه مصائب كثيرة انطبقت عليها فخاخه الخانقة المؤلمة , بعد أن اندفعت بشعاراته المحببة البراقة , بكل طاقاتها الفكرية والجسدية والمادية. وإذا كتب الله لهذه الأمة الإسلامية الخلاص من نكباتها هيأ لها من يقود سفينتها قيادة حكيمة , وجمع كلمتها على الحق والتمسك بدينها ووحدتها. د- ومن أمثلة الخداع السياسي تظاهر الاتحاد السوفياتي بمساعدة الدول العربية التي سارت في فلكه ضد الدولة الإسرائيلية المعتدية، لاكتساب مغانم مادية وسياسية وتحقيق أهداف فكرية مذهبية هادمة للإسلام، مع وجود اتفاق سري بين الاتحاد السوفياتي وأمريكا على خطة عمل واحدةٍ في منطقة الشرق الأوسط. وكان من مظاهر هذا الخداع أحداث كثيرة، ولا ننسى أن إسرائيل لما قررت هجومها على البلاد العربية المتاخمة لها في حرب خاطفة عام (1967م) وكانت أمريكا وروسيا على علم بذلك، سارعتا بتقديم نصائحهما وتهديداتهما للقيادة العربية يومئذ بعدم البدء بالهجوم على إسرائيل، والاعتصام بضبط النفس، وكان الغرض الضمني من ذلك تمكين إسرائيل من الظفر بتحطيم القوى العربية، واستجابت القيادة العربية لذلك، وتمت الخديعة، وتحطمت القوى العربية خلال ساعات معدودات من أول المعركة، وتحملت الشعوب العربية والإسلامية آلام نتائج هذه الخديعة وما رافقها من خيانات. وفي معركة رمضان عام (1973م) سارعت أمريكا لإنجاد

الوسيلة الثالثة: الضغط السياسي

حليفتها إسرائيل فوضعت ثقلها الكبير بجانبها ضد الأمة العربية، وأمدتها بالأسلحة الضخمة، في حين تباطأت روسيا عن إمداد الدول العربية عند شد الأزمة بأسلحة الحماية وقطع الغيار، رغم كل وعود التساند والمناصرة القائمة بينهما. ونجد خديعة مشابهة جرت من هاتين الدولتين الكبيرتين في العالم ضد دولة باكستان المسلمة في نزاعها مع الهند، وفي مؤامرة تقسيمها إلى دولتين. فأمريكا بحسب الظاهر حليفة باكستان، وروسيا حليفة الهند، ولما وقعت الأزمة المدبرة لتقسيم باكستان سارعت روسيا لإمداد الهند باعتبارها حليفتها، وتخلت أمريكا عن مساعدة باكستان، وتمت المكيدة، وعرف الخبراء المتتبعون للحقائق أن ما تم قد كان خطة متفقاً عليها من قبل روسيا وأمريكا ضد باكستان، باعتبارها دولة من الدول الإسلامية. * * * الوسيلة الثالثة: الضغط السياسي ومن وسائل الغزو غير المسلح الضغط السياسي، وللضغط السياسي أشكال كثيرة، وصور متعددة تتفتق عنها قرائح دُهَاةٍ السياسة العالميين. ومن صوره الكثيرة المؤامرات الدولية الكبرى، والاتفاقات القائمة بينها على أساس تبادل المصالح، وتقاسم المنافع، وتقاسم مناطق النفوذ. ومنها تسخير الدول الكبرى أثقال القوى التي تملكها لإلحاق الدول الصغرى في أفلاكها السياسية والاقتصادية الدولية، ويلحق بها أفلاكها الثقافية والاجتماعية وغيرها. ومنها المناورات والحيل السياسية التي تجري داخل جمعية الأمم المتحدة

لحمل أكبر عدد من الدول على إعلان تأييدها لأحد المشاريع ولو كان فيه دعم للباطل وهضم للحق. ومنها إيقاع البلاد الإسلامية في أزمات سياسية محلية خانقة، تضطرها إلى الموافقة على الشروط السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية أو الاجتماعية التي تمليها الدول ذات المطامع المختلفة في المسلمين وبلادهم ومصادر ثرواتهم. ومنها الوسائل التي تدخل في حقول الإغراءات الشخصية أو العامة، والوسائل التي تدخل في حقول التحذيرات والتهديدات والإنذارات الشخصية أو العامة، ويدخل فيها التهديد بنشر الفضائح الخلقية والسلوكية الشخصية، أو الفضائح السياسية الحقيقية أو الكاذبة. ومنها تأسيس الأحزاب السياسية المرتبطة بالدول ذات المطامع ارتباطاً فكرياً ونفسياً، أو ارتباطاً نفسياً فقط، والأدهى من ذلك أن تكون مرتبطة ارتباطاً عضوياً أيضاً. وعن طريق هذه الأحزاب تستطيع الدول ذات المطامع أن تضمن لنفسها استمرار القبض على المحركات الفعلية لسياسة الشعوب المستهدفة بالمكيدة، وبذلك تجد هذه الشعوب نفسها مسوقة بقوة الضغط غير المنظور، لتنفيذ السياسة التي يضعها قادة الدول ذات المطامع. وعلى هذا النسق تسير ضغوطهم السياسية الكثيرة التي ترافقها الضغوط الاقتصادية والعسكرية والعلمية والثقافية غالباً. وهدفهم منها إخضاع الشعوب الإسلامية لسلطانهم وإلجاؤهم إلى الموافقة على تنفيذ مخططاتهم المختلفة، والاندماج في فلكهم السياسي الدولي شرقياً كان هذا الفلك أو غربياً، ولا يسمحون لهم أن يقفوا موقف الحياد الفعلي البعيد عن حلبة الصراع والتنافس الدولي، ويساعدهم على ذلك واقع الضعف الذي دفعوا هذه الشعوب إليه، بمؤامراتهم الكبيرة التي عملوا على تنفيذها بنفس طويل، وصبر مديد، وتآزرت على ذلك الدول المتنافسة فيما بينها، المتنازعة على المصالح، لأن بينها لقاءً فكرياً ونفسياً على هدم الإسلام وتوهين المسلمين.

الوسيلة الرابعة: الحصار الاقتصادي

ولعل تاريخ السياسة الدولية منذ الحروب الصليبية لا يسجل لقاء بين الدول المتصارعة المتنافسة على اختلاف مذاهبها السياسية والاجتماعية أهم ولا أبرز من لقائها على حرب الإسلام وتفريق كلمة المسلمين، وتوهين قواهم في العالم، وربما اختلفت مناهجهم وخططهم التطبيقية لتحقيق هذا الهدف، وتفاوتت شدة وضعفاًَ، ولكنها على كل حال لا تخرج من حسابها العمل لتحقيقه، طال الزمن أو قصر. * * * الوسيلة الرابعة: الحصار الاقتصادي تتعرض بلاد المسلمين باستمرار من قبل أمواج الطامعين الغربيين والشرقيين إلى أشكال متنوعة من الحصار الاقتصادي والضغط المرافق له. والهدف من ذلك إخضاع الشعوب الإسلامية وإلجاؤها إلى الاستسلام لسلطان الغزاة السافرين أو المقنعين، والإذعان لتنفيذ مخططاتهم السياسية والاقتصادية والعسكرية ومرافقاتها الفكرية، بغية اجتثاث كل فكرة تعرقل سبيل جيوش الغزاة، وتقف عقبة في طريق تنفيذ مطامعهم السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية. أما وسائل الحصار الاقتصادي فكثيرة، منها الوسائل التالية: الوسيلة الأولى: افتعال الأزمات الاقتصادية بحيل مقنعة، أو بضغوطٍ سافرة، أو استغلالها عند حدوثها لمحاربة المسلمين في أقواتهم وضروريات عيشهم، بغية إخضاعهم، وانتزاع موافقتهم على تنفيذ مطالب الطامعين في أموالهم أو بلادهم أو أنفسهم أو أفكارهم ومبادئهم. ومن أمثلة ذلك حجب صفاتٍ التموين في سنوات القحط، أو الإغراء بتحويل معظم زراعة البلاد عن استنتاج المواد التموينية طمعاً بأرباح المواد الأخرى غير التموينية، ثم ترقب فرص حدوث الضرورات التموينية لشد

الحبال على الرقاب، حين لا يغنيها شد الأحزمة على البطون. الوسيلة الثانية: حمل المسلمين عن طريق الإكراه المباشر أو غير المباشر على تطبيق نظم اقتصادية من شأنها أن تهدم اقتصاد المسلمين وتبدد ثرواتهم، وتلقي بهم في أزمات اقتصادية خانقة، وبعد حدوث الأزمات الاقتصادية المثيرة للضجر ينكشف وجه العدوان ببسماته الصفراء، مقدماً كراسة شروطه القاسية المادية والمعنوية لتقديم مساعداته في حل عقد الحبل الخانق الذي أدارته على الرقاب الأزمة المفتعلة. الوسيلة الثالثة: حرمان الشعوب الإسلامية من وسائل تقدمها وتطورها في العلوم العلمية، والعمل على إبقائها في منطقة التخلف الصناعي والزراعي والتجاري والعسكري، إلا ضمن شروط سياسية وعسكرية واقتصادية تتسم بطابع الإذلال والاستعباد، أو ضمن شروط فكرية واجتماعية تتسم بطابع التحويل في العقائد والأنظمة والأحكام الدينية، وهدم الأبنية الاجتماعية والخلقية التي تمثل ميراث المجد والفضيلة. ونجد أمثلة من ذلك تطبق على مختلف الشعوب المسلمة في آسيا وأفريقية، وفي الشرق الأقصى، وتطبق بشكل بارز قوي على مسلمي القارة السوداء. الوسيلة الرابعة: مضاربة اقتصاديات الشعوب الإسلامية النامية بثقل الاقتصاد العالمي القوي، الذي يتمتع بالقدرات الحكومية والشعبية الواسعة، بغية إفقار هذه الشعوب، وردها إلى مواقف التخلف، وإلجائها إلى الموافقة على تنفيذ الخطط السياسية والعسكرية والثقافية والاقتصادية التي يميلها الطامعون داخل بلادها، تحقيقاً لمطامعهم المختلفة. الوسيلة الخامسة: شَغْل الشعوب الإسلامية في معارك داخلية لا تمس مصالح الطامعين، وهذه المعارك تستهلك ثروات هذه الشعوب، وتمتص طاقاتها المختلفة، وتعيق تقدمها الحضاري والمدني، وتسد عنها ينابيع الازدهار، وتحرمها من نعمة الاستقرار، بغية إفقارها وردها إلى مواقف التخلف، وإلجائها إلى أن

الوسيلة الخامسة: الحصار العلمي والثقافي

تعلن موافقتها على تنفيذ الخطط السياسية والعسكرية والثقافية والاقتصادية التي يُمليها الطامعون شرقيين كانوا أو غربيين. الوسيلة السادسة: ربط الشعوب الإسلامية بالقروض الكثيرة التي تتنامى بالفوائد الربوية، بغية إيقاعها تحت مطرقة المطالبة المستمرة، والضغط عليها بحواصر الالتزامات إلى أن تستسلم بسبب العجز عن توفية ما عليها من التزامات، فتوقع الاتفاقات السياسية والعسكرية والثقافية والاقتصادية التي يمليها الطامعون بأرضها وخيراتها وطاقاتها البشرية. وهكذا تتعدد وسائل الحصار الاقتصادي، وهي على اختلافها تهدف إلى استغلال نتائج الحصار لصالح الدول الطامعة باستغلال المسلمين واستثمار بلادهم، واجتثاث إسلامهم واقتلاعه من جذوره، والسير بهم عبيداً أذلاء في ركب أحد المخططات الدولية الكبرى. * * * الوسيلة الخامسة: الحصار العلمي والثقافي يصطدم كثير من أبناء المسلمين بعقبات الحصار والاحتكار العلمي، التي أقامها في طريق تقدمهم المستعمرون والطامعون الغربيون والشرقيون، وإرساليات التبشير السافرة والمقنعة، والمؤسسات التعليمية العليا، في الغزو غير المسلح الذي يكيدونهم به، والهدف من ذلك إلجاؤهم بطريق مباشر أو غير مباشر لتنفيذ الرغبات وتحقيق المطالب الاستعمارية والتبشيرية، أو المطالب الرامية إلى هدم الإسلام وتوهين المسلمين، إذ يجعلون فتح أبواب العلم لأبناء المسلمين مشروطاً بدفع الثمن الغالي من الرصيد الباقي من الإيمان والعقيدة والتفكير، أو من السلوك والأخلاق والضمير. ويوجّه هذا الحصار ضد الأفراد المسلمين الذين يفدون إلى معاهد العلم، وضد الدول الإسلامية التي تحاول أن تشق طريقها إلى التقدم العلمي في مختلف

المجالات العلمية المادية النافعة، التي تعتبر أساساً للتقدم الصحيح، لا سيما ما يتعلق منها بعلوم الطاقة وبتطبيقاتها في مجالات القوة. والثمن الذي يفرض على طالبي العلم والتقدم إما أن يقدمه الأفراد وإما أن يقدمه حكام البلاد. والذين يمعنون النظر في عدسات البحث والمتابعة، التي تطوف مناظيرها في أرجاء العالم، يشاهدون كم عانى ويعاني أبناء مسلمي البلاد الواقعة تحت تأثير الأعداء الغزاة، من خطط احتكار العلم، وحرمانهم من نعمته، وإبقائهم في دركات الجهل، ما لم يجندوا أنفسهم في كتائب الاستعمار، أو كتائب الإلحاد أو كتائب التبشير. أما المجندون في هذه الكتائب بحكم الوراثة فتفتح لهم أبواب العلم، وتُمد لهم المعونات، وتُمهد لهم السبل، وتهيأ لهم أفضل الشروط لاستكمال دراساتهم العالية، وتقدم إليهم المنحات والبعثات الدراسية المختلفة. وقد يصارع بعض أبناء المسلمين، فيشق بكفاحه وجهده الشخصي طريقه لتحصيل العلوم الملائمة لميوله النفسية واستعداداته الفطرية، وقد يستطيع تخطي العقبات الكثيرة، حتى إذا ظفر ببعض الاختصاصات العالية النادرة ظهرت أمامه عقبات الحياة العملية، التي تهدف إلى حجبه عن مراكز التعليم والتوجيه والإدارة والإنتاج، وهنا يظهر في وجهه تواطؤٌ رهيبٌ من قبل الأجهزة المعادية للإسلام السافرة أو المقنعة، على إغلاق كل باب في وجهه يمكن أن يعبر منه إلى خدمة صحيحة لأمته الإسلامية، ضمن إطار اختصاصه، حتى إذا بدأت تنكشف لجماهير المسلمين الدلائل التي نثبت أنه يُحارب وتوصد في وجهه الأبواب لكونه من المسلمين الملتزمين بإسلامهم، وخشيت الأجهزة المقنعة الفضيحة التي تستتبع يقظة المسلمين العامة توجهت نحوه المغريات المادية، ثم قُذف به إلى عمل بعيد كل البعد عن اختصاصه، بغية قتل ما حصَّله من علم خلال سنين عديدة في أعمالٍ يستطيع القيام بها أقل الذين يحسنون صنعة القراءة والكتابة، وبغية إبعاده عما ينفع أمته الإسلامية، أو يخدم راسلتها الفكرية والتطبيقية، وربما رافق ذلك إغراءات كثيرة من قبل دول أجنبية تدعوه للهجرة إليها، والعمل عندها بمرتبات ضخمة، كيما تستثمر اختصاصه وتضيفه

إلى ثرواتها العلمية، وتحرم أمته الإسلامية منه، أما عواطفه نحو أمته فقد ذبحها الأجراء الذين ينفذون مخططات أعداء الإسلام الرامية إلى عرقلة سبيل تقدم المسلمين، وأما مطامعه الشخصية فقد أرضاها سادتهم الذين خططوا لهم، واستخدموهم في التنفيذ. وحينما كسرت بعض الشعوب المسلمة الحصار بكفاحها المتواصل، ويقظة بعض أبنائها، أخذت الأجهزة التي تضمر لهم العداء تحاول أن تمكر بهم، وتفسد خطتهم التعليمية، وتحول مجرى مسيرتهم عن الطريق السوي الذي يوصلها إلى التقدم المادي الصحيح، وقد ظهرت محاولات هذا المكر الرامي إلى حرمان المسلمين من العلوم العلمية، وحجبها عنهم بأشكال متنوعة، ووسائل شتى، منها ما يلي: أولاً: شَغْل أبناء المسلمين بالعلوم النظرية البحت، البعيدة عن المجالات التطبيقة النافعة، المتصلة بالمنجزات العلمية ذات الأثر المادي، والمبتكرات الصناعية الحديثة، وذلك بالإيعاز لأجرائهم أن يشحنوا المناهج الدراسية بالبحوث النظرية البحت، لقتل طاقاتهم الفكرية بها، وصرفهم عن الأشياء العلمية، والعلوم التي يمكن استثمارها في التقدم الصناعي، وفي مسايرة منجزات العصر التي تتطور بسرعة فائقة. ثانياً: شغل أبناء المسلمين بالفلسفات الفكرية المتناقضة المتعارضة، وغمسهم في صراع المبادئ الاجتماعية، بغية قتل طاقاتهم الفكرية والجسدية بها. ثالثاً: شغل أبناء المسلمين بحشد من التفاهات التعبيرية التي يسمونها أدبا، دون أن يكون لها ثمرة تربوية قويمة، أو خلقية كريمة، أو فكرية تضيف علماً، أو نفسية تنمي ذوقاً، أو تسمو بوجدان. رابعاً: إدخال فنون التمثيل والرقص والغناء والتصوير والنحت في قائمة العلوم التي يتوقف ارتقاء الأمم وتقدمها عليها، بغية امتصاص طاقات المعرفة في هذه المجالات وصرفها عن العلوم العلمية النافعة. وبهذه الركامات غير المثمرة التي يملؤون بها فراغ طالبي المعارف والعلم

الوسيلة السادسة: التمييز الطائفي

تتكون لديهم عقدة استعلاء نفسي، يرافقها واقع جهل بكل العلوم العملية النافعة، التي ينحصر فيها تقدم الشعوب المتخلِّفة للأخذ بأسباب المدنية المزدهرة المتطورة. ويكافح نفر من أبناء المسلمين الملتزمين بإسلامهم حتى يجتازوا مرحلة الدراسة الجامعية، ويطمحون إلى خدمة أمتهم بمتابعة الدراسات العليا لتحصيل شهادات الدكتوراه في العلوم العملية المثمرة، فتظهر في طريقهم عقبات ذات مستوى رفيع، تصدهم بالمناورات والمداورات وفرض الشروط التي لا يطالب بمثلها نظراؤهم من المجندين في كتائب مناهضة الإسلام وعرقلة سبيل المسلمين، وتصدهم أحياناً بعدم الاعتراف بثمرات جهدهم التي لو قدمها غيرهم لكانوا في نظر مانحي الدرجات العلمية عباقرة وممتازين، إلا أنهم يتلقونها من هؤلاء المسلمين بسمع موصود، وضمير مفقود، فيرفضونها أو يسرقونها، أو يوجهون ضدها الدعاوي الكاذبة، وسر ذلك أنهم لا يريدون لمسلم ملتزم بإسلامه، متحمس له، أن يحمل لقباً علمياً عالياً يخدم به أمته. أما الذين يبيعون ضمائرهم من أبناء المسلمين للغزاة الأعداء، فيُمنحون الألقاب العلمية الرفيقة التي لا يستحقونها، دون أن يبذلوا جهداً، أو يكتسبوا علماً، وعن طريق هؤلاء يستطيع الغزاة تحقيق أغراضهم في الشعوب الإسلامية وفي بلاد المسلمين، إذ يستخدمونهم في الأعمال كما يريدون، وهم في ألقابهم العلمية لا يخدمون أمتهم شيئاً، لأنها لم تمنح لهم وهم يستحقونها، ثم يدفعون بهم إلى المراكز الكبيرة في بلادهم، لينفذوا ما يُملى عليهم من قبل الذين منحوهم ما لا يستحقون، واشتروهم بما يشتهون. * * * الوسيلة السادسة: التمييز الطائفي من وسائل الغزو غير المسلح التمييز الطائفي، ويظهر هذا التمييز بتقديم غير المسلمين على المسلمين في مختلف المجالات، تعبيراً عن الكراهية

للمسلمين، وإلجاءً لهم إلى حتى ينفذوا الرغبات الاستعمارية، ويحققوا المطالب التبشيرية المعادية للإسلام، والرامية إلى هدم أبنيته وقواعده، وتوهين المسلمين وتشتيت شملهم وتمزيق وحدتهم. ففي المجالات الاقتصادية تحاول أجهزة الغزو غير المسلح بكل ما تستطيع من جهد أن تفتح أبواب الاستثمارات المختلفة لغير المسلمين، بينما توصها في وجوه المسلمين، وقد عانت الشعوب الإسلامية من صور هذا التمييز في معظم البلاد التي كان للاستعمار فيها يد حاكمة سافرة أو مقنعة، وكان للمبشرين فيها أيادٍ تعبث بشكل سافر أو مقنع، وما زال كثير من المسلمين يعانون من هذا التمييز بنسب مختلفة باختلاف قوة تسلط الأجهزة الاستعمارية والتبشيرية، الأمر الذي نشأ عنه تضخم ثروات غير المسلمين على حساب استثمارهم واستغلالهم للأكثرية المسلمة. ومن أمثلة ذلك تسهيل أعمال الاستيراد والتصدير للأفراد والشركات والمؤسسات الاقتصادية غير المسلمة، وعرقلة أعمال المسلمين فيهما، والسماح بإنشاء الشركات الصناعية والمؤسسات الاقتصادية الكبرى لغير المسلمين، وعدم السماح للمسلمين بمثل ذلك، ما لم يكن النصيب الأكبر لغيرهم. وفي مجالات التوظيف في الدوائر والمؤسسات الرسمية تحاول الأجهزة الاستعمارية والأجهزة السائرة في مخططها أو تسُند معظم الوظائف المهمة لغير المسلمين، وحينما تلح عليها الضرورة أو المجاملة أن تسند بعض الوظائف للمسلمين فإنها تختار من المسلمين الضعفاء، أو غير الملتزمين بإسلامهم، أو تختار لهم الأعمال البعيدة عن مراكز القيادة والتوجيه، والبعيدة أيضاً عن الأعمال المفيدة في اكتساب خبرات فنية، وعن سائر الأعمال التي ترى الأجهزة المتعصبة تعصباً طائفياً ضد المسلمين ضرورة تسليط غير المسلمين عليها. والهدف واضح وهو إبقاء المسلمين في مناطق التخلف، يضاف إلهي ما في التمييز الطائفي من التنفيس عن الكراهية والحقد، وإلجاء أبناء المسلمين حتى يخرجوا عن دينهم وينفذوا في أنفسهم وفي أمتهم وبلادهم مخططات أعدائهم الطامعين.

ويصنعون نظير ذلك داخل المؤسسات العسكرية، حيث تتجمع أثقال القوى المسلحة، ولهم في هذا المجال أهداف أخرى تضاف إلى أهدافهم العامة، وهذه الأهداف تمليها مخططات الأجهزة السياسية والعسكرية الاستعمارية الرامية إلى تسخير جيوش البلاد الإسلامية في تحقيق مصالح أعداء الإسلام بطرقٍ سلبية تارة وإيجابية أخرى. ومن الطرق السلبية تجميد الجيوش الإسلامية عن القيام بأي عمل يفيد المسلمين أو يعمل على تحريرهم من عدوهم، ومن الطرق الإيجابية تحريض هذه الجيوش أو عناصر منها على ضرب العناصر المسلمة باسم الإصلاح، وتوجيهها ضد كل إصلاح وتعمير للمسلمين. ويستغل الأعداء الغزاة من وراء الستار رغبات التسلط التي يشعر بها من تتجمع لديهم قوى مسلحة قادرة على التسلط. ويتجلى التمييز الطائفي أيضاً في معظم المجالات العلمية، لا سيما مجالات العلوم العملية، ومجالات اكتساب الخبرات الفنية والصناعية والمهارات الإنتاجية المختلفة، ولا تخفى أهداف التمييز الطائفي في هذا المجال، منها محاولة إبقاء المسلمين في مناطق التخلف والضعف. وحينما نمرّ على المواد القانونية الصادرة في ظل الاستعمار نلاحظ فيها أمثلة كثيرة للتمييز الطائفي المتعمد. ففي القوانين الجمركية نلاحظ إعفاءات خاصة بالمستوردات ذات الطابع الطائفي، وبمستوردات المؤسسات التبشيرية التعليمية والصحية وغيرها، في حين أن كثيراً من هذه المستوردات قد كان ينزل إلى الأسواق التجارية العامة ليباع بأسعار البضائع التي يدفع المستهلكون ضرائبها الجمركية لصندوق الدولة، بينما تضيف المؤسسات الطائفية نسب الضريبة إلى أربحاها النقدية، في حين أن معظم المؤسسات الإسلامية لم تكن تتمتع بهذه الإعفاءات من الضريبة بشكل قانوني أو بشكل عملي. ونجد مثل ذلك أيضاً في قوانين الضرائب المختلفة. ويظهر التمييز الطائفي في الحريات السياسية، وفي الحريات الدينية، وفي نسبة مقاعد التمثيل النيابي، كلما وجدت السلطات الاستعمارية سبيلاً إلى

الوسيلة السابعة: التمييز العنصري والقومي

ذلك، على أن كل صورة من صور التمييز الطائفي، إنما تكون على حساب حقوق الأكثرية المسلمة في معظم البلاد الإسلامية، التي يظفر الأعداء الغزاة بسلطة ما فيها، سافرةٍ أو مقنعة. * * * الوسيلة السابعة: التمييز العنصري والقومي ومن وسائل الغزو غير المسلح التمييز العنصري والقومي، بغية تفريق كلمة المسلمين وتمزيق وحدتهم، ولهذا التمييز أشكال: أ - فمنها أن تتبنى السلطات الاستعمارية هذا التمييز، وذلك بأن تميز عنصراً أو قوماً على قوم في تسهيل المصالح الاقتصادية، أو في الاستخدام في الوظائف المدنية أو العسكرية، أو في فتح المجالات العلمية، أو في توجيه المساعدات والخدمات العامة إلى غير ذلك. ومن شأن هذا التمييز أن يولد الكراهية والحقد في نفوس العناصر والأقوام التي هُضم حقها، ولم تُعط نصيبها العادل، ولو كانت تجمعها مع المميزين المفضلين ديانة واحدة أو وطن واحد، ومن شأن هذا التمييز أيضاً أن يغرس بذور الشقاق والخلاف داخل الأمة الواحدة، ويؤدي إلى تفريق كلمتها، وإضعاف قوتها، وهذا ما يهدف إليه الأعداء الغزاة. ب- ومنها إثارة النعرات العنصرية والقومية داخل الأمة الواحدة، وذلك عن طريق الدسائس والأكاذيب، وافتعال الفتن الداخلية الموصولة بالمفاهيم والنزوات الجاهلية البعيدة عن كل مرتقىً حضاري سليم، والغرض من ذلك أيضاً تمزيق وحدة المسلمين وإضعاف قوتهم. ومن غريب دسائسهم وأكاذيبهم التي ينشرونها ما ينشرهُ بعض جنودهم بين الإفريقيين السود إذ يقولون لهم: إن الإسلام يفرق بين البيض والسود، فيجعل بيض الوجوه في الجنة، ويجعل سود الوجوه في النار، ويتلاعبون بدلالات بعض النصوص القرآنية في ذلك، كقول الله تعالى في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول) :

{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . فيوهمون عوامهم أن الإسلام يفرق بين بيض الوجوه وسود الوجوه من حيث اللون، ويخفون عنهم المراد الحقيقي من النص القرآني، وهو العلامة السوداء التي تظهر على وجوه الكافرين يوم القيامة بسبب كفرهم ولو كانوا في الدنيا بيض الوجوه، والعلامة البيضاء التي تظهر على وجوه المؤمنين يوم القيامة وضاءةً ونوراً ولو كانت وجوههم في الدنيا تحمل اللون الأسود. يضاف إلى ذلك الصورة المشرقة المثالية الرائعة التي جاء بها الإسلام، وتعلمها المسلمون وطبقوها في مختلف عصورهم التي التزموا فيها بالإسلام، إنها صورة تزري بكل مزاعم الرقي الحضاري التي يزعمها رواد حضارة القرن العشرين الميلادي، الذين ما زالت شعوبهم تعاني من مشكلات التمييز العنصري آلاماً كثيرة، وما زالت المفاهيم والتقاليد الجاهلية مسيطرة على عقولهم وعواطفهم. وهذه الأخبار العالمية تنقل إلينا باستمرار أنباء التمييز العنصري بين البيض والسود في أرقى دول العالم تمتعاً بمظاهر المدنية الحديثة التي وصل إليها إنسان القرن العشرين، وتنقل إلينا أنباء العنجهية التي يتعاظم بها البيض الغرباء على السود أصحاب البلاد في إفريقية وغيرها، والتي يتعاظم بها إنسان القرن العشرين الأبيض على سائر الملونين لمجرد بياض بشرته، وهو يدَّعي المدنية والحضارة والرقي، مع أن بياض البشرة ليس عنصراً من عناصر المدنية والحضارة والرقي. أما الإسلام الذي جمع البيض والسود والحمر والصفر وسائر الألوان الإنسانية على صعيد واحد، فإنه يقرر في القواعد الأولى لتكوين الجماعة الإسلامية أنه لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا

الوسيلة الثامنة: التضليل الفكري

بالتقوى أو عمل صالح، وأن الناس كلهم على اختلاف أعراقهم وألوانهم ولغاتهم في الحقوق الإنسانية سواء، وأن كل واحد منهم أهل لأن يرتقي بكفاءاته وأهليته أعظم منصب سياسي أو ديني في الإسلام، فقد جاء في كلام الرسول قوله: "اسمعوا وأطيعوا ولو تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة) . وبهذا نرى أن التمييز العنصري الذي يباشره المستعمرون لتفريق صفوف المسلمين بإثارة عوامل الحقد والكراهة، والذي يحاولون أن يفتعلوه بالدسائس التي يدسونها بين المسلمين، وبالتشويهات التي يحاولون أن يشوهوا بها حقيقة الإسلام الناصعة المخالفة لما يفترون عليه، لا يراه الناس إلا عند الشعوب المستعمرة فنسها، والشعوب التي تدَّعي السبق المدني والحضاري في القرن العشرين، أما في الإسلام وعند المسلمين الفاهمين لإسلامهم والملتزمين به فإن التمييز العنصري والتمييز القومي لا وجود له مطلقاً. * * * الوسيلة الثامنة: التضليل الفكري ومن وسائل الغزو غير المسلح التضليل الفكري، ببث المفاهيم الفاسدة عن الدين والحياة والوجود وعن الاجتماع والأخلاق والسلوك، وعن شروط التقدم ووسائله، وعن النفس والوجدان والضمير، وغير ذلك. وقد دخلت كتائب الغزاة بين المسلمين في مختلف حقولهم الاجتماعية والفكرية لبث ما تريد بثه من أفكارٍ مضللة لهم، ومؤثرة في سلوكهم الفردي والجماعي، بالميل به عن المنهج القويم على مقدار ما فيها من فساد، وذلك لأن معظم أعمال الناس في حياتهم إنما هي آثار من آثار المفاهيم المسيطرة على قلوبهم وعواطفهم، فحينما تكون هذه المفاهيم سليمة قويمة يكون السلوك في غالب أحواله سليماً قويماً، إلا في عاطفة آسرة، أو شهوة قاسرة، أو رغبة نفسية

جامحة، أو عادة مستحكمة جانحة. وحينما تكون المفاهيم منحرفة عن منهج الحق فإن السلوك في غالب أحواله يكون منحرفا عن الصراط المستقيم، إذ يحلو للإنسان عندئذ أن ينطلق ويتفلت من الضوابط الدينية والخلقية، والروابط الاجتماعية، والقيود الحادة من حرية أهوائه وشهواته فيشذ وينحرف، وتقوده الشياطين والطواغيت إلى مواطن هلاكه. وقد تناول هذا البثُّ التضليلي التحويل عن معظم الأسس التي تتكون عنها عناصر الشخصية الإسلامية الفذة، وعناصر الأمة الإسلامية الكبرى ذات الوحدة العالمية، التي ليس لها حدود قومية ولا عرقية ولا لغوية ولا إقليمية، وإنما لها حدود فكرية يدخل الحق في إطارها ويخرج الباطل عنه، ولها حدود خلقية وعملية تضم أنواع الخير في داخلها، وتمنع أنواع الشر والرذيلة من أن تقرب منها. وهذه التضليلات الفكرية التي تبثها الأجهزة الاستعمارية والتبشيرية والاستشراقية والإلحادية كثيرة جداً، ربما يملأ الحديث عنها مجموعة من مجلدات البحث العلمي الهادئ، الخالي من الثورات الانفعالية، والجمل الخطابية الجوفاء. فمن هذه التضليلات ما يكون الغرض منه النفوذ إلى أسس العقائد والتشريعات الإسلامية الربانية الحقة، بغية اقتلاعها من عقول فريق من أبناء المسلمين وقلوبهم، وبذلك يتكون منهم فيلقٌ مرتدٌٌ عن الإسلام، خارج عن الملة، معادٍ للمسلمين، مهمته تحويل الأجيال الناشئة عن دينها، وتجنيدها في جيوش الردة. ومن هذه التضليلات ما يكون الغرض منه إيجاد فريق من المسلمين يتحلون باسم الإسلام، ويتعصبون له تعصباً شديداً، ولكن المفاهيم التي يستمسكون بها على أنها جزءٌ من الإسلام مفاهيم فاسدة مدسوسة، ليست من الإسلام في شيء، فلا يشهد لصحتها نص ولا إجماع ولا قياس صحيح، وقد تشهد هذه المصادر على عكسها، ويمثل هذا الفرق قوة الصد عن الإسلام

والتنفير منه. وبالفريقين المرتد والمخطئ في فهم الإسلام المتعصب للخطأ يجتمع على الأجيال الناشئة قوتان: قوةٌ من خارج الحدود الإسلامية، تقوم بهمة بناء المجاري التحويلية عن الإسلام، وإجراء الأجيال الناشئة فيها، وقوة أخرى من داخل الحدود الإسلامية بحسب الظاهر، وهي تقوم بمهمة الصد عن الإسلام والتنفير منه كمهمة الكتل الصخرية التي تقف في الأنهر عند مواطن التحويل، لتمنع الينابيع عن أن تجري في مجاريها الطبيعة، وبذلك يتسنى لبناة المجاري التحويلية أخذ أكبر قدر منها إلى مجاريها المصطنعة. ويرافق كلا من التضليلات الأولى والتضليلات الثانية تضليلات تعتمد على عنصر الإغراء المادي، ومن أمثلة ذلك الأفكار الدعائية التي توهم المسلمين أن التقدم المادي في شؤون المدنية الحديثة رهنٌ بترك الاستمساك بتعاليم الإسلام، وأن الإسلام عقبة في طريق التقدم، ويتغابى الذين يبثون هذه التضليلات عن الحقيقة الناصعة التي عليها الإسلام الحق، وهي أن الإسلام يدفع المسلمين بقوة إلى كل تقدم حضاري ومدني سليم من الآفات الفكرية والنفسية والخلقية والاجتماعية، ويقدم الذين يبثون التضليلات مزاعم كثيرة خالية من كل سندٍ واقعي، لدعم الأفكار الدعائية التي يضللون بها، على أن البحث الحر الهادئ كفيل بأن يقدم لطالبي الحق الحقيقة الناصعة عن الإسلام. أما الحقول الاجتماعية والفكرية التي دخلت كتائب الغزاة فيها لبث تضليلاتهم الفكرية بين المسلمين فكثيرة، منها الحقول التالية: 1- المدارس والمعاهد والكليات على اختلاف مستوياتها واختصاصاتها. 2- الأندية وقاعات المحاضرات وسائر مراكز التوجيه الثقافي الخاصة أو العامة. 3- الجمعيات العلمية والثقافية والأدبية والفنية ونحوها. 4- الكتب والمجلات والصحف الدورية. 5- وسائل الإعلام المختلفة (كالراديو والتلفزيون والفديو) . 6- الأحزاب والهيئات السياسية والاجتماعية. 7- المراكز الصحية على اختلاف مستوياتها.

الوسيلة التاسعة العبث النفسي

8- المعامل والمؤسسات التجارية والصناعية والإدارية وغيرها. * * * الوسيلة التاسعة العبث النفسي ومن وسائل الغزو غير المسلح العبث النفسي، وله صورتان: الصورة الأولى: وتكون بالتلاعب بالانفعالات الآنية والعواطف الثابتة لاستثمار ذلك في تحقيق الأهداف التي يرمي إليها الطامعون بالتسلط. ويعتمد هذا التلاعب على دراسات نفسية واسعة يمدها علم نفس الأفراد، وعلم نفس الجماعات والأمم. ويربط العابثون الجملة العصبية النفسية للشعوب التي يهدفون إلى التسلط عليها بمولدات حرارية قوية التأثير، وذلك حينما يريدون إثارة انفعالاتها لاستثمارها في تحقيق أهدافهم، ويربطونها في أوقات أخرى بمبردات نفسية تعمل على امتصاص درجات حرارتها وتجميدها وإزالة كل أثر انفعالي منها، لاستثمار ذلك أيضاً في تحقيق أهدافهم. ومن أمثلة العلم على رفع درجة حرارة الانفعالات الجماعية استغلال تجمع غوغائي سليم، أو اصطناع مثل هذا التجمع الغوغائي على أمرٍ لا يدعو إلى الريبة أو الحذر منه، حتى إذا التقى أفراد الجمع أخذ العابثون ينشرون بينهم شحنة حرارية تثير فيهم عاطفة من العواطف، إما بترديد شعارات موافقة لعواطفهم تلهب حماستهم، أو بترديد شعارات مضادة لهم تلهب غضبهم، ووسائل ذلك كثيرة: منها الخطابات الحماسية، ومنها الهتافات الجماعية، ومنها الهمسات التي تصدر الأخبار الكاذبة الملفقة، وتشيعها بين الأفراد، ومنها الشتائم التي تمس أفراداً ذوي مكانة عالية موقرة، أو تمس جماعات معينة، أو عقيدة أو ديناً أو مذهباً، وقد يتبع ذلك افتعال حادثة تصادم دموي يستأجر له

بعض الأفراد، ويندس فيه المحضرون المغرضون، فتلتهب في الجمع ثورة رعناء. ومن أمثلة العمل على رفع درجة حرارة الانفعالات الجماعية بث الدعايات الملفقة الهمسية، والصحفية، والإذاعية، لشحن نفوس الجماهير بعواطف الميل نحو أمرٍ ما، فالحب له، فالشغف به، وهكذا حتى الدرجات العظمى التي تقرب من مستوى التقديس والعبادة، أو لشحن نفوس الجماهير بعواطف النفور من أمرٍ ما فالكراهية له، فالبغض الشديد، فإعلان العداوة، وهكذا حتى درجة التصميم على الفتك وإثارة الفتن والحروب والتضحية في سبيل ذلك بالأموال والأنفس والثمرات. وحينما تصل درجة حرارة الانفعالات إلى نسبة معينة يأتي دور تنفيذ المؤامرة المدبرة التي أحكم الأعداء التخطيط لها، ولهم عند ذلك ألوان شتى من المكر، فإما أن يقذفوا الجماهير التي هاجها الانفعال إلى فخ معركة خاسرة، أو فتنة مهلكة. وإما أن يدفعوا بهم إلى التسرع في بت أمرٍ يستفيد منه إلا عدوهم، مستغلين فيهم حالة الانفعال العاطفي، التي من شأنها أن تطير صواب الجماهير، وتسلبهم الرشد والتفكير والحكمة والتدبير. وإما أن يعملوا على كشف اتفاق قيادات الجماهير مع العدو، أو إلصاق التهم الكاذبة بهذه القيادات لامتصاص القدرة على التحركات العاطفية التي يمكن أن تجتمع عليها الجماهير، فتجلب للأمة خيراً ومنفعة حسنة، إذا كانت تسيرها وتوجهها قيادة حكيمة مخلصة، ويكون امتصاص القدرة على التحركات الجماعية العاطفية في هذه الصورة بإلقاء الشك في نفوس الجماهير، ومع الشك تنعدم الثقة بالعاملين الموجهين، وتبردُ النفوس، وتجمد عن الحركة، وعندئذ تحقق المكيدة أغراضها. ومن وسائل تبريد حرارة الانفعالات غمس معظم أفراد الأمة بالأموال والمتع والشهوات والملذات وأنواع اللهب واللعب، ومختلف مرضيات وممتعات الأنفس والحواس، لأن من شأن هذه الأمور أن تطفئ كل وقدة حرارية في النفس يمكن أن تولد عاطفة عامة، لأن السعي وراء إشباع الغرائز الذاتية والشهوات النفسية يبني في الأنفس صروح الأنانيات الفردية وما أشبهها،

ويمتص منها قوى المشاركات الوجدانية العامة، كما يُطفئ فيها شعلات العواطف الدينية والوطنية والإنسانية، وغيرها من العواطف غير الأنانية، وذلك لأن القوى النفسية كلها منصرفة إلى إمداد الجملة العصبية الغارقة في المتع واللذات الجسدية. ومن وسائل تبريد حرارة الانفعالات الجماعة تفتيت الأمة إلى وحدات لا يثق أحدٌ منها بالآخر، وذلك لأن من شرط المشاركات العاطفية العامة وجود الجو الجماعي المتعاون، ومع تفتت الأمة وانعدام ثقة بعضها ببعض لا وجود للجو الجماعي المتعاون ولا للمشاركات العاطفية العامة. الصورة الثانية: التلاعب بأهواء النفوس، واصطيادها بشباك الشهوات واللذات والمغريات، وتحويل ميلها عن الخير، إلى مرضيات شهواتها من الشر. ذلك لأن أصول الشر في الحياة تعتمد على تحرير النفس من الضوابط، أما أصول الخير فتعتمد على تكليف النفس جهد الصعود واجتياز العقبات. وأهون الأمرين في يد الذين يحملون وظيفة الإغواء، والعبث بالنفوس، ونشر الشر في الأرض، وهم الشياطين وجنودهم. أما الذين يحملون رسالة الإصلاح، وضبط النفوس، وبناء دعائم الخير في الأرض، وهم الرسل وأتباعهم، فرسالتهم رسالةٌ شاقة، وطريقهم طويلة، مملوءة بالعقبات، مشحونة بالمتاعب الكثيرة. ولدى المحاولات التنفيذية لخطط التلاعب بأهواء النفوس تأتي كتائب الغزو غير المسلح، فتنتشر حبائلها التي تجذب إليها الحواس بمفاتنها ومغرياتها بصورة تدريجية، وذلك ضمن المجتمعات الإسلامية التي تهيمن عليها مفاهيم اجتماعية عامة، تمثل قوة الصيانة التي تملكها الجماعة، لحجز الأفراد عن الانزلاق الفردي، الذي قد يندفعون إليه تلبيةً لشهوة من شهوات نفوسهم، أو نزغة من نزغاتهم. ويرافق ذلك دسٌ فكريٌ يهوِّن من شأن المفاهيم والتطبيقات الإسلامية السائدة. أما الذي يحدُث من جراء نشر الحبائل التي تجذب إليها الحواس بمفاتنها

ومغرياتها مع ما يرافقها من دسائس فكرية، فهو أن موجتين من الصراع النفسي داخل المجتمع الذي يتم فيه إجراء العمليات تصطدمان في محاولة تغلُّب إحداهما على الأخرى. أما الأولى فهي الموجة التي تمثل قوة الدفاع عن الأخلاق السائدة، والتطبيقات الإسلامية الموروثة، والمفاهيم الصحيحة. وأما الثانية فهي الموجة المتخاذلة بين يدي المغريات النفسية، المنشقة عن الاتجاه العاطفي نحو الخير والفضيلة، والمنحازة إلى صف العدو المهاجم الذي نشر في المجتمع حبائله. ويتكرر التصادم، ويزيد العدو المهاجم من إلقاء حبائله المغرية الفاتنة يوماً بعد يوم، وتدعمه القوى المؤازرة له من داخل المجتمع أو من داخل النفوس، ومهما قويت موجة الدفاع على الموجة المتخاذلة المنشقة فإنها مع تكرار حركات التصادم، والإمدادات المستمرة من جهة الباطل، وفقد الإمدادات الفعالة من جهة الآخذين بالحق، لا بد أن تتناقص شيئاً فشيئاً، وتتصاغر وتضعف، ثم يصيبها الوهن، فتعزف عن الدفاع، ومتى حل فيها الركود أخذت تنحل تدريجياً، لتضيع في غمرة الفاسد الطامي. وقد عرف هذا الأمر الأعداء الغزاة من شياطين الجن والإنس، فأحكموا خططهم على وفقه لإفساد المجتمعات الإسلامية عن طريق التلاعب بأهواء النفوس، واصطيادها بشباك الشهوات واللذات والمغريات. وقد كان على القادة المسلمين في مقابل ذلك أن يعملوا بصمت وروية وتدبُّر لوضع خطط الإصلاح المضادة. التي من شأنها أن تحبط خطط الإفساد، مهما تكررت عمليات الصراع، وأن يضعوا في حسابهم كل احتمالات الهجوم المفاجئ، وأن يختاروا من الخطط ما يزيد من قوى الصمود والتقدم، لا ما يعطي بثاً دعائياً فقط، أو مظاهر فارغة ليس لها ثمرة حقيقية مجدية. وليس وضع الخطط المضادة لخطط الأعداء بالأمر العسير، وإنما العسير هو التنفيذ، لأنه يحتاج إلى جنود عمل، وإلى دأب طويل، وصبر مديد، ومتابعة مستمرة، وجهد متواصل، ومن شروطه أن لا يستعجل العاملون فيه النتائج. والأصول الأولى للخطط المضادة على ما أرى تعتمد على توعية أكبر مقدار

ممكن من القاعدة الإسلامية بجوهر الإسلام، وتبصيرهم بالثغرات الخطيرة التي ينفذ منها أعداؤهم إلى داخل صفوفهم، ليعملوا على هدم كل مقوماتهم الفكرية والنفسية والخلقية، وليعملوا على إضعاف كل قوة فردية أو جماعية لديهم. يضاف إلى هذه التوعية تجميع الشباب في نشاطات الأعمال الإسلامية الإيجابية، وتربيتهم على السلوك الإسلامي القويم، وتحميلهم مسؤوليات الجهاد الصامت الدائب لتوسيع القاعدة الإسلامية الواعية العارفة بدين ربها، والعاملة به المطبقة لأحكامه وتعاليمه، وإعدادهم إعداداً جيداً للأخذ بزمام الأمور حين تواتي الفرصة، وحين تتسع القاعدة وتكون هي القوة الشعبية الفعلية، لا بد أن ينبغ فيها من يقفز إلى القيادة، ويتسلم زمام الأمور، وعندئذ تجد الكثرة المسلمة حكماً إسلامياً رشيداً، يبني الحضارة الإسلامية، بعيداً عن مؤثرات أعداء الإسلام. حبائل التلاعب: ونتساءل عن حبائل التلاعب بأهواء النفوس التي يستخدمها الأعداء الغزاة، فنرى أنها لا تكاد تحصى أشكالها وألوانها وصورها، إلا أنها قد لا تعدو الأنواع الرئيسة التالية: النوع الأول: الأموال على اختلاف أصنافها، وتباين طرق تحصيلها. النوع الثاني: النساء وزينتهن وما يتصل بشهوات الجنس. النوع الثالث: الجاه والسلطان وسائر أشكال الأحكام. النوع الرابع: المآكل والمشارب وما يتصل بشهوات البطون. النوع الخامس: متع السمع والبصر. النوع السادس: السياحات والرحلات والنزهات والتنقل في أرجاء الأرض. النوع السابع: اللهو واللعب والدعة والمضحكات والمسليات. ومن البدهي أن ميل النفوس إلى هذه الأنواع أمر فطري لا يحتاج إلى تعليم أو إقناع بالحجج والبراهين، ولا يتطلب معاكسة أو مخالفة لهوى أو غريزة، على أن درجات ميل النفوس إلى كل منها متفاوتة، كما أن أفراد الناس

مختلفون في نسبة ميول كل فرد منهم إلى كل نوع منها، أما ضوابط الحق والخير والفضيلة فإنها تحتاج إلى تعليم وإقناع وتربية على كبح جماح شهوات النفوس، ومخالفة أهوائها المرسلة. ومن أجل ذلك تغدو مهمة المفسدين في الأرض كمهمة مطلقي الخيول من أعنتها، أو مطلقي الوحوش الضارية من أقفاصها، إذ يتركونها ترتع وتفسد في الحقول المختلفة، والرياض الغناء حسب أهوائها وعلى مقدار شراستها. أما مهمة المصلحين فإنها كمهمة سائسي الخيول. أو مروضي الوحوش الذين يكبحون جماحها، ويعقدون الأعنة في رؤوسها، ويطوعونها، ويكسرون حدة شراستها، فيطعمونها ويسقونها بحكمة على مقدار حاجتها، ولا يدعونها تفسد الحقول، وتتلف الزروع، وتسطو على ذوات الضروع، وتكسر الشجر، وتبدد الثمر. وفرق عظيم بين المهمتين في العمل وفي الغاية، فعمل المفسدين هين لين، ولكن نتائجه فساد كثير، وشر مستطير، في حين أن عمل المصلحين كدح دائم ومشقات مستمرة، لكن نتائجه بناءٌ وتعمير، وخير وفير، وجمالٌ وزينة. ومن الأموال والنساء والسلطات والمآكل والمشارب ومتع السمع والبصر واللهو واللعب وما يلحق بها ينصب الأعداء الغزاة حبائلهم المختلفة بين المسلمين، لاصطياد نفوسهم بها، وجذبهم إلى طرق الفتنة، ثم إلى أبواب جهنم، وبين ذلك يجد شياطين الإنس أيسر الفرص لتحقيق ما يريدون في المسلمين وفي أرضهم، من مالٍ يسلبونه، أو سلطان يبسطونه، أو تسخير بجنون ثمراته، أو دين يهدمون أركانه. ومن أمثلة حبائل الإفساد عن طريق المال ما يدفعون من رشوات حقيرة لأصحاب نفوس كذلك، وبالرشوات التي يدفعونها إليهم يحققون عن طريقهم ما يريدون ومثل الرشوات أمور كثيرة لا تخرج عن كونها بيعاً رخيصاً للذمم، بثمن بخس دراهم معدودة. ومنها نشر وسائل كسب المال الحرام دون جهد يبذل، ويدخل في ذلك أصناف المقامرات والمغامرات المالية غير المشروعة. ومن أمثلة حبائل الإفساد عن طريق النساء بث العاريات الفاسدات

الوسيلة العاشرة: حيل السلب المالي

في المجتمعات العامة، وتسهيل الاختلاط بهن، دون أية ضوابط دينية أو خلقية، حتى تصبح المجتمعات الإسلامية مفتوحة لكل وارد من واردات الإفساد. ومن أمثلة حبائل الإفساد عن طريق الجاه والسلطان والحكم إرضاء شهوات بعض أصحاب النفوس المريضة بشيء من عنجهية الحكم، لتسخيرهم فيما تريد كتائب الغزو غير المسلح. ومن أمثلة حبائل الإفساد عن طريق المآكل والمشارب الإغراء، بإتقان الموائد السخية المصحوبة بالمحظورات الإسلامية من مآكل ومشارب، وذلك لنشر استحسانها بين المسلمين، كيما تنهار شخصيتهم المستقلة، ويندمجوا بطراز العيش الذي يصدره الغزاة، حتى لا يروا مانعاً من خضوعهم لسلطانهم. وهكذا تتعدد حبائل الصيد بمقدار تعدد الأهواء والشهوات، وبعض هذه الحبائل أشد إرغاءً وأسراً وفتنة من بعض؛ ولكن الصيادين الشياطين اعتادوا أن يقذفوا بين المسلمين كل حبائلهم، ليصطادوا بها أكبر مقدار منهم، ولتتآزر الحبائل فيما بينها فتؤدي أمهر أدوارها. وقد أدرك اليهود قيمة المؤثرات النفسية في تحويل جماهير الشعوب، والتلاعب وتنفيذ مخططاتهم فيها، فتسللوا بوسائلهم المختلفة في الجامعات الغربية، حتى غدا معظم رؤساء أقسام عمل النفس الاجتماعي وغيره من الفروع النفسية والاجتماعية في هذه الجامعات من اليهود. * * * الوسيلة العاشرة: حيل السلب المالي ومن وسائل الغزو غير المسلح حيل السلب المالي، ومراقبو الأعمال التي يتم فيها سلب أموال الشعوب عن طريق الحيل الدولية الكبرى يشاهدون أشكالاً عجيبة رهيبة منها.

أما صور الاستيلاء على الثروات ومصادرها التي يمارسها الغزاة المستعمرون في كل بلد يحتلونه بالقوة فهي صورة بدائية معروفة، لا تحتاج إلى ذكاء عظيم، وتحايل ماكر، وقد ابتليت معظم الشعوب الإسلامية بهذا النوع من الاستيلاء، وعانت منه آلاماً كثيرة، إذ فقدت به معظم ثرواتها المالية النقدية، وثرواتها العلمية، ونوادر مخطوطاتها وآثارها المتحفية. لكن صور الاستيلاء بالحيلة والمكر والدهاء هي الصور التي تظل مستمرة، ولو خرجت جيوش الاحتلال من البلاد، وارتفع كابوس أسلحتها وسلطانها المباشر عن الشعوب المغلوبة. ولقد يكون عسيراً عسراً بالغاً إحصاء أنواع حيل السلب التي تتفتق عنها قرائح شياطين الطمع والشره الدوليون لكثرتها، ولكن هذا لا يمنع من عرض طائفة من حقولها. فمنها الحيل المالية التي تمارسها البنوك الدولية، كعقد صفقات القروض الربوية التي تستنزف ثروات البلاد وطاقات شعوبها بشكل تدريجي، كما يمتص دود العلق دماء ضحاياه فيها من الناس، وكم استنزفت البنوك العالمية من ثروات للشعوب، ولليهود فيها أكبر نصيب، والدولة اليهودية السرية المنبثة في أرجاء العالم هي الوارثة لأموال الكادحين من الشعوب وهم على قيد الحياة، وذلك عن طريق الربا، وسائر حيل سلب الأموال. ومنها الحيل التي تمارسها كثير من الشركات الاستثمارية الأجنبية المختلفة، التي تتظاهر بالاستقامة، وتخفي عن الأنظار ألاعيبها وحيلها التي تعتمد على الغش والكذب والنفاق والرشوة والسرقة والاحتكار واستغلال نفوذها الدولي، وتعتمد أيضاً على استغلال النساء وكل ما يتصل بحقول الإفساد الخلقي. ومنها الاستغلالات التي تمارسها طائفة من المؤسسات التعليمية التبشيرية على اختلاف مستوياتها بدءاً من دور الحضانة حتى الجامعات الكبرى، وكذلك التي تمارسها طائفة من المؤسسات الصحية التبشيرية المختلفة، بدءاً من الطبيب المبشر، والممرضة المبشرة، حتى المستشفيات الكبرى.

ومن الحيل التي تمارسها كتائب الغزاة لابتزاز أموال الشعوب الرشوات والاتفاقات السرية على مشاركة المؤسسات الرسمية في أرباح مبيعاتها، والمشاركة في أرباح المحتكرات المحمية من السلطات، وأرباح المهربات المحظورة التي يسهل الغزاة سبل تهريبها، والمشاركة في الأرباح الزائدة المتحصلة بسبب التهرب من دفع الضرائب الجمركية، التي يدفعها الآخرون لصندوق الدولة وهم طائعون. ومن حيلهم لسلب الأموال التلاعب بالنقد، وذلك عن طريق تخفيض أسعاره، أو إلغاء أوراقه المعتمدة، أو تجمعيها وإخفائها، أو عن طريق التهريب الذي تقوم به العصابات الدولية التي تدعمها كتائب الغزاة وأجراؤها، أو عن طريق التزوير، أو المضاربات الدولية المشحونة بمؤامرات الغش والكذب والخداع. ومن حيلهم لسلب الأموال نشر الخمور والمخدرات وسائر قواتل الجملة العصبية لأجيال الشعوب الإسلامية، ومعلوم أن للدولة اليهودية التي يتزايد ورمها في جسم الأمة العربية باعاً واسعاً في زراعة المخدرات، وتصديرها عن طريق التهريب إلى مختلف الشعوب العربية والإسلامية لقتل هذه الشعوب بها. ومن حيلهم لسلب الأموال أيضاً تأسيس نوادي القمار ودور اللهو والدعارة ومباءات قتل الوقت الثمين بسموم الرذيلة الفتاكة. ومن حيلهم إرسال الدجالين الجاهلين أو الغشاشين بأسماء عريضة وألقاب فخمة، تُدَّعَى لهم خبرات فنية عالية، ثم لا يقدمون من هذه الخبرات شيئاً، إما لأنهم جاهلون وإما لأنهم غشاشون. إلى غير ذلك من حيل لا تحصى وأساليب لا تحصر، ويرافق كل ذلك توجيه الضغوط الاقتصادية الدولية المختلفة، التي تعرف الدول الاستعمارية الاستثمارية كيف توجهها ومتى توجهها. * * *

الوسيلة الحادية عشرة: الإفساد الاجتماعي

الوسيلة الحادية عشرة: الإفساد الاجتماعي ومن وسائل الغزو غير المسلح الإفساد الاجتماعي، ويتضمن هذا الإفساد كل خطة ترمي إلى حل التماسك وفك الترابط الجماعي بين أفراد الأمة الواحدة، حتى لا تكون لهم شخصية موحدة قوية تصد عنها مطامع الغزاة. ومن أهم العناصر التي تتم بها الشخصية الجماعية الموحدة التقاء أفراد الأمة على الوحدة التالية: 1- الوحدة الفكرية مع وحدة مناهج البحث. 2- الوحدة الاعتقادية حول النفس والكون والحياة وسر الوجود والغاية من خلق الإنسان، مع وحدة المصادر الاعتقادية. 3- الوحدة السلوكية النظرية والتطبيقية. 4- الوحدة العاطفية نحو الأمور المشتركة بين الأفراد. ولذلك كانت هذه الوحدات في المسلمين بمثابة المقاتل التي يسدد الأعداء الغزاة إليها سهامهم المسمومة، إذ يعملون على تفتيتها، وإحداث التناقض فيما بينها، لينحل التماسك وتتقطع الأربطة الجامعة بين أفراد الأمة الإسلامية، ومتى انحل التماسك وتقطعت الأربطة الجامعة انفرط عقد الجماعة الواحدة، وفقدت قوتها الجماعية، وغدت كمتناثر الرمال، وحتى حدث التناقض والتخالف وتعارض المصالح بين أفرادها، وتلاعبت بهم الأهواء، اتجهت القوى الفردية تتصارع فيما بينها تصارعاً يضعها في طريق الفناء والزوال، ويتيح لأعدائها أن يحققوا كل مطامعهم وهي في منأى عن أن يصيبهم شيء من القَرْح الذي يحدثه التصارع الداخلي. وقد سبق أن منح الإسلام الذين آمنوا به صادقين مخلصين والتزموا تعاليمه كل الوحدات المطلوبة لتكوين الأمة الواحدة، فكانوا بذلك قوة جماعية

كاملة لا تستطيع قوة جماعية أخرى تعادلها في القوة أو تزيد عليها بمقدار ضعفها أن تغلبهم في صراع. وهذا ما كان يرهب أعداء الإسلام، إلى أن اكتشفوا الخطط الشيطانية التي يستطيعون بها أن يعبثوا بالعناصر الرئيسة التي تم فيها تكوين شخصيتهم الإسلامية الموحدة القوية في العالم، فعمدوا إلى قواعد بنيانهم الإسلامي في محاولات شتى لنقضها قاعدة فقاعدة. فأرادوا أن يضعوا بدل الوحدة الفكرية عند المسلمين أشتاتاً وأخلاطاً فكرية متناقضة، أو متضادة، أو متخالفة، لينجم عن هذه الأشتات والأخلاط المتعارضة الدخيلة أشكال الصراع الفكري بين الأمة الإسلامية. كما أرادوا أن يتلاعبوا بمناهج البحث السليمة عند المسلمين وهي المناهج التي أرشدهم الله إليها بالوحي، وأن يضعوا لهم بدلها مناهج قصيرة النظر، تقف عند حدود الظواهر المادية، ولا تتعداها إلى الحقائق الكامنة وراءها. وأرادوا أن يضعوا بدل الوحدة الاعتقادية المهيمنة على قلوب المسلمين أشتاتاً أخرى، من أخلاط اعتقادية فاسدة لا أساس لها من الحق، أو اتجاهات وجودية إلحادية تعمل على تحويل الإنسان إلى مخلوق أناني متوحش، يستخدم كل ذكائه لإشباع رغباته الأنانية المتوحشة. وأرادوا أن يضعوا بدل الوحدة السلوكية النظرية والتطبيقية التي جعلت من المسلمين نسيجاً رائعاً ممتداً على كل الأرض التي يقطنونها، قطعاً ممزقة بالية، واهية الخيوط، تتلاعب بها الرياح الكونية ولو لم تكن عاتية، وتتقاذفها ذات الغرب مرة وذات الشرق أخرى. وأرادوا أن يضعوا بدل الوحدة العاطفية المستندة إلى أساس ديني متين راسخ والتي كانت تحركاتهم بقوة هائلة تحريكاً واحداً، أشتاتاً عاطفية متباينة متناقضة، فمنها أناني شخصي، ومنها إقليمي، ومنها قومي، ومنها مصلحي مادي، ومنها طائفي، ومنها طبقي، إلى آخر ما يدخل في هذه الأشتات العاطفية المختلفة فيما بينها اختلافاً كثيراً.

الوسيلة الثانية عشرة الإفساد الخلقي والسلوكي

وبالخطط الماكرة الذكية، وبالأعمال التنفيذية الدائبة، استطاع الأعداء الغزاة أن يجنوا من ثمرات إفسادهم الاجتماعي للأمة الإسلامية الواحدة ما حققوا به قدراً كبيراً من أهدافهم الظالمة الآثمة. * * * الوسيلة الثانية عشرة الإفساد الخلقي والسلوكي ومن وسائل الغزو غير المسلح الإفساد الخلقي، وقد اكتشف الأعداء الغزاة طريقين للوصول إلى إفساد أخلاق الشعوب، والهبوط بها من قمة الكمال الإنساني إلى حضيض النقص والرذيلة: الطريق الأول: العبث بالمفاهيم والحقائق الخلقية. الطريق الثاني: الغمس بالمجتمعات ذات الأخلاق الفاسدة. أ- العبث بالمفاهيم والحقائق الخلقية والسلوكية: وقد ظهر العبث بالمفاهيم والحقائق الخلقية في حشد النظريات الفلسفية الأخلاقية المنحرفة عن الشرائع الربانية المستندة إلى مبادئ الخير والشر، والنفع والضر، والمصالح والمفاسد. ومن نظرياتهم ما يعتمد على تمجيد اللذة الفردية، وإباحة كل ما يحققها، مهما أضر ذلك بجسم الفرد أو عقله أو أضر بالجماعة، أو خالف أوامر الله لعباده. ومنها النظريات التي تعتمد على تمجيد قوة الجماعة، التي تمثلها دولة سياسية، فكل ما يفضي إلى دعم هذه القوة أو إنمائها فإنه لا ينافي الأخلاق الكريمة لدى هذه النظريات المنحرفة. ومنها التضليلات التي تدرس بين الشعوب المسلمة أن الأخلاق أمور اعتبارية تتواضع عليها الشعوب، إذ تمليها عليها مصالح أو دوافع نفسية، أو أحوال

خاصة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو غيرها، وليس لها أصول فكرية ثابتة، ويضربون على ذلك الأمثلة من تقاليد بعض الشعوب البدائية، أو مما تواضعت عليه بعض الشعوب المنحلة خلقياً، كأن التقاليد البدائية أو الانحلال الخلقي من الصور المعتبرة التي يصح أن توضع في جداول الأخلاق الفاضلة لدى التصنيف الذي يقوم به متتبعو الحقيقة بالبحث العلمي المتجرد النزيه. ومن العجيب أن يتصيد هؤلاء المضلون الأمثلة من شعوب بدائية أو شعوب منحلة، بغية زلزلة أصول الأخلاق التي يريدون تهديمها في الشعوب المسلمة، ذات التقدم الحضاري في ميادين الأخلاق التي اكتسبها من رسالة الإسلام الربانية، مع أنهم في الوقت نفسه لا يعتبرون أكواخ الشعوب البدائية، وطراز لباسها، وطرق أكلها وشربها، ووسائل عيشها، وأنظمة مجتمعاتها المتخلفة، ونحو ذلك من الأمثلة التي يصح أن توضع في جداول المدنيات المتقدمة، وأن تقارن بما توصلت إليه المدنيات الراقية، من بناء ناطحات السحاب، إلى طراز الألبسة الأنيقة، وطرق الأكل والشرب الراقية النظيفة، التي تنتزع الإعجاب والاستحسان، ثم إلى وسائل الرفاهية والراحة والقوة والسرعة، ثم إلى كل منجزات العلم المادي الحديث. ويقول قائل هؤلاء المضلِّين: إن بعض القبائل تأكل موتاها بدافع اقتصادي، ولا ترى ذلك منافياً للأخلاق أو للسلوك السليم، وبعض الشعوب لا ترى في العري والزنى بأساً، ولا ترى شيئاً من ذلك منافياً للأخلاق أو للسلوك السوي، ويسوق كلامه هذا دليلاً على أن الأخلاق أمور اعتبارية تتواضع عليها الشعوب، وليس لها أصول ثابتة. ولقد كان على صاحب هذا التضليل أن يكون منسجماً مع نفسه، فيقول مع ذلك: إن التقدم المدني ليس له صورة ثابتة أيضاً، فالأكواخ البدائية، وسكنى الغابات والكهوف والمغارات، واستخدام الحجارة بدل أوراق الكتابة أو بدل السكاكين، والتقاتل بها في الحروب بدل الأسلحة الحربية المتفوقة، ونحو ذلك هو من الصور المدنية التي تتواضع عليها الشعوب، أخذاً من الواقع الذي عليه الناس، فهي ومظاهر المدنيات

الراقية المدهشة توضعان على قدم المساواة، إن قياس كلامه يقتضي ذلك. فإذا كان هذا في المدنيات أمراً مرفوضاً فهو في ميادين الحضارة الخلقية مرفوض أيضاً، وبنسبة أكبر، إن ميادين الحضارة الخلقية ذات سلم في الرقي الإنساني يماثل سلم الرقي المدني، إلا أن ثمرات الرقي المدني لا تزيد على أنها تحقق رفاهية الإنسان، أما الرقي الخلقي فثمراته تحقق سعادة الإنسان، وفرق عظيم بين هذين الصنفين من الثمرات، ندرك هذا الفرق حين ندرك أن السعادة أثمن ما في الحياة كلها. ب- الغمس بالمجتمعات ذات الأخلاق الفاسدة والسلوك المنحرف قد يكون الغمس في المجتمعات الموبوءة بعناصر الفساد الخلقي والسلوكي من أفعل وسائل الإفساد العملي، ولذلك تلجأ إليه كتائب الغزو غير المسلح لإفساد أخلاق المسلمين. فمن المعروف المجرَّب في طبائع الناس، أن الإنسان بطبيعته قابل للتكيف والتأثر بالبيئات الاجتماعية التي ينغمس فيها، وأن مقداراً من التفاعل لا بد أن يتم بين مجتمع ما وبين من يدخل فيه، ولا بد أن يتأثر كل منهما بالآخر على مقدار ما لدى كل منهما من قوة التأثير وقابلية التأثر. فلو وضعنا تقياً نقياً غير معصوم في بيئة اجتماعية، معظم ممن فيها فاسدون متحللون ماديون لا يعرفون في حياتهم إلا الانحرافات الخلقية وأنواع السلوك الفاسد فإن الذي يحدث لهذا التقي النقي عملية تحول تدريجي تمر بمراحل، واجتياز هذه المراحل قد يكون بطيئاً وقد يكون سريعاً. قد تبدأ مراحل التحول بالنفرة الشديدة والمقاومة والصمود، ثم تنتقل إلى الانكماش والتوجس، ثم تنتقل إلى حالة من حالات العزلة النفسية، وفي كل مرحلة من هذه المراحل لون من ألوان التأثر بالبيئة لا محالة، ثم تنتقل إلى الشعور بعدم المبالاة فراراً من الصراع النفسي والقلق الدائم، وسأماً من العزلة النفسية القائمة ثم تنتقل إلى إلف هذه البيئة، وذلك لأن تكرار مشاهدة القبيح من الوسائل التي تجعله مألوفاً لا يثير في النفس نفرة ولا اشمئزازاً، وربما غدت

علامات قبحه من الأمور المنسية التي لا يلتفت الذهن إليها، وإن كانت مما تشهده الحواس، وهذا في القبيح النفسي أو القبيح الحسي، فكيف بالأمور التي لا يدرك قبحها إلا عن طريق الشرع، أو عن طريق التأمل العقلي العميق والنظر الفكري الدقيق، وهي جميلة لدى الحواس، لذيذة في النفوس، تهفو إليها الغرائز، وتميل إليها الأهواء والشهوات. وبعد مرحلة الإلف تبدأ مراحل المسايرة، ثم مراحل الاندماج الكلي، والتحول التام، والتلاؤم مع واقع البيئة الجديدة. فلا عجب أن نجد تقياً نقياً تحول إلى فاسق فاجر من الطراز الأول إذا استطاع شياطين الإنس أن يزجوا به في بيئة اجتماعية ماكرة، مملوءة بالعناصر الفاسدة الفاسقة، المنغمسة بالمال واللذة والنساء، والاستمتاع بأنواع الشهوات المحرمة، ومرافقات هذه العناصر، مما يحرك الغرائز ويهيجها، ويؤثر في النفوس ويستميلها. وفي مقابل ذلك ربما يستطيع المصلحون أن يعملوا على تحويل فاسق فاجر إلى تقي نقي طاهر، إذا استطاعوا أن يغمسوه في بيئة اجتماعية كريمة، مملوءة بعناصر الصلاح والتقوى من غير تنفير، مزينة ببعض ما تحبه النفوس وتميل إليه مما أذن الله به وأباحه، ولا غرو أن يمر هذا في مراحل مناظرة لمراحل تحويلات البيئة الفاسدة لذلك التقي النقي. وقد عرفت كتائب الأعداء الغزاة هذه الطبيعة النفسية عند الإنسان، فوضعت في منهاج عملها أن تسلك طريق غمس المسلمين في بيئات فاسدة منحلة خلقياً، تصدرها إليهم من خارج بلادهم، أو تستوردهم إليها، فستقدمهم بهجرات الدراسة أو العمل أو غير ذلك، وفي كلا الأمرين تتهيأ أكثر الظروف الملائمة لإفساد الأجيال من أبناء المسلمين إفساداً عملياً، عن طريق الغمس في المجتمعات الموبوءة بجراثيم الفساد الخلقي والسلوكي. ومعلوم أن أهم عناصر هذا الإفساد العناصر التالية: المال - النساء - الخمر - المادية البحتة - أنماط العيش التي تعتمد على الرفاهية والمتعة واللذة وعدم المبالاة إلا بما تمتص طاقات الفكر والجسد من متعة ولذة ولهو.

ومهمة المصلحين في مقابل ذلك أن يعملوا على تهيئة البيئات الصالحة المؤثرة، التي تتوافر فيها معظم الشروط لتحويل الفاسدين إلى الصالحين، أسوة بالبيئة النبوية التي انصهر فيها الجيل الإسلامي الأول، وتخرج منها إلى العالم دعاة إلى الخير، فاتحون بالهداية، مصلحون بالحكمة والموعظة الحسنة، والقدوة الكريمة. شاهد على الإِفساد باستقدام كثير من أبناء المسلمين إلى بلاد الكفر جاء في مقدمة كتاب "المنبوذون في الأرض" لناشر الضلال وداعيته اليهودي الفرنسيّ "جان بول سارتر" حامل لواء الوجودية الملحدة، قوله: "كنَّا نُحْضِر رؤساء القبائل، وأولاد الأشراف والأثرياء والسّادة، من أفريقية وآسيا، ونطوف بهم بضعة أيّام، في أمستردام، ولندن، والنرويج، وبلجيكا، وباريس، فتتغيّر ملابسهم، ويَلْتَقطون بعض أنماط العلاقات الاجتماعيّة الجديدة، ويرتدون السّترات والسراويل. ويتعلّمون منا طريقةً جديدة في الرَّواح والْغُدُوّ، والاستقبال والاستدبار، ويتعلّمون لغاتنا، وأساليبَ رَقْصِنَا ورُكوب عربتانا، وكُنَّا نُدَبِّر لبعضهم أحياناً زواجاً من أوروبيّة، ثُمَّ نلقِّنُهُمْ أسلوبَ الحياة على أثاث جديد، وغذاء أوروبيّ، وكُنَّا نضعُ في أعماق قلوبهم الرغبة في أوروبّة بلادِنا، ثم نرسِلُهم إلى بلادهم، وأيّ بلاد؟! لقد كانت أبوابُ بلادهم مغلقة دائماً في وجوهنا، لم نكن نجد منفذاً إليها، كُنَّا بالنسبة إليها رِجْساً ونجساً وخَنَا، كُنَّا أعداءً يخافون منا، وكأنّهم همجٌ لم يعرفوا بشراً، لكنَّا بمجرد أن أرسلنا المفكرين الذين صنعناهم إلى بلادهم، كُنّا بمجرّدِ أن نصيح من أمستردام، أو برلين، أو بلجيكا، أو باريس، قائلين: "الإخاء البشري" نرى أنّ أصواتنا يرتَدُّ من أقاصي أفريقية، أو من فجّ من الشرق، الأوسط أو الأدنى أو الأقصى، أو شمال أفريقية. ثمّ إنّنا كنّا واثقين من أنّ هؤلاء المفكرين لا يملكون كلمةً واحدةً يقولونها غير ما وضعنا في أفواههم، ليس هذا فحسب، بل إنَّهم سُلِبُوا حق الكلام عن مواطنيهم.

هذا دور المفكّر الّذي يتشكَّل بالشَّكْل الأوروبّي، ويلْعَبُهُ في الدُّول الإسلاميّة، إنّه دور "دليل الطريق" للاستعمار في البلاد التي لم نكن نعْرفُها، أو نعرفُ لغاتها، وهو السوس الذي عمل في الشرق من أجل تثبيت موادّنا الثقافية والاقتصادية والأخلاقية والفلسفيّة والفكريّة، المسمّمة للاستعمار الغربيّ، داخل هذه الأشجار الوارفة الأصيلة. هذا هو السوس الذي كُنَّا صنعناه وسمَّيْنَاهُ بالمفكرين، كانوا عالمين بلغاتنا، وكان قُصَارى همِّهم، ومُنْتَهى أمَلِهم، أنْ يصبحوا مثْلَنا، في حين أنَّهم أشباهُنَا، وليسوا مثلنا. إنَّهُمْ نَخَرُوا من الداخل ثقافة أهليهم، وأديانهم القوميّة، الّتي تصنَعُ الحضارات، ونَخَرُوا مُثُلَهُم وأحاسيسهم وأفكارهم الجميلة، وأصالتَهُم الأخلاقيّة والإنسانيّة، وتحتَ أيّ شعار؟ وبأيّ اسم؟ باسْمِ مقاومة الخرافات، أو مكافحة الرّجعيّة أو الوقوف ضِدّ السلفيّة". هذا مخطّطهم فليحذر المسلمون. * * *

الفصل السابع من وسائل الغزو الفكري: التفريغ والملء

الفصْل السّابع منْ وَسَائل الغزو الفكري: التفريغ وَالملء 1- مقدمة. 2- عناصر الخطة. 3- وسائل التفريغ. 4- عمليات ملء التفريغ. 5- تسخير الجيش الجديد من أبناء الأمة.

(1) مقدمة

(1) مقدّمة علمتني الحشرة حينما تدخل إلى باطن الثمرة فتجوفها كيف يحاول أن يصنع أعداء الإسلام به، إنهم يحاولون تفريغ الإسلام من محتواه الاعتقادي والعملي والخلقي حتى يُمسي قشرة فارغة محكوماً عليها بالطرح والفناء وهكذا يفعلون، وبالإسلام يكيدون. تكون الثمرة الجميلة في ريعان نضارتها وحيويتها، متسارعة في سلم نُموها، فتغفل عنها عينُ جنّانها، وتُهمل يده صيانتها، فتأتي إليها حشرة صغيرة دون ما يدركه النظر، فتغمز منها طرفاً متوارياً، وتحفر فيه ثغرة يسيرة لا يعبأ بها الغادون ولا الرائحون، وتعمل في مكان غير ظاهر لضوء الشمس، فتأكل على قدرها عابرة في نفق تصنعه لنفسها، وتنمو الحشرة في الظلمات، وتترعرع حتى تصل إلى النواة، وفي النواة تجد لها غرضاً لذيذاً، ومطعماً طيباً، فتأكلها، وتلتهم ما تلتهم من لب الثمرة، وتفسد ما تعجز عن التهامه، حتى إذا بقيت الثمرة قشرة ذابلة تداعت على نفسها، وسقطت وصارت إلى الفناء، كذلك يفعل المفسدون أعداء الإسلام حينما يمكرون به، وكذلك يكيدون. وقد تداعى أعداءٌ مفسدون كثيرون على هذه الجنة العظيمة، الوارفة الظلال، ليأكلوا ثمرها، ويفسدوا شجرها، ويدعوها أرضاً قاحلة جردا، لا خضرة فيها ولا ماء، إنها جنة الإسلام، بخيراتها، وخصبها، ونمائها. هذه الجنة التي تداعى عليها الحاقدون والحاسدون والمفسدون في الأرض هي الإسلام بعقيدته الثابتة الحقة، التي تدعمها البراهين، والآيات البينة،

والحجج الساطعة، وبعباداته الشائقة الجميلة الرشيقة الميسرة النافعة، التي يحسده على كثير منها كل الشعوب التي لا تدين به، وبنظمه المحكمة الصالحة الكفيلة بسعادة الإنسان، وهي نظم ربانية ما بلغ نظامٌ في الدنيا من وضع الناس مرتبة كماله بعد التجارب الكثيرة إلا كان مطابقاً لها، وملتقياً معها على طريق واحدة. هذه الجنة هي الإسلام، أما الكفر فكله ملة واحدة في عدائه لهذه الجنة العظيمة، وكيده لها، وإن تفاوتت مذاهبه في مقدار حقده وحسده وكيده، وكذلك بعض الشر أشد من بعض، كما أن بعض الحشرات أكثر فتكاً بالجنات من بعض. ولقد تعرضت معظم المجتمعات الإسلامية لهذا الغزو الكافر المفسد، فأصابها مثل ما يصيب الثمرة التي تأكل الحشرة نواتها، وتلتهم لُبَّها، ولا تبقي منها إلا قشرة متجعدة فارغة أو فاسدة المحتوى، فإذا كشف الباحث عما في جوفها لم يجد إلا غريباً عابثاً أكل لبها، وطرح فضلاته فيها، أو فساداً منتشراً يحكي للناظر إليه قصة الإهمال والتعاون، اللذين صرفا الحماة والرعاة عن الحراسة والصيانة الدائمة. إنه لم يبق عند بعض هذه المجتمعات الإسلامية إلا الاسم وعصبية النسبة، وما قيمة الأسماء إذا لم تطابقها مسمياتها، فلو أخذنا قطعة من الفخار وموهنا ظاهرها بلون الذهب، وسميناها سبيكة من ذهب، أفيجعلها اللون والاسم ذهباً حقاً؟ وما أكثر المسلمين في هذا العصر الذين ليس عندهم من الإسلام إلا اسمه، وليس عندهم من القرآن إلا رسمه؟! ولقد وصل المسلمون إلى هذا بإهمالٍ منهم، وكيدٍ من أعدائهم وأعداء دينهم، وأعداء تاريخهم وأمجادهم.

(2) عناصر الخطة

(2) عناصر الخطة يعمل العدو باستمرار على نسف أسس العقيدة الإسلامية من قلوب المسلمين وعقولهم، لينتهوا من البواعث الدائمة الراسخة التي تعيد المسلمين إلى حظيرة الإسلام مهما انحرفوا عنه في التطبيقات العملية. وقد تنوعت وسائلهم لتحقيق هذه الغاية في المسلمين، فكان منها تجزئة أركان العقيدة الإسلامية، وإثارة الشكوك والشبهات حول كل واحدٍ منها، في صفوف شباب المسلمين وناشئتهم المتطلعين إلى المعرفة، والراغبين بالتزود من ثقافات العصر وعلومه. فأثاروا الشكوك حول وجود الخالق تبارك وتعالى، وأثاروا الشكوك حول وجود الملائكة والوحي، وأثاروا شكوكاً أخرى حول الرسل عليهم السلام، وحول الكتب السماوية، ونبشوا عن أقوال أهل الجاهلية الأولى في البعث واليوم الآخر، وألقوا الشبهات حول عقيدة القضاء والقدر، وعملوا على إبعاد شبابنا عن دراسة الإسلام دراسة وعي وتفهم، حتى تجد شبهاتهم مكاناً فارغاً في عقول أجيالنا الناشئة، فتتمكن منها. واستغلوا ميادين المعرفة الحديثة، ودسوا في معظم أجهزة التعليم والتخطيط له عناصر مقنعة، بغية القبض على ناصية التوجيه والتخطيط للمعارف والعلوم، والتمكن بذلك من إعداد أجيالٍ منا على ما يشتهون، أعداءٍ لدينهم وأمتهم وتاريخهم. لأنه متى فرغت أجيالنا من أصول عقيدتها التي هي المقومات الأساسية لشخصيتها لم تجد سبيلاً إلا اتباع المناهج والعقائد المستوردة من بلدان الأعداء، وعندئذ يهون عليها أمر نفسها هواناً تضطر معه إلى الاستسلام التام لما تمليه عليها مخططات أعدائها، وبذلك تكون الأمة جميعها لقمة سائغة في فم الطامعين بخيراتها، وشربة لا غصة فيها. إنها خطة بعيدة الغور طويلة المدى، ولكن لم يعرف التاريخ أشد منها

(3) وسائل التفريغ

مكراً، ولا أخبث منها كيداً، وقد اكتوت الأمة الإسلامية منها في هذا العصر الحاضر كياتٍ أصابت منها الصميم. وتتلخص هذه الخطة الخبيثة بثلاثة عناصر، هي أخطر ما عرف الكون من عوامل هدم لمقومات أمةٍ ذات مجد عظيم فكري ونفسي وأخلاقي وتاريخي. العنصر الأول: تفريغ أفكار الأجيال الناشئة وقلوبهم ونفوسهم من محتوياتها، ذات الجذور العقلية والعاطفية والوجدانية والأخلاقية، وانتزاع كل آثارٍ لها، وهو ما يسمى بعملية، (غسل الدماغ) . العنصر الثاني: ملء فراغ عقولهم وقلوبهم ونفوسهم بمخترعات فكرية وعاطفية مزورة مزيفة، تخدم غايات العدو الطامع الغازي، وتهدم كيان الأمة الموضوعة هدفاً للغزو. العنصر الثالث: تسخير طوابير الجيش الجديد الذي تصطنعه أيدي العدو في هدم كل مقوم من مقومات أمته، ومحاربة كل ما يتبقى لها من فكر وعقيدة، أو خلق وسلوك، أو تاريخ ومجد. (3) وسائل التفريغ واتخذ العدو الغازي عدة وسائل لتفريغ أفكار الأجيال من أبناء المسلمين، وتفريغ قلوبها ونفوسها، من محتوياتها ذات الجذور العقلية والوجدانية والعاطفية والأخلاقية. وباستطاعتنا أن نلاحظ عدة وسائل وضعها العدو في خطته لتحقيق غاية التفريغ، وهي جميعُها تهدف إلى إبعاد وصرف وعزل الأجيال الناشئة في المجتمعات الإسلامية عن كل وعي ديني سليم، لئلا يتعرفوا على الإسلام بصورته الصحيحة المنيرة المشرقة، وتهدف إلى وضع العقبات الكثيرة في سُبل معرفتهم لها، واصطناع العثرات في طريق كل ذي فكر منير واعٍ يسعى لتصحيح مسيرة الأجيال المتعلمة نحو الحق، وتهدف إلى إفساد المفاهيم

الصحيحة المتوارثة في الشعوب الإسلامية، تمهيداً لانتزاعها انتزاعاً كلياً. فمن وسائل خطة التفريغ الوسائل التالية: الوسيلة الأولى: فصل العلوم الدينية عن العلوم الأخرى فصلاً يجعل بينها هوة سحيقة، واصطناع الخلاف والشقاق ثم العداء بين علوم الدين وعلوم الدنيا، وبين علماء هذين القسمين وتيسير سبل المال والمجد الدنيوي لمتعلمي علوم الدنيا، وحجبها عن نظرائهم من متعلمي علوم الدين، ولم تقتصر عملية الفصل هذه على مستوى التخصص العالي، ولكن المكيدة كانت شاملة، تهدف إلى عزل طلاب علوم الدنيا عن الدراسات المتعلقة بعلوم الدين عزلاً تاماً في الصيغة والطريقة والمضمون، وإلى عزل طلاب علوم الدين عن الدراسات المتعلقة بعلوم الدنيا عزلاً تاماً أيضاً، وذلك لئلا تنكشف الملاءمة التامة بين الأصول الصحيحة لقسمي علوم الدين وعلوم الدنيا، ولئلا تظهر الصداقة العميقة، أو الأخوة العريقة بين القسمين، فينصر الحقُّ من كل منهما الحقَّ من صاحبه، وينفي عنه الدخيل الدعيّ، ولئلا تتكامل منهما المعرفة على صراط الله المستقيم، فيحتل المسلمون لله مجد الدنيا والآخرة. ومن طبيعة هذا الفصل الموضوع في الخطة أن يولد مع الزمن تعصب كل فريق لنوع دراسته، ولمنهج بحثه، وطريقة تقصيه للحقائق، حتى تكون طريقة كل منهما مزدراة عند الفريق الآخر أول الأمر، وبذلك تبذر بزور الشقاق والخلاف، ومع تطاول الزمن يستحكم ذلك وتتسع دائرته، ثم تتولد القناعة عند الفريقين بأن علوم الدين وعلوم الدنيا في خلاف وشقاق، مع أن العلم مهما كانت طريقته إنما هو بحث عن الحقيقة، ولا عداء بين الحقائق، ولكن بينها الوئام التام، وإنما العداء بين الحق والباطل، بين الصدق والكذب. وما دامت مواكب المتعلمين ستتجه لدراسة علوم الدنيا وفق الصيغة التي وضعت لها، بما تحمله هذه الصيغة من عداء مدسوس أو سافر لأصول الدين وأحكامها وتزييف في بعض المعارف الإنسانية، وبعض النظريات. فإن النتيجة التي يقدرها واضعو الخطة هي انتصار هذه العلوم، وانتصار مادس فيها فجاء مرافقاً لها، وهزيمة علوم الدين بكل ما فيها من حق وخير ومجد للناس عظيم.

وعلى إثر هذا الفصل المصطنع كان على دارسي العلوم الدينية في معظم بلاد المسلمين أن يكونوا بعيدين عن كل مجالٍ حيوي إلا مجال المساجد وما يكون فيها من عبادات، وبعض الوظائف ذات الاختصاص الديني، مع تضييق موارد الرزق فيها، وإلجاء القائمين بها إلى طرق من الكسب تثير النقد اللاذع والازدراء والتندر. أما فيما عدا ذلك من المجالات فإنهم يحجبون عنها حجباً تاماً، حتى يظلوا معزولين عن معظم مجالات المجتمع، وحتى لا يكون لأفكارهم تأثير في التوجيه والتخطيط العام للأمة، وحتى لا يكون لهم رقابة على من يتولى ذلك من أجراء أعداء الإسلام وعملائهم في شتى المجالات. وفي مقابل ذلك وضعت الخطة في حسابها أيضاً عزل دارسي علوم الدنيا في معظم بلاد المسلمين عن دراسة علوم الدين، وحين يؤذن لهم بشيء من ذلك تحت تأثير ضغط جماهير المسلمين، فإنما يؤذن لهم منه بالنزر اليسير الذي لا يكوّن عندهم ملكة المعرفة بأصول الدين، وبنظمه الإنسانية التي تكفل للناس سعادتهم، وتركز الخطة فيما تأذنُ به على اختيار الموضوعات التي ليست من أسس العقيدة، ولا من أسس المعاملة، ولا من أسس إقامة المجتمع الإسلامي، وتحاول استرضاء الضغط العام ببعض مباحث الأخلاق المشتركة بين الإسلام وغيره، وبعض صور من التاريخ الإسلامي المشوه، وبعض صور من نشأة بعض العلوم عند المسلمين، ونحو ذلك. ثم تفتح لهؤلاء الدارسين وفق هذه الخطة مجالات الحياة كلها، وبمرور الزمن يتم الفصل بين الدين والحياة، وحينئذ تجد الأمة نفسها مضطرة لأن تقتبس لنظام حياتها من الأنظمة المستوردة من بلاد أعداء الإسلام، على أسس لا صلة لها بالدين ولا تعترف بشريعة الله، وبذلك يحقق الغزاة هدفهم من غزو الأفكار والنفوس والقلوب، وغزو سلوك المسلمين، واحتلال هذه المواقع بجيوش الغزاة الفكرية والوجدانية والعاطفية والسلوكية. ومتى انزلقت هذه الأمة في هذا المنزلق الخطر عدت عليها عوادي الكفر، وقد تتم عند الجماهير المخضرمة المصالحة الصورية بين عقيدتها وسلوكها، أما

عقيدتها فالإسلام كما تدَّعي، وأما سلوكها فعلى مناهج الكفر كما تطبق، هذا ازدواج في الشخصية لا تثبت عليه أمة أكثر من جيل واحد، إذ يأتي الجيل الجديد فيأخذ السلوك المطبق، ويختار له عقيدة تلائمه، وعندئذ يتم التحويل الكامل إلى الكفر. وتنسلخ الشخصية الإسلامية انسلاخاً تاماً، ويتحقق بذلك المسخ المعنوي. الوسيلة الثانية: تسخير وتشجيع فئات تدخل في المفاهيم الإسلامية أغاليط وأكاذيب وتلفيقات ومبتدعات ما أنزل الله بها من سلطان، وتعمل على تشويه حقائق الإسلام الناصعة، وذلك لطعن الإسلام بها من جهة، ولإبعاد الأجيال الناشئة عنه تذرعاً بهذه التشويهات الدخيلة عليه والغريبة عنه. وقد رأينا ونرى باستمرار أعداء الإسلام والمسلمين، يدسون، ويسخرون، ويشجعون، في المجتمعات الإسلامية من ينشرون مفاهيم وأعمالاً فاسدة خاطئة، يزعمونها من الإسلام، وهي ليست منه، فمنها حشد البدع المحدثة، التي كانت تشجعها السلطات الاستعمارية في مختلف بلاد المسلمين المحتلة من قبل أعدائها، ويتخذون لهم أجراء من المنتسبين إلى الأمة، ويقوم هؤلاء الأجراء بتنفيذ خطة العدو، ويتلقون منه التعليمات في ذلك. وفي الوقت الذي ضيق فيه المستعمرون الخناق على المدارس الإسلامية والعلوم الدينية الصحيحة، وجدناهم يدعمون ويشجعون مجموعات من الجهلة بالدين , تمارس طقوساً من العبادات المبتدعة المخترعة، التي لم يعرفها الصدر الأول من المسلمين، والممزوجة بشيء كثير من حظوظ النفس، تحت ستار التصوف الديني، مع أنه ليس لأحد أن يشرع من الدين ما لم يأذن به الله. وعلمنا أن كبار رجال الاحتلال الاستعماري كانوا يحضرون هم وعائلاتهم كثيراً ومن هذه الاجتماعات التي يتصور القائمون بها أنها لون من ألوان العبادات الإسلامية، وما هي في الحقيقة إلا مجموعة من أغاني التشبب ترافقها أصوات بعض آلات الموسيقى والحركات الإيقاعية المسماة برقص السماح، ويرافقها ترديد لبعض الأذكار المختلفة. وكانت تؤخذ لهذه المجالس رسوم فوتوغرافية، تضاف إلى سجل المعلومات التي تؤخذ عن المسلمين

وبلادهم، وقد بلغنا في حينها أن السلطات الاستعمارية كانت تشجع القائمين بهذه الاجتماعات بالمنح المالي، وبإظهار استحسان ما يقومون به، وباستدراج فريق منهم ليكونوا أجراء لهم، ويكونوا فيما بعد قوة دينية في البلاد تساند المحتل، وتخدمه في تحقيق أغراضه. وهذا اللون من التحوير في مفاهيم الدين وفي تطبيقاته له آثار سيئة جداً، ومنها الآثار التالية: الآثار السيّئة للبدع الدخيلة في الدّين 1- إبعاد هذه المجموعات عن دراسة علوم الدين دراسة صحيحة، تعدّهم لتفهّم غاياته وأحكامه التي يأمر بها، والتي منها عزة المسلمين، ووجوب مجاهدة الكافرين، والعمل على بسط سلطان الحكم الإسلامي في البلاد. 2- امتصاص شحنة الطاقة الدينية الكامنة في نفوس المسلمين، والدافعة لهم إلى العمل بواجبات الإسلام التي تعتبر العبادات الخالصة لوناً روحياً من ألوانها. ويكون امتصاص هذه الطاقة بما تورثه هذه الأعمال المجهدة المحببة للنفوس من القناعة الداخلية بقيام الفرد نحو ربه بجهد كاف، ثم هو يطالب الله بعدها بأن يحقق للمسلمين النصر على عدوهم، دون أن يشارك هو بعمل فعَّالٍ من شأنه أن يضيف إلى قوة المسلمين قوة، أو إلى صفوف مكافحيهم جندياً عاملاً. 3- تحويل المسلمين عن تعاليم الإسلام الأصلية، وإضافة أشياء جديدة له، قابلة للتنوع بين مختلف المجموعات، ثم بعد أمدٍ قد يطول أو يقصر تصبح هذه المحدثات هي الأصل الديني عند هذه الفئات، وتصبح أركان الإسلام الأصلية شيئاً ثانوياً، ولربما تترك فروض الإسلام وتهمل اكتفاء بهذه المحدثات التي حلت محَلَّها عند هذه الفئات. 4- تنفير الأجيال المثقفة عن الإسلام، تذرعاً بهذه الأخلاط المبتدعة البعيدة عن سمو الشريعة وكمالها، والتي تصمه بأنه مزيج مقتبس من العبادات

الوثنية، وما هي في الحقيقة إلا أمور دخيلة عليه، محدثة، ما أنزل الله بها من سلطان. الوسيلة الثالثة: تولية قيادات دينية تعطي صورة سيئة عن الإسلام في مفاهيمها أو في سلوكها، وإبعاد كل عنصر صالح يدرك حيل أعداء الإسلام، ويكافح لإحباط مخططاتهم. وبهذه الوسيلة يحاربون الإسلام بسلاحين خطيرين: سلاح يطعن به المسلمون أنفسهم، وسلاح آخر في أيدي عدوهم يطعنهم به في الخفاء، وقد يعلنه متى واتته الفرصة. إن تولية مثل هذه القيادات ينتج عنه أسوأ الأثر في جماهير المسلمين. إنها في الاسم الرسمي أو المعلن قيادات تتولى مناصب دينية لها نوع تقديس في نفوس معظم الجماهير المسلمة، فلا بد أن تكون أسوة وقدوة لمعظم هذه الجماهير، فإذا كانت منحرفة التفكير، أو منحرفة السلوك، كانت أيسر طريق للتضليل الذي يريده العدو، لأن الجماهير التي تجد في هذه القيادات أسوة لها لا بد أن تضل النسبة العظمى منها بدافع الاقتداء والاتباع، وهذا ظفر عظيم لأعداء الإسلام، وأما الثلة الواعية التي لا ترضى سلوك هذه القيادات فإنها تسلط نقمتها عليها، وعلى كل من له قيادة دينية رسمية أو غير رسمية، وتتجه في طريق آخر، وهذا ظفر ثان لأعداء الإسلام أيضاً. ومتى اتجهت النقمة العامة ضد ما يسمى بالقيادات الدينية تحلل من الاتجاه إلى دراسة العلوم الدينية كل من تحدثه نفسه بخدمة الإسلام عن طريقها، وسلك مسلكاً آخراً، وهذا ظفر ثالث لأعداء الإسلام أيضاً، كما يجد ضعفاء الإرادة الطامعون بالدنيا أن الانحراف طريق ميسر سهل إلى تولي المناصب الدينية، فينحرفون ليصلوا إليها، وهذا ظفر رابع لأعداء الإسلام أيضاً. ومتى انعدمت من الأمة فئة الدعاة إلى الله الموثقين بدعوتهم، الحارسين لحدود الإسلام، قام جنود الشياطين يعبثون في صفوفهم، دون أن يجدوا عقبة تقف في طريقهم تقول لهم لا تفعلوا الشر، وتحذر الأمة من شرورهم، وتنبهها

على خطرهم، وتدلها على مكايدهم، وبفقد الدعاة إلى الله الحارسين لحدود دينه يتحقق ظفر خامس لأعداء الإسلام أيضاً. وحين يتم للعدو هذا الظفر بأنواعه ومراحله المختلفة وصوره المتعددة تخسر الأمة الإسلامية أعز ما تملك من مقومات وجودها بين أمم الأرض. وهكذا يفعل أعداء الإسلام بالمسلمين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فهل إلى يقظة من سبيل؟؟.. الوسيلة الرابعة: التضييق على طلاب العلوم الدينية والمعارف المتصلة بها، وتزهيدهم فيها، وتوجيه ألوان الاضطهاد للدعاة إلى الإسلام منهم، ومحاربة كل حركة إصلاحية تضطلع بأعباء رسالتها هيئة منظمة، أو يقودها ملح ذو شخصية مؤثرة، وذلك بإضعاف قواها المادية، وإثارة الشكوك حولها، والإيقاع بينها وبين غيرها من المؤسسات الإصلاحية، وإدخال عناصر مدسوسة فيها تعمل على تفتيت طاقاتها، وتحوير اتجاهها السليم. وقد مني المسلمون بنكبات متعددة من جراء تنفيذ هذه الوسيلة، على أيدي أعداء الإسلام مباشرة، أو على أيدي أجرائهم وعملائهم من المنتسبين إلى الأمة الإسلامية انتساباً وراثياً، لا انتساباً اعتقادياً إرادياً. الوسيلة الخامسة: إثارة الشكوك والشبهات حول عقائد الإسلام، ومبادئه، ونظمه، وعباداته، لإضعاف ثقة المسلمين بكمال دينهم الذي كان سر مجدهم، ولإقناعهم بأن تقدمهم في مختلف مجالات العلوم التي تخرجهم من واقع التخلف الذي أصابهم، رهن بتركهم لدينهم ولتعاليمه، ولنظمه، وهنا يستعملون دسيستهم المشهورة، وهي قياسهم العالم الإسلامي على أوربا، مع مغالطة فاحشة في عناصر القياس. هذه الدسيسة هي قولهم: إن أوربا لم يُتح لها النجاح حتى فصلت عملها وسياستها عن سلطان الكنيسة، وكذلك لا يتاح للعالم الإسلامي النجاح حتى يجعل الدين محبوساً في زوايا المسجد، وحتى يتم الفصل بين الدين والدولة في سياستها وفي نظمها وفي قضائها، متهمين الإسلام بالعجز والقصور عن مواكبة ركب العصر الحاضر في أنواع تقدمه العلمي والحضاري والمدني.

وفساد القياس آتٍ من الواقع المتباين ما بين الإسلام الحق الذي لم يدخل فيه التحريف والتغيير، وبين غيره من الأديان التي لم تبق على أصولها الربانية، فلم تعد صالحة للحياة بسبب التحريف الإنساني الذي دخل فيها. ولئن كان كلامهم مقبولاً في بعض جوانبه بالنسبة إلى المذاهب والأديان والملل غير الإسلامية، فإنه لن يصح بحال من الأحوال بالنسبة إلى الإسلام الحق، الذي يحتل مركز القمة في دفعه المسلمين إلى كل تقدم حضاري، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لأن الله حفظ كتابه كما أنزله على رسوله. الوسيلة السادسة: إثارة ألوان الهزء والسخرية وأنواع التهكم بعلماء الدين الإسلامي، وبالأحكام الإسلامية، وبالعبادات وممارسيها. ولهذا السلاح أثره القوي لدى ضعفاء النفوس، الذين توجههم الضغوط الاجتماعية إذ يتخاذلون أمامها،ويجنبون عن فعل الحق والخير وسلوك سبيل الهدى، أمام استهزاء المستهزئين، وسخر الساخرين، وتهكم المتهكمين، وما أكثر ما يستعمل دعاة الباطل هذا السلاح الحقير ضد أنصار الحق من المؤمنين. وقد انتشرت في المجتمعات الإسلامية المختلفة الأجهزة المأجورة لاستخدام هذه الوسائل، كأسلحة خطيرة يقاتلون بها في أعمال الغزو غير الحربي، للإجهاز على الإسلام والمسلمين، والقضاء عليهم من داخل صفوفهم. وواجب أهل الرأي والغيرة والعمل أن يقابلوا كل سلاح بما يبطله ويُفني أثره، وأن يقوموا بحركة غزو مضادة على مواقع أعداء الإسلام الفكرية والنفسية والسلوكية، حتى يحبطوا كيدهم، وينصروا دين ربهم، ويستعيدوا مكانهم القيادي في العالم. الوسيلة السابعة: تنفير الأجيال من أبناء المسلمين من واقعهم المعاصر، ومن تاريخهم الغابر، عن طريق تشويهه، وتجميع النقائص المتفرقة، وعرضها في صورة واحدة تمثل صورة المسلمين، مع طمس كل الفضائل والكمالات، التاريخية والمعاصرة، وتسخير عناصر مأجورة ضمن الأمة ليسيئوا سمعتها بأعمالهم، وليصدقوا أقوال أعدائهم فيهم.

(4) عمليات ملء الفراغ

(4) عمليات ملء الفراغ وحين يتم للعدو الغازي تفريغ أفكار أبناء المسلمين وقلوبهم ونفوسهم، من محتوياتها الإسلامية، ذات الجذور العقلية والوجدانية والعاطفية والأخلاقية، يهون عليه جداً ملء الفراغ بما يريد، عن طريق مدارس التعليم، ومعاهده، وجامعاته، وعن طريق أندية الثقافة والفن، وعن طريق المكتوبات والمنشورات، من رسائل، وكتب أخبار، وصحف ومجلات دورية، وكتب علوم مبسطة يدسّ فيها العدو ما يريد من أفكار ونظريات، وعن طريق الإذاعة والتلفزيون، وسائر وسائل الإعلام. وأعمال ملء الفراغ تواكب أعمال التفريغ في خطة الغزو، حتى لا تضيع على الغازي فرصة من فرص العمل، وتطبيقاً لنظريته التي يقول فيها: إن الطبيعة تأبى الفراغ. وربما يكون التفريغ وملء الفراغ كمن يلقي الحصى في كأس اللبن، إذ يخرج من اللبن بمقدار ما ألقى في الكأس من حصى. وفي الساعة التي يستخرج فيها ساكن من سكان الدار يحتل فيها ساكن جديد من قبل العدو، وتحدث مشكلة عدم التلاؤم بين العناصر الدخيلة والعناصر الأصيلة، ويقوم بعض الصراع الجزئي، ولكن متابعة تنفيذ خطة الغزو تفرض نوعاً من التعايش بين العناصر بانفصام الشخصية، أو بإقامة حجب بين العناصر، أو بإضعاف العناصر الأصلية وتخديرها حتى لا تشعر بالنفرة من الغريب المحتل، أو بجعل الغريب الدخيل يكمن في زاوية مظلمة، بانتظار قدوم عناصر جديدة أخرى تشد أزره، وتقوي ظهره. وبمتابعة العمل، والدأب الدائم، في عمليات التفريغ والملء، يحقق العدو الغازي أهدافه. ومن النصوص الكاشفة لخطة الغزو ما يلي: جاء في كتاب "غزو العالم الإسلامي" للمستشرق شاتلي، ما يلي:

(5) تسخير الجيش الجديد من أبناء الأمة

"....وإذا أردتم أن تغزوا الإسلام، وتخضدوا شوكته، وتقضوا على هذه العقيدة التي قضت على كل العقائد السابقة واللاحقة لها، والتي كانت السبب الأول والرئيس لاعتزاز المسلمين وشموخهم، وسبب سيادتهم وغزوهم للعالم.... عليكم أن توجهوا جهود هدمكم إلى نفوس الشباب المسلم والأمة الإسلامية، بإماتة روح الاعتزاز بماضيهم وتاريخهم، وكتابهم القرآن، وتحويلهم عن كل ذلك بوساطة نشر ثقافتكم وتاريخكم ونشر روح الإباحية، وتوفير عوامل الهدم المعنوي، وحتى لو لم نجد إلا المغفلين منهم، والسذج البسطاء لكفانا ذلك، لأن الشجرة يجب أن يتسبب لها في القطع أحد أغصانها....". (5) تسخير الجيش الجديد من أبناء الأمة وحين تستطيع الغزاة تنشئة أجيالٍ من أبناء المسلمين على ما أرادوا من تفريغ وملء، يهون عليهم جدّاً استئجار هؤلاء، أو تسخيرهم، أو دفعهم من وراء حجاب، لهدم ما تبقّى من الإسلام في أمتهم، وللإمعان في تجزئتها وتبديد طاقاتها، بقوة وعنف، وبطريقة جريئة صريحة وقحة، لأنهم من أبناء الأمّة، ولهم في العرف العامّ الحقّ في الإصلاح والتغيير، وهم الطبقة المثقفة التي يظنّ الجهلة من عامة المسلمين أنها العليمة الخبيرة بخير الأمة ومصالحها، والعليمة الخبيرة بسياستها وإدارة شؤونها. والواقع المرّ المعاصر من تاريخ المسلمين، قد أثبت أنَّ هؤلاء قد كان لهم دورٌ في هدم الإسلام وتجزئة المسلمين وتبديد طاقاتهم، أكبر وأخطر من الدور الذي قام به الأعداء الأصليّون بصورة مباشرة. لقد فاق التلاميذ أساتذتهم في تحقيق الأهداف التدميرية. * * *

الفصل الثامن خطط العدو لغزو الإسلام

الفصْل الثامِن خطط العَدُوّ لغزو الإسْلام بتفريغه من مضامينه الصحيحة 1- خطة وغرض. 2- التحريف في مفهوم التوكل على الله. 3- سوء فهم معنى الرضى بالقضاء والقدر. 4- محاولات الغزاة إلغاء ركن الجهاد في سبيل الله بالقتال. 5- محاولات الغزاة تفريغ الإسلام من أحكام المعاملات وسائر شؤون الحياة. 6- محاولة إلغاء تطبيق أحكام الأحوال الشخصية الإسلامية. 7- التلاعب بالأحكام الإسلامية بحيلة المرونة في الشريعة. 8- حيلة خلط معنى التمسك المحمود بالحق بمعنى التعصب الجاهلي المذموم. 9- التلاعب بعبارات التقدمية والرجعية والتمدن والتخلف ونحوها. 10- حيلة التحسر على افتقار الأمة العربية إلى فلسفة ترفع من شأنها. 11- حيلة التمجيد بعبقرية محمد لتفريغ دعوته من كونها رسالة ربانية.

(1) خطة وغرض

(1) خطة وغرض في خطة من خطط الغزو الفكري للمسلمين الذي يبيّته أعداء الإسلام تصيُّد المفاهيم الفاسدة الموجودة عند بعض المسلمين، الداخلة عليهم عن طريق الأخطاء الفكرية، أو بفعل كيد مدّبر، من قبل عدو من أعداء الإسلام والمسلمين، ثم العمل على دعم هذه المفاهيم ونشرها، وتوسيع رقعتها بكل وسيلة، والوقوف دون أية حركة إصلاحية تصحح هذه المفاهيم الفاسدة، وتعيد الآخذين بها إلى الفهم الإسلامي الصحيح. والغرض من التصيُّد هذه المفاهيم ودعمها ونشرها والوقوف دون أية حركة إصلاحية لتقويمها التمهيدُ لطعن الإسلام بها، والتشهير به على زعم أنها من تعاليمه الأساسية، واستغلالُها لتوهين قوة المسلمين ضد أعدائهم، وصرفهم عن مفاهيم الإسلام الحقة. وبطريقة ماكرة يوحون إلى الأجيال الناشئة في البيئات الإسلامية أن الإسلام غير صالح للحياة، وأنه مشكوك بكونه من التعاليم الربانية الصحيحة، ويستشهدون على ذلك بهذه المفاهيم غير الصحيحة، مدعين أنها من صلب الإسلام، بدليل تمسك فريق من المسلمين بها. (2) التحريف في مفهوم التوكل على الله دخل المستعمرون بلاد المسلمين ضمن دوامة من المؤامرات الدولية أدّت إلى إضعاف الدول الإسلامية، ووجدوا المقاومة العنيفة لهم من الشعوب المسلمة،

وهي تعلن الجهاد ضد قوى الاحتلال الكافرة الغاشمة الظالمة، ولم يتركوا سبيلاً من سبل العنف العسكري إلا استخدموه ضد مقاومة المسلمين المستمرة لهم، دون أن يظفروا بثمرة الاستقرار فيما احتلوه من بلاد، فاتجهوا إلى تصيد الأفكار التي يمكن أن تُخمد نار المقاومة المتأججة ضدهم، إذا تمكنوا من بثها في أفكار الشعوب المسلمة. وقد عثروا على فكرة التوكل على الله. وأدركوا أن من الممكن التحريف فيها، والتلاعب بمضمونها، حتى تغدو سلاحاً ضد المسلمين، وبعد أن كانت سلاحاً خطيراً جداً في أيديهم ضد أعدائهم، وهذا التحريف لا يكلفهم أكثر من عملية تعميم في المضمون، يتجاوز حدود مواقع التوكل المطلوب في الإسلام. إن التوكل على الله كما قرره الإسلام، وفهمه المسلمون الأوائل وطبقوه، وظيفة من وظائف الجانب القلبي الاعتقادي في الفرد المسلم والجماعة الإسلامية، وليس وظيفة من وظائف الطاقات المادية، والقدرات الجسدية، والأعمال التخطيطية والتنفيذية في المسلم، ومتى صح إدراك هذا الفرق لدى الأفراد والجماعات، كان التوكل على الله في الجانب القلبي الإيماني ممداً بقوة معنوية عظيمة، تضاعف القوى المادية العاملة أضعافاً كثيرة، حتى يغلب عشرون مؤمنون صابرون مئتين بإذن الله، والله مع الصابرين. ومن الملاحظ أن أهم عوامل الخذلان التي تمنى بها القوى المادية على كثرتها في الجيوش المحاربة، إنما هي تناقص القوى المعنوية القلبية، التي أثبتت التجارب التاريخية أن في مقدمتها قوة التوكل على الله، فهي أثقل القوى المعنوية على الإطلاق. فالذي يعد العدة، ويستخدم الأسباب، متوكلاً على حدود ما أعد من قوى يظل قلبه قلقاً حذراً جباناً خائفاً من أن تكون قوة عدوه زائدة على قوته ولو بمقدار يسير، وبذلك فقد تنهار قوته، وتفقد أسلحته وأسبابه مضاءها المقدَّر لها، لفقدان الروح المعنوية في قلبه، وأما الذي يعد العدة الكاملة، ويتخذ ما يستطيع من أسباب ويباشر العمل وهو موقن بأن قوة قادرة على كل شيء تدعمه من وراء الحجب المادية، وتشد أزره، فإنه يستطيع أن يستعمل في نضاله وجهاده كل قوته مع حضور القلب وسرعة بديهة، نظراً إلى أنه لم يسمه الخوف الذي يقلق

القلوب ويفسد الرؤية الصحيحة للعقول. وما يقال في أعمال القتال يقال نظيره في كل أعمال الحياة. والتحريف الذي أدخل على معنى التوكل على الله هو تعميم مضمونه، حتى امتد فكان في أفكار بعض المسلمين وظيفة أيضاً من وظائف الطاقات المادية، والقدرات الجسدية، والأعمال التخطيطية والتنفيذية، واستطاع الأعداء أن يستغلوا هذا التحريف لتثبيط المسلمين عن إعداد ما يجب عليهم إعداده من قوى مادية، وصرفهم عن اتخاذ الأسباب الواجبة، وعن مباشرة كل ما من شأنه أن يحقق النتائج وفق سنن الله في كونه، تخدر التصورات الفاسدة لمعنى التوكل طاقات العمل والسعي والتكفير فيهم، وتجعلهم يعيشون في أحلام تحقيق غاياتهم بمعجزات خارقة خارجة عن سنن الحياة المستمرة. ولا شك أن هذا المفهوم الفاسد لمعنى التوكل على الله يعطل حركة السعي الواجب، لاتخاذ كل الوسائل المادية والمعنوية المستطاعة، التي من شأنها أن تظفر الساعي بالنتيجة المطلوبة وفق سنن الله في كونه، وكانت مكيدة العدو في استخدام هذا التحريف مكيدة خطيرة جداً، أخطر من مكيدة الأفيون الذي نشره المستعمرون في الصين، وقد تضمنت هذه المكيدة سلاحاً ماضياً لصالح العدو. بينما فهم المسلمون الأولون معنى التوكل على الله فهماً صحيحاً، مقروناً بفهمهم لما يجب عليهم من عمل وجهاد وكفاح، وما يجب عليهم من اتخاذ أتم الوسائل المستطاعة لبلوغ الغايات، ومقروناً بفهمهم لسنن الله في كونه، القائمة على الأسباب، ثم تأتي المعونة الإلهية من وراء اتخاذ الأسباب المأمور بها، ولذلك لم يترك المسلمون الأولون سبيلاً من سبل العمل المستطاعة لهم إلا أخذوا به، ولا سبباً من الأسباب التي أمكنهم الظفر بها إلا استخدموه، وبذلك حقق لهم المجد والنصر المبين. وهكذا كانت تربية رسول الله لهم في حياته كلها، وفي دعوته إلى دين الله، هكذا كان صلوات الله عليه في دعوته، وفي جهاده، وفي غزواته، وفي سعيه لاكتساب الرزق، وفي عباداته، وفي شؤونه الخاصة، وفي شؤون المسلمين العامة، وفي حثه المسلمين على السعي والعمل والجهاد والصبر والمصابرة.

(3) سوء فهم معنى الرضى بالقضاء والقدر

وكذلك كانت تربية القرآن الكريم لرسول الله وللمسلمين، ونصوص القرآن زاخرة بالأمر بالعمل والحث عليه، ووجوب اتخاذ الوسائل التي ربط الله بها النتائج في قوانين الحياة التي سنها، فلا مبدل لها، وخرق هذه السنن لا يكون إلا في حالات نادرة، آية لرسول، أو إكراماً لفئة قليلة مؤمنة صادقة مع الله، بذلت قصارى جهدها، ولم تتهاون في واجب فرضه الله عليها. (3) سوء فهم معنى الرضى بالقضاء والقدر التحريف في مفهوم التوكل على الله واقترن بالتحريف الذي أدخل على مفهوم التوكل على الله سوء فهم لمعنى الرضى بالقضاء والقدر، إن فهم التوكل فهماً فاسداً، نشأ عنه ترك الأخذ بالأسباب، والقيام بما فرض الله من إعداد المستطاع من القوة، والجهاد في سبيل الله، وهذا قد لزم عنه تسلط الأعداء على المسلمين، ووقوع المسلمين في نكبات الاضطهاد، ولتبرير التحريف الدخيل، مع المحافظة على الانتساب إلى الإسلام، كان لا بد من قبول فهم فاسد آخر يتصل بالقضاء والقدر، إذ يحاول هذا الفهم أن يقنع العصاة بتوكلهم الفاسد، أن الله قد تخلى عن نصرهم وإذْلال عدوهم مع استحقاقهم لذلك لأنه أراد أن ينزل بهم مصيبة على يد عدوهم، لا بسبب أنهم قصروا بما أوجب عليهم، ولكن ليرضوا بمقاديره ويصبروا عليها، وجعلوا ذلك مثل مصائب الفقر والمرض والموت التي يبتلي الله بها عباده؛ ليعلم الصابرين منهم والمتضجرين. إنهم يجعلون النتائج السببية التي تأتيهم بأسباب منهم، كالمصائب الربانية التي يبتلي الله بها عباده، فيسيئون فهم القضاء والقدر، ويضعون الأمور في غير مواضعها، ويسلكون في هذا مسلكاً شبيهاً بمسلك المنافقين الذين كانوا إذا أوذوا مع المسلمين في قتال، جعلوا فتنة الناس كعذاب الله، وأخذوا يطرحون الشكوك بالإسلام، ويعتبرون أن ما أصاب المسلمين من أذى هو شبيه بعذاب الله لهم، وفيهم يقول الله في سورة (العنكبوت/29 مصحف/85 نزول) : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يِقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ

وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} وظاهر أن الاستكانة إلى العدو على معنى الرضى بقضاء الله وقدره استكانة وينهى الإسلام عنها، ولا يرضى بها، ولا يجوز أن تكون وفي قدرة المسلمين أن يدافعوا ويكافحوا ويجاهدوا في سبيل الله، وما يصاب المسلمون بالخذلان، أو بتسلط أعدائهم عليهم إلا بذنوبهم، وبتقصيراتهم عن القيام بما أوجب الله عليهم من اتخاذ الأسباب، لصد أعدائهم، وإعلاء كلمة الله. إن مبدأ الرضى بقضاء الله وقدره في المفهوم الإسلامي الصحيح يمنح المسلمين قوة عملية فعالة لا تني، وطاقة اندفاع كبرى إلى الجهاد في سبيل الله، وتحمّل كل مصيبة في ذلك، اعتقاداً منهم بأنهم لن يصيبهم إلا ما كتب الله لهم. فالمسلمون يدخلون معارك الجهاد في سبيل الله فيصابون في أنفسهم وأموالهم وأولادهم، فيتقبلون كل ذلك بتمام الرضى عن الله فيما يجري به قضاؤه، دون أن يتضجروا أو يتذمروا من ذلك، ثم إذا دعاهم داعي الجهاد مرة ثانية وثالثة ورابعة وإلى ما لا نهاية له لم يتوانوا عنه، لأنهم يعتقدون اعتقاداً جازماً أنه لن يصيبهم إلا ما كتب الله لهم، فهم يتلقون كل ذلك بالتسليم والرضا عن الله، معلقين آمالهم بما أعد الله من أجر عظيم للصادقين الصابرين. وفي مقابل هذه العقيدة السليمة الممدة بقوى الصبر والمصابرة واحتمال الأذى، تأتي العقيدة الموهنة المثبطة المخذلة التي يعتقدها الكافرون، وهي التي تجحد القضاء والقدر، وتزعم انفراد الأسباب بتحقيق النتائج، وتعتقد أنه لولا حصول السبب الفلاني لما حصلت المصيبة الفلانية، وعلى أساس من هذه العقيدة الباطلة، أثار المنافقون بعد غزوة أحد التي أصيب فيها المسلمون بنكسة بعد ظفرهم على عدوهم، بسبب مخالفة فئة الرماة أمر الرسول بعدم تركهم موقعهم الذي حدده لهم، أثاروا مقالتهم: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتل

هذا النفر الذي قتل في أحد. إذ كان رأي زعيم المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول عدم الخروج من المدينة إلى ملاقاة المشركين في أحد، وانخذل عن الرسول هو والمنافقون معه وكانوا قرابة ثلث الجيش. وكانت مقالة المنافقين بعد أن حصل ما حصل للمسلمين في الموقعة لوناً ماكراً من ألوان تثبيط القوى الإسلامية عن الجهاد في سبيل الله، والخروج إلى مقارعة حملة ألوية الكفر. لذلك كان لا بد للعقيدة الإسلامية الصحيحة حول القضاء والقدر من أن تقف موقفاً حازماً جازماً لا تردد فيه، تثبيتاً لقلوب المؤمنين، ورداً لكيد المنافقين، فينزل القرآن معلناً أن الذين قتلوا من المسلمين في أحد قد قتلوا بآجالهم المقررة لهم في قضاء الله وقدره، وقضوا حياتهم في مصارعهم المقدر لهم أن يموتوا فيها. فلو أن المعركة كلها لم تحصل، ولم يخرج المسلمون من المدينة إلى قتال عدوهم، لخرج الذين كتب عليهم القتل بسبب آخر إلى موطن المعركة، ولكان مصيرهم القتل، ولكانت مضاجعهم هي مصارعهم، قال الله تعالى في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول) : { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} . على مثل هذا يكون استعمال العقيدة بالقضاء والقدر، والتوكل على الله، والرضى عن الله والتسليم التام له فيما تجري به مقاديره، تقوية لقلوب المؤمنين وتثبيتاً، وتطهيراً لها من عوامل الخوف والقلق والاضطراب والجزع. أما الجنوح بهذه العقيدة إلى المعنى المغمور بالضعف والتخاذل، وترك مباشرة الأسباب، والرضى بأية نتيجة تأتي من جراء ترك ما أوجب الله اتخاذه، فهو جنوح عن أساس العقيدة الإسلامية، التي ألزمنا الله باعتناقها والاستمساك بها. والفهم الإسلامي الصحيح في هذا صراط وسط بين منحدرين،

(4) محاولات الغزاة إلغاء ركن الجهاد في سبيل الله

والانحياز عنه من ذات الشمال يوقع بالإفراط في التعلق بالأسباب وإهمال المقادير الربانية، وهذا انفصال عن عنصر أساسي من عناصر العقيدة الإسلامية من نتائجه الوهن والتخاذل والجبن والقلق والتسخط والندم، والانحياز عنه من ذات اليمين يوقع بالتفريط بما أوجب الله الأخذ به، من كل سبب من شأنه الإيصال إلى الغاية المطلوبة وفق سنن الله في كونه، ومن نتائجه الاستكانة والتواني وترك العمل، وإيثار البطالة والكسل، وما ينجم عنها من مصائب ونكبات وآلام وضعف وذل، وبها يستشري الفساد في الأرض، ويظهر الكفر ويعلو الباطل، ويتسلط أعداء الله والحق. (4) محاولات الغزاة إلغاء ركن الجهاد في سبيل الله من أركان الدعوة إلى الله ونشر الإسلام وحماية المسلمين استمرت جيوش الاحتلال الاستعماري في البلاد الإسلامية تنام على أشواك القلق والاضطراب والفزع، من مباغتة المقاومة التي يقوم بها المجاهدون المسلمون، وفي طليعة هذه الجيوش جيوش الاستعمار الإنكليزي والفرنسي، ثم جيوش الاستعمار الإيطالي والبرتغالي، والهولندي، وغيرها. وبحثوا عن سر هذه المقاومة العنيدة المستمرة، والفداء الذي لم ينقطع فوجدوا أن من واجبات الإسلام لنشره وصيانته وحماية المسلمين وبلادهم من أي تسلط غير إسلامي، واجب الجهاد في سبيل الله بالقتال عند توافر أسبابه، الذي يغذيه في قلب المسلم إيمانه الراسخ بما أعد الله للمجاهدين في سبيله من أجر عظيم عنده، فهو إن لم يظفر في الدنيا بالنصر، ظفر في الآخرة برضوان الله والجنة. ولذلك وجه الاستعماريون والمبشرون والمستشرقون واليهود وسائر أعداء الإسلام جهوداً عظيمة في خطة متعددة الشُّعَب، لغزو هذا الركن العملي الخطير

الخطة الأولى: خطة استغلال ردود الأفعال الناتجة عن توجيه الاتهام.

من أركان الدعوة إلى الله ونشر الإسلام وإقامة العدل في الأرض، وإضعاف أثره في صفوف المسلمين , وهدم بواعثه في قلوبهم. وكان من مظاهر محاولاتهم لإلغاء هذا الركن العظيم ما يلي: 1- خطَّة الهجوم على الإسلام بأنه انتشر بالسيف، وبإكراه الناس عليه. لاستغلال ردود الأفعال عند بعض المسلمين، الذين ينزلقون إلى بعض ما يريد الغزاة، وهم يرون أنهم يدافعون عن الإسلام. 2- خطَّة تفريغ الجهاد في سبيل الله بالقتال من مضامينه، وذلك باصطناع البدائل، كالوطنية، والقومية، والأرض، والكرامة، والاشتراكية والحريّة، ونحو ذلك. 3- حيلة الربط الدوري بين الجهاد في سبيل الله وبين إقامة الحكم الإسلامي. 4- خطَّة اصطناع الفرق العميلة الأجيرة، التي تعمل على إلغاء الجهاد في سبيل الله، بحيل شتى، ومنها ما ينقض الإسلام كلَّه، مثل فرقة البهائية، وفرقة القاديانية. 5- خطَّة استغلال المنظمات الدولية المندسة في شعوب العالم الإسلامي، كالماسونية والروتاري اللّيونز، لبث الأفكار الرامية إلى هدم الإسلام عن طريقها، ومن ذلك الاهتمام الشديد بإلغاء الجهاد في سبيل الله. 6- خطَّة التوريط والإحباط، لإقناع جماهير المسلمين بالعجز عن عودة الجهاد بالقتال إلى سابق مجده. 7- خطة تقديم صور مصطنعة من جهاد قتاليّ يحمل شعار جهاد إسلاميّ، وهو ليس منه منهجاً ولا غاية، للتنفير من الجهاد في سبيل الله بالقتال، كصور الأعمال الإرهابيّة الّتي تقتل الأبرياء، وتغتال وتدمّر، دون مواجهات قتالية واضحة. وفيما يلي شرح موجز لهذه الخطط السَّبع: الخطة الأولى: خطَّة استغلال ردود الأفعال الناتجة عن توجيه الاتهام.

أطلق المستشرقون والمبشرون فريتهم التي اتهموا فيها الإسلام بأنه إنَّما انتشر بالسيف، وبإكراه الناس عليه، فكان ردُّ فعل هذا الاتهام عند بعض المسلمين الغيورين على إسلامهم، دفاعهم عن الإسلام بأنَّ الحروب الإسلامية لم تكن إلاَّ حروباً دفاعية فقط، وهذا هو ما يريده الغزاة المهاجمون، هو أن يستدرجوا المسلمين إلى هذه المقالة، ليلغوا بذلك جزءاً مُهِمَّاً من مفهوم الجهاد في سبيل الله، وهم يصلون بذلك إلى هدم شطر عظيم من ركن الجهاد في سبيل الله، الذي دلت عليه النُصوص الإسلامية، ومفاهيم المسلمين الأولين، ودلّت عليه وقائع الفتوحات الإسلامية العظمى التي طبقت هذه المفاهيم. وضمن الغيورين على الإسلام المدافعين عنه بصدق، والمستدرجين إلى إطلاق مفاهيم غير صحيحة عنه، اندس مأجورون للمستعمرين والمستشرقين وغيرهم، فتظاهروا بالغيرة على الإسلام، وأخذوا ينشرون فكرة حصر القتال في الإسلام بقتال الدفاع فقط، وأطلقوا نظرياتهم بأنَّ الحروب الإسلامية لم تكن إلا حروباً دفاعية فقط، فهدموا بذلك شطراً من ركن الجهاد في سبيل الله. وتذرع أصحاب النظرية الجديد بالحقيقة الإسلامية التي أعلنها القرآن بقول الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) : {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . وبالهدم الجزئي الذي تضمنه هذا الفهم الدخيل المبتدع تعطل شطر من شطري الجهاد في سبيل الله، وهو الشطر الذي تكون الغاية منه نشر الدين، وإبلاغه للعالمين، وكسر الأسوار التي تحجب الحق عن أن يصل إلى أسماع الغافلين المتعطشين إلى المعرفة من الشعوب المغلوبة على أمرها، الراغبة بالخلاص من ظلمات الجهل، وسلطان الحكومات الآثمة الظالمة، التي تحجب عنها النور، وتفرض عليها أهواءها، وتمنعها من تنسم أي حقيقة تخالف ما تمليه عليه بالقوة. مع أن الجهاد بالقتال في سبيل الله كما هو واضح وصريح في كتاب

الله المجيد، وسنة رسوله صلوات الله عليه، والفتوحات الإسلامية التي تمت في عهود الخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان، له غايتان رئيستان: الغاية الأولى: الدفاع، وهذا حق تتفق على شرعيته جميع الأمم والمذاهب والأديان، فلا مجال للمناقشة فيه. الغاية الثانية: القتال لتأمين الدعوة وللقيام بواجب تبليغ الحق الرباني إلى الناس كافة، وإقامة العدل في الأرض، والقتال للقيام بواجب التبليغ من الأمور التي اتفقت عليها الشرائع الربانية الثلاث، المنزلة على موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، قال الله تعالى في سورة (التوبة/9 مصحف/113 نزول) : { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . وطالب موسى عليه السلام بني إسرائيل أن يدخلوا الأرض المقدسة فاتحين، بعد أن أنجاهم الله من فرعون وجنوده، وأغرق عدوه، فأجابوه بقولهم: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، وقص الله علينا قصتهم في ذلك، فقال تعال في سورة (المائدة/5 مصحف/112 نزول) : {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ * يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَالُواْ يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} .

ففي هذا النص بيان واضح أنهم كانوا مطالبين بالقتال لتحقيق الغاية الثانية وهي القيام بواجب تبليغ الحق الرباني، وفتح الأرض المقدسة وإزالة حكم الكفر، وإقامة حكم شريعة الرب. وهذا هو الحكم في الإسلام إلا أنه أصبح مسايراً للدعوة العالمية التي جاء بها الإسلام، والتي ليست مهمتها قاصرة على حدود قومية أو حدود قومية. فقد تدعو الضرورة إلى هذا النوع من القتال، وذلك حينما يكون شعب أو طائفة من الناس مغلوبين على أمرهم، محكومين بسلطة قاهرة، تحجب عنهم كل حقيقة، وتحرمه من ممارسة حق حريتهم فيما يعتقدون وفيما يعملون، ولا تسمح للدعاة المسلمين أن يدخلوا إليهم ويبصرهم بالحق الذي يحملونه، وأوجب الله عليهم تبليغه إلى الناس. ولما كانت طبائع الحكم مهما كان نوعه تقاوم كل فكرة من شأنها أن تؤثر على نظامه، فإن ضرورة التبليغ دعت الإسلام إلى اللجوء إلى قتال الحكومات التي لا تسمح لسلطان التبليغ الحر أن ينتشر بين رعاياها المغلوبة على أمرها. وهذا هو معنى وقوف الجيوش الإسلامية على أبواب الممالك التي فتحتها عارضة عليها واحداً من ثلاثة أمور: 1- فإما أن تدخل هذه الحكومات في الإسلام، وعندئذ تنتهي المشكلة، إذ تصبح الدعوة الإسلامية حرة الانتشار. 2- وإما أن يعطوا الجزية للمسلمين، وهي مرتبة دون الأولى، وهي تتضمن إعطاء الحرية التامة للدعوة الإسلامية الربانية أن تنتشر بين صفوف الشعب المكلف بدفع الجزية. 3- وإما أن تناجز السلطة الحاكمة المسلمين القتال، وهو أمر ألجأت إليه الضرورة، والغرض منه تحقيق حرية انتشار الدعوة، وإقامة العدل عن طريق حكومة إسلامية رشيدة. أمَّا الإكراه في الدين فلا مجال له بحال من الأحوال، لأن أول أسس الدين عقيدة في القلوب، ومحال أن تكره القلوب إكراهاً مادياً على أن تعتقد

الخطة الثانية: خطة تفريغ الجهاد في سبيل

عقيدة ما، وإعلان القرآن عن هذا فيه من الروعة ما يسكت كل لسان. ولا مجال بعد هذا البيان للاعتذار عن ركن الجهاد بالقتال في سبيل الله، والقص من أطرافه، وحصره في قتال الدفاع، فقضيته قضية حق رباني، وغايته من أشرف الغايات وأنبلها، ولولا أن ألجأت إليه الضرورة في المجتمع الإنساني الظالم الآثم، الذي يتحكم فيه الطغاة البغاة الجبابرة أصحاب الأهواء، الذين يجعلون أنفسهم أرباباً من دون الله، لما كان له وجود في شرائع الله، لأن أساسها قائم على القاعدة التالية: "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" ومن وراء ذلك الجزاء بالثواب أو بالعقاب يوم الدين. هذا.... ونجد الأمم التي تنتقد ركن الجهاد في سبيل الله وتحاول أن تنسخه من عقائد المسلمين، تسلط قوى الإفناء عندها على الشعوب الإسلامية المستضعفة لديها، بحقد بالغ، وقسوة شنيعة، وظلم لا حد له، بغية فرض مبادئها الباطلة عليها، أو فرض سلطانها أو مصالحها المادية. وكم عانت وتعاني الأقليات من ذلك في روسيا، وفي يوغسلافيا، وفي الفلبين وفي الحبشة، وفي غيرها من دول العالم. * * * الخطة الثانية: خطَّة تفريغ الجهاد في سبيل الله بالقتال من مضامينه، باصطناع البدائل. فمما لجأ إليه الأعداء في محاربة ركن الجهاد في سبيل الله بالقتال تفريغه من مضامينه، ومن معانيه السامية، ومن أسسه وبواعثه التي تمدّ المسلمين بطاقة كبرى من الإقدام والصمود والصبر والمصابرة، وذلك بصرف المسلمين عن الغاية التي يقاتلون في سبيلها،إلى غايات مختلفة أخرى، بعيدة كلّ البعد عن معاني الإسلام السامية، ليس في مضمونها ما يدفع المسلم حقَّاً إلى التضحية والفداء، والشجاعة والثبات عند قتال الأعداء، ومن هذه الغايات المحدثة التي أحلّوها محلّ الغاية الإسلامية عبارات الوطنية، والقومية، المضيقة أو الموسعة، وعبارات شعارات أخرى خُلَّبَّية زائفات، كعبارات البسالة، والشجاعة

الخطة الثالثة: اتخاذ حيلة الربط الدوري بين ركن الجهاد في سبيل الله بالقتال وبين إقامة الحكم الإسلامي.

والحمية، والأخلاق الثورية، وأشباه هذه العبارات الجوفاء المنتفخة، وكل ما يرمي إلى غايات جاهلية ضعيفة الأثر، لا تستطيع أن تقف على أقدامها، أمام غايات ثابتة ذات قوة. لقد رأينا لليهود على ما هم عليه من انحلال وانقسام في الأرض قضية في هذا العصر، لها غاية محدّدة واضحة، تدعمها قوى معنوية ذات جذور تاريخية دينية، وتطبيقاتٍ حرفية طبق شريعتهم المحرفة. ورأينا للشيوعيين غايات محدَّدة، أخذت صيغة عقيدة يستميتون في سبيلها، ورأينا للصليبيين غايات محدَّدة، مدفوعة بدوافع دينية ذات جذور تاريخية. أمَّا العرب المسلمون وسائر المسلمين فقد أريد لهم أن تكون قضيتهم مشتتة مضطربة مائعة، تحمل شعارات محدثة، ليس لها أصالة في نفوس الشعوب المسلمة، ولا تدعمها قوى معنوية من دينهم وعقيدتهم وتاريخهم، ومن أجل نُكبوا بما نُكبوا به من قِبَل أعدائهم، فهل إلى رجعة من سبيل، نعود فيها إلى مبادئنا ومفاهيمنا وعقيدتنا الإسلامية الصافية النقية من الشوائب، والخالية من التحريف. الخطة الثالثة: اتخاذ حيلة الربط الدوري بين ركن الجهاد في سبيل الله بالقتال وبين إقامة الحكم الإسلامي. وهنا نلاحظ أن أعداء الإسلام اتخذوا حيلة مغلَّفة ماكرة، ينخدع بها بعض الغيورون على الإسلام ومجد المسلمين، وتفضي إلى إلغاء الجهاد في سبيل الله بالقتال بطريقة عملية، إنها حيلة الربط الدوري بين الجهاد في سبيل الله بالقتال وبين إقامة الحكم الإسلامي. والنتيجة التي تحصل من هذا الربط: أن لا يباشر المسلمون القتال للخلاص حتى يقيموا الحكم الإسلامي، وبما أن الحكم الإسلامي لا يستطيع أن يقوم في الأحوال الراهنة، إلا عن طريق الجهاد في سبيل الله بالقتال، بعد استكمال العُدَّة اللازمة له، وفق سنن الله التكوينية، فإنه لن يقوم حكم إسلامي ولا جهاد بالقتال.

الخطة الرابعة: اصطناع الفرق العميلة الأجيرة،

لأنَّ كلاًّ من الركنين قد ارتبط بالآخر ارتباطاً دوريَّاً، فتساقط بذلك طرفا الدور، فلا يقوم الحكم الإسلامي المطلوب، ولا يباشر المسلمون الجهاد في سبيل الله بالقتال. وقد قامت نظريات جديدة تبنَّاها بعض المسلمين تنادي بأن الجهاد بالقتال حقٌّ، وركن من أركان العمل الإسلامي، لنشر الإسلام وصيانته، ولكن لا يصحّ مباشرته قبل توافر شروطه الأساسية. والأمر عند هذا الحد سليم لا غبار عليه، ولكن عند الحديث عن الشروط يعملون على انتحال شروط بعيدة المنال، في ظروف المسلمين الحالية. ثم يعملون بكل وسيلة على جعل هذه الشروط مستحيلة الوقوع، أو كالمستحيلة. كما يعمل أعداء الإسلام على ربط هذه الفئات التي تنادي بهذه النظريات الجديدة بهم ربطاً محكماً، يجعل كلَّ أنواع النشاط التي تقوم به تحت اسم الإسلام كمن يحرث في البحر، تمتصّ بالجهد طاقاته، ولا تؤثر في الماء محاريثه، ثمَّ ينتهي الأمر إلى تعطيل ركن الجهاد في سبيل الله بالقتال تعطيلاً نهائيَّاً، وإبقائه كمادّة معطّلة عن التطبيق في دستور نظري. على أنَّ من الواجب أن نبيّن أنه لا يصح مباشرة القتال قبل توافر شروطه، من تحديد الغاية الأساسية، وإعداد العدّة المطلوبة للمواجهة، والقيام بواجب الجهاد بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة أولاً، وانتظار الفرصة الملائمة. ولكن على المسلمين جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها أن يخطّطوا ويساهموا في الإعداد التامّ، لردّ صور العدوان التي يبيتها ضدّهم أعداء الإسلام، ليوقعوا في شركهم كلّ بلد من بلدان العالم الإسلامي، وعلى المسلمين جميعاً أن لا يتوانوا في هذا لحظة واحدة. * * * الخطة الرابعة: اصطناع الفرق العميلة الأجيرة، التي تعمل على إلغاء الجهاد في سبيل الله، بحيل شتى، ومنها ما ينقض الإسلام كلَّه. لقد جرب الغزاة أن ينشروا بين المسلمين عقائد جديدة تفسّر نصوص

الإسلام بحسب أهوائهم، وتنادي بالأخوة الإنسانية، دون تفريق بين الأديان القائمة، وتفسّر بأنه واحد من هذه الأديان المنتشرة في الأرض، يدعو إلى المحبة، وإلى التآخي العامّ بين البشر، مهما كانت مذاهبهم واتجاهاتهم وأعمالهم ومعتقداتهم، ولا يفرض نفسه على الناس فرضاً، وما هو بدين قتالٍ وسفك دماء. وأمَّا القتال الذي حصل في صدر الإسلام فقد كان عملية مرحلية فقط، وقد انتهى دورها بانتشار الإسلام في العالم، وأضافوا إلى هذا التغيير في مفهوم الإسلام أخلاطاً اعتقادية أخرى تنسف الإسلام من أساسه. واستأجروا للقيام بتنفيذ هذا المخطط أجراء ضمن صفوف المسلمين، بألوان شتى، وصور مختلفة، وظهر بعض هؤلاء بأثواب قادة سياسيين، وظهر بعضهم بأثواب مصلحين دينيين، وابتدع بعضهم ديناً جديداً دعا إليه وجمع فريقاً من المرتزقة عليه، فظهرت البهائية في إيران، وظهرت القاديانية في الهند، وكلٌّ منهما قد ضمَّن أخلاطه الاعتقادية الملفقة إلغاء ركن الجهاد في سبيل الله بالقتال، ودعا إلى التعايش بمحبَّة وإخاءٍ وتعاون مع السلطات الكافرة، التي تمتص خيرات البلاد، وتنشر مبادئها باعتبارها أمَّة غالبة مستعمرة. وفيما يلي تعريف موجز بالبهائية، وبالقاديانية: البهائية: هي نحلة جديدة ظهرت في جسم الأمة الإسلامية، بتدبير من أعداء الإسلام، وإمداد منهم لها بالأموال، وبتيسير المصالح، بالدعم والتأييد، فلفقت ديناً جديداً بعقيدته وشريعته، تحت قناع الإصلاح الديني والاجتماعي المزيف، وباسم التآخي العام بين الناس على اختلاف أديانهم وقومياتهم ومذاهبهم. ولهذه النحلة (البهائية) صلة في مفاهيمها بالإباحية من جهة، وبطرح الفوارق الدينية من جهة أخرى، وإلغاء مبدأ الجهاد في سبيل الله من جهة ثالثة، وتعمل على هدم الإسلام وتمزيق وحدة الأمة الإسلامية، وخدمة أغراض وأهداف المستأجرين لها من أعداء الإسلام والمسلمين.

وقد بدأت فكرة هذه الفرقة الضالة في مدينة شيراز من مدن إيران سنة (1260هـ) على يد فارسي اسمه "علي محمد الشيرازي" حين أعلن أنه باب العلم بالحقيقة الإلهية، وسمى نفسه "الباب". واجتمع حوله أتباع من ضعفاء العقول وأصحاب الشهوات. ولما أعلن مقالته في الناس قامت فتنة دعت الحاكم إلى أن يسجن أتباعه. ثم هاجر من شيراز إلى أصفهان فحماه حاكمها، ولما توفي هذا الحاكم تلقى خلفه أمراً بالقبض على (الباب) وحبسه في قلعة (ماكو) . وفي سنة (1266هـ) أي: بعد ست سنوات من بدء ضلالته قتل رمياً بالرصاص في تبريز، ولم ييأس أعداء الإسلام من متابعة مكرهم في إيجاد خلف له، فاشتروا رجلاً للقيام بالمكيدة اشتهر باسم (البهاء) أو (بهاء الله) وإلى هذا الرجل تنسب طائفة البهائية، ولم يلبث هذا الرجل بعد تسلمه رئاسة الدعوة لهذه النحلة الجديدة حتى اتهم بالاشتراك في مؤامرة لاغتيال ناصر الدين شاه (ملك إيران) انتقاماً للباب، فاعتقل وأبعد، فنزل بغداد، وأقام بها اثنتي عشرة سنة يبشر بضلالته، وضج منه علماء العراق، فقصد (الآستانة) وقاومه علماؤها، ثم كان آخر أمره في (البهجة) وهي قرية من قرى (عكة) بفلسطين، ومات بها سنة (1309هـ) . ودعم أعداء الإسلام من بعده ابنه المعروف (بعباس عبد البهاء) وقد رافق هذا أباه منذ بدء ضلالته، وتنقل معه، وقام هذا بأمر البهائية وتنظيم جماعاتها، ونشط هذا الشيطان الابن في نشر ضلالة هذه الطائفة، وكان متوقد الذكاء، وقد زار أوربا في سنة (1330هـ) وزار أمريكا في سنة (1331هـ) وعاد إلى فلسطين فمات في (حيفا) . وتتلقى هذه الطائفة دعماً ومالاً من أمريكا ومن اليهود ومن غيرهما من أعداء الإسلام. فقد تأكد أن الجاسوسية الروسية هي التي تولت غرسها، وأن اليهودية الصهيونية هي التي احتضنتها، وأن الصليبية ومؤسساتها الاستعمارية والتبشيرية

تدعمها وتشد أزرها، لأن الجميع يلتقون على هدف واحد، هو هدم الإسلام، وتجزئ المسلمين، وتوهين قواهم. تقوم هذه النحلة الضالة على تأليه (البهاء) فبهاء الله عندهم الذي هو الرئيس الثاني لدعوتهم، هو الرب الذي بشرت به الديانات كلها، وهو المشرع الأعلى الذي تنبأت بظهوره البوذية والبرهمية واليهودية والمسيحية والإسلام. وقاموا بدور الأجير المطيع في تنفيذ مخططات أعداء الإسلام، من صليبيين واستعماريين ويهود. إنهم يقررون ويعترفون في كتبهم ونشراتهم بأنهم عملوا على سقوط الحكومة العثمانية في فلسطين، وبأن المستعمرين الإنكليز قد دخلوا الأراضي المقدسة بمساعيهم، ويتباهون بأنهم كانوا قد تنبأوا بقيام الدولة الإسرائيلية ثم يتحدثون عن الصلاة الوثيقة التي تقوم بينهم وبين إسرائيل. وفيما يلي طائفة من الوثائق التي تكشف تآمرهم مع أعداء الإسلام: 1-نشرت مجلة (الأخبار الأمرية) التابعة للمحفل الروحاني الوطني للبهائيين، بالعدد الخامس، الصادر في أيلول لعام (1951م) حديثاً لرئيس القسم العالي للبهائيين مع وزير أمور الأديان الإسرائيلي، يقول فيه: "إن أراضي الدولة الإسرائيلية في نظر البهائيين واليهود والمسلمين أراض مقدسة، وقد كتب حضرة عبد البهاء قبل أكثر من خمسين عاماً أنه في النهاية ستكون فلسطين موطناً لليهود، وهذا الكلام طبع في حينه وانتشر". 2- جاء في كتاب الوقيعات المباركة بالمجلد الثانية "شوقي أفندي" وهو الزعيم الثالث للفرقة البهائية، في الصفحة (290) ما يلي: "لقد تحقق الوعد الإلهي لأبناء الخليل ووارث الكليم، وقد استقرت الدولة الإسرائيلية في الأراضي المقدسة، وأصبحت العلاقات بينها وبين المركز العالمي للجامعة البهائية وطيدة وقد أقرت واعترفت بهذه العقيدة الإلهية". 3- نشرت مجلة (الأخبار الأمرية) بالعدد العاشر في عام (1961م) ما قالته "روحية ماكسول" زوجة "شوقي أفندي" وزعيمة البهائيين حالياً، في مقابلة صحفية لها مع "مزدهيفت" وهو:

"فإن كان من المقرر لنا الاختيار، فمن الجدير أن يكون هذا الدين الجديد في أحدث دولة، وفيها يترعرع، وإن لنا مع إسرائيل روابط ووحدة مصير، وفي الواقع يجب أن أقول: إن مستقبلنا ومستقبل إسرائيل يرتبطان ببعضهما كحلقتين في سلسلة واحدة". 4- إن مركز تشكيلات البهائيين الرئيسي ويسمى "بيت العدل" يوجد حالياً في مدينة حيفا بفلسطين المحتلة، وتشرف عليه هيئة مكونة من تسعة أشخاص، بينهم أمريكون وأوربيون، والرئاسة الروحية فيه لتلك المرأة الأمريكية الأصل "روحية ماكسول". وكل المحافل الأخرى التي تقام في العالم تعتبر فرعاً للمركز الرئيسي في إسرائيل. 5- أعلن في النشرة الرسمية للبهائيين في إيران أيام رئاسة "ابن غوريون" للوزارة الإسرائيلية ما يلي: "مع كمال الفخر نبلغ البهائيين باتساع الروابط بين البهائيين والمسؤولين في دولة إسرائيل". وفي تلك الأثناء قام وفد من البهائيين بمقابلة "ابن غوريون" وقدم له تمنيات البهائيين القلبية لتقدم وتطور إسرائيل. 6- في السابع من شهر نيسان لعام (1964م) قام الرئيس السابق لإسرائيل "زالمان شازار" بزيارة رسمية لمركز البهائيين، واستقبله هؤلاء استقبالاً حاراً، ظهر فيه مدى التعاطف والتعاون بينهم وبين اليهود. 7- ثبت لدى مكتب المقاطعة العربية لإسرائيل أن البهائية تتعامل مع الصهيونية وتتآزر معها، لذلك أصدر في شهر صفر عام (1395هـ) الموافق لآذار عام (1975م) قراراً باعتبار (البهائية) من الحركات الهدامة، وبوضعها في القائمة السوداء، ومقاطعتها، وحظر أي نشاط لها في البلاد العربية، لثبوت تعاملها مع العدو الإسرائيلي، وافتضاح اتصالاتها المشبوهة بالصهيونية وأجهزتها السرية والعلنية. * * *

القاديانية: هي نحلة جديدة، عملت بما تستطيع من خدمة مأجورة من قبل المستعمرين الإنكليز، لهدم العقائد والشرائع الإسلامية، التي يخدم هدمها مصالح المستعمرين في بلاد المسلمين، وكان لتأسيس هذه النحلة تحت ستار ديني هدفان رئيسان: الهدف الأول: تفريق وحدة المسلمين، وتوهين قوتهم، وهدم مبادئهم وعقائدهم. الهدف الثاني: تمكين الدولة البريطانية من بسط نفوذها على البلاد الإسلامية التي اغتصبتها، لا سيما الهند التي نشأت هذه الطائفة فيها. وقصة هذه الطائفة تتلخص بما يلي: اجتمع قواد الاستعمار البريطاني وزعماؤه في مدينة (لندن) ووضعوا خطة لهدم أركان العقيدة والشريعة الإسلامية، ولتمزيق وحدة المسلمين، وتوهين قوتهم، فكان من مظاهر هذه الخطة إنشاء فرق باطلة في صفوف المسلمين تدعمها الحكومات البريطانية. وتغذيها بالرشوات والمساعدات المالية، تحميها من غضبة المسلمين، وتمدها بالمعونات المادية بقدر ما تسمح به الظروف، على أن تحمل هذه الفرق في الظاهر اسم الإسلام، وتعمل في الحقيقة على هدم أصوله وقواعده، وتقطيع أوصاله، وإبعاد المسلمين عن جوهره، وتخدم في كل مناسبة مصالح الاستعمار البريطاني بكل ما لديها من قوة. فأرسلت بريطانيا من أجل هذه الغاية بعثات خاصة إلى البلاد المستعمرة من قبلها، للبحث عن الظروف الملائمة، والتفتيش عن المنحرفين الطامعين، ممن لديهم استعداد للقيام بهذه المهمة الخبيثة، فعثرت في الهند على رجل منحرف نفسياً وفكرياً طامع بالمال، طامح إلى زعامة دينية مزورة، ضمن أسرة عميلة للاستعمار الإنكليزي، فاشترته وأطمعته، ووجهته للقيام بزعامة فرقة باسم الإسلام، تشق عصا المسلمين، وتهدم أركان الإسلام ومبادئه فقام هذا الرجل بمهمته الخائنة لدينه وأمته وبلاده.

إنه (ميرزا غلام أحمد) القادياني المولود في قرية (قاديان) إحدى قرى البنجاب في سنة (1839م) في أسرة عميلة للاستعمار الإنكليزي، فقد كان أبوه واحداً من الذين خانوا المسلمين، وتآمروا عليهم، وساعدوا الكفار الغاصبين، سعياً وراء المال الحرام، والجاه الخائن. وسعى (ميرزا غلام أحمد) يدعو إلى ضلالته، ويخدم الإنكليز خدمة العبد المطيع، ويتلقى المكافآت الكثيرة منهم على ما يقدمه إليهم من خدمات. ففي سنة (1882م) ادّعى أن الله ألهمه مهمة خاصة، ثم ادّعى بعد مُدَّة أن جبريل قد نزل عليه بوحي من السماء، ثم ادَّعى بعد حين أن الله تعالى لقبه برسول وسماه "محمداً" وفي عام "1901م" أعلن بصراحة أنه نبي مرسل من الله. وفرض الاستعمار الإنكليزي هذا الرجل وأمده وحماه، وقدم له كل التسهيلات للقيام بمهمته، وخصص له جنوداً من قبله لحراسته، حتى لا تنزل به نقمة المسلمين في الهند، وأتاح لأتباعه المستأجرين أيضاً لنشر نحلته فرصاً كبيرة لإقامة مراكزهم التبليغية في أنحاء العالم، لا سيما البلاد الخاضعة للاستعمار الإنكليزي، وصار الإنكليز يحثون من لهم عليهم يد من الأسر الإسلامية البارزة أن يعتنقوا القاديانية، فمن اعتنقها منهم منحوه ما يسره من لقب ووسام. وظل القاديانيون يرتعون في كنف الاستعمار البريطاني، ويصيبون من خيرات البلاد ما لا يصيبه غيرهم، ليقوموا بهدم الإسلام وتمزيق وحدة المسلمين من ضمن صفوفهم، وليقوموا بخدمة المصالح الاستعمارية وفق ما يملي عليهم سادتهم. وألف (ميرزا غلام أحمد) كتباً ورسائل ونشرات كثيرة، ضمنها الحث الصريح على طاعة الدولة البريطانية، وعدم الخروج عليها، ومما أفتى به أنه لا يجوز للمسلم أن يرفع السلاح في وجه الإنكليز لأن الجهاد قد رفع، ولأن الإنكليز هم خلفاء الله في الأرض فلا يجوز الخروج عليهم. ومما جاء في رسائله: "لقد قضيت معظم عمري في تأييد الحكومة

الإنكليزية ونصرتها، وقد ألفت في منع الجهاد ووجوب طاعة أولي الأمر الإنكليزي، ما لو جمع بعضه إلى بعض لملأ خمسين خزانة". (وما جاء في أقواله: "إن الحكومة البريطانية أقرّت بأن أسرتي في مقدمة الأسر التي عرفت في الهند بالنصح والإخلاص للإنجليز، ودلت الوثائق التاريخية على أن والدي وأسرتي كانوا من كبار المخلصين لهذه الحكومة من أول عهدها". وقوله أيضاً: " وقد قدّم والدي فرقة من خمسين فارساً لمساعدة الحكومة الإنجليزية في ثورة (1857م) وتلقى على ذلك رسائل شكر وتقدير من رجال الحكومة". ثم انقسمت الهند، وقامت الدولة المسلمة (باكستان) في عام (1947) محاطة بالمشكلات الصعبة التي وضعها فيها الاستعمار الإنكليزي، وبخطة مدبرة انتقل مركز القاديانيين من (قاديان) في الهند إلى باكستان، ليتابعوا مكيدتهم في الدولة المسلمة الناشئة، وفرض على هذه الدولة الحديثة تولية الزعيم القادياني المشهور السير (ظفر الله خان) وزيراً للخارجية، واحتج المسلمون على هذا الإجراء، وأجابهم رئيس وزراء باكستان يومئذ (الخواجا ناظم الدين) بأنه لا يستطيع التخلي عنه، لأن ذلك يحرم باكستان من المساعدات الأجنبية، لا سيما المواد الغذائية التي كانت باكستان بأمس الحاجة إليها، فدل ذلك على متابعة دعم القاديانيين من الدول المعادية للإسلام، لاستكمال تنفيذ مخططات المكيدة، وظلت الحكومات في باكستان تواجه الضغوط الخارجية لمنح القاديانيين ما يطلبون من تسهيلات وامتيازات. وانتهز القاديانيون هذه الفرصة المواتية فوضعوا عدة مشاريع طبقوها بنجاح ملحوظ، فعمقوا جذورهم في باكستان، وانطلقوا من ذلك ينشرون دعايتهم في العالم بدعم مستمر من سادتهم، المستفيدين من أعمالهم في باكستان ما يلي:

1- إنشاء مدينة لهم باسم (ربوة) وهذه المدينة خاصة بهم، لهم فيها نظام بوليسي خاص، ومحاكم خاصة ومدارس وكليات ومستشفيات خاصة، ولا يستطيع أحد من المسلمين أن يشتري فيها أرضاً، أو يستأجر فيها داراً، وكل الوظائف فيها لا يشغلها إلا القاديانيون، أقاموا فيها سكرتارية فخمة مجهزة بأحدث الآلات، ومنها ينشرون التضليل القادياني. 2- شحن المناصب الهامة في الجيش وفي الإدارة المدنية وفي السفارات الباكستانية بالقاديانيين. وكان ذلك بتأثير السير (ظفر الله خان) . 3- إنشاء المدارس والكليات والمستشفيات على مستوى عالٍ، واستدراج المسلمين عن طريقها إلى القاديانية، على مثل ما تقوم به البعثات التبشيرية المسيحية. 4- تقديم المنح الدراسية والمساعدات المالية المشروطة باعتناق القاديانية. 5- استغلال الوظائف والمناصب الحكومة استغلالاً غير مشروع، وذلك بربط التعيين والترقيات بأن يعتنق طالب ذلك نحلتهم. 6- عمل القاديانيون المتغلغلون في أجهزة الحكم على منح المنتسبين إلى نحلتهم مساعدات غير عادية، ليتقدموا تقدماً كبيراً في مجالات الصناعة والتجارة والزراعة. 7- وقاموا بنشاط كبير في مجال طبع الكتب والنشرات القاديانية، التي تثير الشبهات حول العقائد الإسلامية، وتضلل أبناء المسلمين، وتحاول إبعادهم عن الإسلام الحق. وقام المسلمون في باكستان بمظاهرات واحتجاجات ضد تصرفات القاديانيين في مناسبات متعددة، ولم يستطيعوا أن يعزلوهم عزلاً تاماً عن جسم الأمة الإسلامية حتى عام (1974م) إذ استطاع المسلمون أن يوجهوا ضغوطاً متعددة اضطر على أثرها البرلمان المركزي الباكستاني أن يصدر في

الخطة الخامسة: خطة استغلال المنظمات الدولية المندسة في الشعوب المسلمة،

السابع من شهر أيلول لعام (1974م) قراراً إجماعياً يقضي باعتبار جميع الفئات القاديانية أقلية غير إسلامية. الخطة الخامسة: خطَّة استغلال المنظمات الدولية المندسة في الشعوب المسلمة، لبثّ الأفكار الرامية إلى هدم الإسلام عن طريقها، ومن ذلك الاهتمام الشديد بإلغاء ركن الجهاد في سبيل الله بالقتال. ويبرز أمامنا لدى ملاحظة هذه الخطة دور الجمعيات السرّية المعادية للإسلام، كالماسونية، والروتاري، والليونز، فقد كان وما يزال لهذه المنظمات دور كبير في محاربة الإسلام، عن طريق دعوات الأخوة الإنسانية، ودور كبير في إلغاء ركن الجهاد في سبيل الله. وبما أن "الماسونية" هي الأمّ للروتاري، والليونز، فمن المستحسن تقديم صورة موجزة جداً عن الماسوني، والروتاري، والليونز. الماسونية: 1- منظمة عالمية، محاطة أهدافها الحقيقية بسريّة عظيمة، وهي من أخطر الجمعيّات، وأثَّرت تأثيراً مباشراً على مصائر كثير منها، وتحكَّمت في سياسة معظم دول العالم، ومن أهدافها الرئيسة العمل على إلغاء الجهاد الإسلامي داخل شعوب الأمة الإسلامية، وهدم وإلغاء الأديان كلّها باستثناء اليهوديّة. 2- وحظَّ اليهودية العالمية من أعمال هذه المنظمة هو الحظ الأوفر، ونصيبها هو نصيب الأسد من الفريسة مع صغار الوحوش. 3- وقد أكَّدت البحوث المستفيضة لكثير من الباحثين أن هذه المنظمة تهيمن عليها قيادة يهودية سريّة، وتدير محالفها عناصر يهودية قادرة على إخفاء

هويّتها. وتُوجَّه الأوامر المهمّة فيها بطريقة شفوية، حتى يبقى أصحاب الأمر الحقيقيون فيها مستورين عن الأنظار، ولئلا تنكشف للعميان المنتمين إلى المحافل الماسونية خطّة المكر اليهودية، التي توجّه السياسات العالمية، والأفكار، والمذاهب الاجتماعية والاقتصادية، وسائر مجالات الحياة، كما تستغلّ كل نشاط لتحقيق المخطّطات اليهودية، الرامية إلى تدمير الأمم غير اليهودية، وتدمير أديانها وأخلاقها وأنظمتها، وإيصال اليهود إلى قمة الإدارة العالمية المسيطرة بشكل مباشر على كلّ شيء في العالم. 4- واسم هذه المنظمة المشتهر بالماسونية ترجمته الحرفية: "البنَّاؤون الأحرار" فهي إذن: "جمعية البنَّائين الأحرار". وتستطيع محافل الماسونية أن تغير أسماءها، كلَّما أحست بالخطر، فحين أغلق "هتلر" جميع محافلها في ألمانيا، لأنَّه اكتشف صلتها بالمكر اليهودي، وأنَّ القيادة اليهودية السرّية العالمية هي التي تديرها بطرائق خفيّة، عادت متستّرة باسم "نوادي الفرسان الألمان". 5- وللماسونية وجهُ بَاسِمٌ خدّاع، ينادي بالإخاء الإنساني، وبالتعاون بين الإخوة المنتظمين في محافلها، وشعارها المعلن: "الحرية والإخاء والمساواة". ولها وجه باطن خفي، يدبّر الخطط، ويحيك الدسائس، ويرتّب المؤامرات، ليوصل اليهود إلى مراكز التحكّم بمصائر كلّ الأمم، وكلّ الدول، وليُتِم تَنْفيذَ المخطّطات اليهودية الرامية إلى تدمير الشعوب وحكم العالم. وقد عرَّف المستشرق الهولندي "دوزى الماسونية بتعريف موجز قال فيه: "جمهور كبير من مذاهب مختلفة يعملون لغاية واحدة: هي إعادة الهيكل، إذ هو رمز دولة إسرائيل". 6- ويتعرَّف أعضاء هذه المنظمة بعضهم على بعض عن طريق الرموز اللفظية، والرموز الحركية الجسمية، ومنها الضغط على الأصابع عند المصافحة بطرق خاصة.

7- ولهذه المنظمة مراتب ثلاث كبرى: المرتبة الأولى: الماسونية العامة، وتسمى "الماسونية الرمزية" وهي مرتبة تضم المبتدئين الذين يجهلون الأهداف الحقيقية الغائية لها، ويعرفون عند أهل المرتبتين الثانية والثالثة بالعميان. المرتبة الثانية: الماسونية الملوكية، وتسمّى "العقد الملوكي" وهي مرتبة يعرف الواصلون إليها بعض أهدافها البعيدة، إلاَّ أنهم قد أعمتهم مصالحهم التي تتحقق عن طريقها، وأماتت فيهم ضمائرهم. المرتبة الثالثة: الماسونية الكونية، وهي تضم حكماء إسرائيل، وورثة السرّ، وهم الذين يتصرفون سرّاً بالمحافل الماسونية المنتشرة في العالم، ويوجهونها لتحقيق أهداف اليهود الخفية. 8- ولهذه المنظمة درجات كشف الباحثون المتتبعون رموزها، وهي "ثلاث وثلاثون" درجة، يبتدئ المنتسب إليها بالدرجة الأولى، ثمَّ يُرَقَّى فيها درجة فدرجة، بحسب نشاطه وإخلاصه في خدمة المنظمة، ولا يُرَقَّى إلى الدرجة الأعلى حتى يستوفي شروط الدرجة التي هو فيها استيفاءً كاملاً، بحسب نظر القيادة اليهودية السرية. وكلَّما انسلخ من دينه وقومه ووطنه وكلِّ مبادئه وقيمه، وخدم أهداف اليهود، اقترب من احترام وتقديس العقيدة اليهودية كان جديراً بأن يُرقَّى في الدرجات، وإلاّ بقي عند حدود الدرجات الدنيا. والمرشح للدرجة الثالثة والثلاثين عليه أن يقسم على التوراة، ويشتم عيسى ومحمداً عليهما الصلاة والسلام، ويكذّب بالإنجيل والقرآن، وينكر المسيحية والإسلام، ويعلن إيمانه بموسى وهارون فقط.

الخطة السادسة: خطة التوريط والإحباط، لإقناع جماهير المسلمين بالعجز

الروتاري: إحدى بنات الماسونية منظمةٌ أطلق عليها اسم "الروتاري"، وأهم أهدافهم محاربة الدين، والتجرد من المصالح القومية والوطنية، ونبذ القيم، والعمل تحت شعار الفكرة الإنسانية العامة، ولكنَّ أعمالها تسير في قنوات تصب في أحواض المصالح اليهودية، ومخططاتها الكبرى، مع خدمة مصالح الدول الكبرى، الاستعمارية وغيرها، إذا كان ذلك لا يتعارض مع الأهداف اليهودية العالمية. الليونز = الأسود: أسست نوادي باسم نوادي "الليونز" أي الأسود، وهي من بنات الماسونية أيضاً. وشعار هذه النوادي العمل لإقامة السلم العالمي، والتحرر من القيم الدينية والأخلاقية. وجلُّ أعضاء هذه النوادي من الملوك، والرؤساء، والوزراء، وذوي المال الوفير والجاه العريض في بيئاتهم. وأعضاؤها يتحركون على شبه تحرك أعضاء الماسونية، ليحققوا أخيراً الأهداف التي تنشدها الماسونية. الخطة السادسة: خطة التوريط والإحباط، لإقناع جماهير المسلمين بالعجز عن عودة الجهاد إلى سابق مجده. فمن مكايده أعداء الإسلام لنسخ فكرة الجهاد في سبيل الله بالقتال، من أذهان المسلمين وقلوبهم، ولو بصورة مؤقتة، خطة التوريط دون استكمال العدّة

الكافية، وإتباعه بالإحباط المؤلم المقرون بخيبة الرجاء، والاقتناع بعدم جدوى هذا الأسلوب نهائيَّاً. ولتنفيذ هذه الخطّة ربما دسّ دهاة المكر بين صفوف المسلمين الغيورين المتحمسين لإسلامهم، من ينفخ في نار حماستهم، ليؤجّجَها، متظاهراً بالغيرة الشديدة على الإسلام والمسلمين، وهو منافق كذَّاب. وغرضه أن يثير غضبهم، ويزيّن لهم ضرورة التحرّك السريع للقتال في سبيل الله، من أجل رفع طغيان قائم، وبغي جاثم، أو لإقامة حكم الإسلام في الأرض، ويزعم لهم أنَّ أمر القتال قد صار واجباً شرعياً، وأمراً حتمياً، ولو لم يكن لدى الثلّة المؤمنة إلاَّ القوة القليلة التي لا تكفر في ميزان القوى السببيّة للتغلّب على خمسة في المئة من قوى البغي أو الكفر التي يريدون قتالها لإسقاطها. وقد يفتعل الأعداء أو أجراؤهم مثيرات غضب المسلمين من أجل دينهم، ليستدرجوهم إلى تحرّكات طائشة رعناء، ثم ليوقعوهم في فخ كانوا قد نصبوه لهم. وقد يندفع المتحمسون للإسلام برعونة وقصر نظر، وغفلة عما يُرادُ لهم، وهم يجهلون فقه الجهاد في سبيل الله بالقتال، وتنتهي الاندفاعة الرعناء بالخيبة والهزيمة، وتنبري القوى المعادية للإسلام فتنزل بالمسلمين ما كانت قد دبّرت لهم من قمع وتنكيل واضطهاد. وبذلك يظفر أعداء الإسلام، والسائرون في ركابهم، أو الدائرون في أفلاكهم، بما كانوا يهدفون إليه من هذه الخطة. وتشيع في جماهير المسلمين فكرة اليأس من الخلاص، واليأس من جدوى القتال والإعداد اللازم له. وهذا هو ما يريد الأعداء الوصول إليه. الخطّة السابعة: خطّة تقديم صُوَرٍ مصطنعة من جهاد قتالي أو إرهابيّ يحمل شعارَ جهادٍ إسلاميّ، وهو ليس منه منهجاً ولا غاية، للتنفير من الجهاد

في سبيل الله بالقتال، كصُوَرِ الأعمال الإرهابية والثورات الفوضويّة التي تقتل الأبرياء، وتغتال وتدمّر، دون مواجهات قتالية. إنّ تاريخ الجهاد الإسلاميّ بالقتال قد كان مقتصراً على قتال جيوش أعدائهم، في جهاد إسلاميّ مقدّس، قتالاً تُوَاجِه فيه الجيوش الإسلامية جيوش الأعداء، بلا غَدْر ولا خيانة ولا نقضٍ للعهود، ولا تَتَعرَّضُ لغير الجيوش المقاتلة من أفراد شعوبهم الذين لا يشاركون في القتال. ولم يكن المسلمون يعرفون بدعة الإرهاب المعاصرة، الَّتي خطَّط لها اليهودُ والنصارى والملاحدة والوثنيُّون وأُجراؤُهم، ومارسوها في ثوراتهم واضطراباتهم، وتبعهم فيها ثوريّون مختلفون من شعوب الأرض، وهذه البدعة تهدف إلى إثارة القلاقل والاضطرابات في الشعوب، وقتل الأبرياء، وتخريب العمران، ومصادرة الطائرات، وتدمير الأبنية على سُكّانها بالمفتجِّرات، وتدمير المدُنِ، وقتل سكانها في إبادة جماعيّة بأسلحة الدّمار الشامل، ونشر الفساد في الأرض. إنّ هذه الأعمال الّتي أُطْلِق عليها اسم أعمال إرهابيّة، لا يَعْرِفُها المسلمون خلال تاريخهم الجهاديّ الطويل، ولا يُجِيزها الإسلام، ولا يُبِيح للمسلمين أن يمارسوها. وفي خطّة ماكرةٍ مُدَبّرة دفع أعداء الإسلام سرّاً بعض أجرائهم، فدفعوا بعض أبناء المسلمين الذين لا يعرفون أحكام الإسلام ولا يطبّقونها في سلوكهم، للقيام ببعض الأعمال الإرهابيّة الّتي قلدُوا فيها الإرهابيين من غير المسلمين، من اليهود والنصارى والملاحدة والوثنيين، ورفَعُوا مع أعمالهم شعارات جهاد إسلاميّ، مع أنّ هذه الأعمال لا تَمُتُّ للإسلام بصلةٍ، بل يُحَرِّمها الإسلام ولا يأذن بها. واستغلَّ أعداءُ الإسلام هذه الأعمال لتشويه صورة الإسلام والمسلمين، بوسائل الإعلام الكثيرة الّتي يملكونها.

(5) محاولات الغزاة تفريغ الإسلام من أحكام المعاملات وسائر شؤون الحياة

إنّ أعداء الإسلام يصنعون القبائح بأيدي أُجرائهم وبعض الجهلة والأغبياء من المسلمين، ليحاربوا الإسلام والمسلمين بها. * * * (5) محاولات الغزاة تفريغ الإسلام من أحكام المعاملات وسائر شؤون الحياة من الأمور البدهية في الشريعة الإسلامية أنها تتناول بأحكامها وأنظمتها الإلهية أحوال الأفراد والجماعات الإنسانية، على اختلافها في الخصائص الفردية والجماعية فلم يترك الإسلام حالة من أحوال الناس إلا وتناولها بحكم شرعي، يضمن مصالحهم الفردية والجماعية، وهذا الحكم إما منصوص عليه، وإما مدلول عليه بدليل ما من الأدلة الشرعية، ولا يعدو عمل فقهاء المسلمين ومجتهديهم البحث في مصادر التشريع الإسلامي، حتى ينكشف لهم حكم الله فيما يُعرض عليهم من مسائل، وفيما يجدّ للمسلمين من أحوال. وهذه قضية ليست محل جدلٍ عند المسلمين، ولكن أعداء الإسلام يريدون تفريغه من مضامينه، ولا سيما ما يتعلق منها بالأحكام المنظمة لمعاملات الناس وعلاقاتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ونحو ذلك، ويريدون إحلال أنظمتهم الوضعية محلها، ليوجدوا نوعاً من التشابه بين أوضاع المسلمين وبين أوضاعهم الخاصة والعامة، تمهيداّ للقضاء على الإسلام جذوراً وفروعاً، وقد وجدوا بينهم وبين تحقيق هذه الغاية سداً منيعاً، هو استمساك المسلمين بأحكام الشريعة الإسلامية، التي تتناول جميع حياة الناس، ففكروا وقدّروا، ثم عثروا على فكرة شيطانية خبيثة، وهي أن يفصلوا بين أحكام الدين المتعلقة بالعبادات، وأحكامه المتعلقة بالأحوال الشخصية، وأحكامه المتعلقة بالنظم الأخرى.

وأعداء الإسلام يدبّرون كلّ مكيدة للتخلّص من كلّ زعيم يعمل على نصرة الأمة الإسلامية، أو تطبيق الشريعة الإسلامية في بلده. ومع هذا الفصل أخذوا يدسون على المسلمين دسيستهم التي تتضمن تحوير مفهوم عبارة (الدين لله) وذلك بجعلها في معنى أن الأحكام الدينية هي الأحكام التي تتعلق بأمور العبادات، التي هي لله وحده، وأما الأحكام الأخرى التي تتعلق بتنظيم أحوال الناس الشخصية والعامة، المادية والأدبية، السياسية وغير السياسية، في السلم والحرب، فلا علاقة للدين بها، وما هي إلا أمور متروكة للناس ينظمونها كما يشاؤون، وقد سرت فعلاً هذه الفكرة المحورة في صفوف معظم المسلمين البعيدين عن دراسة الشريعة الإسلامية، باستثناء أحكام الأحوال الشخصية من زواج وطلاق ونفقة وأمثال ذلك. وبسريان هذه الفكرة المحورة استطاع أعداء الإسلام أن يكسروا عدة جدُر من السور الإسلامي الكبير، الذي يحمي حصنهم الفكري المنيع. وحملت هذه العبارة معنى لزم منه عدم اهتمام المسلمين بدار الإسلام، وبالحكم الإسلامي، حتى وجدنا جماهير المسلمين تبعاً لقادتهم السياسيين يردّدون بغباءٍ عبارة (الدين لله والوطن للجميع) وذلك في غمرة نشاط الثورات الوطنية لإخراج المستعمرين، والتي كان وقودها من شهداء المسلمين. وانطلقت الجماهير تردد هذه العبارة المحورة في شطرها الأول، والمدسوسة في شطرها الثاني، وكأن أحكام الله في شريعته لا علاقة لها بالأوطان، ولا بتنظيم شؤون الناس الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وعلى إثر هذا التحوير وبضغط من السلطان الأجنبية المعادية استطاعت النظم الوضعية الأوربية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعدلية أن تنفذ إلى معاقل المسلمين؛ وتحتل فيها احتلال المالك الأصلي.

(6) محاولة إلغاء تطبيق أحكام الأحوال الشخصية الإسلامية

فإذا دخلنا محاكم القضاء في معظم البلاد الإسلامية وجدنا روح القوانين الأوربية هي النافذة فيها، وإذا دخلنا في أي مجال اقتصادي وجدنا أسس النظم الاقتصادي الأوربيّة اليهودية هي السائدة والمهيمنة على كل شيء فيها، وإذا راقبنا الأسس القائمة عليها سياسة معظم هذه البلاد الإسلامية وجدناها أسساً أوربية شرقية أو غربية، بعيدة عن الأسس الإسلامية التي كان بها مجد المسلمين وعزهم، وما زال تحقيق مجدهم وعزهم رهناً بتطبيقها. وإن يوم الخلاص من تسلط أعداء الإسلام على المسلمين هو يوم عودة المسلمين إلى تطبيق نظم دينهم الشاملة لنواحي حياتهم كلها دون تجزئة، أو مساومة أو نفاق. (6) محاولة إلغاء تطبيق أحكام الأحوال الشخصية الإسلامية عقب خطة التحوير الذي دسه أعداء الإسلام في عبارة: (الدين لله) واستغلال هذا التحوير لتسلل القوانين الوضعية؛ واحتلالها معظم أجهزة الحكم والإدارة في البلاد الإسلامية، ومعظم مجالات الحياة فيها، وفي مرحلة من مراحل الغزو المباشر على الشريعة الإسلامية، اتجهت السلطات الاستعمارية إلى تغيير أحكام الأحوال الشخصية الإسلامية في بلاد المسلمين، وإحلال قوانين مدنية غير إسلامية محلها، واتخذت لذلك وسائل مختلفة شتى. ومن أمثلة ذلك ما فعلته السلطة الاستعمارية الفرنسية التي كانت تحكم سورية أيام الانتداب، إذ أصدرت قراراً بقانون يتعلق بالأحوال الشخصية، ليطق على الرعايا السوريين جميعاً مسلمين وغير مسلمين، واشتهر هذا القانون في حينه باسم قانون الطوائف. وقد تضمن هذا القانون أحكاماً تناقض أحكام الشريعة الإسلامية، فيما يتعلق بالأحوال الشخصية، إذ يسمح بموجب أحكام هذا القانون لأي رجل من أية طائفة أن يتزوج بأية امرأة، دون أن يستطيع أولياء المرأة الاعتراض على هذا

الزواج بمخالفته أحكام الشريعة الإسلامية، إلى غير ذلك من مواد تقنينية مسايرة للقوانين المطبقة في فرنسا. وضج علماء المسلمين من هذا القانون، وتحركت الجماهير المسلمة بقيادة علمائها ثائرة عليه، مستنكرة له، تطالب بإلغائه فوراً، وتنذر بقيام ثورة، واضطرت السلطات المستعمرة إلى إلغائه قبل أن يوضع موضع التنفيذ، وانطوت صفحة من صفحات كفاح المسلمين. وللتاريخ أذكر أن الذي أثار الحركة وقادها في حينها والدي سماحة الشيخ حسن حبنكة الميداني، وقد أيدته الجماهير المسلمة، وكتب الله له النصر في المعركة وتم إلغاء قانون الطوائف. ولكن الدوائر الاستعمارية عملت ما هو أدهى وأمرّ من فرض أنظمتها وقوانينها بقرارات تصدرها هي، فقد قامت بتربية جيل حديث داخل صفوف المسلمين، متحلل من الإسلام، غير عابئٍ بأحكامه وشرائعه، يعمل على وضع قوانين وأنظمة للبلاد الإسلامية أفحش من قانون الطوائف الذي ثار عليه المسلمون من قبل، ويأتي إلى أسس الدين الإسلامي وأصوله، فيقتلعها من جذورها، ويضطهد علماء المسلمين، الذين كافحوا الاستعمار بالأمس، وقاوموه أشد المقاومة، وأججوا عليه نار الثورات التي نغصت عليه مقامه في البلاد. وهكذا نفذ أعداء الإسلام ما يريدونه في المسلمين، دون أن يباشروا بأيديهم لهيب النار، أو يمسوا جمراتها، واتخذوا لذلك الوسائل الهادئة، والخطوط الطويلة الأمد، التي تحقق أغراضهم بعد حين، بينما تكون ضحاياهم غافلة عما يمكرون، مشغولة في دوامة المظاهر الغوغائية الخادعة، التي لا تلبث أن تجد نفسها في الفخ الذي نصبه العدو، لينطبق على فريسته في اليوم المقدر له. إنه لون عجيب من ألوان الكيد الذي يدبره أعداء الإسلام على اختلاف اتجاهاتهم، وتعدد بلدانهم، وينفذونه في صفوف المسلمين تنفيذاً بارعاً،! لا تنكشف فيه يد المجرم الحقيقي. أما الذين يباشرون الجريمة فما هم في نظر العدو إلا أدوات، إن سلمت فربما سر العدو سلامتها ليتابع استخدامها مرة أخرى، وإن لم تسلم لم يحزن

(7) التلاعب بالأحكام الإسلامية بحيلة المرونة في الشريعة

لهلاكها، ومثلها في نظره كمثل القنبلة الموقوتة، يضعها واضعها لتنفجر في وقت معلوم، فتخرب من أهداف العدو على مقدار طاقتها، وأول حساب العدو بالنسبة إليها هو أن يخسرها ليربح المعركة، ويظفر بغايته. على أن العدو ربما يعمل على الخلاص من هؤلاء الأدوات، متى أصبحوا غير صالحين للاستعمال، أو غدوا عبئاً متاعبه أكبر من منافعه، وبهذه الخطة الماكرة يستغفل أعداء الإسلام ويكيدون القسمين معاً، قسم الأدوات المستأجرين، وقسم الضحايا الغافلين. والمستأجرون من أدوات الخيانة قد لا يكلفون أعداء الإسلام إلا أن يقدموا لهم المطامع والوعود، أو أدنى الأجور النقدية، أو بعض الشهوات المبذولة لكل روادها، وكذلك يفعلون. (7) التلاعب بالأحكام الإسلامية بحيلة المرونة في الشريعة حينما تتناول الشريعة الإسلامية أحكام العبادات تتسم باليسر والسماحة، وحينما تتناول بيان حقوق الناس تتسم بالدقة والحيطة والتحديد، وحينما تتناول بيان الحدود والعقوبات تتسم بالاحتياط في وسائل إثبات موجب العقوبة، بالعنف الرادع في إقامتها. أما حينما تتناول الشريعة الإسلامية بيان النظم التي تكفل للناس الحياة الأفضل فإنها تتسم بالمرونة، وقد راقب أعداء الإسلام جانب النظم فوجدوا أن فريقاً من المسلمين لم يحسنوا الاستفادة من المرونة في الأصول الشرعية التي تتناول هذا الجانب؛ إذ لبثوا جامدين عند الصور التطبيقية التي اقتضتها ظروف العصور الإسلامية الأولى، فأخذوا يهاجمون الإسلام بأن نظمه لا تساير العصور التي تتطور فيها ظروف الحياة الإنسانية الفردية والاجتماعية، وأمام هذا الهجوم قامت فئة من الباحثين المسلمين، وفريق منهم حسن النية، فقذفوا حبل المرونة في الشريعة إلى أقصى اليمين أو إلى أقصى اليسار، وزعموا أن نظم الشريعة

الإسلامية مرتبطة بالمصالح التي يقدرونها، فحيثما وجدت المصلحة التي يقدرونها هم فثم شرع الله، وهذا الاتجاه الخطر يؤدي بالشريعة الإسلامية إلى أن تكون وحي الآراء والأفكار، ومستجيبة لمطالب كل الأهواء والشهوات، ويجعلها قابلة لأن تدخل في إطار نظمها كل نظام من أنظمة العالم، ولو كانت أسسه أو تطبيقاته غير إسلامية، ولا يأذن بها الإسلام، ولو كانت المصالح المتوخاة فيه لا تعتبرها الشريعة الإسلامية من المصالح. وفي كلا التجاهين الجامد المفرط، والمرن المتجاوز حدود المرونة المقبولة شرعاً كان الرابح في المعركة أعداء الإسلام، لأن الجمود على تطبيقات معينة اقتضتها الظروف الاجتماعية السائدة في العصور الأولى، يجعل الأجيال المسلمة المعاصرة تنفر من الإسلام، وتقذف بأنفسها في أحضان النظم العالمية الأخرى، وعندئذ تجد نفسها في أحضان أعداء الإسلام، وهذا ما يبتغيه أعداء الإسلام الذين ركزوا خطة هجومهم عليه. أما الاتجاه الأخير المتجاوز حدود المرونة المقبولة شرعاً فما هو إلا صورة من صور التحلل من ربقة الأحكام الإسلامية، تحت ستار المرونة التي تتمتع بها أصول الشريعة الإسلامية، وذلك لأن المصلحة التي يهدف إليها المقننون من البشر تختلف اختلافاً كبيراً من شخصٍ لآخر، ومن هيئة لأخرى. فبينما ترى فئة من الناس المصلحة في جهة ترى فئة أخرى المصلحة في جهة مضادة لها تماماً، ذلك لأن كل إنسان ينظر إلى المصالح من زاوية وجهة نظر معينة متأثرة بأهوائه وأغراضه، أو أهواء وأغراض الفئة التي ينتمي هو إليها، ومن الصعب عليه جداً أن ينظر نظرة شاملة عامة متجردة، تستوعب مصالح جميع الناس الذين يوضع لهم ذلك النظام. وسلوك هذا السبيل تحوير في مفهوم مرونة الشريعة الإسلامية، وسير بها في طرق النظم الوضعية الإنسانية، التي لا تضع في حسابها الأسس الربانية، التي يجب أن تبنى عليها نظم الناس، ومتى وصل المسلمون إلى السير في هذا الطريق فقد ظفر أعداء الإسلام بما عملوا له، وأخرجوا المسلمين عن دائرة إسلامهم في جانب من جوانب أحكام شريعتهم، وهو جانب النظم، وهي خطة بالغة الكيد للإسلام، والمكر بالمسلمين.

(8) حيلة خلط معنى التمسك المحمود بالحق بمعنى التعصب الجاهلي المذموم

أما المرونة الحقة فليست هي الجمود الذي يخدم العدو الغازي، ولا المروق من نظمه الذي يحقق أغراضه، ولكنها وسط بين بين، فهي التزام بكل الأسس المنصوص عليها، أو التي تدل عليها مصادر التشريع الإسلامي من جهة، وتكيف مع المصالح المعتبرة في الشريعة الإسلامية من جهة أخرى. (8) حيلة خلط معنى التمسك المحمود بالحق بمعنى التعصب الجاهلي المذموم يطلق التعصب على التقليد الأعمى لما كان عليه الأسلاف دون بصر ولا نظر، ودون تفريق بين حق وباطل، مع التشدد في الاستمساك به، والانتصار له، ولو كان باطلاً لا يمت إلى الحق والصلاح بصلة فكرية أو واقعية، وهذا التعصب أمر مذموم، ذم القرآن المتصفين به ذماً شديداً، فقال الله تعالى في شأن المشركين في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} . وقال تعالى في سورة (لقمان:31 مصحف/57 نزول) : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} . هذا هو التعصب المذموم، لأنه لا سند له إلاّ الانتصار لما كان عليه الآباء والأجداد، والمحافظة عليه، والتزامه، ولو كان غير مستند إلى عقل أو هداية، ولو كان ثمرة استجابة لدعوة الشيطان الذي دعوهم إلى شقائهم الأبدي في عذاب السعير. أما الالتزام بما كان عليه الأسلاف من حق يشهد به المنطق الصحيح،

وتقوم عليه دلائل الواقع، فليس هو من التعصب في شيء، وإنما هو استمساك بالحق، وهو فضيلة لا يجافيها الإنسان إلا متجهاً في سبل الرذيلة. وقد تلاعب أعداء الإسلام في هذين المعنيين بين صفوف المسلمين تلاعباً خطيراً، وأوهموا متبعيهم أن الاستمساك بشريعة الله، والأخذ بما ثبت فيها، والمحافظة على ما كان عليه السلف الصالح من عقيدة صالحة وعمل صالح، لون من ألوان التعصب المذموم. أما إحياء التراث الجاهلي، والتعصب له، والأخذ بتقاليد الجاهلية الأولى، والرجعة إليها، فهو فضيلة قومية، ولو كان ذلك شراً، أو أمراً تافهاً من أمور الفن، أو عملاً فاسداً غير صالح. وصاروا بهذا التلاعب التضليلي يحلون بين المسلمين عرى استمساكهم بأحكام دينهم، وأصول شريعتهم، عروة فعروة، فإذا التزم المسلم بفريضة الصلاة فأداها في أوقاتها اتهموه بالتعصب، ووجهوا إليها عبارات الهزء والتندر، أو رشقوه بالهمز واللمز، وإذا تباعد عن شرب الخمر، أو تجافى عن موائد القمار، أو انتصر لمبادئ الإسلام وأحكام شريعة الله، قالوا: هذا متعصب متزمت، وإذا احتشمت المرأة المسلمة في لباسها أرعبوها بغول التعصب، وهكذا في جميع الالتزامات الإسلامية، بغرض تفريغ العقيدة الإسلامية من مضمونها العملي. وكثير من المسلمين تضعف نفوسهم عن مقاومة هذا الاتهام المزور اللاذع، الموجه ضمن عبارات الهزء والسخرية والتندر، فينحل تماسكهم، ويخشون أن يقال: إنهم مسلمون، لأنهم يخشون أن يتهموا بالتعصب، وهي خديعة من أخبث صور الخداع، التي استخدمها أعداء الإسلام في المجتمعات الإسلامية. وقد بلغ الأمر بكثير من المسلمين أنهم صاروا يتهاونون بحقوق أنفسهم، وحقوق إخوانهم، الذين تجمعهم معهم الوحدة الإيمانية،خشية أن يتهموا بالتعصب، وبدأ أعداء الإسلام والمسلمين ينفذون من هذا الباب إلى نهب حقوق المسلمين المشروعة من أموال ووظائف ومراتب ومصالح اقتصادية

أو اجتماعية أو سياسية، والمسلمون يخشون أن يؤيدوا حق إخوانهم في ذلك حذر أن يتهموا بالتعصب. وطارت بين المسلمين نظرية التسامح الإسلامي، بزعم الدفاع عن الإسلام، واستخدمت هذه النظرية في غير مجالها، حتى صار تطبيق التسامح الإسلامي يعني تنازل المسلمين عن حقوقهم الشخصية، وعن حقوق جماعة المسلمين، وهي حقوق لا يجوز بحال من الأحوال التنازل عنها، لأن المسلمين كلهم أو بعضهم لا يملكون مثل هذا الحق، ما دام من شأنه أن يفضي إلى الإضرار بجوهر الإسلام، وسياسته في الأرض، ووحدة جماعته، وسلطان شريعته. وزحف أعداء الإسلام وخصوهم هذه الخديعة الماكرة حتى وصلوا إلى معظم مراكز السلطة الفعالة في طائفة من بلاد المسلمين، وأخذت قلتهم القليلة الكثرة الكاثرة من مراكز القوة والحكم والإدارة والمال، ثم امتدت أيديهم إلى مقاتل المسلمين، وأخذوا يقبضون عليها بشدة متصاعدة، ويحتكرون بتعصب ذميم كل خير يجدونه، ولا يسمحون لغير المنتسبين إلى جماعاتهم بأن يصل إلى أي مركز حقيقي له قوة فعالة في البلاد، ومن عجيب المفارقات أنهم من أكثر الناس تعصباً للباطل الذي توارثوه عن آبائهم وأجدادهم وطوائفهم، ولا يقبلون فيه أية مناقشة منطقية مهما كان شأنها، وأنهم من أكثر الناس تعصباً أعمى للمنتسبين إلى أقوامهم أو طوائفهم، في الوقت الذي يستخدمون فيه سلاح الاتهام بالتعصب ضد المسلمين، الذين ليس عندهم من التعصب مثقال ذرة، وإنما يوجب عليهم الإسلام أن يستمسكوا الحق، وينصروا إخوانهم بالحق. ومما يؤسف له أن كثيراً من المسلمين في غفلة كثيرة عن هذه الخديعة، التي يستخدمها أعداء الإسلام ضد المسلمين، ليصرفوهم عن الاستمساك بالحق الذي أنزله الله، وليحلوا بينهم وبين إخوانهم المؤمنين معاقد الترابط، وليغشّوا على أبصارهم حتى لا يروا الجيوش الزاحفة على حقوقهم وخيراتهم، السارقة لكل قوة لهم، والعاملة على هدم دينهم وكيانهم بين أمم الأرض.

(9) التلاعب بعبارات التقدمية والرجعية والتمدن والتخلف ونحو ذلك

(9) التلاعب بعبارات التقدمية والرجعية والتمدن والتخلف ونحوها وكذلك تلاعب أعداء الإسلام وأجراؤهم بعبارات التقدمية والرجعية، والتمدن والتخلف، والسبق الحضاري والبدائية، والتطور الجمود، ونحو ذلك من عبارات، فيضعونها في غير مواضعها، أخذوا يطلقون على كل فضيلة خلقية، وكمال أدبي، ومعاملة شريفة، واستمساك بالدين وبالعادات الحسنة، عبارات الرجعية والتخلف والبدائية والجمود، لتنفير المسلمين منها، وتضليلهم، وصرفهم عن الحق الذي هم عليه. ويطلقون على الرذائل الخلقية والسلوكية، وعلى التحلل من كل كمال أدبي، وعادة حسنة، وعمل ديني، عبارات التقدمية، والتمدن، ومقتضيات الحضارة، ومقتضيات التطور، ونحو ذلك من عبارات، لتبرير هذه القبائح، والتشجيع عليها، وتحبيب الأجيال الناشئة بها، التي تستهويها مغربات التجديد، وتستدرجها بوارق الطموح، ويحلو لها أن تثبت شخصياتها بالتحرر من القيود، وأن ترضي نفوسها بالانطلاق فيما تشتهي دون حدود. وبهذه الحيلة الخطيرة استطاع أعداء الإسلام والمسلمين، أن يجندوا من أبناء المسلمين وبناتهم أجيالاً تقف في المقدمة من جيوش الغزاة الطامعين، العاملين على هدم الإسلام، وتفتيت وحدة المسلمين وتوهين قوتهم، واستغلال طاقاتهم وخيراتهم، والتسلط على بلادهم، وما فيها من كنوز وثروات مادية ومعنوية. (10) حيلة التحسر على افتقار الأمة العربية إلى فلسفة ترفع من شأنها تصدَّر فريق من أبناء المسلمين الذين أثرت فيهم دسائس أعداء الإسلام، مع فريق آخر من أعداء الإسلام المداهنين، وانتحلوا لأنفسهم اسم

الطليعة المثقفة، وانطلقوا يطعنون أمجاد المسلمين وتاريخهم، وكل مقدمات وجودهم في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، ويحسب الفريق من أبناء المسلمين أنهم يحسنون صنعاً، ويجهلون أنهم يساقون بالخديعة كالقطعان البله إلى مذابح القرِمين إلى لحوم الأمة الإسلامية، الباغين بها وبمبادئها وعقائدها وبلادها شراً مستطيراً. ولما شعر هؤلاء المتصدرون باسم الطليعة المثقفة بالفراغ الفكري والنفسي بعد أن ارتدوا عن الإسلام، أخذوا يطلقون عبارات التحسر على الأمة العربية، زاعمين أن العرب ليس لهم فلسفة ذاتية تحيي مشاعرهم القومية، وتكون هي قوامهم الفكري الذي يصعد بهم إلى المجد بين الأمم، لذلك فهم بحاجة إلى فيلسوف فذ يوجد لهم هذه الفلسفة القومية، ويمثلون لذلك بمثل "فتخة" الفيلسوف الألماني الذي وضع للألمان فلسفتهم القومية. والهدف من هذا الكلام تحقيق غرضين: الغرض الأول: إيجاد القناعة عند الأجيال الحديثة بأن العرب ليس لهم فلسفة قومية، تؤهلهم لمجد طارف، وأن الإسلام لا يصلح لأن يكون فلسفة تقيم لهم كياناً، وتعبد طريقهم إلى التقدم والمجد بين الأمم. الغرض الثاني: التمهيد لقبول الفلسفات الحديثة، التي تضع للأمة العربية فلسفتها القومية، والتبشير برجل ممتلئ بالحقد على الإسلام، والضغينة للمسلمين يطلقون عليه اسم فيلسوف القومية العربية، الذي يهيئونه لتحل أفكاره ودسائسه محل جميع العقائد والأخلاق والسلوك التي تدين بها الكثرة الكاثرة من الأمة العربية، والتي كان بها عزهم التالد، ومجدهم الخالد، وليحل هذا الفيلسوف المنتظر محل رسول الإسلام محمد صلوات الله عليه، وليحل أتباعه وجنوده محل أصحاب رسول الله، في زعامة الأمة العربية الحديثة، والانعطاف بها إلى مواقع الكفر، ونشر الأفكار التي توضع في حجرات الدوائر الاستعمارية والتبشيرية العالمية، الطامعة في بلاد المسلمين، والعريقة في معاداتها للرسالة الإسلامية الخالدة. وقد استطاعوا أن يشحنوا عقول دفعات من الأجيال الناشئة بأفكارهم

هذه، وأن يستميلوا معظم عواطفهم إليها، وذلك بترديدها عليهم في دور العلم، على اختلاف مستوياتها، وبعد أن احتلوا في هذه الدور مراكز تعليمية ذات أهمية في التربية والتوجيه عملوا على حجب طلابهم عن التزود من أي مصدر علمي آخر، بمختلف الوسائل الما كرة الصارفة عن قيادات التوجيه الحق، والصادة عن مبلغي الشريعة الربانية، والثقافة الإسلامية، تؤازرهم في ذلك جميع القوى المعادية للإسلام، والغازية لبلاد المسلمين بشكل سافر أو مقنع. وهكذا تطوع هذا الفريق المرتد من أبناء المسلمين في جيش الغزاة، الذين وضعوا خطتهم الحديثة لغزو المسلمين غزواً ماكراً، لا يحملون فيه سلاحاً من حديد أو نار أو أية قوة مادية قاتلة، وإنما يحملون فيه أسلحة أفعل وأدهى وأمر، إنها أسلحة العلم، والثقافة، والفن، والاقتصاد، واللهو واللعب، ومغريات التقدم المادي، وملحقاتها. ومع الفراغ الفكري والنفسي من كل القيم الموروثة في طائفة من الأجيال الناشئة من أبناء المسلمين، تعطشت عقولهم ونفوسهم إلى ملء الفراغ الذي أصابهم بالكيد الذي تعرضوا له. ومع ما غرس في عقولهم ونفوسهم من أن أمتهم ليس لها فلسفة قومية حتى يرجعوا إليها، لا بد أن يتهالكوا على ما يصدره إليهم أعداء الإسلام، من فلسفات فكرية، ومبادئ، وعقائد، ونظم مضادة للإسلام، هادمة لكل أسسه وعقائده ومبادئه ونظمه والأخلاق التي يدعو إليها، وأحكام السلوك التي يأمر بها. واصطرعت الأخلاط الفاسدة من الواردات الحديثة في نفوسهم وأفكارهم، فساروا في الدروب المتعارضة على غير هدى، منطلقين بسرعات جنونية، كثرت معها حوادث التصادم المريع، التي تساقطت فيها طاقات كثيرة من طاقات الأمة، وتناثرت أشلاءً هامدة تدب فيها عوامل الفساد، ولا تجد من يواريها في الأرض. والسرعات المتعارضة مستمرة، يقودها سكارى المذاهب الوافدة، أما

(11) حيلة التمجيد بعبقرية محمد لتفريغ دعوته من كونها رسالة ربانية

تصاعد نسبة التصادم فأمر مريع جداً، والناس منه في حالة محزنة جداً، لا ترى فيها إلا القلق والاضطراب والتخبط على غير هدى، والضحايا المتناثرة أشلاءً أشلاءً. (11) حيلة التمجيد بعبقرية محمد لتفريغ دعوته من كونها رسالة ربانية من أساليب الخدع الكبرى التي خدع بها فريقٌ من أعداء الإسلام بعض أبناء المسلمين، ما أخذوا يعلنونه ويرددونه في صفوف المسلمين بأقوالهم وكتاباتهم وخطاباتهم عن شخصية محمد صلوات الله عليه من تمجيد بعبقريته، وثناء على حركته الإصلاحية الإنسانية، وإطراء لأقواله، وبعض مناهجه التي رفعت الأمة العربية من الحضيض الذي كانت فيه، ودعت الشعوب الأخرى إلى الخير والصلاح وسلوك سبيل المجد، وهم إذ يسوقون إليه عبارات التمجيد والمدح والثناء يعتمدون أن يبعدوا عنه كلّ وصف من أوصاف النبوة والرسالة الربانية، إذ يثبتون له وصف العبقرية الإنسانية فقط. ثم أخذوا يكررون ذلك على أسماع الذين فتنوا بأقوالهم من أبناء المسلمين، ويدسون فيه ما يوحي إليهم بأن احتمال العبقرية ليس وقفاً على محمد، بل يمكن أن يأتي في كل عصر من بعده عبقري يستطيع أن يقود الناس إلى إصلاحٍ جديد، يناسب متطلبات العصور المتطور، أو أن تجتمع الأمة فتعادل قوة ذلك العبقرية، وغرضهم من ذلك أن ينقضوا عقيدة المسلمين الراسخة بأن محمداً خاتم رسل الله وأنبيائه. ثم بعد هذا التمجيد الكبير لشخص محمد بوصفه بالعبقرية، ينتقلون إلى صيغة جديدة يغلفونها بمكر شديد، ويلبسونها أقنعة خادعة من العبارات التي تتصنع الفلسفة، فينسفون بها من عقول الذين يلقون إليهم السمع عقيدتهم بالوحي، وعقيدتهم بالمعجزات وعقيدتهم بأن القرآن كلام الله، ويوحون إليهم بأن كل ذلك من صنع محمد، وقد آزرته في ذلك طلائع الإصلاح العربية، إلى

آخر هذا التضليل الذي أخذوا يصوغون له العبارات المتنوعة، المشحونة بالأكاذيب والافتراءات الخالية من أي مستندٍ عقلي أو واقعي. ولما انطلت حيلتهم هذه على ثُلَّة من أبناء المسلمين أدخلوا في روعهم أن رسالة الإسلام كانت ثورةً عربية على أوضاعٍ اجتماعية، تزعمها عبقري مصلح منهم، وأن رسالته ومبادئه كانت صالحة لشعوب تلك العصور، وقد أصبحت اليوم بالية بدائية غير مناسبة لأن تكون أسساً للإصلاح في القرن العشرين، من أجل ذلك يجب أن تقوم ثورات حديثة، تحمل أسساً جديدة للإصلاح، مناسبة لهذا القرن، يتزعمها عبقري جديد، يقوم في هذا العصر بمثل الدور الذي قام به محمد من قبل، وأطلقوا بين أتباعهم المفتونين بهم من أبناء المسلمين العرب مقالة قائلهم المشهورة: "من الطبيعي أن يستطيع أي رجل مهما ضاقت قدرته أن يكون مصغراً ضئيلاً لمحمد، ما دام ينتسب إلى الأمة التي حشدت كل قواها فأنجبت محمداً، أو بالأحرى ما دام هذا الرجل فرداً من أفراد الأمة التي حشد محمد كل قواه فأنجبها في وقت مضى، تلخصت في رجل واحد كل حياة أمته، واليوم يجب أن يصبح كل حياة هذه الأمة في نهضتها الجديدة تفصيلاً لحياة رجلها العظيم، كان محمد كل العرب، فليكن كل العرب اليوم محمداً". وهكذا يصغ هذا الزيف في مثل هذا الكلام الذي يبتسم ظاهره ابتسامة عريضة، ولكن وراء هذه الابتسامة نهم شديد لافتراش الإسلام والمسلمين , والإجهاز على كيان الأمة العربية، وضمن هذا الأخذ والرد في حيل العبارة الكلامية الخادعة للمغفلين أو الجاهلين يبدو للبصير الحاذق مبلغ الكيد العظيم للرسالة الربانية، التي لم يأت بها محمد صلوات الله عليه من تلقاء نفسه، وإنما تلقاها من الوحي، ولم تكن ثمرة عبقريته الخاصة، وإنما كانت تنزيلاً من عند الله، مع أنه صلوات الله عليه أوفر الناس عبقرية، وأكثرهم كمالاً إنسانياً. ولكن هؤلاء المخربين يريدون أن يجعلوا محمداً نتاج الأمة العربية، وأن يجعلوا دينه ثمرة عبقريته الفذة، وأن يفتحوا الباب لعباقرة مُحدثين يأتون برسالة

جديدة من عند أنفسهم، تحتل مركز الرسالة الإسلامية الربانية. ولا تخفى على المتأمل نفثة الكيد والحقد التي تقذفها عبارة قائلهم: "كان محمد كل العرب فليكن كل العرب اليوم محمداً". أي: فليصنع العرب اليوم رسالة جديدة تناسب العصر الحاضر غير رسالة الإسلام التي أنتجتها بحسب تضليلهم عبقرية محمد من قبل. ولو صح هذا الكلام بالنسبة إلى رسالة محمد لكان أكثر صحة لو قيل بالنسبة إلى الرسالات الربانية التي جاء بها عيسى وموسى من قبل، ولا سيما معظم ما فيها محرف منتقد، لكنهم لا يحملون هذا التضليل إلا في صفوف المسلمين فقط، وبالنسبة إلى رسالة الإسلام فقط. فإذا أضفنا إلى هذا أن أصحاب هذه الدعوة صليبيون متعصبون سراً لصليبيتهم لم تخف علينا الدوافع التي تدفعهم إليها، ولا عتب عليهم أن يمكروا بالإسلام وهم يعادونه، إنما العتب كل العتب على أبناء المسلمين الذين تنطلي عليهم حيل الأعداء، فيجندون أنفسهم في صفوفهم، أو يضعون أنفسهم في الصفوف الأولى من صفوف الكتائب الموجهة لحرب الإسلام والمسلمين. * * *

الفصل التاسع الغزاة وأعمالهم في هدم وحدة المسلمين

الفصْل التاسِع الغزاة وأعمالهم في هدم وحدة المسلمين وتقليل أعدَادِهم 1- مقدمة عامة. 2- التجزئة باستغلال الخلافات السياسية. 3- تفتيت وحدة المسلمين هدف مشترك لدى أجنحة المكر. 4- دسائس وألاعيب استعمارية لتمزيق وحدة المسلمين. 5- التقسيم الطبقي. 6- هدم الخلافة الإسلامية. 7- مكيدة تحديد النسل.

(1) مقدمة عامة

(1) مقدمة عامة هال أعداء الإسلام ذلك التماسك الصلب والترابط المتين ما بين المسلمين , على اختلاف أعراقهم ولغاتهم وبلدانهم , وعرفوا أن تماسكهم وترابطهم قائمان على أساس العقيدة الواحدة , والأخوة الإيمانية , وتأملوا طويلاً في ذلك الطود البشري الراسخ المنيع , المتراص من اتحاد الشعوب الإسلامية , وانصهارها في بوتقة الإيمان بالعقيدة الإسلامية , والتآخي في الله , وعجزوا عن مقاومته خلال قرون , حتى أوحت لهم شياطينهم أن يعمدوا إلى تفتيته بوسائل التجزئة المختلفة , ضمن خطة مرسومة , وبدأوا يضربون في ذلك الطود الهائل أسافين الشقاق , ويسقونها جرثومة الفساد والضغينة والعصبية والخلافات المتنوعة , ويعطون للزمن فرصة تمكين الشقاق والخلاف وتعميقه , حتى يفعل تطاول العهد بهذه الأمة الإسلامية الواحدة من التمزيق والتشقيق والتفتيت ما لم تفعله الحروب المسلحة الكبرى. أما وسائل التجزئة فكثيرة ومختلفة: لقد عمدوا إلى التجزئة والتفتيت , بعناصر الاختلاف السياسي , ثم بعناصر الاختلاف الطائفي , وذلك بإلقاء جرثومة الخلاف في العقائد , ثم بعناصر الاختلاف المذهبي , وذلك بتشجيع التعصب المذهبي وبتغذيته ضد المذاهب المخالفة , وقد لعبت هذه العناصر دورها في جميع الشعوب الإسلامية على اختلاف قومياتهم. ثم عمدوا إلى التجزئة بعناصر الاختلاف العرقي والقومي واللغوي , مع تمكين التجزئة بعناصر الاختلاف الأخرى , حتى تصطرع فيما بينها عناصر

الشقاق المختلفة , لتزيد منه وتمكن له. ثم أوغلوا في التجزئة بعناصر الاختلاف الإقليمي , بين أهل الأقاليم التي تجمعها عقيدة واحدة , وقومية واحدة , ولغة واحدة. ثم انتقلوا إلى التجزئة بعناصر الاختلاف القطري , والاختلاف بين بلد وبلدٍ داخل إقليم واحد أو قطر واحد. وهكذا تتسلسل هذه العناصر حتى تصل إلى عناصر الاختلاف الأسري , ثم إلى عناصر الاختلاف الشخصي داخل الأسرة الواحدة , كل ذلك بجرثومة الأنانية التي تتسع حيناً وتضيق حيناً آخر. وقد اتخذت كتائب الغزاة لهذا التفتيت وسائل عملية كثيرة جداً , وجندوا له طاقات ضخمة استخدموها في أعمال الإفساد , حتى تم لهم تمزيق وحدة الأمة الإسلامية من الناحية التطبيقية العامة , وإن كانت عواطف الوحدة بين الشعوب المسلمة , التي تغذيها العقيدة الإسلامية والتعاليم الربانية , ما يزال لها الأثر الكبير في نفوس أفراد هذه الشعوب , وإن كانت حبيسة في مواقع تجزئاتها , فهي لا تستطيع أن تعطي آثاراً عملية فعلية على الصعيد السياسي الرسمي , والتطبيق العام , وذلك بفعل ضواغط التجزئة الجاثمة على صدورهم , والتي عمل أعداء الإسلام على ترسيخها وإلقاء الأثقال عليها خلال قرون. وما تزال أعمال التجزئة ومخططاتها مستمرة على نطاق واسع , وقد يسير في تيارها كثيرون من أفراد الشعوب الذين يقاومون التجزئة بين المسلمين , ويدعون إلى جمع كلمتهم , وتوحيد صفهم , دون أن يعلموا أنهم في تيارها سائرون , وضمن مخططاتها يعملون , وذلك لأن الأعداء قد أحكموا خطة مكرهم إحكاماً ينطلي على كثير من أهل الوعي والبصر النافذ , فضلاً عن الأغبياء والمغفلين. وأول أبواب الحذر التي يجب أن يراقبها المسلمون هو الشك بكل فكرة

يوحي بها أعداء الإسلام , أو يرتاحون لها , ولو أعجبت المسلمين في ظاهرها , ثم إذا رأوا بعد تأمل طويل أن من الخير العمل بها , فعليهم أن يخططوا بأنفسهم طريقة العمل وأسلوبه , ويحددوا بأنفسهم غايته , وينتقوا بإرادتهم الحرة عناصره , وأن يكونوا فوق كل ذلك على حذر من مزالق قد تفاجئهم على حين غرة , من جهة ربما كانوا قد غفلوا عنها , أو كانت محجوبة عنهم بأستار خادعة. وليست قضايا المسلمين بالقضايا السهلة , فأعداؤهم كثيرون , وقواهم كبيرة في الأرض , ولكنهم مع ذلك يستطيعون بإمكاناتهم الحالية , مع حكمة عالية , وإخلاص في العمل , ودأب لا ينقطع , وقيادة رشيدة , والتجاء إلى الله , واعتماد عليه أن يظفروا بإفساد كل مخططات أعدائهم , وبالانتصار على كل مكر يبيتونه لهم , وكل كيد يكيدونهم به , مهما تظاهرة دول الأرض ضدهم , لأن صدق التوكل على الله مع صدق الجهاد في سبيله , وبذل كل طاقة ممكنة مادية ومعنوية , لا بد أن يجازي الله عليه بتحقيق النصر , فقد وعد الله المؤمنين به , متى حقق المؤمنون شروطه في أنفسهم , بموجب قوله تعالى في سورة (الحج /22مصحف/103نزول) : {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} فهذا وعد من الله , والله لا يخلف الميعاد , ولئن كان التفوق في القوة يعتمد على الوسائل المادية فإن تحقيق النصر لا يكون إلا من عند الله , ودليل ذلك في قول الله تعالى في سورة (آل عمران / 3 مصحف / 89 نزول) : {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وفي قوله تعالى في سورة (الأنفال / 8 مصحف / 88 نزول) : { وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وحوادث التاريخ تشهد بذلك , وحسبنا من الله شواهد وآيات , وحسبنا من مقاديره عبر وعظات , وانطلاقة التضامن الإسلامي على يد المغفور له الملك

(2) التجزئة باستغلال الخلافات السياسية

فيصل وبعض آثارها في العالم الإسلامي والعالم العربي _ ولا سيما في حرب رمضان 1393هـ _ قد أقضت مضاجع أعداء الإسلام , حتى رأوا أن يتخلصوا منه بأية وسيلة. (2) التجزئة باستغلال الخلافات السياسية وقد عرف أعداء الإسلام المقنَعون منذ العصور الإسلامية الأولى كيف يستفيدون من الخلافات السياسية بين المسلمين , وقد بدأ ذلك في عصر الخلفاء الراشدين , واتسعت دائرته فيما وراءه من العصور. وعرف أعداء الإسلام أيضاً كيف يصطنعون هذه الخلافات , ويثبتونها بين صفوف المسلمين. وقد كان من الممكن أن تنحصر الخلافات السياسية في حدود صغيرة لا تتعداها في الزمان أو المكان أو الأشخاص , ولكن أعداء الإسلام المقنعين نشطوا نشاطاً كبيراً في توسيع دائرة الخلافات السياسية , واتخذوا دائماً خطة الانقسام إلى فريقين أو أكثر , وانضمام كل فريق إلى جهة من جهات التنازع السياسي , وإمعانه في تمكين الخلاف , وتعميق جذور التنازع , وشحن أفئدة الجهة التي اندس فيها بالحقد والضغينة على الجهة أو الجهات الأخرى المخالفة , ومهما عمل العقلاء والمصلحون لتقريب وجهات النظر , ومعالجة الجرح السياسي ليندمل ويعفي الزمن أثره , فإن هؤلاء المقنعين من أعداء الإسلام لا يرضيهم ذلك , بل يسرعون في الخفاء إلى إثارة الغبار في الوجوه , لتنعدم الرؤية الصحيحة , ويفتعلون الأحداث الجديدة بالتحريض , أو يدعون وجودها بالكذب , أو يبعثون من قبلهم من يندس لافتعالها , ثم يعمدون إلى الجرح السياسي الذي كاد يندمل فينكأونه من جديد , ويسوقون إليه موجة جديدة من موجات الحقد والضغينة , ثم يتركون لهاتين الجرثومتين ما تثيرانه في النفوس من الرغبة بالانتقام , ومع الانتقام تزداد شقة الخلاف , وتتسع الهوة ما بين الفرقاء المتنازعين وما بين أنصار كل منهم , وتمتد في الزمان والمكان والأشخاص.

ولم يقتصر أعداء الإسلام على أن يبقى الخلاف السياسي مهما اتسع ضمن حدوده السياسية , بل عملوا على أن ينقلوه من دائرة خلاف سياسي يطويه الزمن , إلى خلاف اعتقادي وديني تتوارثه الأجيال , ويأخذ مع الزمن صبغة خلاف طائفي يستعصي دفعه , ويتعذر رفعه , وذلك إمعاناً منهم في متابعة مكرهم بالإسلام والمسلمين. ومن آثار هذه الخطة الماكرة بدأ الخلاف بين مستحقي الخلافة من آل البيت , وبين الظافرين بالحكم من الأمويين , ولقد كان من الممكن أن تضيق دائرة هذا الخلاف , ويتجه المسلمون كلهم إلى واجبات نشر الإسلام في الأرض , ولكن أصابع الفتنة المندسة لم تدع الجرح السياسي يلتئم , وإنما عملت على أن تغذيه باستمرار بجراثيم الإفساد، وتحشد مندسيها في كل من أنصار الفريقين المتنازعين , كي يعمل هؤلاء المندسون على إغراء الجهة التي يظهرون الولاء لها بالإفراط في عداوة الجهة الأخرى , وقتالها والانتقام منها , وما زالوا يعمقون هذا الخلاف السياسي حتى جعلوه خلافاً في أصل العقيدة الدينية , الأمر الذي تولد عنه خلاف آخر في المذاهب الفقهية , ومع رغبتهم الشديدة بتعميق الخلاف , وتوسيع الشقة , عملوا على تغيير ما استطاعوا تغييره من أسس ليس من شأنها أن يكون فيها تنازع أو خلاف مطلقاً , ولكن المكيدة المبيتة كانت ترمي إلى تمزيق وحدة المسلمين , وطعن الإسلام في الصميم , لذلك كان جنودها يعملون في الخفاء عملاً دائباً لتحقيق هذه الغاية. ولما استطاعوا أن يصلوا إلى التلاعب بالأسس نشط زبانيتهم في استحداث الفرق الكثيرة , ضمن الجهة التي ظفروا بأن تكون واثقة بهم , وأخذوا يشققونها , ومع كل تشقيق جديد توغل في الانحراف عن العقيدة الإسلامية , حتى استطاعوا أن يصلوا في بعض أطراف التشقيق إلى مرتدين عن كل العقيدة الإسلامية , كافرين بكل ما جاء فيها , أكثر ولاء لغير المسلمين منهم للمسلمين الذين يزعمون أنهم فرقة منهم. الطائفي لما كان عليه الآباء والأجداد. ومهمة الإصلاح اليوم يتحملها القادة المصلحون الصادقون في جميع الفرق , فيجب عليهم أن يبصروا أتباعهم بالحقيقة , لينقذوا أنفسهم من الكيد المدبر لهم ولغيرهم على السواء , وإنها لمسؤولية كبيرة ملقاة عليهم , سيُسألون عنها بين يدي الله يوم القيامة , وسيحاسبون على تقصيرهم فيما يجب عليهم تجاه ربهم , وتجاه دينهم , وتجاه الأمة الإسلامية التي مزقتها دسائس الأعداء. ولو عرفت هذه الفرق المنشقة أنها وقعت في فخ أعداء الإسلام من حيث لا تشعر , وانحرفت بتأثير ألاعيبهم الماكرة المقنعة , لاهتدى كثيرون منها إلى

(3) تفتيت وحدة المسلمين هدف مشترك لدى أجنحة المكر

الحق , ولعادوا إلى سبيل الرشاد , ولعلموا أن مفترق الطريق الذي بدأ عنده الانشقاق قد كان خلافاً سياسياً على تولي الحكم , يحدث نظيره في كل عصر , وفي كل أمة , ويجب أن يطويه الزمن مع ما يطوي من أحداث جسام , ويجب أن لا تخلفه أحقاد متوارثة , مهما كانت صورة الخلاف تحمل استحقاق جهة ما من جهات النزاع بالسلطان , وعدوان الجهة الأخرى لتستأثر به , وذلك لأن قضية الخلاف السياسي في الأمة الواحدة قضية شخصية زمنية , ولا يجوز بحال من الأحوال أن تكون قضية دينية اعتقادية , أو قضية إنسانية يتوارثها جيل لاحق عن جيل سابق. إلا أن أعداء مندسين مقنعين قد أرادوا أن يتلاعبوا فيها فيجعلوها قضية دينية متوارثة , وقد وقع تحت تأثيرهم كثيرون من ذوي النيات السيئة , ثم تحولت مع الزمن فدخل فيها عنصر التعصب (3) تفتيت وحدة المسلمين هدف مشترك لدى أجنحة المكر إن هدف تفتيت وحدة المسلمين , وتفريق كلمتهم , وتسليط طاقاتهم المختلفة بعضها على بعض , لإضعاف القوة الجماعية التي يتمتعون بها , وتوهين قواهم الأخرى المادية والمعنوية , وتبديدها في الفتن الداخلية , وفي أشكال الصراع التي تثار فيما بينهم , هدف تلتقي عليه الأجنحة الثلاثة لجيش الغزو , ومعها سائر أعداء الإسلام.

والدليل على اشتراكهم في هذا الهدف ظاهر من تاريخ المستعمرين , ودسائس المستشرقين وأقوال المبشرين وأعمالهم. لقد دخل المستعمرون معظم البلاد العربية الإسلامية , فكان أول عمل باشروه تجزئة الأمة العربية ذات الأكثرية الإسلامية , إلى دويلات صغيرة , وأقاموا بينها الحدود والحواجز المصطنعة , وحاولوا أن يغرسوا بينها تبايناً في المصالح الاقتصادية والسياسية والثقافية , ثم تبايناً آخر في القوميات والعصبيات الإقليمية , مضافاً إلى ذلك إيجاد التنافر بين الكتل الطائفية , وأمعنوا في ذلك إمعاناً بالغاً , إذ كانوا يأتون إلى الكتل الطائفية القليلة العدد , التي بدأت تنسى عزلتها الطائفية , وتنصهر في الجماعة الواحدة الكبرى , فيشجعونها على أن تعود إلى أصولها , وتوجد لنفسها تكتلاً مضاداً حاقداً على الأكثرية المنتشرة في البلاد , وذلك في ظل التسامح العام الذي تشعر به الأكثرية المسلمة , على أسس وطنية بحتة أخذت تنادي بها هيئاتها السياسية وغيرها , وهي غافلة عن المكيدة المدبرة. وإمعاناً في التجزئة على أساس التفرقة الطائفية نشط المستعمرون في مد عناصر الطوائف القليلة بالمساعدات المختلفة , والتسهيلات الاقتصادية , والإغضاء عن الجرائم والمخالفات , ونفخ روح العزلة والحقد والكراهية في نفوس أفرادها وقادتها , ضد الأكثرية , وضد الطوائف الأخرى , وإشعارها بضرورة انفصالها بحكم ذاتي خاص بطوائفها. وأقاموا بينهم وبين هذه الطوائف علاقات تتسم بطابع الصداقة والمودة التي تستتبع تبادل زيارات عائلية , وجلسات فكاهة وسمر وأكل وشرب , ورحلات متنوعة , وهكذا إلى آخر ما يدخل في هذا الجدول الاجتماعي , وعقدوا معهم صلات مناظرة للصلات التي عقدوها مع مجموعة من كبار الأسر السياسية والاقتصادية المنتمية إلى الطائفة التي تشكل في البلاد الأكثرية العددية , ولكن دسائسهم في كل زمرة منها تختلف عن دسائسهم في الأخرى. وذلك ليتم لهم بناء الجدار الغليظ بينهما , وليوسعوا الهوة الفاصلة بين الطوائف , ويزرعوها بالألغام الكثيرة , من الكراهية , وتباين المصالح , والأحقاد التاريخية الموروثة , والعصبيات المختلفة ذات الدوائر الضيقة.

(4) دسائس وألاعيب استعمارية لتمزيق وحدة المسلمين

ومن أمثلة ذلك الفتن الطائفية التي أشعلوا نيرانها في النصف الثاني من القرن العشرين في لبنان , والفتن التي يوقدون نيرانها في الهند. وإلى جانب هذه الأعمال التي سجلها التاريخ على المستعمرين , تقدم لنا السجلات حشداً كبيراً من أقوال المبشرين والمستشرقين , الدالة على اهتمام الأجنحة الثلاثة بالتسديد على هذا الهدف الخطير , فمن أقوالهم الكثيرة ما يلي: 1_ يقول "لورانس براون" وهو أحد زعماء المبشرين , في كتابه "الإسلام والإرساليات": "إذ اتحد المسلمون في امبراطورية عربية أمكن أن يصبحوا لعنة على العالم وخطراً , وأمكن أن يصبحوا نعمة له أيضاً , أما إذا بقوا متفرقين فإنهم يظلون حينئذ بلا قوة ولا تأثير". 2_ ويقول القسيس "كالهون سيمون" وهو أحد زعماء المبشرين: "إن الوحدة الإسلامية تجمع آمال الشعوب السود , وتساعدهم على التملص من السيطرة الأوربية , ولذلك كان التبشير عاملاً مهماً في كسر شوكة هذه الحركات , ذلك لأن التبشير يعمل على إظهار الأوربيين في نور جديد جذاب , وعلى سلب الحركة الإسلامية من عنصر القوة والتمركز فيها". وعلى هذا النسق تسير أقوالهم التعليمية , ونصائحهم , وتوجيهاتهم , وتوصياتهم , لعناصر العمل في مؤسساتهم وجمعياتهم , وللقوى العسكرية والسياسية الاستعمارية , وذلك لتلتقي الأجنحة المختلفة المهمات على هدف تفتيت وحدة المسلمين , وتجزئة دولهم إلى دويلات صغيرة لا حول لها ولا طول , مع تمكين الخلاف والفرقة بينها , وإثارة النعرات القومية والإقليمية والطائفية والمذهبية , وشحنها بالمقدار المدمر من الحقد والكراهية والبغضاء , ومدها بمختلف عناصر الخلاف وتباين المصالح. (4) دسائس وألاعيب استعمارية لتمزيق وحدة المسلمين جاء في كتاب (الحياة السرية للورنس العرب) ما يلي: "ذكر الكولونيل لورنس في تقريره الذي رفعه إلى المخابرات البريطانية في

كانون الثاني (1916م) بأن أهدافنا الرئيسية تفتيت الوحدة الإسلامية , بدحر الإمبراطورية العثمانية وتدميرها , وإذا عرفنا كيف نعامل العرب فسيبقون في دوّامة الفوضى السياسية , داخل دويلات صغيرة حاقدة متنافرة غير قابلة للتماسك". هامش وقد سلك المستعمرون شتى الوسائل الماكرة للتفريق بين المسلمين وبث عوامل التجزئة. فكان من صور هذه الوسائل التي مهروا اصطناعها في بلاد المسلمين , أنهم إذا أرادوا تنفيذ أمرٍ يثير النقمة الشديدة في بعض البلاد الإسلامية التي استعمروها أمروا بعض موظفيهم من بلد آخر واقع تحت سلطانهم , أن يباشروا تنفيذ هذا الأمر المثير للنقمة , فيذهب هؤلاء الموظفون وهم يجهلون سياسة المكر التي يدبرها المستعمرن , فيقومون بتنفيذ ما أمروا به , وحينما تشتد النقمة وتبلغ غايتها , تتدخل السلطات الاستعمارية , فتعرب عن سخطها واستنكارها لما حصل من بعض موظفيها , وتحمل موظفيها الذين أرسلتهم هي مسؤولية إساءة التصرف , وتتبرّأ من الأمر , كما وصف الله الشيطان بقوله في سورة (الحشر / 59 مصحف / 101 نزول) : { { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} . وتنطلي الخديعة على الجماهير التي ليس لها بصر بألاعيب السياسة فتشحن قلوبها بالضغينة على هؤلاء الموظفين , ومع تكرار مثل هذه الحوادث تنصب النقمة على جميع سكان البلد الذي ينسب إليه هؤلاء الموظفون , ومع الزمن يتولد بين رعايا البلدين حقد موروث , أو شقاق مستحكم , يجني المستعمرون منه ثمرة الاستقرار والسيادة على الأجزاء المتفرقة , التي قذفوا بينها عوامل العداء والشقاق. ومن أمثلة ذلك ما كان يفعله الاستعمار الإنكليزي , إذ يأمر بعض

موظفي الشرطة أو الجيش من المصريين بتنفيذ أمر على بعض السودانيين , وهذا الأمر يثير النقمة , كأمر مصادرة , أو تحصيل ضريبة , أو قبض على ذي وجاهة دينية أو اجتماعية أو سياسية , يقلق راحة السلطات المستعمرة , بنضاله ضد أعمالهم المسيئة لأهل البلاد , وتشدد هذه السلطات المستعمرة أوامرها الموجهة لهؤلاء الموظفين بأن يستعملوا كل ما في أيديهم من قوة وحزم وخشونة , ويدعون النقمة تربو حتى تبلغ أشدها , وحينما يلاحظون بوادر انفجار النقمة , يرسلون إلى الناقمين من يقنعهم برفع الشكوى إلى صاحب السلطة العليا الإنكليزي , وذلك لينظر في أمرهم , ويدفع عنهم عنت موظفي الشرطة أو الجيش , وحينما يرفعون إليه شكواهم مما حصل , ويشدد تعنيفه لموظفي الشرطة أو الجيش المصريين , وهم الذين باشروا الأمر المثير للنقمة , ليوهموهم أن هذا التصرف تصرف مصري لا تصرف استعماري , وبذلك يلقون في قلوب السودانيين جرثومة الكراهية الشديدة التي تباعد الشقة بين المسلمين. ويفعل المستعمرون مثل ذلك بين سكان مدينة وسكان مدينة أخرى داخل قطر واحد , وبين سكان المدن وسكان الريف , كأن يسلطوا الموظفين الدمشقيين على سكان مدينة حلب , والعكس , والموظفين البغداديين على سكان الموصل , والعكس , والموظفين القاهريين على سكان الاسكندرية , وكذلك العكس , والموظفين من سكان المدن على سكان القرى وسكان البادية , وكذلك العكس. وهكذا بين كل بلد وبلد , وبين كل مدينة وقرية , وبين كل حي وحي آخر ضمن البلد الواحد , وكذلك يفعلون بين المنتسبين إلى قوميات مختلفة , مع اشتراكهم في وحدة دينية , تفريقاً بين المسلمين , فيسلطون الشراكس أو الأتراك أو الأكراد على العرب , ويسلطون العرب على الشراكس أو الأتراك أو الأكراد كي يملأوا قلوب كل قوم منهم بالحقد والضغينة على المنتسبين إلى القوميات الأخرى , إذ يوهمونهم أن الأذى الذي أصابهم لم يكن من أوامر المستعمرين المشددة , وإنما كان من دوافع خاصة لدى القوم الذين يباشرون التنفيذ.

(5) التقسيم الطبقي

ويفعل المستعمرون مثل ذلك بين المنتسبين إلى الفرق والطوائف والمذاهب الإسلامية , فيمعنون في التفرقة مثلاً بين سني وشيعي من المسلمين , وبين كل طائفة وأخرى , وكل أتباع مذهب وأتباع مذهب آخر , وهكذا إلى غير حد من وسائل التجزئة , التي مهروا في اصطناعها مهارة بلغت الغاية من المكر والدهاء , والكيد للإسلام والمسلمين. فهل يتيقظ المسلمون فينفوا عنهم عوامل التفرقة , ويجتثوا ما زرعه أعداؤهم فيهم؟ (5) التقسيم الطبقي ومن التجزئة التي تعمل لها جيوش الغزاة لهدم وحدة المسلمين , ما يدسونه في صفوفهم من بواعث فوارق طبقية مختلفة , من شأنها أن تجزئ الأمة إلى وحدات وفرق وطبقات تتصارع فيما بينها , فتبدد بأيديها طاقاتها التي كان من الممكن أن تتجمع وتتوحد , وتكون قوة ذات شأن في الأرض , تعيد إلى المسلمين مكانهم الطبيعي القيادي بين الأمم. فمن الغزاة من يحمل بين صفوف المسلمين شعار وحدة الطبقة العاملة , ومنهم من يهمس بين صفوفهم بوحدة الطبقة المستغلة , وكلا الاتجاهين يهدفان إلى غاية واحدة , هي هدم البنيان الواحد الذي يمسك بعضه بعضاً , ويكوِّن الأمة الإسلامية الواحدة , وهدم هذا البنيان المعقود عقداً محكماً قد يكون بنزع القفل الصلب الذي يمسكه , كما لو نزع قفل البرج العظيم انهارت جوانبه , وتناثرت أحجاره , وتهاوى يحطم بعضه بعضاً , بعد أن كان يشد بعضه بعضاً. وقد لا يكون الفرق بين موجبات الاستمرار ومسببات الانهيار كبيراً , إذ يكفي إيجاد خلل يسير لهدم صرح شامخ. وكثيراً ما يستغفل أعداء الإسلام بعض المسلمين لتبني أمر يؤدي في النتيجة إلى هدم بناء الأمة الإسلامية , ثم يسخرونهم عمالاً يحملون عنهم

معاول الهدم , فيهدمون بنيان أمتهم لصالح أعدائهم , وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. إن المجتمع الإسلامي المتقيد بتعاليم الإسلام مجتمع متماسك البنيان , قوي الأركان , متسامي الذروات , تبدو المجتمعات الأخرى أمامه كركامٍ من الصخر , أو كثيب من الرمل المتناثر , أو أقزامٍ من الأبنية المخلخلة التي تتلاعب بها الرياح , ومهما ارتقت فإنها لا تدانيه قوة وتماسكاً وسمواً , وذلك لأن كل عضو من أعضاء المجتمع الإسلامي العام المتقيد بتعاليم الإسلام يعمل في مكانه وموقعه من الجماعة بما يجب عليه تجاهها , ويؤدي واجب الطاعة لأولي الأمر من المسلمين , وتصل إليه حقوقه موفورة , ويبتغي بكل أمر من أموره مرضاة الله تعالى وثوابه , وتربطه بالمجتمع وبكل فرد من أفراده مجموعة من الأربطة المتينة , منها الأربطة التالية: الأخوة الإيمانية , والمودة المتبادلة , والحب في الله , والعدل , والإيثار , والتضحية , وتأدية الواجب , والمصاحبة والمعاشرة بالمعروف , والصدق , والأمانة , والوفاء بالعهد , والصدق في الوعد , وإفشاء السلام , واحترام الأخ المسلم وتكريمه , والصدق في الوعد , وإفشاء السلام , واحترام الأخ المسلم وتكريمه , والصدقة , والهبة والهدية , وإكرام الضيف , والتزاور في الله , وعيادة المريض , والإصلاح بين المتخاصمين , والتسامح , والعفو , وإبراء الذمة؛ ورحمة الكبير للصغير , وتوقير الصغير للكبير , إلى غير ذلك من أربطة اجتماعية. ومعظم هذه الأربطة تنقطع بفصل المجتمع إلى طبقتين أو طبقات متنازعة على مصالح مادية , تدخل فيها عناصر الأنانية , والاستئثار , والطمع , وتفضيل الفرد نفسه بغير حق , والحقد , والحسد , والبغضاء. إن التقسيم الطبقي من أخطر المسببات التي تأتي إلى القوة الحقيقية الكامنة , في مجتمع من المجتمعات فتبددها , وتجعلها كالهباء المنثور. وكلا طرفي منحدر اليمين ومنحدر اليسار في العالم يحملان دسائس هذا التقسيم الطبقي , على أسس مادية بحتة اقتصادية وسياسية , وكلاهما يدركان خطورة تماسك المجتمعات الإسلامية على أسس روابطها المتينة الدينية والمادية والأدبية والوجدانية والعقلية , لذلك فهما يحاولان دائماً تقسيم هذه الوحدة ,

(6) هدم الخلافة الإسلامية

وتجزئتها بأي ثمن , وتلتقي قوتاهما _ على اختلافهما وتنازعهما _ عند خط تجزئة المجتمع الإسلامي , تجزئة تهدم عوالم قوته وتماسكه. (6) هدم الخلافة الإسلامية وفي خطة تحطيم وحدة المسلمين , وتجزئتهم إلى أجزاء متفرقة كثيرة , عملت جيوش الغزاة بكل ما لديها من وسائل معنوية ومادية , لهدم الخلافة الإسلامية , لأن هذه الخلافة _ مهما كان شأنها _ تمثل الحزام الذي يجمع المسلمين في شتى أقطار الأرض , أو الرمز السياسي الذي يجعلهم يلتقون التقاء ما تحت راية سياسية واحدة , وهذا الأمر يقض مضاجع الأعداء , وإن وصل به الضعف إلى أن غدا رمزاً ليس له أي سلطان فعلي. وذلك لأن بقاء أمر الخلافة مقروناً بالدوافع والمحرضات الدينية التي قد تحيي ما مات منه , وقد تعيده إلى بعض مراكز قوته الأصلية , مما تخشاه جيوش الغزاة خشية كبيرة , نظراً إلى ما للشعوب المسلمة من وزن عظيم في العالم , تمثله أعدادهم البشرية , ورقعة الأرض التي يملكونها وما فيها من خيرات وكنوز كثيرة , وما لهم من تاريخ حضاري غابر , قد يحرك فيهم بواعث نهضة حضارية جديدة , تستطيع أن تنافس وتسابق الحضارة الغربية المادية الحديثة , فيما لو أطلقت أيديها المغلولة , مضافاً إليها سبقهم الحضاري العظيم في عقائدهم , وفي مفاهيمهم الأخلاقية , وفي أسس بناء أمتهم بناء متماسكاً متيناً , على أصول الحق والعدل والخير ونشدان الكمال , والبعد عن الباطل والظلم والشرب والرضى بالدنايا. وظلت الخلافة الإسلامية رمزاً لوحدة المسلمين في أقطار الأرض , حتى عام (1924م) وفي أوائل شهر آذار (مارس) ألغى "كمال أتاتورك" الخلافة الإسلامية العثمانية من تركيا , وكان ذلك في ظروف سياسية هيأت له الذرائع للقيام بهذا العمل الخطير. ومن المعلوم أن الخلافة قد تم هدم مضمونها قبل ذلك , منذ نجحت

الثورة التي دبرت ضد السلطان عبد الحميد في عام (1908م) والتي قادها العسكريون من أعضاء "جمعية الاتحاد والترقي" الموجهون من قبل المحافل الماسونية , التي كانت تعمل بوحي من الدسائس الاستعمارية من جهة , والدسائس اليهودية من جهة أخرى أشد من الأولى مكراً , وأكثر عمقاً , وأصبح هؤلاء العسكريون هم حكام البلاد في الحقيقة , وعلى أيديهم تمت هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى , وأمست الخلافة بعد السلطان عبد الحميد رمزاً لا مضمون له , إذ تولاها بعده السلطان "محمد رشاد" الذي لقب بالسلطان "محمد الخامس" ثم تلاه السلطان "محمد السادس" ثم تلاه السلطان "عبد المجيد" وكان هذا آخر الخلفاء الرمزيين , حين أعلن "كمال أتاتورك" إلغاء الخلافة. وكان ما جرى تنفيذاً دقيقاً لما رسمته جيوش الغزاة من خطط لهدم الخلافة الإسلامية , إذ كانت هذه الخلافة على ما وصلت إليه من ضعف بمثابة سور عظيم , متعب لجيوش الغزاة الطامعين , يلم الشعوب الإسلامية على اختلاف لغاتها , وألوانها وأعراقها , وعلى تباعد مواطنها , في إطار سياسي واحد , مهما كان مبلغه من الضعف والرمزية. واستقبل العالم الإسلامي نبأ إلغاء الخلافة بحزن شديد وألم ممض , فقد كانت لهم التاج العظيم الذي توارثوه أكثر من ألف سنة , وكان وجود الخلافة في المسلمين يتضمن لديهم المعاني التالية: الأول: أن بقاء الخلافة يعني وجود نظام سياسي يجمع شمل المسلمين , مهما بلغ واقع حال هذا النظام إلى مستوى محزن من الضعف والرمزية , بفعل الدسائس الاستعمارية. الثاني: أن بقاء الخلافة دليل على استمرار تاريخ المسلمين , في ظل شعار سياسي واحد. الثالث: أن بقاء الخلافة يعني بقاء الرباط الذي يبرر للمسلمين الاشتراك والمساهمة في الدفاع الدولي عن بلاد المسلمين وحقوقهم , وإقامة ألوان التعاون فيما بينهم.

الرابع: أن بقاء الخلافة يقضي في أدنى الحدود الرمزية بأن لا تقوم بين بلادهم حواجز مصطنعة , وهذا يعني اشتراك الشعوب الإسلامية في ديارهم , وتمتعهم بحريات تنقلهم وتملكهم وتجاراتهم وسائر مصالحهم الاقتصادية والاجتماعية فيها. ومع الحزن الشديد الذي تلقت به الشعوب الإسلامية نبأ إلغاء الخلافة قام فريق من أصدقاء المستعمرين , والموالين لهم في البلاد الإسلامية , يبردون حرارة الألم , ويبررون ما وقع , ويزعمون مزاعم كاذبة على المفاهيم الإسلامية , ويضعون مفاهيم مبتدعة غريبة , يفصلون بها بين الدين والحكم , وينسفون بها الأسس النظرية التي تقوم عليها الخلافة الإسلامية , ويضعون بدلها أسساً أخرى من عند أنفسهم ينسبونها إلى الإسلام زوراً وبهتاناً , وكان من هؤلاء في مصر "الشيخ علي عبد الرزاق" فقد كتب كتاباً جعل عنوانه "الإسلام وأصول الحكم" احتوى على آراء تخالف ما أجمع عليه المسلمون , وتهدم أسساً ضخمة من أسس بناء الأمة الإسلامية , وتطعن في التاريخ الإسلامي , وتنكر علاقة الخلافة في جميع عصورها بالإسلام. وتصدى للرد عليه كثيرون , منهم الشيخ "محمد شاكر" من كبار العلماء , وكان وكيلاً سابقاً للأزهر , ومنهم الشيخ السيد "محمد رشيد رضا" صاحب تفسير المنار , وصاحب مجلة المنار , فقد كتب هذا مقالاً بعنوان: (الإسلام وأصول الحكم _ بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام _ بل دعوة جديدة إلى نسف بنائها وتضليل أبنائها) . وقد جاء في هذا المقال ما يلي: "ما زال أعداء الإسلام يجاهدون بالسيف والنار , وبالكيد والدهاء والأفكار , وبإفساد العقائد والأخلاق , وبالطعن في جميع مقومات هذه الأمة , وتقطيع جميع الروابط التي ترتبط بها شعوبها وأفرادها , ليسهل جعلها طعمة للطامعين , وفريسة لوحوش المستعمرين. وهذه الحرب السياسية العلمية للإسلام أضر وأنكى من الحروب الصليبية باسم الدين.. وقد كان آخر فوز لهذه الحرب على المسلمين إلغاء الترك لمنصب الخلافة من دولتهم , وتأليفهم حكومة جمهورية غير مقيدة بالشرع

(7) مكيدة تحديد النسل

الإسلامي , فذعر لهذا العالم الإسلامي , وطرب له الإفرنج ومروجو سياستهم ورفع هؤلاء عقائرهم في مصر هاتفين لعمل الترك , ونشطوا لجعل الحكومة المصرية حكومة لا دينية مثل حكومة "أنقرة". وبينا نحن كذلك إذا نحن ببدعة حديثة لم يقل بمثلها أحد انتمى إلى الإسلام _ صادقاً ولا كاذباً _ بدعة شيطانية لم تخطر في بال سني ولا شيعي ولا خارجي , بل لم تخطر على بال بعض الزنادقة. والناعق بهذه البدعة من العلماء المتخرجين من الأزهر من قضاة المحاكم الشرعية (إن هذا لشيء عجاب) ". ثم ختم الشيخ رشيد رضا مقاله بقوله: "أول ما يقال في وصف هذا الكتاب أنه هدم لحكم الإسلام وشرعه من أساسه , وتفريق لجماعته , وإباحة مطلقة لعصيان الله ورسوله في جميع الأحكام الشرعية الدنيوية , وتجهيل للمسلمين كافة من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين". وانهالت الردود الكثيرة على كتاب "علي عبد الرزاق" وتسفيه ما جاء فيه , وبيان مخالفته للإسلام , ولما أجمع عليه المسلمون , وبيان ارتباط كاتبه بخدمة أغراض الدوائر الاستعمارية. ثم عملت السلطات الاستعمارية بعد ذلك على تعميق المفاهيم المعارضة للخلافة الإسلامية , وتثبيت واقع التجزئة , وإقامة أنواع من الحكم المنفصل عن تطبيق الشريعة الإسلامية؛ وإيجاد مبادئ أخرى تقوم عليها مفاهيم الحكم في الشعوب المسلمة , وانهارت بذلك الأمة الإسلامية , وفقد المسلمون ما كان لهم من هيبة في نفوس أعدائهم , الطامعين بهم وبخيراتهم وبلادهم. وابتكروا لذلك عقاقير منع الحمل المؤقت والدائم , وسهلوا العمليات الجراحية للتعقيم , ونشروها نشراً كبيراً. وتحاول هذه النظريات الاقتصادية المقرونة بفروض التكاثر العددي للبشر أن تقنعنا بضرورة الأخذ بفكرة تحديد النسل , في الوقت الذي يسعى فيه اليهود أصحاب النظرية بكل جهدهم لزيادة أنسالهم في إسرائيل , ويشجعون رجالهم ونساءهم على الإنجاب بمختلف الحوافز. كما يسعى البابوات لزيادة أنسال النصارى في البلاد الإسلامية , لتزيد أعدادهم على أعداد المسلمين. وقد حرم البابا "شنودة" على شعب الكنيسة في مصر استعمال حبوب منع الحمل. وتدفع أجهزة الدوائر المعادية للمسلمين عملاءها لنشر هذه الفكرة بينهم , أو تشجيعهم على الأخذ بها , في خطة بالغة الكيد. (7) مكيدة تحديد النسل وفي محاولة ماكرة لإيقاف نشاط تكاثر المسلمين عن طريق التناسل , أطلق دهاة الغزاة بين المسلمين نظريات اقتصادية تتعلق بنسبة تزايد الموارد الغذائية

ومقارنتها بنسبة التكاثر العددي للبشر , وتفيد هذه النظريات أن المجموعة الإنسانية لا بد أن تتعرض إلى مجاعة واسعة النطاق , ما لم تلجأ إلى وضع برنامج تحدد فيه أنسالها , حتى يتناسب تزايد الموارد الغذائية مع تكاثر الأعداد البشرية. في حين نجد بعض الدول المعادية التي تريد أن يحدد المسلمون أنسالهم , تلجأ إلى تشجيع الاستزادة من النسل بين شعوبها , ليكثروا ضمن نظام سلسلة هندسية , وليوقف المسلمون تكاثرهم ضمن نظام سلسلة عددية , ولا يخفى ما في هذا من كيد ظاهر للأمة الإسلامية. ونحن المسلمين لا نرى الأخذ بفكرة تحديد النسل على المستوى العام , مهما كانت المبررات لذلك من وجهة نظر المادية الاقتصادية , وذلك لعدة أسباب: أسباب عدم أخذنا بفكرة تحديد النسل السبب الأول: أن الأخذ بهذه الفكرة يضر بمصلحة الطاقة البشرية التي نملكها , ويجب أن نملكها بتكاثر مستمر , في مقابل الأعداد البشرية التي تقذف بها الأمم الأخرى , وإن الحد من تكاثر الطاقة البشرية بالسلالات الإسلامية ,

ليؤثر على كيان حجم المسلمين في العالم بالنسبة إلى غيرهم من الأمم. السبب الثاني: أن رقعة الأرض التي يملكها المسلمون في العالم , وما فيها من خيرات دفينة وطاقات غذائية قابلة للتفجير والاستثمار. تنادي بحاجتها إلى فيض من الطاقات البشرية , لاستثمارها , ولحمايتها , والانتفاع بخيراتها , وإلا كانت مطمع الطامعين الكثيرين من الأمم والشعوب التي تتكاثر بنسب رهيبة. والواجب المنوط بإرادة المسلمين في العالم الإسلامي , والمنوط بطاقاتهم الإنتاجية , هو النهوض بوثبة إنتاجية اقتصادية تشمل مرافق حاجات الإنسان إلى الغذاء والكساء , والمسكن والدواء , والأدوات والإناء , وإعداد المستطاع من القوة. والواجب في هذه الوثبة يتطلب تعاون المسلمين في مختلف ديارهم وأقطارهم على الإنتاج والاستثمار , فأرضهم مليئة بالخيرات , مشحونة بمختلف الطاقات , تنادي: أيها المسلمون , اعملوا واستثمروني , أعطكم خيراً كثيراً , وأفيض عليكم فيضاً كبيراً , ولن أشح عليكم ما عملتم في استثماري , واستنتاج خيراتي , فإذا فعلتم ذلك كنت لكم سكناً وجنات , وحصناً ومنبع خيرات. فلدى المسح الجغرافي يتبين لكل ناظر أن رقعة الأرض التي يملكها المسلمون في العالم _ بحسب واقعها الحالي ومن غير حاجة إلى ابتكارات كثيرة وحلول سكينة واقتصادية فوق العادة _ مستعدة لاستيعاب أضعاف مضاعفة من أبناء المسلمين , وسلالاتهم , ومستعدة لإمدادهم بمختلف حاجات الحياة. فلتأخذ الشعوب والأمم الأخرى بما شاءت من أفكار لتحديد نسلها , وإيقاف نشاط سلالتها , لكن هذه الفكرة ليست في مصلحة المسلمين , ولا في مصلحة محافظتهم على أرضهم وحمايتهم لها من غزو الطامعين من ذوي الحاجات الاقتصادية , والأطماع الاستعمارية. السبب الثالث: أن المسلم حين ينجب ويرعى من ينجبه بالتربية الإسلامية , يشعر بأنه يمد جيش المسلمين في العالم بجندي من جنود الله , وأنه

بذلك يقوم بأحد واجبات الجهاد في سبيل الله لأن إمداد جيش الجهاد بالمال أو بالرجال أو بالعتاد كل ذلك من الجهاد. ولذلك حث الرسول صلوات الله عليه على الزواج من المرأة الودود الولود , ليكاثر الأمم بالسلالات الإسلامية , روى أبو داود والنسائي عن معقل ابن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم" حديث صحيح بوجه عام. ولجملة هذه الأسباب الثلاثة السابقة , نرى أن حمل الأمة الإسلامية أو تشجيعها على تطبيق فكرة تحديد النسل جريمة بحق هذه الأمة , لا يقوم بها إلا جاهل بالحقيقة غافل عن النتائج , أو ساقط في شبكة مكيدة من المكائد الكبرى التي تدبر ضد المسلمين , للحد من تزايد طاقاتهم البشرية. ومشكلة التكاثر البشري المخيف ليست موجودة في واقع المسلمين بالنسبة إلى واقع الرقعة الأرضية التي يملكونها في العالم , إنما هي موجودة في شعوب أخرى من العالم , فإن كانت هذه الشعوب تشعر بالمشكلة فليفكر قادتها بما شاؤوا من تطبيقات لتحديد أنسالهم , فنحن لا مصلحة لنا في الأمر. وتعقد مؤتمرات عالمية لحمل الشعوب أو تشجيعها على تحديد النسل , ومن الخير لنا أن لا نشترك في أي منها. السبب الرابع: أن للمسلمين مذهبهم الخاص في مفاهيم الحياة , كما أن لهم عقيدتهم الخاصة في قضايا الرزق وقانون التوازن في هذا الكون: الرزق: أما الرزق فهو في عقيدة المسلمين مضمون للإنسان عن طريق كسبه بمختلف وسائل الكسب المأذون به شرعاً , وذلك بنسبة عمره المقدار له في الحياة , بل هو مضمون لكل كائن حي حتى أجله المقدر له , والرزق أعظم المشكلات التي تحاول حلها فكرة تحديد النسل , بحسب وجهة نظر المادية الاقتصادية , فالله تبارك وتعالى يقول في سورة (هود / 11 مصحف / 52 نزول) :

{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} . ويقول سبحانه في سورة (العنكبوت / 29 مصحف / 85 نزول) : {وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . ويقول سبحانه في سورة (الذاريات / 51 مصحف / 67 نزول) : {وَفِي السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} . ففي هذه النصوص تقرير لحقيقة من حقائق التكوين المتممة لظروف هذه الحياة وشروطها ضمن مقادير آجالها , وضمن حدود الغاية منها , وهي ابتلاء الإنسان في هذه الحياة الدنيا , وهذا الابتلاء معلن بقول الله تعالى في سورة (الملك / 67 مصحف / 77 نزول) : {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} . وإذ نهى الله تبارك وتعالى الأولياء المنفقين عن قتل الأولاد من إملاق أعلن عن تكلفه برزقهم ورزق أولادهم مرتين: أ - ففي أحد النصين أعلن الله تكفله برزقهم , وعطف عليه تكلفه برزق أولادهم , فقال تعالى في سورة (الأنعام / 6 مصحف / 55 نزول) : {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ.... *} . أي: لا تقتلوهم لتتخلصوا من النفقة عليهم بسبب ما أنتم فيه من واقع فقر , فالله كفيل إذا توكلتم عليه وقمتم بما يجب عليكم من كسب أن يزرقككم ويرزقهم عن طريقكم. ب- وفي النص الآخر أعلن الله تكلفه برزق الأولاد وعطف عليه تكلفه برزق أوليائهم المنفقين عليهم , فقال تعالى في سورة (الإسراء / 17 مصحف / 50 نزول) :

{وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} أي: لا تقتلوهم لتتخلصوا من النفقة عليهم خشية أن تصابوا في المستقبل بالفقر بسبب النفقة عليهم , فالله كفيل بأن يرزقهم ويرزقكم إذا نفدت النفقة التي في أيديكم , وقد يكون رزقهم بسببهم , أو عن طريقهم إذا كبروا. ولما كان الباعث هنا خشية حدوث الفقر لا واقع الفقر كان الإعلان مشتملاً على تقديم رزق الأولاد على رزق أوليائهم الذين ينفقون عليهم , لأن الأمر هنا يتعلق بالحذر من المستقبل المجهول , وفيه شك بالله ووعده , ومقادير رزقه , وفيه تخلٍ عن واجب التوكل عليه تبارك وتعالى , بخلاف الحالة الأولى فإن واقع الفقر وما فيه من آلام يحدث اضطراباً في النفس والفكر قد يغشي على ثوابت الإيمان وركائزه وتصوراته , فيجعل صاحبه يتصرف تصرف غير المؤمنين , لذلك كان بحاجة إلى ما يزيل الغشاوة عن نفسه وفكره , فتبين له حقيقة من حقائق الإيمان , وهي: أن الله يزرقه ويرزق أولاده , فلا داعي للتخلص من واجب النفقة عليهم , ومن واجب السعي لاكتسابها كما أمر الله , فالقضية واجب اجتماعي مضمون النتائج بكفالة الخالق الرازق. تقدير الأقوات: والله تبارك وتعالى إذ قضى بأن يخلق عالم الحيوان في الأرض , وإذ جعل حياة الحيوان منوطة بقوته , جعل الأرض مستودعاً لأقوات الأحياء المقضي لهم بأن يحيوا فيها إلى أن تقوم الساعة , ضمن حدود الآجال المقدرة لها في قضاء الله وقدره. وما على الناس إلا أن يهتدوا إلى مفاتيح أبواب هذه المستودعات , لتتدفق عليهم خيرات الأرض , ما في برها وأعماقها وجبالها وبحارها وسمائها من أقوات. فقضية الأقوات قضية مقدرة بقضاء الله حسب حاجة الأحياء المقضي لهم أن يحيوا على هذه الأرض , وبمقدار أعمارهم المقدرة لهم , وهي في عقيدة

المسلمين قضية مضمونة بتقدير الخالق الرازق المقيت , وما على الحي إلا أن يسعى لاكتساب قوته وقوت من هو مكلف بالنفقة عليه , وما على الجماعات البشرية إلا أن تحتال لاستخراج الأقوات من مستودعات الأرض وخزائنها , وهذه الحقيقة معلنة في قول الله تعالى في سورة (فصلت / 41 مصحف / 61 نزول) : {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ} فهذا النص القرآني يبين بياناً واضحاً أن الله قد بارك في الأرض وقدر فيها أقوات أحيائها تقديراً سواءً السَّائلين , أي: تقديراً مستوياً بإحكامٍ تام , وهذا التقدير المستوي لأجل السائلين , وهم طالبوا أقواتهم من خزائنها , ولا يطلب القوت إلا حي تتوقف حياته عليه. فقضية تقدير الأقوات في خزائن الأرض قضية مفروغ منها , فلا خوف من نقص الأقوات بالنسبة إلى كل كائن حي قضى الله أن يحيى في الأرض إلى أجل , ولكن بشرط الكسب والعمل وإعمال الفكر للوصول إلى مفاتيح خزائن الأرض. وحين يسعى الحي لكسب قوته فلا يجده فإن عمره في الحياة قد انتهى , وإن أجله قد حلَّ , وإن حرمانه من القوت هو السبب الذي اختير في القضاء والقدر لموته , وموته بإمساك القوت عنه كموت غيره بعلة مرضية , أو بسكتة قلبية , أو بحادثة قاتلة , أو بحروب طاحنة , أو بتعذيب بأيدي ظلمة , أو بدون أية علة ظاهرة. هذه هي عقيدة المسلمين , فلا مبرر عندهم للخوف من تكاثر السلالات , واللجوء إلى تحديد النسل من أجل قضية القوت , فالله على كل شيء مقيت , أي: هو مهيمن ومدبر ومقيت لمن وهبه الحياة وهو بحاجة إلى القوت لاستمرارها قال الله تعالى في سورة (النساء / 4 مصحف / 92 نزول) : {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً} .

شروط الكسب: وإذ ضمن الله للناس أرزاقهم , وقدر في الأرض أقواتهم وأقوات كل كائن حي فيها , فقد جعل تحصيل أقواتهم وأرزاقهم منوطاً بالكسب والمشي في مناكب الأرض المختلفة , بحثاً عن أرزاقهم وأقواتهم , وأودع في كل كائن حي غريزة البحث عن قوته. ولئلا يفهم المسلمون من معنى التوكل على الله القعود عن كسب الأرزاق والأقوات أمرهم الله تعالى بالمشي في مناكب الأرض , ليأكلوا من رزقه , فقال تعالى في سورة (الملك / 67 مصحف / 77 نزول) : {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} والمشي في مناكب الأرض يشمل كل أنواع البحث عن خزائن الرزق المتيسرة بالتناول المباشر , والمدفونة في التراب التي يمكن استنباطها بالزراعة , وتوليدها بالتربية الحيوانية , والتي يمكن استنباطها بأية وسيلة أخرى باستطاعة الإنسان أن يخضعها لإرادته , كالتحليل والتركيب بالوسائل الكيميائية , وغير ذلك مما يمكن أن يكتشفه الإنسان بالبحث العلمي , وفي حدود هذه الدائرة , تقع مسؤولية الناس أفراداً وجماعات في هذا المجال. ويرتبط بتقدير الأقوات ما يلاحظ في الكون من سنة الله في ضابط التوازن. ضابط التوازن: فمما هو ملاحظ في سنن الله في كونه ما يمكن أن نسميه (ضابط التوازن) وهذا الضابط يهيمن على الوجود كله. وبضابط التوازن تنحل كل مشكلة يعجز الإنسان عن حلها بالوسائل التي يستطيع استخدامها , وبضابط التوازن بين الأحياء وأقواتهم في الأرض تنحل أية مشكلة يقدر الاقتصاديون أنها ستواجه المجموعات البشرية , حين

يتضاعف عدد الناس ضعفاً وأضعافاً كثيرة عما هم عليه الآن , إذ يقدرون أن عددهم سيصل في عام ألفين إلى ستة أو سبعة مليارات نسمة , وسيصل في عام ألفين وخمسين إلى اثني عشر مليار نسمة. فمن أجل كل الأسباب التي سبق بيانها فإن المسلمين المؤمنين بعقائدهم الإسلامية , والمدركين لواقع كتلتهم البشرية ضمن الكتل البشرية الأخرى , يرفضون رفضاً باتاً كل محاولة لحمل جماهير المسلمين أو تشجيعهم على تحديد أنسالهم , وإيقاف نشاط تكاثر سلالاتهم , ويعلمون أن بث هذه الفكرة في مجتمعاتهم يحتوي على مكيدة مدبرة ضد حجمهم الثقيل في العالم , يكيدهم بها أعداؤهم وأعداء دينهم. مكر وكيد لتحديد أنسال المسلمين بجرائم الأطباء أو أوامر السلطة: ومن الأعمال الكيدية التي قام بها أعداء الإسلام ضد تكاثر شعوب الأمة الإسلامية ما يلي: الأول: اتخاذ الوسائل الظاهرة أو الخفية لإسقاط الأجنة من أرحام الحوامل من المسلمات , أو تعقيمهن , عن طريق الأطباء غير المسلمين الذين يعالجون نساء مسلمات حوامل , أو يردن أن يحملن , فيرتكبون جرائم الإجهاض أو التعقيم سرّاً دون أن يكونوا عرضة للإدانة القضائية. الثاني: الإكراه عن طريق السلطة ومن الأمثلة قانون الطوارئ الذين أعلن في الهند عام (1975م) الذي جاء في بنوده عن طريق السلطة ومن الأمثلة قانون الطوارئ الذين أعلن في الهند عام (1975م) الذي جاء في بنوده إجبار المسلمين على التعقيم , ومن يخالف هذا القانون تطبق ضده أقصى العقوبات. ولما أفتى أحد العلماء بتحريم التعقيم قتل وأحرق أمام الناس. وقد ألغي هذا القانون سنة (1982م) تحت تأثير احتجاجات المسلمين الشديدة في العالم. * * *

الفصل العاشر الغزو بفكرة القومية

الفصْل العاشر الغزو بفكرة القوميّة 1- خطة وأهداف. 2- مغالطة جدلية. 3- موقع الشعب العربي بين الشعوب الإسلامية الأخرى. 4- تقبل المبادئ الأخرى بعد التفريغ بفكرة القومية. 5- الأمة العربية بعد الإسلام وقبله.

(1) خطة وأهداف

(1) خطة وأهداف في خطة ملء الفراغ أو مزاحمة مالئ الفراغ وإزاحته، أراد أعداء الإسلام أن يضعوا محلّ المبادئ الإسلامية مبادئ أخرى، ليصرفوا المسلمين عن مبادئهم صرفاً كلياً. فزيفوا لهم شعاراتٍ حسنوها في نظرهم بزخرفٍ من القول، وبدغدغة نزغات أنانيّةٍ تنشأ في الناس مع نشأة مجتمعات جاهلية بدائية، وهذه الشعارات لا تحمل من المقومات الفكرية ما يجعلها جديرة بتوحيد أمة، وتفجير طاقاتها إلى مجدٍ عظيم بين أمم الأرض. إن المسلمين تجمعهم وحدة دينية ذات مقومات فكرية وعاطفية وتاريخية، وذات هدف أسمى يسعى إليه كل فرد مسلم، وهو يجني بعض ثماره في هذه الحياة الدنيا، ويدخر القسم الخالد منها إلى الحياة الأخرى، حياة الخلود في دار الجزاء. وقد عمل أعداء الإسلام على تفتيت هذه الوحدة الدينية الكبرى بمختلف الوسائل فلم يظفروا، إلى أن عثروا على السلاح الخطير القادر على تفتيت وحدة المسلمين، مع ضعف الإسلام فيهم، إنه سلاح القومية، إنه المتفجر الهائل الذي يفرق المسلمين إلى قوميات شتى، ويعيدهم إلى أصولهم الأولى التي كانوا عليها، قبل أن تجمع بينهم الوحدة الإسلامية الكبرى. وعلى إثر التفرق بين المسلمين على أساس قومي ستنمو عوامل الشقة فيما

بينهم، وستعمل مجموعة من الأحداث التاريخية على تعميم الفرقة، وترسيخ قواعد السدود بترسبات تصطنعها العصبيات القومية، وبعض الخلافات السياسية والاقتصادية. ولكن القضية تحتاج إلى تجنيد جنود كثيرين يحسنون استخدام هذا السلاح، ويعملون على بث الفكرة القومية بين صفوف المسلمين، وقد استخدم أعداء الإسلام للوصول إلى هذه الغاية عدة وسائل: 1- فكان منها أولاً العمل على هدم الخلافة الإسلامية، بإثارة نزعة القومية العربية، مستفيدين من الأخطاء الكثيرة التي انتهى إليها الحكم التركي، بفعل الدسائس اليهودية والأوربية التي أوحت بهذه الأخطاء، وأسهمت في انتشارها، ثم عرفت كيف تستفيد منها بتحريض القوميات غير التركية على السلطان التركي، ومنها الأمة العربية. وكانت الخديعة الكبرى التي انزلقت فيها الشعوب العربية تحت شعار التحرر القومي، والتي انتهت بهم إلى التجزئة، وكانت هذه الخديعة سلّماً للمستعمرين حقق لهم فرصتهم الذهبية لفرض حكمهم المباشر على المجزءات العربية، فحكموها وأمعنوا في تجزئتها متابعة منهم للخط القومي الضيق، الذي يفصل هذه الأمة عن وطنها الأم الكبير، ألا وهو الوطن الإسلامي الواحد في مبادئه وعقائده وشرائعه وعاداته وتاريخه الطويل المجيد، وأسرع أعداء الإسلام يتناهبون التركة التي خلّفتها الخلافة الإسلامية بعد قتلها. ووقعت المصيبة التي دبرها للمسلمين أعداؤهم، وتحققت النتيجة التي كان قد ذكرها من قبل الكولونيل (لورانس) في عام 1916م إذ قال في تقريره للمخابرات البريطانية: "إن أهدافنا الرئيسة تفتيت الوحدة الإسلامية بدحر الامبراطورية العثمانية وتدميرها، وإذا عرفنا كيف نعامل العرب فيسبقون في دوامة الفوضى السياسية داخل دويلات صغيرة حاقدة متنافرة غير قابلة للتماسك". 2- وكان من هذه الوسائل أيضاً العمل على تأسيس الأحزاب القومية الضيقة

حيناً، والواسعة حيناً آخر، فمن الضيقة: الأحزاب التي أخذت تنادي بفكرة القومية السورية مثلاً، ومن الواسعة: الأحزاب التي حملت شعار القومية العربية، وكثيرٌ منها مؤسس في جذوره العميقة على خدمة أغراض أعداء الإسلام، وإبعاد الجماهير العربية عنه. وقد تم تركيز الهدف في هذه الخطة على الأجيال المثقفة بالثقافات المعاصرة، وعلى أبناء الطوائف المنعزلة ضمن جسم المجتمع الإسلامي الكبير. 3- وكان من هذه الوسائل استئجار كبار الكتاب والمفكرين وأصحاب الأقلام لإثارة النزعات القومية، التي إذا اتسعت شملت الأمة العربية، وإذا ضاقت كانت منحصرة في إقليم خاص، كالفرعونية، والسورية. 4- وكان من هذه الوسائل أيضاً بث الإشاعات الكاذبة، التي تثير في الجماهير العصبيات القومية، وتحكم بناء الحاجز الكثيف بين أبناء القوميات المختلفة وأبناء شعوب القومية الواحدة الذين يدينون بشريعة الإسلام. 5- وكان من هذه الوسائل إحياء الجاهليات القديمة، وتمجيد بطولاتها، ورفع شأن العناصر غير الإسلامية عبر تاريخ المسلمين، والاهتمام بدراسة آدابهم وآداب العصور الجاهلية في الجامعات وما دونها من معاهد ومدارس للصدّ عن الإسلام والمسلمين، وغرس فسائل الولاء لغيرهم في نفوس أبناء وبنات المسلمين. ولم يتنبه معظم المسلمين إلى هذه المخططات المحكمة الدسائس حتى وجدوا أنفسهم فريسة تنشب فيها مخالب أعدائهم وأعداء دينهم.

(2) مغالطة جدلية

(2) مغالطة جدلية قامت مغالطة جدلية حول القومية والإسلام، وكانت محكمة التركيز من قبل العدو الغازي، وقد اعتمدت هذه المغالطة على مجموعة من الأسئلة أهمها الأسئلة التالية: 1- هل القومية تتعارض مع الإسلام؟ 2- هل حارب الإسلام القوميات؟ 3- هل نستطيع أن نتعايش مع من لا يدينون بالإسلام من العرب؟ وأشباه هذه الأسئلة: وقد انطوت هذه الأسئلة على مكر شديد، يعتمد على المغالطة في المفاهيم، وذلك لأن القومية كما يريدها أعداء الإسلام في قلوب المسلمين، ومثلهم بالنسبة إليها وبالنسبة إلى المفاهيم الأخرى المضادة للإسلام، كمثل من يأتي إلى كأس مملوءة لبناً خالصاً سائغاً للشاربين، فيطرح فيها حصاة فحصاة، وحفنة فحفنة من الرمل، ليخرج من اللبن بمقدار ما طرح فيها من رمل أو حصى، حتى يملأها بما يريد فتفرغ آلياً مما لا يريد وهذا ما يغذون به أتباعهم وحملة فكرتهم، ولكنهم عند الجدل مع المسلمين يغالطون في المفهوم الذي أرادوه للقومية، وينتحلون مفهوماً آخر يقره الإسلام، ولا يتعارض معه، ليظفروا بسكوت المسلمين عنهم وعدم مقاومتهم لفكرتهم. أمام مفهوم القومية الذي يريدونه، ويوسوسون به إلى أتباعهم وحملة فكرتهم، فهو يعتمد على عناصر عصبية عرقية، تكتفي بأن تجمع الأفراد المنتسبين إليها على أساس العرق، وحينما صدمتهم حقيقة الكيان الإنساني، وأنه ليس مجرد كائن جسدي تحكم الصلة العرقية رباطه، أضافوا إلى مفهوم الصلة على أساس العرق مفهوم الاشتراك في لغة التخاطب، ومفهوم الاشتراك في التاريخ، ومفهوم الاشتراك في المشاعر من آلام وآمال. وعند كلامهم على الاشتراك في التاريخ يحاولون أن يحبوا التاريخ القومي

قبل الإسلام، وأن يجعلوا له لوناً من ألوان المجد، وقد يستشهدون ببعض الأبطال من المسلمين، ولكن في أحوال نادرة وللتمويه بذكرهم، ومع ذلك فهم لا يستشهدون بهم على أساس كونهم حملة رسالة ربانية، وإنما يستشهدون بهم على أساس أنهم ينتسبون من الناحية العرقية للقومية الخاصة. ويحاولون أيضاً أن يميتوا كل مجد كان بسبب الإسلام، ويوسعون الدائرة في ضرب أمثلة من قوميين غير مسلمين، ويحاولون أن يلبسوهم تيجان مجد علمي أو أدبي أو بطولي لا يستحقونه في مقاييس المقارنات المادية. وعند كلامهم على الاشتراك في المشاعر بين أتباعهم يذكرون لهم آلام التفرقة على أساس الدين، وآلاماً تاريخية أصابت القومية بسبب تسلط قومية أخرى عليها باسم الإسلام، وقد يدمجون فيها آلام تسلط المستعمرين على البلاد، ويدخلون في ضمن المستعمرين كل من حكم القوم من غيرهم مسلماً كان أو غير مسلم. وكل هذه المفاهيم التي يبثونها بمكر بالغ تزاحم في نفوس ملتزميها الجاهلين أو الغافلين العقيدة الإسلامية، وتحل محلها، فيمسي ملتزمها فارغاً من الإسلام ممتلئاً بها، وحينما يكتشف بالتطبيقات المتتابعة أنها تعارض الإسلام من أساسه، ويجد نفسه فارغاً من كيان فكري أصيل، ومنغمساً في شهوات آسرة لا يرضاها الإسلام، يضطر أن يسلك مسلك الإلحاد بالله، واللجوء إلى مذاهب إنسانية أخرى منسجمة مع مسلك الإلحاد، لتملأ فراغه النفسي والفكري، أو يرده وجدانه إلى الحق، فيرفضها ويعود إلى حظيرة الإسلام. أما مفهوم القومية الذي لا يتعارض مع الإسلام، ويغالط أعداء الإسلام به، فهو المفهوم الذي يدل عليه قول الله تعالى في سورة (الحجرات/49 مصحف/106) : { ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} . فالاختلاف بين الناس على أساس الذكورة والأنوثة شيء اقتضته سنة الله في التناسل وتوزيع الخصائص في الحياة، والاختلاف بين الناس على أساس

(3) موقع الشعب العربي بين الشعوب الإسلامية الأخرى

الشعوب والقبائل شيء اقتضته طبيعة التقسيم للتعارف فقط، لا ليكون أساساً للتناكر والتخالف والعصبيات. وفكرة الجماعة الإنسانية في الإسلام يحددها صدر الآية: {ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى} أي فكلكم من عرق واحد، ويحددها أيضاً قول الرسول: "كلكم لآدم وآدم من تراب" وغير ذلك من نصوص كثيرة. وقد استطاع الغزاة وأجراؤهم أن يفجِّروا في صفوف المسلمين بهذه المغالطة الدائرة حول القومية والإسلام قنبلة ماكرة من قنابل التحويل الاعتقادي، وقد استطاعوا أن يستروا هذه القنبلة أول الأمر بالعقلانيات والفلسفات والغيبيات التي ليس لها أساس صحيح. (3) موقع الشعب العربي بين الشعوب الإسلامية الأخرى اختار الله الأمة العربية لتقوم بدور تاريخي تحمل فيه مجد الإسلام، وتحتل فيه الصف الأول الذي يقود معركة تحرير الإنسان من الوثنيات الفكرية والظلم الاجتماعي، وبناء حقيقة الإيمان بالله في عقول الناس وقلوبهم، وإقامة شرائعه التي أنزلها على رسوله محمد، واختار اللغة العربية لينزل بها كتابه المعجز الخالد، الذي تكفل بحفظه وصيانته من أن تعبث به أيدي التغيير والتحريف. كان هذا الاختيار الرباني بينما كانت الأمة العربية في وضع فكري واجتماعي يجعلها أبعد ما تكون عن مسايرة ركب الحضارات التي كانت عليها الأمم الأخرى، فضلاً عن أن تقود الأمم إلى حضارة عظمى، هي في مركز القمة بين الحضارات المختلفة الفكرية والواقعية. وتمت معجزة التحويل المفاجئ التي أجراها الله على يد خاتم رسله محمد صلوات الله عليه، فاجتمع متفرق الشعب العربي بسرعة تاريخية مذهلة، وارتقى في سلم المعرفة، واحتل مركز القيادة، وامتد على قلة عدده وعُدده فاتحاً العالم بحضارته الجديدة، التي كان دوره فيها مطبق التعاليم الإلهية، لا دور

مبتكر النظم، ومجرب الحياة، وانطلق باذلاً كل طاقاته، مستمداً من الله التأييد والعون والنصر، وكان له مجد هذا الاصطفاء الرباني، إنه اصطفاء بالرسالة، إذ اختار الله من هذا الشعب خاتم رسله، واصطفاء بالكتاب، إذ أنزل بلغة هذا الشعب خاتمة كتبه للناس، واصطفاء بالقيادة، إذ جعل من هذا الشعب المسلمين الأولين الذين احتلوا الصف الأول الذي قاد حركة الفتوحات في دنيا الناس، وأخذ أول جائزة من جوائز شرف الشهادة على الناس بتبليغ شريعة الله للناس بعد الرسل، فكانوا أول من تحقق فيهم قول الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً....} فيأتون يوم القيامة شهداء على الناس بتبليغ دين الله، ويأتي الرسول شهيداً عليهم، ويأتي رسول كل أمة سلفت فيشهد عليها. هذه هي حقيقة الأمة العربية، ولكن حاول دعاة القومية من أعداء الإسلام أن يحوروا هذه الحقيقة، فيجعلوا كل المجد الذي نالته الأمة هو ما ظفرت به من دولة كبرى وتقدم حضاري مادي، وأن يجعلوا ذلك ثمرة من ثمار القومية العربية، بمعنى أن العناصر العرقية الراقية، التي كانت أيام الجاهلية هي التي تفاعلت فأنتجت قائداً عبقرياً هو محمد، الذي استطاع في دوره التاريخي أن يقود هذه الأمة إلى مجد تاريخي وباستطاعة هذه العناصر العرقية المستمرة أن توجد في كل عصر عبقرياً جديداً مثل محمد. إن هذا الكلام ينطوي على حيلة ماكرة تجذب إليها غرور الشباب، الذي يحلم بأن ينبغ في هذه الأمة قائد مجد جديد، وهذه الحيلة تضيف إلى حلم الشباب المقبول عنصراً جديداً مفسداً، إذ تدس فيه أن يحمل هذا القائد الجديد أسساً عصرية غير الأسس الدينية التي حملها محمد من قبل، وتتسع دائرة هذه الحيلة حتى تجعل رسالة محمد عملاً إنسانياً بحتاً، ويكفر المنخدعون بها برسالة محمد الربانية، ويقبلون أفكاراً زائفة مباينة للحقيقة المماثلة في وجه التاريخ، وفي وجه كل دراسة منصفة تنشد الحقيقة.

(4) تقبل المبادئ الأخرى بعد التفريغ بفكرة القومية

ثم يتابع دعاة القومية من أعداء الإسلام تحوير حقيقة الواقع التاريخي للعرب من قبل الإسلام ومن بعد الإسلام، فيحاولون بفلسفاتهم الباطلة المموهة بحيل من زخرف القول أن يقنعوا أتباعهم من الشبان الطائشين بأن القرآن كتاب صنعته الأمة العربية من قبل، بما لديها من عناصر عرقية راقية، وباستطاعة هذه الأمة أن تصنع في كل عصر كتاباً جديداً يناسب ما تتطور إليه العصور، وتدور هذه الشبهة في نفوس الشبان الذين لم يتزودوا من المعارف الإسلامية الصحيحة، وتتمكن في نفوس بعض المغرورين الطامحين المنغمسين في أوحال مغريات أعداء الإسلام، فيحملون هذه الفكرة بحرارة وقناعة واندفاع. وبعد أن يزحزح أعداء الإسلام بدعوة القومية العقيدة بأن محمداً رسول الله، وبأن القرآن كتاب منزل من عند الله، لا بد أن يسهل عليهم تفسير كل مجد حصل للمسلمين في تاريخهم الطويل بأنه أثر من آثار انطلاقة القومية العربية إلى المجد، بطاقاتها العرقية الأصيلة، التي تمتاز على الأعراق الأخرى بقوى الإبداع والابتكار، وتمتاز عليها بالبطولات. وبهذه الفلسفة الباطلة، التي لا يدعمها من الواقع دليل تقبله العقول؛ يهيلون آخر كوم ترابي على ما يريدون وأده حياً من إسلام وعروبة معاً، في نفوس الذين يستجيبون لهم. (4) تقبّل المبادئ الأخرى بعد التفريغ بفكرة القومية على إثر وأد الإسلام في نفوس حملة فكرة القومية العربية على الوجه الذي خطط له العدو الغازي، لا بد أن يجد الفرد من هؤلاء القوميين نفسه فارغة من المقومات الفكرية والروحية والنفسية والعاطفية الحقيقية، التي تصلح لأن ترتقي به وبقومه إلى قمة حضارية بين الأمم الأخرى، ذات السبق العلمي، والسبق المدني، والسبق العسكري، والسبق السياسي، إلى مختلف أنواع السبق الذي لا

يستطيع جيله أن يسايرها، بالنظر إلى الإمكانات المادية والبشرية التي يتمتع بها الواقع العربي الحاضر. وحينما يجد هذا الإنسان القومي نفسه فارغة هذا الفراغ الظامئ الطالب للامتلاء، فإنه سيلجأ ضرورة إلى أن يرتمي في أحضان السابقين من شرقيين أو غربيين، ثم تهون في نفسه نزعة القومية شيئاً شيئاً، وهي التي بها أزاح العدو الغازي الإسلام من قلبه، بعد أن عمل على توهين قيمة الإسلام لديه، وعند ذلك سيصبح أجيراً تابعاً من أجراء أعداء دينه وقوميته معاً. هذه هي الحيلة الحديثة الخبيثة التي خطط لها أعداء الإسلام في صفوف المسلمين العرب غير العرب، ليجهزوا على الإسلام بسلاح القومية، ثم ليجهزوا على القوميات بأسلحة المبادئ الأخرى التي لا تستطيع القوميات أن تقف أمامها، لأنها غير ذات محتوى فكري ونفسي وسلوكي يستمر مع الزمن، إنما هي عاطفة مؤقتة، ونزوة عابرة، تغري بأهداف براقة وهمية، ثم لا تلبث حقبة مع الزمن حتى ينكشف زيفها، فهي بمثابة الأشكال السحرية التي لا وجود لها إلا في حالة الخداع البصري، الذي يوجده الساحر الماهر بأعماله المؤقتة، وحينما ينتهي الساحر من نفثاته يظهر كل شيء على حقيقته، ويبدو ما كان على ما كان. ولو أن أعداء الإسلام الذين خططوا لنشر فكرة القومية بين صفوف المسلمين بدأوا بنشر المبادئ المعدة لأن تكون هي الغاية المقصودة بالنشرة لتعثرت كثيراً، ولم تجد لها آذاناً سامعة، لأن الإسلام يمثل الدرع الحصين ضدها في نفوس أكثر المسلمين، وله في نفوسهم من الحجج القوية ما يدحضها، يضاف إلى ذلك تفوق الإسلام عليها بمبادئه الإلهية، التي تضمن للناس أوفر سعادة ترمي إلى تحقيقها النظم الإنسانية الوضعية بحسب ادّعاء أصحابها، مع المحافظة على أرقى فلسفة واقعية إصلاحية عرفها التاريخ، إنها الفلسفة الدينية والخلقية القائمة على أسس الإيمان بالله واليوم الآخر، والإيمان بالحساب والجزاء، والإيمان بشرائع الله لعباده، وهي الشرائع التي أنزلها في كتبه، وأمر رسله بتبليغها، وكلف عباده المؤمنين بالإسلام أن يحملوها ويبلغوها للناس أجمعين.

(5) الأمة العربية بعد الإسلام وقبله

هذا: وعلى دعاة الإسلام، وعلى كل مسلم عرف الحقيقة، أن يكشفوا للمسلمين هذه الحقائق التي أصبحت سافرة أكثر من أي وقت مضى، بعد أن كشف الأعداء الغزاة كثيراً من الأقنعة التي كانت على وجوههم، وباشروا بتطبيق المخططات السافرة لهدم الإسلام من أساسه، والسير في ركاب النظم والمبادئ التي أعدوها شرقيين أو غربيين للتطبيق على المسلمين. وأي تهاون في إصلاح ما فسد من فكر أو عمل سيعرض المسلمين في مختلف البلاد الإسلامية إلى الأسر الذليل الدائم في أيدي أعدائهم ويعرض دينهم ودين ذراريهم وأجيالهم القادمة إلى الزوال. ومتى صدق المسلمون مع الله، وعملوا بما فرض عليهم من جهاد بالقول والمال والعمل أيدهم الله بنصره على أعدائهم، وما النصر إلا من عند الله. (5) الأمة العربية بعد الإسلام وقبله لست أنكر أني عربي، فالعربية تجري في دمي ولحمي وعظمي، ولا أعرف من عرقي إلا أني عربي، إن جسدي يتصل بها نسباً وعرقاً، ولساني يتصل بها لغةً ونطقاً، أما أفكاري وعقائدي وما استقام من سلوكي فلا تمت إلى العربية الجاهلية بصلة، إنها هبة إسلامية، لم تعمل الأمة العربية فيها غير حسن التلقي، وحسن الاتباع، ودقة التبليغ، وحماسة النشر والتعليم على شعوب الأرض. ويريد أعداء الإسلام أن ينفثوا في نفسي وفي نفوس الشعب العربي المسلم قناعة بأن الإسلام بمبادئه وعقائده وشرائعه وأخلاقه وكمال دعوته قد كان صناعة عربية. وهل يصح في مقاييس العقول السليمة إنكار الحقائق التاريخية، التي تؤكدها كل الدلائل، وتثبتها جميع البراهين الفكرية والواقعية؟. أي مجد كان للعرب قبل أن يصنع الإسلام منهم أمة قائدة رائدة؟ نظرتُ في التاريخ فوجدت أن عروبة عمر بن الخطاب أثبت ألف مرة من عروبة دعاة

القومية العربية الأدعياء في هذا العصر، ومع ذلك فإن عمر بن الخطاب يقول: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العز بغير ما أعزنا الله أذلنا الله" وقد أقر عمر بن الخطاب على مقالته هذه سائرُ العرب الأقحاح، في عصره وبعد عصره، وهم الذين أسسوا للأمة العربية مجداً تاريخياً لم تحلم أمة من الأمم بمثله. لقد أقروه على ذلك، وما كانوا ليقرُّوه على خطأ، في حين أن امرأة استطاعت أن تراجعه في قضية المهور وهو على منبر الإسلام، وهو خليفة المسلمين، فأعلن في الحال كلمته المشهورة: "أصابت امرأة وأخطأ عمر، لولا امرأة لهلك عمر". وأدعياء العروبة اليوم، الذين لا يعرف لهم نسب متصل بالأمة العربية يريدون أن ينقضوا هذه الحقيقة التاريخية، التي أعلنها جيل الأمة العربية الذي عاصر الجاهلية والإسلام، وأعلنتها بقية الأجيال العربية التي توالدت من بعده. أما الأجيال العربية الجاهلية التي كانت قبل الإسلام فلم يتهيأ لها مجد أصيل يصح أن يفتخر به حتى تعلنه، غير بعض تقاليد وعادات حسنة متناثرة في مجتمعاتهم ورثوها عن الدين الرباني الذي جاءهم به من قبل إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام. إن الأمة العربية قد كانت وصارت كما وصف الله في كتابه بقوله تعالى في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول) : {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} . وكما وصف الله في كتابه بقوله في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول) : {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لقد كان واقع الأمة العربية في الجاهلية قبل الإسلام يتلخص بالعناصر التالية:

1- العداء بين القبائل والبطون العربية، وقد كان هذا العنصر عاملاً أساسياً من عوامل استمرار الحروب بين القبائل، والتي كانت تثيرها أحداث تافهة صغيرة. 2- تخلف سكان الجزيرة العربية اقتصاديا في مختلف المجالات الزراعية والصناعية، الأمر الذي جعلهم يركزون جل اعتمادهم على الثروة الحيوانية، وهذه مرتبطة ارتباطاً تاماً بعوامل الجدب والخصب، وقد أدى التخلف الاقتصادي إلى الفقر الذي ورَّثهم دوافع الغزو لتحصيل وسائل العيش. 3- تخلفهم الحضاري، الذي جعلهم مستضعفين في الأرض ومطمعا للإمبراطوريات المجاورة للجزيرة العربية، ونهباً مقسَّماً بينها، وتمثلها في تلك العصور الإمبراطوريات الثلاث، الفارسية والرومانية والحبشية. 4- انتشار العقائد الوثنية، والخرافات التي ليس لها أصل فكري يدعمها، وانتشار الفوضى الأخلاقية والاجتماعية، التي تعيش على النظم البدائية القبلية، وتأبى أن تخضع لنظام مدني حضاري عام، إلا بعض الأخلاق والعادات الكريمة النبيلة، وبعض أثارة دينية موروثة من ديانة إسماعيل عليه السلام، ومكتسبات قليلة آتية من الديانتين النصرانية واليهودية، اللتين كان لهما وجود غير واسع في الجزيرة العربية. وهذا الواقع هو الذي وصفه الله بقوله: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا} . ولما جاء الإسلام، وجمع هذه الأمة على مبادئه السامية، وألف بين قلوبها استطاعت أن تتحول من واقعها المتخلف، وترتقي بسرعة تاريخية مذهلة إلى قمة المجد الرفيع. وفي حال الأمة العربية قبل الإسلام وبعده قلت: بماذا تفخر العربية الجاهلية؟؟!!.. مَنْ كان قبل محمد في قومنا نحن العرب

علماً نفاخر فيه عند ذوي المفاخر في النسب الشامخين بعرقهم ممن تحضر أو غلب؟؟ أفبالملوكِ يتوجون بقصر قيصر ذي المكان؟ أم بالملوك يتوجون بقصر كسرى ذي الإوان أم بالمؤدين الضريبة للنجاشي في هوان؟ وجميعهم مستأجرون مستخدمون مذللون وفق الأوامر يحكمون ومراسم التمليك تصنع خارجاً وهناك بالإذلال تمهر. أبذاك نفخر؟ * * * من كان قبل محمد في قومنا نحن العرب علماً نفاخر فيه عند ذوي المفاخر في النسب الشامخين بعرقهم ممّن تحضّر أو غلب؟؟!! أبأنّ أبرهة الأمير على الجنوب المستبدّ القائد الحبشي عاث بأرض قومي لم يُردّ وأراد هدم أجلّ بيت عند قومي واستعدّ؟ أبضعفهم عن ردّه وبعجزهم عن صدّه حتى دنا من قصده؟؟ لولا تدارُك ربّ هذا البيت يحفظ بيته لرمى ودمّر أبذاك نفخر؟ * * * من كان قبل محمد في قومنا نحن العرب علماً نفاخر فيه عند ذوي المفاخر في النسب الشامخين بعرقهم ممّن تحضّر أو غلب؟؟!!

أبعنترٍ وهو الذي ما قاد نحو الفتح جيشاً؟ أم بالقبائل في الخيا وكلها لم تعلُ عرشاً؟ أم بالحروب استقطبت أسبابها جملاً وكبشا؟ وعموم قومي جاهلون لا يقرأون ويكتبون مستضعفون مشتتون إن تُذكر الدور الكبار أو الصغار فإن قومي ليس تذكر أبذاك نفخر؟ * * * من كان قبل محمد في قومنا نحن العرب علماً نفاخر فيه عند ذوي المفاخر في النسب الشامخين بعرقهم ممّن تحضّر أو غلب؟؟!! أفبالعلوم ولم يكن منها لهم وفْرُ النصيب؟ أم بالصناعة وهي عنهم كالشروق مع المغيب؟ أم بالبناء وما لهم أثرٌ تسجله الشعوب؟ أبأنهم لا يحسبون؟ ويهود فيهم يرتعون كم يسلبون وينهبون!! متعلّلين بأنهم إن يسلبوا قومي فما في الأمر منكر أبذاك نفخر؟ * * * من كان قبل محمد في قومنا نحن العرب علماً نفاخر فيه عند ذوي المفاخر في النسب الشامخين بعرقهم ممّن تحضّر أو غلب؟؟!! أبوأد بنتٍ طفلة لم تقترف ذنب الكبار؟

وتعصّب مستسخف لا عقل فيه ولا ادّكار؟ وبهضم حقّ للنساء وهضم حقّ للصغار؟ أم بالعبيد المحقرين في غير حرب يؤسرون هم بالعذاب يُسَخّرون؟ من يدعُ منهم للهدى والعدل بين الناس يزجر أبذاك نفخر؟ * * * من كان قبل محمد في قومنا نحن العرب علماً نفاخر فيه عند ذوي المفاخر في النسب الشامخين بعرقهم ممّن تحضّر أو غلب؟؟!! أبأنهم كانت لهم عزّى وكان لهم هبل؟ أبأنهم قد أشركوا بالله أحجار الجبل؟ أم أنّ من أربابهم تمراً إذا جاعوا أكل؟ وبذاك كانوا يفخرون وإلى الضلالة يهرعون ومع الجهالة يسخرون من نفحة قدسية للناس تدعوهم إلى: الله أكبر أبذاك نفخر؟ * * * من كان قبل محمد في قومنا نحن العرب علماً نفاخر فيه عند ذوي المفاخر في النسب الشامخين بعرقهم ممّن تحضّر أو غلب؟؟!! أبقوم لوط؟ أم بمدين؟ أم بعادٍ؟ أم ثمود وجميعهم بادوا بما اقترفوا وما اجترحوا الفساد

فانظر بلاداً دمّرت أو نكّست بين البلاد واستنطق الآثار واسأل رسوم الدار وابحث عن الدِّيار واستقرئ التاريخ عنهم تلقهم عبّاد معصية ومنكر أبذاك نفخر؟ * * * لا. لا والكتاب ومن أتمّه *** وأتى به للناس رحمة وأظلّ دنيانا بنعمةٍ *** ما فوقها في الكون نعمة بنبينا أحمد القائد المفرد المرسل الأمجد الطيّب المحتد....صلّى عليه الله * * * ما كان قبل محمد في قومنا نحن العرب مجدٌ نفاخر فيه إلا أن نلفّق بالكذب حاشا سليل المجد إسماعيل صهرهمو الأحب وأثارة من حكمة عنه استقرّت في العرب نحن بني العرب على طول المدا ما جاءنا يوم ونلنا سؤددا إلا بإسلام حمانا وهدى تاريخنا ومجدنا لقد بدا مذ أرسل الله لنا محمداً.... صلّى عليه الله. * * *

الفصل الحادي عشر أعمال الغزاة ضد اللغة العربية

الفصْل الحَادي عشر أعمال الغزَاة ضِدّ اللغةِ العربيَّة 1- مقدمة عامّة حول أهمية اللغة. 2- الاستعمار ومحاربته للعربية الفصحى. 3- الدعوة إلى نشر العاميّات واللهجات الإقليمية، واعتبارها لغة العلم والأدب والفن. 4- نظرة تاريخية إلى حركة التحويل عن الفصحى. 5- ردود على مزاعم خصوم الفصحى. 6- دغدغة العواطف القومية القديمة للتحويل عن العربية الفصحى. 7- مزاعم إصلاح رسم الخطّ العربي. 8- غزو الفصحى عن طريق العبث بقواعدها. 9- غزو اللغة العربية بالمفردات الأجنبية الدخيلة. 10- طلائع المستجيبين لمكيدة إحلال العاميات محلّ الفصحى. 11- نحن والغزاة.

(1) مقدمة عامة حول أهمية اللغة

(1) مقدمة عامة حول أهمية اللّغة تتمثل اللغة في الأمة الناطقة بها الصورة التعبيرية الثابتة لثرواتها الفكرية والحضارية والدينية، وذلك لأن تداول الخاطرة العلمية لدى أمة من المم هو الذي يملي عليها الصيغة التعبيرية الملائمة، كما أن تداول الصور الحضارية بينها - سواء أكانت مشاعر وجدانية أو آداباً اجتماعية أو منتجات مادية - لا بد أن يملي عليها ألواناً من الصيغ الكلامية، التي تستطيع أن تكون بها دقيقة التعبير عن مشاعرها، وآدابها، ومنتجاتها، يتولى ذلك النخبة الممتازة من أصحاب المهارات الفكرية والقدرات اللسانية، القادرين على تطوير الأوضاع اللغوية، وابتكار ألوان التعبير، ذات الدلالات الدقيقة الرائعة على المراد. كما أن تداول الحقائق الدينية - سواء كانت أفكاراً ومبادئ عقلية أو وجدانية، أو كانت تشريعاً عملياً، أو أخلاقاً وآداباً، أو أخباراً وأنباءً، أو تنبؤات بما سيأتي - لا بد أن يملي عليها أيضاً ألواناً أخرى من المفردات والصيغ التعبيرية الدينية، التي تستوعب المعاني المرادة، وتدل عليها دلالات صحيحة. وهذه الصيغ التعبيرية المؤلفة من حروف الهجاء والمفردات والجمل والقواعد والأساليب البيانية هي التي تتكون منها لغة الأمة التي تنطق بها، وتعطي صورة حالية عنها، وصورة ثابتة عن تاريخها. ونستطيع لدى التحليل أن نقول: إن اللغة هي الجزء المشترك من كيان الأمة، وهي الوطن المعنوي الواحد لحركة اللسان المعبرة عن حركة الفكر والنفس والوجدان، وهي في هذا تشبه حدود الأرض التي تحوي داخل محيطها

الوطن المادي لحركة جسم كل فرد من أفراد الأمة، إذ يعبر بذلك عن مطالبه الفكرية والنفسية والوجدانية، وعن آماله وتطلعاته لنفسه وأهله وذرياته وأمته. ولذلك نجد الباحثين يلجأون إلى اللغة ليستنبطوا منها خصائص أمة من الأمم، كلما عجزت الدلائل الأخرى عن أن تعطيهم صورة صحيحة عنها. ورقي لغة من اللغات عنوان رقي الأمة الناطقة بها، كما أن انطاط لغة من اللغات عنوان انحطاط الأمة الناطقة بها، والثروة العلمية والثقافية والأدبية والفنية، التي تقدمها لغة من اللغات، متمثلة فيما أنتجه العلماء والمثقفون والأدباء الناطقون بها، أعظم مجد يتمتع به تاريخها الذي يكسو الأمة صاحبة هذه اللغة بحلل من المجد العلمي والحضاري. ولدى البحث المقارن في تاريخ اللغات العالمية نلاحظ أن للعربية الفصحى أكبر نصيب عرفته لغة واسعة الانتشار في العالم، منذ فجر التاريخ حتى عصر النهضة الأوروبية الحديثة. تشهد بذلك هذه الكنوز العلمية والثقافية والحضارية الدينية والمدنية، المنبثة في المكتبة الإسلامية العربية الجامعة لعشرات الألوف من المؤلفات الضخمة النافعة، في شتى العلوم ومختلف الفنون والآداب، والتي يقع في منزلة الرأس منها كتاب الله المنزل، ثم من دونه كلام الرسول العربي محمد صلوات الله عليه، ثم تأتي ذخائر الكتب النفيسة التي تستطيع أن تتوج الأمة الإسلامية والعربية بتاج المجد العظيم بين أمم الأرض. ومع الحزن الذي يقرّح الفؤاد نجد أن هذه الأمة قد وصلت إلى مرحلة تاريخية رمت فيها هذا التاج العظيم عن رأسها، وذلك بأسباب شتى، بعضها قد كان من إهمالا وتقصيرها، وبعضها قد كان من الغزو المركز المحكم الذي تداهمها به جيوش أعداء الإسلام، المسلحة بالأسلحة الحديثة المشحونة بدهاء ومكر شديدين. لقد أدرك أعداء الإسلام أن الشعوب الإسلامية ما دامت على صلة وثيقة باللغة العربية، فإنها ستظل مرتبطة بالإسلام وبالقرآن، وستظل متمسكة بفكرة الوحدة الإسلامية الكبرى.

(2) الاستعمار ومحاربته للعربية الفصحى

ومن أجل ذلك أخذ أعداء الإسلام يوجهون مختلف القوى، ويتابعون ألوان الجهود، ويتخذون شتى الوسائل الممكنة لهم، لصد الشعوب الإسلامية عن اللغة العربية، وصرف الشعوب العربية عن اللغة العربية الفصحى، وتغذية اللهجات الإقليمية المحلية، وتشجيع أبناء الشعوب الإسلامية على أن تكون لغاتها المحلية ولهجاتها الإقليمية العامية البعيدة كل البعد عن اللغة العربية الفصحى هي اللغات المستعملة في كتاباتها المتنوعة، في العلوم والفنون والآداب والمعاملات وسائر ما يحتاج فيه إلى الكتابة والتسجيل، وتشجيعها أيضاً على هجر رسم الكتابة العربية، ووضع الحروف اللاتينية موضعها، أو إحداث رسم جديد بعيد عن الرسم العربي، الذي يضم نفائس الثروات العربية الإسلامية في شكله المختصر الجميل، وإن كان فيه بعض الصعوبة التي لم تكن في يوم من الأيام عائقاً عن الانطلاق في ميادين المعرفة، على أن هذه الصعوبة أقل من الصعوبات التي يعانيها مثلاً متعلم اللغة الإنكليزية ذات الرسم الحفظي، الذي لا تطابق فيه بين الرسم والنطق في كثير من مفرداتها. ولكن الخطة المدبرة تهدف إلى محاربة الإسلام عن طريق تقليص ظل اللغة العربية الفصحى عن المسلمين، فهل يكون المسلمون على بصيرة مما يدبّر ضدهم، فيحذرون من خطط أعدائهم وأعداء دينهم. (2) الاستعمار ومحاربته للعربية الفصحى منذ دخلت القوات الاستعمارية عدداً كبيراً من البلاد الإسلامية، والدوائر الاستعمارية على اختلاف اتجاهاتها السياسية، وتباين مصالحها، ما فتئت تعمل على محاربة اللغة العربية الفصحى بمختلف الوسائل، بغية إبعاد شعوب هذه البلاد عن مصادر الشريعة الإسلامية، وفي مقدمتها القرآن الكريم والسنة المطهرة، ثم كتب التفسير والفقه، ومن ورائها سائر كتب العلوم الإسلامية والعربية، وذلك في خطتها لمحاربة الإسلام وهدم وحدة المسلمين. ويقوم اليهود في إسرائيل وأجراؤهم في غيرها بالدور نفسه الذي قامت به الدول الاستعمارية.

فمن الوسائل التي اتخذوها لمحاربة العربية الفصحى محاولة صهر الشعوب الإسلامية المغلوبة بالشعوب الغالبة، وذلك بفرض لغة الغازين على أفراد الشعب المغلوب، وقد أخذ فرض لغة الغازين عدة أشكال وصور. فمن ذلك جعل لغة المستعمرين لغة إجبارية في المدارس منذ المرحلة الابتدائية حتى المرحلة الجامعية فما فوق ذلك، واعتبارها هي اللغة الأولى في البلاد، مع إهمال اللغة العربية، بدعوى أنها لغة وطنية لا تحتاج إلى تعليم واسع، وهم يخلطون في هذا الكلام بين اللغة العامية المنتشرة وبين اللغة العربية الفصحى، لغة القرآن والسنة، ولغة العلوم العربية على اختلافها، لتنطلي الحيلة على أفراد الشعب، فلا يمر على الشعب المغلوب عقود من السنين حتى ينشأ فيه جيل ينطق بلغة المستعمرين، مثلما ينطق بها أهلها، وأما لغته العربية الأساسية فتصبح لغة منسية أو شبه منسية، حتى إذا أراد أن يتكلم بها أخذ يرطن فيها كما ترطن الأعاجم، متعثراً بالحرف والكلمة وبالصياغة والتركيب، بَلْه قواعد النحو والصرف. ثم يتبع ذلك الإلزام بأن تكون لغة المستعمرين هل لغة دوائر الحكومة، ودواوين الدولة، وهذه الصورة لون من ألوان الإلزام القهري للشعب المغلوب على أمره أن ينسى لغته الأساسية، ويحل محلها لغة الغزاة المستعمرين، ويرافق ذلك حرمان طالب العمل أو الوظيفة مما يطلبه ما لم يكن متقناً للغة الغزاة المستعمرين إتقاناً جيداً، وفي هذا أيضاً لون من ألوان الإكراه على صهر الشعب المغلوب صهراً تاماً، باللغة التي يفرضها عليه غالبوه ومستعمروه. وهذا ما حصل في بعض البلاد الإسلامية العربية، التي غدت زمرة كبيرة من أجيالها لا تحسن النطق إلا باللغة الأجنبية التي فرضتها عليها الدوائر الاستعمارية، بوسائلها التي تتسم بطابع الإكراه المباشر أو غير المباشر. ونجم عن ذلك ابتعاد هذه الأجيال ابتعاداً كبيراً عن مصادر الشريعة الإسلامية، حتى صار أحدهم وهو العربي الأصيل لا يحسن تلاوة سورة من سور القرآن الكريم، ولا يحسن قراءة حديث من أحاديث الرسول العظيم، أو قصيدة من الشعر العربي، أو كتاب قد كتب باللغة العربية، مهما كانت عباراته

ومفرداته سهلة لينة مستساغة. ولولا أن الله أنقذ بعض هذه البلاد بقيام حركات تحويرية ذات طابع إسلامي موصول بالقرآن الكريم، لاستمرت في الخط الموغل في البعد عن الدائرتين الإسلامية والعربية، حتى تكون في يوم من الأيام جزءاً لا يتجزأ من جسم الشعب الغازي، المستعمر بأسلحته ولغته ودينه، ومن أمثلة ذلك ما حاولته فرنسا في الجزائر.... ويمكن تلخيص خطة صهر الشعوب المغلوبة بالشعوب الغالبة بما يلي: 1- جعل التعليم بلغة الشعب الغالب المستعمر إجبارياً في مختلف مراحل التعليم، ولجميع الموالد التعليمية. 2- إهمال اللغة العربية التي هي اللغة الأساسية للبلاد إهمالاً كلياً أو شبيهاً به، أو جعلها في المراحل الأولى للخطة لغة ثانية لا لغة أولى، ثم التخفيف من شأنها شيئاً فشيئاً، حتى تصل إلى مرحلة الإهمال الكلي. 3- التنفير من اللغة العربية، بإثارة عبارات الاستهزاء منها، ومن قواعدها، والاستهانة بها، مع الترغيب بلغة المستعمرين، عن طريق تزيينها في النفوس، وتوجيه الدعايات المختلفة لعلومها وفنونها وآدابها، وربط المنافع الاقتصادية والعلمية والسياسية والصلات العالمية بها. 4- جعل لغة المستعمرين هي اللغة الرسمية لدوائر الدولة المغلوبة ولدواوينها، وكذلك يفعل اليهود في إسرائيل. 5- حصر الوظائف والأعمال بالذين يتقنون لغة المستعمرين، وتتبع دولة إسرائيل هذه الخطة مع الشعب العربي في فلسطين. إلى غير ذلك من وسائل أخرى تستخدمها الدوائر الاستعمارية، لصهر ما يريدون صهره من الشعوب بهم صهراً كليَّاً، حتى يفقدوا بذلك كل كيانهم الأصلي الشامل لكيانهم الديني واللغوي والتاريخي. ويتفق مع الدوائر الاستعمارية في محاربة العربية الفصحى جناحا التبشير والاستشراق، وتؤازر الأجنحة الثلاثة الدوائر الصهيونية والدوائر الماركسية،

(3) الدعوة إلى نشر العاميات واللهجات الإقليمية

وأعوان جميع هؤلاء الأعداء، وأجراؤهم، وأنصارهم، والسائرون في أفلاكهم. ومهمة المسلمين في مضادّة خطط هؤلاء تتجلى بالحرص على وحدتهم الدينية واللغوية التي تمثلها اللغة العربية الفصحى، لغة القرآن، ولغة رسول الإسلام محمد ولغة الأمجاد الإسلامية العظيمة. (3) الدعوة إلى نشر العاميات واللهجات الإقليمية واعتبارها لغة العلم والأدب والفن من المخططات التي أعدها الغزاة لإقامة السدود بين الشعوب الإسلامية واللغة العربية الفصحى، اتخاذ مختلف الوسائل لنشر اللهجات العامية الإقليمية، والتشجيع على أن تكون هي اللغة الرسمية في البلاد، والتشجيع على أن يكتب المسلمون بها علومهم وآدابهم وأشعارهم وقصصهم وتواريخهم وعقودهم وسائر معاملاتهم، وأن يهجروا العربية الفصحى نهائياً، بحجة أن معظم الشعب لا يحسنها، وأنه متى انطلق يكتب بلغته العامية الدارجة استطاع أن يبتكر ويبدع، ويساهم مع معظم أفراده في مختلف العلوم والفنون والآداب. وما هذه الحجج الضعيفة إلا ذرائع كلامية لخطة تهدف إلى تجزئ الشعوب الإسلامية، والشعوب العربية، وإقامة السدود اللغوية بينها، التي ستجعل من الشعب الواحد شعوباً متعددة بمقدار تعدد أقاليمه، حتى ينتهي الأمر إلى أن ينطق سكان كلِّ إقليم منها بلغة خاصة، لا تمتُّ إلى لغة الإقليم الآخر بصلة فعلية إلا صلة الاشتقاق التاريخي من أصل واحد، وهذا سينسى خلال عدد قليل من القرون، ويمسي لكل إقليم لغته وقوميته وتقاليده الخاصة. ودراسة كثير من اللغات المتعددة في العالم، تعطينا نماذج تطبيقية شتى، للغات مختلفة فيما بينها كل الاختلاف، مع أنها مشتقة في أصلها من لغة واحدة، يمكن أن نُسميها بالنسبة إليها اللغة الأم، ولكن انفصال اللهجات المحلية الإقليمية عن بعضها مضافاً إلى ذلك العامل الزمني الذي طالت فيه مدّة

الانفصال قد أدى إلى تكوّن لغات متباينة، لا يفهم الناطق بأحدها على الناطق بالأخرى. وقد عرف الأعداء الغزاة هذه الحقيقة لتاريخ اللغات المختلفة بين الشعوب، فرأوا أن يُحدِثوا عزلاً صناعياً ينشأ عنه لغات متعددة لشعب واحد، مماثلاً لظروف الانعزال الطبيعي، الذي نشأ عنه في الأزمان الغابرة لغات مختلفة كل الاختلاف فيما بينها، مع أنها كانت في أصولها واحدة، ولكن انفصال أبناء الشعب الواحد عن بعضهم، وانعزالهم في أقاليمهم، واستمرارهم في تطوير لهجاتهم الإقليمية خلال حقب مديدة من الزمن، قد أدى إلى تكوين عدد كثير من القوميات المختلفة، وعدد كثير من اللغات المختلفة أيضاً. ومثال ذلك: اللغات السامية المتفرعة عن أصل ساميٍّ واحد، واللغات اللاتينية المتفرعة عن الأصل اللاتيني، وفي الهند ما يزيد على سبعين لغة إقليمية متفرعة عن اللغة الأصلية التي كان سكان الهند الأولون ينطقون بها، ولولا ظل الدولة الإسلامية التي وحدت الهند طوال قرون على اللغة الأردية الغنية بالمفردات العربية لانفصل الهنود إلى قوميات كثيرة بعدد لغاتهم المختلفة، ونجد نظير ذلك في الشعب الأندونوسي. وقد ظهرت الدعوة إلى العامية داخل البلاد العربية أول ما ظهرت في كتابات عدد من المستشرقين، إذ قدموها في ثياب الناصحين لسكان هذه الأقاليم العربية ليصرفوهم عن لغة القرآن، التي ينبغي أن تجمع المسلمين كلهم ضمن جامعة لغوية ودينية واحدة، فكيف بالشعوب العربية الإسلامية؟! وقد استطاعوا أن يزينوا كلامهم بوجهين: أحدهما إيجابي في صالح العامية الدارجة على ألسنة العامة، وثانيهما سلبي ضد اللغة العربية الفصحى. فأعطوا العامية صفة اللين والسهولة، والقدرة على تلبية رغبات جميع الأفراد في التعبير عمّا يخطر في أفكارهم ويختلج في نفوسهم، وألبسوا العربية الفصحى صفات التعقيد والشدة والصعوبة، وعدم تلبيتها لرغبات جميع الأفراد في التعبير عمّا يخطر في أفكارهم ويختلج في نفوسهم.

(4) نظرة تاريخية إلى حركة التحويل عن الفصحى

وتظاهر هؤلاء المستشرقون بثياب الناصحين الشرفاء، إذ زعموا أنهم يريدون للأمة الخير، إذ أن فتح الباب للكتابة بالعامية سيطلق في الأفراد حوافز الاختراع والابتكار، دون أن تقف الضوابط والقواعد التي تشتمل عليها العربية الفصحى عائقاً في طريق تسجيل أفكارهم ونشرها، إلى غير ذلك من هذه المزاعم المغلَّفة بالمكر الشديد، والتي لا تستطيع أن تقف على أرجلها أمام مناظر جدية مخلصة، كما أنها لا تستطيع أن تحقق نفسها لدى التطبيق الفعلي. فلكل أمة لغة راقية تسجل بها معارفها وعلومها وأفكارها، وهي لا تخلو من بعض الضوابط اللغوية التي تهيئ للمعاني أن تكون مصونة عن التحوير ضمن الألفاظ الكلامية التي تدل عليها، ولها أيضاً لغة دارجة سهلة لينة على الألسنة، يتخاطب أفرادها بها في شؤونهم اليومية، فإذا أرادوا تسجيل شيء من ذلك صاغوه باللغة الراقية المنضبطة، التي تحميها القواعد عن الاختلاف في المعاني. وهذا لون حضاري رفيع من ألوان الحضارة التي تكسب الأمم مجداً لغوياً راقياً. (4) نظرة تاريخية إلى حركة التحويل عن الفصحى أ- أول من حث على التحول عن الكتابة باللغة العربية الفصحى إلى الكتابة بالعاميات الإقليمية داخل البلاد العربية، المستشرق الألماني الدكتور "ولهلْم سبيتا" وقد كان مديراً لدار الكتب المصرية خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، في كنف الاحتلال البريطاني ففي سنة (1880م) وضع في ذلك كتاباً سماه "قواعد اللغة العربية العامية في مصر" وقد أورد في هذا الكاب نبذة عن فتح العرب لمصر في سنة (19هـ) وانتشار لغتهم بين أهلها، وقضائها على اللغة القبطية، لغة البلاد الأصلية حسبما يرى، والتي لم يبق من آثارها سوى بعض المفردات، وحاول في هذا أن يثير

العنصرية العرقية المصرية ضد اللغة العربية، ثم اختتم مقدمة كتابه بشرح الفكرة التي راودته طويلاً، وهي اتخاذ العامية المصرية لغة أدبية إذ يقول: "وأخيراً سأجازف بالتصريح عن الأمل الذي راودني على الدوام طوال مدة جمع هذا الكتاب، وهو أمل يتعلق بمصر نفسها، ويمس أمراً هو بالنسبة غليها وإلى شعبها يكاد أن يكون مسألة حياة أو موت، فكل من عاش فترة طويلة في بلاد تتكلم العربية يعرف إلى أي حد كبير تتأثر كل نواحي النشاط فيها بسبب الاختلاف الواسع بين لغة الحديث ولغة الكتابة". ثم أخذ يؤيد فكرته التي دعا إليها بمختلف الأدلة، فتارة بالنَيل من العربية الفصحى، وصعوبة قواعدها وطريقة كتابتها، وأخرى بإعلاء شأن العامية التي يزعم أنه بذل جهداً كبيراً في استنباط القواعد لتنظيمها، حتى يثبت صلاحها للاستعمال الكتابي، ثم يقول: "وبالتزام الكتابة العربية الكلاسيكية القديمة لا يمكن أن ينمو أدب حقيقي ويتطور، لأن الطبقة المتعلمة القليلة العدد هي وحدها التي يمكن أن يكون الكتاب في متناول يدها، أما بالنسبة إلى جماهير الناس فالكتاب شيء لا يعرفونه بتاتاً، فإذا احتاج رجل عادي من عامة الشعب إلى كتابة خطاب أو تنفيذ وثيقة فعليه أن يضع نفسه وهو مغمض العينين تحت يدي كاتب محترف، ويجب عليه في ثقة عمياء أن يختم أهم الأوراق بختم لا يمكنه أن يقرأه، ومن الممكن تقليده، بل ويقلد في بعض الأحايين". قال "ولهلْم سبيتا" كلامه هذا إذ كانت الأمية منتشرة يومئذ، فحاول تغشية الحقيقية، بأن نسب التخلف إلى عوامل ذاتية في اللغة العربية الفصحى، لا إلى عوامل أخرى ناشئة عن التخلف الاجتماعي والثقافي العام، الذي كان انتشار الأمية بعض مظاهره، ولو تسنى له الآن أن يطّلع وهو من وراء حجاب الزمن لرأى سيول الأجيال العربية، التي أصبحت بحمد الله وفضله تحسن القراءة والكتابة ضمن قواعد اللغة العربية الفصحى إجمالاً ولرأى أن أكثرهم قد غدا باستطاعته أن يكتب

بها ما يمر في خاطره، وما يختلج في نفسه، من أفكار ومعان علمية وأدبية وقانونية وعاطفية، دون الحاجة إلى المفردات العامية وأساليبها، ولرأى أن اللغة العربية الفصحى هي اللغة المشتركة الجامعة التي تتفاهم بها جميع الشعوب العربية مهما اختلفت لهجاتها الإقليمية المحلية، ولو أن الشعوب العربية قد أخذت بنصيحته التي هم في غنى عنها لكانوا اليوم أشتاتاً، ليس لهم لغة جامعة، ولعاش كل قسم منهم في عزلة تامة عن أخيه، ولأدى الأمر بين الشعوب الإسلامية العربية إلى قريب مما وصلت إليه الشعوب الإسلامية ذات اللغات المختلفة. وأدرك الدكتور "ولهلْم سبيتا" أن اعتراضات مهمة ستتوجه على مشروعه الخطير، فحاول أن يقدم المبررات التخديرية التي ظن أنه قد يرضي بها الشعور الإسلامية عند المسلمين فقال: "فلماذا لا يمكن تغيير هذه الحالة المؤسفة إلى ما هو أحسن؟ ببساطة لأن هناك خوفاً من تهمة التعدي على حرمة الدين إذا تركنا لغة القرآن تركاً كلياً". وقد أجاب على ذلك فقال: "ولكن لغة القرآن لا يكتب بها الآن في أي قطر، فأينما وجدت لغة عربية مكتوبة فهي اللغة العربية الوسطى، أي: لغة الدواوين، وحتى ما يدعى بالوحدة بين الشعوب الإسلامية لا يمكن أن يقلقها تبني لغة الحديث العامية، إذ أن لغة الصلاة والطقوس الدينية الأخرى ستظل كما هي في كل مكان". من الظاهر أنه بهذا الكلام قد حاول تخدير العواطف الإسلامية، وذر الرماد في العيون، وذلك لأن الحقيقة التي يعلمها هو بخلاف ذلك، فلو أن العامية قد انتشرت انتشاراً واسعاً، وأبعدت لغة القرآن عن الاستعمال، لأمست لغة القرآن بعد قرون لغة مجهولة تماماً داخل الشعوب العربية، وتتبعها في ذلك الشعوب الإسلامية قاطبة، ولغدت العربية الفصحى شبيهة باللغات اللاتينية أو اليونانية القديمة أو السريانية

غير المفهومة التي يرددها بعض الكهنة في كنائسهم. إن هذه الفكرة الخبيثة بمثابة خنجر مسموم حاول المستشرقون أن يغمسوه في قلب الإسلام، ولكن الله تبارك وتعالى حمى الشعوب العربية من شرها، فقامت النهضات المباركة التي تبنت نشر العربية الفصحى داخل هذه الشعوب، وسارت مع مسيرة محو الأمية وبث المعارف والعلوم المختلفة، ومهما كنا بحاجة ماسة إلى خطوات أخرى واسعة في هذا المضمار، فإن حالة اللغة أصلح بشكل عام من ذي قبل، وإن كان هناك تدن في الخيرة الممتازة من العلماء المتضلعين بالجوانب المختلفة للغة العربية الفصحى. ب- وأيد المستشرق الألماني "ولهلْم سبيتا" اللورد "دوفرين" في تقرير وضعه عام (1882م) دعا فيه إلى هجر اللغة العربية الفصحى، وإحلال العامية المصرية محلها في مصر، واعتبارها حجر الزواية في بناء منهج الثقافة والتعليم والتربية، وقال في تقريره: "إن أمل التقدم ضعيف في مصر طالما أن العامة تتعلم اللغة الفصيحة العربية - لغة القرآن - كما هو في الوقت الحاضر". جـ- ثم تابع الدعوة إلى هذه الفكرة المستشرق الألماني الدكتور "كارْل فولرس" فقد تولى إدارة دار الكتب المصرية خلفاً للدكتور "ولهلْم سبيتا" وحمل بعده لواء الدعوة إلى هجر العربية الفصحى وإلى ضرورة الكتابة بالعامية الدارجة، ووضع كتاباً سماه "اللهجة العربية الحديثة" وجه العرب فيه لاستعمال الحروف اللاتينية لدى كتابة العامية، وحاول أن يدرس فيه قواعدها، ممثلاً بكثير من نصوصها. أما مقدمة هذا الكتاب فقد تحدث فيها "كارل" عن اللهجات العربية الحديثة وتعددها بتعدد الأقطار التي انتشرت فيها العربية، وتحدث عن وجوب دراستها، لأنها بحسب زعمه لا تمثل حالة انحطاط وتدهور للعربية الفصحى، وإنما هي لهجات قديمة، كان لها تاريخ ونمو

منفصل يرجع إلى عصور بعيدة، وزعم أنها تختلف عن اللغة العربية الفصحى اختلافاً كلياً، وحاول أن يعطيها صورة تستطيع أن تنفذ بها إلى ميدان الكتابة في مختلف العصور والأقطار. ثم أخذ يندد بجمود العربية الفصحى، ويشبهها باللاتينية الكلاسيكية، ويشبه العلاقة بينها وبين اللهجة العامية في مصر بالعلاقة التي بين اللاتنية الكلاسيكية والإيطالية. وغرضه من ذلك حث العرب على أن تكون للغاتهم العامية الدارجة آداب مكتوبة، في جميع العلوم والآداب والفنون، لعلَّلها تنافس العربية الفصحى، وتحتلّ مكانها لديهم، وعندئذ تموت لديهم الفصحى بطريقة تدريجية، ويبتعدون عن المصادر الإسلامية الرائعة، وينقسمون إلى أوصال وأجزاء متباعدة بعدد لغاتهم الإقليمية. وإذ زعم أنَّ اللهجات العامية الشائعة ذات جذور عميقة متصلة بلغات قديمة، فقد حاول بذلك أن يدغدغ في الناطقين بهذه اللهجات مشاعر إقليمية محليّة، مضادة للمشاعر الدينية المتعلقة بالعربية الفصحى تعلقاً روحياً وعلمياً وتاريخياً، وحاول أن يحتال في هذا بغير الحيلة التي احتال بها سلفه "ولهلْم سبيتا" وهي التي أورد فيها أن العرب الذين فتحوا مصر هم الذين نشروا لغتهم بين أهلها، وبذلك قضوا على اللغة القبطية لغة البلاد الأصلية، وظاهر من كلام "سبيتا" أن العامية الشائعة حالة من حالات الانحطاط والتدهور للعربية الفصحى، على خلاف كلام خلفه "فولرس". د- وحمل أيضاً لواء الدعوة إلى العامية الدارجة المستشرق الإنكليزي "سِلْدُن ولمور" الذي كان قاضياً في المحاكم الأهلية بالقاهرة، إبَّان الاحتلال البريطاني، إذ أصدر في سنة (1901م) كتاباً سماه "العربية المحكية في مصر" اتجه فيه رائد الحملة المستشرق الألماني "سبيتا" فحاول دراسة العامية المصرية الشائعة، ووضع قواعد لها، ودعا إلى كتابتها بحروف لاتينية، وإلى اتخاذها لغة أدبية، واستغل دعوته هذه ليحقق بها هدفاً من

أهداف الغزاة، هو فصل المسلمين عن لغة القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وكنوز العلوم الإسلامية وإقامة الحواجز بينهم وبين ماضيهم المجيد، وتفتيت الوحدة اللغوية القائمة بين الشعوب الناطقة بالعربية الفصحى. وقد استخدم هذا المستشرق في دعوته أسلوباً أكثر ذكاء من أسلوب من سبقه، إذ عرض إقناعه لاتخاذ العامية لغة أدبية، في صور تجعل معارضة الدعوة أمراً ذا خطر أكبر من الخطر الذي يتحاشونه، هذا الخطر هو انقراض العامية الشائعة والعربية الفصحى معاً، واحتلال لغة أجنبية محلها، إذ قال: "ومن الحكمة أن ندع جانباً كل حكم خاطئ وجِّه إلى العامية، وأن نقبلها على أنها اللغة الوحيدة للبلاد، على الأقل في الأغراض المدنية التي ليست لها صبغة دينية، وهناك سبب يدعو إلى الخوف هو أنه إذا لم يحدث ذلك، وإذا لم نتخذ طريقة مبسطة للكتابة فإن لغة الحديث ولغة الأدب ستنقرضان، وستحل محلها لغة أجنبية، نتيجة لزيادة الاتصال بالأمم الأوربية". ولكن هذا الخطر الذي حاول أن يخوف منه قد حل محله بفضل الله وحمده طمأنينة على العربية الفصحى، وذلك بعد نحو نصف قرن وأكثر من تحذيراته، إذ أخذت الفصحى تنتشر وتزدهر، ويُسهم انتشارها وازدهارها في ارتفاع مستوى العامية الشائعة، إلى درجات حسنة من الرقي اللغوي، وذلك بموت كثير من المفردات والأساليب النابية فيها، الأمر الذي جعل يدنيها شيئاً فشيئاً من قواعد الفصحى ومفرداتها، وإن كان ما يزال بينهما بون شاسع، فإن كثيراً من مظاهر انحطاط العاميات قد بدأ يختفي اختفاء يدعو إلى التفاؤل بالتطور إلى الكمال، والقرب من الأصل الفصيح. وأصبح حفظ القرآن بحمد الله ظاهرة منتشرة في الأجيال العربية الناشئة، ولا يجد حفَّاظه صعوبة في حفظه، مع أنه قمة الأداء الفصيح

للعربية، ولا يعوقهم حفظه عن الأخذ بجوانب المعرفة، بل كثيراً ما يساعد على ذلك، فنجد كثيراً من المتفوقين في دراسة العلوم هم من حفظة القرآن. هـ- وفي أثناء هذه الموجة التي أثارها "سلدن ولمور" نشر عالم أمريكي في فقه اللغة مقالة دعا فيها إلى اتخاذ العامية لغة أدبية، وإلى كتابتها بحروف لاتينية، وعبر فيها عن أمانيه بإدخال هذا التطور في بلد عربي مسلم، وسار على الخط الذي سار عليه "سبيتا" من قبل. و وحمل أيضاً لواء هذه الدعوة المستشرقان الإنكليزيان "باول" و"فيلوت". أما الأول فقد كان قاضياً في المحاكم الأهلية بالقاهرة، وأما الثاني فقد كان أستاذاً للغات الشرقية في جامعة "كمبردج" وجامعة "كلكتا" وقد اشتركا في وضع كتاب أسمياه "المقتضب في عربية مصر" حاولا فيه أن يضعا قواعد لتسهيل تعلم اللغة العامية المصرية، تلك اللغة التي ضاعت كرامتها على حد زعمها بتركها تنساب مفككة بدون ضوابط تربطها، حتى أصبحت كأنها لا وجود لها، لأن آدابها ليست مكتوبة، وأخذا يرددان الشكوى من صعوبة اللغة العربية الفصحى، ومن صعوبة كتابتها الخالية من حروف الحركة. ز- وأخطر من اضطلع بكبر الدعوة إلى إقضاء العربية الفصحى عن ميدان الكتابة والآداب، وإحلال العامية الشائعة محلها، وأكثرهم إلحاحاً وطول نفس، المستشرق الإنكليزي، "وليم ولكوكس" الذي كان مهندساً للري في القاهرة إبان الاحتلال البريطاني، فقد وفد إلى مصر سنة (1883م) مع أوائل عهد الاحتلال، وتولى الإشراف على تحرير مجلة الأزهر سنة (1893م) أي: بعد عشر سنوات من قدومه، وذلك لمدة أشهر فقط. وقد كان لهذا المستشرق نشاط ظهر وتحمّس ملحّ، في بث هذه الدعوة بين العرب، فلم يأل جهداً في ذلك.

ففي سنة (1893م) ألقى في نادي الأزبكية محاضرة بعنوان: "لم لم توجد قوة الاختراع لدى المصريين الآن". وقد ضمَّن هذه المحاضرة الدعوة الملحة إلى الكتابة بالعامية، وهجر العربية الفصحى، ونشر هذه المحاضرة بالعربية في مجلة الأزهر، إذ كانت هذه المجلة تحت إشرافه، باعتباره ممثلاً لقوة الاحتلال الأجنبية. وهذه المحاضرة تدور حول ربط انحطاط قوة الاختراع والابتكار في العصور المتأخرة عند العرب (وهو يخاطب في هذا عرب مصر) بسبب اضطرارهم إلى أن يتقيدوا بالعربية الفصحى، لدى الكتابة والتأليف، وأنهم متى كسروا هذا الحاجز، وصاروا يكتبون وينشرون باللغة العامية الشائعة نمت عندهم من جديد قوة الاختراع والإبداع. وقد يبدو هذا الرابط غريباً، ولكنه استطاع أن يزور له سفسطة ينخدع بها أحداث الأحلام، ويجد الأجراء فيها مجالاً للبحث وتزويق الألفاظ، ولذلك حاولوا أن يروجوا لها في بعض صحفهم ومجلاتهم. إنه ربط انحطاط قوة الاختراع والإبداع بتقيد الناس لدى الكتابة والتأليف بالعربية الفصحى، وحاول عن تعمد أن يتجاهل السبب الحقيقي الذي تكمن فيه مشكلة التخلف العام، وهو لا يمتُّ إلى اللغة بصلة ما، وإنما يرجع إلى أحاول اجتماعية كثيرة، أهمها الجهل العام، وانتشار الأمية، وانصراف الناس للسعي وراء لقمة العيش، وانشغالهم بالملذات المؤقتة، وتكالب أعدائهم عليهم، إذ أخذوا يفرضون عليهم ظروف التخلف بشكل مباشر أو غير مباشر، وكان من نتائج تراكب عوامل التخلف عليهم حملهم على السير في الطرق المتعرجة المنحدرة، بقوى متسارعة تتنامى كلما زادت نسبة الانحدار بعيداً عن مركز الانطلاق الكريم. ويتضح من محاضرة "ولكوكس" أن هدفه من الدعوة إلى العامية هو القضاء على العربية الفصحى، ليحرم المسلمين من تراثهم العظيم

الديني والعلمي والأدبي، تنفيذاً للخطة الماكرة التي تهدف إلى طعن الإسلام في الصميم. وفي سنة (1926م) نشر "ولكوكس" رسالة بعنوان: "سورية ومصر وشمال إفريقية ومالطة تتكلم البونية لا العربية". وهذه الرسالة تدور حول مزاعم تحايل لإثباتها بأدلة واهية، وتقضي هذه المزاعم بأن اللغات العامية التي ينطق بها أهل الشام وأهل مصر وليبيا والمغرب وتونس والجزائر ومالطة هي اللغة الكنعانية أو الفينيقية، أو البونية السابقة للفتح الإسلاميِّ، ولا صلة لها بالعربية الفصحى، وهدفه من ذلك كهدف زملائه من دعاة هذه الفكرة إثارة العصبيات القومية لهذه اللغات العامية ضد العربية الفصحى، حتى يتشجع سكان هذه البلاد على اتخاذ لغاتهم العامية في كتاباتهم العلمية والأدبية والحقوقية وغيرها، كيما تحلّ محلّ الفصحى، وبتطاول الزمان تزداد الفروق اللغوية بينهم وبين الفصحى، فتنقطع صلتهم بها، وبذلك تنقطع صلتهم بمصادر الدين الإسلامي، كما تزداد الفروق اللغوية بين سكان الأقاليم العربية، ومع دسائس فكرية ونفسية وتاريخية تتأصل عصبيات إقليمية ضيقة الحدود، ثم تتحول هذه العصبيات الإقليمية تدريجياً حتى تكون عصبيات قومية، وعند ذلك يستطيع الغزاة أن يشحنوها بمقدار كبير من العداء والكراهة وعوامل الشقاق. وقد بلغ العداء في نفس المستشرق "ولكوكس" للعربية الفصحى مبلغه، إذ جعل ينظر إليها وكأنها لغة جوفاء، لا تحمل أي معنى من المعاني لسامعيها، ممن يتحادثون بالعامية، وما هي إلا ألفاظ رنانة فقط، إذ يقول: "ومن السهل جداً أن ترى في هذه البلاد ذلك التأثير المخدر، الذي تحدثه الألفاظ الرنانة، التي لا تفهم منها لفظة واحدة في نفس السامع، إن سماع مثل هذه الألفاظ يقتل في الذهن كل ابتكار بين أولئك الذين لا يقرأون، كما تقتله أيضاً في نفس الطالب تلك الدروس التي تلقى عليه

باللغة العربية الفصحى المصطنعة، التي تبلغ الرأس دون القلب، فتمنع من يتسمّون بالعلماء في هذه البلاد من التفكير البكر". وهكذا سار في رسالته على هذا النسق من المغالطات الفاحشة التي يعزو فيها حالة التأخر إلى العربية الفصحى. وكما هاجم "ولكوكس" في رسالته العربية الفصحى هاجم العرب بشتائم تكشف عن مبلغ حقده الصليبي عليهم، فهم في نظره كسالى، قتلة، لصوص، قطاع طرق، جبناء، ويستند في ذلك إلى مزاعم يسوقها على أنها تجارب شخصية، ويحاول بذلك أن يحكم الفصل بين سكان سورية ومصر والمغرب العربي ومالطة وبين عرب الجزيرة، تجزئة لهذه الأمة الواحدة في لغتها وتاريخها ورسالتها الدينية. وتصدت الكثرة الكاثرة من الناطقين بالعربية لمهاجمة الدعوة إلى العامية وهجر العربية، وكان تصديهم مدعماً بالحجج القاطعة، ومؤيداً بالبراهين الصحيحة، وأخذوا يفندون المزاعم الواهية التي استند إليها حملة لواء هذه الدعوة، ويهتكون الأستار عن الأهداف الحقيقية منها، فلجأ "ولكوكس" إلى الإغراء بالمكافآت التشجيعية للذين يتبارون بكتابة الآداب والعلوم بالعامية، فلم يظفر من ذلك بطائل يشجعه على تحقيق أمنية الدوائر الاستعمارية والاستشراقية، ولما رأى أنه مُني بالفشل أعلن إغلاق المجلة التي أسسها لهذا الغرض، بعد أن أصدر العدد العاشر منها. ح- وآزر الدعوة إلى العامية وترك الكتابة بالحروف العربية، منخدعون ومأجورون ومستغربون من أبناء اللغة العربية، وتحمس لها طائفة من رجال الكنيسة، وانتقلت هذه الدعوة من مصر إلى المغرب وإلى لبنان. وانجرف في تيارها عدد من قادة الأدب العربي، ما بين مساير للمستشرقين مسايرة تامة، ومعتدل متوسط، ومتخذ بعض الخطوات التي أطلق عليها اسم الإصلاح. فكان "لطفي سيد" من أوائل المصريين الذين حملوا لواء الدعوة

إلى العامية بعد أن مهد لها دعاتها من المستشرقين. وفي إطار الدعوة إلى كتابة العربية بالحروف اللاتينية، أو إصلاح الكتابة العربية، قدمت عشرات من المشروعات، أخطرها مشروع قدمه "عبد العزيز فهمي باشا" لكن مشروعه قوبل بالسخط والنكير الشديدين من حماة اللغة العربية الذائدين عنها. وكان من المتوسطين الذين دعوا إلى نشر اللغة الوسطى بين العامية والفصحى: "فريد أبو حديد - توفيق الحكيم - أمين الخولي". ثم دعا "طه حسين" إلى شيء أسماه "تطوير اللغة" بتبديل الخط العربي أو إصلاحه وتهذيب قواعد النحو والصرف، ولا يخفى ما في ذلك من مكر يقوم على أسلوب التدرج في التحويل، لتحقيق الهدف الذي دعا إليه المستشرقون. ثم حمل لواء الدعوة التي دعا إليها المستشرقون الذين سبق ذكرهم عدد من أدباء العرب في لبنان وغيره، منهم: "سعيد عقل - أنيس فريحة - ولويس عوض". وقد لا نعجب كثيراً إذا وجدنا معظم المتحمسين للفكرة من النصارى، لأنهم يعبرون في ذلك عن كراهيتهم للإسلام ولغة القرآن، ولكن نعجب أشد العجب إذا رأينا من أحفاد السلالات العربية الإسلامية من يستأجر للدعوة إليها. وعلى الرغم من أن الدعوة لم يكتب لها النجاح في العالم العربي، إلا أن الغزاة المقنعين لم ييأسوا من تكرير محاولاتهم، وتحريك أجهزتهم، لعلهم يحققون بعض أهدافهم الرامية إلى طعن العربية الفصحى، وطعن الإسلام من وراء ذلك، وتمزيق وحدة الأمة العربية المسلمة. ففي حزيران سنة (1973م) انعقد مؤتمر في "برمّانا" بلبنان، وفي هذا المؤتمر تقدمت بعض الهيئات الأجنبية بمشروع "العربية الأساسية" ويشتمل هذا المشروع على عناصر هدم لمعالم اللغة العربية، ولما علم شيخ

(5) ردود على مزاعم خصوم الفصحى

الأزهر يومئذ الدكتور الشيخ عبد الحليم محمود بما جاء في هذا المشروع أعلن استنكاره، ووجه التحذير منه. وكشف الدكتور "عمر فروخ" في تقريره عما دار في المؤتمر خيوط المكيدة المدبرة ضدَّ اللغة العربية والإسلام، إذ قال في تقريره: "وفي أثناء الجلسات الرسمية للمؤتمر، وفي الفترات المتعددة بين الجلسات، جرت بحوث واقتراحات وملاحظات، جعلتني أوجس خيفة شديدة من المشروع.... إن كل ما دار في مؤتمر برمّانا كان يولد فيَّ شعوراً بأن الغاية الأولى والأخيرة من المؤتمر الاهتمام بالعامية.... لقد حضر هذا المؤتمر عدد قليل من اللبنانيين، ونفر من العرب غير اللبنانيين، (وكثرة) من الأجانب، لفت نظري أن جلَّهم من الرهبان اليسوعيين....". (5) ردود على مزاعم خصوم الفصحى من جيد الردود المنطقية التي ظهرت إبان دعوة "ولكوكس" وأنصاره إلى العامية وهجر العربية الفصحى، رد للأستاذ "إبراهيم مصطفى" إذ بيَّن فيه أن العربية الفصحى تحتل - بحسب صفاتها الذاتية واستناداً إلى المقارنات الموضوعية بينها وبين سائر اللغات - أرقى درجة من درجات الكمال التي تحتلها اللغات المنتشرة في العالم. لقد أشار إلى ما قام به علماء اللغات من تقسيم اللغات على تباينها إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: لغات أحادية المقطع، وهي خالية من حروف المعاني، وعدد كلماتها أقل من غيرها بكثير، ولا تتغير صيغتها، ولا تدل على النوع أو الكيفية أو العدد أو الزمن أو النسب بين الأشياء، ولكن كل ذلك يفهم من

تكييف الصوت بهذه المقاطع في الكلام المنطوق، أما في الكلام المكتوب فيمكن فهمه من مكان الكلمة في الجملة، ومن أمثلة هذا القسم اللغة الصينية، وعدد كلماتها قليل جداً، إلا أن هذه الكلمات تنطق على وجوه صوتية مختلفة للدلالة على المراد، ويتطلب التمييز بينها مهارة خاصة في السمع، وقد يعبَّر في هذا القسم من اللغات عن المعنى الواحد بعدد من الكلمات، كأن يعبَّر عن معنى الأسرة مثلاً بما يلي: (زوج - زوجة - أولاد) . القسم الثاني: لغات مزجية، وهي لغات تعتمد على ضمِّ الكلمات بعضها إلى بعض للدلالة فيها على النسب الزمانية والمكانية وغيرها، مع محافظة كل كلمة منها على صيغتها وشكلها ومعناها، فالمعنى الذي يمكن تأديته بكلمة واحدة يحتاج للدلالة عليه في هذا القسم من اللغات إلى سطر طويل، مؤلف من عدة كلمات مرصوصة، ومن أمثلة هذا القسم اللغة اليابانية. القسم الثالث: لغاتٌ اشتقاقية، وهي لغات تكون الدلالة فيها على مختلف النسب المتعلقة بالزمان أو المكان أو العدد أو الكيفية أو النوع أو غيرها، بتغيير صور كلماتها عن طريق التصريف والاشتقاق، مع المحافظة على المادة الأصلية للكلمة، وللغات هذا القسم حروف معانٍ تربط الألفاظ والتراكيب بعضها ببعض، ومن أمثلة هذا القسم اللغة العربية الفصحى، واللغات الأوربية، ولكن اللغة العربية تحتل المرتبة الأولى بينها، لأنها تمثل حالة راقية من حالات التقدم الحضاري في الميدان اللغوي. إن القسم الأول من هذه اللغات إنما يمثل طوراً بدائياً من أطوار الحضارة اللغوية، ولا يفي بالتعبير عن كل حاجات الأمم المتقدمة حضارياً، ويتبعه القسم الثاني فيمثل طوراً أرقى نسبياً من الطور الأول، وهو مع ذلك لا يفي كل الوفاء بالتعبير عن كل حاجات الأمم المتقدمة حضارياً، وأما القسم الثالث فهو القسم الذي يمثل أرقى تطورٍ لغوي يفي بالتعبير عن جميع المعاني التي تحتوي عليها الحضارات الراقية. ثم أجرى مقارنة بين العربية الفصحى وسائر اللغات الاشتقاقية، فأثبت أن العربية امتازات بخصائص تجعلها من أليق اللغات وأكثرها تلبية لحاجات

العلوم، فمن خصائصها الأمور التالية: أولاً: سعتها، أي: كثرة عدد مفرداتها، فبينما نجد عدد كلمات اللغة الفرنسية نحواً من خمسة وعشرين ألفاً، وعدد كلمات اللغة الإنكليزية نحواً من مئة ألف، ومعظم هذا العدد اصطلاحات علمية وصناعية، وبسبب غنى العربية وسعتها نجد فيها للمعاني الشديد التقارب كلمات خاصة بكل معنى منها، مهما كانت درجة التفاوت، وبذلك لا يكون محلٌّ للالتباس أو الإبهام اللذين هما آفة العلم والأدب. ثانياً: توغلها في ميدان الاشتقاق، متابعة للمعاني المترابطة ببعضها، فللمادة الواحدة مصدر للدلالة على المعنى مجرداً عن الزمن، وأفعال بعضها يدل على المعنى مقترناً حدوثه بالزمن الماضي، وبعضها يدل على المعنى مقترناً حدوثه بالزمن الحاضر أو المستقبل، وبعضها يدل على المعنى مقترناً بالأمر بفعله، وللمادة أيضاً صيغة تدل على الشخص الذي فعل ذلك المعنى أو قام به، وتسمى اسم الفاعل، وصيغة أخرى تدل على المفعول به، وثالثة تدل على زمانه، ورابعة تدل على مكانه، وخامسة تدل على النسبة، وسادسة على التفضيل، وسابعة على التعجب، وثامنة على التصغير، وهكذا. وليس في أية لغة من لغات العالم هذا الانطلاق اللغوي المترابط في ميدان الاشتقاق اللفظي، المناظر والمناسب لترابط المعاني فكرياً. ثالثاً: معظم مشتقاتها تقبل التصريف إلا فيما ندر منها، وهذا يجعلها في طوع أهلها أكثر من غيرها، ويجعلها أيضاً أكثر تلبية حاجة المتكلمين. وبهذا نستطيع أن نجعل اللغات العالمية مرتبة من الأدنى إلى الأعلى على الوجه التالية: 1- اللغات أحادية المقاطع، وهي في المرتبة الدنيا. 2- اللغات المزجية، وهي في المرتبة الثانية. 3- اللغات الأوربية، وهي في المرتبة الثالثة.

4- العربية الفصحى، وهي أرقى اللغات وأمثلها بالعلم. وعلى هذا التحليل العلمي المتين كان ردّ "إبراهيم مصطفى" على خصوم العربية الفصحى، إذن فالذين يحاولون أن يحلو العامية محلها يريدون أن ينحطوا بالأمة العربية في ميدان الحضارة اللغوية، إضافة إلى أغراضهم الأخرى الرامية إلى فصل المسلمين عن مصادر الإسلام، وتجزئة الأمة العربية. أما الحجج الواهية التي يلوكها خصوم العربية الفصحى في محاولتهم إحلال العاميات محلها فلا تستطيع أن تقف في وجه حقيقة اللغة العربية إلا موقف اللص الجبان، الذي يحاول أن يسرق الإنسان من نفسه، ويجعله يتنازل طائعاً عن جزء من كيانه، وعنصر من عناصر قوته. إن حججهم لا تعدو أن تكون مخادعة كلامية لا أساس لها من الحقيقة. وما مثل خصوم العربية الفصحى إلا كمثل جاسوس قوم معادين محاربين، اندسَّ بين صفوف قوم آمنين مسالمين، وكان لهؤلاء القوم المسالمين ميراث عظيم من قوة الحرب وآلاته، ولكن القليل منهم الذين يحسنون استعمال هذه الآلات العظيمة التي لا يملك العدو نظيرها، فلبس هذا الجاسوس الثعلب المندس فيه ثياب الناصحين، وجعل يطوف بين صفوفهم ويقول: إن هذه الآلات الحربية المخزونة عندكم معقدة وصعبة الاستعمال، والقليل منكم هم الذين يحسنون استعمالها، وإنكم إذا تركتكم هذه الآلات الصعبة جانباً، واستعملتم الأسلحة التي يُحسن استعمالها كل فرد فيكم، وهي العصي والسكاكين والحجارة، فإنكم ستتقدمون وتضاهون أعداءكم في قوتهم، لأن كل فرد منكم سيساهم في عمل من أعمال الدفاع على قدر استطاعته، وسينبغ بذلك فيكم أفذاذ قوة وأبطال شجاعة، وبهذه الطريقة ستتهيأ للجميع فرصة الاشتراك في إحراز التقدم، وإني ناصح لكم. ثم أخذ هذا العدو المندس يكرر هذا الكلام، ويعيده مرة تلو المرة، ويقلبه على عدة وجوه. فهل يقبل كلامه هذا أحدٌ من العقلاء المخلصين لأمتهم؟

هيهات.... ولكن سيقول الجميع إننا سندرب القادرين والقادرات من رجال أمتنا ونسائهم على استعمال هذه الآلات الحربية الضخمة التي يحويها ميراثنا العظيم، ولأن نؤخر المعركة مع عدونا مدّة من الزمن بالمطاولة والمراوغة، حتى نحسن استعمال ما لدينا من آلات حربية معقدة، خير لنا من أن نعرض أنفسنا لمواجهة التهلكة، إذ نخوض معارك القرن العشرين بأسلحة القرون الأولى من حجارة وعصيٍّ وسكاكين. وما أظنني قد بالغت في ضرب هذا المثل، لإبانة وجه المكر الذي تنطوي عليه الدعوة التي أخذت تحاول أن تخدع الأمة العربية الإسلامية، لتهجر العربية الفصحى، لدى كتابة العلوم والآداب، ولِتُحِّل محلها العاميات المختلفة فيما بينها اختلافاً كبيراً، ولتستبدل الرسم اللاتيني برسمها. وقد انكشف لنا تماماً أن هدف العدو من ذلك أن يقطع الصلة بين الأمة العربية الإسلامية وبين تاريخها ودينها وعلومها، ويقيم الحواجز اللغوية الغليظة بين أبناء الأقاليم والأقطار العربية، كما أقام بينهم من قبل الحواجز السياسية المصطنعة، وغاية ما لدى ثعلب النصيحة من حجج ما يلي: الحجة الأولى: أن كثيراً من سكان الأقطار العربية لا يحسنون الكتابة والقراءة بالعربية الفصحى. وقد غدت هذه الحجة بعد أقل من نصف قرن حجة ساقطة، إذ أخذت العربية المنضبطة وفق قواعد الفصحى تنتشر بين الأجيال العربية الحديثة، انتشاراً مواكباً لانتشار العلم بينها، حتى أصبح العامي الذي لا يحسن العربية الفصحى يمج بالذوق استماع النص الملحون، من الخطيب أو المحاضر أو مذيع الراديو، ويحسُّ بأن فيه خللاً وإن كان لا يعرف وجه ذلك الخلل. الحجة الثانية: أن الاكتشافات العلمية والمخترعات الحديثة كثيرة، وليس في العربية الفصحى كلمات تدل عليها. ويبدو أن هذه الحجة في منتهى الضعف أيضاً، وردها يكون من وجهين: أولهما: أن لغات العالم كلها بما فيها العاميات الشائعة في الأقطار العربية، ليس فيها كلمات تدل على ما يحدث من مكتشفات علمية ومخترعات حديثة، وهي تلجأ إلى إدخال مصطلحات حديثة على لغاتها لتدل عليها. وثانيهما: أن العربية الفصحى فاتحة بابها لضم أية مصطلحات جديدة لمعان علمية مبتكرة، وأسماء لمخترعات حديثة، مثلما اتسعت في عصور التدوين لألوف من المصطلحات النحوية والصرفية والبلاغية والفقهية والفلسفية والطبية والكيميائية والفيزيائية وغيرها.... وكل هذه المصطلحات لم تكن معروفة قبل العصور الإسلامية، والمجامع العربية مسؤولة عن توحيد المصطلحات الحديثة، واختيار الألفاظ العربية المناسبة للمستحدثات من المعاني الفكرية، والأشياء المادية، ومسؤولة عن تعميمها على الأقطار العربية.

(6) دغدغة العواطف القومية القديمة للتحويل عن العربية الفصحى

الحجة الثالثة: صعوبة اللغة العربية، وهذه الحجة معارضة بالنظير، فالعاميات التي يدعون إلى ضبطها ستكون أكثر صعوبة من الفصحى المضبوطة بالقواعد، بسبب الشذوذات الكثيرة الموجودة في هذه العاميات، يضاف إلى ذلك أن الأمة الواحدة ستحتاج إلى تعلم نحو عشر لغات عامية على الأقل، حينما يتطاول العهد عليها وتزداد الفوارق في العاميات المختلفة الشائعة في أقاليمها، أو سيحدث الانفصام التام الذي هو شر من تحمل بعض الصعوبة في تعلم العربية الفصحى. على أن شيوع الفصحى سيخفف كثيراً من صعوبتها، إذ يجعلها مثل لغة التخاطب العادي، أو داخلة في كثير من عناصره، وقد وقع بعض هذا فعلاً. (6) دغدغة العواطف القومية القديمة للتحويل عن العربية الفصحى استغل الغزاة من أعداء الإسلام والمسلمين، دغدغة العواطف القومية القديمة لتحويل الشعوب الإسلامية عن اللغة العربية الفصحى، وكان لدغدغة هذه العواطف وجوه كثيرة المكر، يحملها الأجراء، وينخدع بها كثير من

أصحاب الرعونات، الذين يندفعون بالانفعالات المؤقتة، التي يصطنع الشياطين لها الظروف والأجواء والبيئات النفسية والفكرية والاجتماعية المناسبة. فإذا ظهر مدغدغو العواطف القومية بين ذوي الأعراق الهندية مثلاً أثاروا فيهم القومية الهندية، وأظهروا حماستهم للحضارة الهندية القديمة ولآدابها وعلومها ولغتها السنسكريتية الأولى، ونبشوا المقابر المهجورة منذ قرون، واستخرجوا منها العظام الباليات، وربطوا في أفكار الهنود التأخر عن ركب الحضارة الحديثة بصلتهم بالإسلام، وبنفوذ اللغة الأردية التي وحدت شعوب هذه البلاد إثر الفتح الإسلامي تحت راية واحدة، والتي كتبت بها علومهم وآدابهم التي تصلهم بالإسلام والمسلمين، في حين أنهم لا يثيرون مثل ذلك في بلاد وثنية بحتة، مختلفة عن ركب الحضارات تخلفاً فاحشاً يقدر بعشرات القرون، مع أنها ما زالت محافظة على قومياتها ولغاتها القديمة. وإذا ظهروا مثلاً في شمال إفريقية أثاروا بين سكانها القومية البربرية، وتظاهروا بالحماسة للهجاتها، وأسرعوا يضعون مختلف الكتب التي تضمن دراسة اللهجات البربرية وقواعدها، لإحلالها محل العربية الفصحى، بينما يكتب هؤلاء المستشرقون التقارير السرية إلى حكوماتهم الاستعمارية، يقولون فيها كما جاء في تقرير بعضهم: "من الواجب صرف الجهد إلى التقليل من أهمية اللغة العربية، لتحويل الناس عنها، بإحياء اللهجات المحلية، واللغات العامية في شمال إفريقية، حتى لا يفهم المسلمون قرآنهم، وحتى يمكن التغلب على عواطفهم". وإذا ظهروا مثلاً في تركيا أثاروا بين الأتراك عواطف القومية التركية الطورانية، وصوروا لهم أن المدنية والحضارة التركية من أقدم الحضارات، فهي تتصل بالمدنيات والحضارات البابلية والآشورية القديمة، ولا صلة لها بالحضارة الإسلامية، وحاولوا خدعهم بهذه الأقوال، ثم صوروا لهم أن طريق مجهم رهن بقطع الصلة بينهم وبين الشعوب الإسلامية، لا سيما الشعوب العربية، ورهن بالسير في الركب الأوربي الحديث، وبهدم جميع الأبنية الإسلامية القائمة بينهم، وصوروا لهم أن خطوات الإصلاح يجب أن تبدأ من هذا المنطلق.

وقد استجاب حزب تركيا الفتاة، وجمعية الاتحاد والترقي لهذه الدسائس، وقادهما المأجورون، والأعداء المقنعون، والرعاع المستغفلون، في المسيرة التي رسمها الغزاة من أعداء الإسلام، فأثاروا عوامل التفرقة بينهم وبين سائر المسلمين، وبذلك تقطعت حبال قوية من روابط الوحدة الإسلامية، وانهارت قوة المسلمين الكبرى، وأعلن انقلاب "كمال أتاتورك" الخطة العلمانية، وألغى الخلافة الإسلامية، وحرم على الشعب التركي النطق باللغة العربية، حتى في عباداته الدينية، وألغى الكتابة بالرسم العربي، وجعل مكانه الكتابة بالحروف اللاتينية، وجنى الأعداء الغزاة ثمرة دسيستهم، واستطاعوا بذلك أن يفصلوا مسلمي الترك عن مسلمي العرب حقبة من الزمن، سار فيها كل من العرب والترك، ضمن خطوط السير التي رسمها لهم من قبل شياطين الدسائس والمؤامرات على الإسلام والمسلمين. وهذا ما جعل المستشرق الألماني "كامغماير" يقرر في شماتة فيقول: "إن تركيا منذ حين لم تعد بلداً إسلامياً، فالدين لا يدرّس في مدارسها، وليس مسموحاً بتدريس اللغتين العربية والفارسية في المدارس.... وإن قراءة القرآن العربي وكتب الشريعة الإسلامية قد أصبحت الآن مستحيلة بعد استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية....". ولكننا نقول لصاحب هذا التقرير ولكل أجنحة المكر بالإسلام والمسلمين: إنه لن يطول - بعون الله - أثر مكيدتهم، فستبرز - بإذن الله - النهضات المباركة المضادة لأعمالهم، ولن يستطيعوا أن يطفئوا نور الله، والبشائر الإسلامية في تركيا قد ظهرت، ولا بد أن تتفجر عيونها - إن شاء الله - من ثنايا الصخر الذي سدَّ به الأعداء الغزاة ينابيع الحق والهداية. ثم إذا ظهر الأعداء الغزاة بين الشعوب العربية بشكل عام أثاروا بينهم القومية العربية، وتصيدوا لهم أخطاء الشعوب الإسلامية الأخرى ضدهم، وهي الأخطاء التي عملت جنود الغزاة على إيجادها أو تنميتها عند أولئك، كما عملوا على إيجاد نظيرها عند العرب ضد الشعوب الإسلامية غير العربية.

وحينما يثير الغزاة في العرب عواطف القومية العربية، يرجعون بهم إلى العصور الجاهلية المتخلفة عن كل ركب حضاري ومدني، متجاوزين بذلك جميع العصور الإسلامية الذهبية، التي قاد فيها العرب المسلمون الفتح الديني والحضاري، منذ ظهور الإسلام، الذي صنع فيهم ذلك الانقلاب الحضاري التاريخي، فبدد ظلمات الجاهلية بنور العلم والمعرفة والأخلاق والحضارات الإنسانية الراقية. ولكن الغزاة إذ يتظاهرون بالدعوة إلى القومية العربية، لتقف صفاً واحداً في مواجهة القوميات الإسلامية الأخرى، يظلون في حالة تخوف من وحدة الشعوب العربية، حتى مع الرجع الجاهلي، لأنهم يخشون أن تظل هذه الشعوب على صلة بمصادر الدين الإسلامي، وتاريخ المسلمين وعلومهم، فكان لا مندوحة لهم من سلوك خط السير الآخر، بعد أن رأوا أنهم قد فصلوا المسلمين من العرب عن سائر الشعوب الإسلامية، تحت ستار القوميات، وذلك بأن يتابعوا التجزئة، فيجزئوا الشعوب العربية إلى قوميات أصغر وأقل تجميعاً عددياً من القومية العربية، بإثارة قوميات تاريخية قديمة لدى سكان الأقاليم العربية، وبالتنقيب عن العظام النخرة في مقابر القرون الأولى. فإذا ظهروا في مصر دغدغوا في المصريين العواطف الفرعونية، وأحيوا بينهم تاريخ رمسيس، وبناة الأهرامات، وأمجاد القرون الأولى السابقة للإسلام، وزعموا لهم أن العامية المصرية ذات جذور قديمة لا صلة لها بالعربية الفصحى، وأن تقدمهم الحضاري الآن متوقف على إحياء كل ما له صلة بالآثار الفرعونية، من علوم وآداب وفنون، ونصحوهم بأن يهجروا العربية الفصحى، وبثوا بينهم من يحمل هذه الدسائس، وأرادوا أن يحمل حزب مصر الفتاة مثل المهمة التي حملها من قبل حزب تركيا الفتاة وجمعية الاتحاد والترقي، إلا أن معظم جهودهم قد كانت تبوء بالفشل عن تحقيق كامل الغاية المرسومة، ولا تعطيهم كامل الثمرات التي يرجونها، بفضل قادة الدفاع الذين تصدوا لفضح مؤامرات الغزاة، على اختلاف العوامل المحرضة لهم على ذلك، فكان منهم عوامل دينية، واحتل أصحابها صف الدفاع الأول، وكان منها عوامل عربية، واحتل أصحابها صف الدفاع الثاني

(7) مزاعم إصلاح رسم الخط العربي

وإذا ظهروا في سورية ولبنان والأردن حاولوا أن يدغدغوا في سكان هذه البلاد عواطف القومية السورية الواسعة، مستغلين أمل شعوب هذه البلدان بالوحدة الكبرى، التي يرون من خطواتها أنواع الانضمام الجزئي مهما كان نوعه، وفي ضمن هذه القومية السورية يحاولون أن يحيوا قوميات قديمة سابقة للفتح الإسلامي، وأن ينبشوا المقابر المهجورة عن عظامها النخرة البالية، كالفينيقية، والكنعانية، إلا أن جهودهم في إحياء القوميات السورية قد باءت بالفشل أيضاً، فلم يكتب لها النجاح الذي يرجونه منها، ولم يؤت الثمرة المتوخاة، للتناقض التام بين شعوب هذه البلدان وبين هذه الدعوة التي ولدت ميتة، بعد أن كانت هذه البلدان صاحبة لواء الدعوة إلى وحدة الأمة العربية، يضاف إلى ذلك ارتباط معظم سكانها بالإسلام ارتباطاً عاطفياً قوياً. وإذا ظهروا بين الأكراد أثاروا فيهم القومية الكردية، وهو أمر لا بد أن يظهر مع التعصب للقومية العربية، وقالوا هم: هؤلاء العرب قد أحيوا قوميتهم العربية غير مبالين بالإسلام، فما بالكم أنتم لا تفعلون مثل ذلك، فتحيون قوميتكم الكردية، وتعملون لها، وتبرزون كيانكم المستقل بين شعوب الأرض. وكذلك يفعلون، ففي كل شعب لهم وجه، وفي كل أمة لهم طريقة، وفي كل حالة لهم لبوس. والهدف الذي يرمون إليه على اختلاف وجوههم واحد، والغاية التي يعملون لها واحدة، ألا وهي هدم الإسلام، وإبعاد الشعوب الإسلامية عنه، وتفتيت وحدة هذا الجيل المنيع الذي يضمُّ الشعوب الإسلامية برابطة الإسلام القوية المتينة. (7) مزاعم إصلاح رسم الخط العربي أما دسائس النصيحة الكاذبة التي تدور حول إصلاح رسم الخط العربي، فما تزال رياح المستشرقين والمستغربين تدير فيها بين حين وآخر طواحين هوائية

مثيرة للجعجعة، داخل عدد من العواصم العربية، كأن في هذا الرسم العربي مشكلة كبرى تعوق الناطق العربي عن التقدم، وتعرقل المسيرة العلمية والإنتاجية المطلوبة. أ- فمرة ينادون بإصلاحه عن طريق استبدال الحروف اللاتينية به، مع أن الحروف اللاتينية قاصرة عن استيفاء حروف الهجاء العربية، كما يعترف بذلك المستشرق الإيطالي "نالينو" رغم عداوته للإسلام وكتابته ضده، إذ يقول في اعترافه: "إن الخط العربي موافق لطبيعة اللغة العربية، ولو أدرنا استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية لتحتم علينا إيجاد حروف جديدة نضيفها إلى الأبجدية اللاتينية الحالية، لكي تعبر عن الأصوات العربية التي تمثلها حروف: ج - ح - خ - ش - ط - ظ - ص - ض - ع - غ - ولاحتجنا كذلك إلى التمييز بين الحروف المتحركة الممدودة وبين الحروف المقصورة" إهـ. ونحن نعلم أن الغرض الدفين من هذه الدسيسة ليس هو تسهيل القراءة على المتعلمين، وإنما الغرض منه - كما سبق أن عرفنا - فصل الشعوب العربية عن ثرواتها الإسلامية، وقطع الصلة بين الأجيال القادمة وبين القرآن الكريم، وأحاديث الرسول العظيم، وسائر الكتب الإسلامية المرسومة بالخط العربي، وتكليف الأجيال العربية جهوداً عظيمة جديدة لا داعي لها، بعد أن تفقد كل كنوزها دفعة واحدة. ولست أدري لماذا يطالبنا المستشرقون الاستعماريون وأجراؤهم بإصلاح الرسم العربي الموجز، المساير للمنطوق من الحروف إلا فيما ندر جداً، مع ترك ضبط حركاتها لحفظ الناطق العربي لمفردات لغته، ويساعده الشكل على ذلك في بعض المراجع المشكولة، كما يساعده الضبط التام في المعاجم. وعلى فرض التسليم بأن هذا نقص في الرسم العربي، ففي اللغات الأجنبية ما هو أفحش منه، مع أننا لم نجد واحداً من الناطقين بتلك اللغات، ولا واحداً من المستغربين الذين يردّدون أقوال المستشرقين، ينادي بإصلاح الرسم فيها، فما هذه المفارقات التي تنم عن العداء للإسلام ومصادره؟.

إن متعلم اللغة الإنكليزية مثلاً يعاني من عيوب كتابتها ما لا يعانيه متعلم الكتابة العربية، ففي كثير من كلماتها حروف لا تنطق بحال من الأحوال، ويكلف متعلم هذه اللغة أن يكتب هذه الكلمات مع زوائدها التي ليس فيها ما يعقل المعنى، وليس لها قاعدة ثابتة، ومن الواجب عليه أن يحفظها حفظاً حسبما يلقن طريقة رسمها. فمثلاً: الكلمة الإنكليزية التي يجب أن تكتب كما يلي: "write" يجب أن تقرأ "rit" بمعنى يكتب، وأن يحذف القارئ اعتباطاً دلالة حرف "w" وحرف "E". والكلمة الإنكليزية الأخرى المماثلة لها لفظاً والمخالفة لها معنى، يجب أن تكتب كما يلي "right" بمعنى صحيح أو صواب، وأن يحذف القارئ اعتباطاً دلالة حرفي "GH". والكلمة التي يجب أن تكتب كما يلي "know" يجب أن تقرأ "now" بمعنى يعرف مع حذف حرف "k" اعتباطاً. والكلمة التي يجب أن تكتب كما يلي: "light" يجب أن تقرأ "lit" بمعنى يضيء أو ضوء، وأن يحذف القارئ اعتباطاً دلالة حرفي "GH". والكلمة التي يجب أن تكتب كما يلي: "laugh" يجب أن تقرأ "laf" بمعنى يضحك، وأن يبدل القارئ بذهنه الحروف "ugh" بحرف "F". ونظير ذلك كثير جداً. والحروف الصوتية عندهم ليس لها صفة صوتية ثابتة، وقراءتها وكتابتها يجب أن يكون كل منهما معتمداً على السماع والحفظ. فلماذا لا ينادي المستشرقون بضرورة إصلاح رسم الكتابة الإنكليزية وغيرها من اللغات، التي هي بحاجة إلى الإصلاح أكثر من حاجة الكتابة العربية، حينما ينادون فيما بينهم بإصلاح رسم الكتابة العربية؟! ألا يكشف هذا عن أهدافهم السيئة ضد الإسلام واللغة العربية من أساسها؟ وبهذه المناسبة يطيب لي أن أنصح مخلصاً بإصلاح الكتابة الإنكليزية وغيرها من اللغات اللاتينية. ولدى اختبار النتائج على واقع حال دارسي العلوم باللغة العربية،

ودارسي العلوم باللغات الأجنبية؛ نلاحظ أن رسم الكتابة العربية لم يكن في يوم من الأيام عائقاً لأي ناطق عربي عن متابعة العلم، ولم نجد أجيالنا العربية الحديثة التي شقت طريقها إلى العلم تتخلف دراسياً عن مستوى الوسط العام الذي عليه الأجيال الأوربية، مع أن أبناءنا في معظم الأحيان يدرسون لغتين أجنبيتين، إلى جانب دراستهم علومهم باللغة العربية المنضبطة على قواعد الفصحى، وبرسم الكتابة العربية. ب- ومرة ينادون بإصلاح رسم الكتابة العربية عن طريق إدخال عناصر جديدة في بنية كلماتها. وهذه حيلة غير خافية من حيل المراوغة، أرادوا بها مداراة الشعور القومي عند الشعوب العربية مداراة مؤقتة، لأن هذا الاقتراح يحمل من عوامل الهدم مثل الذي يحمله الاقتراح الأول سواءً بسواء، إذ سيؤدي أيضاً إلى قطع الصلة بين الأجيال العربية القادمة وبين كنوزهم العظيمة، التي تحتوي ثرواتهم العلمية الدينية والدينية، وهي مكتوبة ومطبوعة بالرسم العربي المتبع. كما أنه سيكون مرحلة تمهيدية تعطي المبررات لتحويل الكتابة إلى الحروف اللاتينية، ما دامت الصلة قد انقطعت فعلاً كلها أو بعضها بالتحوير الجديد، الذي يريدون له أن يتم عن طريق المجامع العربية. وقد تقدمت طائفة بعضها حسن النية وبعضها مجهول الهدف بمقترحات لهذا الإصلاح، ولكن هذه المقترحات قد باءت بالفشل أمام وعي أكثرية الشعوب العربية، وبسبب صعوبة المجازفة بخطوة خطيرة من هذا النوع، من شأنها أن تعبث بجزء ذي أهمية بالغة من كيان الأمة العربية في جميع أقطارها وأمصارها، إذ لا يخص بلداً بعينه، أو قطراً واحداً داخل الوطن العربي والإسلامي الكبير. وأخيراً اقتصرت بعض المقترحات على تسهيل الكتابة المطبعية فقط، دون تغيير في أساس الرسم العربي، وسيظل هذا الاقتراح أيضاً بعيداً عن مجال التنفيذ، لأنه اقتراح من شأنه أن يسهل على عمال المطابع فقط ولا علاقة

(8) غزو الفصحى عن طريق العبث بقواعدها

للجماهير العربية به، وخير له أيضاً أن لا يرى النور، لأن إثمه أكبر من نفعه، إذ هو منزلق مهما يكن يسيراً فقد يتبعه منزلقات أخرى، تمس جهور الكتابة العربية، وتهدم كيانها، وهو كيان ذو تاريخ عظيم. (8) غزو الفصحى عن طريق العبث بقواعدها ومن الدعوات المشبوهة الهدامة التي أطلقت باسم الإصلاح دعوت نادت بتبسيط اللغة العربية الفصحى وتطويرها. وتدفقت تحت هذا العنوان المقترحات العديدة التي تضمنت النيل من أسس قواعد العربية الفصحى، بغية هدمها باسم تبسيطها وتطويرها. فمن ذلك المقترحات التالية: المقترح الأول: إلغاء صورة الإعراب في الكلام العربي، واللجوء إلى تسكين أواخر الكلمات. ويحمل هذا الاقتراح في ظاهره التسهيل على الناطق بالعربية، ولكنه يحمل في باطنه هدم الصروح التي قامت عليها هذه اللغة العظيمة، وذلك يؤدي مع الزمن إلى التلاعب بمعاني معظم المصادر الإسلامية والعربية، لأنه متى ألغي الإعراب فقد ألغيت المستندات التي يتحاكم إليها في تحديد المعاني، ثم تحتاج اللغة الجديدة المسكنة الأواخر إلى قواعد أخرى تضبط بها المعاني. ولست أدري كيف تفهم الأجيال التي ستنشأ على إلغاء الإعراب مثل قول الله تعالى في سورة (فاطر/35 مصحف/43 نزول) : {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} وقوله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) : {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ....} .

فلو ألغي الإعراب وسكنت أواخر الكلمات لكان المتبادر في النص الأول أن الله هو الذي يخشى العلماء، لا أن العلماء هم الذين يخشونه ولكان المتبادر في النص الثاني أن إبراهيم هو الذي ابتلى ربه، لا أن ربه هو الذي ابتلاه، مع أن الأمر في كل منهما بعكس ذلك، وقاعدة الإعراب هي التي حددت هذه المعاني ومنعت عنها الالتباس. المقترح الثاني: إيثار كل لهجة أو لغة عربية قديمة توافق العامية، كإيثار اللغة التي تجعل الأسماء الخمسة تلزم الألف دائماً، وإيثار اللغة التي تجعل المثنى يلزم الألف في جميع حالاته. وهذا المقترح من شأنه أن يكلف المتعلمين تطويع ألسنتهم أن ينطقوا بالعربية مرتين، مرة يتقنون بها قراءة المصادر الإسلامية والعربية وفق القواعد التي استقرت عليها لغة قريش، ونزل بها القرآن الكريم، وأخرى وفق هذا المقترح. والأسهل من ذلك التزام الطريقة التي نزل بها القرآن. المقترح الثالث: حذف بعض قواعد النحو أو تعديلها، ومن أمثلة ذلك حذف باب الممنوع من الصرف، واعتبار جميع الكلمات مصروفة، وإلغاء قاعدة التخالف بين العدد والمعدود في التذكير والتأنيث وجعل العدد موافقاً لمعدوده دائماً تذكيراً وتأنيثاً، وإبقاء المفعول به منصوباً في حال بناء الفعل للمجهول، وإلغاء صيغ جموع التكسير في الأسماء التي يجوز جمعها جمع المذكر سالماً وجمع تكسير، والاكتفاء بصيغة جمع المذكر السالم، وإلزام المنادى والمستثنى حالة واحدة من الحالات، فيكون منصوباً دائماً أو مرفوعاً دائماً. وكأني بهذا المقترح يتضمن محاولة وضع لغة جديدة مشتقة من أصول اللغة العربية، وسيلة لإلغاء اللغة العربية والتخلص منها ومن المصادر العظيمة المكتوبة بها، خدمة لأغراض الأعداء الغزاة، تحت ستار التسهيل على الناطق العربي. ولا ندري ما سر هذا الإلحاح على تطوير اللغة العربية أو تحريفها أو تغيير أصولها!؟ وكيف يتبناه طائفة من أبناء العربية استجابة للدسائس التي كان قد

بثها طائفة من المستشرقين الاستعماريين، وما يزالون يدفعون إلى تبنيها عدداً من أجرائهم أو السائرين في أفلاكهم من المستغربين؟! مع أن في اللغات العالمية الأخرى صعوبات وشذوذات عن القواعد القياسية لا تقل عما في اللغة العربية الفصحى، ثم لا نجد أحداً من الشرقيين أو المستشرقين ولا من الغربيين أو المستغربين ينادي بإصلاح تلك اللغات، أو تغيير شيء من قواعدها وأصولها المتبعة، ومن الثابت أن في هذه اللغات عاميات يجري بها حديث الناس في شؤونهم العامة، وفيها إلى جانب ذلك لغة راقية منضبطة يكتب بها العلماء والأدباء، ويسجلون بها آثارهم التي يريدون لها أن تكون خالدة. وقواعد كل لغة هي القوانين التي يجب اتباعها، للدلالة على المعاني التي يريدها من أراد النطق أو الكتابة بتلك اللغة، ولتأليف الكلام في كل لغة نظام خاص لا يجوز الإخلال به، ولا يكون الكلام مفهوماً ولا مصوراً للمراد حتى يكون متقيداً به غير زائغ عنه، وأية محاولة لتغيير هذه القوانين اللغوية المتبعة في أية لغة، لا تخلو عن أن تكون عملية اختراع لغة جديدة، اختراعاً كلياً أو جزئياً، وقد يكون أمر اختراع لغة ما حدثاً من الأحداث التي تقذف نفسها إلى ميادين التجربة في حياة الناس، لولا ارتباط الناس بتاريخ حضاري عملي صنعته آلاف الملايين من الآباء والأجداد، ولولا ارتباط لغتهم الموروثة بأهم الأحداث العظيمة التي تربط الناس بخالقهم، إذ اختارها لإعلامهم بدينه وشرائعه وعظاته وأخباره عن أحداث النبوات والرسالات الأولى. وهدم هذه اللغة تصميم على تنفيذ مؤامرة الزيغ عن دين الله ورسالته الخالدة لخلقه، وتحويل للأمة العربية عن مكان القيادة في مجال الدعوة إلى دين الله، وبيان رسالة الإسلام للناس، وقذف بها إلى مؤخرة الأمم، حيث تجد نفسها مضطرة إلى أن تتلقف صدقات الناس، بعد أن تركت كنوزها، إذ يكون عليها حينئذ أن تدفع ضريبة الحماقة التي سلكتها مهانة وفقراً وذلاً، وأن تقف بين الأمم الأخرى موقف الأيتام على موائد اللئام. وهذا ما يريده للمسلمين الأعداء الغزاة.

(9) غزو اللغة العربية بالمفردات الأجنبية الدخيلة

(9) (9) غزو اللغة العربية بالمفردات الأجنبية الدخيلة في العالم العربي غزو جديد تعرضت له اللغة العربية، إنه غزو متنها بالمفردات الكثيرة الدخيلة من اللغات الأجنبية الشرقية أو الغربية، مع إمكان ترجمة هذه المفردات بما يفهمه الناطق العربي من لغته. وقد نَفَّذ هذا الغزو بقصد أو بدون قصد مترجمو الكتب والبحوث الأجنبية، وفي مقدمتهم مستوردو الأفكار التي يريدون لها أن تغزو المعاقل الإسلامية، وتكسر أسوار الحصون الفكرية عند المسلمين، وقد تعمد هؤلاء أن يبقوا لهذه الألفاظ ظلها الغامض، حتى يكون لغموضها إشعاع سحري يجعل لها تأثيراً على نفوس أمثال الببغاوات، من البسطاء الذين تعلموا صناعة الكتابة والقراءة، فهؤلاء يرددونها دون أن يفقهوا معانيها وما ترمي إليه , كما يسمح لها أن تهيمن على عقول العامة الذين يستسلمون للذين يرددونها , كما استسلموا من قبل لموجة العلوم المادية الحديثة ومصطلحاتها , واضطروا أن يقبلوا بها في مجالات كثيرة , وأهمها المجال الطبي الذين يسمعون فيه حشداً لا حصر له من أسماء الأدوية المستوردة , التي لا حيلة في ترجمتها , وهم يظنون أن كل ما يأتي به العلم الحديث ينبغي أن يكون بلغة لا يفهمونها. وامتلأت الكتب الحديثة والصحف والمجلات والخطابات والمحاضرات في الأندية والإذاعات وسائر وسائل الإعلام , بهذا السيل المخيف المتدفق على متن اللغة العربية من المفردات الدخيلة الشرقية والغربية. ولست أدري ما حاجة اللغة العربية إلى إدخال مثل كلمة "بيولوجي" في متنها , مع إمكان ترجمتها بما يساوي معناها المراد , وهو "علم الحياة". أو إدخال مثل كلمة "فيزيولوجي" مع إمكان ترجمتها بما يساوي معناها , وهو "علم وظائف الأعضاء". أو إدخال مثل كلمة "سيكلوجي" مع إمكان ترجمتها بما يساوي معناها , وهو "علم النفس". ونظيرها كلمات كثيرة , مثل: "جيولوجي - ايديولوجي - سيسيولوجي -

آنثروبولوجي - ديماغوجي - ديكتاتوري - ديمقراطي - أوتوقراطي - أورستقراطي - بروليتاريا - راديكالي - فولكلور - كوكتيل" إلى آخر هذا الحشد من المفردات الدخيلة , التي بدأت تغزو متن اللغة العربية من غير حاجة إليها , لإمكان ترجمتها بما يدل على معناها من اللغة العربية الفصيحة. أما الأعلام الأجنبية كأسماء الأشخاص , وأسماء الأدوية , وأسماء البلدان , فهذه لا مندوحة من قبولها بألفاظها , ولا مجال للاعتراض عليها , لعدم إمكان ترجمتها , وقد قبلت اللغة العربية منذ القديم هذا النوع , ولكن مجال البحث في ألفاظ المعاني التي يمكن ترجمتها إلى ألفاظ عربية , أو يمكن وضع مصطلحات عربية لها. إن قبولنا بتحدي هذه الكلمات الأجنبية في غزوها لغتنا العربية , استخذاء وخنوع لا يرضى به مسلم حريض على لغة الكتاب المجيد , وقد كان من الواجب أن لا يرضى به عربي يرى أنه يناصر قوميته , فما بال جمهورٍ كبير من مثقفينا العرب يفتحون صدورهم لتقبل هذا الغزو الأجنبي للغتهم , ويتولونه بأنفسهم , ثم يتنطعون بين العامة والخاصة بترديد هذه الألفاظ الدخيلة , التي يوهمون بها أنهم أصحاب معرفة واسعة بالعلوم الحديثة , لذلك فما على الجماهير إلا أن تستسلم لقيادتهم وتخضع لإرادتهم. والمحذور الخطير في الأمر ما يفعله ترديد المفردات الدخيلة في المكتوبات العربية , وتداولها على الأسماع , من تهيئة الجو المناسب لها كيما تنتشر وتتمكن بين الجماهير العربية , حتى تكون هي الكلمات المحفوظة , وبعد حقبة من الزمن تنسى ترجمتها العربية , ويصير الدخيل هو الأصيل صاحب الدار , إذ تتقبله الألسن , وتنسجم معه الأفكار , ومن شأن هذا الأمر أن يعبّد الطريق أمام موجات جديدة من المفردات الأجنبية العديدة , التي يراد لها أن تغزو لغتنا العربية , وحينما يكثر الدخيل الذي يزاحم المفردات العربية ويحل محلها , تصبح مهمة حملة لواء عزل العربية الفصحى عن ميادين الكتابة والعلم أسهل من ذي قبل. وعند ذلك يرى أعداء اللغة العربية أن الفرصة قد سنحت لهم , لإقامة

(10) طلائع المستجيبين لمكيدة إحلال العاميات محل الفصحى

الجدار الغليظ بين الشعوب العربية وبين اللغة العربية الفصحى , وبإقامة هذا الجدار يرون أنهم قد ظفروا بعزل العرب المسلمين عن المصادر الإسلامية , التي ما تزال تجدد فيهم شباب العقيدة والنظم والتعاليم الإسلامية العظيمة. ولكن الله تبارك وتعالى سيحفظ كتابه القرآن , رغم مخططات أعداء الإسلام ضده , وسيحفظ اللغة العربية التي أنزل كتابه بها , حتى يظل نوره مشرقاً , ويستمر تعليمه حجةً على الناس , ويبقى صلةً دائمة بين الله ومن يريد أن يسلك سبيل الهداية من عباده , والله متم نوره ولو كره الكافرون. (10) طلائع المستجيبين لمكيدة إحلال العاميات محل الفصحى أول من استجاب للكتابة بالعاميات الإقليمية دور السينما العربية والمسارح , وكتاب الأغاني , وبعض أصحاب المجلات الفكاهية , والهزلية , ومروجو الفنون الشعبية. وعلى الرغم من انطلاق هؤلاء في هذا المضمار , مع اختلاف الدوافع التي أملت عليهم ذلك , ومنها دوافع تتصل بمهماتهم الفنية والتجارية البحتة , فقد ظلت النسبة العظمى من هذه الكتابات أقوالاً تُسمع ولا تُقرأ , وما يُقرأ منها فهو ذو طابع زمني , ينقرض بانقراض زمانه , شأنه كشأن معظم الأحاديث والقصص والفكاهات والأمثال العامية , التي تدور على ألسنة العامة في أوقاتها , دون أن يجد فيها الجيل اللاحق الأثر الذي كان يجده فيها الجيل السابق. وهذه التجارب التي تمر بها ميادين الفنون , ستقدم الدليل القوى على أن العاميات الإقليمية ليس من شأنها أن يكتب لها الخلود والبقاء , إذ ستنتصر عليها العربية الفصحى , وتثبت أنها هي الجديرة بالبقاء , لما تتمتع به من رقي لغوي , وضبط تامٍ يستطاع معه الطمأنينة على ضمان وسلامة المعاني , وحفظها من الميوعة والتحريف , والبلى مع الزمن. وإننا ننصح لهؤلاء الذين اختاروا لأنفسهم مسالك الفنون , أن يتحسسوا

بشيء من واجبات لغتهم وواجبات تاريخهم عليهم , وهم من أبناء هذه الأمة , وذلك بأن يرتقوا بلغة الفن شيئاً فشيئاً , حتى يدنوها من العربية الفصيحة , وحتى يساهموا بنشرها بين الجماهير الكثيرة , التي تشاهد فنونهم أو تسمعها , كما نهيب بهم أن يرتقوا بها في مراتب الأدب الرفيع , والتوجيه الكريم إلى مكارم الأخلاق , وإلى مختلف الفضائل الفكرية والنفسية والاجتماعية , وأن لا يجعلوا الميادين الفنية سوقاً لكلّ رخيص مبتذل , ولا مرتعاً للمباذل اللفظية والعملية. ولا يظنوا أن الفرق واسع بين العامي والفصيح , فالقضية ميسورة إذا بذلوا في سبيلها بعض الجهد , وما عليهم إلا أن يعربوا الكلمة , وأن يختاروا من المفردات السهلة الدارجة على الألسن ما يوافق الفصيح , وما أظن هذا الأمر صعباً على من يبذل عشرات الألوف لإنتاج مشهد تمثيلي واحد للشاشة أو المسرح. أما الأغاني فأمرها أيسر وأسهل , وتصحيحها مطلب قريب المنال لكل قاصد والمسؤولية في هذا تقع على المؤلفين والملحنين والمغنين معاً. وعلى كلّ من يريد لأدبه أن يكون خالداً أن يكتبه بلغة القرآن الذي تكفل الله بحفظه , ومن حفظه حفظ العربية الفصحى التي أنزله بها , ولَنْ يظفر الأعداء الغزاة بطائل كبير في حربهم لهذه اللغة العظيمة , ما دام منزل القرآن قد تكفل بحفظه , وخيرٌ لهم أن يبذلوا هذه الجهود الطائلة في أمور تنفعهم في بلادهم وتنفع أمتهم , وما لهم ولهذا الصرع مع كتاب الله واللغة التي أنزله الله بها؟ لقد عملوا على هدم الإسلام من كلّ جانب عبر قرون , فلم يظفروا بإلغائه ولا محوه , ورأوا أنهم كلما زادوا المسلمين اضطهاداً ومؤامرات ومكايد , دار الزمن دورته , فتفجَّر حقل إسلامي جديد من جهة من جهات الأرض , فقدم نفسه للعالم نوراً مشرقاً , ودعوة خيرة , وقوة ذات بأس ومنعة.

(11) نحن والغزاة

(11) نحن والغزاة تحرص كلّ الشعوب على لغاتها , وتحاول الاحتفاظ بها , ونشرها بين الناس , كما يفعل الاستعماريون , وغيرهم من ذوي النزعات القومية. ونلاحظ تمسّك اليهود تمسكاً شديداً بالعبرية , ضمن دوافع دينية وعرقية قومية , ولو نشأ ناشئوهم بين شعب لا يتكلّم العبرية مطلقاً , وقد يصل التعصب ببعضهم إلى رفض تعلم لغة أخرى. وتفاخر الأمم بالروائع الأدبية والروائع العلمية المكتوبة بلغاتها والمصوغة بألسنتها؛ إذ تشعر في ذلك بلون من ألوان المجد المتصل بذاتياتها ولغاتها الممثلة لصورة الرقي الذي بلغه أسلافها , والذي يمنحهم الشعور بأن وراثة عوامل المجد مستمرة فيهم , وهذه العوامل سيكون لها بين حين وآخر ثمرات متجددة , بينما تشعر أمم أخرى بكثير من الخجل والضآلة , إذا لم تجد في تاريخها الغابر روائع علمية أو أدبية تبرهن للناس على مدى الرقي الذي بلغه أسلافها , الأمر الذي قد يشعر هؤلاء الأحفاد بأنهم لا يملكون النصيب الذي يفخرون به من وراثة عوامل المجد , وبأن القصور الذي أصيب به آباؤهم وأجدادهم قد يكبو بهم أيضاً على مرّ الزمن. هذه ظاهرة من الظواهر الإِنسانية , ذات الأثر في مجتمعات الناس , وإننا نجد أنفسنا مضطرين لعرضها في ميادين البحث الإِِنساني , سواء أقرها التحليل العلمي أو تردد في إقرارها , لأن كلَّ ظاهرة اجتماعية لا بد أن يكون لها عامل أو أكثر من العوامل النفسية داخل الأفراد , وهي التي تمثل بشكل عام جانباً من خصائص الأمة. ولما كانت اللغة العربية الفصحى تحوي ذخائر الروائع الأدبية والعلمية , التي لا تطاولها ذخائر أخرى في العالم؛ حق للأمة العربية في جميع عصورها أن تفخر بهذه الذخائر , وأن تحرص عليها , وأن تكون وفية لأسلافها , وذلك

بالمحافظة على متن لغتها الراقية , وقواعدها التي كتبت بها هذه الذخائر , وضبطت بها علومها وآدابها. وجدير بالأمة العربية فوق ذلك أن تفخر بالشرف العظيم الذي منحها الله إياه , إذ أنزل بلغتها العربية الفصحى القرآن المجيد , آخر الكتب الربانية للناس وخاتمها , وجامع زبدة ما أنزل فيها من علم وهداية , وقد امتن الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى الأمة العربية بهذا التشريف إذ قال تعالى في سورة (الزخرف / 43 مصحف / 63 نزول) : { فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} . أي: وإن القرآن لشرف عظيم لك ولقومك , إذ أنزل باللغة العربية التي تنطقون بها , فتوّج ذخائر علومكم وآدابكم بتاج المجد الخالد , الذي لا يطاوله مجد آخر , لما يتمتع به من حكمة وحق وإعجاز في لفظه ومعناه. وإذا اختار الله اللغة العربية الفصحى لإِنزال آخر كتبه للناس بها , الجامع لزبدة ما في الكتب السابقة من هداية وحكمة , والذي أعدّه الله للخلود , وتعهد بصيانته وحفظه من التحريف والتبديل والنسيان والضياع في لفظه ومعناه , فمن المؤكد أن يكون لهذا الاختيار حكمة تتصل بجوهر هذه اللغة وخصائصها , لذلك نجد في القرآن الكريم آيات عشراً تنوه بأنه قرآن عربي: أ - فمنها قول الله تعالى في سورة (الشعراء / 26 مصحف / 47 نزول) : {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} . فالقرآن بلسان عربي مبين , وظاهر في وصف اللسان العربي بالإِبانة المدح له بالدقة والضبط في تأدية ألفاظه وتراكيبه وقواعده وأساليبه البلاغية للمعاني التي يقصد إليها البليغ , حينما يستخدم هذا اللسان للتعبير عما يريد الإِبانة عنه , واللسان العربي هو اللغة العربية الفصحى التي أنزل الله بها القرآن.

والقرآن ليس بدعاً بين الكتب المنزلة , فما احتواه من هداية وحق وحكمة قد أنزله الله موزعاً في كتب الرسل الأولين , وهذا ما دلّ عليه قول الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} ب - ومنها قول الله تعالى في سورة (يوسف / 12 مصحف / 53 نزول) : {إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وقوله تعالى في سورة (الزخرف / 43 مصحف / 63 نزول) : { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ *} . ونستطيع أن نفهم من قول الله تعالى في هذين النصين: "قرآناً عربياً لعلكم تعقلون" أن في اختيار إنزاله قرآناً عربياً حكمة عبّر عنها بقوله: "لعلكم تعقلون" أي رجاء أن تعقلوا ما فيه من معانٍ , لأن اللغة العربية لغة فيها من القواعد الرصينة والأساليب البلاغية ما يضبط الدلالة على المعاني الكثيرة المرادة , ولا يسمح لها أن تكون مائجة مائعة رجراجة , أو رجاء أن تعقلوا هذا التشريف الربّاني للغتكم , فتحافظوا على هذا الكتاب , وتحافظوا على هذه اللغة التي اختارها الله من بين لغات الأرض لغة خاتم كتبه للناس بها , مع أن من آياته جلّ وعلا اختلاف ألسنة الناس وألوانهم. جـ - ومنها قول الله تعالى في سورة (الأحقاف / 46 مصحف / 66 نزول) : {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} . وقوله تعالى في سورة (فصلت / 41 مصحف / 61 نزول) : {حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ *} . وقوله تعالى في سورة (طه / 20 مصحف / 45 نزول) :

{وَكَذلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} . وقوله تعالى في سورة (الزمر / 39 مصحف / 59 نزول) : {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} . ففي هذه النصوص يؤكد الله مِنّته على الأمة العربية بإنزال القرآن بلسانها , تشريفاً للغتها وتكريماً لها. وإن كتاباً قد بلغ هذا المجد العظيم حقيق بأن تبذل من أجل الحرص عليه حياة أجيال , وحقيق بأن تكون لغته محور لغة الأمة التي شرّفها الله به , وأن يكون صراطه سبيل حياتها , وأن تكون مبادئه وفلسفته أسس عقائدها ومفاهيمها. أما الذين يحاولون صرف الأمة العربية والشعوب الإسلامية عن العربية الفصحى , فهم يعملون ليخلعوا عن هذه الأمة مجدها العظيم. ومع اعترافنا بأن الخطة الذكية , التي سلكها الأعداء الغزاة , المشتملة على استئجار أجراء من داخل البلاد الإسلامية , لتحقيق أهدافهم في هدم الإِسلام , قد كانت أكثر نجاحاً من خططهم السابقة التي واجهوا بها المسلمين صراحة , وهم يعلنون عداءهم الصريح لهم ولدينهم ولماضيهم وكل ما يتصل بهم. ومع اعترافنا أيضاً بأن أبناء المسلمين الذين تربوا على أيدي أعداء الإِسلام , وتأثروا بهم , قد كانوا أكثر إنفاذاً لأفكار الغزاة وأكثر نشراً لها داخل المجتمعات الإِسلامية من الأعداء أنفسهم , لأنهم من جلدتهم , وينطقون بلغتهم , ويتظاهرون بالغيرة عليهم , ويستطيعون أن ينفذوا إلى مراكز القيادة فيهم , ويجد كلٌ منهم عشيرة تناصره , وعصابة تؤازره , وجماهير تحسن به الظن , لأنه بحسب الظاهر غير متّهم على قومه , إذ هو منهم , مع أنه في الحقيقة قد خرج بأفكاره وعواطفه الصادقة عنهم خروجاً بيناً , بسبب عملية الصهر

البطيء الذي تعرّض له , من قبل أعداء قومه ودينه , منذ نشأته في المدارس التي تطبق خطط الأعداء , فهو في كل إساءاته لأمته ولأمجادها وأبنيتها الحضارية يحسب أنه يصلح ولا يفسد , ويساهم في تقدم أمته لا في تأخرها , وصاحب هذا الظن شر على أمته من صاحب الخيانة , لأن الأجير الخائن يعمل بمقدار الأجر الذي يدفع له , ويظل جباناً خائفاً يحاذر الفضيحة , أما هذا فإنه يقوم بأعمال الهدم باذلاً كل قوتّه , متحمساً للأفكار الفاسدة التي حملها معتقداً لها , حتى أمست جزءاً من كيانه النفسي والفكري. مع اعترافنا بما سبق فإن الإصلاح لا يعدم وسيلة تنفذ إلى الواقع الفاسد , بالإقناع والترغيب والترهيب والتربية والتقويم القسري. ولو تسنى للمصلحين الظفر بإقناع الذين انحرفوا من أبناء أمتنا , حتى يعلموا أنهم قد كانوا ضحايا غزو فكري أعده أعداء أمتهم بإحكام بالغ , لهدم مباني مجدها التاريخي العظيم , لانقلبوا بقوة أشد عنفاً على أفكارهم التي حسبوها خيراً وهي شرٌ لهم ولأمتهم , ولعادوا إلى تدعيم المباني التاريخية التي يعملون اليوم على تهديمها , بكل ما أوتوا من قوة. وما على الطلائع المؤمنة بالحق والخير إلا أن تضطلع بمهمة نشر ما تؤمن به , غير متواكلة ولا متخاذلة. ففي ردّ هجمات التحدي التي يوجهها خصوم اللغة العربية الفصحى بين حين وآخر إلى حصونها وقواعدها , بغية الفصل بين الشعوب الناطقة بها وبين كنوز الإسلام المحفوظة فيها , يجب على العرب خاصة وعلى المسلمين عامة أن يقابلوا هذه الهجمات بالصمود والثبات , إن لم يردوها بهجمات مناظرة على أسس اللغات الأخرى , التي يحاول الناطقون بها نشرها بين أمم الأرض , وإحلالها محلّ لغاتها الأصلية , ويوجهون جهوداً ضخمة على وجه الخصوص لمحو اللغة العربية حاملة رسالة الإسلام. وخطة الصمود والثبات تفرض على الأمة العربية ثم على سائر الشعوب الإسلامية أن يعملوا على نشر العربية الفصحى بين الأجيال الناشئة في

بلادهم , ثم أن يعملوا أيضاً - إن استطاعوا - على نشرها بين شعوب الأرض قاطبة , بأحدث وسائل النشر , وأقرب أساليب تعليم اللغات , ولا أقل من أن تكون هي لغة التخاطب بين الشعوب الإسلامية التي يبلغ عددها ربع سكان الكرة الأرضية. هذا واجب إسلامي يطالب به جميع المسلمين , وهو واجب عربي يطالب به جميع العرب. وتتحمل مناهج التعليم وبرامجها وخططها الدراسية وكتبها المدرسية والمدارس التي تطبق ذلك أثقل أعباء هذه المسؤولية الخطيرة. وأي تهاون أو تقصير في أمر العناية بالعربية الفصحى من قبل المؤسسات المسؤولة عن وضع المناهج والبرامج والخطط الدراسية والكتب المدرسية , والمسؤولة عن الإشراف على المدارس التي تطبقها , سيكون مساهمة سلبية , تمكن لخصوم اللغة العربية , أن يظفروا ببعض ثمرات هجمات التحدي عليها وعلى الإسلام , الذي يمثل بالنسبة إليها قوة الحماية غير المنظورة , التي يعرفها الخبيرون , ويتجاهلها المغرضون. فمن الواجب أن تضم المناهج الدراسية لجميع مراحل الدراسة النسبة الكافية من علوم اللغة العربية , وأن تعطى هذه المناهج من الخطط الدراسية النسبة الكافية من الساعات الأسبوعية , وأن يشجع المؤلفون والمنتجون بكلّ وسائل التشجيع المغرية لابتكار الطرق التعليمية السهلة لهذه اللغة , ولتأليف الكتب الملائمة التي تحبب اللغة العربية لروادها , وأن تقدم العلوم على اختلافها باللغة العربية الفصيحة اللينة السهلة , التي لا تقعير فيها ولا تعقيد , وذلك منذ أول المرحلة الابتدائية حتى نهاية المرحلة الجامعية , وأن لا يسمح بتدريس العلوم المختلفة باللغات الأجنبية , مهما دعت الضرورة إلى ذلك , فضرورة المحافظة على اللغة العربية أشد , والأمر ميسور لمن طلبه وسعى إليه , وأن تعد الجوائز والمكافآت للكتَّاب والأدباء والشعراء الذين يقدمون ثمرات إنتاجهم العلمي أو الأدبي , المتقيد بأصول اللغة العربية متنها وقواعدها والمتقيد بأصول العقائد والأخلاق الإسلامية , وأن تعقد مجالس محادثات عامة أسبوعية أو شهرية

في كل معهد علمي مهما كان مستواه الدراسي للطلبة والمدرسين، يلزم فيها المتحدثون بأن يتقيدوا بالعربية الفصحى، مهما كانت موضوعات الأحاديث، ولو كانت من الأحاديث العادية غير ذات الشأن، وأن تقوم مؤتمرات دورية في العالم الإسلامي يشارك فيها ذوو الاختصاص لاكتشاف أحسن الوسائل لتسهيل نشر اللغة العربية في العالم. ويقع قسم آخر من عبء هذه المسؤولية، على المجامع العربية التي يجب عليها أن تعمل بكل جهدها، على توحيد المصطلحات العربية لمختلف العلوم والفنون الحديثة، وأن تصدر في سبيل تحقيق هذه الغاية على شكل دوري مجلة عربية رسمية موحدة، تنشر فيها ما تتلقاه من طلبات ووضع مصطلحات عربية في مختلف العلوم والفنون، تفد إليها من جميع المؤسسات التعليمية وغيرها، ثم تنشر فيها جميع القرارات التي تتخذها بشأن المصطلحات العربية الحديثة، وقبل أن تتخذ قراراتها لا بد أن تطرح موضوعاتها على الرأي العام العربي، طالبة تقديم المقترحات حول المعاني العلمية أو الفنية الجديدة التي تريد أن توجد لها مصطلحات عربية. ومن الخير أن تحدّد هذه المجامع مكافأة مادية لكلّ مصطلح ينال لدى المجامع العربية أولولية الإقرار، ومن ثم يلزم الكتاب والمؤلفون والمحاضرون بأن يتقيدوا بهذه المصطلحات التي توضع لها المعاجم الخاصة، على أن تجدد طباعتها بين حين وآخر، مضافاً إليها ما استحدث من مصطلحات. وأخيراً فإن القسط الباقي من عبء هذه المسؤولية يقع على جميع المؤسسات الرسمية والدوائر الحكومية في جميع البلاد العربية، وعلى وسائل الإعلام المختلفة الشاملة للإذاعات والصحف والمجلات والأندية والمؤسسات الاقتصادية العامة أو الخاصة. أما نشر اللغة العربية بين الشعوب الإسلامية فيتطلب عملاً إسلامياً عاماً تتحمل البلاد العربية فيه قسطاً كبيراً من مسؤوليته. ومن وسائل تحقيق هذا الهدف افتتاح مراكز لتعليم اللغة العربية في كل بلد من البلاد الإسلامية، بالاتفاق مع حكومات هذه البلاد، ولن تكون

مشكلة التمويل كبيرة متى اقتنعت هذه الدول الإسلامية بضرورة الأمر، إذ ستتحمل كل دولة منها معظم أعباء المراكز التي تؤسس داخل دولتها، وما على الدول العربية في إطار التعاون مع الشعوب الإسلامية إلا أن تقدم الخبرات والمعلمين المدربين الكتب الملائمة. ومن الوسائل تذليل تعلّم وتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، وعن طريق الكتب الميسرة السهلة، والتعليم الإذاعي، والتعليم التلفزيوني، وأشرطة التسجيل السمعية، والسمعية البصرية، ومعامل اللغة، والمسابقات العامة، وغير ذلك. هذه طائفة من الوسائل التي نستطيع أن نخدم بها لغتنا العربية، وستكون فائدتنا جليلة جداً في المجال الدولي العام إذا حققنا هذا الأمل العظيم. * * *

الفصل الثاني عشر الغزاة وتفصيل أعمالهم في الإفساد

الفصْل الثاني عشر الغزاة وتفصيل أعمالهم في الإفساد الخلقي والسلوكي 1- تكسير معاقد الترابط الاجتماعي وتقطيع أوصاله. 2- العبث بجذور الأخلاق. 3- طريقا التضليل والاستدراج إلى الانحراف السلوكي. 4- الوسائل: الأولى: استخدام عنصر المال. الثانية: استخدام عنصر النساء. الثالثة: الاهتمام بالمرأة في مجالات العلم والثقافة والفن. الرابعة: فتنة الاختلاط وسفور المرأة. الخامسة: استخدام الآداب والفنن. السادسة: استخدام عنصر الحكم. السابعة: استخدام المسكرات والمخدرات. الثامنة: استخدام وسائل اللهو واللعب. التاسعة: الاهتمام بإفساد الفتيان والفتيات. العاشرة: استخدام وسائل الترف والرفاهية. الحادية عشرة: سياسة المستعمرين غير الأخلاقية. الثانية عشرة: استخدام الفكر الإلحادي.

(1) تكسير معاقد الترابط الاجتماعي وتقطيع أوصاله

(1) تكسير معاقد الترابط الاجتماعي وتقطيع أوصاله اجتازت بي السيارة مرة في طريق صحراوي، فهبت رياح ليست بعاتية، فشهدت جبالاً ضخمة تحملها أنامل الرياح من جهة نائية عن يمين الطريق، ثم تضعها في جهة نائية عن يساره، وقالوا: هذه جبال من رمل، تتلاعب بها الرياح، فتنقلها في الصحراء، بحسب اتجاهاتها، فقلت: ما أشبه أكثر المجتمعات الإنسانية في هذا العصر بهذه الجبال الرملية، تتقاذفها الرياح الكونية ذات اليمين وذات الشمال. ولما اجتزنا جبال الرمل صادفنا هضبة مرتفعة , تزمجر الرياح العاتية من حولها , تريد أن تقتلعها , وتحملها كما حملت جبال الرمل هناك , فلا تستطيع أن تنال منها نيلاً , إلا غباراً كان قد علق بها فكنسته عنها , وبعض حصىً اختار أن ينفصل عن الهضبة , فعبثت به الرياح , فقلت: ما أشبه هذه الهضبة بمجتمع بشري متماسك بالإسلام , استطاعت الروابط الاجتماعية لديه أن تجد في أفراد معاقد خلقية متينة فتنعقد عليها فتكسب المجتمع قوة الكتلة الواحدة , لا قوة الأفراد المبعثرين , وفرق كبير جداً بين القوتين , إن بطلاً واحداً يستطيع أن يصرع مئة ألف مصارع على التناوب , لكنه متى اجتمع عليه عدد قليل منهم صرعوه مهما بلغت قوته. وقد دلت التجربات الإنسانية والأحداث التاريخية أن ارتقاء القوى المعنوية للأمم والشعوب ملازم لارتقائها في سلم الأخلاق الفاضلة , والسلوك الاجتماعي السليم , ومتناسب معه , وأن انهيار القوى المعنوية للأمم والشعوب

ملازم لانهيار أخلاقها وفساد سلوكها , ومتناسب معها. فبين القوى المعنوية وفضائل الأخلاق ومحاسن السلوك تناسب طردي دائماً , صاعدين وهابطين. إن الأخلاق في أفراد الأمم والشعوب تمثل المعاقد الثابتة التي تعقد بها الروابط الاجتماعية , ومتى انعدمت هذه المعاقد أو انكسرت في الأفراد لم تجد الروابط الاجتماعية مكاناً تنعقد به , ومتى فقدت الروابط الاجتماعية صارت الملايين في الأمة المنحلة عن بعضها مزودة بقوة الأفراد فقط , لا بقوة الجماعة , بل ربما كانت قواها المبعثرة مضافة إلى قوة عدوها ضدها , وذلك بالتصادم الداخلي , وبالبأس الذي يقع فيما بينها. وقد أدرك الأعداء الغزاة للإسلام والمسلمين هذه الحقيقة , فعملوا على إفساد أخلاق المسلمين وإفساد سلوكهم الاجتماعي والفردي بكل ما أوتوا من مكر وحيلة ودهاء , ووسائل مادية , وشياطين وسوسة وتضليل , ليبعثروا قواهم المتماسكة بالأخلاق الإسلامية العظيمة , والسلوك الإسلامي القويم , وليفتتوا وحدتهم التي كانت مثل الجبل الراسخ الصلب قوة , ومثل الجنة الوارفة المثمرة خضرة وبهاء , وثمراً وماءً. لقد عرف الأعداء الغزاة أن الأخلاق الإسلامية في أفراد المسلمين تمثل معاقد الترابط الاجتماعي فيهم , فجندوا لغزو هذه المعاقد وكسرها جيوش الإفساد والفتنة وعرفوا أن النبع الأساسي الذي يزود الإنسان المسلم بالأخلاق الإسلامية العظيمة إنما هو الإيمان بالله واليوم الآخر. وما فيه من حساب وجزاء , فصمموا على أن يكسروا مجاري هذا النبع العظيم , ويسدوا عيونه , ويقطعوا شرايينه. وعرفوا أيضاً أن تفهم مصادر الشريعة تفهماً سليماً هو الذي يمُد نبع الإيمان بالمعرفة , فمكروا بالعلوم الإسلامية , والدراسات المتعلقة بها مكراً كُبَّاراً , ما بين حجب أو تلاعب أو تشويه أو تجميد أو مضايقة لروادها ومبلغيها , وذلك في حرب مستمرة , لا تعرف كللاً , ولا تعرف مللاً. ومن العجيب أن تعمل أجنحة المكر الثلاثة: (المستعمرون والمبشرون والمستشرقون) لغزو الشعوب الإسلامية بخطط الإفساد الخلقي والسلوكي , لتفتيت كتلة المسلمين الصلبة في العالم , في حين أن شعوب هذه الأجنحة مغزوة

(2) العبث بجذور الأخلاق

بشكل أخطر وأكبر من قبل شياطين اليهود في العالم , وهم عن مكر اليهود بهم غافلون. نقرأ في "بروتوكولات حكماء صهيون" فنجد معظم مخططاتهم تهدف إلى تفتيت الشعوب وتشتيتها وتقطيع أوصالها , ونشر الفساد فيها , وغرس أصول الرذيلة بين أفرادها , حتى لا تبقى لهذه الشعوب مكارم أخلاق تجمعهم وتشد أواصرهم , ولا عقائد سليمة تغذيهم بالفضائل , وغاية اليهود أن يظفروا بأن تكون لهم وحدهم القوة الجماعية المتماسكة , التي تمكنهم من بسط سلطانهم على الشعوب المختلفة , رغم قلة عددهم في العالم , وقد نفذ اليهود قدراً كبيراً من مخططهم الخبيث في الشعوب النصرانية , قبل أن يتوجهوا بثقلهم الكبير إلى الشعوب الإسلامية , وقبل أن تتولى الأجنحة الثلاثة تنفيذ هذا المخطط في هذه الشعوب. والبلهاء من غير اليهود ينفذون في أنفسهم وفي شعوبهم وفي شعوب غيرهم مخططات أعدائهم تسوقهم الخديعة الكبرى , أو تستدرجهم وعود كاذبة , أو رشوات حقيرة , أو فكرة باطلة مزخرفة , أو شعار براق خادع , أو شهوة طاغية. وثبتت قيادات الأجنحة الثلاثة أنظارها في دائرة محاربة الأمة الإسلامية , وتهديم شعوبها , غافلة عن عدوها الأكبر وعدو الإنسانية كلها , ويوم تصحو هذه القيادات لا تجد في أيديها شعوبها , إذ تكون هذه الشعوب ساقطة في حبائل المكر اليهودي. (2) العبث بجذور الأخلاق وقد كرس الأعداء الغزاة جهوداً ضخمة لإفساد أخلاق المسلمين , والتلاعب والعبث بالمنابع الأساسية للأخلاق , وهي التي تفجرها العقيدة الإسلامية الراسخة , وتمدها بالقوة والأصالة والثبات , وقد توصلوا إلى كثير مما

أرادوا من توهين المسلمين وإضعاف قوتهم , حينما بلغوا إلى العبث في جذور أخلاقهم الإسلامية العظيمة. وذلك لأنهم عرفوا بالخبرة التاريخية الطويلة , وبدراسة الأسباب النفسية أن الأخلاق في أفراد الأمم تمثل معاقد الترابط فيما بينهم , وأن النظم الاجتماعية والتعاليم السلوكية التي جاء بها الإسلام والأديان الربانية الصحيحة تمثل الأربطة التي تشد المعاقد إلى المعاقد , فتتكون بذلك الكتلة البشرية المتماسكة القوية , التي لا تهون ولا تستخذي. ونضرب على ذلك أمثلة من الأخلاق الإسلامية ومدى تأثيرها في تحقيق الترابط الاجتماعي. المثال الأول: خلق الصدق , إن هذا الخلق بوصفه خلقاً ثابتاً في الفرد المسلم السوي معقد من معاقد الترابط الجماعي , إذ تنعقد به ثقة المجتمع بما يحدّث ويخبر في مجال التاريخ والأخبار , أو في مجال نقل العلوم والمعارف , أو في مجال المعاملات المادية والأدبية , أو في مجال الوعود والعهود والمواثيق , وغير ذلك. ومتى انهارت في الفرد فضيلة الصدق انكسر فيه معقد من معاقد الترابط الجماعي , فانقطعت بينه وبين مجتمعه رابطة عظمى , وغدا الناس لا يصدقونه فيما يقول , ولا يثقون به فيما يحدث أو يخبر أو يعد , فلا يكلون إليه أمراً , ولا يعقدون بينهم وبينه عهداً , ولا يواسونه إذا اشتكى لهم من شدة , لأنهم يرجحون في كل ذلك كذبه , بعد أن غدت رذيلة الكذب هي الخلق الذي خبروه فيه. المثال الثاني: خلق الأمانة , إن هذا الخلق بوصفه خلقاً ثابتاً في الفرد المسلم السوي معقد من معاقد الترابط الجماعي , إذ تنعقد به ثقة الناس بما يضعون بين يديه من مال أو سلطان , وبما يمنحونه من جاه أو تكريم , وبما يكلون إليه من تمثيل لهم في المجالس والمحافل والمجتمعات العامة أو الخاصة , وأشباه ذلك.

ومتى انهارت في الفرد فضيلة الأمانة انكسر فيه معقد من معاقد الترابط الجماعي , فانقطعت بينه وبين مجتمعه رابطة عظمى , وغدا الناس لا يأمنونه على أي شيء ذي قيمة معتبرة لديهم , خاصاً كان أو عاماً , لأنهم يقدرون في نفوسهم أن سيسطو عليه لنفسه , بعد أن غدت رذيلة الخيانة هي الخلق الذي خبروه فيه. المثال الثالث: خلق العفة , إن هذا الخلق بوصفه خلقاً ثابتاً في الفرد المسلم السوي معقد من معاقد الترابط الجماعي , إذ تنعقد فيه ثقة الناس بما يضعون بين يديه من أعراضهم , فتأمنه الأسرة على أعراضها إذا غابت , ويأمنه الجار على عرضه إذا خرج من منزله إلى عمله , وتأمنه الزوجة إذا غاب عنها من أن يختان نفسه , ونحو ذلك. ومتى انهارت في الفرد فضيلة العفة انكسر فيه معقد من معاقد الترابط الجماعي فانقطعت بينه وبين مجتمعه رابطة عظمى , وأمسى الناس لا يأمنونه على أعراضهم , ولا يأمنونه على بلادهم ومصالحهم العامة , لأنهم يقدرون في نفوسهم أن أعداءهم سوف يسهل عليهم شراؤه من مغمز عفته , فإذا اشتروه سخروه في خدمة أغراضهم. وهكذا سائر الأخلاق الفاضلة الإسلامية , كالعدل , والجود , والوفاء بالوعد والعهد , والإحسان , والعطف على الناس , والتعاون , وغير ذلك من فضائل الأخلاق , وبانهيار كل خلق منها ينكسر معقد من معاقد الترابط الجماعي , وتتقطع ما بينه وبين مجتمعه الرابطة المتصلة بهذا المعقد. وبانهيارها جميعاً تنكسر جميع معاقد الترابط الجماعي , وتنحل جميع الروابط الاجتماعية , ويمسي المجتمع مفككاً منبثاً , كحبات رمل تسفيها الرياح. ولا تكون الدعوة إلى التكتل والتجمع ناجحة ما لم يرافقها تأسيس خلقي في الأفراد , ويضمن للجماعة الواحدة معاقد التماسك , وأي تجمع ليس بين أفراده ترابط حقيقي , مشدود في معاقد خلقية متينة فاضلة , فإنه تجمع يشبه تجمع كثبان الرمل من غير أربطة بينها.

(3) طريقا التضليل الفكري والاستدراج إلى الانحراف السلوكي

على أنه ليس من المستحيل أن تتحول كثبان الرمل إلى جبال راسخة متينة , تصمد في وجه العاتيات من الريح , ولكن يشترط لذلك شروط يعرفها البناؤون بالإسمنت المسلح. وعلى مثل ذلك يكون للكثبان المفككة من البشر , فإن المادة التي تعقد بينها هي الأخلاق الإسلامية الفاضلة , المدفوعة بقوة الإيمان بالله واليوم الآخر , ويتم ذلك بإعادة بناء الأخلاق الإسلامية في هذه المجتمعات التي تنتسب إلى الإسلام وتترعرع في أمجاده , وهذه المادة العظيمة المدفوعة بهذه القوة الهائلة تحتاج إلى وسيط يحلل عناصرها , ويحكم تغلغلها في الأفراد , وارتباط بعضها ببعض , ألا وهو وسيط التربية والتعليم على الأصول الإسلامية , يضاف إلى ذلك شبكة حكم قوي إداري حازم تشبه شبكة القضبان الحديدية في أبنية الإسمنت المسلح , وذلك لحماية الأمة من الهزات السياسية أو الاقتصادية العنيفة , التي قد تكسر من تماسكها , وتقطع من أوصالها وروابطها. (3) طريقا التضليل الفكري والاستدراج إلى الانحراف السلوكي وكان من أخطر أنواع الغزو الذي غزتنا به جيوش الأعداء ما فعلته من تهديم للأخلاق الفاضلة وأنواع السلوك الإسلامي , وقد هيأ هذا الغزو الخطير المجتمعات الإسلامية لتقبل الوافدات الفكرية من كل جهة. وقلب الأوضاع الاجتماعية للمسلمين رأساً على عقب، وجعل كثير منها صورة للنقائص الموزعة في البيئات المعادية للإسلام، شرقية أو غربية. ولو كان الأمر واقفاً عند حدود اقتباس ما هو نافع ومفيد منها، مما فيه تقدم علمي أو صناعي أو تحسين مدني، وطرح ما هو ضار ومفسد مما هو منافٍ لمكارم الأخلاق ومخالف للعقائد الحقة لكان الأمر من الفضائل التي يدعو إليها الإسلام. لكن الأمر قد كان في بعض الأحيان اقتباساً عاماً للنافع والضار، وتبعية عمياء، وكان في معظم الأحيان اقتباساً للضار فقط، مما تنزلق إليه الشهوات

والأهواء، فالناظر في معظم المجتمعات الإسلامية يلاحظ مباينة معظم أخلاقها وعاداتها لمكارم الأخلاق التي يحث عليها الإسلام، ويفرض على أتباعه التزامها، والتقيد بحدودها، وكان من عوامل هذا الانحطاط الخلقي سياسة الغزاة الذين وضعوا أيديهم على معظم بلاد المسلمين حقبة من الدهر، وانغماس المسلمين في الدعة والترف وشؤون دنياهم الخاصة، وانشغالهم بالتنازع والخلاف، وتعلقهم بالدنيا، وإخلادهم إلى الأرض، وغفلتهم عن الله والدار الآخرة. لقد وجد الأعداء الغزاة أن الأخلاق الإسلامية التي هي من الظواهر التطبيقية للإيمان بالله واليوم الآخر، من أكبر العوامل الفعالة التي منحت المسلمين قوتهم الهائلة في تاريخهم المجيد، فأرادوا أن يهدموا فيهم هذه العوامل، ليوهنوا قوتهم، ويشتتوا شملهم، فعملوا على أن يقذفوا في المجتمعات الإسلامية العناصر الفكرية والسلوكية التي تفسد تماسكها الاجتماعي، وتقطع الأربطة التي تعقد الصلات المحكمة ما بين وحداتها، وتسلبها سر قوتها. وقد سلكوا لتحقيق هذا الهدف طريقين: الطريق الأول: التضليل الفكري الذي ينشأ عنه تغيير في السلوك، لأن العوامل الفكرية ذات أثر فعال في النفس الإنسانية، والنفس الإنسانية هي مصدر التوجيه إلى أنواع السلوك المختلفة في الحياة، ويدخل في هذا الطريق جميع عناصر الغزو الفكري الذي جندوا له قسطاً كبيراً من طاقاتهم العلمية والإعلامية. وأخطره الخطط الماكرة الموجهة لتنشئة الأجيال التنشئة المعادية للإسلام عقيدة وعملاً، منذ نعومة أظفارهم، في المدارس، وفي المنظمات الخاصة والعامة. الطريق الثاني: الاستدراج إلى الانحراف السلوكي وأخطر صوره، الغمس في البيئات الفاسدة، وإيجاد المناخات المفسدة المضلة، التي تسري فيها العدوى سريان النار في الهشيم.

(4) الوسائل

(4) الوسائل وقد عمد الغزاة في حملاتهم للإفساد الخلقي والسلوكي إلى استخدام العناصر التالية: (المال - النساء - الحكم ومطامعه - المسكرات والمخدرات - وسائل الترف والرفاهية - الآداب والفنون - اللهو واللعب، وغير ذلك) . وجندوا كل ما يستطيعون تجنيده لإفساد المجتمعات الإسلامية بهذه العناصر، وسهلوا سبل فتح الدور التي تستدرج إليها طلاب اللذة المحرمة، وعشاق المال الحرام وحرضوا المتطلعين إلى الرياسة أن يغامروا ويتصارعوا على مظاهر فارغة لا طائل تحتها، ويبددوا قواهم بالصراع فيما بينهم، حتى يظفر العدو بهم جميعاً، ويسخرهم بألاعيبه وحيله لما يريد فيهم وفي جميع المسلمين، من توهين وتشتيت، وتغيير جذري لكل مقوّم من مقومات وجودهم، ووجهوا أجراءهم للقيام بعملية التحويل الكلي لوجود الأمة الإسلامية. والأعمال تتوالى وتتكاثر، والخطط وتطبيقاتها في تجديد مستمر، والأخطار تتفاقم، والتحويل المراد يجري تنفيذه بدقة تامة، وسرعة هائلة. فهل من مدكر؟ وهل يتنبه المسلمون إلى وضع الخطط المعاكسة لخطط أعدائهم ويباشرون تنفيذها، مجندين كل طاقاتهم العلمية والمالية والبشرية القادرة على العمل؟ وباستطاعة الباحث أن يوجّه ملاحظاته للوسائل التالية من وسائل الغزاة. * * * الوسيلة الأولى: استخدام عنصر المال المال عنصر خطر فعال، كم اشتري به رجال، وكم استُذل به أبطال، وكم غُيِّرت به أحوال.

وقد استطاع الأعداء الغزاة أن يستخدموه على نطاق واسع في إفساد سلوك وأخلاق كثير من المسلمين، داخل البلاد التي بسطوا عليها سلطان احتلالهم المباشر أو غير المباشر. لقد عملوا حتى اشتروا بالمال أصحاب النفوس الضعيفة، وأخذوا يوجهونهم كما يريدون، وعملوا على نشر الرشوة والتشجيع على اختلاس الأموال العامة، ودعم الاحتكارات المحرمة، والتغاضي عن الغش، وتهريب المحظورات الدولية، أو تشجيعها من طرفٍ خفي، أو المشاركة السرية في تجارتها الممنوعة قانوناً. ولئن صادف أن أمسك بعض الموظفين الأمناء مجرماً من هؤلاء المجرمين، وساقه إلى القضاء بسلطة القانون، فإن كان هذا المجرم ولاّجاً خرَّجاً، في دهاليز كبار ذوي السلطة، ومن الذين دفعتهم إلى مراكزهم الأيدي الخفية للأعداء الغزاة، استطاع أن يكون بريئاً، وأن يوقع الموظف الأمين في ورطة كبرى تنتهي به إلى التسريح، أو إلى عقوبة مادية مهلكة، وإن لم يكن كذلك أصابته العقوبة القانونية الخفيفة التي تغريه بتكرار جرمه مرة أخرى، أو أسرعت إليه الأيدي الخفية فاشترته بالعفو عنه، وجندته في كتائبها المعادية للأمة. وخلال ربع قرن استطاع الأعداء الغزاة أن يفسدوا من سلوك المسلمين وأخلاقهم موروثات عريقة كريمة منتشرة في مجتمعاتهم منذ قرون. حتى أمست الرشوة المفسدة لأخلاق الموظفين في كثير من البلاد التي تأثرت بخطط الغزاة من الأمور المنتشرة انتشاراً فاحشاً، إلى حد أن أكثر الأعمال الإدارية في دوائر هذه البلاد لا تذلل لأصحابها ما لم يضيفوا فيها إلى طابع الدولة القانوني وضريبتها المحددة رشوة تناسب أهميتها، يضعونها سراً وراء المعاملة، حتى صارت نفقات كثير من الموظفين تبلغ ضعف مرتباتهم الشهرية أو أكثر، وقد بلغ الأمر ببعضهم أن يكون له أموال كثيرة وعمارات ضخمة، وأصل راتبه لا يكاد يكفيه لنفقاته العادية، كل ذلك بسبب الواردات الإضافية من الرشوات التي يتقاضونها من أصحاب المعاملات.

وهكذا سرى الداء وانتشر، ونجم عنه سيئات اجتماعية كثيرة، هضمت فيها حقوق كثيرة، وتحولت فيها وسائل كسب المال عند كثيرين من الوجوه المشروعة إلى الوجوه المحرمة، واضطرت سلطات كثيرة قضائية وإدارية أن تسكت عن المجرمين ذوي النفوذ، لانغماسها بمثل جرائمهم، أو بما هو شر منها. وقد رأينا أن السلطات الاستعمارية قد سهلت سبيل اختلاس الأموال العامة، ثم استخدمت ذلك سلاحاً فعالاً لتنفيذ أغراضها في البلاد، وذلك بأن تشعر المختلسين بأنهم على بوابة الإدانة القضائية والفضيحة العامة، وبأنهم لا يستطيعون أن يستروا أنفسهم ويتابعوا إشباع مطامعهم الخاصة ما لم يحققوا لهذه السلطات مطالبها في البلاد، ويخدموا مصالحها بإخلاص، وقد كان للسلطات الاستعمارية في نشر هذه السيئة الاجتماعية ميدان واسع، وقد استدرجت إليها كثيراً من ذوي النفوذ، وكان لها في ذلك عدة أغراض: 1- فمنها تسخير الذين انطبق عليهم الفخ في تحقيق أهداف الأعداء الغزاة. 2- ومنها إفساد أخلاق المجتمع الإسلامية، حتى تنحل عُراه، ويتناثر عقده. 3- ومنها إضعاف ثقة الأمة المستعمرة بنفسها وبصلاحيتها لحكم نفسها بنفسها. وقد عمل الأعداء الغزاة أيضاً على دعم الاحتكارات المحرمة، والتغاضي عن كل وسائل الكسب غير المشروع، حتى يهيئوا لأنفسهم داخل البلاد طبقة من المنتفعين ترى أن استمرار منافعها رهن باستمرار سلطان هؤلاء الغزاة، لذلك فهي مدفوعة بدافع المنافع المادية إلى دعم وجودهم في البلاد، وتهيئة الاستقرار لهم. ومن أخطر ما شجع عليه الغزاة الاستعماريون تهريب المحظورات الدولية، كالمخدرات، وذلك بالتغاضي عنها، وقبول الرشوات فيها، والمشاركة السرية في تجارتها المحرمة، ثم العمل على نشر تعاطيها بين الناس، بغية إماتة

الوسيلة الثانية: استخدام عنصر النساء

روح المقاومة للسلطة المستعمرة، والرضى بالواقع، واللجوء إلى الخنوع والذل، والتخاذل على كل توثب فعَّال، والذهول عن الآلام المحيطة، وإبعاد الشعوب الواقعة تحت نير الاستعمار عن كل فضيلة إنسانية، وخلق كريم، طلاَّع إلى المجد والحرية، والكمال الإنساني، وبخاصة إبعاد الشعوب المسلمة عن الاستمساك برسالة الإسلام العظمى. ومن أمثلة ذلك ما كان يفعله الإنكليز في بعض مستعمراتهم، فقد أدانتهم الشعوب بالعمل على نشر المواد المخدرة القاتلة للإنسانية، وسجل التاريخ ذلك عليهم. * * * الوسيلة الثانية: استخدام عنصر النساء ويستخدم الأعداء الغزاة المرأة في الاستيلاء على غرائز مجموعات من شبان الأجيال المتتابعة في البلاد الإسلامية، وقد فعلوا ذلك منذ بدء النهضة العلمية والصناعية الحديثة، التي تولى الأوربيون قيادتها في العالم. وبعد تملك غرائز الشبان عن طريق النساء يتمكنون من التلاعب بأفكارهم وعقائدهم، وبإخلاصهم لأمتهم وبلادهم، وبسلوكهم الإسلامي، وبسائر أخلاقهم الشخصية والاجتماعية. وقد استطاعوا فعلاً أن يسخروا طائفة منهم في ترسيخ قواعد الأعداء المادية والمعنوية داخل البلاد الإسلامية. وأحكم قادة الغزو سياسة الغزو الخلقي والسلوكي للشعوب الإسلامية عن طريق الكوافر العواهر، وتدفق سيلهُنَّ إلى معظم البلاد الإسلامية بأسماء وصفات شتى، علمية وفنية وتجارية وصناعية، وامتزجن بالأسر الإسلامية،

وسهلن سبل الفاحشة للمراهقين في أعمارهم أو في عقولهم، وعملت أجهزة الغازين على أن تدهن الفواحش الصريحة الوقحة بطلاءات فنية متعددة. وسرى الداء في الأسر الإسلامية، لأن عوامل الانحدار أقوى من عوامل الارتقاء في الأمم، إذ عوامل الانحدار تؤازرها غرائز النفوس وشهواتها وأهواؤها، وتساعدها سهولة الطريق التي مهدها الغزاة، ودفع إليها شياطين الإنس والجن، أما عوامل الارتقاء الأخلاقي والسلوكي فتقف دونها عقبات تطالب النفوس باقتحامها، وتحتاج إلى قوة إرادة، ومؤازرة جماعية، وسلطان ذي بأس، يحمل الناس على تكلف الصعود، ويؤاخذهم على التواني، أو التراجع إلى الوراء المنحط. وانهارت مقاومة كثير من الأسر الإسلامية، المعتزة بأخلاقها والمتمسكة بعفافها، واندفعت بتيار تقليد الوافدات الجديدة من الأزياء الفاجرة، ورأت الفتاة المسلمة افتتان الشبان بالمظاهر الخادعة التي تبرز بها الكوافر الفواجر، فتحرك فيها الدافع الفطري، فأخذت تسرع خطواتها في تقليد كل وافدة جديدة تقذفها أوربا، وجرت في سباق مع وافدات الفتنة والفساد، لتعيد بزعمها ما فقدته من إعجاب الرجل بها، وبسرعة غير عادية فقدت معظم العواصم في بلاد المسلمين طابعها المحتشم، الذي تفرضه التعاليم الربانية، والأخلاق الإسلامية، وحسرت المرأة فيها حسوراً مستنكراً عند عقلاء جميع الأمم والشعوب، وتحللت تحللاً ينذر بالانهيار السريع السحيق، والدمار الخطير، لأن هذا المنزلق الذي سارت فيه لا بد أن ينتهي بالأمم إلى مثل ما انتهت إليه أمم سابقة، ذات حضارات كبرى، من دمار شامل، حينما انهارت أخلاقها وفضائلها، إذ فقدت مجتمعاتها الضوابط الأخلاقية، التي تضبط الغرائز عن التحلل والإباحية. وتابعت كتائب هذا الغزو الخطر أعمالها في الإفساد بعنصر النساء، واتجهت هذه الكتائب إلى مواقع المسلمين من كل حدب وصوب، واحتلت مجالات توجيهية كبرى في معظم بلاد المسلمين، وفقد المسلمون معظم مراكزهم

التوجيهية، فكان مما احتله هؤلاء الغزاة المجالات التالية: أولاً: مجالات التعليم والتربية، ومجالات الثقافة على اختلف أنواعها وأشكالها، وقد أخذ الغزاة في هذه المجالات زمام المبادرة إلى تعليم المرأة وتربيتها، طبق الأسس التي وضعوها في خطة غزوهم لبلاد المسلمين، ثم تخرجت الفتيات المسلمات على أيديهم وهن مثقلات بالمفاهيم المنحرفة التي أملوها عليهن، ومنطبعات بالعادات التي ربوهن عليها، منذ مرحلة المدرسة الابتدائية حتى نهاية المرحلة الجامعية التي حملن بها شهادات العلم والتعليم والتربية للأجيال القادمة. ثانياً: مجالات الفنون المختلفة، وأهمها الفنون الجميلة وما يتصل بها وبزينة المرأة وفتنتها وإغرائها للرجل، وجند الأعداء الغزاة في هذه المجالات الوسائل التالية: السينما، والمسارح، وكتب القصة والتاريخ وعلم النفس والاجتماع وغيرها من العلوم، والمجلات، والصحف، والإذاعة، والتلفزيون، وسائر وسائل الإعلام. وقبضوا على نواصي هذه الوسائل قبضاً محكماً، وأما المسلمون المستمسكون بإسلامهم فلم يظفروا من هذه الوسائل إلا بالمشاركة اليسيرة، أو ببعض المقاومة للتيار الجارف. ثالثاً: مجالات الصناعة والتجارة، وقد استخدم الغزاة في هذه المجالات وسائل كثيرة، منها توجيه الجهود لتصميم الأزياء الكفيلة بإغراء المرأة وفتنتها، والتفنن في ابتكارات مواد زينة النساء، واستدراجها إلى مواقع التحلل من ضوابط السلوك الإسلامي، والأخلاق الفاضلة الكريمة. ولا يخفى علينا أن الغزاة قد استطاعوا أن يستثمروا أرباحاً ضخمة جداً، من أموال الشعوب الإسلامية، في كل هذه المجالات التي غزوها، إضافة إلى تحقيق أهدافهم المعنوية الرامية إلى هدم أبنية الفضائل الخلقي والسلوكية داخل المجتمعات الإسلامية.

الوسيلة الثالثة: الاهتمام بالمرأة في مجالات العلم والثقافة والفن

وانحسر ظل القيادات الإسلامية عن معظم مجالات الإدارة والتوجيه، واستبد الغزاة وفراخهم وأجراؤهم بالتصرف في هذه المجالات، وانطلقوا بكل ما لديهم من قوة ومكر ودأب ينفذون خطط تحويل المسلمين عن عناصر مجدهم الحقيقي. والمسلمون لا يقومون بالأعمال المضادة البصيرة المتأنية، ذات النفس الطويل، والتخطيط البعيد، والصبر المرير. * * * الوسيلة الثالثة: الاهتمام بالمرأة في مجالات العلم والثقافة والفن شاعت نظرية ضرورة تعليم المرأة ومشاركتها في مجالات العلوم والفنون الحديثة، وكانت هذه المقدمة مغرية مقبولة، ووجدت لها أنصاراً كثيرين ضمن المسلمين الواعين الفاهمين لأسس الدين الإسلامي، ودعوته المسلمين والمسلمات إلى طلب العلم، وتتبع المعرفة التي يكون بها كمال العقل الإنساني في صنفي الذكور والإناث. وفي المائدة العلمية المغرية بدسم كثير وغذاء نافع، والمعروضة عرضاً مرضياً للذوق الرفيع، دس الأعداء الغزاة سم التربية الحديثة الفاجرة، المتحللة من الأخلاق الفاضلة، والآداب الكريمة، والتطبيقات الإسلامية المختلفة التي كان بها مجد المسلمين من قبل، وما زال تحقيق عودة مجدهم إليهم رهناً بالتزامهم بها، وتطبيقهم لها في حياتهم. وقد أمسك الغزاة زمام المبادرة إلى تعليم المرأة المسلمة، داخل معظم البلاد الإسلامية، وفرضوا على الفتيات كما فرضوا على الفتيان من أبناء المسلمين خطتهم التعليمية والتربوية المشحونة بقسط كبير من المفاهيم الاعتقادية

والخلقية والسلوكية المنافية لتعاليم الإسلام، وكان كل ذلك تحت ستار العلمانية التي تزعم أنها لا تتدخل بالدين، وهي في حقيقة حالها مؤسسات تبشيرية متعصبة، إلا أنها قد عرفت كيف تستر ذلك باسم العلمانية. ودفعت كبريات الأسر الإسلامية فتياتها إلى ميادين العلم والثقافة، التي تديرها سراً أو علناً إرساليات تبشيرية معادية للإسلام. وتهاون المسلمون بإنشاء مدارس الإناث المسايرة للأساليب التعليمية والتربوية الحديثة، مع المحافظة على العقائد والأخلاق والآداب وسائر التعاليم الإسلامية. وخلال عشرٍ من السنين أو تزيد، استطاعت مؤسسات التعليم والتربية، الموجهة ضمن خطط أعداء الإسلام، أن تقنع الفتيات المسلمات اللواتي تعملن فيها، بأن التقاليد والعادات والأخلاق المنافية لتعاليم الإسلام والمستوردة من بلاد الغزاة أمورٌ حسنة، ينبغي الأخذ بها. وهان على المرأة المسلمة أن تعرض مفاتنها للرجال الأجانب، وأن تمشي في الطرقات العامة كأنها في غرفة عرسها. وأن تنظر إلى جميع الأخلاق والآداب والتعاليم الإسلامية نظرة مجافاة في التطبيق، أو ازدراء في النفس، ثم تطور الأمر حتى بدأت تنظر إلى أسس العقيدة الإسلامية مثل هذه النظرة، ثم فقدت في حياتها الخاصة والعامة بواعث عفتها، وتمسكها بفروض الإسلام، وأخذت تتبرج تبرج الجاهلية الحديثة، وهي في مضامينها وكثير في مظاهرها أخطر من الجاهلية الأولى. ونظر شبان المسلمين إلى سيل الفتنة المتدفق في الشوارع والأندية والمحافل العامة، فأقبل نحوه بدافع الغريزة، وزهد بطلب الحلال، وعزف عن الزواج المبكر كما أن كثيراً من المتزوجين زهدوا بالحلال الذي يسره الله لهم، لأنهم يشاهدونه في زينته مرة، وفي مهنته وخدمته مرات، أما هذه الفتنة المعروضة على كل نظر فإنهم لا يشاهدونها إلا وهي مجلوة في أكمل زينتها، ولو أنهم رأوها في ساعات خدمتها ومهنتها لربما فضلوا ما عندهم من حلال عليها ألف مرة. على أنه ما من حسن إلا وفوقه أحسن منه، وشره النفس، ورغبتها

الوسيلة الرابعة: فتنة الاختلاط وسفور المرأة

بالتجديد، وتطلعها إلى تذوق ما لا تملك، أمور لا حد لها، كما أنه ما من ذي حسن من جهة إلا وله نقائص من جهات، وهذه الفتنة معروفة لا ترى إلا من جهة حسنها، أما نواقصها فمطلية بالأصباغ، ومحجوبة بالتصنع. ثم سرى الداء إلى غير المثقفات، فزعمن أن تقدم المرأة وعلمها وثقافتها تعني في الحياة خروجها متهتكة حاسرة، متحللة من جميع القيود الدينية والخلقية، فأخذن يتسابقن في التهتك وإفساد المجتمعات، زاعمات أنهن يسرن في طريق صاعدة، وقد زاغت أبصارهن ببهرج الحياة الجديدة السامة القاتلة، التي يقدمها الأعداء على أطباق مزينة مزخرفة , فيها ما تشتهي النفوس المريضة , ويسر الأعين الكليلة , وفيها السم القاتل المدفون في مظهر الغذاء الطيب الدسم. لقد أدرك أعداء الإسلام خطورة المرأة في إصلاح الأسرة أو إفسادها , وإصلاح المجتمع أو إفساده , فركزوا خططاً مختلفة لتوجيهها إلى ما يضمن تحقيق أهدافهم في المجتمعات الإسلامية , واعتمدوا على تسخيرها في تحقيق أهدافهم في مجالات وأعمال كثيرة. ولو أدرك المسلمون خطورة الأمر منذ بدء تعليم المرأة وفق خطط الأعداء الغزاة لأمسكوا بأيديهم أزمة المبادهة , ولو وضعوا بمحض إرادتهم خطط التربية والتعليم , وفق الأسس الإسلامية التي تضمن للمجتمع الإسلامي التقدم العلمي والحضاري والمدني السليم النافع , واقتبسوا بمحض إراداتهم ودراساتهم الحرة كل نافع مفيد , مما توصلت إليه الحضارة الحديثة , غربية كانت أو شرقية. * * * الوسيلة الرابعة: فتنة الاختلاط وسفور المرأة كان الخلط بين الفتيان والفتيات في معاهد العلم , من الأسباب الكبرى التي هدمت حصناً عظيماً من حصون الأخلاق والآداب الإسلامية , في

المجتمعات التي انتشر فيها هذا الخلط. وكان ذلك بفعل دسائس الأعداء الغزاة , وفراخهم وأجرائهم من داخل بلاد المسلمين ومن خارجها. ورافق هذا الغزو العملي غزو فكري يزين الاختلاط ويحسنه , ويصطنع له المبررات الخادعة , ضمن أطر علم النفس , وعلم الاجتماع , وعلم التربية , والتربية الجنسية , وأكد الميل إليه الدافع الغرزيُّ بين الجنسين , لا سيما في فترة المراهقة التي تتفتح فيها الغريزة الطائشة الرعناء , مع البعد عن دراسة العلوم الإسلامية , وضعف الوازع الديني في القلوب. ومع اختلاط الجنسين في معاهد العلم فشت مفاسد كثيرة , في الأخلاق والآداب وكثير من أنواع السلوك , وتطلعت الأجيال الحديثة إلى تقليد الحياة الأوربية بمجونها , بعد أن انغمست في حمأة البيئات الجديدة , التي تسهل طريق الرذيلة , وتهون أمر ممارسة اللذة المحرمة , ولا تعتبر العفة من فضائل الأخلاق , كما لا تعتبر صيانة الأسرة القائمة على الطهارة من الأمور ذات القيمة في المجتمعات الإِنسانية. وانزلق كثير من الشبان والشوابّ يتسكع في دروب المهانة مندفعاً بنوازع الأهواء , ولواهب الغرائز , وتطالبه ظروف اللذة المحرمة بأن يقدم للشره طاقاته الجسدية , ويقدم للأوهام قواه الفكرية , ويقدم للقلق والحيرة والشتات عواطفه وانفعالاته , ثم يضحي في وادي الغريزة البهيمية بعقله الحصيف وبإرادته الإِنسانية الشريفة. وآخرون من الشبان والشوابّ اصطرعت فيهم عوامل الفضيلة وقواسر الغريزة المشبوبة , في هذه البيئات المختلطة الداعية إلى الخطيئة والفجور , فكانت أفكارهم وقلوبهم ونفوسهم كأنها في ساحة حرب شديدة , يصيبها من دواهي الحرب أكثر مما يصيب المتقاتلين بالأسلحة المادية , وطبيعي أن يَسُرَّ هذا الوضع الأعداء الغزاة , ويثلج صدورهم , وأن يكون ملحوظاً لديهم منذ البداية.

لقد عرف الغزاة بالتجربة المتكررة أن اختلاط الجنسين في مختلف مجالات الحياة من أسباب انهيار المجتمعات , وانحرافها عن فضائل السلوك , ومتى انهارت المجتمعات فقدت أثقال قوتها الحقيقية , التي تمكنها من الصمود أمام جيوش الغزاة , والارتقاء إلى قمم المجد , ومنافسة كل سابق في علم أو حضارة أو مدنية أو قوة. ولو دخل المسلمون في هذا السباق بقواهم الإسلامية الحقيقية لاستطاعوا أن يختصروا الزمن , ويجتازوا في عقود من السنين ما تخلفوا عن السير فيه خلال قرون , ولو راجعوا صفحات تاريخهم لرأوا أن من أسباب تخلفهم انغماسهم في الشهوات , وسعيهم وراء اللذات , وإخلادهم إلى الأرض. ويظن الطائشون الغافلون أن الانطلاق من القيود الدينية , والتحرر من الشرائع الربانية والفضائل الخلقية , سبيل من سبل التقدم الذي أحرز فيه كلٌّ من الشرق والغرب السبق في العلوم المدنية , وفي الصناعات , مع أن الحقيقة بخلاف ذلك , إن العقلاء المنصفين في كل من الشرق والغرب , يتخوفون من المصير المدمر الذي تسير في طريقه أجيالهم الحديثة , بتحللها من ضوابط الأخلاق الشخصية والاجتماعية , واستهانتها بالفضائل الإنسانية , ويعتبرون الإباحية التي أخذت تشيع في مجتمعاتهم نذير الانهيار الخطير , والدمار الشامل. وسرى داء الاختلاط العام بين الرجال والنساء في مجتمعات الأسر , وفي الحفلات العامة والخاصة , وفي نوادي التسلية والفن والثقافة والرياضة , وفي المسابح العامة , ورافق الفن والرياضة والسباحة العري الكامل أو شبهه , وسرى داء التهتك إلى مختلف المجامع , وتسابق النساء في اتخاذ وسائل الإغراء , وأخذت تنهار مقاومات الأفراد والجماعات , وأمست جاهليات كثيرة متطرفة أموراً واقعة مألوفة غير مستنكرة. وانطلق الغزو المدمر للقيم الإسلامية , التي كان بها كيان المسلمين الذاتي , وكان بها مجدهم التليد. وحينما يراقب الباحث الاجتماعي هذه المجتمعات المختلطة , التي ليس

لها حوافظ من الضوابط الدينية والخلقية , يرى فيها نذير الخطر الذي لامست جذوته الهشيم , فالتهمت جوانب منه , تؤازرها الرياح الكونية التي تهب في جهة النار , لتزيد توقدها وسرعة امتدادها إلى كل معاقل المسلمين. والمنغمسون في هذه المجتمعات المختلطة المفتوحة تشغلهم بوارق فتنتها , وتسكرهم كؤوس متعتها , وتخدعهم ألوان بهارجها عن إدراك الخطر الكامن فيها , عليهم وعلى أمتهم وعلى بلادهم , وتنسيهم ما وراء ذلك من عقوبة كبرى , مؤجلة إلى يوم الجزاء , بسبب تجاوزهم حدود الله , وارتكابهم ما يوجب سخطه. ويرى الباحث الاجتماعي أيضاً في هذه المجتمعات المختلطة طائفة من السيئات الاجتماعية , التي من شأنها أن تفقد المجتمع الإسلامي تماسكه , وتواده , وتراحمه , وإخاءه , ثم تفقده في آخر الأمر وجوده كله , ومعظم هذه المجتمعات المختلطة قائمة في عناصرها غير الظاهرة على الرياء والنفاق والمخادعة والتفاخر والتكاثر والتحاسد والحيلة وتناهب النعم , وقائمة في عناصرها الظاهرة على التصنع , والمظاهر الكاذبة , والزينة المترفة , والإسراف والتبذير , واللهو واللعب والتسلية , وملء البطون , وإمتاع الحواس باللذات المحرمة , يضاف إلى ذلك ما قد يندرج فيها من قمار ومراهنات وما أشبه ذلك من مبتكرات الشياطين. وتُعدّ لهذه المجتمعات المختلطة الثياب الفاخرة التي تبذل فيها الثروات الكثيرة , ولا يجوز في عرف النساء أن يلبسن الثوب الواحد في اجتماعات متعددة , إن التفاخر والتكاثر وموجبات الأناقة عندهن تفرض عليهن التجديد الدائم , مهما أنفقن في سبيل ذلك وبذَّرن , كما أن تصنيع الشعور والوجوه والأجساد وفق أحدث المبتكرات وعند أمهر ذوي الفن من الأمور الضرورية لديهن كالماء والهواء للحياة. ويلاحظ في هذه المجتمعات المختلطة المترفة الماجنة أن بذل الأموال الضخمة على موائد الترف والخمر والقمار من الأمور الهينة المعتادة , وكم يكون وراء هذا التبذير الماجن ضرورات ملحة تكتوي بنيرانها أسر هؤلاء المبذرين

المترفين , ويكتوي بنيرانها ذوو حاجات كثيرون آخرون , فربّ أطفال يهملون بلا رعاية , ويفرض عليهم تقشف الفقراء , وربّ شيوخ محتاجين عاجزين عن العمل , وربّ نساء لا يجدن ضرورات عيشهن , والمسؤولون عن النفقة عليهم من ذويهم تائهون في دروب الشياطين , يبددون الأموال في مجتمعات اللهو واللذة المحرمة بلا حساب. وتبلد حسّ النخوة والغيرة والرجولة في هذه المجتمعات المختلطة الماجنة , وأمست مناخات ملائمة لتجديد الهوى والإعجاب , والتنقل في اللذات , ومد الأعين إلى حظوظ الآخرين , ومدّ شباك الحيلة للصيد , وما يتبع ذلك من مشكلات نفسية واجتماعية , وفتنة في الأرض وفسادٍ عريض , وفي كل ذلك نُذُر خطر كبير , تفقد به الأمة الإسلامية مقومات وجودها التي تؤهلها للصمود عند كل أزمة من أزماتها الداخلية والخارجية. لقد أراد الأعداء الغزاة دفع المجتمعات الإِسلامية إلى المباءات المهلكة , التي تزيد في تخلفهم وانهيارهم , في الوقت الذي يحلم فيه المسلمون أن يستعيدوا مجدهم التليد ومكانتهم بين شعوب الأرض. وما على العقلاء الراشدين إلا أن يدركوا الخطر المحدق بالمسلمين , إذا هم استمروا في سبل الانحلال والتفلت , وأن يعملوا على اتخاذ كافة الوسائل المادية والمعنوية لرد المسلمين إلى رشدهم , والسير بهم في الطريق المستقيمة الصاعدة إلى مرضاة الله والمجد الخالد. تهمة وخديعة للمتحجبات انتشرت بين النساء المسلمات خديعة كبيرة عمل على بثها وترويجها بغاة الفتنة والفساد , وقد تضمنت هذه الخديعة اتهام الحجاب بأنه قد صار شعار كثير من الفاسقات اللواتي يتعرضن للفحش , ويجتذبن إليهن الفاسقين من الرجال , أما الحاسرات اللواتي يعرضن مفاتنهن لكل ناظر فلا يتعرض أحدٌ لهن , والغرض من هذه الخديعة تحريض المسلمات العفيفات الشريفات على أن يخرجن سافرات حاسرات.

وسارت هذه الخديعة وانطلت على كثير من المؤمنات العفيفات في بعض بلاد المسلمين , فأخذن يخلعن ألبستهن الساترة , ويظهرن في الأسواق العامة حاسرات عن رؤوسهن وأذرعهن , وما وراء ذلك , ويتبعن في ذلك مسيرة الفتنة الضالة التي مشت على عرض الشوارع العامة في معظم المدن الإِسلامية. ولتمكين هذه الخديعة عمل بغاة الفتنة على اصطناع الشواهد التطبيقية لفكرتها الماكرة , التي أشاعوها بين صفوف المسلمات , فاتخذوا لذلك وسيلتين: الوسيلة الأولى: توجيه بعض العواهر الفواجر أن يتسترن بمثل الألبسة التي تتستر بها المؤمنات العفيفات الشريفات , وأن يسرن في الأسواق العامة ويتعرضن للفساق , وهن في هذه الألبسة الساترة المزورة. والغرض من ذلك تأكيد الخديعة بشواهد واقعية , ليتقبلها المنخدعون والمنخدعات , ويتأثروا بها , وعندئذ لا يبقى لدعاة الستر والحشمة كلمة مسموعة. الوسيلة الثانية: توجيه فريق من الفساق المأجورين أن يتعرضوا للمتسترات العفيفات في الطرقات العامة , ويؤذوهن في عفافهن بفسق من القول , أو الغمز , أو اللمز , أو اللمس , أو الإشارات , أو تثبيت النظر , أو الملاحقة في الطرقات , أو نحو ذلك من رفث متسكع حقير , لتصير هذه القبائح المنكرة عادة لازمة للفساق , فتلجأ المرأة المتسترة العفيفة إلى خلع ألبستها الساترة , فراراً من مضايقات الفساق وأذاهم , وبذلك يتحقق لأعداء الإسلام ما يعملون لنشره بين صفوف المسلمين والمسلمات , ثم يتدرجون بعد ذلك بالمرأة المسلمة حتى يغمسوها في الانحراف والرذيلة كما فعلت المرأة الأوربية. وبذلك ينقطع فرع تطبيقي من فروع شجرة الإِسلام. لكن المرأة المسلمة العاقلة التي تخشى الله تعالى والدار الآخرة , لا تنطلي عليها هذه الخديعة , بل تنظر في أوامر الله التي توجب عليها الستر , وتعلم أن الله لم يأمرها بذلك عبثاً وهو العليم الحكيم , ولم يكلفها ذلك ليلقيها في العنت أو الحرج , وإنما شرع لها ما شرع ليكون أطهر لقلبها , وأحصن لشرفها , وأبعد لها عن الأذى وأقوم للمجتمع كله , وأكثر صيانة له من الفساد. إن المرأة المسلمة العاقلة تقرأ في كتاب الله آيات العفة والستر , فتسرع

الوسيلة الخامسة: استخدام الآداب والفنون

إلى تطبيق ما جاء فيها راضية بما رضي الله لها , لتنال عنده الأجر العظيم , إنها تقرأ قول الله تعالى في سورة (الأحزاب / 33 مصحف / 90 نزول) : {ياأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} . وتقرأ قول الله تعالى في سورة (النور / 24 مصحف / 102 نزول) : { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . وتقرأ أوامر الله لها بالعفة فتطيع أمر الله , وتعلم أن ذلك هو الخير لها وللمجتمع الإسلامي كله , ولا تعبأ بالخديعة التي يحاول أعداء الإِسلام نشر فكرتها بين المسلمات , ليخرجوهن من معاقل عفتهن , ويقذفوهن إلى مجامع الفتنة والشر والفساد في الأرض. * * * الوسيلة الخامسة: استخدام الآداب والفنون ودخلت جيوش الغزاة باسم الفنون الجميلة المختلفة , من أبواب عريضة , إلى المجتمعات المسلمة , واحتلت هذه الجيوش باسم الفنون المسارح , والنوادي الأدبية والفنية , والمعارض , ودور الأزياء , والإذاعة , والتلفزيون. واستخدمت الأدب على اختلاف فنونه , والغناء , والتمثيل , والرقص ,

الوسيلة السادسة: استخدام عنصر الحكم

وعرض الأزياء , ومسابقات ملكات الجمال , أو ملكات الأناقة , والأصوات الجميلة , والأجسام النسائية الفاتنة , ومختلف المواهب البشرية القادرة على الأداء الفنّي المؤثر في الجماهير. وتسلّل الفسق والفجور والعري والتهتك وما وراء ذلك إلى المجتمعات المنتمية إلى الإِسلام عن طريق الفنّ. وسُخِّرت الصحف والمجلات والكتب ومختلف وسائل النشر الإعلامي والدعائي , لتمجيد الفن , وأهل الفنّ , من رجال ونساء , حتى الفجّار والعواهر , إلى أن صارت الأخبار والدعايات الفنية تستأثر بمساحات كبرى من الدوريات , وتستهوي الجماهير الكثيرة من القراء , لا سيما المراهقون والمراهقات. وعمَّ في المجتمعات الإسلامية بلاء كبير عن طريق هذه الوسيلة , وانتشرت بسببها فتن جسام , وفساد في الأرض عريض. ونتج عن هذا اجتذاب أنظار الجماهير إلى تمجيد أبطال الفنّ وبطلاته , حتى احتلّ هؤلاء قمماً اجتماعات عالية. فإذا مات منهم ميت مشى في ركب جنازته عشرات الألوف , وأولته وسائل الإِعلام اهتماماً عظيماً , أمَّا إذا مات عالم كبير , أو مناضل عن قومه عظيم , أو مخترع اكتشف ظاهرة كونية مفيدة للإنسانية , أو قائد عسكري بارع , أو قائد سياسيّ مخلص , لم يخرج في جنازته إلا أهله وأصدقاؤه وأحبَّاؤه , والذين يهُمهم استرضاء ذويه , ولم تذكره وسائل الإعلام إلاَّ عرضاً وبأخبار موجزة أليس هذا انتكاساً شنيعاً في المفاهيم. * * * الوسيلة السادسة: استخدام عنصر الحكم تكاد تكون الشهوة إلى الحكم والسلطان في نفوس بعض الناس من أقوى الشهوات الآسرة , التي تهوِّن على صاحبها ارتكاب الجرائم الكبرى في سبيل

تلبيتها لولا الضوابط الأخلاقية الإسلامية , والروادع والمرغبات الدينية التي تحجز الإنسان عن ذلك , فتدفعه إلى ابتغاء مَرضاة الله والخوف من عقابه والطمع في ثوابه. ويعرف الأعداء الغزاة هذه الحقيقة من حقائق النفوس , لذلك فقد وضعوا في خطط كيدهم للإسلام والمسلمين استغلال عنصر الحكم والطمع به , واستغلوه فعلاً أخبث استغلال , فدغدغوا الشهوات العارمة إليه , وقذفوا في النفوس الخاملة الرغبة العنيفة به , وأفسدوا في مجاله أخلاق كثير من المسلمين أيما إفساد , وحولوا سلوكهم فيه عن منهج الاستقامة والعدل إلى أنواع من السلوك الظالم الآثم الفاسد المفسد , واستطاعوا بذلك أن يمزقوا جماعات المسلمين , ويحطموا كتلتهم الواحدة , ويجعلوها فرقاً مجزأة شتى. لقد عرف الأعداء الغزاة كيف يتصيدون الطامحين إلى الحكم , وكيف يحركون إليه الغافلين عنه , وكيف يغرونهم به ويذيقونهم شيئاً من حلاوته , دون أن يعطوهم فرصة الاطمئنان والاستقرار , اللذين من شأنهما أن يدفعا الأكفاء إلى الإصلاح والتحسين , وعرفوا أيضاً كيف يثيرون التنازع عليه , والتقاتل من أجله , وممارسة كل رذيلة وكل جريمة في سبيل الظفر به , والاستئثار بخيراته , والاستبداد بمقاليده ونشروا في طلاب الحكم وممتهني السياسة ما أسموه بالأخلاق السياسية , التي لا تؤمن بفضيلة من الفضائل إلا ببلوغ الغاية مهما كانت الوسيلة , حتى غدت رذائل الكذب والخداع , والنفاق , والوعود المزمع على الإخلاف بها ابتداء , ونقض العهود والمواثيق , والقتل بغير حق , واستلاب الأموال بغير وجه مشروع , وانتهاك الأعراض وغير ذلك من الأمور التي لا يستنكرها العاملون في ميادين السياسة. ثم انتقلت عدوى هذه الرذائل إلى الشعوب التي تمنح أمثال هؤلاء السياسيين قيادة حكمها , حتى صارت العملات الرائجة في ميادين المعاملات السياسية هي هذه الرذائل: «كذب - نفاق - تضليل - وعدٌ لا وفاء له - احتيال لبلوغ المصالح الخاصة - فسق وفجور - قتل بغير حق - اتهام بالباطل - إيقاع الغافلين في شرك الجريمة لتسويغ الانتقام منهم والتخلص من معارضتهم أو

لتسويغ سلب أموالهم ومصادرة ما تحت أيديهم - إلى غير ذلك من جرائم كثيرة» . قد نشأ من جراء هذه الرذائل السياسية انهيار خلقي وسلوكي عام؛ حتى صارت الشعوب لا تمنح أصواتها الانتخابية , ولا تعطي تأييدها لمتحكم مستبد إلا في مقابل أجر معلوم , أو منافع مادية محددة. وتحول السياسيون والمتحكمون من قادة يتحملون المسؤوليات الجسام , ويضحكون في سبيل رفع مستوى شعوبهم , ودفع ضر الأعداء عنهم , ويحكمون بينهم بالعدل والقسطاس المستقيم , إلى تجار جشعين متكالبين , يتقاتلون على الغنائم , ويتزاحمون على الأسلاب , ويتنافسون في تصيد الشهوات المحرمة , والخوض في حمأة الرذيلة. وتبعهم في ذلك المخالطون لهم والقريبون منهم , وانغمس في مثل ذلك حماة البلاد ومن وضعت في أيديهم أثقال القوى الحربية , وكانت هذه داهية الدواهي , ففقد هؤلاء الحماة الروح المعنوية التي يجب أن تكون جاهزة للتضحية والفداء , كما هو مقدر لها , لأنهم غارقون في الرفاهية والترف واللذات المحرمة , غير مستعدين أن يتركوها ليواجهوا كفاحاً أو قتالاً , وينشدوا بذلك مثلاً كريمة ورضواناً من الله , ومثل هؤلاء غير مؤهلين للصمود في مواجهة عدوهم مهما كثروا وفاقوا عدوهم عدة وعدداً , لأن أعداد الجيوش إنما تحسب في الحقيقة بمقدار ما فيها من مقاتلين صادقين يحملون الروح المعنوية العالية , لا بمقدار ما فيها من دمى عسكرية , إذا سقطت إحداها تساقطت معها مئات الدمى. وأعظم روح معنوية عرفها التاريخ في الجيوش المقاتلة إنما هي الروح المعنوية التي يحملها المسلم الصادق الشجاع , وهي التي تفجرها فيه الغاية العظمى التي يقاتل في سبيلها , إنه لا يقاتل من أجل الدنيا , ولا يقاتل حمية , ولا يقاتل عصبية , ولا يقاتل لمجرد أن قيادته أمرته بالقتال , ولا يقاتل ليقال عنه شجاع أو ذو بأس , إنما يقاتل في سبيل الله , ولإعلاء كلمة الله , ويرجو من الله النصر أو الجنة. ومن أجل ذلك استطاع أن يغلب عشرون صابرون مئتين بإذن الله , وأن يغلب أي عدد من المسلمين الصادقين الصابرين عشرة أضعافه , والله مع الصابرين. وقد عرف أعداء الإسلام والمسلمين هذه الحقيقة بالشواهد التاريخية ,

الوسيلة السابعة: استخدام المسكرات والمخدرات

فعملوا على سلب هذه الروح المعنوية العظيمة من أفراد الجيوش داخل البلاد الإسلامية , وعملوا على تبديل غاياتهم المثلى بغايات جاهلية , ثم عملوا على استدراجهم إلى الحجرات المظلمة العفنة المنتنة المخمورة , التي تتراقص على أبوابها الأضواء الخافتة الحمر , بغية أن يذبحوا فيها حياتهم العقلية والنفسية , ويسلبوهم قواهم الجسدية , ويسترقوا منهم الأسرار العسكرية الخطيرة , ويجعلوهم دمى فارغة من معاني الإنسانية الفاضلة , ولكن يبقون لهم المظهر الخادع الذي يغري صاحبه بالتعاظم الفارغ الحقير , ثم انخرط فريق من هؤلاء في حمأة السياسة العفنة ومطامع الحكم , فاشتريت ضمائرهم , واستنزلوا من قبل الشياطين , وقفزوا إلى الحكم ليكونوا أجراء للأعداء , وينفذوا مخططاتهم بدقة تامة على ما يريدون. * * * الوسيلة السابعة: استخدام المسكرات والمخدرات خلق المسلم الملتزم بالتعاليم الإسلامية لا يسمح له بأن تأسره عادة منحرفة ضارة , مضيعة لعقله , متلفة لجسده , مغضبة لربه. وحين اكتسب المسلمون الأولون خلق الطاعة لله ولرسوله استطاعوا أن يخالفوا نفوسهم بإرادة حازمة قوية , وأن يغيروا عادتهم في شرب الخمور , وقد كانت فيهم عادة آسرة , وحينما نزل حكم الله بتحريم الخمر أسرع المسلمون فأراقوا قدورها , حتى جرت بها سكك المدينة , ولم تتحسر نفوسهم عليها , ولم يعتبروا ذلك إتلافاً لمال , مع أنهم كانوا يغالون في أثمانها على عادتهم في الجاهلية , ونزل قوله الله تعالى في سورة (المائدة / 5 مصحف / 112 نزول) : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} .

وسمع ذلك عمر بن الخطاب فقال: انتهينا يا رب انتهينا، وانتهى المسلمون عنها وأطاعوا لأمر ربهم. وقد عرف الأعداء الغزاة - بدراساتهم وخبراتهم - ما في المسكرات والمخدرات من مضار شديدة عقلية وجسدية ونفسية وخلقية، فعملوا بطرقٍ مباشرة أو غير مباشرة على نشر تعاطيهما في الشبان من أبناء المسلمين، وفي كل مخالطيهم، واتخذوا لذلك عدة وسائل، فكان مما فعلوه تشجيعهم المادي والمعنوي على زيادة حانات الخمر، وتوسيع دائرة انتشارها فيما استعمروا من بلاد المسلمين، وإمداد الشعوب الإسلامية بأنواعها المختلفة واتخاذ الوسائل الخفية لتسللها إلى البلاد التي تحرم استيرادها وتؤاخذ على تعاطيها بحكم الإسلام، وأخذوا يستدرجون الذين يخالطونهم من المسلمين إلى تجرعها شيئاً فشيئاً، بمختلف الوسائل الماكرة، ويقدمونها إليهم بأيدي الكوافر العواهر، ليفقدوا قوى المقاومة في عنف الرغبة المشبوبة إلى ارتكاب الإثم، ثم يكون من وراء جرعات التجربة أو الإرضاء جرعات كثيرة تدفع بمتعاطيها إلى اعتيادها، ثم إلى إدمانها، ثم إلى تضييع صوابه، وإتلاف جسمه وماله على أبواب حاناتها. ونشط تجارهم في جلب أصنافها الكثيرة، وأخذوا ينشرون بين الناس شباكهم المتنوعة، ويبثون شياطينهم وأجراءهم، كي يستدرجوا أبناء المسلمين إلى موائد الخمر، والأسرّة الحمر، بغية استنزاف نفوسهم وعقولهم وأموالهم، وبغية إفساد أخلاقهم وآدابهم، وتحويل المجتمعات الإسلامية عن دينها، واستدراجها إلى مواقع أعدائها. وقد دلت التجارب على أن الشرور وقبائح الأعمال يستدعي بعضها بعضاً، ويرتبط بعضها ببعض، فموائد الخمر تستدعي موائد القمار وجلسات الاستمتاع الحرام، ثم تجر إلى غرف الفاحشة، وكل قذارات السلوك هذه تجر إلى رذائل العداوة والبغضاء، ثم إلى جرائم القتل والخيانة العظمى، ثم إلى تسليم مفاتيح البلاد إلى أعدائها الطامعين بخيراتها، الظامئين إلى بسط سلطانهم على مقاليد أمورها. وهي على وجه العموم تصد مرتاديها عن كل

الوسيلة الثامنة: استخدام وسائل اللهو واللعب

خير، وعن كل علم نافع، وعن كل عمل مثمر، وتبدد حياتهم بالمتالف. وقد شهدت البلاد الإسلامية التي دخل إليها المستعمرون كيف أفسد هؤلاء سلوك الذين خالطوهم من أبناء المسلمين، وكيف صدوهم عن دينهم، وسلبوهم عقولهم، وبدّدوا طاقاتهم العملية بموائد الخمر والفحش والقمار، وما انفكوا يستدرجونهم حتى فاق تلاميذ الرذيلة أساتذتهم، ثم تسلّم هؤلاء التلاميذ قيادة الرذيلة في البلاد، وصاروا أساتذتها المحليين، وانبثوا في كل مجال يعلمون الأجيال الناشئة ما كانوا تعلموه بالأمس من أساتذتهم، وأشياء أخرى أضافوها من حصائل خبراتهم التي اكتسبوها بكثرة الممارسة. أما المخدرات فقد عرفنا أنه كان للمستعمرين في نشرها نصيب واسع، ارتكبوا فيه جريمة إنسانية ما عرف التاريخ نظيرها في الجرائم الإنسانية العامة مع أن القانون الدولي العام يحرم تداولها وتجارتها. وقد سجل التاريخ أن وكلاءهم كانوا يقومون بتهريبها إلى داخل البلاد المغلوبة على أمرها بسلطانهم، وأنهم كانوا يؤازرونهم على ذلك، ويشاركونهم في أرباح تجارتها المحرمة، وأنهم كانوا يشجعون سرّاً على تناولها وإدمانها، بغية ابتزاز الأموال الحرام من جهة، وإماتة روح المقاومة في نفوس مدمنيها من جهةٍ أخرى، لأنهم يعلمون ما فيها من سم قاتل، يميت في مدمنها معظم القوى الفعالة التي تحرك الإنسان إلى الكفاح وطلب الخلاص من ذلّ الاستعباد، وتدفعه إلى كل تقدم صاعد. * * * الوسيلة الثامنة: استخدام وسائل اللهو واللعب من أخلاق المسلمين الأساسية الجد في الأمور، والعزوف عن اللهو واللعب والهزل والسفاسف، والبعدُ عن كل قواتل الأوقات دون ثمرات نافعات، إلا في حدود المُلَح اليسيرة التي تروح عن النفس ضمن لمحات خاطفة، وتخفف عنها ثقل العمل الجاد المثمر.

واللهو واللعب في الإسلام قسمان: القسم الأول: حرام لا يجوز أصلاً، كالنرد ومهارشة الديكة ونحوها. القسم الثاني: مباح باعتبار أصله، ولكن يشترط في هذا القسم المباح شروط، منها: أن لا يفوت حقاً، أو يضيّع واجباً، أو يستهلك العمر فيما لا جدوى منه. فحين تسمح الأخلاق والآداب الإسلامية بقسط من اللهو واللعب فلا تسح بذلك لأن للهو واللعب غايتان في أنفسهما، وإنما تسمح بهما لكونهما وسيلتين قد تجدّدان نشاط العامل في عمله، وتنهضانه من كسل قد انتابه، أو تعب قد أصابه، مع اشتراط عدم تجاوزهما حدود كونهما وسيلتين لاستعادة النشاط إلى العمل الجاد النافع. أما أن يكون اللهو واللعب غايتين في أنفسهما لتحقيق المتعة وقتل الوقت بهما، فليس ذلك من الأخلاق ولا من الآداب الإسلامية بحالٍ من الأحوال، وليس من المقبول في الإسلام شيء اسمه قتلٌ للوقت، لأن وقت الإنسان في الحياة هو رأس ماله، هو أجزاء وجوده، متى انتهت انتهى وجوده، وهذا يكشف للعاقل أن وقته وطاقاته التي هي قوام حياته أثمن ما لديه في هذه الحياة، فلا يصح مطلقاً أن تكون ثمناً للهو لا ثمرة له، أو لعب غير متجه لغاية تستحق ذلك الثمن. فما اللهو واللعب بدون ثمرة نافعة أو غاية كريمة إلا عبث من عبث البطالة، والبطالة في نظر الإسلام صورة من صور الموت في الأجساد الحية، وقد أخبر الرسول لرجل وهو يعظه: "اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك".

وعن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي قال: "لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وماذا عمل فيما علم". وفي ميادين اللهو واللعب تعرض المسلمون لغزوٍ كبير من قبل أعدائهم، إذ أرسلوا إليهم سيولاً متتابعة من دور اللهو، وأندية القمار، ومسارح الرقص والمجون، وأفلام اللهو والفحش والخلاعة، ووسائل التسلية، وأدوات اللعب القاتل للوقت، ومجلات الصورة الفاجرة والدعوة الجنسية الوقحة، والنكتة القذرة أو المستهزئة بالدين والفضيلة، وكتب القصة التافهة أو الماجنة، وتفاهات الموسيقى النابية والغناء الشاذ اللذين يخاطبان الغرائز ويثيران الشهوات الجانحة. وقد ألبسوا كل ذلك أثواب العلم والفن زوراً وبهتاناً، وعمدوا إلى أن يمتصوا به أفكار المسلمين وعواطفهم وأخلاقهم وكل عاداتهم الكريمة، ليضعوا محلها ما شحنت به هذه الواردات المتدفقة من أرجاس فكرية وخلقية واجتماعية، وأرادوا أن يسرقوا بها أوقات المسلمين التي هي أعمارهم، ورؤوس أموالهم في هذه الحياة. والقابضون على نواصي هذه الوسائل في العالم، المفسدون في الأرض، وفي مقدمتهم شياطين اليهود، الذين يقومون بتحويل جميع مجاري الأموال التي تبتزها هذه الوسائل من المغفلين والمخمورين لتصب آخر الأمر في الأحواض الكبيرة التي يمتلكها اليهود، ولا بأس عندهم أن ترشح قليلاً للذين يجمعونها إليهم، أو أن تمكث قليلاً في غير أحواضهم، فإنهم يعرفون كيف يفتحون سدودها بالحيلة والمكر، ويعرفون كيف يثقبون كل حوض يجمع ضدهم، وكيف يجعلون هذه الثقوب تصب في المسارب والمجاري التي تنتهي إلى أحواضهم وشياطين اليهود لا يواجهون الأمر بأنفسهم إلا نادراً ما دام لهم وكلاء يقومون عنهم بما يريدون مقابل أجر يعرف اليهود كيف يستردونه مضاعفاً.

ودسَّ الأعداء الغزاة من كلّ جهة أصابعهم في ميادين الرياضة البدنية التي يدعو إليها الإسلام، واستطاعوا أن يوجهوها لغير وجهتها السليمة، وأن يتلاعبوا بالغاية الحسنة التي تهدف إليها الرياضة المثلى، من تقويم الجسم وترويضه، وطرد الخمول والكسل وعوامل المرض عنه، وإعداده إعداداً حسناً للصمود في وجه العدو وإكسابه بعض فضائل الأخلاق، إلى كونها وسيلة تسلية لجماهير المشاهدين، يحترفها جماعة من الناس لا غاية لهم إلا المقامرة بأرواحهم بغية الوصول إلى الغلب أو السبق ثم الجائزة، ثم أدخلوا في الرياضة مفاسد عري الفتيات، وشوهوا اسم الرياضة الكريم، وخلطوا في العري بين الفتيان والفتيات، وألقوا النار على حبيس الجنس، لينفجر بالفجور، أو يصاب بالضعف ويفقد قوته ووجوده، أو يرمي صاحبه بأمراض جسدية أو فكرية أو نفسية، إضافة إلى ما في ذلك من إفساد خلقي عام، ومخالفة علنية وقحة لدين الله، وأمره ونواهيه. وقد دخلت مجموعة هذه الوسائل بعواملها المدمرة دخولاً كاسحاً في بلاد المسلمين، الأمر الذي يوجب على عقلائهم أن يتداركوا واقعهم، فيقبضوا على نواصي هذه الوسائل كلها في بلادهم قبضاً محكماً، ويوجهوها لكل صالح نافع مفيد، يمنع عنها الفساد، ويبعد عنها شرور أعداء الإسلام والمسلمين، ويصعد بها حتى تسير في صراط الإسلام المستقيم، البعيد عن سبل الكفر، عن كل القناطر والجسور التي تؤدي إليها، أو تؤدي إلى تمكين العدو من قيادة المجتمعات الإسلامية، والسير بها إلى سوء المصير. وإن أول الطريق إلى النتائج الوخيمة وعواقب الشر المستطير الذي يورد الأمة موارد الهلاك، ما نشاهد في كثير من فتياننا وفتياتنا من تعلق بالأمور التافهة، وعشق كبير لها، وانشغال كلي بها، وهي من الترهات التي لا ثمرة فيها لفرد أو جماعة. لا بد أن ينفطر قلب المؤمن العاقل البصير حزناً على الشباب الضائع بين قواتل العمر من وسائل اللهو، وقواتل الطاقات من وسائل المجون "لهو وقمار - سكر وفجور - إضاعة للوقت بألعاب الورق والنرد والودع - تتبع للمحرمات

الوسيلة التاسعة: اهتمام الغزاة بإفساد الفتيان والفتيات

وتصيد للمصونات - تخنث وتكسر - تبذل بزي الخنافس الأوربية - تشبه الفتيان بالفتيات وتشبه الفتيات بالفتيان - إلى غير ذلك من أمور كثيرة". وشاع في بعض المجتمعات جنسان جديدان في صورة بشرية، جنس النساء اللواتي أخذن وظائف الرجال وتشبهن بهم، فخرجن من صنف النساء ولم يستطعن أن يكنّ ذكوراً، وجنس الرجال الذين تكسروا تكسر النساء وتشبهوا بهن وأخذوا وظائفهن، فخرجوا من صنف الرجال، ولم يستطيعوا أن يكونوا إناثاً. فإلى أين يا أشباه الرجال ويا أشباه النساء أنتم سائرون، وإلى أي منحدر أيها الشباب والشواب تهرعون، وفي أي شرٍ تتنافسون، إنكم ومعكم أولياؤكم لمسؤولون. * * * الوسيلة التاسعة: اهتمام الغزاة بإفساد الفتيان والفتيات ووجه الغزاة أثقال خططهم وأعمالهم لإفساد الأجيال الناشئة من بنين وبنات، باعتبارها صحائف بيضاء لها قابليات التأثر، وباعتبارها هي التي تكوّن الأمة في المستقبل، وهي التي تقود أجيالها القادمة، أما الكبار الذين جفت قابلياتهم للتأثر فقد رأى الغزاة مداراتهم، وإفساد من يمكن إفساده منهم، وعزلهم عن مراكز توجيه الأجيال الناشئة، وانتظار تصفية الزمن لهم. واتخذ الغزاة لإفساد أخلاق الأجيال الناشئة وتحويل سلوكها عن منهج الآداب والتعاليم الإسلامية وسيلتي التضليل الفكري والتحويل السلوكي، أما التضليل الفكري فبالمفاهيم والنظريات الغازية، وأما التحويل السلوكي فبإيجاد المناخات المادية التي لها قوة التحويل بالتزيين، والتدريب، والمحاكاة، والتقليد، وإثارة الغرائز والأهواء والشهوات، وإمدادها بما تميل إليه، إلى غير ذلك من وسائل تحويلية، وكان كلُّ ذلك ضمن خطتين: الخطة الأولى: أن تأتي كتائب الغزاة إلى بلاد المسلمين بأسماء مختلفة

علمية وفنية وصناعية وتجارية وسياحية ورياضية ونحوها، لتقوم بعمليات الإفساد عن طريق الاختلاط بالبنين والبنات، والتأثير عليهم ببهرج مظاهر الحياة وزينتها ولذاتها وبالمبتكرات من النظريات والأفكار، ومن الأزياء والفنون التي تستهوي النفوس، ويغريها بالمحاكاة والتقليد. ومعلوم أن الأجيال الناشئة لم تحصن بعد بالمناعة بالفكرية والمناعة النفسيّة ضدّ أي غزو فكري أو نفسي يمسُّهم بجرثومته، وذلك بسبب كونهم لم يزودوا بعد بالمفاهيم الدينية الكافية لتحصين أفكارهم، ولم يزودوا بعد بالعناصر الإيمانية الكافية لتحصين نفوسهم وقلوبهم. لذلك فإن تعرضهم للإصابة بوافدات الأوبئة الغازية أمرٌ متحتم إلا من عصمه الله بعصمته. والخطة الثانية: أن يستدرج أبناء المسلمين وبناتهم إلى معاقل جيوش الغزاة، وهم لا حصانة لهم، ولا مناعة في أفكارهم ونفوسهم، ولا سلاح في أيديهم، وهنالك يتسنى لمعاقل الغزو من إفساد المستدرجين إليهم ما لا يتسنى للغزاة داخل بلاد المسلمين، وبسرعة فائقة تستطيع هذه المعاقل أن تصنع هؤلاء الفتيان والفتيات صناعة جديدة، تستخدم فيها كل مفاتن مدنياتهم الحديثة ومباذلها، بعيداً عن مراكز العلم الصحيح النافع، والصناعة المتقنة المفيدة، ثم يعودون بعد ذلك غرباء عن أمتهم وعاداتها وأخلاقها ودينها. وبطريقة لا تكلف جيوش الغزو شيئاً يمسي هؤلاء الممثلين لجيوش الغزاة داخل بلاد المسلمين، إذ يحملون بين المسلمين رسالة أعدائهم، وبأسلوب أشد عنفاً، وأكثر وقاحة، وأعظم تأثيراً. ولا يخفى علينا ما في مظاهر المدنية الحديثة الأوربية من فتنة لا يملك مقاومة إغرائها أصلب أبنائنا وبناتنا عوداً، وأقومهم سلوكاً، وأجودهم فكراً، إلا النذر اليسير، فكيف بالذين ليس لديهم أية مناعة أو حصانة ضدها؟!. لسنا ننكر أن من هذه المظاهر ما هو حسنٌ بذاته، جدير بالمسلمين أن يستفيدوه، ولا بأس في أن يقلدوه، إذ الإسلام يدعو إليه ويشجع عليه، ومن

ذلك تنظيم المدن، وهندسة الأبنية مع بعض تعديلات تسهل تطبيق الأخلاق والآداب وسائر التعاليم الإسلامية. ومنها شق الشوارع الضخمة ورصفها وتنظيفها وإنارتها. ومنها إنشاء الحدائق الجميلة في كل حيٍّ وحِلة. ومنها الاهتمام الشديد بالنظافة العامة وشؤون الوقاية الصحية من قبل الدولة , ومن قبل كل فرد من أفراد الأمة. ومنها التقيد بالأنظمة العامة في سير المركبات وسير المشاة , ومراعاة الحق والنظام لدى الركوب في المركبات العامة ولدى النزول منها , وفي كل أمر من الأمور التي يكون للناس فيها حقوق مشتركة , وذلك باحترام حق السابق , وعدم التزاحم بغية تناهب حق السبق. ومنها تنظيم أسواق البيع والشراء , وحسن التعامل فيها. ومنها الحرص على الاستفادة من كل وقت يمر في عمر الأمة أفراداً وجماعات بعمل مثمر مفيد، أو براحة تدعو إليها الضرورة، أو بمتعة مباحة تتطلبها الفطرة، أو تسلية مروحة عن النفس مجددة للنشاط، إلى غير ذلك من أمور يشهد العقل بحسنها، ولا تتنافى مع الشرع. ولكن حينما يرى أبناؤنا وبناتنا بعض هذه المظاهر الحسنة في المدنية الأوربية تستأثر بإعجابهم، وتستهويهم وتستدرجهم، فيظنون أن كل ما فيها حسن وجميل، وأنه هو الرقي الحضاري الرفيع، ويعتبرون أن ما شهدوه من مظاهر حسنة إنما هو نموذج عن تقدم أهل هذه البلاد في كل شيء، وعندئذ ينطلقون في دروب هذه البلاد ولا بصيرة لهم، قد استولى عليهم الانبهار. ووراء الشوارع الزجاجية اللماعة، التي تتلألأ أضواؤها من كل جانب، ويجمل فيها النظام واحترام الحقوق، أقبية ذات أضواء خافتة حمر، يستدرج إليها المبهورون، فتنزلق أقدامهم إلى كُنُف اللذات المحرمة القاتلة، فيتقلبون في أكنافها، وينفقون فيها من جيوبهم مالاً كثيراً عانى آباؤهم وذووهم جهداً جهيداً حتى جمعوه لهم، أو عانت أمتهم فقراً كثيراً حتى وفروه وقدموه إليهم، وينفقون فيها من نفوسهم ذخائر الخلق الكريم الذي توارثته الأجيال المسلمة خلال قرون، لتقدمه إليهم كنزاً ثميناً، وينفقون فيها من عقولهم أكمل ما عرفته الحضارات الإنسانية من ميراث فكري، وينفقون فيها من قلوبهم جوهرة المعرفة الخالدة التي حفظتها لهم العقيدة الإسلامية المصونة من التحريف، وينفقون فيها

فوق كل ذلك قوتهم وصحتهم، حتى يخسروا شبابهم قبل أن يصبحوا شباناً، وكهولتهم قبل أن يبدأوا مرحلة الكهولة. وكثير من شبابنا الذين تسكرهم أو تخدرهم هذه الأقبية الحمر يظلون غرقى في كنفها حتى تمتص منهم كل مال وقوة، وعندئذ ترميهم في زوايا دروب الحياة كما ترمي نعالها الباليات. وقد يظن الأولياء المباشرون أو غير المباشرين، أنهم حينما يدفعون أبناءهم وبناتهم في هذه السبل لتحصيل العلم والمعرفة، ويزودونهم بالأموال، ويهيئون لهم سبل الرفاهية، يقدمون لهم خيراً ويجلبون لهم سعادة حاضرة ومستقبلة، ولكنهم مخطؤون في هذا الظن، إنهم يدفعون بهم إلى مزالق الفتنة والفساد. ولا يعفي الأولياء من المسؤولية أنهم يبذلون الأموال الكثيرة لأبنائهم وبناتهم، وإنهم يقدمون لهم وسائل فسادهم إذا لم يحيطوهم بالصيانة الكافية. إن إمدادهم لهم بالمال الكثير ودفعهم إلى مخططات أعداء الإسلام، من الأمور التي تساعدهم على أن يسلكوا سبل الانحراف والشذوذ وفساد الأخلاق، والانزلاق إلى أودية الكفر، والخروج الكلي من الإسلام، فالمال الوفير في أيدي المراهقين والمراهقات، والشبان والشوابّ يفتح لهم أبواب الفساد ويسهل لهم سبل الشر، ثم إن العلم الخالي من التربية الصحيحة والدين المتين والصيانة المستمرة يزيد عندهم إمكانيات الحيلة والمكر، والتعرف على مداخل الفساد ومخارجه، التي لا يمنعهم عن الدخول فيها إلا رقابة البيئة، والخوف من انتقاد الناس أو الخوف من سخط أوليائهم. إن هذا المزلق الخطر يتطلب من عقلاء الأمة تأملاً طويلاً، وحزماً شديداً، وتداركاً قبل فوات الأوان، وإلا دهمهم الخطر المحقق، واستفحل عليهم الأمر، ووقعت القوة كلها في أيدي المفسدين، وظفر بالمسلمين أعداؤهم، الذين يعملون دائماً لإفساد أبنائهم وبناتهم وهم في حجورهم، وجعلهم أعداء لهم ولدينهم. ويدفع كثير من المسلمين أبناءهم إلى أيدي أعدائهم، وينصرفون إلى

شؤونهم الخاصة، وينغمسون فيها لاهين عن فلذات أكبادهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. أما الوسائل التي يمكن اتخاذها لمعالجة هذا الداء فكثيرة، منها ما هو عام ومنها ما هو خاص. أما ما هو عام فيكون بما يلي: أولاً: بالقبض على أجهزة التعليم بفكر إسلامي درَّاك، يحسن التخطيط، ويحسن وضع المناهج، حازم في التنفيذ، مهتم بالتربية الإسلامية التطبيقية، لا يسلم الأمر - مهما صغر - لغير أهله الموثوقين، وإن حسنت كفاءاتهم، لأن زيادة الكفاءة مع انعدام الثقة أشد خطراً من نقصانها. ثانياً: بإنشاء المؤسسات التوجيهية التي تهدف إلى تمكين مفاهيم الإسلام النظرية والعملية في نفوس المنتسبين إليها، وتمتص فراغهم بكل نافع مفيد، وتوجه طاقاتهم إلى الخير، وترضي نفوسهم بتسلية مباحة، فيها رياضة للجسم أو الفكر أو النفس، كأندية رياضية إسلامية، ومراكز محاضرات ثقافية أو توجيهية، ومشاريع سياحات استطلاعية تفتح آفاق الفكر والنفس، إلى غير ذلك من أمور كثيرة يمكن أن تسهم بشكل إيجابي في إبعاد الأجيال المراهقة عن مزالق الفساد. وأما ما هو خاص بالأولياء المباشرين فيكون بما يلي: 1- بالرقابة الدائمة غير المنفّرة. 2- بحسن التربية بالحكمة والعقل. 3- بعدم تيسير أسباب الفساد. 4- بربط الناشئ بمسؤوليات تمتص فراغ وقته، منها مسؤوليات علمية أو تعليمية، أو مسؤوليات أخرى يساهم فيها بإسعاد أسرته وأمته. 5- بأخذه إلى بيئات اجتماعية صالحة. إلى غير ذلك من وسائل كثيرة نافعة. * * *

الوسيلة العاشرة: استخدام وسائل الترف والرفاهية

الوسيلة العاشرة: استخدام وسائل الترف والرفاهية متى غرقت أمة من الأمم في الترف، وأبطرتها الرفاهية التي تجر ذيولها مستكبرة، دبت فيها عوامل الانهيار الخلقي، وبدأت تنسى الله والدار الآخرة، وتتعلق بزخرف الحياة الدنيا كأنها فيها خالدة، وتسعى وراء غرائب اللذات، وتتجدد لديها مطالب مستنكرة من متع الحياة، وأخذ مترفوها يتنافسون في ابتكار أنواع مستحدثة مما يشتهون أو به يتلهون، ويبددون فيها أموالهم، ويبذلون فيها طاقاتهم الجسدية والفكرية والنفسية، ويتفننون في تصيد المتع من كل وجه، حتى إذا ما اختبروا ما أباح الله من لذّات سئموها، ولذَّ لهم أن يتجاوزوا حدود ما أحل إلى ما حرم، وعندئذ يتسابقون إلى ارتكاب غرائب المحرمات والموبقات، حتى يفقدوا كل ذوق إنساني مقبول، ويضعوا أنفسهم في المنتنات القذرات المهلكات. وبسبب ذلك تصاب عوامل التقدم العلمي والحضاري فيهم بالركود والخمول، وثم بالموت والفناء، لأن طاقاتهم قد اتجهت في طريق آخر طريق لذات الجسد ومتعه، مع البطر والتفاخر والتكاثر والطغيان، إذ فتحت لهم أموالهم وما أترفوا فيه كل باب من أبواب الاستمتاع بالحرام. ثم تصاب قلوبهم بقساوة شديدة، تفقد معها كل عطف إنساني، أو رحمة بالضعفاء وذوي الحاجات، وربما يجدون لذتهم ومتعتهم في أن يشاهدوا ذل الآخرين وعذابهم بين أيديهم، ولقد شهدت بعض الامبراطوريات المنقرضة مثل ذلك، فكان سبب دمارها، ويقص علينا التاريخ من أنباء الامبراطورية الرومانية الشيء الكثير عن ذلك، وأنها حينما أترفت لذّ لمترفيها أن يستمتعوا بمشاهدة خلق من خلق الله أمثالهم تفتك بهم الوحوش الضارية، أو يتصارعون حتى يقتل بعضهم بعضاً، ويضيفون هذه المشاهدة إلى باذخ ترفهم الذي يستمتعون به. هذا الجو المكفهر المجرد من المعاني الإنسانية الكريمة، المشحون بالأنانية

القاتلة، من أكثر الأجواء النفسية والاجتماعية ملاءمةً لموت الفضائل الخلقية والكمالات السلوكية، ولنمو الرذائل الفردية والاجتماعية، وللوصول بالأمة إلى أدنى دركات الانهيار والضعف، لأنه جو يغري بالطغيان والاستعلاء، ويسهل فيه الحصول على كل متعة محرمة، وتنعدم فيه معظم مسببات الزهد في زينة الحياة الدنيا، وتفقد فيه معظم المذكرات بالله واليوم الآخر ومع نسيان الله واليوم الآخر والسكر بمفاتن الحياة الدنيا ومغرياتها تستشري في الإنسان بهميَّته، وتنطفئ فيه مصابيح المعرفة التي تهديه إلى الصراط المستقيم، وتستحوذ عليه شياطين الإنس والجن. ومن أجل ذلك كان المترفون في الأرض هم الذين تصدوا لمعارضة رسل الدعوة الإلهية في مواجهة وقحة. وهم الذين تسببوا بنزول عذاب الله في الأمم، قال الله تعالى في سورة (سبأ/34 مصحف/58 نزول) : { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} . وقال الله تعالى في سورة (هود/11 مصحف/52 نزول) : {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} . وقال تعالى في سورة (القصص/28 مصحف/49 نزول) : {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} . وقد أدرك أعداء الإسلام أن الترف والرفاهية والانغماس في اللذات أمور تسبب البطر، وتوقف كل تقدم علمي وإنتاجي صحيح، وتصيب الأمة بانهيار خلقي وسلوكي يؤدي بها إلى الضعف والهوان، والتعلق بالقشور من

الوسيلة الحادية عشرة: سياسة المستعمرين غير الأخلاقية

ظواهر الحياة، وترك موجبات المجد والقوة، فخططوا خططهم من أجل إغراق الذين بسط الله لهم في الرزق من المسلمين في أنواع الترف والرفاهية والمتع المحرمة، ودفعوا إليهم سيول وسائل الترف المشروعة وغير المشروعة من كل جانب، وزينوها لهم بألوان الترويج والتحسين الفاتن الموشي بالإغراء، وأثاروا بينهم دوافع التفاخر والتكاثر والتسابق إلى تحقيق أوسع صور اللذة، فحقق ذلك لأعداء المسلمين غرضين خبيثين: الغرض الأول: إفساد أخلاق المسلمين وآدابهم وكل أعمالهم، وتوهين قواهم بذلك، وإيقافهم في واقع التخلف. الغرض الثاني: ابتزاز أموالهم، واقتناص خيراتهم، بما يصدرون لهم من وسائل الترف وزينة الحياة، وبما يسهلون لهم من سبل محرمة تمتص مختلف طاقاتهم الفكرية والجسدية والنفسية، ثم تسلبهم كل وازع خلقي يحجز بينهم وبين ما يشتهون من آثام وجرائم. وكان لأجنحة المكر نشاطات واسعة في ذلك، مضافة إلى النشاطات الخبيثة التي تقوم بها اليهودية العالمية، يدلنا على ذلك الواقع المشهود، والأقوال المكتوبة، ففي بروتوكولات حكماء صهيون قولهم: "إن الشباب قد انتابه العته لانغماسه في الفسق المبكر، الذي دفعه إليه أعواننا من المدرسين والخدم والمربيات اللاتي يعملن في بيوت الأثرياء والموظفين والنساء اللاتي تعملن في أماكن اللهو". * * * الوسيلة الحادية عشرة: سياسة المستعمرين غير الأخلاقية شاعت أساليب غير أخلاقية في حياة كثير من الشعوب الإسلامية التي سيطر عليها الاستعمار، وذلك بتأثير الحكومات التي قبضت على ناصية بلادهم بسياستهم الاستعمارية، إذ كانت هذه السياسة تعتمد في معاملتها لهذه الشعوب على أساليب غير أخلاقية، كالكذب والخيانة ونقض العهد والغدر والإخلاف

الوسيلة الثانية عشرة: استخدام الفكر الإلحادي

بالوعد والرشوة ونحو ذلك من رذائل. وكان لهذه الرذائل من الغالبين ردود أفعال مماثلة من المغلوبين، وكانت ردود الأفعال هذه في أول الأمر أسلحة مضادة، قاومت بها الشعوب سياسة المستعمرين، ومع طول العهد وكثرة الممارسة صارت ردود الأفعال عادات مكتسبة، وسرى داء الانحرافات الخلقية فتمكن من النفوس، وسيطر على كثير من ظواهر السلوك. وحل أسلوب الكذب محل خلق الصدق، وأسلوب الخيانة محل خلق الوفاء بالعهد، وأسلوب الإخلاف بالوعد محل الصدق فيه، وأسلوب الرشوة لشراء الضمائر محلّ التعامل بالحق والعدل، إلى غير ذلك من أمور كثيرة من هذا القبيل. وفشا الداء من الدوائر الحكومية إلى المشتغلين بالسياسة، ثم إلى الأسواق التجارية، ثم إلى داخل الأسر، وإلى العلاقات المادية والأدبية بين الأفراد، حتى غدت التربية التي ينشأ عليها الأطفال تعتمد على كثير من هذه الأساليب غير الأخلاقية، وبدأت الأجيال تكتسب من بيئتها هذه الانحرافات، وتمارسها في حياتها، وفقدت هذه الشعوب كنوزاً عظيمة من كنوز الأخلاق الكريمة التي توارثتها كابراً عن كابر، وعمل الإسلام على تأصيلها في نفوسهم وفي أعمالهم. إن الهدم سهل ونتائجه سريعة، ولكن الصعوبة كل الصعوبة في البناء. * * * الوسيلة الثانية عشرة: استخدام الفكر الإلحادي على الرغم من أن أجنحة المكر الثلاثة تسير على خط معارض لخط الفكر الإلحادي، فإنها لم تجد بأساً بنشر الفكر الإلحادي الذي تحمل لواءه المادية الشيوعية، لإفساد الشعوب الإسلامية في عقائدها وأخلاقها وآدابها وسائر أنواع سلوكها في الحياة.

قد يبدوا هذا عجيباً في أساليب من ينتسبون إلى دين سماوي، ويبشرون به بين الناس، ولكن الواقع قد أثبته، ومبرِّره لديهم أن المسلمين لا يمكن أن يرتدوا عن دين الإسلام الحق، ليدخلوا في أديان محرفة جاء الإسلام فكشف زيف تحريفاتها، وإنما يمكن أن يرتدوا عن الإسلام إلى الإلحاد المطلق، والكفر بكل دين، وهذه مرحلة ترضي أجنحة المكر الثلاثة، لأنها تزيح من طريقهم منافسين خطيرين يحملون ديناً حقاً تقبله العقول والنفوس. ومكنت أجنحة المكر الثلاثة لدعاة الإلحاد أن ينتشروا بين المسلمين، وكان ذلك في بعض الأحايين عن اتفاق معهم، وكان في أحايين أخرى بتدبير منهم واستئجار عناصر لبث الإلحاد، يضاف إلى ذلك إغضاؤهم عن تحركات الشيوعيين، وهم خصومهم لتحقيق هذه الغاية، وفي المراحل الأخيرة ظهر اتفاق ضمني بين المعسكرين المتناقضين في العالم، على نشر الإلحاد بين الشعوب الإسلامية، والعمل على تحويل هذه الشعوب عن أخلاقها وآدابها وفضائل أعمالها. من الواضح أنه متى قطعت الصلة بين الإنسان وبين الغاية المثلى من وجوده في هذه الحياة أمسى مادياً أنانياً دنياوياً صرفاً، وهذه المادية التي لا تخشى الله يرافقها باستمرار بواعث الجريمة، لتلبية مطالب النفس وأهوائها وشهواتها. وحين وجد قادة المذاهب السياسية المادية في الأرض الذين يحاولون فرض سلطانهم المباشر أو غير المباشر على كثير من الشعوب أن طريقهم إلى غايتهم هذه مملوءة بالعقبات الأخلاقية، السائدة في معظم المجتمعات الإنسانية، عمدوا إلى إلغاء فكرة المبادئ الأخلاقية، واعتبارها خرافة من الخرافات السائدة، واستحدثوا نظرية الأخلاق المتطورة التي لا ثبات لها في مفاهيم الناس وأعرافهم، وبعد هذا وجدوا أن المبادئ الأخلاقية متمكنة في نفوس الناس نظراً إلى ارتباطها بعقيدة الجزاء الرباني، التي أملتها تعاليم الأديان الإلهية، فعمدوا إلى إنكار عقيدة الجزاء، ثم إلى إنكار الخالق جل وعلا، لأن الإيمان بالله وفق العقائد السليمة لا بد أن يستدعي في نفس المؤمن الاتجاه نحو الحق والخير والفضيلة، والإيمان بحكمة الله وعدله وجزائه.

إنهم لم يجدوا وسيلة يدفعون بها الحشود البشرية إلى القيام بأعمال الظلم والقتل وسائر الجرائم التي تخدم غايتهم ما دامت هذه الحشود تؤمن بمبادئ الأخلاق الفاضلة، والحق الثابت، والجزاء الرباني، وما دام الخوف من الإثم يحجزهم عن ذلك، وما دامت عقيدة الإيمان بالله جاثمة على قلوبهم. من أجل ذلك نادوا بأن الدين أفيون الشعوب، وذلك ليسقوا أتباعهم بهذه العبارة أفيون الجريمة والظلم واستباحة القتل، واستباحة كل قبيحة تعارفت عليها الأمم والشعوب، وليجرعوا بها كؤوس الحقد والحسد والكيد لكل خير وفضيلة. وجاءت إعلاناتهم الكثيرة توضح مذهبهم المستند إلى إلغاء الأخلاق والأديان والقوانين واعتبارها أوهاماً موضوعة لمصالح طبقية، وفيما يلي طائفة من أقوال قادتهم: 1- جاء في البيان الشيوعي الذي أصدره معلم الشيوعية الأول اليهودي "كارل ماركس" ورفيقه "إنجلز" ما يلي: "إن القوانين والقواعد الأخلاقية والأديان أوهام بورجوازية تتستر خلقها مصالح بورجوازية". 2- وقال "إنجلز": "إننا نرفض شتى المحاولات التي تحاول أن تفرض علينا أخلاقاً تستند إلى المثاليات، ذلك لأننا نؤمن أن الأخلاق هي نتاج الأوضاع الاجتماعية، ولما كانت الأوضاع الاجتماعية متغيرة، فإن مفاهيم الأخلاق التي نؤمن بها هي كل عمل يؤدي إلى تحقيق انتصار مبدئنا مهما كان هذا العمل منافياً للأخلاق". 3- وقال "لينين": "يجب على المناضل الشيوعي الحق أن يتمرس بشتى ضروب الخداع والغش والتضليل، فالكفاح من أجل الشيوعية يبارك كل وسيلة تحقق الشيوعية". وقال أيضاً: "إذا لم يكن المناضل الشيوعي قادراً على أن يغير أخلاقه وسلوكه وفقاً للظروف مهما تطلب ذلك من كذب وتضليل وخداع؛ فإنه لن يكون مناضلاً ثورياً حقيقياً". وقال أيضاً: "إن المناضل الشيوعي الثوري الحق هو ذلك الذي يبذل كل

تضحية يفرضها عليه تحقيق الهدف الشيوعي ولو تطلب الأمر التضحية بالأخلاق والكرامة والضمير، فالهدف المثالي الحق هو تحقيق المجتمع الشيوعي وتدعيمه". وقال أيضاً: "ويجب علينا أن نتوسل بكل أنواع الحيل والمناورات والوسائل غير القانونية لتحقيق أهدافنا الشيوعية". 4- وقال "ستالين": "الأخلاق الصالحة في نظرنا هي تلك التي تيسر لنا القضاء على النظام القديم، وهي تلك التي تدعم النظام الشيوعي، ولا شيء غير هذا يمكن أن يسمى أخلاقاً فاضلة". 5- وقال "مالينكوف": "إن الأخلاق الفاضلة في نظرنا هي كل الوسائل التي تؤدي إلى القضاء على النظام القديم، بينما تؤدي في الوقت ذاته إلى تدعيم النظام السوفياتي". وقد أصبحت هذه الأقوال مشهورة شهرة تغني عن نسبتها إلى مصادرها، وقد ألح القادة اليساريون في العالم على محاربة الأخلاق والدين بهذا الشكل العنيف لينزعوا من نفوس أتباعهم كل ما تبقى فيها من وجدان، وكل ما خلفته الموروثات الفاضلة فيها، حتى لا تبطئهم عن ارتكاب أية جريمة في الشعوب، متى كانت الجريمة سبباً لتحقيق أهداف القادة اليساريين في استعباد الشعوب. وبعد هذه الأقوال التعليمية وأشباهها التي واجهها القادة الماركسيون إلى جميع الأحزاب الشيوعية في العالم قامت التطبيقات لها على نطاق واسع. ففي سنة (1923م) أعلن المؤتمر الشيوعي الذي عقد للبدء بالحرب ضد الأديان ما يلي: "يوجد داخل اتحاد الجمهوريات السوفياتية ثلاثون مليوناً من المسلمين كانوا يعيشون إلى الآن دون أن يمسهم شيء، كما أنهم يحافظون على عقائد باطلة، وخرافات من العصور الوسطى لها صلة بالدين، وغايتها الإضرار بالثورة، وبعد أن نظرنا في هذا كله ودرسنا خصائص كل أمة على حدة، قررنا القيام بالخطط والتدابير الواجب عملها لإزالة هذه العقائد الباطلة من أوساط هذه الأمم".

وكان من ثمرة هذا القرار الشيوعي منع التعليم الإسلامي داخل الاتحاد السوفياتي وإغلاق المساجد، حتى تم إغلاق خمسة وعشرين ألف مسجد وتحويلها إلى مراكز لكثير من الأمور الحقيرة. وهكذا نجد في أقوالهم وأعمالهم التي لا تحصى عداءً شديداً لعقيدة الإيمان بالله , والتمسك بجميع المبادئ والتعاليم والأخلاق الدينية والإنسانية، والعمل على إطلاق الوحش البشري ليفتك في العالم، محققاً مصالح القادة الشيوعيين في العالم، وممهداً للصهيونية العالمية أن تحقق حلمها في إخضاع كل شعوب العالم لدولتها الخفية أو الظاهرة. * * *

الفصل الثالث عشر الغزو بالمذاهب الاقتصادية

الفصْل الثالث عشر الغزو بالمذاهِبِ الاقتصَادية 1- مقدمة عامة 2- بين اتجاهين متباينين. 3- وسائل إيقاف نشاط غزو المذاهب المخالفة للإسلام. 4- نظام الإسلام على قمة وعن يمينها ويسارها منحدران. 5- قدوم المذاهب الاقتصادية المخالفة لنظام الإسلام. 6- لا تكفي الكلمة وحدها. 7- الأسس العامة لنظام الإسلام الاقتصادي. 8- مقارنة بين الأسس العامة للنظام الاقتصادي في الإسلام والنظم الأخرى. 9- فرية ربط التخلف الصناعي بنظام الإسلام. 10- اصطناع المناخات المناسبة لتقبل الأفكار والمذاهب الغازية. 11- التعلل بعدم وجود دولة تطبق نظم الإسلام وتحميها.

(1) مقدمة عامة

(1) مقدمة عامة حمل الغزاة إلى المسلمين مذاهبهم الاقتصادية، وأرادوا من المسلمين أن يتبنوها ويأخذوا بها، ليسيروا في ركبهم ضمن هذا المجال، ولينحسروا فيه عن إسلامهم وتطبيقهم له وأخذهم بنظامه. وعلى الرغم من المتباين الكبير بين المذهبين الاقتصاديين العالميين الغربي والشرقي، نلاحظ أن أنصار كلٍّ منهما يعادون الإسلام ويتخوفون من أن يسود نظامه، أكثر بكثير مما يعادون المذهب المباين لمذهبهم مباينة كلية. فالاشتراكيون العلميون الذين يسيرون في طريق معاكس تماماً للرأسماليين، يتخوفون من نظام الإسلام أكثر من تخوفهم من الرأسمالية، بل قد يشجعون الرأسمالية المفرطة في البلاد الإسلامية، لتكون مناخاً ملائماً لانتشار الاشتراكية العلمية، والرأسماليون كذلك يتخوفون من نظام الإسلام أكثر من تخوفهم من الاشتراكية العلمية، بل قد يشجعون إقامة النظم الاشتراكية في بلاد المسلمين، لكشف عيوبها بشكل واقعي، ولينفر الناس منها نفرة نهائية، ثم ليرتموا في أحضان الاستغلال الرأسمالي. وإذا علمنا أن وراء الرأسمالية العالمية قمة يهودية خفية، ووراء الاشتراكية العلمية قمة يهودية كذلك، وعلمنا أن وراءهما معاً مصلحة يهودية عليا تعرف كيف تتصيد الفوائد المادية والسياسية من خلال صراع المذهبين المتعارضين، لم يخفَ علينا كثيراً سر معاداة أنصار المذهبين المتباينين للإسلام أكثر من عدائهما لبعضهما.

(2) بين اتجاهين متباينين

وعلى الرغم من أن الإسلام يمثل النظام الوسط الحق بين المذهبين المتباينين، نجد أنصار كلٍّ منهما يغمضون أعينهم عنه إغماضاً كلياً، ولا يريدون أن ينظروا إليه ولا أن يفسحوا المجال للشعوب حتى تراه فتستمسك به، وكلما قامت حركة توعية تكشف للجماهير محاسن نظام الإسلام، أو حركة تطبيق تعمل على إبراز هذا النظام بشكل واقعي، ولو في جانب من جوانبه، تضافرت قوى الشرق والغرب لإحباط ذلك، وعرقلة سبيله، وتشويه مقاصده، ثم لا تسمح لأي تطبيق سليم أن يظهر، وإذا ظهر عملت بسرعة على إلغائه، وجمعت ما يلزم من طاقات سياسية وغير سياسية لتفشيله، ودبرت له المكايد الكثيرة. وتتآزر في ذلك قوى أجنحة المكر الثلاثة، والقوى التي تسير في ركابها مع قوى المذاهب الاشتراكية التي تخضع لنظمها دول شرقية معروف، فالإسلام هو الهدف الرئيس المقصود بالمحاربة من كل هذه القوى، مهما تصارعت وتعادت فيما بينها، مع أنه لا يحمل الناس جميعاً إلا الخير وابتغاء السعادة والنجاح، ولا يدعوهم إلا إلى الحق والهدى. (2) بين اتجاهين متباينين بين اتجاهين متباينين بعيدين عن منهج الوسط الإسلامي، أراد أعداء الإسلام الواقفون في أقصى الاتجاهين، أن يحتالوا على المسلمين ليزحزحوهم عن الوسط الحق، فالمفرطون في اتجاه اليمين من أعداء الإسلام يريدون أن يجذبوا المسلمين إليهم، والمفرطون في اتجاه اليسار يعملون بطاقات كبرى كي يجذبوا المسلمين إلى يسارهم، ومن المؤسف أنه ليس للإسلام في هذا العصر قوة مادية كبرى قائمة، ذات كيان فعال في العالم، تستطيع أن تثبت المسلمين في منهج الوسط تثبيتاً تطبيقياً، فضلاً عن أن تجذب إليه من هم في مفرط اليمين، أو من هم في مفرط اليسار.

هذا هو واقع الإسلام بين نظامين اقتصاديين قائمين في العالم، وهذا هو واقع المسلمين بين أنصار هذين النظامين. وقد وقفت أسس نظام الإسلام الاقتصادية كالطود المنيع بفلسفتها المحكمة الفذة في العالم، الكفيلة بتحقيق مصلحة الفرد، ومصلحة الجماعة، والكفيلة بدعم قوة الدولة المسلمة، دون أن تمس كيانها بأذى، والمنسجمة مع مبادئ العقيدة والعبادة والأخلاق الإسلامية وأهدافها، والمنسجمة مع نظم الإسلام الأخرى. وهذه الأسس تقع في دائرة الوسط بين أطراف تبعد كل البعد أو بعضه عن المصالح العظمى التي يهدف إليها الإسلام. وأعداء الإسلام يحاربون تطبيق نظام الإسلام المتعلق بشؤون المال حرباً لا هوادة فيها، وحربهم هذه هي جزء من حربهم العامة للإسلام، وجزء من أعمالهم الكبرى التي يريدون منها إبعاد المسلمين عن تطبيق نظم الإسلام الكفيلة بتحقيق أفضل صور العدالة الممكنة في الواقع الإنساني، والتي من شأنها أن تجذب شعوب العالم إلى الإسلام، وتضيف إلى صروح المسلمين الأولى صروح مجد جديد، وتعيد إليهم قوتهم ودولتهم الكبرى. وقد غدت أسلحة النظم الاقتصادية لأعداء الإسلام شرقيين وغربيين، هي الوسيلة الهامة في هذا العصر للغزو الفكري والمادي الذي يغزون به المسلمين. وسبب ذلك أن معظم المسلمين يجهلون حقيقة نظام الإسلام المتعلق بشؤون المال، ولا يهتمون بتطبيقه، وقد غزت النظم الأخرى المناهضة لنظام الإسلام ميادين النشاط الاقتصادي في بلادهم، فهم يعيشون في وضع قلق ملفق مرقع بين الأنظمة المختلفة، فلا هو نظام إسلامي، ولا هو نظام غربي، ولا هو نظام شرقي، وهذه المرحلة التي وصل إليها المسلمون في واقعهم التطبيقي مرحلة مساعدة جداً لتحقيق أهداف أعدائهم فيهم. إنها المرحلة التمهيدية التي تهيئ للغزاة فرصة الغزو الكاسح، لأن المنافذ الاقتصادية من

(3) وسائل إيقاف نشاط غزو المذاهب المخالفة للإسلام

أخطر المنافذ التي تعبر منها جيوش الأعداء، حتى تصل إلى المقاتل التي تريد القبض عليها وإحكام غلها بأغلال الفولاذ. وأمام هذا الخطر الداهم المنذر بحلول المصيبة الكبرى، يجب على قادة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، أن يكشفوا للجماهير المسلمة حقيقة نظام الإسلام المتعلق بشؤون المال، بكل أسسه وتطبيقاته، وأن يستفيدوا من مرونة الشريعة الإسلامية في وضع أشكال تطبيقية لا تتعارض مع أسس الإسلام، كفيلة بأن توجد في بلاد المسلمين كل ازدهار اقتصادي، وانتعاش اجتماعي، حتى تستطيع تطبيقاتهم الملائمة للإسلام أن تقف في وجه هذا الغزو الذي يحارب المسلمين وهم في عقر دورهم، والذي يحمل فيه بعض أبناء المسلمين أسلحة العدو الغازي ضدهم، ويقاتلون به أهليهم وذويهم حماقة وجهلاً، وطمعاً وغروراً. (3) وسائل إيقاف نشاط غزو المذاهب المخالفة للإسلام لإيقاف نشاط غزو المذاهب الاقتصادية المعادية للإسلام في بلاد المسلمين، يجب على المسلمين أن يتخذوا وسائل الدفاع الكفيلة بصدّ أي هجوم يركزه أعداء الإسلام، ويجب عليهم أن يسدوا كل ثغرة يمكن أن يتخذها الغزاة معبراً لهم، ينفذون منه إلى عقول المسلمين أو قلوبهم أو نفوسهم. ويبدو لي أن وسائل الدفاع يشترط فيها قبل كل شيء تسليح معظم المسلمين على اختلاف مستوياتهم المعاشية بالقناعات الفكرية الراقية، التي تجعلهم واعين لنظام الإسلام تمام الوعي، قادرين على شرحه والدفاع عنه، متحمسين لتطبيقه. وبث هذه القناعات في عقول المسلمين وقلوبهم رهنٌ بتحليل نظام الإسلام المتعلق بشؤون المال - كسباً واستثماراً وإنفاقاً - تحليلاً دقيقاً، وبتفصيله تفصيلاً شاملاً، وبصياغته صياغة ملائمة لأسلوب العصر، وبإبراز كمال

النظريات الحكيمة والأسس الواقعية التي بني عليها، وبكشف مصالح الناس العامة والخاصة المرتبطة بتحقيقه، وبمقارنته بالنظم الأخرى الإنسانية، التي لاحظت جانباً من مصالح الناس، وأهملت جانباً، ولم تعترف بالله الخالق البارئ المصور حاكماً للناس مشرعاً. وعقب استكمال تحقيق هذا الشرط تأتي مرحلة تحويل واقع المسلمين المرقع الملفق، البعيد عن تطبيق نظام الإسلام تطبيقاً صحيحاً شاملاً، وذلك بحمل المسلمين على تطبيقه بسلطان العقيدة وسلطان القانون والحكم. أما سلطان العقيدة فله في داخل قلوب المسلمين ونفوسهم قوة دافعة وقوة رادعة، وله من دعاة الإسلام الموجهين قوة مذكرة. وأما سلطان القانون فيتولاه الحكم الإسلامي المؤيد من جمهور المسلمين، الرادع بسيف العدل، والملزم بقوة السلطان. وحينما يتبنى الحكم الإسلامي تطبيقه، فلا بد أن يطرح الصيغة القانونية الجديدة للنظم المالية، بعد أن توضح على أسس إسلامية بحتة، مع العلم بأن أسس النظام الإسلامي المتعلق بشؤون المال تتسع لأي شكل تطبيقي متطور، يتضمن تسهيل أعمال الناس المالية، وتنشيط تقدمهم المدني، وازدهار واقعهم الاقتصادي، وانتعاش واقعهم الاجتماعي، ومسايرة ركب المدنية الحديثة، في أحسن صورة من صور تقدمها، مع الخلاص من عيوبها، والسلامة من آفاتها وانحرافاتها شرقية كانت أو غربية. وتسليح المسلمين بالقناعات الفكرية الراقية التي تجعلهم واعين لنظام الإسلام تمام الوعي، لا يكفي فيه مجرد إثارة العواطف الإسلامية العامة، والبكاء على أمجاد المسلمين المضيَّعة، وتوجيه اللوم والنقد للجماهير المسلمة البعيدة عن تطبيق الإسلام، ولكن لا بد مع ذلك من تجنيد الطاقات الفكرية في العالم الإسلامي بكل الوسائل الممكنة، للقيام بعملية تسليح المسلمين بهذه القناعات. ليس نظام الإسلام المتعلق بشؤون المال من التعقيد بشكل يستعصي على

(4) نظام الإسلام على قمة وعن يمينها ويسارها منحدران

تفهم الجماهير المسلمة له، ولكن الأنظمة الأخرى التي غزت عالمنا الإسلامي قد استخدم الغزاة في نشرها جميع أسلحة القرن العشرين الإعلامية، وأسلحة أخرى غير إعلامية، فيها من الضغط الشديد على المسلمين ما تنهار أمامه الجدران المتآكلة في واقعهم. من أجل ذلك اقتضت ظروف المقاومة الحديثة مقابلة السلاح بمثله أو بما يقاربه، ومن أجل ذلك اقتضت الحرب الفكرية الحديثة تجنيد كل طاقات المسلمين الفكرية، لإبراز نظام الإسلام المتعلق بشؤون المال كسباً وإنفاقاً واستثماراً، بالأسلوب المشرق الذي تبدو الأنظمة الأخرى أمامه كما يبدو قزم قميء ضعيف أمام عملاق وسيم الطلعة ذي بأس شديد، أي: تبدو كما هي في واقع حالهم، ويبدو نظام الإسلام كما هو في واقع حاله. ومن الحسن في تجنيد هذه الطاقات الفكرية بذل الجوائز السخية للعاملين في هذا الميدان، وتشكيل اللجان المتنوعة، من باحثين إسلاميين، ومن ذوي علم واسع وخبرات طويلة في شؤون المال والاقتصاد والاستثمار في مختلف بلدان العالم الإسلامي، يرافقها مؤتمرات عامة للمناقشة والبحث، ثم تختم بلجان عليا للتنسيق والتصفية، ثم يصدر عنها الإعلان النهائي بتحديد الأسس العامة لنظام الإسلام المتعلق بشؤون المال، والتوصيات بمشاريع قوانين إسلامية، تعالج مشكلات العصر المتعلقة بهذا الجانب من جوانب نظم الحياة. (4) نظام الإسلام على قمة وعن يمينها ويسارها منحدران إن مثل الإسلام في عقائده ومبادئه ونظمه كمثل صراط مستقيم على قمة المفاهيم للحقائق الكبرى، وللفلسفة الراقية لحياة الإنسان بدءاً ومعاشاً ومعاداً، وهو الارتفاع الأسمى البارز من الخط الوسط، ولهذا الصراط جانبان عن اليمين وعن اليسار، فمن تجاوز يمين الصراط أخذ يتجه منحدراً من وراء اليمين ومن تجاوز يسار الصراط أخذ يتجه منحدراً من وراء اليسار، وغاية كلا

الانحدارين الوصُولُ إلى السحيق المليء بالعذاب الأليم، البعيد البعيد عن الطريق الموصل إلى رضوان الله وسعادة الدارين، الدنيا والآخرة، طريق الله الحق الذي يبدأ في دار الدنيا بالعمل الصالح والتزام شريعة الله، وينتهي في الجنة بالجزاء الأوفى عند مليك مقتدر كريم. وفي نظام الإسلام المتعلق بشؤون المال نجد هذا الصراط الذي حددت شريعة الله جانبيه، وحذرت من تجاوز حدّيه، وأنذرت من تسوِّل له نفسه المعصية والمخالفة بالخسران في الدنيا والعقاب في الآخرة. وفي المنحدر من وراء يمين هذا الصراط تجد شتى المذاهب الاقتصادية المسماة بالمذاهب الرأسمالية، وفي المنحدر من وراء يسار هذا الصراط نجد شتى المذاهب الاقتصادية المسماة بالمذاهب الاشتراكية. وليس الإسلام في نظامه شيئاً من هذه ولا من تلك، ولكنه نظام فذ متكامل بذاته، ربما نجد في بعض أجزاء الأنظمة الرأسمالية شبهاً ببعض أجزاء منه، وربما نجد أيضاً في بعض أجزاء الأنظمة الاشتراكية شبهاً ببعض أجزاء منه، ولكنه في مجموعة كائن مستقل نابض بحياة راقية قويمة. ولست أجد لهذا التشابه الجزئي بينه وبين أجزاء من الأنظمة الأخرى، مثلاً أقرب من التشابه الذي نلاحظه بين الإنسان المخلوق في أحسن تقويم، وبين المخلوقات الأخرى المنحدرة عنه في المرتبة التكوينية انحداراً كبيراً. فلو أن جماعة من الذئاب المفترسة الغادرة حاولت أن تثبت أنها هي الكائن الأقوم بين الحيوانات، واستغلت قوة بطشها أمام عائلة بشرية ضعيفة منعزلة في طرف غابة الذئاب، وفرضت عليها أن تنضم إلى فصيلة الذئاب، أفيجعلها من فصيلة الذئاب وجود التشابه بين الإنسان والذئب، في أن لكل منهما عينين وأذنين، ولساناً وشفتين؟ أم يظل الإنسان كائناً غير الذئب ولو كان بينهما تشابه في كثير من أجزاء الجسد؟. إن أحداً لا يمكن أن يقبل هذه الفرية المستندة إلى حجة هذا التشابه الجزئي.

لكننا مع الأسف نجد في المسلمين من ينطلي عليهم مثل هذا التحوير والتحريف في الحقيقة، بالنسبة إلى نظام الإسلام المتعلق بشؤون المال، والأنظمة الأخرى التي هي من أوضاع الناس. وأعداء الإسلام يحاولون أن يتصيدوا بعض المسلمين، إلى اعتناق مذاهبهم بشبكة التشابه الجزئي بين النظام الإسلامي والأنظمة الأخرى. فأصحاب النظم الرأسمالية يتصيدون بهذه الشبكة بعض المسلمين لتطبيق نظامهم، وأصحاب النظم الاشتراكية العلمية الملحدة يتصيدون بهذه الشبكة أيضاً بعض المسلمين لتطبيق أنظمتهم الاشتراكية العلمية، وليس الإسلام في حقيقة نظامه المتعلق بشؤون المال باشتراكي ولا برأسمالي، وإن كان لكل منهما شبه ببعض ما في الإسلام. فالذي يقول: رأسمالية الإسلام، أو اشتراكية الإسلام، معتمداً في ذلك على بعض التشابه الجزئي، يقع تحت تأثير وهْمٍ كبير، وهذا القول شبيه في مضمونه بقول قائل: ذئبية الإنسان، معتمداً في قوله هذا على وجود أجزاء متشابه بين الإنسان والذئب، كوجود العيون مثلاً في كلٍّ من النوعين. وسبب الوقوع في هذا الوهم عدم تصور الوحدة التامة المتكاملة في نظام الإسلام، المباينة في هيئتها التركيبية للأنظمة الأخرى. لذلك كان على الباحثين أن يعرضوا نظام الإسلام عرضاً كاملاً، يبين حقيقته المستقلة الفذة، التي اختارها الله في شريعته لعباده. وشاعت المغالطات الخطيرة، التي أخذ مطلقوها يحاولون صبغ الإسلام بصبغة مذاهبهم، ليسهلوا نفوذ مذاهبهم إلى صفوف المسلمين، دون أن تصطدم بعقبة معارضة المسلمين لها، بوصفها تناهض مبادئ الإسلام، وتسعى إلى تقويض دعائمه. وحاول أنصار كل مذهب من هذه المذاهب أن يجد في الإسلام تأييداً لجانب من جوانبها، ليلبِّس بذلك على المسلمين، ويجعل الإسلام وكأنه صاحب هذه المذاهب، أو يوافق عليها.

وفي دوامة هذه المغالطات الرامية إلى تشويه حقيقة الإسلام، واصطناع الجو الملائم لتسلل المذاهب المخالفة له إلى صفوف المسلمين، نجد مثلاً في مجموعة المذاهب الاقتصادية المتعارضة في العالم، أن أنصار المذاهب الرأسمالية في البلاد الإسلامية يختبؤون وراء الإسلام ليحميهم من هجمات أنصار المذاهب الاشتراكية، ويدرأ عنهم ضرباتها، بحجة أن الإسلام يعترف بالملكية الفردية ويحميها، ويفسح مجال حرية العمل والكسب والتجارة، ولا يسد أبواب المنافسة الشريفة في تحصيل الثروات، كما أن أنصار المذاهب الاشتراكية يقدمون الإسلام إلى الصف الأول في معركتهم مع أنصار المذاهب الرأسمالية، بحجة أن الإسلام يحتوي على مبادئ اشتراكية تتجه إلى تحقيق العدالة بين الناس. وبين صراع الرأسماليات والاشتراكيات التي يزج كل منهما بالإسلام في أتون معركتهما، يتلقى الإسلام في بلاد المسلمين معظم الضربات، مع أن الإسلام بريء من الفريقين المتصارعين، وأي منهما انتصر فالإسلام خاسر، وإن صح وجوده في حلبة الصراع فإما أن يكون فريقاً وحده ضد الفريقين معاً، وإما أن يكون حكماً عدلاً يسجل على كل فريق منهما خطأه وصوابه، ويحاول أن يرد كل مخطئ إلى وجه الصواب. ولكن مسكين هذا الحَكَم العدل ذو العقل الراجح الناضج في الجسم واهن ضعيف، لا يقوى على كبح جنون المتصارعين، وقد تآمرت عليه أندية الفريقين ليقوضوا دعائم مدرسته القديمة، التي لو تهيأ لها أن تنهض نهضة حديثة لأخذت بطولة العالم. مسكين هذا الحَكَم العدل على الأنظمة في العالم، يتَترَّسُ به الرأسماليون في بلاد المسلمين، فيتلقى ضربات الاشتراكيين على الرأسمالية، ويتترس به الاشتراكيون، فيتلقى ضربات الرأسماليين على الاشتراكية. فمن للإسلام يحمله باسمه الحقيقي، وتطبيقه الحقيقي، حتى يستطيع أن يصرع به سائر الأنظمة في العالم، وينال به كأس البطولة التاريخية، التي لا ينافسها منافس على مر العصور، مع سعادة الدنيا للفرد وللجماعة الإنسانية، وسعادة الأخرى بالظفر برضوان الله والجنة، والنجاة من سخط الله والنار؟؟. إن الإسلام الرأسمالي وفق مفهوم الرأسماليين إسلام مزيف، أرادوا أن

(5) قدوم المذاهب الاقتصادية المخالفة لنظام الإسلام

يروجوه في صفوف المسلمين، ليختلط عليهم أمر دينهم، ويقبلوا بالزيف الرأسمالي الدخيل، الذي أرادوا له أن يحل محل الأصل الإسلامي، ويمحوه من الفكر والتطبيق، وإن الإسلام الاشتراكي وفق مفهوم الاشتراكيين إسلام مزيف، أرادوا أن يروجوه ضمن صفوف المسلمين، ليختلط عليهم أمر دينهم، ويقبلوا بالزيف الاشتراكي الدخيل الذي أرادوا له أن يحل محل الأصل الإسلامي، ويمحوه من الفكر والتطبيق. فاحملوا أيها المسلمين إسلامكم حقاً نقياً سليماً من كل زيف، لتنالوا به بطولة العالم أجمع. (5) قدوم المذاهب الاقتصادية المخالفة لنظام الإسلام قدمت إلى بلاد المسلمين جيوش المذاهب الاقتصادية المعادية للإسلام، والغازية لعقول وعواطف المسلمين الجاهلين بحقيقة النظام الإسلامي المتعلق بشؤون المال، فاصطدمت بالحركات الإسلامية الواعية، المجردة من الأسلحة المادية الفعالة، وأخذت هذه الحركات تنشط في حدود إمكانيات الدعوة البيانية التي لديها، بما يشبه أعمال الصيانة والترميم والمكافحة. وقد ظفرت هذه الحركات الإسلامية، بأن تصون معظم جماهير المسلمين عن أن تخدعها مغريات جنود العدو المنبثين داخل الصفوف، بحجة أن هذه المذاهب الاقتصادية الغازية معادية للإسلام، ولكنها لم تظفر بصيانة عقول جماهير المثقفين، لأنها كانت بعيدة عن مواقعهم الاجتماعية، ومواقعهم الفكرية، فلم تتخذ لصيانتها الوسائل الحديثة، القادر على مجابهة أسلحة جيوش الغزو الفكري، القادمة في أقنعة العلوم المادية، التي أحرزت أوربا فيها السبق الماهر. وأثر الغزو الفكري أثره في عقول حشد من المثقفين بالثقافات المعاصرة، البعيدين عن الثقافة الإسلامية الصحيحة، والمقبلين على تسلم مراكز الإدارات

والتوجيه، والمؤسسات الخاصة والعامة، وهكذا امتدت حركات الغزو الفكري إلى مراكز القوة الفعلية في بلاد المسلمين، بينما عامة المسلمين في غفلة عن ذلك. وقيادات الدعوة الإسلامية منخدعة بالحشود المسلمة، التي لا تملك شيئاً من القوة الفعلية في البلاد إلا الكثرة العددية فقط، مع ضعف في وسائل المجابهة الجدلية، أمام فئات المثقفين الذين تأثروا بفكرة هذه المذاهب الغازية، وزاد نشاط المتأثرين بالغزاة المنبثين في صفوف المسلمين، واتسعت دوائر أعمالهم، وبدأوا ينشرون هذه المذاهب في صفوف جماهير المسلمين، ويوجهون اهتمامهم البالغ إلى فئات العمال والكادحين، والذين لا تصل إليهم لقمة العيش إلاَّ بعرق غزير، وجهد وفير. واصطدموا مع هذه الفئات المتمسكة بعقيدتها الراسخة بالإسلام، واستعصى أكثرهم عن أن يتنازلوا عن عقيدتهم من أجل مغريات هذه المذاهب، فابتدعوا لهم فكرة الفصل بين الدين وبين المذاهب الاقتصادية، وزعموا لهم أن هذه المذاهب لا تصطدم مع الدين، فلا تمس جانبه بحال من الأحوال، ولا مانع من أن يكون الإنسان مسلماً أو نصرانياً يؤدي فروضه الدينية كلها، وملتزماً مع ذلك مذهباً اقتصادياً شرقياً أو غربياً، فالدين شيء والسير في ركاب هذه المذاهب شيء آخر. واستطاعوا بهذه الحيلة أن يسرقوا إلى صفوفهم جماهير من غير المثقفين يدعمونهم في المجالات العامة، وهؤلاء يسيرون في ركابهم منخدعين بما يمنونهم من مستقبل حافل بالرفاهية والمساواة، وقد ساعدهم على جلب هذه الجماهير الكادحة إلى صفوفهم، واقع حال المسلمين المخالف للإسلام في التطبيقات الاقتصادية المنتشرة في البلاد، التي اعتمدت على أسس فوضوية ملفقة غير إسلامية، قد تنتهي بالإثراء غير المشروع، كالإثراء عن طريق الربا، أو الغش، أو الغبن الفاحش، أو الاحتكار، أو استغلال الوظيفة وتسخير قوة السلطان، أو التحايل والسرقة غير المباشرة، وأشباه ذلك مما لا يقره الإسلام بحال من الأحوال.

(6) لا تكفي الكلمة وحدها

وهكذا نفذ أعداء الإسلام إلى مراكز القوة داخل كثير من البلاد الإسلامية، وتعطلت طاقات الكثرة المسلمة غير المنتظمة، وأمست القلة المسيرة هي صاحبة السلطان المهيمن، وأخذت تفرض ما حملته من مذاهب الغزاة ومبادئهم على الناس بقوة السلطان. (6) لا تكفي الكلمة وحدها إن الكلمة وحدها لا تكفي مهما كانت ذات أثر بياني؛ إذا لم تكن مصحوبة بالتطبيق العملي المقنع للجماهير بمضمونها، في صد غزو فكري يحمل شعار التطبيق، مسلح بأسلحة القرن العشرين الإعلامية وغيرها. إن كلمة الموعظة الآسرة تعطي سحراً إقناعياً مؤقتاً، لكنها لا تلبث أن تنطلق من نفس سامعها مع الأثير، كما انطلقت من لسان قائلها، ما لم يدعمها العمل المستمر، الذي تنفعل به الحواس الظاهرة والباطنة في الإنسان، مع مشاهدة ثمراته النافعة. الكلمة هي النافذة التي يطل منها نظر الفكر لمشاهدة الحقيقة، ولكنها ليست هي الحقيقة، إن الحقيقة هي الصورة الواقعية التي ترشد إليها الكلمة، فإذا أطل نظر الفكر من نافذة الكلمة فلم يشاهد الصورة الواقعية التي أرشدت إليها أقفل النافذة، وبحث عن الحقيقة بنفسه، أو من خلال كلمة أخرى. ومما يؤسف له أن المسلمين في واقعهم الحالي الذي انحدروا إليه، لا يستعملون لصد الغزو العملي على الإسلام والمسلمين، إلا سلاح الكلمة العاطفية غير المدعمة بالبيان الكافي، والمجردة عن التطبيق العملي لها. إن هذا السلاح بهذا الشكل قد غدا مثل الأسلحة الخلَّبية التي تسمع صوتاً ولا تحدث أثراً، وقد عرفت الجماهير المسلمة نوع هذا السلاح الخلبي، وتبلد حسها نحوه، لكثرة الاستماع إليه، فلم تعد تنفعل به، ولا تتأثر بمضمونه.

لو لبث أصحاب الكلمات قروناً يمتدحون النظام الإسلامي المتعلق بشؤون المال، في حال أنهم يخالفونه في التطبيق، أو يجاملونه مجاملة صورية لا تنفذ إلى أعماق مشكلة الحياة التي يعيشها الناس، أو ينافقون له ببعض أعمال طفيفة يؤدونها، وأجسامهم إليها ثقيلة، ونفوسهم بها شحيحة، فإنهم لن يستطيعوا أن يدخلوا إلى قلوب الناس بأقوالهم المجردة عن الأعمال، ولن يستطيعوا أن يملكوا مشاعرهم ما دامت مشكلة العيش تنهش في بطونهم، وتغلي في أكبادهم، ولن يستطيعوا أن يقفوا في وجه الغزو الفكري الذي يحمل إليهم المذاهب الاقتصادية المعادية للإسلام، القادمة من وراء الحدود، والتي تمنيهم بالأماني العريضة، وتضع على بوابة الطريق الذي تدعوهم إليه أقواس الورد والريحان، وتفرش مقدمته بالخمائل الزمردية. ومهما يكن وراء هذه الخمائل الخادعة من جوع وظمأ وأسر وعذاب، فإن كلمة التحذير وحدها لا تكفي لردهم عن دخول هذه البوابة المغرية، ما دامت مشكلة العيش تنهش في بطونهم، وتغلي في أكبادهم، وما دام الواقع الذي يعيشون فيه مخالفاً للنظام الذي يُدعَوْن للمحافظة عليه. هذه هي التجربة التي عاشت في ظروفها بعض البلاد الإسلامية، واكتوت بنيرانها. وعظة هذه التجربة تتلخص بوجوب تدارك الأمة الإسلامية في كل بلاد المسلمين بالتطبيق الفعلي لنظام الإسلامي المتعلق بشؤون المال، قبل أن يفلت زمام الأمر في سائر بلاد المسلمين، من الأيدي الحارسة للإسلام المؤمنة به الحريصة على إعلاء كلمة الله في الأرض، لا سيما في هذا العصر الذي نجد فيه الغزو الثقافي القادم من وراء حدود البلاد الإسلامية يكتسح الأجيال الناشئة بسرعة فائقة. وللتطبيق الفعلي شروطه ومراحله وأسبابه، وعلى المسلمين أن يخططوا لذلك بفكر عميق وبصر نافذ، ثم يباشروا بالتنفيذ دون إهمال ولا تسويف، فإن دولاب الزمن المتسارع بأحداثه لا ينتظرهم. إن كل الذين يعيشون في المجتمعات التي تنتسب إلى الإسلام،

يلاحظون مدى بعد هذه المجتمعات عن التطبيق الإسلامي، وهذا هو السبب الذي جعل المذاهب الأخرى تغزو بلاد المسلمين، وفيما يلي صورة مقتضبة عن واقع الانحراف: 1- من أبرز العناصر التي اهتم بها نظام الإسلام المتعلق بشؤون المال تحريم الربا وإيجاب الزكاة. أما تحريم الربا فهو وقوف في وجه نوع كبير من أنواع الإثراء غير المشروع الذي لا يوافق عليه الإسلام في نظامه العادل. وأما إيجاب الزكاة فهو وسيلة كبرى من وسائل حل مشكلة الفقر، الذي لا بد أن يتعرض إليه بعض أفراد الأمة. والمسلمون الذين يغارون على إسلامهم، ويحذرون من أن تغزو بلادهم المذاهب الاقتصادية المعادية للإسلام، يخالفون بشكل عام في هذين الأمرين معاً. فيتعاملون بالربا ضمن أسس النظام الرأسمالي اليهودي في العالم، ولذلك نشاهد أن معظم النشاطات الاقتصادية في بلاد المسلمين لا تتورع عنه، مع أنهم يتترَّسون بالانتساب إلى الإسلام، حينما تغير عليهم هجمات المذاهب المخالفة، التي تنازعهم كل شيء مما يملكون. ويمنعون الزكاة التي من شأنها أن تسكت عنهم البطون الجائعة بسبب الفقر الذي أصابها، من جراء العجز عن العمل، أو عدم تيسر أسبابه، أو من جراء عدم تطبيق نظام الإسلام في المجتمع، بشكله الكامل المتطور مع ظروف الأحوال الاجتماعية. 2- وصورة الاستغلال الفاحش هي العملية السائدة التي تواضعت عليها مفاهيم الناس بشكل عام. فنرى الاحتكار المحرم في الإسلام وسيلة منتشرة من وسائل هذا الاستغلال داخل كثير من المجتمعات التي تنتسب إلى الإسلام، ويُعمي الطمع

المستغلين، ويطمس بصائرهم، فلا يخشون عقاب الله، ويسارعون إلى الاحتكار، ليتحكموا بالأسعار، وليجمعوا ثروات كبيرة فاحشة، على حساب ذوي الحاجات الذين ألجأتهم الضرورات إلى دفع الأثمان العالية، لأنهم لا يجدون حاجاتهم إلا عند المحتكرين. ونرى الغش المحرم في الإسلام وسيلة منتشرة من وسائل هذه الاستغلال، وهو في منطق الحقيقة سرقة مغلفة بغلاف التجارة الحرة، والرسول قال فيه: "من غشّ فليس منا". ونرى الغبن الفاحش الذي يدفع إليه عامل الشره وحب الإثراء على حساب الآخرين دون بذل جهد مكافئ، وسيلة منتشرة من وسائل هذا الاستغلال، مع أنه غير مشروع في نظام الإسلام. إن انتشار هذه الأمور وأشباهها مما هو مخالف لنظام الإسلام يهيئ للغزاة بيئة صالحة لنشر مذاهبهم، واجتذاب المظلومين إلى صفوفهم، واستخدامهم مطايا يمتطونها لتحقيق أغراضهم في بلاد المسلمين، وجنوداً متطوعين لهدم حصون أمتهم من داخلها. وهذا ما مرت بتجربته القاسية بعض البلاد الإسلامية، وقد عرف الغزاة من تجاربهم الطويلة كيف يستفيدون من الأخطاء المنتشرة في الأمة، لإحكام خطتهم وتنفيذها، وقد يعملون في بعض البيئات على توسيع دائرة هذه الأخطاء وتشجيعها بشكل غير مباشر، ليسهل عليهم توجيه الانتقادات الشديدة، وإثارة النقمة في صفوف الجماهير عليها وعلى كل واقعهم، وإقناعهم بضرورة التغيير الجذري لكل الأسس التي عليها الأمة، تخلصاً من هذا الواقع المنحرف، ويوحون لهم بحتمية التحويل الثوري الذي ينسف كل القيم السائدة في المجتمع. ويأتي دور العمل الإسلامي الواعي، لتدارك وضع المسلمين قبل أن يستفحل الخطر ويتجاوز الحدود، ويغدو من العسيرة إقامة السدود في وجه سيله المدمر.

وعلى كل عمل إسلامي واعٍ أن يضع في حسابه تغيير هذا الواقع المخالف لنظام الإسلام، ضمن خطة مقاومة جيوش الغزو الفكري للعالم الإسلامي، القادم بالمذاهب الاقتصادية المبنية على أسس معادية للإسلام، تعمل على هدمه، واجتثاثه من أصوله. ولا يحتمل أمر هذا الخطر الداهم التهاون والتواني، أو اليأس والخنوع، فلكل عمل نتيجة، ولكل جهد ثمرة، وحسب باذل الجهد ابتغاء مرضاة الله أن ينال رضوان الله ثمرة لما بذل من عمل. كيف يتسنى الظفر بصدد هجمات المذاهب الاقتصادية المعادية للإسلام، والمسلمون منغمسون في مخالفاتهم لنظامه، وتجاوزهم لحدود أحكامه؟!. كيف تحجز الجماهير التي تشعر بالنقمة من الواقع المؤلم المخالفة لأحكام الإسلام،عن أن تسير في ركب الذين يفتحون لها أبواب الأماني العريضة، ويذللون في طريقها مقدمات الانزلاق، ولو كان من وراء السير في ركاب هذه المغريات الخادعة البلاء المدمر؟؟ كثير من الناس قصيرو النظر، تطيش بهم الآمال، وتسوقهم بوارق الطمع، وتجمعهم كل ضجة محدثة، لا سيما حينا تستحكم بهم الحاجة، وتزوغ أبصارهم لما يظمؤون إليه. وقد عرف الغزاة بدراساتهم النفسية كيف يتصيدون مطاياهم من المسلمين. لو قيل للشاة التي عض عليها الجوع الشديد وهي في حظيرتها المحصنة، إن الذئب في الوادي يوزع العلف على الشياه الجائعة لصدقت ذلك، وهبطت إلى الوادي، لتأخذ نصيبها من العلف، ولأنساها جوعها الشديد أنها ستنزل لتكون هي العلف للذئب. وكذلك كثير من الناس حينما تلح عليهم الحاجة وتنبح في أحشائهم الضرورة، تضطرب مداركهم، وتستخذي إرادتهم، ويفقدون توازنهم الفكري فيسلمون رقابهم إلى أيدي أعدائهم الذين سيقتلونهم حتماً، وذلك

(7) الأسس العامة لنظام الإسلام الاقتصادي

متى لوحوا لهم بوعد كاذب يحرك طمعهم إلى تلبية حاجتهم، وسد ضرورتهم التي أفقدتهم مشاعرهم المتزنة الواعية. فما دامت المشكلة المعاشية قائمة دون أن يعمل المسلمون على حلها، بتطبيق النظام الإسلامي المتعلق بشؤون المال فإنهم سيغدون جميعاً طعمة في فم الذئاب العالميين، الذين يراقبون بدقة بالغة مشكلات العالم الإسلامي، التي تسهل لهم طريق العبور إلى صفوف المسلمين، والاستيلاء عليهم بسلاح الخديعة وسلاح القوة، ولكن سلاح الخديعة غالباً ما يكون هو السلاح الفعال الذي يدخل إلى القلوب، دون أن يشهر على الوجوه. فهل إلى يقظة من سبيل؟؟!. (7) الأسس العامة لنظام الإسلام الاقتصادي إن الإسلام الذي يعمل أعداؤه على هدم نظمه، وإبعاد المسلمين عن تطبيقها، يقوم نظامه المتعلق بشؤون المال على أسس أربعة كافلة عند التطبيق تحقيق التقدم الاقتصادي في أحسن صوره، والعدالة الاجتماعية في أكمل أحوالها، والجسدية الواحدة للمجتمع الإسلامي كله. الأساس الأول: العمل الحر ضمن الخطوط المأذون بها في اللوائح التفصيلية لنظام العمل الإسلامي. وتقع مسؤولية مباشرة العمل على كل فرد قادر عليه، غير مفرغ لصالح الأمة الإسلامية، أو لصالح سلامة الأسر وسعادتها واستقرارها. وتقع مسؤولية تهيئة مجالات العمل ووسائله وشروطه وتكافؤ فرصه على المجتمع كله، وتمثله القيادة الحاكمة الحكيمة. الأساس الثاني: التكافل الأسري، وتقع مسؤولية هذا التكافل على من لهم زائد على كفايتهم الفردية داخل أسرتهم، تجاه باقي أفرادها العاجزين عن

الكسب، أو الذين لم تتيسر لهم وسائل العمل، أو النساء القائمات بأعباء الخدمات المنزلية، المفرغات لها، تكريماً لهن عن التبذل. الأساس الثالث: التعاون الاجتماعي، وتقع مسؤولية هذا التعاون على كل فرد من أفراد الأمة ذكوراً وإناثاً، إذا توفر لديه فائض يزيد عن حاجاته، وعن حاجات من ألزم بكفالته من أهله وذوي قرابته وكل تابع لأسرته. الأساس الرابع: دواعم روابط المجتمع الإسلامي، وهي تتمثل بالمنح والعطايا والهدايا، والصدقات والوصايا، وإكرام الضيف، والمآدب والولائم المشروعة، ويلحق بهذه الدواعم نظام الميراث، وغير ذلك من كل تملك مشروع لا يأتي عن طريق جهد يبذل، ولا يدخل في نطاق الأساسين الثاني والثالث. ويلاحظ في هذه الدواعم تمكين روابط المجتمع الإسلامي، الذي يبدأ بتمكين روابط الأسرة، ثم ينتقل إلى ما وراءها، فهي تشد أواصر التآخي والتواد والتراحم، وتقوي مفهوم الجسدية الواحدة للأمة المسلمة. والمجتمع الإسلامي القائم على مفهوم الجسدية الواحدة، المتماسكة بروابط الإخاء والمحبة والتواد والتراحم والتكافل والتعاون، يخالف المجتمعات الرأسمالية، القائمة على ترجيح مفهوم الوحدات الفردية الأنانية، ويخالف المجتمعات الاشتراكية، القائمة على فكرة الوحدات الفردية المبعثرة، المرتبطة ارتباطاً قهرياً بقيادة واحدة. وضمن هذه الأسس الإسلامية الأربعة، تدور دواليب نظم العيش الرغيد السمح، الذي لا كسل فيه ولا بطالة، والممتلئ بالحركة والعمل، والتفاؤل والأمل، والتآخي والتعاطف والتواد والطمأنينة القلبية والنفسية، والرضا عن الله، والبعيد عن ثورات حقد النفوس وحَسَدِها، مع حدٍّ من طمع النفوس الزائدة وجشعها، وحجز بينها وبين جميع أنواع الظلم والعدوان. وبالدافع القلبي في كل فرد مسلم صادق الإيمان، والدافع الجماعي القائم على ركن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والسلطة الحاكمة المسلمة التي تطبق شريعة الله، يتم للنظام الإسلامي التطبيق الأمثل.

وأخص العمل بمزيد من الشرح في الفقرة التالية: شرح العمل في الإسلام يعتبر العمل القانون الطبيعي الذي ربط الله به رزق كل دابة في الأرض، فلا محيد لكائنٍ حيٍّ عنه بوجه من الوجوه، إذن فلا غرو أن يكون هو الأساس الأول لتحصيل الرزق، ولذلك نجده هو الأساس الأول في جميع النظم الاقتصادية الربانية والإنسانية. ويحاول أعداء الإسلام باستمرار أن يصوروه بصورة مشوهة يبدو فيها وكأنه يشجع على الكسل والبطالة والخمول، وعدم مسايرة كل تقدم حضاري. ويتصيدون الأدلة على ما يفترون من واقع المسلمين الذي صاروا إليه، المخالف لتعاليم الإسلام، زاعمين أن هذا الواقع هو الصورة التطبيقية له، مع أن الإسلام قد أعلن أن العمل والكدح فيه هو فطرة الحياة، فقال الله تعالى في سورة (الانشقاق/84 مصحف/83 نزول) : { ياأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ} . فكل إنسان كادح ومدعو إلى الكدح، ولكنه إما أن يكدح في الخير فينال خيراً، وإما أن يكدح في الشر فينال شراً، ولذلك أمره الله بأن يستقيم ويلتزم جانب التقوى فيما يكدح من أجله، فقال تعالى عقب الآية السابقة: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَى سَعِيراً} . وربط الإسلام تحصيل القوت الذي هو مادة الحياة الأولى - بعد التنفس - بالمشي في مناكب الأرض، فقال الله تعالى في سورة (الملك/67 مصحف/77 نزول) : {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} .

وسلط الله أيدي الناس على جميع ما في الأرض ليحسنوا التصرف فيه بما هو لهم خير، فقال الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) : {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً..ز} وقال في سورة (الجاثية/45 مصحف/65 نزول) : وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} . فالإسلام يحمل للإنسانية كل دوافع التقدم والازدهار، المصونين من عوامل الفساد والانهيار، ولكن أساء مسلمو عصور الانحطاط إليه، بتخلفهم الذي ساهمت في صنعه عوامل شتى، منها مكايد أعدائهم له، ومنها نفوسهم التي بطرت وانغمست بالشهوات، وأخلدت إلى الأرض، ومزقتها أيدي الخلاف والتنازع، وأخذت تغط في نوم عميق، وجهل مطبق، بعد أن بلغ حملة الإسلام الأولون شأواً عظيماً من اليقظة والعلم، والتقدم الحضاري، بتأثير الروح العظيمة التي نفختها فيهم تعاليم الإسلام، إذ فهموه على وجهه الصحيح، وتمثلوه في سلوكهم أفراداً وجماعات وقيادات. ولما كان العالم في سباق نحو القوة، ولما كان التقدم الاقتصادي في البلاد جزءاً منها وشرطاً أساسياً لها، كان على المسلمين أن يتجهوا بشطر عظيم من طاقاتهم البشرية إلى تحسين أوضاعهم الاقتصادية متآزرين، وأن يستغلوا كل ما يمكن استغلاله من الأرض، ويدخلوا في جميع مجالات العمل من أبوابها العريصة، وفي مقدمتها مجالات الاستثمارات والاستخراجات والتصنيع والبحث العلمي. لأن التنمية الاقتصادية الواعية المنضبطة مع تعاليم الإسلام، من شأنها أن ترفع مستوى الشعوب الإسلامية، وتكبح جماح البطرين، وجشع المستغلين، وتدفع البؤس والبطالة عن الذين أقعدهم البؤس عن أن يكونوا عناصر ذات فعالية مفيدة للمسلمين، وبذلك يستطيعون أن يدخلوا في سباق القوة مع الدول المتقدمة المعاصرة، عملاً بقول الله تعالى في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول) : {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ

وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} . وأنت خبير أن عصب القوة المادية في هذا العصر مرتبط بتقدم الاقتصاد وازدهاره، وبمقدار ما يضعف الاقتصاد العام في البلاد تضعف القوة المادية المطلوبة للأمة، التي يجب على المسلمين أن يعدوها لتواجه قوى أعدائهم الذين يتربصون بهم الدوائر، ويعملون لهدم كل مجدٍ لهم من داخل بلادهم وخارجها. فلا مجال في ميادين إعداد القوة بكل صورها، واستكمال شروطها التي لا تكون إلا بها، إلى نظريات الزهد والرضا بالقليل، والبعد عن مجالات التنمية والاستثمارات المختلفة. فالزهد الصحيح يكون في أن يبذل المسلمون كل إمكانيات القوة التي وهبهم الله إياها ويملؤوا حياتهم كدحاً وعملاً، ثم يزهدوا في لذائذ الحياة وشهواتها وترفها وحب جمع المال وكنزه، ويحسنوا ضبط نفوسهم بالتقشف، ويجعلوا ثمرات كدحهم في خدمة الاقتصاد العام للمسلمين، وفي خدمة إعداد القوة التي أمرهم الله بها لمواجهة أعدائهم وأعداء دينهم. وليس الزهد في ترك العمل واللجوء إلى البطالة والكسل، والخمول في الزوايا والتكايا، والعيش على فضلات الناس وصدقاتهم، فهذا مما لا يرضى به الإسلام بحال من الأحوال. أما التفرغ للتعلم والتوجيه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو جزء من العمل، وهكذا عرفنا موقف الإسلام من العمل. ولكن الإسلام جعل للعمل منهجاً يقوم على أسس واضحة تضمن جلب المنافع الحقيقية المعتبرة، ودفع المضار الحقيقية، العاجلة والآجلة ضمن نظرة شاملة عميقة. وتتنوع طبيعة العمل طبقاً لتنوع طرق الكسب التي فيها للناس منافع ومصالح، ويمكن تصنيف العمل في مجالات خمسة: المجال الأول: مجال الاستثمارات، ويدخل في هذا المجال كل عمل يؤدي إلى استثمار واستنتاج وحدات طبيعية جديدة، كالاستثمارات الزراعية

المختلفة، والاستنتاجات الحيوانية المتنوعة، وما يلحق بذلك. المجال الثاني: مجال الاستخراجات، ويدخل في هذا المجال كل عمل يؤدي إلى حيازة شيءٍ مما خلق الله للناس وأودعه في مكان ما من الأرض برها وبحرها وجوها، كالصيد، وقطف ثمار الغابات العامة، والانتفاع بأشجارها، والانتفاع بنبات الأرض الطبيعي، وكاستخراج الجواهر والمعادن وأشباهها، والمواد الكيميائية والعضوية، واستخراج المياه والنفط ولحوم البحر وحليته، وهكذا إلى سائر ما هو مسخر للإنسان في الأرض وفي السماء. المجال الثالث: مجال التصنيع، ويشمل هذا المجال كل عمل يقوم على أساس تحويل هيئة المواد الأولى، إلى أشكال وصور جديدة تركيبية أو تحليلية، تحقق للإنسان مصلحة من المصالح، أو منفعة من المنافع. المجال الرابع: مجال الخدمات الخاصة أو العامة، الدينية والدنيوية، ويشمل هذا المجال أعمال التجارة، والإدارة والتوجيه والتربية والتعليم والحراسة والدفاع والصيانة والنقل وأشباه ذلك. المجال الخامس: مجال البحث العلمي والفني، ويشمل هذا المجال أنواع التفرغ للبحث العلمي والفني، الذي يهيئ للأمة عوامل تقدمها وازدهارها المستمر، والذي من شأنه أن يزيد في شأو الحضارات والمدنيات السليمة زيادة مستمرة، وفق النتائج التي يتوصل إليها الباحثون، أو يصون دين الأمة وأخلاقها واستقامتها على صراط الله، وتماسك بنائها ضد عوامل الانهيار والهدم الداخلية والخارجية. قيود العمل: لكن حرية العمل في هذه المجالات مقيدة بقيود إسلامية، تهدف إلى منع أنواع الضرر أو الظلم والعدوان على حقوق الآخرين أفراداً أو جماعات، ومنع كل ما فيه إضرار بسياسة الدولة الإسلامية، أو توهين لقوتها وسلطانها، ومنع كل ما فيه تشجيع على مخالفة مبدأ من مبادئ الإسلام، أو حكم من أحكامه العملية التي ألزم المسلمين بها فعلاً أو تركاً. ولذلك نلاحظ أن من العمل ما هو مأذون به شرعاً، ومنه ما هو محظور تقف دون حرية ممارسته حدود إسلامية، ونستطيع أن نجمل القواعد العامة

(8) مقارنة بين الأسس العامة للنظام الاقتصادي في الإسلام والنظم الأخرى

التي أقيمت عليها الحدود الإسلامية التي تحجز حريات العمل داخل أسوارها، وتحرم عليها تجاوزها، في القواعد التالية: القاعدة الأولى: منع حرية العمل عن كل ما فيه إضرار بالفرد أو عدوان على حق من حقوقه , والإضرار المحظور هنا يشمل أنواع الإضرار بالنفس أو الجسم أو العقل أو المال أو العرض. القاعدة الثانية: منع حرية العمل عن كل ما فيه إضرار بالمجتمع أو عدوان على حق من حقوقه العامة , والإضرار المحظور هنا يشمل أنواع الإضرار الذي يمس كيان وحدة المسلمين , أو يمس مصالحهم , أو حقوقهم العامة. القاعدة الثالثة: منع حرية العمل عن كل ما فيه إضرار بالدولة الإِسلامية , أو عدوان على حق من حقوقها , والإضرار هنا يشمل أنواع الإِضرار السياسي أو الإداري أو المالي أو العسكري , أو غير ذلك. القاعدة الرابعة: منع حرية العمل عن كل ما فيه إضرار أو إخلال بمبدأ من مبادئ الإِسلام المتعلقة بالعقائد أو بالشرائع , أو عدوان على شيء منها بأية وسيلة ظاهرة أو خفية , كالأعمال التي من شأنها أن تفسد عقائد المسلمين , أو أخلاقهم , أو تميل بسلوكهم عن صراط الإسلام وأحكام الشريعة الربانية. (8) مقارنة بين الأسس العامة للنظام الاقتصادي في الإِسلام والنظم الأخرى يروج أنصار المنظمة الاقتصادية الرأسمالية والاشتراكية لأنظمتهم بذكر ميزاتها , ويعترف الباحثون الحياديون والناقدون الاقتصاديون لهم ببعض هذه الميزات , ويوجهون ضد كل من هذه الأنظمة الانتقاد بما فيها من المساوئ. ولدى التحقيق نجد كل ما يذكرونه لها جميعاً من مميزات حقيقية موجوداً في نظام الإسلام الاقتصادي , وكل ما يوجهون ضدها من انتقادات حقيقية غير موجودة في نظام الإِسلام الاقتصادي , فنظام الإِسلام بريء من كل مساوئها جامع لكل فضائلها.

ما يذكرونه من مزايا الأنظمة الرأسمالية: يذكر الباحثون الاقتصاديون عدداً من مزايا الأنظمة الرأسمالية أهمها المزايا التالية: الأولى: إطلاق الحافز الفردي , وبإطلاق الحافز الفردي تتقدم الصناعة ويزدهر الاقتصاد. والمقدار الخير من هذه المزية متوافر في نظام الإسلام , فهو يطلق في الأفراد الحوافز لبذل قصارى جهدهم في العمل والتحرك المستمر , رغبة في تلبية الفطرة الإِنسانية التي تحب الحيازة والتملك , كما قال الله تعالى في سورة (آل عمران / 3 مصحف / 89نزول) : {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} . ولكن الإسلام هذّب هذا الحافز الفردي , فخفف من غلوائه , وحد من طمع الإِنسان وجشعه بما شرع من نظم , وبما كلف الإِنسان من واجبات. الثانية: إتاحة المنافسة بين الأفراد , وبذلك تتقدم الصناعة ويزدهر الاقتصاد. والمقدار الخير من هذه المزية متوافر أيضاً في نظام الإِسلام , فبينما تتيح النظم الرأسمالية المنافسة من أبواب عريضة , نجد الإِسلام يتيحها بشكل معتدل , لا يُسمح فيه بإطلاق حرية الفرد إطلاقاً يؤدي إلى استغلال الآخرين , والعدوان على حقوقهم , وتقييد حرياتهم , وإيذائهم بالمضاربة وألوان الاحتكار , وأشباه ذلك مما لا خير فيه. الثالثة: إتاحة الحرية الاقتصادية , فبهذه الحرية تنطلق طاقات الأفراد في مختلف المجالات , ويشمل النشاط الاقتصادي كل جوانب التقدم والازدهار. والمقدار الخير من هذه المزية متوافر في نظام الإسلام , فبينما تتيح النظم الرأسمالية الحرية الاقتصادية بشكل قد يؤدي إلى الظلم والعدوان , نجد

الإِسلام يتيحها ضمن الحدود التي وفق فيها بين المصلحة الفردية , ومصلحة الجماعة , ومصلحة الدولة الإسلامية , وأهداف أسس الإسلام الاعتقادية والتشريعية. والحرية الاقتصادية ضمن الحدود الإسلامية تحقق جوانب المصلحة المقصودة منها , وتحجزها عن الطغيان المؤدي إلى العدوان أو إهدار حريات الآخرين أو الإفساد في الحياة. ما يذكرونه من مزايا الأنظمة الاشتراكية: ويذكر الباحثون الاقتصاديون عدداً من مزايا الأنظمة الاشتراكية أهمها ما يلي: الأولى: حيازتها المقومات التي تمكن رعاياها من استخدام الموارد والعوامل الإنتاجية المتاحة لهم أفضل استخدام هامش. وهذه الميزة المقدرة للأنظمة الاشتراكية التي ينعدم فيها الحافز الفردي والحرية والمنافسة , هي متوافرة في نظام الإِسلام بصورتها المثالية , لأن المجتمع المسلم حينما يعمل على استخدام الموارد والعوامل الإِنتاجية يكون مدفوعاً بمحركين عظيمين: المحرك الأول: الواجب الإِلهي الذي يأمر بإعداد المستطاع من القوة والمساهمة في التقدم والارتقاء العمراني والحضاري. المحرك الثاني: الحافز الفردي المتماسك مع الجماعة بقوة الإِخاء والحب والتفاني في الإتقان والتحسين , والمتطلع إلى أكبر قدر من الربح المأذون به في شريعة الله. الثانية: تهيئة العمل لجميع أفراد المجتمع.

وهذه المزية متحققة في الإِسلام بشكل أرقى مما هي عليه في الأنظمة الاشتراكية , وذلك لأن كل قادر على العمل مكلف به , ويطالب المجتمع المتمثل بالدولة الإِسلامية بتهيئته له , إلا النساء , فلهن حق التفرغ للقيام بواجبات الخدمات المنزلية مع كفالتهن , ولهنّ أن يعملن إن أردن ضمن شروط المحافظة على عفافهن , وعدم اختلاطهن بالرجال الأجانب , ومع موافقة الزوج إذا كان العمل يؤثر على حقوقه , أو يقتضي الخروج من دار سكنها. وأما العاجزون عن العمل فهم مكرمون مصونون مكفيون بالكفالة الإِسلامية عن طريق الأسرة , أو عن طريق الصندوق العام المعد لهذه الغاية , الذي تصب فيه موارد الزكاة والصدقات وغيرها مما هو مقرر في نظام الإِسلام لتحقيق الكفالة الاجتماعية. وبهذا نلاحظ أن نظام الإِسلام قد اشتمل على المقدار الخير من المزايا التي يذكرها الباحثون الاقتصاديون لكلٍّ من الأنظمة الرأسمالية والأنظمة الاشتراكية , مع براءته من جوانب الشطط التي تؤدي إلى الظلم والعدوان والإِفساد في الأرض. ما يذكرونه من مساوئ الأنظمة الرأسمالية وعيوبها: يكشف الناقدون الاقتصاديون عن مجموعة من مساوئ الأنظمة الرأسمالية وعيوبها , ويمكن تلخيصها فيما يلي: 1- إطلاقها الحرية الفردية بشكل يشجع الأفراد على اتخاذ كل وسيلة للاستغلال , ولو أدى ذلك إلى سلب الآخرين حرياتهم سلباً لا يكشفه القانون أو لا يحرمه , ولو أدى ذلك أيضاً إلى الإِضرار بالجماعة. 2- تشجيعها على سيادة الغرائز المادية البحتة , التي لا تعترف بالقيم الإِنسانية الروحية , الفردية والجماعية , ولذلك نرى كبار أصحاب رؤوس الأموال في العالم لا يهتمون بسعادة البشرية إلا من خلال حصولهم على أكبر مقدار من الربح , وتنمية ثرواتهم. 3- إتاحتها الفرصة لكبار أصحاب رؤوس الأموال أن يوجهوا السلطة السياسية

إلى ما يحقق أغراضهم , أو يتحكموا بها عن طريق المال , ليتمكنوا بذلك من احتكار ما يريدون من تجارة , أو صناعة , أو علم. 4- ما يتولد عنها من الرغبة باستعمار الشعوب واستغلالها وامتصاص خيراتها. 5- إتاحتها الفرصة لأن يكون المال دُولة بين طبقة الأغنياء فقط , مع حرمان السواد الأعظم منه. إن هذه المساوئ الموجودة في النظم الرأسمالية غير موجودة في نظام الإِسلام , ووجودها في النظم الرأسمالية ناشئ عن البواعث النفسية التي اعتمدت عليها هذه النظم , وهي الأنانية الفردية وعدم الشعور بواجب الجماعة , ويجعلها تستشري عدم وجود الضوابط التي تحد من تصرفات الناس وحرياتهم , بخلاف نظام الإِسلام في كل ذلك , فالبواعث فيه مصلحة الأفراد والجماعة وتحقيق أهداف الدين , وهو محصن بالضوابط التي تحد من تصرفات الناس وحرياتهم وتجعلها منحصرة في حدود الخير بعيدة عن الشر وكل أسبابه. ما يذكرونه من مساوئ الأنظمة الاشتراكية وعيوبها: ويكشف الناقدون الاقتصاديون عن مجموعة من مساوئ الأنظمة الاشتراكية وعيوبها , ويمكن تلخيصها فيما يلي: 1- محاربتها للفردية بجميع خصائصها , وكبتها لحريتها. 2- تبنِّيها لفكرة "الصراع بين الطبقات" القائم على أسس الحقد والحسد والكراهية , وإعلانها نفي الأخوة بين جميع الناس , لذلك كان شعارها: "يا عمال العالم اتحدوا" ولم يكن شعارها "يا أيها الناس". 3- تبنِّيها لفكرة العمل على تغيير العامل كله بجميع أنظمته ومبادئه الدينية والخلقية والقانونية , لا على إصلاح الفاسد , وإتمام مكارم الأخلاق , وإكمال جوانب الصلاح فيه. 4- حضها على الاستهانة بكل القيم الدينية والإِنسانية والأخلاقية , في سبيل تحقيق الغايات التي تسعى إليها هذه الأنظمة , وتشجيعها على استخدام كل وسيلة غير أخلاقية وغير إنسانية , في سبيل تحقيق غايات حملة هذه الأنظمة ودعاتها.

5- إتاحتها الفرصة لقيام ألوان الحكم الطبقي الحاقد المستبد، الذي لا مجال فيه لظهور الحريات السياسية والاجتماعية. 6- تبينِّيها لوسيلة التدمير لكل ما هو قائم في المجتمعات، عن طريق الأعمال الثورية، وإحلال روح "الثورة والصراع والكراهية" محل روح "الحب والإخاء والتواد والتراحم". 7- ما يتولد عنها من عقد إنسانية، تحرم الأفراد من شروط سعادتهم في الحياة، إذ تحجزهم عن تلبية رغباتهم الإنسانية، وإطلاق خصائصهم البشرية. 8- إجهازها على الحافز الفردي للإنتاج والعمل، الأمر الذي ينشأ عنه تخفيض الإنتاج العام، وزيادة المشكلات الاقتصادية العالمية تعقيداً. يضاف إلى كل ذلك أنها قائمة بالأساس على معاداة الأديان، ومحاربة تعاليمها ونظمها، والأخلاق الكريمة التي تحض عليها، حرباً لا هوادة فيها، إلا في حدود المهادنات المرحلية، التي تقتضيها الظروف السياسية، أو ظروف العمل لنشر مبادئها. وهكذا تبينت لنا مساوئ النظم الرأسمالية وعيوبها، ومساوئ النظم الاشتراكية وعيوبها. أما نظام الإسلام فهو بريء من مساوئ وعيوب كل هذه النظم، خالٍ من ويلاتها وآثارها الظالمة الآثمة. كان أنه مشتمل على مزايا ومحاسن كل هذه النظم، مضافاً إليها فضائل خاصة به، إذ يعتمد على الإيمان بالله واليوم الآخر، ويهدف إلى خير الإنسانية وسعادتها، إذ يعتمد على الإيمان بالله واليوم الآخر، ويهدف إلى خير الإنسانية وسعادتها، ويأمر بالتعاون والتآخي والتواد والتراحم، واعتبار المجتمع الإسلامي كله بمثابة جسد واحد، إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر. إنه ليس في نظام الإسلام طغيان الرأسماليات، التي تفسح المجال للأفراد والعصابات القليلة المستغلة بالتآمر، والمحمية بسلطان القانون، أن تعتدي على حقوق الجماعة، وتفترس بوسائلها الذكية الماكرة حريات الآخرين،

(9) فرية ربط التخلف الصناعي بنظام الإسلام

حتى تستغل جهدهم وثمرة كدهم بأقل مما يستحقون، أو تختلس أموالهم بحيل اقتصادية متسترة بالصبغة القانونية، وإرادتهم في كل ذلك مكرهة إكراهاً غير مباشر. وليس في نظام الإسلام احتكارات الأنظمة الرأسمالية،ولا رباها، ولا رشواتها، ولا تحكمها بالسلطة وتوجيهها لها، ولا ظلمها، ولا ماديتها المكتالبة على الدنيا، ولا شحها وفقدها للمعاني الإنسانية النبيلة، ولا الفقر المدقع في بعض أفراد المجتمع الذي تسود فيه إلى غير ذلك من سيئات وعيوب. وليس في نظام الإسلام ما في الأنظمة الاشتراكية من سطو على أموال الناس، وتطلع إلى إلغاء الملكية الفردية إلغاءً تاماً، وما فيها من إلغاء للحريات وإماتة للحوافز الفردية، وحقد طبقي، وصراع بين الناس، وما فيها من تقسيم الناس إلى سادة حاقدين حاكمين بسلطان القوة وأسلوب العنف الشديد،وعبيد مسخرين بلقمة العيش، وبأدنى مستويات مطالب الحياة، دون أن يكون لهم حرية اختيار ما يريدون إلا في حدود يسيرة، وما فيها من انعدام معاني الإخاء والتعاطف الإنساني، وانعدام الرغبة الصادقة بالعمل والإنتاج، وبرفع مستوى اقتصاد الأمة، إلى غير ذلك من أمور كثيرة. وبهذا تظهر لنا منزلة الإسلام العظمى، القابضة على ناصية المجد، والتي لا يستطيع أن ينافسه فيها منافس. إلا أن الإسلام لا يجد في هذا العصر أنصاراً يحملونه ويطبقونه ويحمونه على ما يجب. (9) فرية ربط التخلف الصناعي بنظام الإسلام يربط أعداء الإسلام التخلف الصناعي الذي وصل إليه المسلمون في عصور الانحطاط بالإسلام نفسه، ويحاولون إيهام المسلمين بأن تخلفهم في ميادين الصناعة التي حازت فيها دول أوربا سبقاً باهراً، قد كان بسبب استمساكهم بنظم الإسلام، وهذه فرية يمكر بها الغزاة مكراً بالغاً، إذ يجعلون

المسلمين الهاجرين لإسلامهم، المخالفين له في أعمالهم، حجّةً عليه، مع أن الإسلام بنصوصه الثابتة الواضحة الصريحة هو الحجة عليهم وعلى الناس جميعاً. وقد استطاع الأعداء أن يخدعوا بهذه الفرية بعض أبناء المسلمين، ويستدرجوهم إلى مناهجهم وخططهم وتطبيق نظمهم. إن كل نظام في العالم تحمله أمة من الأمم دون أن تطبقه في حياتها إنْ هو إلا حبر على ورق، أو نصوص تقال بالأفواه، وهيهات أن تظهر للمكتوبات أو الأقوال آثار ما لم تترجم في حياة الناس إلى أعمال. وقد سجل التاريخ أن كثيراً من عوامل التخلف قد ساهم في نشرها بين المسلمين أعداء الإسلام نفسهم، وذلك بعد أن سبق المسلمون سائر الأمم في ميادين الصناعات والعلوم، لما عملوا بما دفعهم إليه دينهم من العمل والسبق في كل شيء، والتطلع إلى ذروات المجد المتجددة، التي لا يفتأ يتجدد فيها جديد، فكلما احتل الصاعد إليها ذروة وجد من بعدها ذروة أخرى. وكانت السياسات الاستعمارية تتآمر على بلاد المسلمين تآمراً كبيراً، لمنع المسلمين عن التطور والتقدم في ميادين الصناعة، خشية أن ينشئوا في بلادهم المصانع الكبرى التي تساهم في تحريرهممن سلطان الاستعمار الاقتصادي، ولكي يبقوا ضمن نطاق الشعوب المستوردة، التي تقدم للمستعمرين المواد الأولى من أرضها أو كدّها، بالأثمان البخسة التي تحددها المؤسسات الاستعمارية، ثم تستوردها بعد أن يتم تصنيعها في بلاد المستعمرين بالأثمان العالية، التي تحددها هذه المؤسسات المحتكرة، ذات السلطان النافذ في البلاد بقوة الاحتلال العسكري. وحينما تلقص ظل الاستعمار المباشر عن بعض البلاد الإسلامية، بدأت شعوب هذه البلا تتجه نحو شيء من التحرر الاقتصادي، وأخذت تتدرج نحو التصنيع، وترفع عنها ذل الاستعمار الصناعي. ولكنها ارتكبت خطيئة السير في ركب النظم الاقتصادية الرأسمالية، ولم

(10) اصطناع المناخات المناسبة لتقبل الأفكار والمذاهب الغازية

تتقيد بتعاليم الإسلام، ولم تحمِ نفسها بحماية من الله. وراقب الغزاة ظاهرة التقدم نحو الصناعة في هذه البلاد، ولم يرضهم هذا الأمر، لأنه وسيلة إلى الاكتفاء الذاتي، والاستغناء عن الصناعات الأجنبية، فأسرعت دوائرهم ومؤسساتهم فوضعت الخطط الم اكرة المقنعة لشل حركة التقدم، وإيقاف عجلة النشاط الصناعي بأية وسيلة، وبسرعة خاطفة استطاعت مؤسسات الغزاة بوسائلها الماكرة التي لا تظهر بها على مسرح العمليات، أن توقف عجلة التقدم الصناعي، وتعمل على تهديم مراكز الصناعة في البلاد باسم تحسينها، وباسم إصلاح الأوضاع الاجتماعية، ووكل الله رجال الصناعة في هذه البلاد لأنفسهم، إذ لم يحتموا في حصون النظم التي شرعها الله لعباده، ونفذت العقوبة الإلهية، وقُضي أمر الله، وداعي الإسلام ينادي لا نجاة إلا بالعودة إلى الإسلام وتطبيق أحكامه. (10) اصطناع المناخات المناسبة لتقبل الأفكار والمذاهب الغازية أفضل مناخ مناسب لنمو الجراثيم الضارة وانتشارها، حجب نور الشمس، وتراكم القذارات، والرطبة، وتكاثف السكان، ونقص الغذاء. وقضية المناخ المناسب لانتشار أفكار الغزاة في صفوف المسلمين، من القضايا التي تحظى بعناية كبرى من قبل الأعداء، فهم ما يزالون يوصون أجراءهم بالعمل على إيجاد المناخ المناسب لبث أفكارهم ومبادئهم ومذاهبهم، وعرقلة كل تقدم من شأنه أن يفسد عليهم خططهم. لذلك تعمل أجهزتهم بطاقات كبيرة، لإبعاد المسلمين عن تطبيق أنظمة الإسلام على الوجه الصحيح، لأن هذا التطبيق الصحيح سيقنع الجماهير المسلمة بكمال أنظمة الإسلام، وبأنها خير أنظمة يمكن أن تحقق للناس السعادة والرفاهية والإخاء والمحبة. وفي سبيل تهيئة المناخ المناسب، نلاحظ أن المنظمات الاشتراكية العالمية،

قد ترى أن من وسائلها دفع البلاد الإسلامية إلى تطبيق الرأسمالية المفرطة، لتهيئة المناخ البشري المناسب لانتشار مذاهبها المعادية للإسلام، ولإلقاء جرثومة الحقد والعداء والصراع بين الطبقات، فمتى تمَّ له ما تريد استطاعت أن تسوق الشعوب سوقاً سهلاً، لا تتكلف فيه عناءً كبيراً، ثم تجهز على البقية الباقية من قيمها الخلقية والدينية والاجتماعية. وفي سبيل تهيئة المناخ المناسب، نلاحظ أن الدوائر الرأسمالية العالمية قد ترى أن من وسائلها دفع البلاد الإسلامية إلى تطبيق الأنظمة الاشتراكية المفرطة، مع صيانتها من الانزلاق السياسي إلى أحضان خصومها الاشتراكيين العالميين، لتهيئة المناخ البشري المناسب لتقبل سلطان الرأسماليين السياسي والاجتماعي والاقتصادي ولزحزحة المسلمين عن حصانتهم الدينية الفردية والاجتماعية. وواجب المسلمين أمام خطط الغزاة الرامية إلى تهيئة المناخات المناسبة، لنشر ما يريدون نشره من أفكارهم ومذاهبهم، أن لا يدّعوا مجالاً تتجمع فيه شروط المناخ المناسب لانتشار أفكار أعدائهم ضمن صفوفهم، وأن يحصنوا مجتمعاتهم من جيوشها الوبائية الغازية بمختلف وسائل التحصين. ومن الوسائل التي يجب عليهم أن يحصنوا مجتمعاتهم بها ما يلي: أولاً: أن يفتحوا النوافذ لجماهير المسلمين كي تشرق عليهم أنوار المعرفة الإسلامية الحقة، بأسلوب مشرق أخاذ، ولا يدعوهم يعيشون في الظلمة الفكرية، التي لا ترى فيها المعارف الإسلامية على وجهها الصحيح، وإلا فإن شياطين الإنس سيخيلون لهم في الظلمات ما يشاؤون، ويحمِّلُونهم من الضلالات والأباطيل ما يريدون. ثانياً: أن يعملوا على تنظيف المجتمعات الإسلامية من قذارات الانحراف في السلوك، التي تجدها الغزاة مناخاً ملائماً لانتشار جراثيمهم فيها. ثالثاً: أن يرفعوا في المجتمعات الإسلامية حرارة الحياة والعمل، ويجفِّفوا مستنقعات الخمول والكسل، ورطوبات التواني والإهمال، حتى لا تكون هذه

(11) التعلل بعدم وجود دولة تطبق نظم الإسلام وتحميها

الأمور مناخاً ملائماً لنمو الجراثيم الفكرية، التي يلقيها الغزاة في صفوفهم. رابعاً: أن يتعهدوا أمكنة الكثافة للجماهير الإسلامية، كالمدارس، والمعاهد والجامعات، والأندية والجمعيات، والأسواق التجارية، وسائر المجتمعات، خشية أن تسري فيها عدو الإصابة بالجراثيم الفكرية الوبائية الخطرة على عقائد المسلمين ومفاهيمهم. خامساً: أن يقوموا بكل عمل إيجابي بسد حاجات من قصرت أيديهم عن تحصيل مطالب عيشهم وعيش أسرهم، حتى تقوى إرادتهم على مقاومة الوباء، وتكون لديهم قوة جسدية ومناعة نفسية تقيهم الإصابة بجرثومة الفساد الفكري والاعتقادي، التي يقذفها إليهم الأعداء والغزاة. وباتخاذ هذه الوسائل الإيجابية والسلبية وما يشبهها، يمكن وقاية المجتمعات الإسلامية من عدوى الإصابة بالضلالات الفكرية والاعتقادية والأخلاقية، وعدوى المذاهب الهدامة الوافدة على بلاد المسلمين. (11) التعلُّل بعدم وجود دولة تطبق نظم الإسلام وتحميها يناقشني الكثيرون ممن يسمون أنفسهم طلائع الفكر العربي الحديث، المتأثرين بمذاهب الغزاة وأفكارهم لا سيما المذاهب الاقتصادية، حول بعض نظم الإسلام، ويأخذ الحوار مجراه المنطقي، ويتبين لي جهلهم التام بنظم الإسلام، أو معرفتهم ببعض جوانب منها دون استكمال الصورة المشرقة التامة لها، أو أنهم يحملون مفاهيم مشوهة عنها، تلقوها عن الكتب الأجنبية التي ألفها المستشرقون أو تلامذتهم، وشوّهوا فيها صورة المفاهيم الإسلامية أيما تشويه. ويأخذ النقاش حظه من البحث والبيان الصحيح لحقيقة الإسلام ونظمه، ويكتشف هؤلاء خطأ الصورة التي كانت في أذهانهم، ويدركون كمال نظم الإسلام ويعترفون بذلك. عندئذ أدعوهم إلى تبني نظم الإسلام والدعوة إليها، وهجر النظم

الأخرى التي يدعون إليها بحماسة، ويحاولون تطبيقها على الناس بوسائل العنف والقوة، فيعتذرون عن تبنيها والدعوة إليها، بأنه لا توجد دولة ذات قوة فعالة تطبقها، وتحميها بصدق وأمانة حتى يسيروا في ركابها. والاعتذار بهذا العذر خدعة شيطانية لتثبيط طاقات المتطلعين إلى حياة أفضل، عن التجمع لعمل ما يجب عمله من أجل نقل نظم الإسلام من حيز الفكرة والعقيدة إلى حيز التطبيق والعمل، وعوامله الأساسية لدى التحقيق تعود جذورها إلى ضعف أو انعدام الإيمان بالله واليوم الآخر وعدم الشعور بالمسؤولية نحو الخالق. وقد قلت لبعض هؤلاء: إنك سرت في ركاب دعوة لم يكن لها وجود إطلاقاً في بلاد المسلمين، ثم استطعتم بالتجمع والتآزر والسعي والعمل أن تفرضوها بالقوة على الأمة التي لا تدين بها، فلماذا لا يتجمع الطلائع المثقفون - إذا كانوا مخلصين حقيقة لأمتهم وبلادهم - ويتبنون النظم الإسلامية، التي تعترف معي بأنها أتم وأكمل من أي نظم أخرى، ثم يسعون لتطبيقها على شعب يؤيد تطبيقها كل التأييد، ولا يجرؤ على معارضتها منافق؟؟.. قلت له هذا الكلام، وفي نفسي من الحسرة على هذه الأمة الضائعة عن طريق رشادها لوعات. ولكنه مع الأسف الشديد ظل كغيره منجرفاً مع التيار الظالم، منخدعاً بفتنة الظفر المؤقت الذي أصابه دعاة هذه النظم المعادية للإسلام، وهم لا يدرون إلى أي مصير سحيق ينحدرون ومعهم القطعان البشرية السائمة. ولو أ، دولة مسلمة صدقت في تطبيق النظم الإسلامية على وجهها الصحيح، لقدمت للعالم أفضل صورة لمجتمع مثالي سعيد آمن مطمئن متكافل متعاون متواد متراحم، كأنه الجسد الواحد. ولكن متى سادت النظم الإسلامية في مجتمع ما، وفي وقت ما، فإن استمرار سيادتها ودوام نفعها مرهونان برقابة ساهرة، تتابع تطبيقها بدقة، وحماية دائمة لها بالتنظيمات والترتيبات الإدارية، وصيانة مستمرة لها بمختلف وسائل

الصيانة ومنها عقوبات المخالفين، لئلا يتلاعب بمفاهيمها أو تطبيقاتها أصحاب المصالح الخاصة، وهم يخفون جرائمهم وانحرافاتهم ضمن حصانتها، ولئلا تعدو عليها عوادي الغزاة. إن حدود الله في شرائعه لعباده، تشبه حدود الأرض بين الدول، فمتى أهملت دولة حدودها، فلم تقم بحراستها وحمايتها من عدوان المعتدين عليها، تعرضت للعدوان، وتساقطت قطع من بلادها في أفواه المفترسين، ثم استبيحت كل أرضها وسقطت دولتها. وبين الحق والباطل وأنصار الحق وجنود الباطل صراع لا ينتهي، وما نام أنصار الحق نومة إلا كانت نومتهم مدداً لجنود الباطل وقوتهم في الأرض. * * *

الفصل الرابع عشر ما تعانيه الحركات والمؤسسات الإسلامية

الفصْل الرابع عشر مَا تُعانيه الحَركات وَالمؤسَّسّاتُ الإسْلاَميَّة من قبل الغزاة وأنصارهم والسّائرين في ركابهم 1- مقدمة عامة 2- الكمين والإثارة 3- الفقر الذي تعاني منه المؤسسات والحركات الإسلامية

(1) مقدمة عامة

(1) مقدمة عامة تقوم بين حين وآخر في مختلف البلاد الإسلامية نهضات إصلاحية، تتبنى الدعوة إلى الإسلام، والعمل على نشر علومه، إلى جانب العلوم الأخرى، لإبراز عنصر التآخي بين علوم الدين وعلوم الدنيا، ولتوضح قيمة الثقافة الإسلامية المفترى عليها، وكشف حقيقتها النا صعة للشبان المثقفين بالثقافات المعاصرة، ولبيان أثرها في سعادة الإنسان، ودفعه إلى ميادين المعرفة الحقة، التي من شأنها أن تسلط يد الإنسان على كل ما في الوجود من قوة، ضمن نظام محكم يضمن مصلحة الإنسانية وسعادتها ورفاهيتها، ولتعمل على تقويم أخلاق المتزودين منها، وتهذيب سلوكهم في الحياة وجعلهم عناصر إنسانية راقية صالحة لبناء مجتمع مثالي كريم. وتجاهد هذه النهضات جهاداً مريراً، حتى تبني مؤسساتها الصغيرة بالكفاح والعرق وشظف العيش، دون أن تتلقى تأييداً أو مساعدة ذات بال من ذوي الغنى أو ذوي السلطان، حتى إذا بدأت تقف على أقدامها، وتنشط في تحقيق بعض غاياتها التي تهدف إليها، تفتحت عليها عيون أعداء الإسلام من كل جانب، وأخذت تراقب أعمالها وخطواتها بدقة ومكر وحذر، وتتباع كل تحركاتها، ثم تعمل على إحباط مشروعاتها بمختلف الوسائل المقنعة والسافرة، من داخلها ومن خارجها، وقد تدفع لمحاربتها هيئات أخرى من ضمن صفوف المسلمين، يغررون بها ويخدعونها ويشوهون أمامها وجه الحقيقة، كما يسلطون

(2) الكمين والإثارة

عليها بعض الدوائر ذات السلطة في الدولة. وتكون محاربتها بسد الموارد عنها، حتى تصاب بالفقر المدقع، فتتلاشى بنفسها، أو بالتخذيل عنها بشتى الوسائل الماكرة، أو بإفساد غايتها وطريقتها من داخلها، إذا استطاع أعداء الإسلام أن يدسوا فيها عناصر سيئة مرتبطة بهم، تغري القائمين عليها بأنواع مختلفة من المغريات، أو بسد أبواب العمل والرزق عن المنتسبين إليها، أو بتلسيط أنواع الاتهامات ضد القائمين عليها، حتى لا يكونوا محل ثقة الناس، فإن لم تنجح كل هذه الوسائل عملوا على إلغائها ومصادرتها بأيدي أجرائهم، وملاحقة القائمين عليها بالاضطهاد والتشتيت، والاتهام بالأكاذيب المختلفة المزورة، والافتراءات التي لا أصل لها، وقد يعملون على هدمها بشكل سافر وقح لا مبرر له بحال من الأحوال. وتتعاون أجهزة الغزاة كلها على ذلك، مهما كانت فيما بينها متنازعة على المصالح، أو مختلفة في المبادئ. وهكذا يفعلون كلما نشطت حركة إسلامية واعية في بلد من بلاد المسلمين، وأجهزتهم التي تخدمهم كثيرة، ومخططاتهم واقفة بالمرصاد لكل نشاط إسلامي، صغيراً كان أم كبيراً. فمتى يكون المسلمون على يقظة من أمرهم وهذا هو عدوهم؟! (2) الكمين والإثارة من خطط الحروب المسلحة (الكمين والإثارة) وذلك بأن يعد العدو كميناً مسلحاً إعداداً جيداً، ليثب عن يقظة تامة وبشكل مفاجئ على فريق من جيش عدوه، وهو في حالة غفلة عن مداهمة الخطر، ثم يستدرج هذا الفريق بإثارة طمعه بصيد ثمين في غير مكان الكمين، وفي غمرة اتجاه الفريق إلى مطمعه يفاجئه الكمين ويمعن فيه قتلاً وأسراً.

على مثل هذه الخطة نجد أعداء الإسلام يدبرون للمسلمين ولقياداتهم مكايد سياسية، يوقعونهم بها في شباك لم يكونوا يحسبون له حساباً. ومن أمثلة هذه المكيدة أن يضعوا المسلمين في أزمة تهزهم هزاً عنيفاً، حتى تضيق صدورهم، ويشتد الخناق عليهم، وينتظروا يوم الخلاص بفارغ الصبر، ويصبحوا مستعدين للتورط في أمر لم يعدوا له عدته، ثم يقذفون شرارة المكر على هشيم متراكم يكاد يلتهب ولو لم تمسسه نار، مع بوارق أمل يهيئون جو المسلمين العام إلى التفاؤل به، في حين أنهم قد أعدوا جنودهم القابعين في كمين أو أكثر، مشحونين بالحقد والجنون اللازم للنكاية بالجماهير المسلمة، التي سيطرت عليها حالة الانفعال والتأثر الشديدين، ويقنعون جنودهم وأجراءهم بأنهم تحت خطر القضاء عليهم من قبل جماهير المسلمين، فما عليهم إلا أن يبطشوا بطشاً مسرفاً لا هوادة فيه، دفاعاً عن أنفسهم. وفي خضم هذا المتلاطم الانفعالي النفسي بين صفوف المسلمين الذين لم يحسبوا حساباً لمعركة فعلية، تنطلق صيحات ألم شديد من حناجر الجماهير المسلمة، تطالب بحقها في الحياة، فيندفع إليهم أجراء أعداء الإسلام بأسلحتهم الحديثة، وحقدهم الكبير على الجماهير المسلمة، التي لا تحمل أي لون من ألوان الأسلحة المادية، كأنهم قادمون إلى معركة حربية دامية، فيها مختلف آلات الحرب الحديثة، ويمعنون بالمسلمين العزل إرهاباً وتعذيباً وتقتيلاً. ويمن الأعداء الغزاة على أجرائهم إذ دلوهم على مكامن الخطر، وبهذه الطريقة الماكرة المقنعة التي يدبرها الغزاة يجعلون جماهير المسلمين يفضلون الحكم المباشر من قبل دولة العدو، على حكم أجرائه وعبيده، الذين هم من جلدة الأمة، ولكنهم يتنكرون لها ولمبادئها ولقيمها ولأبطالها الذين كان لهم الفضل الأكبر في تحرير البلاد. والمسلمون المنتشرون في مشارق الأرض ومغاربها مدعوون إلى اليقظة التامة، لما يحاك ضدهم من مكايد ودسائس، وإلى العمل على إفساد خطط العدو الرامية إلى اجتثات دينهم والخلاص منهم وجعلهم أجراء مسيرين.

(3) الفقر الذي تعاني منه المؤسسات والحركات الإسلامية

(3) (3) الفقر الذي تعاني منه المؤسسات والحركات الإسلامية بينما تتلقى المؤسسات التبشيرية في العالم المساعدات الضخمة من مختلف الدول الاستعمارية، وتجد لديها كل سند مادي وأدبي وسياسي وعسكري، الأمر الذي يمكن هذه المؤسسات من متابعة جهودها التبشيرية داخل معظم البلاد الإسلامية، إذ يتجمع لديها رصيد عظيم من الأموال والخبرات وجنود العمل، ورصيد آخر سياسي وعسكري يشد أزرها، ويضاعف وزرها. وبينما يتلقى كثير من المستشرقين الذين يحملون في الظاهر رسالة البحث العلمي البريء، ويحملون في الباطن رسالتي التبشير والاستعمار معاً، ما يحتاجون إليه من مساعدات مادية وعلمية وأدبية وسياسية وعسكرية. نجد المؤسسات الإسلامية التي تحاول أن تقف في صف الدفاع عن الإسلام والمسلمين، والدعوة الصادقة إلى صراط الله، كما نجد الباحثين الإسلاميين الذين نذروا حياتهم لنشر الإسلام والدفاع عنه وعن الأمة الإسلامية الكبرى، في حالة يرثى لها من معاناة الفقر المدقع، والحرمان الشديد، وحجب الخبرات الفنية، والمعلومات الضرورية عنهم. يضاف إلى ذلك تسديد الأهداف إلى الفريقين بغية قصم ظهورهما، أو تحويلهما عن طريقهما، أو إفساد عناصرهما، أو وضع العقبات الكثيرة في طريقهما، لإيقاف نشاطهما أو عرقلة أعمالها. وتضطر المؤسسات الإسلامية في كثير من الأحيان أن تقف موقف المستجدي من أيدي المحسنين المسلمين، التي ترشح عليها بالعطاءات الشحيحة لدعم مشاريعها. ويضطر الباحثون الإسلاميون أن يجمدوا أقلامهم حينما تقف في وجوههم عقبات النشر، أو تضطرهم ضروروات العيش إلى قتل أوقاتهم في أعمال الكسب التي تحجبهم عن التفكير الحر والإنتاج الرفيع. ولو كانت المؤسسات الإسلامية على تفاوت إمكانيات عناصر العمل

فيها، تتلقى جزءاً من ألف مما تتلقاه المؤسسات التبشيرية، لاستطاعت أن تخدم القضايا الإسلامية المختلفة خدمات جلى، ولاستطاعت قوة الدينار الذي يدعم نشاطها أن تجمد قوة آلاف الدولارات والجنيهات والفرنكات والروبلات والماركات، التي تدعم أنواع النشاط التي تقوم بها المؤسسات التبشيرية والجمعيات الاستشراقية في العالم والدوائر الاستعمارية. والعملية الحسابية في ذلك لا تحتاج إلى رياضيات عالية، وإنما تحتاج إلى شيء من البصر الثاقب والخبرة التجريبية. أما البصر الثاقب فإنه لا بد أن يلاحظ أن قوة الحق التي يرجحها في العقول وزنها الذاتي، يكفيها من القوى المادية ما يبرزها ويحسن عرضها، ويحبب النفوس بها. بخلاف الباطل فإنه عديم القوة الذاتية، ولن يجد له رجحاناً في العقول، وإنما يجد لديها رجحاناً مزوراً، بمقدار ما تستطيع مرضيات المطامع النفسية والتزويرات والتزيينات الكلامية، أن تطفئ من نور العقل، وتحجب من تفكيره السديد، وقلما تستطيع المطامع والتزويرات اليسيرة أن تحجب التفكير السديد. من أجل ذلك يكون درهم يسد الحاجة الضرورية مع فكرة ذات وزنٍ ذاتي، أثقل وأقوى من مئة درهم مع فكرة ليس لها وزن ذاتي، فضلاً عن فكرة ذات قوة عكسية تطيش بكفة الميزان إلى الأعلى، ولو لم يكن في الكفة المقابلة إلا الفراغ المطلق، أما إذا زادت نسبة الدراهم إلى ألف درهم في جانب الباطل، ونقص الدرهم إلى دانق لا يُسمن ولا يغني من جوع في جانب الحق، فإن زوغان الأبصار من شدة الجوع، مع بريق الغنى الذي يستجلب الطمع في جانب الباطل، من شأنه أن يقلب وضع الإنسان السوي، فيجعل عاليه سافله، وبذلك يشاهد الأشياء على غير ما هي عليه في الواقع. وأما التجربة فقد أثبتت أن بعض الدعاة الإسلاميين البسطاء، الذين يعملون بدافع ذاتي من قلوبهم، يعادل عشرات المبشرين المعدين إعداداً علمياً عالياً. ومرجع ذلك يعود إلى ما سبق بيانه.

القسم الثاني الغزو بالهجوم المباشر على الإسلام

القِسمُ الثَّاني الغَزْو بالهُجُوم المبَاشِر عَلى الإسْلاَم من قبل الغزاة وأنصارهم والسّائرين في ركابهم وفيه مقدمة وثمانية فصول: الفصل الأول: شبهات حول المثالية والواقعية في الإسلام الفصل الثاني: شبهات حول الروحية والماديّة. الفصل الثالث: شبهات حول بعض العبادات في الإسلام الفصل الرابع: شبهات حول الزكاة الفصل الخامس: شبهات حول العقوبات في الإسلام الفصل السادس: شبهات حول الرق الفصل السابع: شبهات حول حقوق المرأة في الإسلام الفصل الثامن: أجوبة أسئلة تشكيكية موجهة من قبل منظمة الآباء البيض التبشيريّة

المقَدّمَة تفاعلت عوامل الحنق في نفوس أجنحة المكر الثلاثة، وفي نفوس سائر أعداء الإسلام، على اختلاف مللهم ونحلهم ومذاهبهم الدينية أو الإلحادية، فزينت لهم أن يسلكوا سبيل مهاجمة أسسه وقواعده، وأحكامه العظيمة، ونظمه وتشريعاته الحكيمة، والطعن بكتاب الله، والطعن بالرسول محمد صلوات الله عليه، وبالسنة المطهرة المروية عنه. ولكنهم بعد عراك عنيف وصراع مديد كان مثلهم: كناطحٍ صخرة يوماً ليوهنها فلم يَضِرْها وأوهى قرنه الوعلُ والسبب في ذلك لا يعود لجيوش الدفاع الكثيرة التي أعدّها المسلمون لمقاومة هجمات أعداء الإسلام بتركيز وإحكام، وإنما يعود لحقيقة الإسلام القوية الثابتة المشرفة، التي لا تزعزعها التمويهات والتشويهات والتلفيقات وإثارة الشبهات، والأكاذيب والافتراءات، والتي لا تطفئ أنوارها أفواه الأفاكين، ولا تغشيها السحب الدخانية التي تطلقها متفجرات الشياطين، إلا تغشية يسيرة، ثم يمر عليها الزمان فتنقشع، ويظهر لكل عين مبصرة دفقات الإشراق الكاسح للظلمات، التي تتفجر بها حقيقة الإسلام المضيئة، ويتحقق بذلك البيان القرآني إذ يقول الله تعالى في سورة (التوبة/9 مصحف/113 نزول) : {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}

ولقد كان خيراً لهم - لو كانوا منصفين - أن يبحثوا عن الحق بحث العالم المتجرد عن كل عامل أناني ذاتي، وأن يتبعوه وينصروه، دون أن ينظروا إلى حملة هذا الحق، سواء أكانوا أعداءً لهم أو أصدقاءً، فالحق من شأنه أن يؤاخي بين طلابه وعشاقه وحملته والمستمسكين به، ويجعلهم أحبة متصافين، ولو كانوا بالأمس أعداءً متحاربين. ما بالهم في شؤون الدنيا لا يغمطونها ولا يجحدون حقائقها، مهما طرحت بين أيديهم من حقائق، فإذا طرح الإسلام حقيقة من الحقائق بين أيديهم حاصوا، وأخذوا يسددون لها السهام، ويجرحونها، ويجحدونها، ويثيرون حولها المطاعن الكاذبة والشبهات الملفقة؟!. إنهم ينظرون إلى المسلمين نظرة عداء، فلو عرض عليهم المسلمون منجماً من مناجم الذهب في بلادهم، أو حقلاً من حقول النفط، أفلا يتسارعون إليه بحثاً وتنقيباً، ويستخرجون خيراته وينتفعون بها؟. أفيقولون بعد أن يشاهدوا الذهب الحقيقي: هذا شَبَه وليس بذهب، ثم يزهدون به وينصرفون عنه؟ أم يتنافسون على استخراجه وربما يتقاتلون عليه؟ إننا وجدناهم من أكثر الناس بحثاً عن الجواهر والمعادن وأشباهها وكل نافع مفيد من كنوز الأرض، في أي بلد من بلاد الدنيا، ويقدرونها حق قدرها، ويعرفون قيمتها الحقيقية. فما دلهم إذ عُرضت عليهم حقيقة من حقائق الإسلام تشهد لها دلائل الفكر ودلائل التجربة والواقع اضطغنت قلوبهم، وثارت فيهم عصبيّات جاهلية موروثة، وأخذتهم العزة بالإثم، ونفروا نفرة الباطل من الحق؟ لماذا لا تكون إراداتهم سائرة على وتيرة واحدة في كل قضايا الحق، ما يتعلق منها بدنياهم ويخدم شهواتهم، وما يتعلق منها بآخرتهم ويخالف أهواءهم؟!

ألأن الذهب والنفط وما أشبههما وسيلة ثرائهم وقوتهم في الدنيا؟ . إنهم لو أنصفوا لعلموا أن الحقائق الدينية أعظم لهم ثروة وقوة، وأخلد لهم حضارة ومجداً، ولكن ليصدق فيهم قول الله تعالى في سورة (الروم/30 مصحف/84 نزول) : {وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} . إنهم حين يهاجمون أحكام الإسلام وشرائعه العظيمة، لا يقدمون بدلها إلا أحكاماً ناقصة غير ملائمة للواقع الإنساني، ولا كفيلة بتحقيق أفضل صورة ممكنة لإسعاد الناس، وإقامة الحق والعدل بينهم. وينطبق عليهم فيا يفعلون قصة المثل التالي: سكنت عائلة بشرية في غابة معظم من فيها قرود وثعالب، وأخذت هذه العائلة البشرية تمارس عيشها داخل هذه الغابة وفق طريقتها البشرية، إلا أن جماعات القرود والثعالب أخذت تسخر من هذه العائلة ومن طريقة عيشها، ومن أنظمة حياتها وأخذت القرود تقهقه بأصواتها المنكرة العالية متهكمة بها ساخرة منها، ثم أخذت نابغات من القرود والثعالب تعرب عن أسباب استغرابها من هذه العائلة البشرية، وأسباب استنكارها لها. قال فريق منها: ياللعجب العجاب، إن هؤلاء الساكنين معنا في هذه الغابة يمشون على أقدامهم، مع أن الوضع الملائم الذي تقتضيه الطبيعة أن يكون المشي على أربع، وترددت في الغابة أصداء موجات متعاقبة من قهقهة القرود وعواء الثعالب. ثم قال فريق آخر: وأعجب من ذلك أنهم لا أذناب لهم، مع أن الوضع الذي تقتضيه الطبيعة أن يكون لهم أذناب، إذ إن معظم ساكنات الغابة من ذوات البأس والشدة وذوات أذناب، فعلق على ذلك ثعلب خبيث، وقال: لعل أذناب هؤلاء مقطوعة. وكثرت الانتقادات على هذه العائلة البشرية المسكينة بين هذه الجموع البهمية الكثيرة. القرود تسخر منها لأنها لا تستطيع أن تتسلق الأشجار الباسقة الشاهقة بالسرعة التي يستطيعها القرد، والثعالب تسخر منها لأنها لا تعرف

كيف تصيد الدجاج والبطَّ بأسنانها وأظفارها، ولا تستطيع ابتلاعها وازدرادها بلحمها وريشها وعظمها وحشوها، وهكذا إلى آخر الفروق بينها وبين الناس، والذي يقوي مركز هذه القهقهات الساخرات أنها ذات قوة وكثرة في الغابة. وبسب كثرة الانتقادات التي هي من هذا النوع، وبسبب تتابع مظاهر السخرية والتهكم تأثر بعض صغار العائلة البشرية من ذكور وإناث، فأخذوا يتنازلون عن صفاتهم البشرية، وطرائق عيشهم الخاصة وأنظمة حياتهم. فمنهم من تعلم المشي على أربع، ومنهم من ذهب يستجدي من القرود والثعالب أذناباً ليضيفها إلى جسده، وبعضهم حلا له أن يرتدي جلوداً من جلود موتاها، ليبدو مظهره مثل مظهرها، وأخذ يتعلم طريقة عيشها وفوضى حياتها، ولما انغمش هؤلاء الصغار في هذا العالم الجديد، عادوا إلى أهليهم بنظريات التحويل وبتنكيس الأوضاع الإنسانية داخل أسرتهم، لتساير سكان الغابة في فوضها وبهميتها، هرباً من نظرات الاستنكار وقهقهاته التي تستقبلها بها جماعات القرود والثعالب. هذا هو مثل الإسلام العظيم في عقائده وأحكامه ونظمه، بين مجموعات الفوضويات والنظم العرجاء العوراء المذنبة الوحشية، ومثل الشبهات والانتقادات التي يقذفها التافهون والمغرضون شطر الإسلام، بغية أن يشوهوا صورته الرائعة الجميلة في تناسقها المتكامل البديع، وبغية أن يسوقوا أتباعه وأنصاره أو أبناءهم وذريّاتهم إلى عالم الفوضى الذي يعيشون فيه، أو إلى مباءات النظم الناقصة المشوّهة التي حسنها في نظرهم ممارستهم الطويلة لها، ولا بدّ أن نذكر هنا قول الله تعالى في سورة (الملك/67 مصحف/77 نزول) : {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} وقول الله تعالى في سورة (الأعراف/7 مصحف/39 نزول) : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}

الفصل الأول شبهات حول المثالية والمادية في الإسلام

الفصْل الأوّل شُبهَاتٌ حَوْلَ المثَاليّةِ وَالمادّيَّةِ في الإسْلاَم

شُبهَاتٌ حَوْلَ المثَاليّةِ والوَاقعيَّة في الإسلام من الشبهات التي يثيرها الأعداء الغزاة والسائرون في أفلاكهم، شبهتان متناقضتان: الشبهة الأولى: اتهام الإسلام بأن دعوته إلى فعل الخير والتحلي بالفضائل تعتمد على الترغيب بالثواب الماديّ المعجل أو المؤجل، ويزعمون - على سبيل التضليل - أن المثالية في فعل الخير والتحلي بالفضائل تقضي بأن يسعى الإنسان إلى تحقيق الخير لمجرد أنه خير، لا يترتب على فعله من ثواب وأجر يعود على الفاعل. إنهم يثيرون هذا على سبيل الخداع الجدلي، الذي لا مضمون له في واقع فلسفتهم المرتكزة على أسس مادية بحتة، ولهم في هذا التضليل غرضان: الغرض الأول: صرف أبناء المسلمين عن جوّ المؤثرات الترغيبية والترهيبية المشحونة بها نصوص الشريعة الإسلامية، لأنها من أفعل وسائل الإصلاح والتقويم للنفس البشرية، التي تنزع فيها الغرائز والأهواء والشهوات إلى الإثم والظلم، ولا تقبض عليها المثاليّات النظرية إلا قبضاً يسيراً. الغرض الثاني: التمويه على الصغار من أبناء المسلمين الذين لم يخبروا الحياة بعد، ولم يكتشفوا صور الخصائص النفسية للإيمان، ليجذبوهم بذلك إلى صفوفهم وليخدعوهم بمثاليات جوفاء، حتى يقدموا أنفسهم ضحايا مجانية، وهم يجهلون أنهم يحقّقون بتضحياتهم للقادة المضلين غايتهم الموغلة في الماديّة،

التي لا تعترف بشيء من المثاليّات. إنَّ الغزاة المضلين يستخدمون كل ذكائهم، ليقدّموا صغارنا أحداث الأحلام وقوداً في مطبخ السلاح الذي يعدّ, نه للتسلّط على الشعوب الإسلامية، والتحكّم بمصائرها، والانتفاع بخيراتها، في مادية مغرقة، ليس لها غاية إلا إشباع الغرائز الجسدية والنفسية، وتلبية الشهوة العارمة إلى استعباد الناس. والمتأمل في أسس الإسلام ومبادئه وأحكامه وشرائعه ووسائل تربيته للناس وتوجيههم لفعل الخير وترك الشر، والتحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل، يلاحظ عناصر ثلاثة: العنصر الأول: الدعوة المثالية، والدفع إلى نشدان الكمال المطلق. العنصر الثاني: التطبيقات الواقعية الملائمة للواقع الإنساني. العنصر الثالث: الوسائل المنسجمة مع الخصائص الإنسانية. وهذا أفضل ما يمكن تصوره في فلسفة ما لهذا الكائن الإنساني، المزوَّد بالعقل المتطلع إلى المثاليات والباحث عنها، والمزوّد بطاقات ماديّة ومعنوية تقف به عند حدودٍ لا يستطيع تجاوزها ولا الزيادة عليها، والمزوّد بغرائز وشهوات تنبح في داخله بإلحاح لتحقيق مطالبها. وأية فلسفة تحاول إصلاح هذا الكائن المركب من هذه العناصر الثلاثة على أساس تلبية واحد منها فقط، أو اثنين، وإهمال سائرها، فإنها فلسفة محكومة عليها بالفشل الذريع، وستضع الإنسانية في طريق الانحدار المهلك، بدل أن تأخذ بها صاعدة في سلم الكمال الإنساني. ضمن هذه الفلسفة الإسلامية العظيمة، القائمة على العناصر الثلاثة المذكورة، تدور مبادئ الشريعة الإسلامية وأحكامها ووسائل إصلاحها للناس وتهذيبها لأخلاقهم وتقويمها لأنواع سلوكهم في الحياة. وضمن هذه الفلسفة الراقية استطاع الإسلام أن يقبض على نواصي شعوب مختلفة اللغات، وقوميات متباينة الاتجاهات، عبر أجيال وقرون، واستطاع أن يسير بها متآخية متوادة في طريق السعادة الإنسانية، وأن يدفع بها

إلى الصعود المتتابع في سلم الحضارة المثلى. فإذا سأل الناس عن الخير الأمثل في واقع تطبيقي وجدوه في مجتمع المسلمين - يوم كان الإسلام حاكماً عليهم، والقرآن متمثلاً في أخلاقهم وأعمالهم- وإذا سألوا عن الفضيلة وجدوها عندهم، وإذا بحثوا عن الحق والعدل، وجدوهما في دينهم وشرائعهم وأقضيتهم، وإذا فتشوا عن القوة المتماسكة المتراصة، وجدوها في صفوفهم. وهذا ما أذهل أعداء الإسلام الذين أعمتهم عصبياتهم الدينية والقومية، وأثار حقدهم وحسدهم، ولذلك أخذوا في تهديم الأسس التي كان بها للمسلمين ذلك المجد التليد. وأعداء الإسلام يخشون أن يعود المسلمون إلى الاستمساك بالأسس الإسلامية الصحيحة، فيعود لهم مجدهم السليب. وكل مثالية يدعيها أعداء الإسلام إنما هي مثالية مزورة، غايتهم منها التضليل والخداع، ولو كانت لهم مثاليات حقيقة صادقة قابلة للتطبيق الإنساني لرأى الناس أثرها في السلم أو في الحرب، ولكنهم لم يستطيعوا ولن يستطيعوا أن يسجلوا في تاريخهم الطويل إلا صور المادية المفرطة، المرتبطة بالأنانيات الفردية، أو العنصرية، أو العصبية المذهبية. بخلاف الفلسفة الإسلامية العظيمة القائمة على الدعوة المثالية والدفع إلى نشدان الكمال المطلق، والتطبيقات الواقعية الملائمة للواقع الإنساني، والوسائل المنسجمة مع الخصائص الإنسانية، فإنها هي الفلسفة الوحيدة في العالم التي أثبتت التجربة الإنسانية كمالها وأهليتها للخلود، خلال قرون حافلة بكل المشكلات والعقبات التي تتعرض إليها الأمم، منذ أيام نشأتها وبنائها، حتى أيام قوتها وشدتها، ثم إلى أيام شيخوختها وهرمها، بيد أن هذه الفلسفة الإسلامية كفيلة - لو استمر المسلمون ملتزمين بها - أن تمنحهم الشباب الدائم المتجدد فيهم مع تجدد أجيالهم. وذلك لأن عنصر الدعوة المثالية ونشدان الكمال المطلق يشبع في الإنسان

نوازعه العقلية والوجدانية المتطلقة باستمرار إلى المثاليات، وأن عنصر التطبيقات الواقعية الملائمة للواقع الإنساني يعالج ارتقاء الإنسان إلى الكمال ضمن إمكاناته واستطاعته الواقعية، أما عناصر الوسائل المنسجمة مع الخصائص الإنسانية فهو يداوي ويداري غرائز الإنسان ودوافعه النفسية وشهواته وأهواءه التي هي جزء من كيانه في الحياة، فلا يصح بحال من الأحوال طرحها أو إهمالها. إن هذه الفلسفة العظيمة في دعوتها المثالية تحرر الإنسان من عشق المادة وعبادتها، وتربطها بمثالية عبادة الله وحده لا شريك له، وفي هذا غاية الدفع المثالي، لأن نقل غاية الأعمال الإنسانية من أهدافها المادية، إلى ابتغاء مرضاة الله الخالق الرازق الذي بيده ملكوت السماوات والأرض وهو على كل شيء قدير، وله وحده الألوهية، وهو وحده الذي يجازئ على الخير خيراً وعلى الشر شراً، هو غاية المثالية، فالله تعالى هو مثالية الوجود، وهو واضع مفاهيم الخير والشر في الحياة، وخالق موازين الإحساس بها في ضمائر الناس، فابتغاء مرضاته لا بد أن تكون هي مثالية الغايات. وأما في تطبيقاتها الواقعية، فإنها حينما تكلف الإنسان السعي إلى كماله الإنساني لا تتجاوز حدود طاقاته الجسدية أو الفكرية، كما أنها تعطي غرائزه وشهواته ومطالبه النفسية من الدنيا بالمقدار الذي يصلح ولا يفسد، وفي هذا غاية التكميل والتهذيب الواقعي، الذي يشرئبّ إلى المثاليات في جانب الفكر والضمير، ويسير مع أحسن صور الواقع في جانب ال غرائز والدوافع الجسدية والنفسية. وأما في وسائلها المنسجمة مع الخصائص الإنسانية، فإنها قائمة بعد الإقناع الفكري والوجداني على وسيلتي الترغيب والترهيب، فهي تطمئنه عن سلامة اتجاهه لاكتساب سعادته في الحياة الدنيا، إذا هو تقيد بتعاليم الإسلام، وتَعِدُه وعد حق وصدق بالسعادة الأخروية العظمى الشاملة للسعادة الروحية المثالية، والسعادة الجسدية والنفسية التي هي وسيلة مادية للنعيم الروحي وتحجزه أيضاً عن المضرات والمهلكات الدنيوية بالوسائل الدنيوية الرادعة،

وتحذره تحذير حق وصدق من الشقاء الأخروي الشامل للشقاء الروحي في الجانب المثالي، وللشقاء الجسدي الذي هو وسيلة مادية للعذاب الروحي، وهذه هي أفضل الأسس لوسائل الإصلاح المنسجمة مع الخصائص الإنسانية. الشبهة الثانية: اتهام الإسلام بأنه مثالي بعيد عن الواقعية الإنسانية، وظاهر أن هذه الشبهة مناقشة في مضمونها للشبهة الأولى. ففي مجموعات الشبان المثقفين بالثقافات المادية المعاصرة من أبناء المسلمين الذين يهزهم الوجدان الديني أحياناً، يندس أعداء الإسلام أو أجراؤهم والسائرون في أفلاكهم، فينفثون بينهم سمومهم ضد نظم الإسلام وأحكامه وواقعيتها، فيقولون للتشكيك بالإسلام والتنفير منه: إن الإسلام تعاليم وأنظمة مثالية غير ممكنة التطبيق، وإن حياة الإنسان الواقعية تستدعي أنظمة وتعاليم واقعية ممكنة التطبيق. ثم يبنون على هذه المقدمة الكاذبة فيقولون: وبما أن الإسلام شيء مثالي غير واقعي فإنه غير صالح لأن يكون دستور حياة الناس، وما على الأجيال المسلمة إلا أن تسعى وراء أنظمة وضعية واقعية، مستفادة من التجارب والاختبارات الإنسانية. هذا ما يقولون، ومن هذا المدخل القائم على المغالطة والكذب يحيكون نسيجاً إقناعياً، يضللون به فريقاً من أبناء المسلمين، ومما يساعد على تمكن هذا النسيج الإقناعي في نفوس هؤلاء انعدام الصورة التطبيقية الكاملة لنظم الإسلام في مجتمعات المسلمين اليوم. وفي كشف موجز للتضليل الذي اشتملت عليه هذه الشبهة، نلفت النظر إلى أن من الأمور البدهية في الشريعة الإسلامية، أن الإسلام مثالي الغاية واقعي التطبيق، فهو لدى توجيه المسلمين إلى تحديد الأهداف والغايات من صور سلوكهم في الحياة يسمو بهم إلى الغايات المثالية، التي ترتقي بالوجدان الإنساني إلى كماله، دون أن يؤثر هذا الارتقاء الوجداني أي تأثير معوق في

السلوك الواقعي المهذب، الذي يحقق الكمال الإنساني في صورته الممكنة، المنسجمة مع متطلبات الواقع انسجاماً تاماً، وحينما يرغب الإسلام بالمثاليات التطبيقية فإنه يجعلها مجالاً لتسابق المجدين المتطلعين إلى الكمال التطبيقي، ولا يجعلها أمراً إلزامياً واجباً. إن دراسة أحكام الشريعة الإسلامية ووصاياها تكشف لكل باحث، أن المثالية في الإسلام حينما تكون أمراً واجباً فإنها تكون مثالية وواقعيّة معاً، إذ تكون مثالية ميسورة التطبيق، وهذه المثالية الواجبة منحصرة في العقائد والغايات والأهداف، ومعلوم أن المثالية في هذه الأمور لا تتعارض مع الواقعية بحال من الأحوال، لأنها ممكنة التطبيق، فليس من العسير على الإنسان أن يعتقد العقيدة المثالية، وليس من العسير أن يجعل غايته من أعماله العبادية أو غيرها غاية مثالية. وحينما تكون المثالية أمراً غير واجب، فهي مثالية موضوعة في مدى نظر الإنسان الأعلى، حتى تكون مغرية له بالتطلع المستمر إلى الأحسن والأفضل والأنفع والأكمل من صور العمل واحتمالاته، وليس من الصعب على الإنسان أن يجعل الكمال المثالي في كلّ أمرٍ من أموره مطلباً أسمى ينشده ويسعى إليه قدر استطاعته دون أن يكون ملزماً به لدى التطبيق العملي. أما الواقعية في التطبيق العملي فتظهر لكل دارس لأحكام الشريعة الإسلامية، والإسلام في تطبيقاته العملية ملتزم جانب الواقعية أروع التزام، ولعله أكثر تسامحاً من أي نظام في العالم معتمدٍ على الأسس الواقعية فيما يأمر به أو ينهي عنه. وطبيعي أنه ليس من الواقعية في شيء أن يترك المجرمون والشاذون في الأرض يعيثون فساداً وخراباً، وينشرون الآلام الكثيرة، مجاراة لواقعيتهم المنحرفة وإن أي تفكير يحاول أن يبرر الجرائم وأنواع الشذوذ المفسدة في الأرض ضمن إطار الفلسفة الواقعية، إنما هو تفكير شياطين المجرمين المفسدين في الأرض، الذين لا يريدون إصلاحاً، ولا ينشدون كمالاً، ولكنهم يريدون أن

يخرجوا بني آدم من جنة الحق والخير والفضيلة ونشدان الكمال، وأن يقذفوا بهم في جحيم الباطل والشر والرذيلة وحضيض النقص، وأن يوقعوهم في سخط الله. وإن الذين يدعون الواقعيات في أنظمتهم لا يستطيعون أن يقيموها في دولهم إلا بسلطان الحكم الصارم، فلو أنها واقعيات كما يحاولون أن يصوروا معنى الواقعية لما احتاجت إقامتها إلى سلطان الحكم الصارم، الذي يعتمد على أسلوب واحد من أساليب التربية، وهو أسلوب الإرهاب والإلزام القهري. أما الإسلام فيعتمد على أساليب الإقناع الفكري أولاً، ثم على وسائل التربية العملية المختلفة، ومنها وسائل الترغيب، ثم على وسائل الترهيب والتحذير والعقوبات المادية، وهذه هي الوسائل الواقعية التي يتمّ بها تقويم أكبر نسبة ممكنة من الناس. * * *

الفصل الثاني شبهات حول الروحية والمادية في الإسلام

الفصْل الثاني شُبهَاتٌ حَوْلَ الرُّوحيَّة وَالمادّيَّةِ في الإسْلاَم

شُبهَاتٌ حَوْلَ الروحية والماديَّة في الإِسلام فريق من الأعداء الغزاة يتهمون الإسلام بأنه دعوة روحية بعيدة عن تلبية مطالب الحياة المادية، فهو لا يناسب الواقعية الوجودية، وفي مقدمة هذا الفريق مَنْ يطلق عليهم "المادّيون الوجوديون". وفريق آخر يتهمون الإسلام بأنه مادي مفرط في المادية، بعيد عن السمو الروحي الذي ينبغي أن يرقى إليه الإنسان، وفي مقدمة هذا الفريق الثاني المبشرون وأنصارهم. والإسلام في حقيقة نظامه وتشريعاته وأحكامه بريء مما يقوله عنه هؤلاء، وما يقوله عنه أولئك. إن الإسلام متكامل الجوانب الفكرية والنفسية والروحية والمادية، كالإنسان، فكما أن الإنسان مؤلف من روح وعقل ونفس وجسد، فالإسلام ذو جوانب تعطي كل عنصر من هذه العناصر حقه، وبذلك يتم التطابق المثالي بين عناصر هذا الدين التي يكمل بعضها بعضاً وبين عناصر هذا الكائن الإنساني، التي جعلت منه مخلوقاً في أحسن تقويم، وهو ما وصفه الله به في قوله تعالى في سورة "التين/95 مصحف/28 نزول": {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} ولما كان الإنسان في أحسن تقويم أنزل الله له ديناً قيماً ليلائم واقعه أفضل ملاءمة، وأودع الله في فطرة الإنسان موازين عقلية ووجدانية يدرك بها

ملاءمة هذا الدين له، وفي الدلالة على ذلك قال الله تعالى في سورة (الروم/30 مصحف/84 نزول) : {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} وقال سبحانه في سورة (البينة/98 مصحف/100 نزول) : {وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُواْ الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} والتطابق العجيب بين عناصر الإسلام وعناصر الإنسان، الذي يبدو الإسلام فيه مفصّلاً تفصيلاً رائعاً على مقدار خصائص الإنسان الفكرية والروحية والنفسية والجسدية، هو الذي جعل من الإسلام صورة فذة في الوجود، وهو الدليل المادي المستمر الذي يدل على أن الإسلام شريعة ربانية منزلة من عند الله. لأنّ مثل هذه الصورة الرائعة التفصيل، المحكمة التقويم، على مقدار خصائص الإنسان وحاجاته الدنيوية والأخروية، العاجلة والآجلة، والمسايرة للعصور التي يمر بها في أطوار حياته على هذه الأرض، لا يمكن أن تكون من وضع الناس. ذلك لأن براهين العقل وتجارب الحياة تثبت أن النظم الوضعيّة الإنسانية مهما ارتقت فإنها لن تصيب الحكمة الشاملة لمختلف جوانب مصالح الناس، وما يسعدهم في دنياهم وأخراهم، ولئن أصابت في جانب منها فإنها لن تصيب في كلّ الجوانب، بل لا بد أن يظهر نقصها أو فسادها في جوانب كثيرة، متى وضعت موضع التجربة، ومرت عليها الأعصر المختلفة. وكون الإسلام صورة حية مطابقة للحكمة الشاملة في كلّ زمان ومكان شاهدٌ عدلٌ على أنه شريعة من عند الله الذي خلق الأنفس كلها، وخلق فيها خصائصها وغرائزها وحاجاتها ومطالب حياتها، فهو يعلم ما يناسبها، قال الله تعالى في سورة (الملك/67 مصحف/77) : {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}

وإذا كان الإسلام كذلك، وقد جمع بين المثالية والواقعية في أروع صورة ممكنة التطبيق، وكفل للناس سعادة دنياهم وأخراهم، فخليق به أن يبيح للناس أن يأخذوا نصيبهم من زينة الحياة الدنيا ومتعها، بلا إسراف ولا إجحاف، ولا طغيان ولا عدوان على حقوق الناس ولا تجاوز لحدود الله في أوامره ونواهيه، وخليق به أن يلزم الناس بأداء ما فرض الله عليهم من فروض، وما أوجب عليهم من واجبات تتعلق بما وهبهم في هذه الحياة الدنيا من قدرات فكرية ونفسية وقولية وجسدية، وبما وهبهم من مال أو سلطان أو جاه أو رعاية، وأن يترك لهم بين هذا وذاك مجالاً واسعاً للتنافس في الخيرات، والتسابق إلى ابتغاء مرضاة الله، في كدح واجتهاد ومجاهدة للنفس على ما يرضيه سبحانه وتعالى. في وهذا الميدان الواسع المعد للتسابق والتنافس الشريفين يقف رقباء التسجيل، وفي نهاية حلبة السباق يقدم الحكم العدل جوائز المتسابقين كل بحسب استحقاقه. وحينما خلق الله الغرائز في الناس لم يشأ أن يحرمها من تلبية مطالبها الفطرية، ضمن حدود ضواط المصلحة والحكمة وابتلاء الإرادة. ولكن شاء أن يضعها على مائدة الحياة الدنيا، وأذن لها أن تأخذ نصيبها الذي ينفعها ولا يضرها، ولم يأذن لها أن تمتد مطامعها إلى أنصبة الآخرين الذين هم شركاء معها في هذه المائدة، وحرم عليها أشياء قليلة ضمن مباحات كثيرة، دون أن ترتبط بهذه الأشياء التي حرمها عليها مطالب فطرية ملحة، بعد أن يسر في مائدته الواسعة شتى المجالات المباحة، الكفيلة بتلبية مطالب هذه الغرائز. وضمن هذا الجو السعيد - الذي لا كدح فيه يزيد على كدح أي إنسان يحاول أن يتمرد على شريعة الله وأحكامه - تمت ظروف ابتلاء الإرادة التي يجتازها المؤمنون المتقون بنجاح. الزينة: ومن بديع حكمة الله في خلقه أنه ألبس مطالب الحياة أثواب مطالب الشهوات، لتكون هذه الشهوات بمثابة المحرّض الذاتي على تناول حاجات

الجسد، التي تمده بالبقاء إلى أمده المقدّر له، أو على ممارسة الغرائز التي تمد النوع بالتكاثر والبقاء، إلى الأمد المقدر لبقاء النوع، أو لبقاء الحياة على هذه الأرض، أو على السعي لتحقيق حاجات نفسية ترتبط بها مصلحة من المصالح الإنسانية الفردية أو الجماعية. ومجالات مطالب الحياة الجسدية أو النفسية أو الفكرية تعرض للإنسان زينتها، لتجذبه إليها، وتحببه بها، وبذلك يتم بينها وبين مطالب الحياة علاقة التجاذب. فحينما تعرض الوردة مثلاً زينتها التي تتمثل بألوانها الزاهية، وعرفها الشهيّ الطيب، وملمسها المخملي، فإنها تقول بلسان حالها للعين الذواقة: هنا يستوقف النظر. وتقول للشم المرهف: من هنا يسنتشق العبير. وتقول للشفاه الناعمة: هنا يحلو المقام. ولولا أن هذه الحواس تلائمها هذه الخصائص ما انجذبت إليها، ولاهفت نحوها، ولا رأت فيها شيئاً من الزينة. ولقد أبدع القرآن أيما إبداع، إذ اختار لفظة الزينة للتعبير عن الخصائص التي أودعها الله في الأشياء، ليكون فيها ملاءمة وجذب للغرائز والطبائع التي فطر الله الأنفس عليها، وتلك نعمة كريمة من نعم الله في الحياة، ولو أن حاجات الحياة مرتبطة بأشياء لا زينة فيها، فلا ملاءمة بينها وبين شهوات الأنفس وغرائزها وطبائعها، لكان السعي لاستمرار الحياة مشكلة قد تستعصي على الحل. ولست أدري ماذا سيحدث لو كان الطعام مكروها في الأنفس غير مشتهى، مثل الدواء المر الكريه، ولو كان الشراب مما تعافه الأنفس كالنفط، وكانت بقية حاجات الحياة على هذا الشكل؟ إنه من غير شك سيختار معظم الأحياء الفناء على البقاء، فسبحان من زين لنا حاجات أجسادنا وحاجات أنفسنا حتى نسعى إلى طلبها سعياً ذاتياً. أقسام الزينة واستنباطاً من النصوص القرآنية، ومن ملاحظة الأشياء والأعمال المزينة

للناس، نستطيع أن نقسّم الزينة إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: الزينة الربّانية. القسم الثاني: الزينة الشيطانية. القسم الثالث: الزينة الحيادية، التي يمكن أن تستخدم في الخير وطاعة الله عزّ وجل، ويمكن أن تستخدم في الشر ومعصية الله عز وجل. فإن استخدمت في الخير وطاعة الله ألحقناها بالقسم الأول، فكانت من قبيل الزينة الربّانية. وإن استخدمت في الشر ومعصية الله تعالى ألحقناها بالقسم الثاني، فكانت من قبيل الزينة الشيطانية. 1- فمن أمثلة القسم الأول (الزينة الربّانية) تزيين الإيمان، وإرادة الخير، وفضائل الأخلاق، والعمل الصالح، في قلوب المؤمنين. ومن هذا القسم ما جاء في قول الله تعالى خطاباً للمؤمنين أصحاب رسول الله في سورة (الحجرات/49 مصحف/106 نزول) : {وَآعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فتزيين الإيمان في قلوب المؤمنين من قسم الزينة الربّانية المحضة. 2- ومن أمثلة القسم الثاني (الزينة الشيطانية) تزيين الأعمال السيئة للكافرين والعصاة، كتزيين الشيطان لهم قتال المسلمين، وشرب الخمور، وظلم عباد الله، وحبَّ المعاصي والمخالفات، وقتل أولادهم سفهاً بغير علم، ونحو ذلك. ومن هذا القسم ما قصّه الله على رسوله من أحوال الأمم السابقة، في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول) بقوله عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ

جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ} . ومنه ما نزل في شأن الذين خرجوا لقتال المسلمين في بدر من مشركي مكة، وهو قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول) : {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنْكُمْ إِنَّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنَّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} . 3- ومن أمثلة القسم الثالث (الزينة الحيادية) حبّ الشهوات من النساء، وحبّ البنين، وحبّ المال، وحبّ المآكل والمشارب، وحبّ المراكب، وحبّ الخيل المسوّمة والأنعام والحرث، إلى غير ذلك ممّا جعل الله فيه زينة للناس، فالزينة في كلّ ذلك من خلق الله ومن فطرته التي فطر المزيّناتِ والنفوس علهيا، ليمتحن إرادات الناس بها. وزينة أفراد هذا القسم إن استخدمت في حدود ما أذن الله، دون عدوان، ولا ظلم، ولا بغي، ولا إسراف، ولا تبذير، ولا تجاوز إلى مواطن الضرر، كانت زينة ملحقة بقسم الزينة الربّانية. وقد دلّ على أنها تلحق بالزينة الربّانية ضمن هذه الحدود قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأعراف/7 مصحف/39 نزول) : { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أمّا إن استخدمت زينة أفراد هذا القسم في غير ما أذن الله وأحلّ، فإنّها تُلْحَق عندئذٍ بقسم الزينة الشيطانية. لذلك جعل الله المبذرين إخوان الشياطين، والتبذير أهون من معاصي

أكل أموال الناس بالباطل، وأهون من الظلم والعدوان والقتل بغير حق، والزنى، ونحو ذلك من آثام. فاستخدام الزينة الحيادية في غير ما أذن الله هو من اتباع خطوات الشيطان الذي يزين للناس الإثم والفسوق والعصيان. وقد ضرب الله أمثلة للأشياء الكثيرة التي زيّنها لعباده، وجعل زينتها زينة حياديّة ليبتلي إرادتهم بها، ويكشف المطيعين والعاصين عن طريقها. وفي بيان ما فيها من زينة فطريّة إشارة إلى أنّ ميل الإنسان إليها لا يعتبر نقيصةً من نقائصه، بل هو أمر "فطري" في أصل تكوينه، ولكنّ الإنسان بانحرافه عن منهج الاعتدال الذي رسمه الله له، هو الذي يضيف إلى نفسه بانحرافه عن منهج الاعتدال الذي رسمه الله له، هو الذي يضيف إلى نفسه النقيصة، ويهوي بها إلى دركات الشرّ والإثم، وهذا عملٌ إرادي من أعماله. ومن الأمور التي جعل الله فيها زينة حيادية قابلة لأن تستعمل في الخير، وتستعمل في الشرّ، ما ذكره بقوله في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول) : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} وحُسن المآب يكون لمن استقام في الدنيا على الصراط الذي رسمه الله للمتقين. ومنها ما ذكره الله بقوله في سورة (النحل/16 مصحف/70 نزول) : {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} ولعل في قوله تعالى: {ويخلق ما لا تعملون} إشارة إلى المركبات التي ألهم الله الإنسان اختراعها وصنعها، وإلى ما سيلهمه من ذلك حتى آخر الدهر. ومنها ما ذكره الله بقوله في سورة (الكهف/18 مصحف/69 نزول) : {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً}

ما ذكره بقوله فيها أيضاً: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} فليس من شذوذ الطبيعة الإنسانية أن يكون لديها ميل فطري إلى هذه الأشياء التي ألبسها الله أثواب الزينة، ليسعى الإنسان في طلبها، ويؤدي وظيفته الفردية والاجتماعية والنوعية في هذه الحياة الدنيا. ولكن الميل بالزينة الحيادية إلى غير ما أذن الله، واستخدامها في معصيته، هو الذي يجعلها ملحقة بالزينة الشيطانية. وباستطاعتنا توضيح الأمر بالمثال التالي: لقد حدد الله لتأدية الوظيفة الفردية في الحياة أن يأكل الإنسان ويشرب مما يسر الله له في الأرض وأباح له من دون إسراف ولا تبذير، وأن يبتعد عن المضار مهما كانت إغراءاتها، وزين له المآكل والمشارب بخصائص تميل إليها الأنفس. فمن أخذ منها ضمن الحدود التي حدَّها الله أدى وظيفته أداءً حسناً، ومن تجاوز هذه الحدود فقد سلّم قياده إلى الشيطان، وللشيطان عند ذلك وسائل كثيرة يزين له فيها الشر والفساد في الأرض والطغيان والظلم والعدوان، وبهذا التزيين الشيطاني ينقلب الإنسان إلى شرهٍ نهم، يتهافت على الاستزادة من الزينة، تهافتاً يقذفه به إلى التهلكة، وهذا التجاوز من شأنه أن يقلب الوضع الطبيعي فيفسد الزينة الحيادية، ويجعلها زينة ضارة، وبذلك تكون زينة شيطانية، وهذا ما التزم به إبليس إذ قال لربه فيما حكى عنه في سورة (الحجر/15 مصحف/54 نزول) : {رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ....} . أي: ربّ بما حكمت علي بالغواية بسبب عصياني ما أمرتني به لأزيننّ لبني آدم سبيل معصيتك، حتى يخرجوا عن صراط الهداية، وينغمسوا في الإثم والظلم والعدوان.

ونظير ذلك يقال في الوظائف الأخرى، كالوظائف الاجتماعية التي تميل إليها غرائز الأمومة والأبوة، وحب الاجتماع، والرغبة بالسلطان، وكالوظئاف النوعية التي تجذب الرجل إلى المرأة، والمرأة إلى الرجل لحفظ النوع، ففي كلٍّ منها قدر معتدل له صراط مستقيم ترافقه زينة ربانية، ووراء ذلك قدر جائر زائد زيادة فاحشة عن حاجات الوظائف الفطرية، فيه ضرر وإثم، وله سبل متعرجة ملتوية تنحدر بسالكها إلى سحيق التهلكة، ترافقها زينة خادعة شيطانية. ولقد حار أعداء الإسلام بماذا يتهمونه، أيتهمونه بالصوفية المغرقة المنافية لطبيعة الإنسان؟ أم يتهمونه بأنه مادي بعيد عن الكمالات الروحية؟ ولكنهم لا يظفرون من إطلاق أية شبهة منهما بطائل، لأن الإسلام في واقع حاله قد كان بين ذلك قواماً. فالذين يصورون الإسلام دعوة صوفية تطارد الغرائز الإنسانية أنّى وجدتها، وتحاول أن تسلخ الإنسان عن بشريته، وتحجر على كلّ شهواته فلا تدع لها متنفساً إنما هم مفترون، يقولون على الله ما لا يعلمون، ويكذبهم في تصويهم هذا قول الله تعالى في سورة (الأعراف/7 مصحف/39 نزول) : {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} فهذا النص القرآني يعلن بصراحة تامة أن ما أخرج الله لعباده من زينة وما رزقهم من طيبات حلال هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا، وأما غير المؤمنين فقد سكت عنهم، لأنهم لم يؤمنوا بالله حتى ينظروا فيما أحل لهم أو حرّم عليهم، ولكن طبيعة تيسير الوسائل لهم تقضي بأن يصيبوا منها كما يصيب منها غيرهم من خلق الله، وفق سننه الدائمة في كونه، إلا أنه لما انتقل إلى الحديث عما أعدّ الله من زينة يوم القيامة، قررّ أنها لن تكون لغير المؤمنين يومئذ، قال

تعالى: {خالصة يوم القيامة} وذلك لأن حكمة الله اقتضت أن تكون دار الابتلاء دار اشتراك، أما دار الجزاء فهي دار تمييز، فالمؤمنين يكونون في دار النعيم منها، والكافرون يكونون في دار العذاب الأليم. والذين يصورون الإسلام مادياً بعيداً عن السمو الروحي هم أيضاً مفترون، يقولون على الله ما لا يعلمون، ويكذبهم في تصويرهم هذا قول الله تعالى في سورة (الحديد/57 مصحف/94 نزول) : {اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} وقول الله تعالى في سورة (الكهف/18 مصحف/69 نزول) : {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} ونظيرهما نصوصٌ قرآنية أخرى كثيرة، وهذه النصوص تسور الغرائز والشهوات التي تدعوها زينة الحياة الدنيا ومغرياتها، بأسوار تضم منافعها فتأذن بها، وتحجز عن مضارها فتحرّمها، وتضع خطوطاً على الزيادات التي لا فائدة منها فترغب بتركها، وتلفت نظر المسلم إلى مراتب الكمال الروحي، فتدعوه إلى أن يصعد في سلمها مرتبة فمرتبة، حتى يسمو على الملائكة في مراتبهم الروحية الخالصة من شوائب الغرائز والشهوات، وتغذي قلبه بالعفة عن الشهوات التي فيها إثم ومعصية لله، وبالزهد في زوائد المتاع الفاني التي قد تُطغي وتصرف عن الخير وتصد عن الفضيلة، وحينما تزهده بزوائد المتاع الفاني تعلق قلبه بالباقيات الصالحات التي هي خير عند الله ثواباً وخيرٌ أملاً. ولما كان الناس أصنافاً ثلاثة في هذه الحياة الدنيا: كافرين غارقين في متاعها ظالمين لأنفسهم، ومؤمنين ملفقين يخلطون عملاً صالحاً وآخر سيئاً، ومتقين وسابقين في الخيرات بإذن الله وتوفيقه، جاء في آية سورة (الحديد) الآنفة

الذكر فقرات ثلاث كل واحدة منها تلائم صنفاً من هؤلاء الأصناف، وهي قوله تعالى: {وفي الآخرة عذاب شديد، ومغفرة من الله، ورضوان". فالكافرون الغارقون في متاع الحياة الدنيا الظالمون لأنفسهم يلوِّح لهم بالعذاب الشديد، والمؤمنون الملفّقون الذين يخلطون عملاً صالحاً وآخر سيئاً يلوِّح لهم بالمغفرة من الله، والمتقون والسابقون بالخيرات يلوِّح لهم بمنزلة الرضوان من الله. وفي سلم الكمال الصاعد إلى مغفرة الله ورضوانه يتنافس المتنافسون من المؤمنين المتقين، وفي درك الهبوط إلى عذاب الله الشديد وسخطه يتهاوى المتكالبون على الدنيا وزينتها بمعصية الله ومخالفة أوامره ونواهيه، ويقال لمن كفر منهم يوم القيامة ما جاء في قول الله تعالى في سورة (الأحقاف/46 مصحف/66 نزول) : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ} منهج الاعتدال: مما سبق يتضح لنا أن منهج الإسلام هو منهج الاعتدال، ويكون بإعطاء كل ذي حقٍ حقّه، فللجسد حقوقه في الحياة، وللروح حقوقها، ولا إفراط ولا تفريط، ولا تعارض بين حظوظ الدنيا المشروعة وطلب حظوظ الآخرة العظيمة، فحظوظ الآخرة تطلب بابتغاء مرضاة الله في أعمال الحياة الدنيا، وطلب ما أباح الله من زينة الحياة الدنيا لا يتنافى مع ابتغاء مرضاة الله. وبين زينة الحياة الدنيا وشهوات الأنفس المشرئبة إليها تقف حدود الله ومدركات العقل وضوابط الإرادة، لكبح جماح الشهوات عن الإفراط الذي يسوق الإنسان إلى الضرّ والأذى ومعصية الله بفعل ما نهى الله عنه أو بترك ما أمر به. وتقف حدود الله ومدركات العقل لضبط إرادة الإنسان عن التفريط بحقوق النفس والجسد، حتى لا يقسو الإنسان عليها فيحرمهما مما أباحه الله

وأذن به، مما تستد عيه ضرورات الحياة وحاجاتها. وفي منهج الوسط الذي لا إفراط فيه ولا تفريط تسير الحياة السعيدة في هذه الدنيا، وهذا هو منهج المسلم العارف بدينه الملتزم لتعاليمه ووصاياه. فلا حرج على المسلم أن يتمتّع بنوع من زينة الحياة الدنيا، عن طريق الزواج المشروع، الذي لم يجعل الإسلام له قيوداً عسيرة صعبة الدنيا، بل رغب فيه وحض عليه، ثم أرشد المسلمين إلى الاعتدال وعدم الإسراف، حتى لا ينفقوا في مجاله كل طاقاتهم، فيحرموا أنفسهم من خيرات أخرى لدنياهم وآخرتهم، هذا هو منهج الإسلام المعتدل، السائر بين جانبي تفريط وإفراط. فمن وراء ذات اليمين كره الإسلام التبتل، لما فيه من تفريط بحق النفس والجسد، وحق الحياة الداعية إلى بقاء النوع، فإذا بلغ التبتل إلى مستوى الإضرار الجسد أو العقل أو النفس، أو التحريض على الفسق والشذوذ، كان محرماً ولم يجز للمسلم عندئذ أن يعزف عن الزواج وهو قادر عليه. ومن وراء ذات الشمال كره الإسلام الإفراط الذي قد يضيع قسطاً من الواجبات أو الوظائف الأخرى، ولو لم يكن في الإفراط تجاوز لحدود الله، وحرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وحرم كل ما فيه تجاوز لحدود الله التي حدها لعباده. ولا حرج على المسلم أن يتمتع بنوع من زينة الحياة الدنيا عن طريق جمع المال بالسعي الجميل والعمل الشريف المشروع، بل حضّ الإسلام على الكدح وحث على العمل ورغب فيه، وجعله أهم وسيلة من وسائل كسب الرزق في الحياة، وأقام للكسب حدوداً تمنع العدوان والظلم والبغي وأكل أموال الناس بالباطل، ومنهج الإسلام في كسب الرزق ومنهج معتدل سائر بين جانبي تفريط وإفراط. فمن وراء ذات اليمين لم يأذن الإسلام للمسلم بالبطالة والكسل وعدم الأخذ بوسائل الكسب، سواء أكان ذلك زهداً أو اكتفاء بالنفقة التي تأتيه من عمل الآخرين، ما لم يكن متفرغاً لعمل آخر ذي نفع عام، كالبحث العلمي والدعوة إلى الله والقيام بمصالح المسلمين العامة، فهذا من سبل العمل ذات الأهداف السامية والنفع العام، وقد نهى الإسلام عن البطالة والكسل لما فيهما من تفريط بحق النفس والجسد والأسرة ومنافاة لوظائف الحياة. ومن وراء

ذات الشمال كره الإسلام الشره والطمع والتكالب على جمع الأموال، وحرّم الظلم والعدوان وأكل أموال الناس بالباطل تحريماً جازماً. ولا حرج على المسلم أن يتمتع بنوع من زينة الحياة الدنيا عن طريق المآكل والمشارب والملابس المتنوعة، ولكن ضمن منهج معتدلٍ لا إفراط فيه ولا تفريط. فمن وراء ذات اليمين لم يأذن الإسلام للمسلم أن يحرم جسده من طعام وشراب تستدعيهما ضرورة الحياة، ولباس يدفع عنه أذى الحر والبرد ويستره، وكره التقشف الزائد الموهن للجسم والمضعف للقوى، لما في ذلك من تفريط بحق الجسم. ومن وراء ذات الشمال كره الإسلام الإسراف الذي قد يؤدي إلى الأذى، أو يشغل عن الواجبات، أو يورث القلب قسوة ونزوعاً إلى الطغيان، وحرّم الإسراف المضر بالجسم أو النفس أو العقل، والمضيع للواجبات، وحرّم أنواعاً يسيرة من الأطعمة والأشربة والألبسة التي لا خير فيها للإنسان. وكذلك كان منهج الإسلام بين المادية والروحية منهجاً وسطاً، لا إفراط فيه ولا تفريط، أما الذين يختارون لأنفسهم سبل الإفراط أو التفريط، متجاوزين حدود منهج الإسلام السوي، فقد زُين لهم سوء عملهم، ويصدق عليهم قول الله تعالى في سورة (محمد/47 مصحف/95 نزول) : {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} فهل في هذا المنهج الإسلامي العظيم شبهة يتذرع بها خصوم الإسلام فينتقدوه بها؟ ولكن أعداء الإسلام يحلو لهم دائماً أن يفتروا عليه، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون. * * *

الفصل الثالث شبهات حول بعض العبادات في الإسلام

الفصْل الثالث شُبهَاتٌ حَوْلَ بَعْض العبَادات في الإسْلاَم شُبهَاتٌ حَوْلَ بعض العبادات في الإِسلام لا يدع أعداء الإسلام جانباً من جوانبه إلا ويثيرون حوله شبهة تافهة مردودة من شبهاتهم، ففي العبادات الإسلامية يحاولون تشكيك أبناء المسلمين ببعض ما هو منها، أو يصورون صوراً من عند أنفسهم أو يفهمون مفاهيم خاطئة، ثم يوجهون الانتقادات على ما صوروا وعلى ما فهموا، وليس الإسلام في واقع حاله كذلك. فقد يتهمون المسلمين بأنهم يعبدون الكعبة أو يعبدون الحجر الأسود، مع أن الكعبة في عقيدة المسلمين مركز في الأرض لتوحيد اتجاه المسلمين عند عباد الله بالصلاة، ولتوحيد مطاف المسلمين عند عبادة الله بالطواف، والحجر الأسود علامة لتحديد الركن الذي يبدأ الطواف من عنده من أركان الكعبة. ورمز لمبايعة رب الكعبة على الطاعة والمحبة. ويشككون بعبادة رمي الجمار في الحج، مع أن هذه العبادة تعبير مادي عن جانب الكفر بالطواغيت، الذي هو جزء من الإيمان، إذ لا يتم إيمان المؤمن حتى يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله. ويشككون بالتيمم بدل الطهارة بالماء عند فدقه أو تعذر استعماله، مع أن التيمم عمل رمزي يقدم فيه المسلم عذره لربه، بأنه لم تتيسر له الطهارة بالماء، فأدى شكلاً يشبه جزءاً حركياً من أعمال الطهارة. وعلى هذا النمط يثيرون شبهاتهم الضعيفة المردودة، وللرد عليها جملة

واحدة أضع بين يدي القارئ تعريف موجزاً بأسس العبادات في الإسلام، وبياناً مختصراً جداً لمفاهيمها العامة. يلاحظ الباحث المتأمل أشكال العبادات التي شرعها الله للناس في الإسلام فيراها نموذجاً فريداً رائعاً، مطابقاً لجوانب الحكمة الفكرية والنفسية والاجتماعية ذات الفلسفة الراقية، الملائمة لواقع الناس في حياتهم الدنيا. إن الحكمة الإسلامية في جانب العبادات قائمة على مجموعة من الأسس الفكرية العظيمة، يتضح لنا منها الأسس التالية: الأساس الأول: الإنسان مخلوق لله وحده، ومن واجب هذا المخلوق أن يعترف لخالقه بالربوبية، وأن يعبده وحده لا يشرك بعبادته أحداً، ذلك لأن جميع ما في الكون مخلوق لله، فلا يستحق شيء منه أن يتقرب إليه بأي شكل من أشكال العبادة، فأي يتقرب إلى غير الله بأي لون من ألوان العبادات هو شرك بالله سبحانه. الأساس الثاني: حقيقة العبادة الخضوع القلبي والفكري والنفسي لله تعالى، والاعتراف له بالعظمة والجلال، والإقرار له بكمال الربوبية والألوهية، والالتجاء إليه في كل مطلب، والثناء عليه بما يليق بجلاله، وشكره على نعمائه. لكن طبيعة الحياة المادية للإنسان، تستدعي بحسب ظروفه المعاشية، أن يعبر عن هذه العبادة القلبية والفكرية والنفسية بصيغ مادية، تدل بصورتها الظاهرة على ما يعتمل في داخل الإنسان من معاني العبادة الحقة، لأنه يعسر على كل إنسان أن يستجمع معاني العبادة الحقيقية في داخله من غير أن يغلف ذلك بعمل مادي. لذلك كان لا بد للإنسان من أن يتجه في عبادته لربه اتجاهاً مادياً يعبر به عما في قلبه وفكره ونفسه من معاني العبادة. الأساس الثالث: متى فقدت العبادة المادية جانبها الداخلي في الإنسان

كانت نوعاً من أنواع الرياضة البدنية البحتة، أو عملاً من الأعمال الجوفاء التي لا أثر لها في سلوك الإنسان. ولذلك جاء في الحديث الصحيح قول الرسول: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" وجاء في المأثور عن الرسول أيضاً: "ليس للإنسان من صلاته إلا ما عقل منها" أي: إلا ما كان منها مرافقاً لمعاني العبادة القلبية والفكرية والنفسية. وروى الدارمي بإسناد جيد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: "كم من صائم ليس له من صيامه إلا الظمأ، وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السّهر" أي: لأن كلا من هذا الصيام وهذا القيام قد كان عملاً أجوف فارغاً من معاني العبادة الحقة، التي من شأنها أن تكون متغلغلة في داخل نفس الصائم القائم، ومؤثرة في سلوكه. الأساس الرابع: أن من تمام الحكمة الربانية أن الله لم يترك لعباده أ، يختاروا لأنفسهم أشكال عباداتهم لربهم، ولكنه حددها لهم وفق حكمته، وأمرهم أن يتقيدوا بها، وأن لا يتجاوزوا حدودها العامة. ولو أنه سبحانه ترك ذلك للناس لتفرقوا في تحديد أشكال العبادات، ولاختاروا منها أموراً بعيدة عن منطق الحكمة، فلربما اختار بعضهم ما فيه تعذيب شديد للأجسام والنفوس، وقد اتجه إلى مثل هذا بعض فلاسفة الهنود، ولربما اختار بعضهم ما فيه إرضاء للشهوات وإشباع للغرائز وانغماس بكل موبقة، وقد اتجه إلى مثل هذا بعض مخترعي العبادات لأنفسهم، إلى غير ذلك مما لا تقبله فلسفة الحياة القويمة. الأساس الخامس: ولما حدّد الله للناس أشكال العبادات التي ينبغي له يعبدوه بها، اقتضت حكمه العالية أن يجعلها متنوعة على مقدار ما في الحياة من أشكال متنوعة، يمارسها الناس في أعمالهم الخاصة أو العامة، مما تدعو إليه مطالب حياتهم الفردية والاجتماعية. ضمن هذه الأسس قامت فلسفة أشكال العبادات في الإسلام، وبذلك كانت في مركز القمة، فمن تبصر بها ورعاها لم يجد فيها مدخلاً ينفذ منه عدو إلى تشكيك.

لقد عرف الناس في أعمالهم التي تستدعيها حاجاتهم حركات الوقوف والانحناء وهبوط الجبهة إلى الأرض، كما عرفوا من مظاهر التعظيم والإجلال لملوكهم ورؤسائهم أشكال الوقوف والركوع والسجود، فقضت مشيئة الله أن يخصص الإنسان لعبادة ربه طائفة من الأعمال التي تشاكل ما يقوم به عادة في حاجاته، كما قضت مشيئته أن يكرّم الإنسان عن أن يذل لمخلوق مثله، فأمره أن يقوم ويركع ويسجد لله وحده لا شريك له، وأن لا يفعل مثل ذلك في تعظيم غير الله تعالى. وضمن هذا شرع الله للناس عبادة الصلاة، التي تحتوي في أعمالها المادية الجسدية على القيام والركوع والسجود، ليقدم الإنسان في هذه الحياة قسطاً من أعماله في طاعة ربه، مع شرط تحقق معاني العبادة القلبية والفكرية والنفسية، ضمن أداء الأعمال المادية في الصلاة. وعرف الناس في حياتهم الطعام والشراب والإمساك عنهما بالإرادة، والحرمان منهما عند الفقد. أو عند حاجة الحمية الصحية،فشرع الله لهم عبادة لصوم، كما شرع لهم عبادة الفطر في يومي العيد وأيام التشريق، ليخصص الإنسان من هذا النوع من أعماله المعتادة في حياته طائفة لعبادة ربه. وعرف الناس في حياتهم تحصيل المال وبذله في حاجاتهم ومطالبهم الخاصة، فشرع الله لهم عبادة الزكاة، ليخصص الإنسان جزءاً مما يبذله من ماله في عبادة ربه. وعرف الناس في حياتهم التعبير عما يخالج نفوسهم من أفكار بما يتكلمون به من أقوال، فشرع الله لهم عبادات التلاوة والأذكار والتسبيح والتحميد والدعاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح لكل مسلم، إلى غير ذلك من عبادات قولية. وعرف الناس في حياتهم القيام بالأسفار للتجارة والسياحة والنزهة وغيرها من منافع الحياة، فشرع الله لهم عبادة السفر إلى بيته الحرام، لأداء مناسك الحج والعمرة، وليشهدوا منافع لهم.

وتعتبر مناسك الحج والعمرة صوراً رائعة من صور العبادات. لقد عرف الناس من مظاهر إلحاح المحبين الطواف على دار المحبوب، فشرع الله لهم عبادة الطواف حول الكعبة بيت الله المقدّس، ليعلنوا في مقام عبوديتهم لله تعالى أنهم في مقام المحبين له، اللائذين بعظمته. كما عرف الناس من مظاهر الإلحاح في الطلب الصبر في تكرار السعي لبلوغ ما يرجونه من حاجات الدنيا، فشرع الله لهم عبادة السعي ذهاباً وعوداً بين الصفا والمروة، ليلحوا في طلب عفو الله والجنة، وجعل ذلك منسكاً من مناسك الحج والعمرة. وعرف الناس من مظاهر مطالبهم الجماعية إنشاء الأسواق والمنتديات والحفلات العامة، فشرع الله لهم عبادة الوقوف بعرفة في يوم جامع، وجعلها منسكاً من مناسك الحج. وعرف الناس من مظاهر أفراحهم في أعيادهم ذبح الذبائح، والتوسعة على أهليهم بأكل اللحوم، فشرع الله لهم عبادة ذبائح الهدي والأضاحي، توسعة على أنفسهم وعلى أهليهم وعلى الفقراء والمساكين. وعلى هذا القياس نلاحظ فلسفة مشروعية عبادة المبيت بمزدلفة، والمبيت بمنى من مناسك الحج، وعبادة التجرد من الثياب المخيطة عند الإحرام بالحج أو العمرة للرجال، وعبادة الحلق أو التقصير عند التحلل منه. ولن يجد المتأمل الباحث صعوبة في تدبر الحكمة من نسك رمي الجمار، الذي شرعه الإسلام، ضمن مناسك الحج. إن هذا النسك لون من ألوان العبادة ذو معنى عميق في نفس المسلم العارف بمقاصد الشريعة الإسلامية، ذلك لأنه عمل يشعر بمدى ما بلغه المؤمن من إرغام لشياطينه التي توسوس داخل نفسه، بعد ما أدى عباداته المتنوعة لله تعالى، فهو يقهر بصيغة الرمي المادية أنواع شياطينه الثلاثة: شيطانه الذي يوسوس في فكره فيفسد عليه عقيدته، وهو أكبر شياطينه، وشيطانه الذي يوسوس في قلبه فيفسد عليه أخلاقه، إذ يحرك فيه الحقد والحسد والطمع وسائر

أمراض القلوب، وهو شيطانه الأوسط، وشيطانه الذي يوسوس في نفسه، فيحرك له أهواءه وشهواته وغرائزه، ويفسد عليه سلوكه، وهو شيطانه الأصغر، فإذا قذف المؤمن بالحجارة الصغيرة الأماكن التي خصصها الشارع رمزاً لعوارض الشيطان في الأنفس فقد أعلن بصيغة مادية ما جزمت به إرادته من إرضاء للرحمن وامتثال لأمره، وكفر بالطواغيت وإرغام للشيطان وطرد لوساوسه. وضمن هذه الفلسفة الحكيمة الرصينة تتجلى لنا حكمة مشروعية عبادة كف البصر عن محارم الله، وإحصان الفرج عن الزنى وسائر الموبقات، وكف اللسان عن الكذب والغيبة والنميمة، وهكذا إلى آخر أنواع العبادات التي شرعها الله لنا. ومن تدبر هذه الحقائق ونظائرها، سقطت من نفسه وساوس أعداء الإسلام وشبهاتهم التي يحاولون جهدهم بثَّها للتشكيك بالإسلام وبكماله وبربَّانيته. * * *

الفصل الرابع شبهات حول الزكاة في الإسلام

الفصْل الرابع شُبهَاتٌ حَوْلَ الزَّكَاةِ في الإسْلاَم

شُبهَاتٌ حَوْلَ الزكاة في الإِسلام لم يكن الناس قبل الإسلام يخضعون لتكليفٍ مالي إلزامي محدد النسبة لصالح الكفالة الاجتماعية يُلزم به الواجدون، ويُعفى منه المقلون، وتُسدُّ منه حاجات الفقراء والمساكين، تتولى الدولة جبايته وتوزيعه على أصحاب الحقوق فيه بالحق والعدل، وتعاقب الفرد الممتنع عن أدائه بالجزاءات المالية وغيرها، وتقاتل الجماعات المتفقة المتواطئة على منعه قتالاً شرعياً حتى يؤدوه حق أدائه. هذا النظام هو نظام الزكاة، أو نظام الصدقة الواجبة في الإسلام. ويحاول الأعداء الغزاة من شرقيين وغربيين وأجراؤهم توجيه الطعن لهذا النظام الرائع، على زعم منه أنه نوع من الإحسان الذي يرافقه إهانة لكرامة الإنسان المحتاج، ومنّة عليه، ويزعمون أنهم يريدون أن لا يجعلوا الإنسان في مقام الذلة والمهانة أمام إنسانٍ آخر يقدم له صدقة ماله. والشبهة التي يستندون إليها هي أن الزكاة المفروضة يد مِنّة يقدمها الأغنياء للفقراء. وردّ هذه الشبهة بسيط جداً، إذ أن الحقيقة التي بني عليها هذا النظام من أنظمة الإسلام على خلاف ما يموِّهون به، ويلقون فيه الشبهة، وتحليل ذلك فيما يلي: لقد سمّى الإسلام هذا النظام، وسماه صدقة، ومعنى الزكاة التطهير والنماء، فإذا طهّر ذو المال ماله فأخرج منه الحقوق المخصصة فيه لغيره لم

يكن في فعله ذلك منَّة يمتنّ بها على أحدٍ من الناس، ونظير ذلك ما لو صلى أو صام أو حجّ أو فعل أي عمل من أعمال البر لنفسه لم يكن في أدائه لهذه العباداة منَّة منه على أحد، والفرق أن هذه العبادات أعمال لا تتعلق بالمال بشكل مباشر، أما عبادة الزكاة فتتعلق بالمال بشكل مباشر. والمعنى الثاني للزكاة - وهو النماء - فيه دلالة على الثواب المعجل أو المؤجل، الذي يثيب الله به الذين يؤدون ما فرض عليهم في أموالهم، فينمي لهم أموالهم في الدنيا ويحفظها لهم، وينمي لهم ثواب ما بذلوه في سبيله، لينالوه يوم القيامة أجراً عظيماً. فليس في أي معنى من هذين المعنيين للزكاة أية إشارة إلى ما يشعر بمنّة الغني على الفقير أو تفضله عليه. وأما لفظ الصدقة وهو الاسم الثاني لهذا النظام فمعناه في لسان اللغة وفي لسان الشرع إنما هو عمل من أعمال الخير. وكل عمل من أعمال الخير صالح لأن يبتغى به وجه الله تعالى، سواء أكان ذا نفع لعامله، أو كان ذا نفع لغيره من خلق الله. وحين نتأمل في معنى الصدقة لا نجد فيه إشعاراً بمنة فاعل الصدقة على أحد، ولذلك نجد باب الصدقات في الإسلام أوسع بكثير من أن يكون منحصراً في بذل المال، ويشهد لذلك قول الرسول في الحديث الصحيح: "كلّ سلامى من الناس عليه صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو تحمل له عليها صدقة". ونظائر ذلك كثير في النصوص الإسلامية. فإذا كانت الصدقة في الإسلام تحمل هذا المعنى فمن أين تصيّد موردو الشبهات معنى منة الغني على الفقير؟. ثم إذا نظرنا إلى مسمى الزكاة في مفاهيم القرآن والسنة، فإنا نجد أنه

حق إلزامي في أموال الأغنياء، تتولى الدولة الإسلامية أخذه طوعاً أو كرهاً، وتتولى هي إقامة التكافل الاجتماعي عن طريقه، بالوسيلة التي تراها أنفع وأجدى. فمن ذلك ما جاء في قول الله تعالى في سورة (المعارج/70 مصحف/79 نزول) : {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * للسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ} وما جاء في قوله تعالى بالنسبة إلى زكاة الزروع والثمار في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول) : {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وما جاء في قوله تعالى في سورة (الروم/30 مصحف/84 نزول) : {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} فأي تكريم في الدنيا لذوي الحاجات أكثر من إثبات الحق لهم في أموال الواجدين؟ وأما كون الدولة المسلمة هي التي تتولى أخذ الصدقات وتوزيعها، فظاهر من قول الله تعالى يخاطب رسوله في سورة (التوبة/9 مصحف/113 نزول) : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وقد جرى على ذلك عمل الرسول وعمل الخلفاء الراشدين من بعده، ثم من تبعهم بإحسان، إذ كانت الدولة الإسلامية هي التي تتولى جمع الصدقات وتوزيعها على المستحقين، وكان يسمى موظف جباية الزكاة (مصدّقاً) . ومن العجيب أن يحرف الأعداء الغزاة وأجراؤهم والسائرون في كتائبهم مفاهيم الأنظمة الإسلامية الرائعة، التي تضمن للناس السعادة والرفاهية لو طبقت على وجهها الصحيح، ليوجهوا لها ما يشتهون من مطاعن ومغامز.

ويقولون: إن دفع زكاة الأموال إلى الفقراء على شكل معونات يورثهم داء الكسل والبطالة. والاتكال على أموال الصدقات، ويعلمهم التسول التطلع باستمرار إلى ما في أيدي الناس، وبمثل هذا الكلام يؤثّرون على فريق ممن يلقون إليهم السمع من أبناء المسلمين، مع أنه يتضمن شبهة ناشئة عن مفاهمي خاطئة لأصل نظام الزكاة في الإسلام. إن الباحث المتأمل في هذا النظام الرائع يلاحظ أن صندوق المال الخاص بالزكاة والذي تشرف عليه الدولة الإسلامية إشرافاً كاملاً، جباية ومصرفاً، ضمن الأسس التي قررتها الشريعة الإسلامية، ليس من المتحتم فيه أن يكون صرفه على المستحقين ذا وجه واحد، هو دفع الأموال العينية النقدية لهم، فللدولة الإسلامية أن ترده على المستحقين بأية وسيلة تراها أنفع وأجدى وأكرم لنفوسهم، وأبعد عن تعليمهم الكسل والبطالة، وأقرب لاستثمار جهد كل قادر على العمل من المستحقين. فإذا كانت المشكلة الكبرى للفقر ناشئة عن البطالة وعدم توافر العمل للقادرين عليه، كان من حق الدولة الإسلامية أن تؤسس من أموال صندوق الزكاة مشاريع عمل تعود أرباحها لهذا الصندوق، وتمتص القادرين على العمل من الفقراء والمساكين بحسب اختلاف مستوياتهم وكفاءاتهم، كمؤسسات صناعية أو زراعية أو تجارية أو غيرها. ولتهيئة العمل للقادرين عليه صور شتى تتطور بحسب تطور العصور، منها مساعدة صاحب مهارة صناعية، حتى يفتتح لنفسه مركز عمل يكتسب منه رزقه ورزق أسرته، ومنها مساعدة صاحب قدرة على البيع والشراء، حتى يؤسس لنفسه متجراً يحسن إدارته والاكتساب عن طريقه، ومنها مساعدة

صاحب قدرة على الزراعة، حتى يؤسس لنفسه مزرعة يحسن العمل فيها واستثمارها والاكتساب عن طريقها، إلى غير ذلك. وأما العاجزون عن العمل من الفقراء والمساكين كالمرضى والشيوخ الكبار وغير المكلفين بالعمل كالأطفال والنساء اللواتي ليس لهن من يعيلهن فللدولة أن تدفع لهم من صندوق الزكاة مرتبات شهرية تستمر ما داموا في أحوالهم التي يستحقون بها الإنفاق عليهم، ولها أن تزوج من يحتاج إلى الزواج منهم وأن تشتري أو تبني لهم مساكن، وأن تدفع عنهم ديونهم إلى غير ذلك. وللدولة أن تنشئ لهم من صندوق الزكاة مدارس ومستشفيات وملاجئ مجانية، ولها أن تنشئ لهم مساكن توزعها عليهم حسب حاجاتهم، ومطاعم ومحلات كسوة تقدم لهم الطعام والكساء حسب حاجاتهم التي تقدرها اللجان المشرفة على ذلك. ومن الوسائل أيضاً تأسيس جمعيات خيرية في كل حي وكل قرية، تتولى القيام بمهمات البحث عن الفقراء والمساكين العاجزين عن العمل وكفالتهم، على أن تخصص لكل منها ميزانية من صندوق الزكاة بحسب عدد المحتاجين التابعين لها، ويضاف إلى ذلك ما تتلقاه هذه الجمعيات من صدقات ومساعدات إضافية خارجة عن حصة الزكاة. إلى غير ذلك من صور كثيرة قابلة للتطوير والتحسين بحسب تطور وسائل العصر ونظمه الإدارية والاجتماعية، مع المحافظة على الأسس التي أقام الإسلام عليها هذا النظام الرائع، ومع المحافظة على الأهداف التي قصد إليها منه، وفي كل هذه الصور وأشباهها يتم الأخذ من الأغنياء والرد على الفقراء، كما جاء في النصوص الإسلامية، والأخذ من الأغنياء يكون بمعرفة الدولة الإسلامية وإشرافها، والرد على الفقراء يكون بمعرفتها وبإشرافها، وبحسب الوسائل الكريمة النافعة التي تراها. وبذلك تسقط شبهات المضللين، ويظل نظام الزكاة رائعاً في كل زمن، ومناسباً لكل عصر، ولكن على المسلمين أن يطبقوه وأن يحسنوا تطبيقه. * * *

الفصل الخامس شبهات حول العقوبات في الإسلام

الفصْل الخامس شُبهَاتٌ حَوْلَ العُقوبَات في الإسْلاَم

شُبهَاتٌ حَوْلَ العقوبات في الإِسلام ينتقد أعداء الإسلام ما في نظام الإسلام من عقوبات شديدة قاسية، كحدّ السرقة، الذي يقضي بقطع اليد، وحدّ الزنى الذي يقضي بالجلد أو بالرجم، وحدّ قطع الطريق، الذي يسمح للحاكم المسلم بأن يقطع الأيدي والأرجل من خلاف، وغير ذلك من حدود زاجرة. ويكفي لدفع هذه الشبهة الضعيفة أن تقدّم دراسة تحليلية للعوامل الدافعة للجرائم، ونظرات تعليلية للحل الذي لجأ إليه الإسلام في نظامه، وسنكتشف من خلال ذلك روعة نظام الإسلام في هذا المجال، كما هو رائع في كل مجال. ولا نريد أن نتبجح بدعوى خيالية، بل نريد أن نضع الخصم أمام بحوث تحليلية، وتطبيقات واقعية، ثم نقول له: هذه سبيلنا، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. ولن يجد الباحث المنصف أية ثغرة يمكن أن ينتقد منها بحق نظام الإسلام، بينما يجد الباحثون المنصفون في كل الأنظمة الأخرى التي تطبقها أمم الأرض في هذا المضمار مئات الثغرات ونقاط الضعف، التي هي محل للاعتراض والنقد بحق. أ- عوامل الجريمة: تعود أهم عوامل الجريمة في المجتمعات الإنسانية إلى العوامل الرئيسة التالية:

أولاً: العوامل النفسية المنحرفة التي تحرض الفرد على ارتكاب الجريمة، وتتنوع هذه العوامل بحسب نوع الجريمة. فمن الناس مصابون نفسياً بكراهية الناس أو صنف منهم، لأسباب شتى، وقد تبلغ بهم الكراهة مبلغاً من الظمأ النفسي لا يرويه إلا النظر إلى الدماء المهراقة من الذين يكرههم، وقد لا تنفع في هذا الفريق الشاذ من الناس وسائل الإصلاح المختلفة، وذلك لتمكن عقدة الكراهية في نفوسهم، وهؤلاء على ندرتهم في الناس لا بد من علاجهم أو تطهير المجتمع منهم. ومن الناس مصابون نفسياً بشذوذ جنسي، لا يبرد حرارته ولا يشبع نهمته إلا ارتكاب الجرائم المنافية للطبائع السوية، التي يشترك فيها الناس جميعاً، وقد يحرضهم على هذا الشذوذ على الاعتداء على عفاف الصغار والصغيرات، وعدم الاكتفاء بالزواج المشروع، وقد يصل بهم إلى مرحلة شنيعة من الوقاحة والقباحة والاستهانة بالآداب العامة، يجاهرون مع هما بفحشهم ولا يتوارون فيه، تبجحاً بالمخالفة والشذوذ، أو استهانة بالدين وعملاً على نشر الفاحشة وإباحتها، فيمارسون الفاحشة غير مبالين ممارسة مكشوفة أما جمع من ذوي العدالة يبلغ عددهم أربعة شهود فما فوق. ومن الناس مصابون نفسياً بعقدة جمع المال والاستكثار منه بالسطو على أموال الناس، وقطع الطريق، وترويع الآمنين أو بحيل الاختلاس وسلب الأموال بغير حق، دون أن يشعر بهم من يجنون عليه ويسلبون ماله. ووجود هؤلاء وأمثالهم في مجتمع ما سبب في اختلال الأمن، وعموم الفوضى، وانتشار جرائم القتل التي تسببها الأهواء الشخصية والمطامع المادية، وسبب في بث الآلام الكثيرة، وغرس حب الانتقام، حتى ينتهي الأمر بالمجتمع إلى أن يكون معظم أفراده ما بين ظالم قتال، أو لص محتال، أو ضعيف مهضوم الحق مسلوب الحرية. وقد استخدم الإسلام في علاج هؤلاء الشاذين المصابين بهذه العقد وأمثالها عدة وسائل:

الوسيلة الأولى: التربية الإيمانية الإسلامية على إدراك الحق والشعور به وبواجبه، وعلى تذوق الكمال وحبه، واستحسان الخير والفضيلة وحبهما، واستقباح الشر والرذيلة وكراهيتهما، والرغبة بالتنافس في السبق إلى الكمالات المختلفة الفكرية والخلقية والسلوكية. الوسيلة الثانية: الترغيب بما عند الله من أجر عظيم للملتزمين بأحكام الإسلام وتعاليمه، الداعية إلى إقامة الحق والعدل، والتزام الخير، والبعد عن كل ظلم وشر، ابتغاء رضوان الله وثوابه. الوسيلة الثالثة: الترهيب مما أعتد الله يوم القيامة للظالمين المعتدين، المخالفين لأوامر الله ونواهيه، من عذاب أليم في دار العذاب. الوسيلة الرابعة: العقوبة القاسية الشديدة، فحينما لا تنفع وسائل التربية والترغيب والترهيب، تقضي ضرورة سلامة المجتمع الإنساني بإنزال العقوبة القاسية الشديدة، لأن الذين لم تنفع فيهم هذه الوسائل قد نمت لديهم دوافع الجريمة إلى الحد الأقصى، فكانوا خطراً على المجتمع. ومما لا ريب فيه أنه لن يتفق لهذا الفريق الشاذ من الناس أن يمارسوا جرائمهم في وقت واحد، ولذلك يكون إنزال العقوبة الشديدة القاسية المشاهدة أمام ملأ من الناس في أول مرتكب منهم للجريمة عملاً رادعاً، يكف معظم الذين تحدثهم نفوسهم بارتكاب جرائم مماثلة عن اقتحام حدودها. وربما لا يقتضي الأمر تنفيذ هذه العقوبة الشديدة القاسية إلا مرة واحدة أو مرات قليلة جداً، خلال كل حقبة من الزمان، وبذلك يقطع دابر الجريمة، أو يخفف نسبة حدوثها إلى أدنى الحدود، وعندئذ يصفو المجتمع من المكدرات، ويعم الأمن والاستقرار، وهما أعظم نعمتين ترفل بهما مجموعة بشرية. ثانياً: عوامل البيئات الاجتماعية المنحرفة، التي تنمي في الأفراد الرغبة بارتكاب الجريمة، وتغذيتهم بعدم الاعتراف بمنافاتها للحق والواجب، أو للأخلاق الكريمة وسائر الفضائل، وذلك بسبب إهمال هذه المجتمعات واجبات التربية العامة على احترام الحق والواجب، والتقيد بالأخلاق الكريمة وسائر

الفضائل، وازدراء الظلم والعدوان، والنفور من الرذائل والانحراف في السلوك. ففي كثير من البيئات الاجتماعية يلاحظ المتتبعون مجموعة من العوامل التي تساعد على ارتكاب الجرائم المختلفة. منها استهانة هذه المجتمعات بالفضائل، وفساد مفاهميها نحوها، وعدم اكترائها بواجبات التربية على مكارم الأخلاق، وإهمالها الشبان والمراهقين، وتركهم يرتعون في الملذات الجسدية المحرمة التي تتطلب منهم أموالاً كثيرة لا يستطيعون حيازتها إلا بتجاوز حدود الحق والعدل والفضيلة. ومنها انحلال نظام الأسرة، أو ضعف روابطها إلى الحد الذي يشعر فيه كل فرد من أفرادها أنه ذو استقلال ذاتي تام، في فكره وتصرفاته ومعالجة شؤونه الخاصة أو العامة، فهو لا يسمح بأن يرشده من أسرته من سبقوه في تجربة الحياة، أو يشرفوا عليه، أو يقوموا على تربيته وتأديبه، وضبط سلوكه عن الانحراف والشذوذ، فينطلق عندئذ في متاهات رعوناته الخاصة، وتدفع مراجل شهواته المتأججة مركبة حياته إلى المهالك، ثم يجد نفسه في منحدرات طرق حياته المنهارة مسوقاً إلى الجريمة، يساعده عليها نظراؤه من قرناء السوء، إذ تسود بينهم مفاهيم بعيدة كل البعد عن المفاهيم الإنسانية الكريمة. ومنها تفكك الروابط الاجتماعية الأخرى التي تمثلها المؤسسات الاجتماعية التعليمية والتربوية والرياضية والأدبية، ومؤسسات الإحسان والتعاون والتعاطف الجماعي، وفي مقدمتها المؤسسات الدينية، التي تضطلع بمهمات التربية الروحية، والتدريب على الأخلاق الكريمة الفاضلة بصفة عملية، مع كشف ما فيها من معانٍ نبيلة سامية، حتى يكون لها في داخل النفس غراس فكري، وغراس روحي، يتزايد نمواً مع الزمن بالتدريب العملي، ويتغلغل في كيان الإنسان، ويتمكن فيه تمكناً يجعله بمثابة الطبائع الفطرية، التي ولدت معه منذ استهل صارخاً يستقبل الحياة على الأرض. ونستطيع أن نقول: إن من شأن هذه البيئات الاجتماعية الفاسدة أن تكون مباءات ملائمة لتخريج المجرمين في الأرض، ومثلها في ذلك كمثل

مباءات الجراثيم الضارة التي تنمو فيها الحشرات المهلكة ويأوي إليها كل فاسد مفسد. وكثيراً ما يعمل الغزاة على إيجاد بيئات اجتماعية فاسدة، لتخريج المجرمين الذين يعملون على هدم أمتهم بكل قوتهم. وأمثال هذه البيئات الاجتماعية تحتاج إلى إصلاح جذري، يبدأ من أول طريق إصلاح الأمم والشعوب. وإن أي نظام يعالج جانب الجريمة فقط، دون قطع الطريق على العوامل الممدة، لا يعطي الثمرة المطلوبة، لأن تكاثر الوباء لا بد أن يستمر ما دامت عوامل توالده ونموه موجودة عاملة، مهما كانت نسبة المكافحة ومهما كانت قوتها. ولذلك نلاحظ أن نظام الإسلام قد بدأ بإصلاح الفرد، وإصلاح المجتمع، قبل معالجة الجرائم التي يمكن أن تحدث فيه من قبل الذين تتحرك فيهم دوافع الجريمة. وهذا الحل الجذري لا نجده على الصورة المثلى إلا في يد نظام الإسلام ومعالجته العملية. ثالثاً: الضرورات الملحة التي تهون على بعض السويين ارتكاب الجريمة، التي يرون أنها قد تدفع عنهم ضروراتهم، وتهيئ لهم حاجاتهم. ولكن المجتمع الإسلامي الذي يطبق أفراده أحكام الإسلام، لا يدع ضرورة من الضرورات تدفع بفردٍ من أفراده إلى ارتكاب الجريمة، لأنه مجتمع متعاون متكافل، كل فرد فيه حارس يقظ، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويساعد على فعل الخير وقمع الشر. رابعاً: ضعف جهاز الحكم، وإهماله، وعدم مراقبته الشديدة لما يقع في المجتمع من جرائم، وتردده في البت بالإدانة العادلة، وسيره في القضاء بنفسٍ طويل، وصبر غير جميل، ينسى معه الشعور بهول الجريمة التي تستدعي البت الحازم الحاسم. والأصل في الحكم الإسلامي أن يكون على خلاف ذلك، لأنه يعمل بهدي من كتاب الله وسنة رسوله.

خامساً: لين القوانين وعدم أخذها بمبدأ العقوبات الزاجرة التي أخذ بها نظام الإسلام، الأمر الذي يشجع المجرمين على ارتكاب جرائمهم. ومعلوم أن الشريعة الإسلامية بريئة من هذا العامل، وأن الحكم الذي يطبق أحكامها يفرض هيبته العامة، التي تردع كل من تحدثه نفسه بارتكاب الجريمة. هذه عوامل رئيسة خمسة يتسبب عنها تفشي وقوع الجرائم في المجتمعات الإنسانية، وبمقدار نمو هذه العوامل تزداد نسبة الجرائم. ولكن حين يطبق الناس نظام الإسلام، يستطيعون أن يتفادوا النسبة العظمى من هذه العوامل الباعثة على وقوع الجرائم، وأن يخفضوا نسبة وقوعها إلى أقل حد ممكن، وذلك لأن تطبيق نظام الإسلام، يرتقي بالمجتمع الإنساني إلى مستوى مثالي رائع، تستطيع الارتقاء إليه جماعات بشرية، وقد أثبت الواقع هذه الحقيقة في تاريخ الأمة الإسلامية، ولما طبقت المملكة العربية السعودية أحكام العقوبات الإسلامية انخفضت فيها نسبة الجرائم إلى أدنى المستويات الممكنة في الواقع البشري. ب- الحل الإسلامي: قبل أن يقيم الإسلام نظام الحدود العقوبات الزاجرة الرادعة، أحاط المجتمع المسلم بأسوار أربعة بعضها من وراء بعض، ومن شأن هذه الأسوار أن تبعد أفراد المجتمع المسلم عن السقوط في الجريمة، إلا من بلغ منهم مبلغ الشذوذ. السور الأول: سور الأنظمة الاجتماعية والفردية التي تهيئ لكل فرد مطالبه النفسية والجسدية الضرورية، وتدفع عنه الضرورات التي تلح في داخله، وفق تكوينه الذي فطره الله عليه. فأقام الإسلام نظام العدالة الاجتماعية، وحض على الزواج وأمر بتيسير وسائله وأسبابه، وهيأ لجميع أفراد المجتمع فرص التنافس الشريف بحسب الكفاءات في مجالات السبق الدنيوي دون ظلم ولا عدوان.

السور الثاني: سور تربية المسلمين نظرياً وعملياً على مكارم الأخلاق، وفضائل السلوك، وعلى احترام الحق والواجب، وتريبتهم على تذوق هذه المكارم والفضائل واستحسانها وحبها، والنفور من أضداداها وكراهيتها كراهية شديدة. السور الثالث: سور المخاوف والإنذارات بعقابات الله في الدار الآخرة، لمن خالف أنظمته وشرائعه التي أنزلها لعباده وأمرهم بتطبيقها. السور الرابع: سور العبادة الحقة لله تعلى، المصحوبة بمراقبته التي تسمو بروح المسلم سمواً يبعدها عن المؤثرات المادية، التي تدفع الفرد إلى الانحراف عن صراط الله لعباده. وفي داخل هذه الأسوار الأربعة يترعرع المجتمع الإسلامي في بحبوحة السعادة والأمن والطمأنينة، والبعد عن كل العوامل التي يمكن أن تحرض الإنسان على ارتكاب الجريمة. ومما لا يرب فيه أنه يندر وقوع الجرائم التي يعذر مرتكبوها، داخل مجتمع مسلم توافرت فيه الاحتياطات التربوية الإسلامية التي تتغلغل في أعماق النفوس بتأثيراتها الفكرية والوجدانية والروحية، والتي تكوّن العادات المستحكمة في السلوك بذلك، وبقوة التأثير الاجتماعي المدفوع بواجب الرقابة الاجتماعية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. يضاف إلى ذلك امتصاص الطاقات النفسية والجسدية التي من شأنها التحريض على ارتكاب الجريمة، وذلك بتهيئة كل الشروط التي تساعد على تلبية مطالب الإنسان وحاجاته الضرورية الجسدية والنفسية والروحية. ولكن - رغم كل ذلك - لا بد أن تند من بعض الأفراد جرائم يدفع إليها الانحراف والشذوذ، فالأنظمة النظرية والتطبيقية - مهما اتخذت من احتياطات - لا توقف وقوع الجريمة إيقافاً كاملاً، ولكنها تخفف من وقوعها إلى أدنى النسب. وقد تدارك الإسلام أنواع الانحراف والشذوذ الدافعة إلى الجريمة، بالعقوبات الزاجرة الرادعة ذات المظهر الخشن. وهذه العقوبات يقيمها سلطان المسلمين بالعدل والقسطاس المستقيم،

مع التسوية التامة بين ذوي الشرف وذوي الضعة، وبذلك يعيش المجتمع المسلم في ظل الأمن الدائم والاستقرار والطمأنينة، وينقطع دابر الجريمة والتفكير بها. ومن الجميل في هذه العقوبات القاسية أن الوضع العام للمجتمع الإسلامي المثالي لا يحتاج إلى تطبيقها إلا في أحوال نادرة جداً، وعلى مجرمين حقيقيين لم تدرأ شبهة ما عنهم إقامة الحدود، ولست أنكر أنه قد يدخل بين هؤلاء من تقتضي أحواله الخ اصة تخفيف العقوبة عنه، دون أن يتبينها لاقضاء الإسلامي بشكل منضبط، إلا أن سلامة المجتمع كله توجب التضحية ببعض الأفراد، لا سيما الذين ثبتت عليهم الجريمة ولم يستطع الحكم العادل أن يرفع عنهم العقوبة. ولنا أمام هذه الفلسفة الإسلامية العظيمة أن نهاجم الأنظمة الوضعية في عقوباتها التي لا زجر فيها ولا ردع، بأنها أنظمة تساعد على انتشار الجرائم، وتنمية أعداد المجرمين في الأرض، وأنها حين تشفق على يد سارق واحد أن تقطع، تساعد على مقتل عدد كبير من الأبرياء، ليحقق مجرمو السرقة أهدافهم، وحين تشفق على قاتل واحد فلا تنفذ فيه عقوبة القصاص، تساعد على سقوط عدد من القتلى الأبرياء، وهكذا إلى سائر الجرائم. وحين تركت معظم الشعوب الإسلامية تطبيق نظام العقوبات الإسلامية الرادعة،واتبعت النظم الأوربية، انتشرت فيها الجرائم، واندلعت فيها نار الفوضى، وكثرت فيها الآلام الاجتماعية، وفقدت سعادة الطمأنينة والاستقرار والأمن على أموالها وأرواحها. جـ- مخففات الجريمة في نظام الإسلام: أدخل الإسلام لدى تقويمه للجرائم التي يرتكبها المجرمون أمرين: الأول: اعتبار الأحوال العامة التي ترافق ارتكاب الجريمة. الثاني: اعتبار الأحوال الخاصة لمرتكب الجريمة، الشاملة للأحوال العقلية والنفسية والجسدية.

فمن مراعاته للأحوال العامة في جرائم القتل مراعاته أحوال الفتن العامة التي يكون القتال فيها بين فريقين من المسلمين، إذ جعل للقتل فيها أحكاماً خاصة. ولما كانت دوافع القتل في مثل هذه الفتن دوافع جماعية وليست دوافع فردية بحتة، نظراً لاختلاطها بشبه كثيرة، لم تكن مشروعية القصاص فيها مثل مشروعية القصاص في الأحوال الفردية، التي يحدث القتل فيها ضمن أوضاع آمنة مستقرة. وقد جاء التشريع الإسلامي فيها بأمر جمهور المسلمين بالسعي في الإصلاح بين الفريقين المتقاتلين، فإن أصر أحد الفريقين على البغي وجب عليهم قتال الفريق الباغي، حتى يعود إلى أمر الله، ويوافق على الإصلاح، وفي ذلك يقول الله تعالى في سورة (الحجرات/49 مصحف/106 نزول) : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} ومن مراعاته للأحوال العامة في جريمة السرقة، مراعاته أحوال السرقة في عام من أعوام المجاعة والجوائح العامة، التي تقوى معها شبهة الضرورة الملحة، وعند ذلك يدرأ حد قطع اليد بشبهة الضرورة الملحة، التي تؤيدها الأحوال العامة السائدة. ومن مراعاته للأحوال الخاصة في تقويم الجريمة مراعاته حالة الملكات العقلية، فإذا كانت منعدمة لم يحكم بالمسؤولية الجرمية، ومراعاته حالة إرادة القتل، فإذا لم يتوافر في حادثة القتل وجود إرادة القتل على سبيل العدوان، كان ذلك مانعاً من تنفيذ حد القصاص، وكان سبباً مخففاً للجريمة، ومراعاته حالة الدفاع عن النفس، وحالة الإكراه، إلى غير ذلك من صور. ومن مراعاته للأحوال الخاصة في جريمة الزنى أن يكون مرتكبه غير متزوج، سواء في ذلك الذكر والأنثى، إذ تحمل الدوافع إليه من المخففات ما لا

تحمل الدوافع إليه حينما يكون الإنسان محصناً بالزواج الذي يستطيع أن يلبي عن طريقه دوافعه الجنسية القاهرة، مهما كان الزوج بعيداً عن شروط الملاءمة النفسية المطلوبة لكل من الزوجين أو لأحدهما. ومراعاته حالة فقدان المسؤولية العقلية، أو فقدان المسؤولية الإرادية، فمتى ارتفعت المسؤولية العقلية ارتفعت معها أحكام الحدود، ومتى ارتفعت المسؤولية الإرادية قامت الشبهة التي تدرأ الحد. وترتفع مسؤولية إرادة الزنى في صور كثيرة: منها الإكراه، ومنها اعتقاد الإباحة في بعض الحالات، كظن المعاشر بأن التي يعاشرها زوجته، أو له حق في معاشرتها بتأويل له فيه شبهة مقبولة في نظر الشارع. ومن فقدان المسؤولية الإرادية في السرقة أن يأخذ الإنسان شيئاً من مكان يقع في وهم الناس أن الأخذ منه يكون من باب اللقطة لا من باب السرقة، أو أن يأخذ من مال وهو يظن أنه مباح له. أما حينما تتحقق الجريمة دون أن يرافقها حالة من حالات التخفيف القائمة على أية شبهة من الشبهات، فإن الإسلام يقرر تنفيذ العقوبة وإقامة الحد الزاجر الرادع، مع التشهير به في مشهد عام من المسلمين، ليكون ذلك عبرة لمن يعتبر. د- نظرة في الحدود الإسلامية: نظرة سريعة إلى أحكام العقوبات على الجرائم في نظام الإسلام، تكشف لنا مبلغ البت الحازم الحاسم الذي تحتويه عليه هذه الأحكام، وما تحمله من ردع وزجر لكل من تحدثه نفسه بارتكاب الجريمة، فهي تساعد على إنهاء مشكلة الجريمة بسرعة، دون أن تستتبع ذيولاً لا طائل من ورائها، وتلقي الرعب في قلوب سائر المستعدّين لأن يكونوا مجرمين. بينما تزيد الأنظمة الأخرى من تعقيد المشكلات الاجتماعية، التي توسع من دوائر احتمالات حدوث الجرائم المتنوعة في المجتمعات الإنسانية، أو تشجع على حدوثها. 1- ففي جريمة العدوان على الأنفس بالقتل أو بما دون عمداً وعدواناً بغير حق

يأذن به نظام الإسلام، يعطي الإسلام قاعدة القصاص، ويقيم الدليل على الغاية منها. أما القاعدة فمعلنة بقول الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وفي قوله تعالى في سورة (المائدة/5 مصحف/112 نزول) مؤيداً كان أنزله من قبل في التوراة على بني إسرائيل: { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وأما الدليل على الغاية من القصاص ففي قوله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) : {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} أي: إن إقامة شريعة القصاص من شأنها أن تحفظ حياة الناس من أن تكون عرضة لعدوان المجرمين الذين لا قيمة عندهم لأنفس الناس. 2- وفي جرائم قطع الطريق والإفساد في الأرض: أعطى الله الدولة الإسلامية سلطان التأديب بعقوبات القتل أو الصلب أو قطع الأيدي والأرجل من خلاف، أو النفي من البلاد، وذلك بحسب حال الجرائم التي يرتكبها المفسدون من قطاع الطرق، قال الله تعالى في سورة (المائدة/5 مصحف/112 نزول) : {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}

3- وفي جريمة السرقة التي لا شبهة فيها، إذا حدثت على الوجوه التي بينتها السنة وفصّلتها، وتمت فيها الشروط التي يلزم الشارع معها بإقامة الحدّ: يقرّر الإسلام قطع يد الجاني ذكراً كان أو أنثى، قال الله تعالى في سورة (المائدة/5 المصحف/112 نزول) : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 4- وفي جريمة الزنى البيّن، الثابت بشهادة أربعة شهود تتوافر فيهم شروط العدالة؛ مع الخلو من التهمة، أو الثابت بالإقرار على النفس دون إلزام أو إكراه، إذا ارتكبه غير المتزوج ذكراً كان أو أنثى: يقرر الإسلام فيه عقوبة مئة جلدة حداً تأديبياً، قال الله تعالى في سورة (النور/24 مصحف/102 نزول) : {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 5- وفي جريمة قذف الآخرين في شرفهم واتهامهم بالزنى دون إقامة بيّنة نصابُها أربعة شهود عدول: يقرر الإسلام عقوبة ثمانين جلدة، حداً تأديبياً رادعاً للقاذفين الطاعنين في أعراض الناس، كالذين يبغون أن تشيع الفاحشة في المؤمنين، قال الله تعالى في سورة (النور/24 مصحف/102 نزول) : {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقد امتحن العالم الإسلامي تنفيذ هذه العقوبات الرادعة فكان ثمرة ذلك أمناً شاملاً، واستقراراً كاملاً، جعل مجتاز البادية الغريب يأمن على ماله ونفسه وعرضه من عاديات اللصوص والقتلة وسائر المجرمين، بعد أن كانت مليئة بالمخاوف الشديدة، والجرائم الشنيعة.

ومن عجيب التناقضات التي يقع فيها منتقدو العقوبات الإسلامية الرادعة - وهم فريق من علماء القانون، وعلماء النفس، وعلماء الاجتماع - والذين يتأثرون بهم ويستمعون إليهم، أن تثار شفقتهم الإنسانية العارمة على يدٍ واحد أو أيدٍ معدوداتٍ تقطع طوال عام أو أكثر من أصل ملايين الأيدي، بسبب ارتكاب جريمة السرقة التي لا تصاحبها شبهة تدرأ عن مرتكبها الحدّ، دون أن تثار شفقتهم الإنسانية على ألوف الضحايا الأبرياء، الذين يتعرضون لأبشع الجرائم الإنسانية على أيدي مجرمي اللصوصية والسطو على أموال الناس بغير حق. وأ، تثار شفقتهم الإنسانية العارمة على قتيل بالرجم، بسب تحديه بالزنى العلني أمام أربعة شهود وهو محصن (متزوج) ، واستهانته بالآداب العامة والشرائع الربانية، دون أ، تثار شفقتهم الإنسانية على ألوف الضحايا الأبرياء الذين يتعرضون لأبشع الجرائم الإنسانية على أيدي مجرمي الجنس، علماً بأن ثبوت الزنى بأربعة شهود لا يحدث في مجتمع إسلامي إلا نادراً جداً خلال قرون. ولا يخفى عليهم ما عليه حال كبريات الدول التي تعيش في مباهج مدنية القرن العشرين، وما تعانيه من مشكلات تكاثر الجرائم وتزايد نسبتها حيناً بعد حين، بسبب فقد الحدود الرادعة والعقوبات الزاجرة في قوانينها القضائية. فأيهما أحفظ لكرامة الإنسان، ولسلامة المجتمع، وأفضل لمنحه نعمة الطمأنينة والأمن، أن يُعاقب عدد محدود من الناس عقوبةً صارمة شديدة، يرتدع بها كل من تحدثه نفسه بالجريمة، أو أن تتعرض أموال وأعراض وأرواح ألوف من الأبرياء من الناس لجرائم المنحرفين والشاذين، الذين يتكاثرون في كل مجتمع تقل فيه روادع العقوبات؟. يضاف إلى ذلك أن هؤلاء الذين ينتقدون العقوبات الإسلامية الرادعة، التي لا ترتقي نسبتها بحسب طبيعة النظام الإسلامي الكامل إلى جزء من ألف جزء مما يسببه المجرمون الذي يمارسون جرائمهم وهم يستهينون بالنتائج، إذ عرف كثير منهم سبيله إلى السجن، الذي قد يجد فيه بطولة وراحة، ورزقاً وفسقاً، لا يتحرك وجدانهم الإنساني حينما يتعرض مئات الألوف من البشر

لجرائم القتل الجماعي، بالقنابل النووية، أو بسير الدبابات على أجسادهم، عقوبة لهم على مخالفة سياسية. نحن لا نلوم أعداء الإسلام على ما يقولون، فهم في حالة حرب معه، يفعلون ما يرونه هادماً له، ولكن نلوم أجراءهم والمنخدعين بهم السائرين في ركابهم، الذين يقولون مثل ما يقولون جهلاً وغباءً، أو خدمة خائنة لأعداء دينهم وأمتهم. * * *

الفصل السادس شبهات حول الرق في الإسلام

الفصْل السادس شُبهَاتٌ حَوْلَ الرِّقِّ في الإسْلاَم

شُبهَاتٌ حَوْلَ الرق في الإِسلام من الشبه الموجهة للإسلام ما جاء فيه من إقرار لنظام الرق، ويكفينا لدفع أي انتقاد للإسلام في هذا المجال يوجهه أعداؤه، أن نقدّم دراسة تحليلة وتاريخية لمعاني الرق وتطبيقاته في الناس قديماً وحديثاً، وبياناً لطريقة الإسلام المثلى في هذا المجال. أ- الرق والحرّية عند الناس: لدى تحليل معنى الرق في عرف الناس قديماً وحديثاً يتبين لنا أنه يرجع إلى عدة عناصر، قد تتوافر كلها في بعض حالاته، وقد يقتصر على بعضها في حالات أخرى، وذلك بحسب أمزجة مالكي الأرقاء، أو بحسب النظام العامّ الذي يتواضع عليه مجتمع ما، إذ يبيح لمالكي الأرقاء بعض الحالات، ويحرّم عليهم حالات أخرى. وهذه العناصر التي يرجع إليها معنى الرقّ على اختلاف درجاته ومستوياته يمكن تلخيصها بما يلي: أولاً: سلب حرية التملك وسلب حرية العمل الذي قد يفضي إلى التملك. ثانياً: تكليف الرقيق أن يبذل ما يستطيع من جهد، مقابل منحه ما يحتاج إليه من مأكل ومشرب ومأوى وضروريّات العيش الأخرى لا بدّ منها.

ثالثاً: سلب الحريّة الاجتماعية، فلا يستطيع الرقيق بذلك أن ينتظم في أي عمل جماعي مهما شرفت أهدافه. رابعاً: سلب الحرية السياسية، فلا يستطيع الرقيق بذلك أن يدلي برأي سياسي يتناول الأوضاع السياسية للمجتمع الذي هو فيه. خامساً: سلب الحرية الدينية والاعتقادية، ولقد كان الأرقاء يعذّبون عذاباً شديداً إذا اتبعوا ديناً غير دين أسيادهم. سادساً: الحجر على الرقيق وتكليفه أن يظل عند سيده، يخدمه متحملاً معاني الاسترقاق الأخرى، فإذا أراد الهجرة من مملكة سيده كان آبقاً خارجاً على الطاعة يستحق أشدّ العذاب. سابعاً: اعتبار جسد الرقيق وروحه مستباحين لسيّده، يعذّبه كما يهوى، ويقتله إذا شاء ولو لأتفه الأسباب، أو من أجل التمتع بلذة النظر إلى حلبة صراع تجري بين الأرقاء وتنتهي بقتل بعضهم أو بعذاب دون القتل، ليسعد السادة بآلام العبيد. ثامناً: تسخير الأرقاء في قتال أعداء مالكيهم. تاسعاً: إمكان نقل الرقيق من مالك إلى آخر بهبة أو بميراث أو بعوض. هذه هي معظم العناصر التي قد توجد كلها أو يوجد بعضها فيما عرفه الناس من الرق، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن معظم هذه العناصر لم يقرها بوجه من الوجوه، ولا في حالة من الحالات. أما مالك الرقيق في الواقع الإنساني، فقد يكون فرداً، وقد تكون عصابة من العصابات، وربما تشتد قوة العصابة فتلبس لباس السلطة الحاكمة، التي تفرض نفسها ممثلة لجماعة من الناس ذات حدود سياسية. وقبل أن نرد على الذين ينتقدون الإسلام بأنه لم يلغ نظام الرق من أول أمره دفعة واحدة، يحسن بنا أن نعرض عناصر الرق على العالم الحديث، الذي غدا منذ فترة قريبة من الزمان يتبجح بأنه قد صار يحمي أنظمة الحرية وينادي

بها، وذلك لنجد كم من هذه العناصر التسعة ما هو مفروض على شعوب كاملة، من قبل قلة حاكمة تتستر باسم السلطان، وتحمي نفسها من غضب الشعوب وثورتها بالقوة المسلحة. إن نظرة عامة يمر بها الباحث الاجتماعي على الشعوب المستعبدة لسلطات استعمارية، أو لسلطات استبدادية، كافية لأن تكشف له أن نظام الاسترقاق ما زال مطبقاً في العالم الحديث، إلا أنه اتخذ لنفسه صبغة أخرى، مقنعة بأسماء حديثة، منها سلطة القانون، والمستفيد منها أفراد يسترقون الشعوب بحسب أهوائهم، ومنها سلطة الاحتلال - ومنها سلطة الانتداب، ومنها سلطة الحزب الحاكم - ومنها سلطة مستبد ظالم، ويمثل كل هذه الأسماء أفراد يسترقون الشعوب بغير حق، إذ تحميهم القوى المسلحة، وكل من يريد التحرر من الرق المفروض عليه في كل هذه الأنظمة يعتبر عدو القانون، أو عدو السلطة، أو عدو الثورة، أو عدو السيد المستبد، لذلك فهو يستحق كل أنواع التعذيب والاضطهاد حتى القتل. فما الفرق بين رقيق العالم القديم الذي كان مسلوب حرية التملك وحرية العمل الذي قد يفضي إلى التملك، وبين الذين يحرمون من هذه الحرية في بعض أنظمة العالم الحديث، على شكل استرقاق جماعي عام، مستتر باسم النظام العام، أو باسم القانون أو باسم مبادئ الثورة، إلى غير ذلك من أسماء؟!. ما الفرق بين رقيق العالم القديم الذي لم يكن يسمح له بأن يمارس أية نشاط اجتماعي أو سياسي، وبين الشعوب المسترقة التي تحرم من ممارسة أنواع النشاط الاجتماعي والسياسي، في بعض دول العالم الحديث، التي تنعت نفسها بالتقدمية، وبأنها حاملة لواء الحرية؟!. إن معنى الاسترقاق في كل منهما واحد، إلا أنه كان لأفراد فأمسى لأمم وشعوب. ما الفرق بين رقيق العالم القديم الذي كان يكلف بذل ما يستطيع من

جهد، مقابل منحه ما يحتاج إليه من ضروريات عيشه، وبين الذين يفرض عليهم نظام من هذا النوع في بعض أنظمة العالم الحديث، على شكل استرقاق جماعي؟!. ما الفرق بين رقيق العالم القديم الذي كان يفرض عليه التزام دين سيده أو مذهبه، وبين شعوب تضطهد في العالم الحديث لتلتزم مذهباً اجتماعياً معيناً، أو تجحد عقيدة دينية معينة وتعتقد غيرها؟!. إن معنى الاسترقاق في كل منهما واحد، إلا أنه كان من أفراد لأفراد، فأمسى من عصابات ذات قوة لأمم وشعوب مغلوبة على أمرها. ما الفرق بين رقيق العالم القديم الذي كان يفرض عليه أن لا يفر من سلطان سيده ودائرة مملكته، وبين شعوب مسورة بأسوار حديدية، تمنعها من أن تتحرر من وطأة أنظمة الحكم التي تفرض عليها وهي لها كا رهة؟!. ألا فليعلم الذين يخادعون الناس بعطفهم على رقيق العالم القديم أنهم من أكثر الناس استعباداً للشعوب وإذلالاً الذين تحت أيديهم، وإن وضعوا لأنظمتهم أسماء أخرى غير اسم الرقيق. ب- وسائل الاسترقاق عند الناس: عرف الناس قديماً نظام الاسترقاق، وكانت وسائله متنوعة لديهم، ويعتمد معظمها على ظلم القوي للضعيف. فكان من وسائله الأسر، الذي ينجم عن الغزو وعن الحروب، سواء أكانت حروباً بين شعوب مختلفة، أو حروباً بين قبائل من شعب واحد، أي: سواء أكانت حروباً خارجية أو حروباً أهلية، وكان مصير الأسير فيها القتل أو الاسترقاق أو الفداء. وكان من وسائله السطو على حرية الإنسان بالقرصنة والخطف والسبي والسرقة والتقاط اللقطاء ونحو ذلك. ومن الذين كانوا ضحايا هذا النوع فاسترقوا ظلماً وعدواناً يوسف عليه

السلام، لما عثرت عليه القافلة في الجب الذي رماه فيه إخوته، قال قائلهم: يا بشرى هذا غلام، وأسروه بضاعة، خوفاً من أن يعثر أهله عليه معهم فيستردوه، ولما ابتعد رجال القافلة عن مكان التقطاه باعوه بثمن بخسٍ دراهم معدودة، وكانوا فيه من الزاهدين، وانتهى أمره إلى مصر، وظلّ في مصر رقيقاً، حتى رفعه الله إلى سدّة الحكم في قصته المشهورة المذكورة في القرآن. ومن الذين كانوا ضحايا هذا النوع من الاسترقاق زيد بن حارثة، إذ كان صغيراً بعثه أهله مع قافلة ودفعوا أجره، فاستضعفه رجال القافلة لما بعدوا عن أهله، فباعوه في مكة رقيقاً، وظل كذلك حتى أعتقه رسول الله ولكنه بعد حريّته اختار أن يظل خادماً لرسول الله على أن يذهب مع أهله الذين عثروا عليه فيما بعد فطلبوه. ومنهم صهيب سَبَتْه الروم وهو غلام فنشأ بينهم، ثم ابتاعه منهم قبيلة كلب، فقدمت به مكة، فاشتراه عبد الله بن جدعان، وقد كان من المستضعفين المعذبين في الله. ومنهم زنوج الولايات المتحدة الأمريكية الذين سباهم تجار القراصنة، من سواحل إفريقية ونقلوهم كالبهائم إلى أمريكا الشمالية ليعملوا عبيداً أرقاء في مزارع ولاياتها، ضمن أسوأ الظروف الحياتية ذلاً وتعذيباً وإجهاداً بأعمال شاقة. وكان من وسائل الاسترقاق ارتكاب بعض الجرائم الكبيرة، كالقتل والسرقة والزنى، إذ كان يحكم على مرتكب أيٍ منها بالرق لمصلحة الدولة، أو لمصلحة المجني عليه، أو لمصلحة أهل المجني عليه. وكان من وسائله عجز المدين عن وفاء الدين الذي عليه، إذ كان يضرب عليه الرق ويملك لدائنه. وكان بعض الناس يبيعون أبناءهم أرقاء، ويبيعون بناتهم رقيقات بحكم سلطتهم عليهم، ليأخذوا أثمانهم، وكان يحدث كثير من هذا في الطبقات الفقيرة، وكانت الأنظمة العامة لدى كثير من أمم الأرض تسمح بذلك

وتبيحه، وتعطي نتائجه صفة الحق المحمي بالسلطان العام. وكان إذا اشتد الفقر أو الخوف ببعض الناس تنازلوا عن حريتهم لمن يكفيهم ويؤويهم ويحميهم. وكان من وسائل الاسترقاق تناسل الأرقاء، فكان ولد الجارية الرقيقة يولد رقيقاً ولو كان أبوه السيد نفسه. وجاء الإسلام فألغى بحزم معظم وسائل الاسترقاق السائدة بين الناس على اختلافها، ولكن لم يكن بوسعه أن يلغي نظام أسرى الحروب غير الداخلية، وما يستتبع ذلك من استرقاق غير مقصود لذاته، لأن إلغاء نظام الأسرى مرتبط بإلغاء الحروب نفسها، وبإلغاء دواعيها، وليس في استطاعة أيّ نظام أو أيّ مجتمع أن يلغي ذلك إلغاء تاماً، ما دام في العالم أنظمة ومجتمعات أخرى تضطره إلى أن يدخل معها في حروب، فتأخذ أسراه فتسترقهم ولا مندوحة له في مقابل ذلك إلا أن يعامل أسراهم بالمثل، ولكنّ الإسلام مع اضطراره إلى إجراء المعاملة بالمثل من جهة الصورة الظاهرة، قد ارتقى بمفهوم أسير الحرب مرتقى لم تبلغه أحدث الأنظمة التي تواضعت عليها شعوب العالم المتحضر في القرن العشرين. ويحاول أعداء الإسلام بعد كل هذا أن يطمسوا معالم مجد الإسلام بالكذب والمغالطة. جـ- الرقيق عند غير المسلمين: كان مثل الرقيق عند الرومان كمثل البهيمة، مسلوب الحقوق الإنسانية كلها، فكانوا يسخرونه في الأعمال الشاقة، وفي الحرب، وفي إرضاء أهوائهم الفاجرة الدنيئة، وكانوا يحصلون عليه عن طريق الغزو الذي لا هدف له إلا التسلط على الشعوب واستعبادها، أو عن طريق السلب والنهب والسرقة والقرصنة البحرية ونحو ذلك. وكانوا يصفدون الرقيق في الأغلال حتى لا يفرّ، ويكلفونه القيام بالأعمال الشاقة الثقيلة، والويل كل الويل له إذا هو توانى عن أداء الخدمة على

ما يشتهون، إن توانيه يعرّه لإنزال العذاب الشديد به. أما مساكن الرقيق عندهم فقد كان شبيهة بمغارات السجون القاتمة الكريهة، أو زرائب الحيوانات، أما الأسياد فلهم القصور الفخمة وكل وسائل الرفاهية والنعيم. وكان للرومان مهرجانات محببة إليهم، يشهدون فيها المبارزات الحقيقية بين الأرقاء، وفي هذه المبارزات تتوجه طعنات السيوف والرماح إلى المتبارزين. حتى يقع بعضهم صريعاً أو تنهكه الجراحة، وعند ذلك تمتلئ قلوب المشاهدين من الرومان مسرّة واغتباطاً بآلام العبيد. وعلى نحو ذلك كانت معاملة الرقيق في فارس والهند وغيرهما، حتى العرب فقد كان نظام الرقيق سائداً بينهم، وكان لديهم من الأرقاء عدد ولكنه دون ما لدى غيرهم من الشعوب. وتحدثنا الأنباء الصحيحة عن الأرقاء عند ظهور الإسلام، كيف كانوا يسامون على أيدي أسيادهم عذاباً شديداً إذا هم دخلوا في الإسلام، ومن الأمثلة صهيب الرومي، وعامر بن فهيرة، وبلال بن رباح الحبشي، وغيرهم، وقد كانوا من المستضعفين الذين يعذبون لأنهم أسلموا، أما عامر وبلال فقد اشتراهما أبو بكر رضي الله عنه من أوليائهما وأعتقهما، إنقاذاً لهما من العذاب، وقد فعل مثل ذلك أيضاً في عدد من الأرقاء الذين كانوا يعذبون في الله. أما اليونان فقد كانت المذاهب الفلسفية لديهم تصوغ المبررات الفكرية لنظام الرق. فمذهب أرسطو في الرق يقضي بأن فريقاً من الناس مخلوقون للعبودية، لأنهم يعملون عمل الآلات التي يتصرف فيها الأحرار ذوو الفكر والمشيئة، فهم آلات حية تلحق في عملها بالآلات الجامدة. وأفلاطون أستاذ أرسطو يقرر في جمهوريته الفاضلة أن العبيد ليسوا مواطنين، وهو يجبرهم على الطاعة والخضوع للأحرار. وقد شرعت الحضارة اليونانية نظام الرق العام - وهو لمصلحة الدولة - ونظام الرق الخاص - وهو لمصلحة الأفراد - والرقيق عندهم مسلوب جميع الحريات الإنسانية.

ولليهود باع واسع في الاسترقاق، إذ تحدثنا كتبهم الدينية عن مئات الجواري اللواتي كن رهن إشارة ملوكهم، في مختلف عصورهم. وأخبرنا القرآن أنهم أمعنوا في هذا المجال، وتجاوزوا حدود شريعة الله لهم، حتى بلغ بهم الأمر أنهم كانوا يقاتلون إخوانهم في الدين، ويأخذون منهم الأسرى ويطلبون منهم الفداء، قال الله تعالى مندداً بهم في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) : {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وتقول تعاليم المسيحية المدونة على لسان بولس في رسالته إلى أهل أفسس: "أيها العبيد أطيعوا سادتكم.... كعبيد المسيح عاملين مشيئة الله من القلب خادمين بنية صالحة". ومثل ذلك نجد في وصايا بطرس، وقد أوجب آباء الكنيسة على العبيد الطاعة، لأن الرق في نظرهم كفارة لبعض ذنوب البشر يؤديها العبيد. د- الرق في الإسلام: ولما جاء الإسلام ألغى معظم العناصر التي يقوم عليها مفهوم الرق، وألغى كل أسبابه إلا ما تقضي به ضرورة أسرى الحرب، وعمل على عتق الأرقاء بوسائل شتى في نظامه المثالي الرفيع. لقد ظهر الإسلام وجميع الشعوب المتحضرة وغير المتحضرة تقر نظام الرق بمختلف عناصره، وتقر مختلف الوسائل التي تفضي إلى الاسترقاق، فنظر إلى مفهوم الرق السائد بين الأمم فألغاه، ولم يبق منه إلا ما تدعو إليه ضرورة أسرى الحرب، حذر تآمرهم وخيانتهم من الداخل. ونظر إلى وسائل الاسترقاق المختلفة فألغاها كلها بحزم، إلا ما تدعو إليه ضرورة أسرى الحرب، التي تقوم بين المسلمين وغيرهم لأسباب لا يملكون دفعها.

وبهذه الطريقة الإسلامية تغير مفهوم الرق تغيراً كلياً عما كان عليه، وأصبح نوعاً من حجز حرية الأسرى، حذر أن يكونوا مصدر شغب وفتنة وخيانة وتآمر على المسلمين من داخل صفوفهم. وبهذه الطريقة سد الإسلام معظم المنابع التي كانت تمد نظام الرقيق السائد في العالم، ولكن ألجأته الضرورة التي ما تزال تلجئ في كل زمان ومكان أي نظام من الأنظمة الإنسانية الراقية إلى إبقاء نظام أسرى الحرب، ولكن نظر الإسلام إلى أسرى الحرب نظر تكريم بالإضافة إلى نظرة الحذر، وهذا ما ترشد إليه السياسة الحكيمة. ثم حرض الإسلام المسلمين تحريضاً شديداً على إعتاق الأرقاء وإطلاق حريتهم. وعز على القرآن الكريم أن يذكر كلمة واحدة يأذن فيها باسترقاق أسرى الحرب، وغاية ما قاله في شأن المحاربن لله وللرسول وللمؤمنين، ما جاء في سورة (الأحزاب/33 مصحف/90 نزول) : {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} وما جاء في سورة (محمد/47 مصحف/95 نزول) : {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ....} وما جاء في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول) : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وفي علاج مشكلة أسرى الحرب لا مندوحة من اللجوء إلى أحد الحلول التالية: الحل الأول: قتلهم والتخلص من مشكلتهم نهائياً، وقد يكون هذا هو

الحل الأسلم لأمة ناشئة ليس لها ثبات ورسوخ في الأرض. الحل الثاني: المن عليهم بإطلاق سراحهم، وقد وضع الإسلام هذا الحل في يد القيادة الإسلامية، وقدمه القرآن تقديماً يشعر بترجيحه، وتلجأ القيادة الإسلامية إلى هذا الحل إذا لم تر منه ضرراً على المسلمين، ولا سيما إذا رأته نافعاً في كسب صداقة الأسرى وذويهم، وجذب قلوبهم إلى الإسلام، فليس للإسلام غرض أساس في مقاتلة الناس وإذلالهم بين أيدي المسلمين، وإنما غرضه هداية الناس جميعاً إلى الحق والخير، وتفادي خطر المعادين قدر الإمكان. الحل الثالث: فداؤهم بأسرى من المسلمين في يد عدوهم، أو فداؤهم بمال أو سلاح أو علم، أو إخضاع لشروط صلح معينة، أو أي أمر يقدم للمسلمين فائدة ما، وذلك إذا لم تجد القيادة الإسلامية في إطلاق الأسرى خطراً على المسلمين، وقد وضع الإسلام هذا الحل في يد القيادة الإسلامية. الحل الرابع: استبقاؤهم أسرى تحت أيدي المسلمين، وذلك حينما يكون المنّ عليهم أو فداؤهم يتضمن خطراً على المسلمين بشكل عام، وقد وضع الإسلام هذا الحل في يد القيادة الإسلامية أيضاً، وأذن لها أن تختاره ضمن حدود المصلحة العامة الدينية أو السياسية أو العسكرية أو الاجتماعية. ومضمون هذا الحل هو ما اضطر الإسلام إلى عدم إلغائه من الأنظمة التي تجعل الأسير الذي هو قيد الأسر محجوز بعض الحريات المدنية فقط. ولا تخلو حال أسرى الحرب - حينما لا تكون المصلحة بالمن عليهم أو افتدائهم - من أن يكونوا تحت الرقابة الدقيقة، لئلا يكونوا مصدر فتنة وشغب وخيانة وتآمر على المسلمين من داخل صفوفهم. وهذا يستدعي أن لا يمنحوا جميع حرياتهم المدنية، وليس أمام الجهة التي أسرتهم إلا طريقان: الطريق الأولى: أن يحتجزوا داخل سجون جماعية يقدم لهم فيها طعام خاص بهم، مع الاحتفاط بكرامتهم الإنسانية من أن يكونوا عرضة للإهانة والتعذيب، وقد يضاف إلى ذلك تكليفهم القيام ببعض الأعمال النافعة، التي

تشغل أوقاتهم، وتستغل طاقاتهم، وتكون رياضة لأجسامهم. وهذا حل من الحلول التي يضعها الإسلام بين يدي القيادة الإسلامية، لها أن تختاره إذا وجدت فيه مصلحة للمسلمين وللأسرى ولأهداف الدعوة الإسلامية. أما تعريضهم للإهانة والتعذيب، وتقتير النفقة، وتكليفهم الأعمال الشاقة - وهو ما تمارسه دول كثيرة متحضرة - فهذا أمر لا يسمح به الإسلام. الطريقة الثانية: أن لا يحتجزوا داخل سجون جماعية، بل يوزوعون على الأسر الإسلامية، ويكونون جزءاً من كيانها، يأكلون مما تأكل، ويشربون مما تشرب، ويلبسون مما تلبس، ويزوج رجالهم من نسائهم، وقد تكرم الأسيرة فتكون كإحدى زوجات مولاها، رعاية لحاجتها الطبيعية إلى زوج، وسبيلاً إلى تحريرها إذا حملت منه، وتكلف كل أسرة النفقة على من لديها من الأسرى، ومراقبته حذر خيانته وتآمره، ولها في مقابل ذلك أن تكلفه من الأعمال ما يحسن ويطيق من غير إعنات ولا إثقال. وبهذه الطريقة يتسنى لهؤلاء الأسرى من غير المسلمين أن يطلعوا على نظام الإسلام، والأخلاق الإسلامية، وعقيدة المسلمين وعبادتهم وحسن معاملتهم. وتمنح للأسرى حرية الدين والعبادة والتعلم، وقد تمنح لهم حرية العمل والتملك إذا أذن لهم أولياؤهم بذلك، أو كاتبوهم لتحرير أنفسهم بما يكسبون من مال. وقد وضع الإسلام هذا الحل بين يدي القيادة الإسلامية، فلها أن تختاره إذا وجدت فيه مصلحة وخيراً للإسلام والمسلمين، ومصلحة للأسرى نفسهم. وقد ألح الإسلام مع ذلك على تحرير الأسرى، وأوجب في كثير من الحالات تحرير من آمن منهم وصلح واستقام. ويظهر أن الإسلام في هذا قد اختار أن يضع الأسرى موضع تكريم في

مجالات تربوية راقية، تزيل ما في قلوبهم من غل وحقد على الإسلام والمسلمين، وتحببهم بهذه الرسالة الربانية، حتى يدخلوا فيها. فإذا آمنوا وصلحوا واستقاموا توجه نداء الإسلام لأوليائهم: أن أعطوهم داخل المجتمع الإسلامي حرياتهم السياسية والمدنية، التي كانت محتجزة عنهم لصالح الأمن العام، وهذا لون من ألوان منح الجنسية التي يكونون فهيا مواطنين أحراراً داخل بلاد المسلمين. وبهذا التدبير يجعل الإسلام المسلمين كلهم حكومة قائمة، فهم يمنحون الجنسيات لمن يرون فيهم صلاحاً من الذين كانوا بالأمس محاربين ووقعوا تحت الأسر. ولم يفرض الإسلام تحرير كل من تظاهر بالإسلام من الأسرى، خشية أن يتخذ الأسرى ذلك ذريعة لكسب حريتهم، وانطلاقهم داخل المجتمع الإسلامي أحراراً يدبرون المؤامرات على المسلمين، وهم في مأمن من الرقابة. وقد أحاط الإسلام هذا الحل بتربية إسلامية واسعة، توجب على المسلمين أن يحسنوا معاملة الأسرى، وأن يجعلوهم كأفراد أسرهم، وأن لا يضربوهم، ولا يهينوهم، ولا يعذبوهم، ولا يشتموهم، ولا يكلفوهم من الأعمال ما يغلبهم، وتوجب على المسلمين أن يطعموهم مما يأكلون ويلبسوهم مما يلبسون. وبهذه التربية الإسلامية العظيمة صار كثير من الموالي الأسرى من كبار علماء المسلمين وفقهائهم، ومن كبار صلحائهم، واتسع الأمر بعد ذلك فكان المماليك هم قادة الحكم في بعض عصور التاريخ الإسلامي، وكان من خلفاء المسلمين من أمهاتهم كن أسيرات. فهل في هذا الحل الإسلامي إلا التكريم البالغ للأسرى من الأعداء المحاربين، وتخفيف حدود سلب حريتهم إلى المستوى الذي تقضي به ضرورة الأمن، مع منحهم حرياتهم الأخرى؟ وهل تفسح دولة من دول الأرض في العالم المتحضر الحديث مجالاً مثل هذا المجال لأسراها؟ أم تضعهم في سجون الإهانة والتعذيب والتقتير في

حاجات العيش والحرمان من ضرورات أخرى، مع تكليفهم ما يشق من الأعمال؟ لقد ظهر تشريع الإسلام هذا يوم كان الرق منتشراً في العالم، ويوم كان الأسرى يسامون كل خسف وتعذيب وتسخير في الأعمال الثقيلة الشاقة. وهل عمل في بناء الآثار الخالدة لممالك القرون الأولى غيرهم، وسياط العذاب تلهب ظهورهم وبطونهم؟. هـ- الوسائل التي اتخذها الإسلام لتحرير الأرقاء: اتخذ الإسلام عدة وسائل لتحرير الأرقاء، ويلاحظ الباحثون فيها أنها كانت وسائل عملية لإلغاء نظام ملك اليمين بشكل فعلي تدريجي. الوسيلة الأولى: المكاتبة، وتعني المكاتبة إعطاء محجوز الحرية بالأسر فرصة زمنية يعمل خلالها بشكل حر، إذ ترفع عنه فيها جميع القيود الاقتصادية التي كانت مفروضة عليه، ليشتري حرية نفسه بمال يتفق هو وسيده عليه، ويسعى في اكتسابه خلال هذه المدة، ونلاحظ أن الله تبارك وتعالى أمر المسلمين عامة بمساعدة المكاتبين، عن طريق الزكاة والصدقات الأخرى، ليتمكنوا من تسديد ما التزموا به. وقد نص كثير من الفقهاء على أنه يجب على السيد مكاتبة عبده، إذا طلب ذلك منه، وراى فيه خيراً من صدق ووفاء وأمانة وأداء للحق، وإيمان صحيح، ودليلهم في ذلك من القرآن الكريم قول الله تعالى في سورة (النور/24 مصحف/102 نزول) : {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ....} ففي هذه الآية أمر لأوليائهم بمكاتبتهم، وأمر لأوليائهم ولسائر المسلمين بإيتائهم من مال الله الذي آتاهم، مساعدة لهم على تسديد أقساطهم التي يتوقف عليها تحريرهم.

الوسيلة الثانية: جعل عتق الرقبة كفارة لطائفة من الجرائم والجنايات والأخطاء والأيمان، إذ نلاحظ في الشريعة الإسلامية أن عتق الرقبة كفارة لمن قتل مؤمناً خطأ، قال الله تعالى في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول) : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} ونلاحظ أيضاً أن عتق الرقبة كفارة من ظاهر من زوجته، أي: حرمها على نفسه كحرمة أمه أو أخته أو غيرهما من محارمه، بأن حلف يمين الظهار منها، ثم أراد أن يعود لما قال بالنقض، فيرجع زوجته إلى حكمها الذي شرعه الله من الحل، وفي ذلك يقول الله تعالى في سورة (المجادلة/58 مصحف/105 نزول) : {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ونلاحظ أيضاً أن عتق الرقبة إحدى كفارات اليمين، وفي ذلك يقول الله تعالى في سورة (المائدة/5 مصحف/112 نزول) : { لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الوسيلة الثالثة: الحض على عتق الرقاب ابتغاء مرضاة الله، قال الله تعالى في سورة (البلد/90 مصحف/35 نزول) :

{فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} وروى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: "أيما رجل أعتق امرأً مسلماً استنقذ الله تعالى بكل عضوٍ منه عضواً منه من النار". الوسيلة الرابعة: تخصيص الإسلام قسماً من الزكاة لتحرير الرقاب، قال الله تعالى في سورة (التوبة/9 مصحف/13 نزول) : {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} الوسيلة الخامسة: حثُّ المسلمين على توجيه قسم من صدقاتهم العامة غير المفروضة لتحرير الرقاب، قال الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} الوسيلة السادسة: إنجاب الأمة من سيدها، إذ يكون ولدها سبباً في تحريرها بعد موت سيدها. الوسيلة السابعة: سريان العتق إلى الكل متى عتق بعض الرقيق إذا كان معتقه موسراً، كأن يكون اثنان شريكين في عبد، فيعتق أحدهما حصته، وعندئذ يحكم الإسلام بأنه قد عتق كله، وتقوم قيمة سائره على من أعتقه، حرصاً على أن لا تتجزأ الحرية.

الوسيلة الثامنة: جعل عتق الرقيق كفارة ضربه مقدار حدٍ شرعي، أو كفارة إهانته باللطم. روى الإمام مسلم عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله يقول: "من ضرب غلاماً له حداً لم يأته أو لطمه فإن كفارته أن يعتقه". و الأمر بحسن رعاية الأسرى: وقد أمر الإسلام بالإحسان إلى الأسرى وتكريمهم، ونهى عن إهانتهم وتعذيبهم وشتمهم وتعييرهم نهياً شديداً، وشدد النكير على ما كانت تفعله الجاهلية من استخدام الإماء في البغاء للاستفادة من أجورهن، وبلغ الإسلام في حيث المسلمين على بذل ما يحتاج إليه الأسرى في حياتهم مبلغاً لم تصل إليه أكثر قوانين الدنيا وأنظمتها رحمة بالأسرى وتكريماً لإنسانيتهم، إذ أمر بتزويجهم، وجعل هذا الأمر مقترناً بالأمر بتزويج الأيامى من الأحرار، والأيامى هم غير المتزوجين من الرجال والنساء، قال الله تعالى في سورة (النور/24 مصحف/102 نزول) : { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} ويصف الله الأبرار فيجعل من صفاتهم أنهم يطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً، قال الله تعالى في سورة (الإنسان/76 مصحف/98 نزول) : {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} وارتقى الإسلام إلى مستَوى التهذيب اللفظي الراقي في رعاية مشاعر العبيد والإماء، روى البخاري عن أبي هريرة أن النبي قال: "لا يقل أحدكم عبدي أمتي، ولكن فتاي وفتاتي وغلامي". وهذا الذي استعمله القرآن ليوجهنا لاستعمال اللفظ المهذب في الحديث عنهم، ففي معرض النهي عما

كانت تفعله الجاهلية من إكراه الإماء على البغاء، قال الله تعالى في سورة (النور/24 مصحف/102 نزول) : {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي: غفور لهن رحيم بهن، لأنهن قد أكرهن على ذلك من قبل أسيادهن. واستعمل القرآن عبارة الفتيات كناية عن الإماء، وعبارة الأهل كناية عن سادتهن في معرض الإذن للأحرار بأن يتزوجوا من الإماء، إذا لم يستطيعوا أن يتزوجوا من الحرائر، قال الله تعالى في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول) : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ....} فقد اختار القرآن هاتين العبارتين المهذبتين تكريماً للإماء حتى في اللفظ. ومن النصوص التي جاء الأمر فيها بالإحسان إلى الأرقاء قول الله تعالى في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول) : {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} وروى الإمام مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: "للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق". وروى البخاري ومسلم عن أبي ذرّ قال: قال رسول الله: "إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما

يأكل وليلبسه مما يلبس ولا يكلفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه". وروى مسلم عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، أن رسول الله قال: "من ضرب غلاماً لهحداً لم يأته أو لطمه فإن كفارته أن يعتقه". وروى مسلم عن أبي مسعود الأنصاري قال: كنت أضرب غلاماً لي، فسمعت من خلفي صوتاً: "اعلم أبا مسعود لله أقدر عليك منك عليه" فالتفت فإذا هو رسول الله فقلت يا رسول الله: هو حر لوجه الله، فقال: "أما لو لم تفعل للفحتك النار أو لمسّتك النار". وروى عن النبي أنه قال: "من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه، ومن أخصى عبده أخصيناه". ويريد الرسول أن يؤدب بعض غلمانه فيخاف من القصاص، فيقول له وقد أغضبه: لولا خشية القصاص لأوجعتك ضرباً بهذا السواك. ومع أن السواك عود صغير فإن الرسول لم يضرب غلامه به، إكراماً لإنسانيته وخوفاً من القصاص يوم القيامة. وروى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله: "ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد، والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت له أمة فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران". وهكذا بلغت تعاليم الإسلام إلى مجد لا تستطيع أية جهة معادية له أن تنال منه نيلاً، إلا تهماً وافتراءات ومغالطات، لا تلبث أن تكذبها الحقيقة، ويكشف زيفها الواقع المشرق. * * *

الفصل السابع شبهات حول حقوق المرأة في الإسلام

الفصْل السّابع شُبهَاتٌ حَوْلَ حُقُوق المَرأةِ في الإسْلاَم

شُبهَاتٌ حَوْلَ حقوق المرأة في الإِسلام وأطلق أعداء الإسلام شبهات متعددة حول حقوق المرأة في الإسلام، ومكانتها في المجتمع المسلم، ويكفينا لدفع شبهاتهم أن نقدم دراسة تحليلية لحقوق المرأة في الإسلام، ولمكانتها في المجتمع المسلم، مع مقارنة ذلك بما لدى مطلقي هذه الشبهات وغيرهم من الناس. أ- تنوع الخصائص والاستعدادات الفطرية ومقتضياتها: على الرغم من كل الزوابع المصطنعة، التي يجلب رياحها وموادها ويثيرها أعداء الإسلام، حول موضوع المرأة وحقوقها ومساواتها بالرجل مساواة تامة، يجد الباحثون عن أحوال المرأة في الإسلام صوراً رائعة من صور العدل والتكريم والإنصاف، فلم يحرمها الإسلام حقاً يقتضيه تكوينها الفطري، ولم يكلفها واجباً لا تطيقه، ولم يبعدها عن دائرة المسؤولية الشخصية والمسؤولية الاجتماعية، ولم يجعلها بمعزل عن التمتع بالحقوق المدنية التي تؤهلها لها استعداداتها الفطرية الذاتية، وظروفها الاجتماعية. إلا أنه لما كان للمرأة طائفة من الخصائص الجسدية والنفسية، تخالف فيها من بعض الوجوه الخصائص الجسدية والنفسية الممنوحة للرجل بوجه عام، كان من كمال نظام الإسلام أن يلاحظ هذه الخصائص، ويقرر لها طائفة من الأحكام تناسبها، لأن التسوية في الأحكام من كل وجه مع الاختلاف في الخصائص نقص لا ترتضيه العقول السليمة، فضلاً عن أن تقبل به الشرائع الربانية الحكيمة.

ومن يلتزم هذه التسوية من كل الوجوه طرداً وعكساً، يجب عليه حينما يضع الأنظمة الوضعية، أن يقرر منح الرجل إجازة أبوة كما يقرر منح المرأة إجازة أمومة، وأن يلغي في التعليم مبدأ التخصص بحسب الاستعدادات الفطرية، ويجعل النساء والرجال جميعاً شركاء في الفنون النسوية وفي صناعات الحدادة والنجارة والأعمال الثقيلة الشاقة، وأن يحمل المرأة المسؤولية الكسب والنفقة كما يحمل الرجل، ويحمل الرجل مسؤولية إرضاع الأطفال وتدبير شؤونهم، وأن يهمل القوامة في الأسرة ويجعلها نزاعاً مستمراً بين الرجل والمرأة، أو يجعلها على التناوب اليومي أو الأسبوعي أو الشهري أو نحو ذلك من الأمور التي تضطرب فيها الحياة، ويفسد فيها نظام المجتمع الإنساني وجماله. إن فكرة التسوية التامة في كل الأمور بين الرجل والمرأة، قد يروج لها مضلل يحاول أن يفسد أوضاعاً اجتماعية سليمة، ولكن لا يطيقها على نفسه أو أمته إنسان عاقل يفهم الخير، ويريده لنفسه ولأمته. والحكمة الراقية لا بد فيها من ملاحظة بعض الفروض التنظيمية، المناسبة للفروق التكيوينية بين كل من صنفي الرجال والنساء، وهذا ما سلكه الإسلام. وأخذاً بهذا الأساس السليم، يرى التربويون من الخطأ البالغ إلزام الطالب بنوع من الدراسة، في حين أنه لا تتوافر لديه الأهلية الكافية ليكون بارعاً فيها، بينما لديه استعداد مناسب لدراسة من نوع آخر يمكن أن يكون فيها بارعاً لو حول جهده إليها. ونظرتهم هذه تستند إلى الحرص على تحقيق الإنتاج الأفضل الذي تستغل فيه الخصائص أحسن استغلال، بالموازنة الدقيقة بين الاستعدادات والأهداف المرجوة، فليس من الحكمة أن يكلف من لديه استعداد عال للحفظيات، أن يكون عالماً بارعاً بالحساب والهندسة والجبر والرياضيات العالية التي ليس لديه ميل إليها، ولا استعداد ليكون بارعاً فيها. وأخذاً بهذا الأساس أيضاً، اتجه الباحثون الزراعيون إلى دراسة أنواع الأتربة الموزعة في الأرض، وإرشاد المزارعين في كل منها إلى أنواع الزراعات

التي يكون نجاحها فيها أكثر من نجاح أنواع أخرى، ابتغاء تحقيق الإنتاج الأفضل، وساتثمار الأرض أحسن استثمار، وقد انتهى الدور الذي كانت تزرع فيه كل أنواع الزراعات في أي نوع من أنواع التربة. فما بال دعاة التسوية التامة بين الرجل والمرأة يحاولون أن يرجعوا بالناس إلى الوراء، فيدفعوا كلاً من الرجل والمرأة إلى المشاركة في كل مهمة من مهمات الحياة، سواء أكانت مناسبة للتكوين الفطري أو غير مناسبة، وسواء أكانت ملائمة لخصائص الصنف أو لم تكن ملائمة له؟! إنهم يحاولون بهذا أن يخلطوا المجتمع الإنساني خلطاً تضيع فيه الحكمة، وتحرم فيه الخصائص من تلبية مطالبها الفطرية، وتصبح الحياة معه مكفهرة كالحة، إذ تصاب النفوس من جراء ذلك بالتذمر، والسأم، والكراهية، والظمأ الروحي والنفسي إلى نفحات السعادة التي لا تمر في أجواء مشحونة بالنفور والإحساس بعدم الملاءمة. هؤلاء هم الرجعيون حقاً، الذين ينادون بالرجعة الفكرية والنفسية والروحية، الفردية والاجتماعية، إلى المنحدرات من دون القمم. ب-الإسلام ينقذ المرأة من مفاهيم الناس وظلمهم لها: إنهم لا يريدون الخير للمرأة، ثم يظلمون الإسلا حين يشككون به، ويحرضون المرأة على التحرر من أنظمته، طلباً لوضع أفضل لها من الوضع الذي كرّمها الإسلام به. ألا فليعلم النساء أن المرأة كانت محل جد بين العلماء، وبين الفلاسفة، وبين أصحاب الملل والنحل، حول مسائل تتعلق بها، إذ تدور بحوثهم حول ما يلي: 1- هل للمرأة روح أو ليس لها روح؟ 2- إذا كانت لها روح فهل هي روح إنسانية أو روح حيوانية؟ 3- وعلى ارتفاض أنها ذات روح إنسانية، هل وضعها الاجتماعي والإنساني بالنسبة إلى الرجل كوضع الرقيق، أو شيء آخر أرفع قليلاً من الرقيق؟

4- ثم هل هي ذات روح خبيثة شيطانية خلقت للإفساد والإغواء أو ماذا؟ وحينما كانت المرأة محل جدال حول هذه المسائل المتعلقة بها كان الإسلام ينادي بأن النساء شقائق الرجال، وأن الأصل التكويني للرجال والنساء واحد، فالإنسان بدأ وجوده منذ خلق الله آدم، ومن آدم خلق الله الشطر الثاني للإنسان فاجتمع منهما زوجان، ثم بث الله منهما عن طريق التناسل المتتابع إلى أن تقوم الساعة ذكراناً وإناثاً، في سلسلة متكاثرة، وفق مشيئة الله وحكمته، وسنته التي أراد أن يخلق عن طريقها الأحياء في هذه الأرض جيلاً بعد جيل. ومن لطيف إشارات الله في قرآنه أنه بدأ سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول) بقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً....} . أفلسنا نلاحظ أن الله يعلن أن الأصل التكويني للناس ذكوراً كانوا أو إناثاً هو أصل واحدة، وهي التي خلق منها زوجها، ولا يؤثر في وحدة النفس أن أحد الصنفين يمتاز ببعض الخصائص التي تتلاءم ومهماته ووظائفه في الحياة، وأن الصنف الآخر يمتاز ببعض خصائص أخرى تتلاءم ومهماته ووظائفه، ليتكامل الشطران في تأدية وظائف النفس الإنسانية في هذه الحياة الدنيا. إن إعلان الإسلام لهذه الحقيقة - في الوقت الذي لم تكن المرأة فيه إلا مخلوقاً للمتعة أو الخدمة عند مختلف أمم الأرض، باستثناء حالات نادرة لا تعطي صورة قاعدة ثابتة - لهو كافٍ في إثبات أن الإسلام شريعة ربانية، تحكم بالعدل. بخلاف الأنظمة الإنسانية، التي ينحاو فيها واضعوها ذات اليمين أو ذات الشمال وفق أهوائهم، ليمنحوا أنفسهم والنصف الذي هم بعض أفراده من الميزات والخصائص ما يجعلهم سادة وآلهة، ويجعل الصنف الآخر بين أيديهم محكوماً حكم الرقيق المهان.

وقد كرر القرآن الإعلان عن هذه الحقيقة في مناسبات متعددة، منها قول الله تعالى في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول) : {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} . فالنفس الواحدة التي كان منها الإنشاء هي نفس آدم، ثم تسلسل الإنشاء ما بين مستقر ومستودع، فظهور الآباء مستقر الذريات، وأرحام الأمهات مستودعها، ولا يتبصر بدقائق هذا التكوين الرباني إلا قوم يفقهون، أي: يتعمقون بالبحث عن المعرفة الدالة على عظيم حكمة الله وقدرته. ومنها قول الله تعالى في سورة (الأعراف/7 مصحف/39 نزول) : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا....} . فأضاف سبحانه وتعالى في هذه الآية معنى السكن الدال على أنه بحكمته قد جعل في المرأة من الخصائص ما يحببها لنفس الرجل حتى يسكن إليها. ألا فلتطمئن النساء إلى التكريم العظيم الذي كرمهن به الإسلام، إذ أعلن بصريح نصوصه أنهن مع الرجال من نفس واحدة، فالعنصر التكويني لكل منهما واحد، إلا أن الرجال تفردوا ببعض خصائص تناسب المهمات والوظائف المهيئين للقيام بها، وأن النساء تفردن ببعض الخصائص التي تناسب المهمات والوظائف المهيئات للقيام بها، وكمال كل من الصنفين يكون باستيفائه لخصائص صنفه، فلا يكمل الرجل ما لم لم تكمل ذكورته، ولا تكمل المرأة ما لم تكمل أنوثتها، وأخذ كل منهما من خصائص الآخر نقص مشين له، ما لم يتحول نهائياً إلى الصنف الآخر. والذين يريدون من المرأة أن تنافس الرجل في خصائصه إنما يدفعونها إلى أقبح حالات النقص التي تعتري بعض النساء، ومحرضو المرأة حتى تتجاوز واقعها التكويني، ومهماته التي اصطفاها لها الإسلام بحسب خصائصها، إنما يريدون منها أن تركع لأهوائهم وأنانياتهم، وتقع في الفخاخ التي نصبتها لصيد

النساء عوامل شح نفوسهم التي تجعلهم يكزون عن كفالة المرأة ورعايتها والنفقة عليها، ويتذمرون من الإسلام، لأنه كرم المرأة وصانها، واختار أن يخفف عنها أعباء الكسب، لتتفرغ لأعباء تهيئة الحياة السعيدة في منزلها، دون أن يمنعها منه إذا اختارته هي لنفسها. ويتغنى بعض أعداء الإسلام بالجاهلية العربية، وهم يلمزون في الوقت نفسه أحكام الشريعة الإسلامية المتعلقة بالمرأة، زاعمين أن الإسلام انتقصها من حقها بعض ما يريدون دفع المرأة المسلمة إليه، ليفسدوها ويفسدوا المجتمعات الإسلامية بها، مع أن الإسلا حينما جاء قلب المفاهيم السائدة في المجتمعات العربية المتعلقة بالمرأة قلباً جذرياً، نشأ عنه تحول عجيب لصالح مجد المرأة وكرامتها، وعلمها، وجوانب إنسانيتها المختلفة. أما واقع المرأة في الجاهلية فقد كان في معظم أحواله واقعاً يرثى له بحق، إذ كانت عرضة للتسخير والإهانة والحرمان من جهة، ومحلاً لمتعة الرجل مع إحقار وازدراء لها من جهة أخرى. ولم يكن حالها في كثير من أمم الأرض وشعوبها بأحسن من حاله عند أهل الجاهلية من العرب. فبين الخوف من عار سبيها والأنفة من تزويجها في غيرة سخيفة منتنة، والفرار من أعباء النفقة عليها، كانت الإناث في المجتمع العربي الجاهلي قد يتعرضن للقتل الشنيع عن طريق الوأد أو غيره، وذلك من قبل أوليائهن آبائهن أو إخانهن أو غيرهم، دون أ، يجدن من ينصرهن فيما يتعرضن له من ظلم شنيع، وعدوان على حقهن في الحياة فظيع. وهذا ما جعل معظم العرب الجاهليين يكرهون الإناث من مواليدهم كراهية شديدة، فإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً من شدة ألمه، كاظماً غيظه لأنه لا يجد من ينتقم منه، يتوارى من القوم من سوء ما بُشر به، حتى لا تتوجه إليه نظرات الشامتين به من قومه، أو المشفقين عليه. وكانوا بين رجلين: رجلٍ تأخذه الشفقة فيبقي الأنثى التي ولدت له،

وهو كاظم غيظه وحزنه غير رافع الرأس في المجتمع الجاهلي، ورجلٍ تضرب في رأسه الجاهلية المنتنة، فيتخلص من الأنثى الت يولدت له واستأمنه الله عليها، بأن يدسها في التراب وهي على قيد الحياة فيقتلها، وهذا هو الوأد الجاهلي. ولقد صوّر القرآن هذه الحالة التي كان عليها العربي قبل الإسلام بقوله تعالى في سورة (النحل/16 مصحف/70 نزول) : {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} . كيف يفرقون بين الذكر والأنثى هذا التفريق، وهما شطرا النفس الإنسانية دون أن يكون لهم في ذلك سند من العقل أو سنة الحياة وطبيعتها؟! لو تبصروا قليلاً لعرفوا أن حكمة الله وقاعدة التكوين اقتضتا أن تنشأ الحياة بل المخلوقات كلها من زوجين اثنين، ذكر وأنثى، قال الله تعالى في سورة (الحجرات/49 مصحف/106 نزول) : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . وقال تعالى في سورة (الرعد/13 مصحف/96 نزول) : {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ} . وقال تعالى في سورة (الذاريات/51 مصحف/67 نزول) : {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} . فمحا الإسلام بذلك مفاهيم الجاهلية، وأوضح للناس أن الذكور والإناث على صعيد واحد بين يدي الابتلاء الرباني في هذه الحياة، وأ، أكرم الناس عند الله أتقاهم. وحرّم ظلم المرأة تحريماً شديداً، وندد بوأد البنات تنديداً بالغاً، فقال الله تعالى في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول) : {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} .

وقال تعالى في سورة (التكوير/81 مصحف/7 نزول) : {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} . وكانت دوافع وأد البنات في الجاهلية ثلاثة: الدافع الأول: مخافة تعرّض أوليائهن للعار إذا سُبين في الحروب أو الغزوات. الدافع الثاني: الأنفة من تزويجهن بغيرة سخيفة منتنة. الدافع الثالث: التخلص من النفقة عليهن بسبب الفقر الحاصل، أو مخافة وقوع الفقر في المستقبل بسبب النفقة عليهن. عن قتادة في تفسير قول الله تعالى في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول) : {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ....} قال: هذا صنع أهل الجاهلية، كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السباء والفاقة، ويغذو كلبه. وقد نهى القرآن عن قتل الأولاد من الفقر الحاصل أو خشية وقوع الفقر في المستقبل في آيتين: الأولى: قول الله تعالى في سورة (الأنعم/6 مصحف/55 نزول) : {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ....} والثانية: قوله تعالى في سورة (الإسراء/17 مصحف/50 نزول) : {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} . والإملاق هو الفقر، والمقصود بالأولاد البنات بالدرجة الأولى، لأن هذا كان من عادة بعض العرب في عصور الجاهلية. ومن روائع البيان القرآني أن الله تعالى قال في سورة (الأنعام) : {نحن نرزقكم وإياهم} عقب النهي عن

قتل الأولاد من الفقر الواقع، وذلك حينما يكون الولي هو المسؤول عن النفقة على أولاده وأما في سورة (الإسراء) فعكس الترتيب، فقال تعالى: {نحن نرزقهم وإياكم} إذ كان ذلك عقب النهي عن قتل الأولاد خشية حصول الفقر في المستقبل، وعكس الترتيب في آية (الإسراء) يشعر باحتمال أن يكبر الأولاد قبل حصول الفقر، وحينئذ يكونون هم المرزوقين الذين ينفقون على أوليائهم وبذلك يكونون سبباً للكفاية أو الغنى، لا سبباً لحصول الفقر الذي يخشى أن يكونوا سبباً فيه. وفي صور الوأد الذي عرفته البيئات الجاهلية جاءت عدة آثار: فعن عكرمة في تفسير قول الله تعالى: {قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم} قال: نزلت فيمن كان يئد البنات من مضر وربيعة، كان الرجل يشترط على امرأته أن تئد بنتاً وتستحيي أخرى، فإذا جاء دور التي توأد غدا من عند أهله أو راح، وقال: "أنت علي كأمي إن رجعت إليك ولم تئديها" فترسل إلى نسوتها فيحفرن لها حفرة فيتداولنها بينهن، فإذا بصُرنَ به مقبلاً دسسنها في حفرتها ويسوّين عليها التراب. وعن ابن عباس قال: كانت الحامل إذا قربت ولادتها حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة، فإذا ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة، وإذا ولدت ولداً حبسته، وكانوا يفعلون ذلك لخوف لحوق ال عار بهم من أجلهن، أو خوف الإملاق، كما قال تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} . وذكر المؤرخون أنه قد افتن العرب في ظلم البنات وإهانتهن، فمنهن من كان إذا ولدت له بنت ألبسها جبة من صوف أو شعر وأرسلها في البادية ترعى إبله، وإن أراد أن يقتلها تركها، حتى إذا بلغت من العمر ست سنوات، قال لأمها: طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها، وقد حفر لها بئراً في الصحراء، حتى إذا بلغها قال لها: "انظري فيها" ثم يدفع من خلفها ويهيل عليها التراب، حتى تسوّى البئر بالأرض، ومنهم من كان يفعل ما هو أنكى من ذلك وأقسى. وقد ذهب في هذا الوأد ضحايا كثيرات من الإناث البريئات، حتى جاء

الإسلام فرفع الظلم عنهن وأعطاهن كامل حقوقهن. عن قتادة قال: جاء قيس بن عاصم التميمي إلى النبي فقال: إني وأدت ثماني بنات في الجاهلية، قال: "فأعتق عن كل واحدة منهن رقبة" قال: يا رسول الله، إني صاحب إبل، فقال له: "أهد عن كل واحدة منهن بدنة إن شئت". وهكذا كانت حال المرأة في الجاهلية، أما في الأمم الأخرى فقد أدركنا إلى عهد قريب أن من العار على المرأة الهندوسية أن لا تحرق نفسها في النار التي تحرق فيها جثة زوجها المتوفى. وتمر القرون ويظل نظام الإسلام محتفظاً بقمة المجد التي دعا الناس إليها، بكل مواده، مهما حاول أعداء الإسلام تشويه صورته الرائعة بالمطاعن والمغامز، أو بالزيادات المضرة التي يتجاوزون فيها حدود المصلحة الإنسانية، والحكمة التي تقتضيها فطرة التكوين البشري. فما بال الذين يتغنون بالجاهلية العربية، ويلمزون الإسلام، لا ينظرون إلى هذه الحقائق التي ترشدهم إلى سواء السبيل؟ أسرهم أن تعميهم كراهيتهم للإسلام، وتبعيتُهم لأجنحة المكر المختلفة، عن معرفة الحقيقة البينة، والإذعان لها والتسليم بها؟؟ جـ- مسؤولية المرأة الدينية: يقرر نظام الإسلام أن المرأة كالرجل مسؤولة مسؤولية كاملة عن الأمور الدينية تجاه ربها، وتجاه المجتمع الإسلامي، وأن حكمها حكم الرجل في الإيمان والكفر، والطاعة والمعصية، والثواب والعقاب، فهي مخلوق مكلف، لأنها مزوّدة بكل العناصر التي تؤهلها للتكليف، وهذه العناصر هي: 1- العقل الذي تدرك فيه خطابات التكليف، ودلائله التي أقامها الله في كونه، وتدرك فيه الحق والباطل، والخير والشر، والمفاسد والمصالح، والقبح والجمال. 2- الإرادة الحرة التي يناط بها التكليف.

3- طائفة من القوى الجسدية والنفسية والفكرية تستخدم في تنفيذ أوامر التكليف ونواهيه. والمرأة في مجال التكليف مثل الرجل سواءً بسواء، لا تكلف إلا وسعها، ويشملها ويشمل الرجل معاً عبارة النفس الواردة في نصوص قرآنية كثيرة، كقول الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) : {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} . وقوله تعالى في سورة (الطلاق/65 مصحف/99 نزول) : {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} . وقوله تعالى في سورة (الأعراف/7 مصحف/99 نزول) : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . وقوله تعالى في سورة (المؤمنون/23 مصحف/39 نزول) : {وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ} . من أجل ذلك كانت مسؤولة عن إعلان الإسلام، وهي في ذلك تقف مع الرجل في مرتبة واحدة، وتعامل مثل معاملته، ومتى أعلنت إسلامها فنطقت بالشهادتين عصمت دمها ومالها إلا بحق الإسلام وحسابها على الله تعالى، وإذا ارتدت أصابتها جميع أحكام المرتدين دونما تفريق أو تمييز، لأن وسعها في هذا المجال مثل وسع الرجل. والمنافقات من النساء كالمنافقين من الرجال، والمشركات منهن كالمشركين منهم، والكوافر منهن كالكفار منهم، يستقبلون جميعاً عند الله نصيبهم من العذاب، قال الله تعالى في سورة (الأحزاب/33 مصحف/90 نزول) : {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} .

وقال الله تعالى في سورة (الفتح/48 مصحف/111 نزول) : {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً * وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} . فالنساء والرجال بين يدي أركان العقيدة الإسلامية سواء تكليفاً وجزاء، ولولا تقرير الإسلام أن الصنفين مستويات من حيث العموم في تزويدهما بعناصر التكليف لما جعلهما الإسلام على صعيد واحد، ولما خاطبهما بخطاب واحد، تبشيراً أو إنذاراً، أو إرشاداً وموعظة. ولذلك قال علماء الإسلام: إن النصوص الإسلامية التي ويجه فيها الخطاب للرجال هي موجهة للنساء أيضاً، في كل الأحكام والعظات والتكاليف وأنواع التربية الإسلامية، ما لم يكن مضمون الخطاب مما يتعلق بخصائص الرجال التكوينية، وما لم يصرح في الخطاب بأنه خاص بالرجال دون النساء. هذا هو واقع المرأة في الإسلام، بينما نجد أمماً يخرجون المرأة عن مجال التكاليف الدينية، اعتقادية كانت أو عملية، ويجعلونها أشبه بالبهائم التي لا تعقل مسائل الدين ويحقرون تكوينها، وينزلون بها عن مرتبة الإنسانية التي كرمها الله بها، وإن أشبهت في الصورة تكوين الرجل، أو يجعلونها شيطانة إغراء وإغواء، أو دمية متعة وخدمة. ودعاة تحرير المرأة، الذين يحاولون أن يدفعوها إلى ما وراء الحدود الإسلامية إنما يخادعونها، ليهبطوا بها عن مرتبة الإنسان الذي كرّمه الله بالعقل والإرادة، ووضعه موضع الامتحان، فكلفه الإيمان والعمل الصالح، والبعد عن الشر والإثم. وهدفهم من ذلك أن يقذفوا بها إلى سوق الرذيلة المشاعة لكل فاسق، ويزجوا بها في أتون الخدمة والعمل والكدح الشاق، لتكسب لقمتها وكساءها ومأواها، وهذا ما انتهت إليه حرية المرأة في كثير من البلاد التي تتحلى بشعارات

تحرير المرأة، فقد أمست المرأة فيها لا تجد أباً ولا أخا يعيلها متى غدت فتاة قادرة على الكسب، وساد عندهم شعور عام أنه من الواجب أن تخدم الفتاة في أي عمل، ولو بذلت فيه عفافها لأي طالب. وهذا ما يريدون أن يحولوا إليه المرأة المسلمة بدعاياتهم المضللة. د- المرأة والتكاليف الدينية الفرعية: وإذا انتقلنا بالمرأة من مرحلة الإيمان والإسلام – وهي أول مرحلة وأعلاها – تبدؤها النفوس المكلفة ذكوراً وإناثاً على صعيد واحد – إلى مرحلة التكاليف الدينية الفرعية، فإننا نجد قاعدة التسوية الإسلامية بين الرجال والنساء مضطردة في جميع التكاليف الإسلامية، إلا فروقاً تستدعيها خصائص التكوين الجسدية والنفسية، إذ راعى الإسلام في المرأة نسبة استطاعتها بشيء من التخفيف، التزاماً بالعدل الذي تقتضيه الحكمة. فلما كانت المرأة عرضة لوهن جسدي ملازم لفترة حيضها أسقط الله عنها ضمن هذه الفترة فريضتي الصلاة والصوم، دون أن يلزمها بقضاء الصلوات التي تتركها، لأنها ستقوم بأداء اصلوات اليومية الجديدة، وتكليفها قضاء ما فاتها في أيام الحيض يعني تحميلها مسؤوليتي عبادة من نوع واحد في فترة واحدة، دون أن يكون لها كسب في ذلك، أما الصيام فتقضيه، لأنها ستكون خلال أحد عشر شهراً في السنة فارغة من أداء عبادة صوم مفروض عليها، فإذا قضت أيام الصيام التي فاتتها في شهر رمضان بسبب الحيض لم يصعب عليها ذلك، ولم يجتمع عليها في فترة واحدة عبادتان من نوع واحد. ولما كانت المرأة أيضاً عرضة لوهن جسدي ملازم لتفرة حملها وإرضاعها رخص الشارع لها أن تفطر في رمضان، وأن تعوض عن هذه العبادة بالقضاء أو بالكفارة، حسب تفصيلات فقهية مناسبة لمختلف الأحوال. وفي فريضة الزكاة لا نجد في الإسلام فرقاً في الأحكام بين الذكور والإناث، إلا فرقاً واحداً راعى الله فيه جانب المرأة، وأعانها فيه على تلبية فطرتها، وهذه المراعاة تتعلق بحيلها التي هي مادة أساسية من مواد زينتها، لأن الزينة للمرأة عنصر ترتبط به غريزتها ارتباطاً ملحاً، وهي أيضاً صورة من صور

تمكين رابطة المودة بينها وبين زوجها. من أجل ذلك أذن الله لها أن تتخذ من الذهب والفضة حلياً ت تزين به لزوجها، وهذه الحلي لا بد أن تتعطل عن النماء، لذلك أعفاها الله من أن تدفع الزكاة عما تتخذه لزينتها بالمعروف، فإذا زدت على المقادير المعروفة تهرباً من الزكاة فهو كنز لا إعفاء معه، وللفقهاء في هذا الموضوع تفصيلات وآراء مختلفة بحسب اجتهاداتهم. أما فريضة الحج فالمرأة والرجل فيها سواء، تسافر كما يسافر، ولكن مع محرم لها صيانة لشرفها وعرضها، وتنفق كما ينفق، وتؤدي مناسكها كما يؤديها، إلا أن طبيعة أنوثتها والحرص على سلامة المجتمع من الفتنة تقضيان بأن لا تكلف خلع ثيابها المخيطة، وأن تقتصر في إحرامها على كشف وجهها وكفيها. وأمّا واجب الجهاد في سبيل الله فعلى المرأة أن تجاهد بلسانها داعية إلى الله، وأن تجاهد بمالها، ولكن أعفيت المرأة في معظم الأحوال من الخروج إلى قتال الأعداء، رعاية لحالتها الجسدية، ولا تكلف ذلك إلا في حالة النفيرة العام، وتؤدي حينئذ من الأعمال على قدر استطاعتها، وليس معنى إعفائها في الأحوال العادية عدم ترغيب الإسلام بأن تشارك في مساعدة المقاتلين، وتضميد جرحاهم، وجلب الماء وإعداد الطعام لهم، ونحو ذلك مما تحسنه وتجيده من الأعمال. ولما كانت النساء يقفن مع الرجال على صعيد واحد بين يدي التكاليف الإسلامية الاعتقادية والعملية - إلا ما تقتضيه فروق الخصائص التكوينية الجسدية والنفسية، من فروق في الأحكام والتكاليف - كانت النصوص الإسلامية صريحة في إبراز هذه الحقيقة، بشكل يحق معه للمرأة املسلمة أن تفخر بالمجد الذي كرمها الله به، فجعلها شقيقة الرجل في التكوين، وجعلها شقيقته في التكريم، ثم جعلها شقيقته في التكليف، وأخيراً فلها من الجزاء ثواباً أو عقاباً نظير ماله، قال الله تعالى في سورة (النحل/16 مصحف/70 نزول) : {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .

وقال تعالى في سورة (الأحزاب/33 مصحف/90 نزول) : {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً * وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} . فالإسلام والإيمان والقنت والصدق والصبر والخشوع والتصدق والصيام وحفظ الفروج وذكر الله كثيراً وجزاء هذه الصالحات عند الله كل أولئك يستوي فيها الرجال والنساء. والمؤمنة مثل المؤمن ليس من شأن أي واحد منهما أن يكون له اختيار في ترك الأحكام الإسلامية، التي يقضي الله بها ورسوله عليهما، لأن بواعث الإيمان في قلوبهما لا بد أن تكون محرضة لهما على الطاعة والامتثال، دون أن يجدا في صدرهما أيّ حرج، ومن يعص الله ورسوله ذكراً كان أو أنثى فقد ضلّ ضلالاً مبيناً. وأما الفروق في الاستعدادات فالعدل الإلهي يضعها في الحساب لدى تقويم أعمال الناس، وتقدير الجزاءات عليها، ومثلها في الصنفين كمثل الفروق الفردية الموجودة لدى الرجال، والفروق الفردية الموجوةد لدى النساء، فالله سيحاسب كل إنسان ذكراً كان أو أنثى حساباً خاصاً به يناسب ما وهبه في الدنيا من استعدادات واستطاعة وخصائص. ومن تسوية الإسلام بين صنفي الرجال والنساء تسويته بينهما في المحرمات والجنايات، فحدود مسؤولية المرأة في ذلك هي حدود مسؤولية الرجل نفسها، لأن خطاب الشارع متوجه للإنسان المكلف، باعتبار كونه إنساناً، ذكراً كان أو أنثى. فالإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسرقة، والزنى، وعقوق الوالدين، والكذب، والغيبة، والنميمة، والظلم، وعمل الميسر،

وشرب الخمر وأكل الميتة ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، وتناول سائر المأكولات والمشروبات المحرمة، والإفساد في الأرض، والصد عن سبيل الله، والقذف، وأكل أموال الناس بالباطل، والحقد والحسد، والغش والإضرار بالناس في العقود، وسائر المحرمات في الإسلام، يستوي فيها الرجال والنساء تحريماً وعقوبة. ذلك لأن نسبة عناصر التكليف في كل من الصنفين - وهي العقل والإرادة والاستطاعة - متكافئة، كما أن دواعي المعصية في نفوس كل من الصنفين - وهي الغرائز والشهوات والمطامع - مكتافئة أيضاً، ومن أجل ذلك كانت المسؤولية على وجه العموم متكافئة، ولا يؤثر على قاعدة التكافؤ وجود الفروق الفردية، لأن هذه الفروق نفسها موجودة أيضاً في أفراد كل صنف منهما، وأمر هذه الفروق الفردية متروك لمجرى الحساب الرباني يوم القيامة كما سبق بيانه، أما في الدنيا وجزاءاتها وحدودها فالمسؤولية المنوطة بكل فرد من أفراد المكلفين واحدة. ومن أمثلة المرحمات التي أبرزت النصوص الإسلامية تكافؤ المسؤولية فيها بين الرجال والنساء: السرقة، قال الله تعالى في سورة (المائدة/5 مصحف/112 نزول) : } وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . فقد تكافأ السارق والسارقة جريمة وعقوبة، كما فتح الله لهما جميعاً باب التوبة والإصلاح والمغفرة والرحمة بنسبة واحدة. ذلك لأن الدواعي النفسية للسرقة متشابهة بين الصنفين، وهي الطمع بأموال الآخرين، مع الاستهانة بالعدوان على حقوقهم، ولأن نسبة الجريمة مت شابهة في كل منهما، وهي استشراف النفس إلى الظلم والعدوان بعزم وتصميم، ولأن معرفة التحريم العقوبة في كل منهما متشابهة، لكل ذلك كان من العدل تساويهما وتكافؤهما.

ومن الأمثلة أيضاً: الزنى، قال الله تعالى في سورة (النور/24 مصحف/102 نزول) : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} . فقد تكافأ الزاني والزانية جريمة وعقوبة، وذلك لأن الدواعي النفسية للزنى متناظرة بين الصنفين، إذ تدعو إليه غريزتان متناظرتان متجاذبتان، إحداهما في الرجل والأخرى في المرأة، ولأن نسبة الجريمة، وهو تجاوز حدود الله وعصيان نواهيه بعزم وتصميم في كل منهما متشابهة، ولأن معرفة التحريم والعقوبة في كل منهما متش ابهة، لكل ذلك كان من العدل تساويهما وتكافؤهما، وتقديم الزانية على الزاني في النص على خلاف النصوص الأخرى يشعر بأن فعل المرأة أكثر شناعة، وتعليل ذلك أن لديها من دواعي الصيانة الاجتماعية أكثر مما لدى الرجل، كما أن حياءها وضعف جرأتها في هذا الموضوع يساعدانها على التزام سبيل العفة أكثر من الرجل. ومن الأمثلة أيضاً: القتل، فالمسؤولية فيه متكافئة، والحد فيه واحد، وذلك لأن الناس جميعاً سواء في حق الحياة، إلا من اعتدى على حياة غيره من دون حق، أو ارتكب جرماً يهدر دمه في نظر الإسلام، فيقتل به، وتتولى قيادة الحكم الإسلامي إقامة حدود الله. وإعلاناً عن التكافؤ في المسؤولية في مقابل تكافؤ دماء المسلمين والمسلمات، قال رسول الله: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم" وقال الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . وعلى ما في هذه الآية من اجتهادات فقهية فإنها ظاهرة في معنى التكافؤ في المسؤولية، وتكافؤ المسلمين.

وعلى هذا النسق تسير تسوية الإسلام بين صنفي الرجال والنساء في المحرمات والجنايات وحدود المسؤولية، بينما كانت أمم كثيرة لا تعترف بهذا التساوي ولا تقره. هـ- حقوق المرأة الشخصية والاجتماعية: ومن تسوية الإسلام بين صنفي الرجال والنساء تسويته بينهما في الأحكام المتعلقة بالتصرفات المالي والشخصية. فالمرأة في نظام الإسلام تنجز لنفسها عقود البيوع والرهن والإجارة والصلح والشركة والمساقاة والمزارعة بحرية تامة كالرجل. كما أنها تهب وتوصي وتتصدق وتسب السبل وتقف الأوقاف وتعتق الأرقاء، حكمها في ذلك كحكم الرجل. ثم هي تعقد زواج نفسها بحرية تامة، ولها حق الموافقة أو الرفض. كل هذه التصرفات المالية أو الشخصية تتولاها المرأة بنفسها في حرية كاملة، أو توكل عنها من يقوم لها بها، دون أن يكون عليها وصي أ, حاجر، ما دامت مستوفية شروط أهلية التصرف، وهي في هذا كالرجل، وإشراك وليها في عقد نكاحها نوع من أنواع الصيانة والتكريم وضمان الحقوق لها، حتى لا تستغل أو تستغفل أو يغرر بها أو يجحد حقها نظراً إلى الحياء الذي يعتري المرأة المؤدبة بآداب الإسلام في موضوع الزواج، يضاف إلى ذلك حق الأسرة في مصاهرة من يلائمها اجتماعياً. وأموال المرأة في نظام الإسلام ملك لها، ومهرها الذي تستحقه بالزواج ملك لها أيضاً، وليس لأحد من الناس أن يعتدي عليها في شيء من ذلك، وإذا تزوجت المرأة لم تفقد شيئاً من شخصيتها المدنية، ولا من أهليتها في التعاقد، ولا من حقها في التملك، بل تظل بعد زواجها محتفظة بكامل حقوقها المدنية، وأهليتها في تحمل الالتزامات، وإجراء العقود، وحقها في التملك تملكاً مستقلاً.

ولم يبح الإسلام لزوجها أن يأخذ شيئاً من مالها إلا عن طيب نفس منها، قال الله تعالى في سورة (السناء/4 مصحف/92 نزول) : {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} . وقال أيضاً فيها: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} . فإذا كان المال الذي سبق أن قدمه الزوج مهراً لزوجته بهذه المثابة، فالأموال الأخرى التي ملكتها بميراث أو كسب أو غير ذلك مما أباح الله أحق بأن تكون صاحبة استقلال تامٍ فيها. هذا هو نظام الإسلام في رقيه وسموّه وضمانه لحقوق المرأة، بينما نجد في أحدث القوانين الأوربية نصوصاً تنزع عن المرأة صفة الأهلية في كثير من الشؤون المدنية، إذ نجد مثلاً نصوصاً فيها تقرر: "أن المرأة المتزوجة لا يجوز لها أن تهب ولا أن تنقل ملكيتها ولا أن ترهن ولا أن تملك بعوض أو بغير عوض بدون إشراك زوجها في العقد أو موافقته عليه موافقة كتابيّة". وهذا ما تضمنته المادة (217) من القانون المدني الفرنسي. أليس هذا حجراً على تصرفات المرأة لا يعدو أن يكون من رواسب استرقاق الرجال للنساء في أوربا، على خلاف وضع المرأة المسلمة، وهو الوضع الذي ما زالت تتمتع به منذ ظهر فجر الإسلام، فمنح النساء حقوقهن بالعدل. وأما ما تعانيه بعض النساء في بعض البيئات التي تنتسب إلى الإسلام فما هو إلا انحراف تطبيقي عن نظامه وتعاليمه البينة الصريحة، بعادات دخيلة، أو بتأثير رواسب جاهلية.

وتعلن النصوص الإسلامية أن المؤمنين والمؤمنات على صعيد سواء في أن بعضهم أولياء بعض، وفي أنه ميتآمرون بالمعروف ويتناهون عن المنكر، ويؤدون واجباتهم الدينية، ويطيعون الله ورسوله، وفي أنهم جميعاً مشمولون بوعد الله بالجنات التي تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، وبالرضوان من الله الذي هو أكبر من كل أنواع النعيم المادي في الجنات. قال الله تعالى في سورة (التوبة/9 مصحف/113 نزول) : ) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . فالمرأة في المجتمع الإسلامية تنصر الرجل على نفسه فتأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، كما أن الرجل ينصر المرأة على نفسها، فيأمرها بالمعروف وينهاها عن المنكر، ويشترك الرجال والنساء جميعاً في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله والرسول في كل ما يقضي به الله ورسوله من أمر. وليس يمنع المرأة حياؤها ولا جلبابها، في المجتمع الإسلامي الخالي من التضييق الذي لم يأت به الإسلام، والخالي من قبائح التحلل والتبذّل التي لا يرضى عنها، من أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتوجه نصا ئحها للمسلمين والمسلمات، ما وجدت إلى ذلك سبيلاً كريماً. وهذا ما عرفته ودرجت عليه النساء المسلمات في العصر الإسلامي الأول، والعصور من بعده التي اهتدت بهديه، واستمسكت بطريقته، حتى جاءت عصور انحطاط انتشر فيها بين المسلمين مفاهيم غريببة عن الإسلام، فعزلت المرأة عزلاً تاماً عن العلم والمعرفة، وصدتها عن واجباتها الإسلامية التي تأمرها بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على قدر استطاعتها، وضمن حدود الحشمة والآداب الإسلامية المطلوبة منها.

ومن شواهد ذلك الحادثة المشهور، حادثة المرأة التي وقفت في مسجد المدينة، وتصدت لخليفة المسلمين عمر بن الخطاب، إذ نهى عن المغالاة في المهور، فقالت له: ليس ذلك لك يا عمر، إن الله تعالى يقول: {وآتيتم إحداهن قنطارا} فقال عمر: "امرأة خاصمت عمر فخصمته" وجاء في رواية أخرى أنه قال: "امرأة أصابت ورجل أخطأ". إن هذه المرأة قد نبهت عمر إلى حكم الإذن الشرعي بأن يقدم الرجل من المهر ما يشاء لمن يريد الزواج منها، فلما سمع عمر منها ذلك لم تأخذه عزة الخلافة، ولم تصده كبرياء النفس عن أن يستمع لقولها، ويعلن على جمهور المسلمين صواب المرأة. وهكذا كانت التربية الإسلامية تكافلاً في المجتمع الإسلامي، لا يعزل منه نساء ولا صبيان ولا هرمون، والكل يشتركون في بناء هذا المجتمع على طاعة الله. وهذه التربية هي التي جعلت عائشة أم المؤمنين راوية سفر كبير من لأحاديث والسير عن رسول الله ومثلها كثير من الصحابيات رضوان الله عليهن، كما جعل كثيراً من النساء المسلمات عالمات وأديبات وواعظات ومشاركات في كثير من أمور المسلمين العامة والخاصة. وما أظن المدنية الحديثة التي تتبجح بإعطاء المرأة حقوقها، وتهاجم الإسلام ظلماً وعدواناً قد ارتقت بعد إلى هذا المرتقى الحضاري الذي رفع الإسلام إليه الأمم الهمجية بسرعة خاطفة، فكأنما نقلها من عالم إلى عالم، وكأنما أعاد صياغتها على الوجه الذي يريد، دون أن يصبر على سنن التطور ذات الأمد الطويل، وذلك لأنه استطاع أن ينفذ إلى أعماق القلوب فيغير ما فيها، ولم يكتف بالعمل على إكساب الناس بالمهارات العملية التجريبية فقط في ميادين التربية الإسلامية. ألا فليعلم النساء، أن أعداء الإسلام الذين يريدون صرفهن عن الإسلام، بشعاراتهم البراقة، إنما يريدون أن يجعلوا المرأة سلعة كاسدة، ومتعة رخيصة، وخادمة مهانة.

ومع ما في الإسلام من رقي وسمو، وضمان لحقوق المرأة، وحقوق الرجل بالعدل، وسلامة المجتمع، بشكل لم ترق إلى مثله أحدث النظم الوضعية، تحاول الفتيات المسلمات في الأجاي الحديثة أن يلحقن بركب المرأة الأوربية، وهن يتسابقن في مضرات أنفسهن، متهالكات تهالك الفراشات على النار. ويلوح لهن أعداء الإسلام بالمناديل البراقة التي تخدع الأعين بأصباغها وزخارفها، ولكن إلى أين الطلب؟ إنه إلى الشقاء والعذاب والعقد النفسية القاتلة، والكدح والمهانة، والكساد في سوق الرذيلة. و ميراث المرأة في الإسلام: قالوا: إن الإسلام لم يسوِّ في الميراث بين الذكر والأنثى، بل جعل نصيب الأنثى في معظم الأحوال على مقدار النصف من نصيب الذكر، وهذا تفريق ينافي العدل. إن أعداء الإسلام يقذفون هذه الشبهة في صفوف الأجيال المسلمة بشكل غامض، لإثارة العواطف الأنانية الصرفة عند ألإناث. مع أن البحث التحليلي المتجرد النزيه، يكشف أن الإسلام قد كرم الإناث كثيراً بهذا العطاء السخي في الميراث، إذا وضعنا هذا التوزيع للتركات في مقابل الأعباء الاقتصادية الملقاة على كل من الرجل والمرأة، فالعدالة في التوزيع يجب أن تلاحظ المسؤوليات والأعباء، وليس من العدل أن يعطى المكفي بنفقة غيره عليه، والذي يأخذ المال غالباً لأجل رفاهية نفسه، مثل ما يعطى المسؤول عن نفقة نفسه وزوجه، ونفقة أصوله وفروعه إذا كانوا محتاجين للنفقة. فلا يصح بحال من الأحوال أن ينظر إلى قضية الميراث، دون أن ينظر في الوقت نفسه إلى مسؤوليات النفقة، والأعباء الاقتصادية التي يقررها الإسلام بشكل عام. إن النظر إلى جانب واحد من النظام دون النظر إلى الجوانب

الأخرى المكلمة له، كالنظر إلى طرف واحد من أطراف أي كائن في الوجود، دون النظر إلى الأطراف الأخرى على وجه الشمول. والجاهلون قصيرو النظر هم وحدهم الذين ينظرون إلى الأنابيب الفرعية لتوزيع المياه، بمقياس النظرة السطحية التي ينظرون فيها إلى الأنابيب الرئيسة، فيقولون: إن مصلحة المياه لم تكن عادلة، إذ جعلت هذه الأنابيب التي تمددها في الشوارع الرئيسة للمدينة، أكبر وأقوى من الأنابيب التي تمددها في أطراف المدينة. ولا شك أن العقلاء يسخرون من منطق هؤلاء الجهلاء، لأنهم يعلمون أن وظيفة الأنابيب الرئيسة تقتضي أن تكون كذلك. وهو ما توجبه القواعد الهندسية السليمة. وكذلك فرق نظام الإسلام في توزيع التركات بين نصيب الذكور ونصيب الإناث في معظم الأحوال، ملاحظاً حاجة الأعباء الملقاء على كل منهما. والنظرة الفكرية والواقعية الشاملة في هذا الموضوع، لا بد أن تلاحظ الأمور التالية كلها في وقت واحد حتى تكون أحكامها صحيحة: أولاً: لقد كرم الإسلام المرأة في نظامه، فرحمها وحدب عليها، ونظر إلى أعباء حملها ورضاعها وتربية أبنائها وتدبير منزل الزوجية وخدماتها فيه، فأعفاها من واجبات السعي لاكتساب الرزق، ولم يحملها مسؤوليات أعباء المعيشة، لا لنفسها ولا لغيرها، لئلا يجمع عليها عبثين في الحياة، وليصونها عن التبذل، وليقيها متاعب الكدح خارج منزلها، وألقى كل هذه الأعباء والمسؤوليات على الرجل، دون أن يمنعها من العمل الشريف إذا هي اختارت ذلك. فنفقة المرأة في نظام الإسلام واجبة على زوجها، وإن كانت غنية، أو على ذوي قرابتها إن كانت فقيرة، ضمن قواعد وأحكام مفصلة في الفقه الإسلامي، فإن لم يكن لها زوج أو أقرباء ينفقون عليها وكانت فقيرة، فنفقتها واجبة على بيت مال المسلمين، تتقاضاها من صندوق الزكاة أو من الصندوق العام. ثانياً: لدى الزواج يتحمل الرجل أعباء دفع مهر للزوجة، وأعباء سائر النفقات التي يتطلبها الزواج، في حين أن المرأة هي المستفيدة من المهر ومعظم

نفقات الزواج، دون أن تكون مسؤولة ن شيء من ذلك. ثالثاً: الرجل هو المسؤول عن العمل لكسب الرزق، والنفقة على زوجته وعلى أولاده، بينما لا تكلف المرأة شيئاً من هذه الأعباء، إلا أن تقدم شيئاً من ذلك تطوعاً، يضاف إلى ذلك أن الرجل مسؤول أيضاً عن النفقة على طائفة من ذوي قرابته الفقراء، ضمن تفصيلات موضحة في الفقه الإسلامي. وبموجب هذا النظام تصبح الأموال التي تملكها المرأة معدة في أكثر أحوالها لزينتها، ورفاهيتها الخاصة، الزائدة عن حدود النفقة الواجبة، ولعطاءاتها التي تحبو بها من تشاء من أولادها وبناتها وأقاربها، ولصدقاتها التي تكسب بها عند الله أجراً، ولتدخر منها ما تسعف به نفسها ومن تحب عند مفاجآت الضروروات والنوائب. وهنا قد يقول قائل: لقد زاد الإسلام إذن في نصيب المرأة من الميراث، إذا لاحظنا أحكامه الأخرى في نظام النفقات، ونجيبه بأن الميراث فيه معنيان: المعنى الأول: أنه غطاء للتكافل الاجتماعي داخل الأسرة الواحدة، إذ يكون غرم النفقة الواجبة مقابلاً لغنم الميراث. المعنى الثاني: أن الميراث فيه دعم للترابط الاجتماعي المشعر بوحدة الأسرة، ففيه مواساة للأقارب مما تركه ميتهم. وحين ندرك كل ذلك نستطيع أن ندرك حكمة التشريع التي تظهر فيها ميزة الإسلام وعظمته. ولقد كانت نظرة الجاهليين قبل الإسلام مادية بحتة، نشأ عنها أن لا يورثوا النساء ولا الأطفال، وكانوا يقولون: "لا يرث إلا من طاعن بالرماح، وذاد عن الحوز، وحاز الغنيمة" وكانوا يقولون عن المرأة معللين عدم توريثها: "لا تركب فرساً، ولا تحمل كلاًّ، ولا تنكي عدوّاً". وبهذا يظهر لنا عظمة الإسلام في هذا المجال، كشأنه في كل مجال، ومع ذلك يحاول أعداء الإسلام قذف شبهاتهم في صفوف الأجيال المسلمة، ليصدوها عن دين الله الحق.

ز- الإسلام وتعليم المرأة: يموه بعض المغرضين ويزعم بعض الجاهلين: أن الإسلام لا يشجع على تعليم المرأة، وأنه يفضل أن تبقى جاهلة أو أقرب إلى الجهل. وهذا محض افتراء ظاهر على الإسلام، فما من دين ولا مذهب في الحياة دفع الإنسان إلى العلم كما دفعه إليه الإسلام،إنّه دفع الإنسان كلَّ الإنسان بشطريه الذكر والأنثى إلى مجالات العلم المختلفة، وإلى ميادين المعرفة والبحث عن الحقائق، بكل وة، إلعلاناً منه أن الطريق الصحيح إلى معرفة الله والإيمان به، والاستسلام لشرائعه إنما هو طريق العلم. أليس في الآيات التي بدأ الله بها الوحي لرسوله محمد إعلان قوي لهذه الحقيقة؟ إن أول ما بدئ به من الوحي قول الله تعالى لرسوله محمد في سورة (العلق/96 مصحف/1 نزول) : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} . إنه لأمر بالقراءة باسم الرب الخالق، الذي خلق الإنسان كلَّ الإنسان بشطريه الذكر والأنثى من علق، وفي هذا إشارة إلى أن المخلوقات هي مجالات المعرفة التي تأخذ بيد الإنسان إلى معرفة الله، والبحثُ فيما خلق الله هو السبيل الأقرب والأقوم لطلاب المعرفة ومتتبعي الحقائق، أين كانوا وفي أيّ منهج علمي سلكوا. ولقد بدأ الوحي بالأمر بالقراءة لأنهم أهم وسائل تثبيت المعارف، ومتابعة حلقاتها، والقراءة إنما تكون بعد الكتابة، ومن أجل ذلك أ؟ هر الله منّته على عباده إذ علّم بالقلم، أداة الكتابة الكبرى، فعلّم الإنسان كلّ الإنسان بشطريه الذكر والأنثى مالم يعلم. وهذه الدعوة التي دعا الله بها الإنسان إلى العلم، منذ اللحظات الأولى التي بدأ بها إنزال تعاليم الإسلام، أكبر برهان يدلّ على التسوية التامة بين

شطري الإنسان الذكر والأنثى، في ميدان دعوتهما إلى العلم والمعرفة، والتأمل فيما خلق الله، والدعوة إلى استخدام الوسيلتين المترابطتين ببعضهما، وهما القراءة والكتابة. ولما كان العلم هو الطريق إلى معرفة الله والإيمان به، والطريق إلى معرفة الأحكام الدينية التي يكلفها الإنسان ذكراً كان أو أنثى، كان من المتحتم على كل مسلم ومسلمة أن يتعلم ما يهديه إلى هذه الأمور المسؤول عنها مسؤولية شخصية أمام الله. فالإنسان كل الإنسان ذكره وأنثاه مبتلىً في هذه الحياة الدنيا، ومسؤول عن تصرفاته الإرادية كلها مسؤولية تامة، ما دام متمتعاً بأهلية التكليف، وهي العقل والإرادة والاستطاعة. ومسؤولية الإنسان عن تصرفاته تستلزم تكليفه ما يعرف به الحق والباطل، والخير والشر، والنفع والضر، والقبح والجمال، وحدود مسؤوليته أمام الله. فهل في أي مذهب من مذاهب العالم المتحضر مسؤولية عن العلم، تتناول بشكل شخصي كل إنسان لديه ما يستطيع أن يتعلّم به، ذكراً كان أو أنثى، أدقّ وأشدّ وأحزم من هذه المسسؤولية الت يناطها الإسلام بكل إنسان؟ إنها مسؤولية تضع الإنسان كل الإنسان على مفترق طريقين: أما أحدهما فيصعد به إلى النعيم المقيم، والسعادة الخالدة في جنات عدن، وأما الآخر فينحدر به إلى العذاب الأليم والشقاء الدائم في نار جهنم. وهذه المسؤولية الشخصية عن الأعمال الإرادية - مع ملاحظة أن العلم شرط أساسي فيها - قد دلّت عليها معظم النصوص الإسلامية دلالات لا تخفى على أقل الناس بصراً فيها. فممّا جاء منها مجملاً قول الله تعالى في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول) : {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} .

وعبارة "كل نفس" تشمل الذكر والأنثى بنسبة واحدة. ومنها قول الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) : {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} . وقوله تعالى فيها أيضاً: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} ومما جاء منها مفصلاً قول الله تعالى في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول) : {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} . وقد حرص الإسلام كل الحرص على تعليم المرأة ما تكون به عنصر صلاح وإصلاح، في مجتمع إسلاميّ متطور إلى الكمال، متقدّمٍ إلى القوة والمجد، آمن مطمئن سعيد. ولتحقيق هذا الهدف حرص على اشتراكها في المجامع الإسلامية العامة الكبرى منها والصغرى، فرغب بأن تحضر صلاة الجماعة، وأن تشهد صلاة الجمعة وخطبتها، وأن تشهد صلاة العيد وخطبتها وإن كانت في حالة العذر المانع لها من أداء الصلاة، وأمرها بالحج والعمرة، وحثها على حضور مجالس العلن , وخاطب الله النساء بمثل ما خاطب به الرجال، وجعلهنّ مندرجات في عموم خطاب الرجال في معظم الأحوال، حرصاً على تعليمهن وتثقفيهن وتعريفهن أمور دينهن، ومشاركتهن في القضايا العامة للمسلمين. ونظرة إلى واقع الحياة تبدي لنا أهمية صلاح المرأة علماً وخلقاً وسلوكاً داخل أسرتها، ثم في المجتمع الكبير، فمبقدار صلاح المرأة في الأسرة يكون غالباً صلاح النشء، والذرية فيها، وبمقدار فسادها يكون غالباً فسادهم.

يضاف إلى ذلك مالها من تأثير بالغ على الرجل، زوجاً كان أو أباً أو أخاً، وأهمية صلاح المرا' لصلاح الأسرة أكثر من أهمية صلاح الرجل لصلاحها، لأن المرأة تستطيع أن تكون ذات أثر فعال مرشد أو مفسد، في تكوين أخلاق الأطفال الصغار وطبائعهم وعاداتهم أكثر من الرجل بكثير، وذلك لعدة أسباب: 1- منها ما وهبها الله غالباً من عاطفة متدفقة، ولين في الطبع، وقابلية للاندماج والمشاركة في أمور الصغار على مقدار طبائعهم ونفوسهم، مما له أثر كبير في اكتساب حبهم وإحراز ثقتهم، حتى يخذوها قدوة لهم في أقوالها وأعمالها وأخلاقها وسائر تصرفاتها. 2- ومنها واقع حال ملازمتها لأطفالها في أكثر أوقات نشأتهم، وهم ما يزالون بعدُ فطرة نقية، وعجينة لينة، قابلة للتكيف بالتقليد، أو بالعادة، فما يُطبع في هذه العجينة في فترة قابليتها للتكيف من خير تجف عليه، وما فيه من فاسدٍ تجف عليه، ثم يعسُر عند جفافها وتصلبها التغيير والتبدييل، ومن شبّ على شيءٍ شاب عليه. ولما كان للمرأة كل هذا الأثر في تربية الطفولة داخل أسرتها أو خارجها، كان لا بد من العناية بتكوينها تكويناً راقياً، والعمل على جعلها قدوة صالحة وأسوة حسنة، وذلك لا يتم إلاّ بتعليمها ما تكون به المربية الفاضلة، وتربيتها تربية إسلامية حسنة، والاستفادة مما وهبها الله من عاطفة رقيقة، لملء قلبها ونفسها بالإيمان والخير، حتى تغذي بهما الجيل الذي تتولى تنشئته وتربيته. ولذلك كثيراً ما نلاحظ أولاداً فاضلين مهذبين ثم نبحث عن سر الأمر فنعلم أن لهم أمّاً مربية فاضلة، تقية مهذبة، وإن لم يكن أبوهم على مثل ذلك، ونلاحظ أيضاً أولاداً فاسدين منحرفين، ثم نبحث عن سر الأمر فنعلم أن لهم أمّاً فاسدة، وقد يكون أبوهم صالحاً فاضلاً. فلا عجب بعد هذه الموجبات لإصلاح المرأة علماً وعملاً وخلقاً حتى تكون مربية فاضلة، أن نجد الإسلام يحرص على تعليم المرأة، وأن يخصص

الرسول للنساء أياماً يجتمعن فيها، ويعلمهن مما علمه الله، إضافة إلى الأيام التي يحضرن فيها مع الرجال، ليتزودن من العلم ما يخصهن، ويتعلق بشؤونهن، مما ينفردن به عن الرجال، بمقتضى تكوينهن الجسدي والنفسي، إذ بلغت عندهن الجرأة الأدبية الطيبة أن يطلبن ذلك من الرسول، فاستجاب لهن صلوات الله عليه. يروي البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال: جاءت امرأة إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله، ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه، تعلمنا مما علمك الله، قال: اجتمعن يوم كذا وكذا، فاجتمعن، فأتاهن النبي فعلمهن مما علمه الله، ثم قال: "ما منكن من امرأة تقدم ثلاثة من الولد إلا كانوا لها حجاباً من النار" قالت امرأة: واثنين؟ فقال رسول الله: "واثنين". فهذه امرأة من الصحابيات تأتي الرسول صلوات الله عليه بجرأة أدبية مشكورة وتخاطبه برباطة جأش، فتقول له: يا رسول الله ذهب الرجال بحديثك فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله. وذلك لأن الرجال كانوا يحتلون مكان المقدمة من مجالس الرسول، فتوجه إليهم أكثر كلماته وعظاته وبياناته، ولئن كان الإسلام في دعوته وأحكامه وتكاليفه ومواعظه يتناول الرجال والنساء على السواء، فإن بعض مسائله وأحكامه خاص بالرجال، وبعضها خاص بالنساء. أما الرجال فينالون حظهم من التعرف على ما يخصهم، إذ ليس بينهم وبين الرسول حجاب، ولديهم من الجرأة ما يسألون عن كل أمر من أمور دينهم، فهم يسألون الرسول عن ذلك أينما حلوا وأينما راتحلوا، لكن النساء لا يستطعن دائماً أن يسألن عما يخصهن من أمور الدين، ويحللن به مشكلاتهن، ولئن كن يحضرن مجالس الرسول مع الرجال من دون اختلاط فإنهن ربما يستحيين أمام الرجال أن يسألن عنها. لذلك كان تعليمهن ما يخصهن وحل مشكلاتهن، لا بد فيه من تخصيص مجالس لهن تعالج فيها أمورهن، وتوجه لهن فيها الأحكام والمواعظ بحسب

خصائصهن النفسية والفكرية والخلقية والاجتماعية، وبحسب مسؤوليتهن في الحياة، داخل أسرتهن وخارجها ولكل هذه الأمور طالبت هذه المرأة بتخصيص أيام للنساء يتلقين فيها ما يخصهن من معارف ديينة، ومن أجل ذلك استجاب لها الرسول صلوات الله عليه. وهذا هو الحل الذي يتم فيه تعليم النساء، وإخراجهن من ظلمات الجهل إلى نور المعرفة، حتى يؤدين رسالتهن في الحياة على أحسن وجه وأفضله، وحتى يحملن مسؤوليتهن كما يجب أن يحملنها، مع المحافظة على عفافهن وأخلاقهن، وعدم قذفهن إلى مجتمع مختلط تسرع إليه مفاسد الم جتمعات المختلطة، وتشب فيه نيران الشهوات العارمة، التي تنتشر معها المعاصي والآثام ومفاسد كثيرة أخرى. لأن العلم الصحيح هو الوسيلة الأولى التي لا بد منها لإصلاح كل مجتمع، رجاله ونسائه، كباره وصغاره. ولما كانت النساء المسلمات في الصدر الإسلامي الأول متلهفات لمعرفة أمور دينهن، وتبين مشكلاتهن الخاصة، فقد تبادرن إلى مجالس الرسول الخاصة بهن، فاجتمعن، وأتاهن النبي في المواعيد المحددة، فعلمهن مما علمه الله، وبيَّن لهن ما بيَّن، وسألنه عن مسائل وأجابهن صلوات الله عليه. ولما كانت في صحابيات الأنصار جريئات في السؤال عما يتعلق بأحوال النساء وخصائصهن، أثنى الرسول عليهن، ودعا لهن بالرحمة، فقال: "رحم الله نساء الأنصار لا يمنعهن حياؤهن أن يسألن عن أمور دينهن". وعلى هذا المستوى الرفيع كانت سياسة الإسلام التعليمية للنساء، فهل بعد تبيان هذه الحقائق كلام يضلل به أعداء الإسلام الناس في موضوع تعليم المرأة، إذ يحاولون أن يصوروا الإسلام بغير صورته الحقيقة؟ وهل بعد هذه التسوية التامة بين الرجال والنساء في طريقي العلم والعمل يظل رغاء المشوهين لصورة الإسلام الرائعة يؤذي الأسماع بما تنفر منه الأطباع؟.

ح- المرأة والمبايعة في الإسلام: لم يكن حظ النساء من مبايعة الرسول بأقل من حظ الرجال، بل كان لهن منها مثل نصيبهم، مع إعفائهن من الالتزام بما أعفاهن الله منه، كالقتال في سبيل الله، وكانت تسمى البيعة على السمع والطاعة وسائر الأمور عدا القتال، بيعة النساء. والمبايعة في الإسلام تشمل المبايعة على العمل بدستور الإسلام، والمبايعة على السمع والطاعة للقيادة الإسلامية فيما لا معصية لله فيه، وهذه المبايعة تتضمن بالدرجة الأولى التزام كل من الطرفين الجنود والقائد بأسس الشريعة الإسلامية وبأحكام فروعها، وتتضمن بالدرجة الثانية التزام الجود بأن يطيعوا من اختاروه وأذعنوا له بالقيادة، ضمن أحكام الإسلام، في كل أمر أو نهي لا معصية لله فيه. وكلمة المبايعة مشتقة من البيع المعروف، وهو إنشاء تبادل الثمن والمثمن بين المتبايعين. وتطبيق ذلك على المبايعة يعني أن المسلم يبيع نفسه وماله بإرادته الحرة لله تعالى، ومعنى هذا البيع إخضاع المسلم إرادته وطاقته وهواه لأوامر الله ونواهيه، سواء أكان جندياً أو قائداً، وإنما يكون ذلك بالطاعة على مقدار الاستطاعة، ثم إخضاع الجندي المسلم إرادته وطاقته وهواه لتكاليف قائده المسلم الملتزم معه في عقد المبايعة بالشطر الأول من ركنيها، ويظل الجندي بعد ذلك متلزماً بالسمع والطاعة بشكل تطبيقي في كل أمر لا معصية لله فيه، ولا يخلع ربقة بيعته إلا أن يرى من قائده كفراً بواحاً له من الله فيه برهان. وفي مقابل هذا البذل الذي يقدمه المسملمون في مبايعتهم - سواء كانوا جنوداً أو قادة - يقدم الله تعالى لهم ثمن ذلك الجنة، والأجر العظيم في الدنيا والآخرة، والنصر المؤزر على عدوهم. ولذلك تكون يد الله فوق أيدي المتبايعين من المؤمنين ترعاهم وتباركهم، لأن المبايعة بينهم إنما هي مبايعة مع الله، ولذلك كان الله هو الملتزم بتقديم

الثمن، ويدل على ذلك قوله تعالى لرسوله في سورة (الفتح/48 مصحف/111 نزول) : {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} . فقد أعلن الله في هذه الآية أن مبايعة المؤمنين للرسول إنما هـ مبايعة لله، لأن أهم شطر فيها إنما هو التزام الجنود وقائدهم بأوامر الله ونواهيه، التي يحتوي عليها الإسلام دين الله للناس، ولذلك كانت يد الله فوق أيديهم، تعقد هذه المبايعة، وتباركها، وتتكفل بدفع الثمن لمن أوفى بما عاهد عليه الله، وكل مبايعة بعد الرسول لأي قائد عام من المسلمين لها حكم مبايعة ال مسلمين للرسول، إذا توافرت فيها شروط البيعة الإسلامية. وإعلاناً عن صدق مبايعة المؤمنين للرسول قال الله تعالى في سورة (الفتح/48 مصحف/111 نزول) أيضاً: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} . وأحد طرفي المبايعة يمكن أن يسمى شراء، وإعلاناً عن نفاذ الشراء من قبل الله سبحانه، لكل بيعة صحيحة صادقة، قال الله تعالى في سورة (التوبة/9 مصحف/113 نزول) : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ_ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} . وهذه هيه صفات المؤمنين المبايعين، الذين اشترى الله منهم أنفسهم

وأموالهم بأن لهم الجنة، وقد اشترك النساء في المبايعة على التسليم بالسلطتين الدينية والزمنية في عهد رسول الله كما سبق بيان ذلك، فبايع المؤمنات رسول الله على مثل المبايعة التي كانت من المؤمنين له، باستثناء الالتزام بالقتال في سبيل الله، وبذلك أسهمن بالاعتراف للرسول بالسلطة الزمنية، والالتزام بحقوقها، مع إذعانهن إلى السلطة الدينية، التي هي لله وحده، والرسول فيها مبلغ عن ربه ومبين ما أنزل إليه، والسلطة الدينية سلطة عامة، تحكم على كل من الجنود وقائدهم الزمني، والجميع مسؤولون عن الالتزام بها مسؤولية مباشرة. ودليل مبايعة النساء من القرآن قول الله تعالى في سورة (الممتحنة/60 مصحف/91 نزول) : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقد جئن إلى الرسول وبايعهن ولكن دون مصافحة. فالمساواة بين الرجال والنساء في المبايعة، على الإذعان للسلطة الزمنية وفق أحكام الشريعة الإسلامية، قضية تشهد لها نصوص الكتاب والسنة شهادة واضحة، يسقط معها كل تضليل يشوه به أعداء الإسلام وجه النظام الإسلامي الجميل المشرق. وقريب من هذا ما يسمى في الأنظمة الحديثة بحق المرأة في الانتخاب، وجدير بالتأمل أن هذا موجود في نظام الإسلام منذ كانت المرأة في العالم عند غير المسلمين أشبه ما تكون بالأشياء التي تقتنى. ط- المرأة والعاطفة بين الحضانة والشهادة: تؤكد الدراسات النفسية والملاحظات المستمرة لطبائع النساء، أن المرأة - بصفة عامة - تغلب جوانب العاطفة لديها الجوانب العقلية في معظم أحوالها، مهما كانت متمتعة بذكاءٍ علمي راقٍ وإرادة قوية، فهي بهذا التكوين القائم على الرجحان العاطفي مؤهلة لأن تكون مربية ومسعدة للطفولة الأولى بشكل ممتاز،

ولأن تكون مؤنسة ومسلية ومسعدة للرجول على اختلاف مراحلها بشكل ممتاز كذلك. فالرجحان العاطفي لديها جزء من كمال أنوثتها، وحينما تنعكس في المرأة هذه الخصائص، فتكون الجوانب العقلية لديها راجحة على الجوانب العاطفية، فإنها تفقد لا محالة جزءاً كبيراً من كمال أنوثتها المؤهلة لوظائف اجتماعية لا يحسنها على الوجه الأكمل غيرها. إلا أن الرجحان العاطفي الذي يمنحها كمال أنوثتها، ويؤهلها أحسن تأهيل لوظائفها الاجتمايعة ألأساسية، لا بد أن يكون على حساب خصائص نفسية أخرى إذ تكون إرادتها واقعة تحت تأثير عواطفها أكثر من أن تكون واقعة تحت تأثير جوانب العقل وإدراك الحقائق، وكذلك الرجحان العقلي عند الرجل، لا بد أن يكون على حساب خصائص نفسية من نوع آخر، إذ تكون إرادته واقعة تحت تأثير جوانب العقل فيه أكثر من أن تكون واقعة تحت تأثير جوانب العاطفة، وهذا ما يجعله يقسو أحياناً على من يحب حرصاً على منفعته، سواء أكان ذلك في مجال التعليم والتربية، أو في مجال العلاج الصحي، أو في أي مجال آخر من مجالات الحياة. وتدعو مراعاة هذه الخصائص المتقابلة بين المرأة والرجل - والتي يملأ الارتفاع في كل منهما الانخفاض في الآخر، أن يكون كل منهما أقدر على بعض وظائف الحياة وأصلح من الصنف الآخر. من أجل ذلك راعى الإسلام في نظامه الرفيع خصائص كل من الرجل والمرأة في عدة أمور، حرصاً منه على توسيد وظائف الحياة لمن يكون أكثر كفاية للقيام بها، ومن هذه الأمور ما يلي: أولاً: الحضانة منذ الولادة حتى سن التمييز وظيفة من وظائف الجماعة الإنسانية، ولدى التبصر بهذه الوظيفة نلاحظ أنها بحاجة إلى حاضن تترجح لديه الجوانب العاطفية على الجوانب العقلية. ولما كانت المرأة بفطرته متمتعة بهذا النوع من الاختصاص كانت أحق بالحضانة من الرجل، وتقوم هذه المشكلة حينما ينفصل الأب عن الأم، ولذلك قرر الإسلام في نظامه منحها هذا الحق دون الرجل، وقرر تكليف الرجل النفقة وأجر الحضانة.

أما بعد سن التمييز الذي تنتهي به فترة الحضانة، فإن البنين والبنات بحاجة حينئذ إلى مربٍ تترجح لديه الجوانب العقلية على الجوانب العاطفية. ولما كان الرجل بفطرته متمتعاً بهذا النوع من الاختصاص كان أحق من المرأة بأن يتولى هذه الوظيفة، ولذلك قرر الإسلام في نظامه منح هذا الحق دون المرأة، حرصاً على سلامة تربية البنين والبنات من الانحراف الذي قد تساعد عليه عواطف المرأة، التي تجعلها تتساهل بواجبات التربية الحازمة الحكيمة. ثانياً: الشهادة على الحقوق المالية وظيفة من وظائف الجماعة الإنسانية التي تثبت بها الحقوق، ولدى التبصر بهذه الوظيفة الاجتماعية، نلاحظ أنها بحاجة إلى إنسان تترجح لديه الجوانب العقلية على الجوانب العاطفةي، لئلا تساهم العاطفة الغالبة في الميل إلى أحد الخصمين على حساب حق الخصم الآخر. ولما كان الرجل بفطرته العامة متمتعاً بهذا النوع من الاختصاص كانت شهادته أثبت من شهادة المرأة، التي تترجح لديها الجوانب العاطفية على الجوانب العقلية. وفي جعل شهادة الرجل أثبت وأرجح من شهادة المرأة ضمان للحقوق، ولكن لما كان من المستبعد إجمالاً اتفاق امرأتين في الميل نحو عاطفة واحدة في هذا المضمار، كان لشهادتهما معاً قوة تساوي قوة شهادة رجل، ولذلك رفع الإسلام نصاب الشهادة الواحدة إلى امرأتين بدل امرأة واحدة، لتتكامل شهادتهما، فتكون في قوة شهادة واحدة، وقرر الإسلام مع ذلك في مضمار الحقوق أن يُستهشد عليها ذوا عدل من رجال المسلمين، وبذلك كان النصاب شهادتين لا شهادة واحدة، فإذا أضيف إلى هذا الأمر أن شهادة امرأتين بقوة واحدة، نظراً إلى الملاحظة السابقة، التي تهدف إلى ضمان الحقوق، تبين لنا وجه الدقة التامة في تأدية هذه الوظيفة الاجتماعية الموضحة في قول الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) :

{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى....} . أي: خشية أن تضل إحداهما فتميل بعاطفتها عن وجه الحق، وعند ذلك تذكرها الأخرى به، وتتكامل بهما شهادة معتبرة. وليس في هذا تنزيل من قيمة المرأة، ما دام تكوينها الفطري معداً للقيام بوظائف اجتماعية، لا تكون مثالية فيها ما لم تكن الجوانب العاطفية لديها غالبة على الجوانب العقلية. أما في الأور الأخرى التي يضعف فيها تدخل العواطف الإنسانية، فإن شهادة المرأة فيها مثل شهادة الرجل، وذلك حينما يكون الاعتماد على مجرد الذكاء والحفظ، ومن أجل ذلك قبلت التعاليم الإسلامية رواية املرأة لنصوص الشريعة وأخبارها في التاريخ والعلوم، وساوتها في ذلك بالرجل، وقبلت أيضاً شهادة المرأة الواحدة في إثبات الولادة والرضاع، وجعلتها مثل شهادة الرجل، إلى غير ذلك من أمور يضعف فيها تدخل العواطف الإنسانية. وأعداء الإسلام الذين يحاولون إثارة المرأة في هذا الجانب يظلمون جانب الحقوق ظلماً كبيراً، وهم يعصبون أعينهم عن الحقيقة النفسية التي عليها المرأة، وعن الحقيقة القانونية التي يجب مراعاتها لتثبيت الحقوق لأهلها. ي- القوامة في الأسرة: يتخذ أعداء الإسلام من كون الرجال هم القوامين على النساء بمقتضى أحكام الشريعة الإسلامية مجالاً للثرثرة ضده، ولتحريض المرأة المسلمة حتى تتمرد على تعاليمه، وتنفر منه، مع أن قوامة الرجال على النساء مسألة تفرضها ضرورة الحياة الفضلى من الناحيتين الفطرية والفكرية. أما الناحية الفطرية: فإن الخصائص النفسية، المزود بها كل من الرجل والمرأة بصفة عامة، تؤهل الرجل بشكل أمثل لتحمل مسؤوليات إدارة شؤون الأسرة، والقيام على رعايتها، والتصدي لزعامتها، والتفكير الدائم بشؤونها، وتوجيه الأمر والنهي لأعضائها، وإحكام حبات عقدها، والربط فيما بينها بنظام

متين من التعاطف والمودة والعدل، وفي مقابل الخصائص التي تؤهل الرجل بصفة عامة لهذه الأمور تأهيلاً أمثل، نلاحظ أن خصائص المرأة بشكل عام تحبب إليها أن تجد لدى الرجل ملجأ وسنداً، وقوة إرادة، واستقرار عاطفة، وحكمة في تصريف الأمور، وسلطاناً ترى في الانضواء إليه أنسها وطمأنينتها وأمنها وصلاح بالها وراحتها من أعباء المسؤوليات الجسام. ولذلك نلاحظ أثر هذا التكوين الفطري ظاهراً في كل مجموعة إنسانية، ولو لم تلزمها به أنظمة أو تعاليم، وربما شذ عنه نفر قليل اختلت فيهم مقادير خصائص الذكورة والأنوثة، فتجاوزت حدودها السوية، وهذه الحالات الشاذة لا تسحق تعديلاً في أصل القاعدة الفطرية التي تشمل معظم الرجال والنساء في المجتمع الإنساني. ولا يلزم من كون الرجال مزودين بخصائص تؤهلهم لأن يكونوا هم القوامين على النساء، أن تكون قوامتهم استبدادية استقلالية ظالمة آثمة، فالقوامة في الأسرة ولاية صغرى يجب على متوليها ما يجب على ذوي الولايات الكبرى من مشورة وعدل، وتقيد بحدود الله، والمستشارون في هذه الولاية الصغرى هم أعضاء الأسرة، وأمين سرها المخلص الغيور زوجة الرجل، وهنا تستطيع المرأة العاقلة الحكيمة أن تكون صاحبة السلطان الخفي على قلب صاحب السلطان الظاهر، دون أن تتحمل مسؤوليات القوامة ومشكلاتها، وأعباءها وأخطاءها. وهذا ما اختارته المرأة لنفسها واطمأنت إليه في مختلف العصور الغابرة، وحتى زمان الناس هذا في القرن العشرين الذي بلغت فيه المرأة من التحرر والانطلاق في الغرب والشرق مبلغاً لا تحلم بأكثر منه. إن هذه الظاهرة الاجتماعية لا بد أن تكون أثراً من آثار التكوين الفطري للنفوس الإنسانية ذكورها وإناثها. وأما الناحية الفكرية: فإن الحكمة في المجتمعات الإنسانية تقضي بأن يكون لكل مجتمع صغر أو كبر قيّم يقوده ويدير شؤونه، حماية له من الفوضى والتصادم والصراع الدائم، والأسرة أحد هذه المجتمعات التي تحتاج إلى قيِّم

منها، تتوافر فيه مؤهلات القوامة بشكل أمثل. ولدى أهل الفكر في مسألة القوامة داخل الأسرة مجموعة من الاحتمالات: الاحتمال الأول: أن يكون الرجل هو القيّم في الأسرة باستمرار. الاحتمال الثاني: أن تكون المرأة هي القيّم في الأسرة باستمرار. الاحتمال الثالث: أن يكون كلّ من الرجل والمرأة قيّماً على سبيل الشركة المتساوية. الاحتمال الرابع: أن يتناوبا القوامة وفق قسمة زمنية. الاحتمال الخامس: أن يتقاسما القوامة، بأن يكون لكلٍ منهما اختصاصات يكون هو القيم فيها. أما الشركة في القوامة سواء أكانت في كل شيء وفي كل وقت، أو كانت على سبيل التناوب الزمني، أو كانت على سبيل التقاسم في الاختصاصات، فإنها ستؤدي حتماً إلى الفوضى والتنازع ورغبة كل فريق بأن يعلو على صاحبه ويستبد به، ما لم يكن شيء من ذلك برأي صاحب القوامة الفرد، وطوعه واختياره، وبدافع من التفاهم والتواد والتراحم بين الزوجين. وقد أيدت تجارب المجتمعات الإنسانية فساد الشركة في الرياسة، ولذلك نلاحظ تركز المسؤولية الكبرى في رئيس واحد، لدى أي نظام اجتماعي من الأنظمة التي عرفها الناس، ولو كانت تتسم بسيما القيادة الجماعية، وعمل الجماعة القائدة لا يعدو أن يكون عملاً أقرب إلى المشورة منه إلى ممارسة السلطة، سواء أكانت المشورة ذات طابع إلزامي أو غير إلزامي، لأن من تتركز بيده السلطة الفعلية يستطيع أن يجعل رأي الأكثرية موافقاً لما يريد. وأما إسناد القوامة إلى المرأة دون الرجل فهو أمر ينافي ما تقتضيه طبيعة التكوين الفطري لكل منهما، وهو يؤدي حتماً إلى اختلال ونقص في نظام الحياة

الاجتماعية، لما فيه من عكس لطبائع الأشياء، فلم يبق إلا الاحتمال الأول، وهو أن يكون الرجل هو القيم في الأسرة. فأهم خصائص القوامة المثلى رجحان العقل على العاطفة، وهذا الرجحان متوافر في الرجال بصفة عامة أكثر من توافره في النساء، لأن النساء بمقتضى ما هن مؤهلات له من إيناس للزوج وحنانٍ عليه، وأمومة رؤوم، وصبر على تربية الطفولة، تترجح لديهن العاطفة على العقل، ولن تكون قوامة مثلى لأن مجتمع إنساني صغيراً كان أو كبيراً إذا كانت العاطفة فيها هي الراجحة على العقل. ولما كانت القوامة في كل أسرة وظيفة ضرورية من الوظائف الاجتماعية، كان من الحكمة العقلية والواقعية توجيهها لمن يتمتع برجحان العقل على العاطفة، وهو الرجل غالباً، ولئن كان بعض الرجال تتحكم بهم عواطفهم أكثر من عقولهم، وبعض الناس تتحكم بهن عقولهن أكثر من عواطفهن، فذلك أمر نادر لا يصح أن تتغير من أجله قاعدة عامّة. ومن مرجحات إسناد القوامة في الأسرة إلى الرجل، أنه هو المسؤول في نظام الإسلام عن النفقة عليها، ومسؤوليته عن النفقة على أسرته تجعله أكثر تحفظاً واحتراساً من الاستجابة السريعة للشهوات العابرة، والانفعالات الحادة الرعناء، بخلاف المرأة في ذلك، لأنها بحكم عدم مسؤوليتها عن النفقة، وعن السعي لاكتساب الرزق يقل لديها التحفظ والاحتراس، وتكون في أغلب أحوالها ذات استجابة سريعة لشهواتها وانفعالاتها، التي قد تتطلب منها نفقات مالية باهظة، أو تدفعها إلى الشحّ المفرط، ومن أجل ذلك أيضاً كان الرجل أصلح من المرأة لوظيفة القوامة في الأسرة. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذين السببين المرجحين حينما أعلن أن الرجال قوّامون على النساء، فقال الله تعالى في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول) : {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ....}

وقال تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) : {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . فالرجال أولاً يمتازون برجحان العقل على العاطفة، وهم ثانياً مسؤولون عن النفقة على أسرتهم، وهذان السببان يجعلان الرجال أصلح للقيام بوظيفة القوامة من النساء، بينما نجد النساء أصلح من الرجال للقيام بوظائف اجتماعية أخرى، جعلهن الإسلام المسؤولات عنها، والمكلفات بها. وأولى من القوامة في الأسرة القوامة العامة، سواء أكانت إمارة أو رئاسة أو خلافة أو نحو ذلك، فالرجال بصفة عامة هم الأصلح لتحمل مسؤوليات القوامة العامة، والأقدر على إدارتها وتدبير شؤونها، وهذا هو ما اختاره الإسلام في نظامه للمسلمين. ويحاول أعداء الإسلام خداع الأجيال المسلمة لا سيما الفتيات المسلمات، إذ يقذفون شبهاتهم الظالمة الآثمة، فيغمزون الإسلام بأنه لم يسوّ بين الرجال والنساء في مسألة القوامة، مع أن ما يريدون اتخاذه مغمزاً هو في حقيقة أمره من مفاخر الإسلام الفكرية الواقعية، ومن أمجاده التشريعية، التي ساهمت في منح الشعوب المسلمة في عصورها الذهبية سعادتها واستقرارها ورغد عيشها. وما مثل الذين يحاولون أن يسوّوا بين المرأة والرجل في كل وظيفة من وظائف الحياة، إلا كمثل من يحاول أن يسوّي بين أعضاء الجسد الواحد في وظائفها الجسدية والنفسية، فيكره الأيدي مثلاً على أن تساعد الأرجل في المشي، دون أن تقوم ضرروة لذلك، ويريد للأرجل أن تشارك الأيدي في صنعات الكتابة والخياطة وأعمال البنان المختلفة، ويريد للفكر أن يحب ويشتهي، ويريد لشهوات النفوس أن تعقل وتفكر، ويتحسَّر على العيون لأنها لا تسمع، وعلى الآذان لأنها لا تبصر، وتهفو نفسه إلا التلاعب بطبائع كل عضو من الأعضاء، بغية أن يكون له خصائص الأعضاء الأخرى، إلى آخر هذا العبث الذي يعتبره العقلاء ضرباً من الجنون.

أفلا يجب على رجالنا ونسائنا، وفتياننا وفتياتنا، أن يعودوا إلى النظر السديد، والرأي الرشيد، ويبتعدوا عن كلّ عبث وهراء، وثرثرة وافتراء، بعد أن يكتشفوا أغراض المضللّين، ويعلموا أن أعداء الإسلام قد مهروا في تزوير الحقائق لصد المسلمين عن دينهم، وسلبهم كنوز مجدهم وقوّتهم؟؟.. ك- مستلزمات القوامة: تستلزم قوامة الرجال على النساء أن تكون في سلطة القيم ما يتخذه لردِّ زوجته إلى الطاعة إذا نشزت أو خاف نشوزها، وقد أرشد الله في ذلك إلى اتخاذ وسائل التربية والتأديب المختلفة، ابتداء من الأخف، وترقياً في الدرجات إلى الشديد فالأشد، حتى درجة الضرب غير المبرح، وذلك قبل حدوث الشقاق بينهما الذي قد يؤدي إلى الفراق، قال الله تعالى في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول) : {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً * وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً} . ويتصيد أعداء الإسلام من قوله تعالى في هذا النص: "واضربوهن" شبهة ينتقدون بها تعاليمه، ليضللوا بها الأجيال الناشئة من فتيان المسلمين وفتياتهم، مع أن التحليل المنطقي والتجارب الواقعية يثبتان عظمة تعاليم القوامة الزوجية، التي تضمنها هذا النص، ويثبتان كمالها ومثاليتها. إنه لما اقتضت الحكمة في توزيع مسؤوليات الأسرة أن يكون الرجل هو القيم على زوجته وولي أمرها، اقتضت أيضاً أن يكون لكل منهما حقوق على الآخر وواجبات نحوه. ومن حقوق الزوج على زوجته أن لا تكون ناشزاً خارجة عن طاعته، ما لم يأمرها بما فيه معصية لله، أو هضم لحقوقها التي شرعها الله لها.

وأية مؤسسة اجتماعية لا بد أ، يكون في يد صاحب الأمر فيها وسائل يضبط بها نظام هذه المؤسسة، حتى لا تتعرض للفوضى، فالفساد فالتفكك والانحلال. وأبرز عناصر وحدة مؤسسة اجتماعية إنما هو عنصر طاعة أعضائها لصاحب الأمر فيها، والخروج عن هذه الداعة نشوز يجعل المؤسسة منحلة أو بحكم المنحلة. ولما كان في طبائع الناس نزوع إلى التحرر من قيود الطاعة، كانت المؤسسات الاجتماعية الإنسانية عرضة للانحلال والتفكك باستمرار،ما لم تهيمن على أفرادها الضوابط الاجتماعية المعنوية والمادية، ومن الضوابط الاجتماعية التي تصون وحدة الجماعة وسائل التربية والتأديب، عند حدوث بوادر النشوز والخروج على الطاعة، ويدخل في التأ>يب أنواع العقاب التي تسمح بها الأعراف الإنسانية الكريمة. وقد أرشدت الحكمة النظرية والتطبيقية الناس إلى استخدام طائفة من وسائل التربية والتأديب، للمحافظة على استمرار عنصر الطاعة مهيمناً على أفراد الجماعة وتتفاوت هذه الوسائل فيما بينها رغبة ورهبة، ورفقاً وشدة، ولطفاً وعنفاً. ويختار بعض أولي الأمر أسلوب العنف والقسوة فيفشلون، مهما اضطهدوا رعيتهم، ويختار بعضهم أسلوب الرفق واللين باستمرار، فيتطاول عليهم الباغون المنحرفون، فينتزعون منهم سلطانهم، أو يلجئونهم إلى التغاضي عن الفوضى،التي يستغلونها استغلالاً ظالماً آثماً. أما الحكماء العقلاء فيستخدمون الوسائل كلها، إلا أنهم يضعون كلاً منها في موضعه، وبذلك يسلم لهم الأمر، وتسعد بهم الجماعة. وهذا ما أرشد إليه الإسلام أولياء الأمور بشكل عام، كما أرشد إليه ذوي الولايات الخاصة الصغيرة، ومنهم القوامون على الأسر. وبعداً عن الإنصاف، أو بعداً عن الروية، ينتقد أعداء الإسلام

والمنخدعون بهم المتأثرون بتضليلاتهم، التعليم الإسلامي الذي يأذن للزوج بموجب سلطته في القوامة، أن يضرب زوجته إذا خاف نشوزها ضرباً غير مبرح، في آخر مراحل التأديب ذات الدرجات المتعددة، بغية إصلاحها وإعادتها إلى حظيرة الطاعة المشروعة وهذا الضرب وسيلة احتياطية لا تستعمل إلا في أشد الحالات استعصاء على الحل، وتفادياً لوقوع الطلاق، الذي هو أشد منه وأقسى على قلب الزوجة. لقد أرشد الإسلام إلى استخدام وسائل التربية والتأديب الحكيمة، وجعلها على مراحل في مراتب بعضها أشد من بعضها. المرتبة الأولى: الموعظة، وللموعظة درجات كثيرة، تبدأ بمعاريض القول، وبالإشارات الخفيفة، والتلويح دون التصريح، ثم ترتقي إلى لفت النظر والتنبيه والتصريح مع الرفق في الموعظة، ثم بعد ذلك ترتقي إلى التصريح المصحوب بشيء يسير من العنف، ثم ترتقي إلى الزجر والتعنيف، وأخيراً قد تصل إلى درجة التوبيخ والإنذار، فإذا لم تُجْدِ كل درجات الموعظة كان لا بد من الانتقال إلى المرتبة الثانية من مراتب التربية والتأديب. المرتبة الثانية: الهجر في المضجع، وهذا الهجر يتضمن إشعاراً بمقدار من السخط أدى المعاقبة بالحرمان من متعة اللقاء على مودة وصفاء. وهجر الزوج لزوجته في المضجع أبلغ أنواع الهجر، وعقاب قاس ليس بالهين على زوجة عاقلة حريصة على زوجها، حريصة على أن تكون مالكة قلبه، وتخشى أن يتجه لغيرها. وللهجر في المضجع درجات بعضها أقسى من بعض، ويعرف هذه الدرجات العقلاء الحكماء من الرجال، الخبيرون بأدواء النساء، وبطرق معالجتهن، وليس من الحكمة في التأديب معاقبة الزوجة بأشد هذه الدرجات قبل امتحان أخفها وسيلة للإصلاح، فإذا لم تُجْدِ في تأديبها الدرجات الخفيفة انتقل إلى الدرجات العنيفة. وقد هجر الرسول صلوات الله عليه زوجاته قرابة شهر فكان هذا عليهن أقسى تأديب تلقينه.

وقد أشار الإسلام إلى أن المدة القصوى للهجر ينبغي أن لا تزيد على أربعة أشهر، وذلك إذ جعل للذين يولون من نسائهم (أي: يحلفون أن لا يعاشروهن المعاشرة الزوجية) أن يتربصوا أربعة أشهر، فإما أن يعودوا إلى معاشرتهن، وإما أن يكون لزوجاته الحق بأن يطالبن بالفراق. فإذا لم تُجدِ وسيلة الهجر في رد الزوجة إلى الطاعة والاستقامة، لم يكن للزوج مندوحة قبل العزم على حل عقدة الزواج بالطلاق من اللجوء إلى المرتبة الثالثة من مراتب التأديب. المرتبة الثالثة: مرتبة الضرب غير المبرح الذي لا يصل إلى أدنى الحدود الشرعية. وما نظن امرأة في الدنيا توجه لها أشد درجات الموعظة فلا تستقيم، ثم تهجر أبلغ أنواع الهجر وأقساها فلا تستقيم أيضاً، إلا أن تكون مبلدة الحس، سيئة العشرة، كريهة الطبع، لا تشعر بكرامة نفسها، فهي تستحق الت أديب بالضرب، أو أن تكون مكارهة تبغي الفراق، ولكنها لا تحاول أن تصرح به لغرض في نفسها. فإذا كانت كارهة راغبة بالفراق فإن لديها من الوسائل ما يبلغها مرادها، دون أن تكاره الزوج بالنشوز والعصيان والخروج عن طاعته، وبإمكانها أن تعرب عما في نفسها منذ أن استخدم في إصلاحها المرتبة الأولى فالثانية، فهو يظنها زوجة راضية به حريصة عليه. أما إذا لم تعلن رغبتها بمفارقته فالظاهر من أمرها أنها امرأة إما أن تكون ممن يصحلهن الضرب، أو أن يكون نصيبها الفراق، إلا أن إهانتها بالفراق ووسهما بأنها امرأة لا تصلح للمعاشرة الزوجية أقسى عليها وأشد من إهانتها بالضرب غير المبرح. على أن في يديها حق المطالبة بالفراق، قبل أن يمارس الزوج هذه الوسيلة في إصلاحها وردها إلى الطاعة والاستقامة، وبذلك تحفظ كرامتها إذا كانت من الصنف الذي لا يتحمل الإهانة بالضرب، وهي مصرة على أن تظل معاندة غير مستجيبة لوسائل التربية.

يضاف إلى ما سق أن التجارب النفسية قد دلت أن بعض الناس مصابون بانحراف نفسي غريب المزاج، يلذ لهم معه أن يتلقوا معاملة قاسية مؤلمة، جسدية أو نفسية، فلا يطيب مزاجهم ولا يعتدلون إلا بالضرب أو ما يشبهه من مؤلمات، وأكثر ما يكون هذا اللون من الانحراف في صنف النساء، ويطلق عليه علماء النفس اسم "الماسوشزم". وكثيراً ما سمعنا عن نساء من هذا القبيل، لا تطيب لهن الحياة الزوجية، ولا يستقمن مع أزواجهن، ولا يعتدل مزاجهن، حتى يتلقين منهم عنفاً يجري دموعهن الغزيرة، يتبعه رفق يمسح هذه الدموع. ومهما يكن من أمر فإن استخدام هذه الوسيلة مع اللوات يفضلنا على الفراق، يشبه استخدام وسيلة جراحة العضو العليل لدى مداواته، قبل الحكم عليه بالبتر النهائي، ما بقي لدى الحكيم أمل بالإصلاح، أما إذا جزم بخبرته أنه لا سبيل إلى الإصلاح فإنه له أن ينتقل مباشرة إلى البتر النهائي، وكذلك يكون الأمر في بعض الحالات الزوجية. على أن وجود التشريع الذي يأذن للزوج بتأديب زوجته بالضرب في آخر المراحل التي ليس وراءها إلا الطلاق، لا يعني أ، هذا السلاح الاحتياطي سيستخدمه كل زوج، فمعظم الأسر المؤدبة بآداب الإسلام لا تعرف في حياتها الهجر في المضاجع فضلاً عن الضرب، وذلك لأن التربية الإسلامية العامة للرجال والنساء، متى استوفت شروطها فلا بد أن تجعل الأسر الإسلامية في وضع من الوئام والتفاهم والود؛ لا يسمح بأكثر من استخدام الدرجات الخفيفة من درجات الموعظة التي يشترك فيها كل من الزوجين، إذ تقضي تعاليم الإسلام بإلزام كل من الزوجين بأن يأمر قرينه بالمعروف وينهاه عن المنكر، ويقدم إليه الموعظة الحسنة. وقد علمتنا السيرة النبوية أن الرسول صلوات الله عليه لم يضرب في حياته زوجة ولا خادماً. وأحاط الإسلام الإذن باستخدام هذه الوسيلة في تأديب بعض المسيئات من الزوجات بسياج من الوصايا الكثيرة، التي تأمر الرجال بأن يحسنوا معاملة النساء.

وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله قال: "من كان يؤمن بالله وا ليوم الآخر فلا يؤذ جاره، واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهنّ خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيراً". وفي رواية أخرى: "إن المرأة خلقت من ضلع، ولن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعت بها استمعت بها وبها عوج، وإن ذهبت تقيما كسرتها، وكسرها طلاقها". ففي هذا تنبيه إلى اختلاف خصائصهن النفسية عن الخصائص النفسية التي يتمتع بها الرجال، ولذلك يجب مراعاتهن بما يناسب خصائصهنّ. وروى مسلم عن أبي هريرة، أن النبي قال: "لا يَفْرَكْ مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر". ومعنى "لا يَفْرَك": لا يبغض. وقد ألح الرسول في خطبته في حجة الوداع موصياً بالنساء خيراً فقال: "فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهنّ بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله". ومن غريب المفارقات، أن الذين ينتقدون بشدة تعاليم الإسلام، إذ أذنت للزوج بأن يضرب زوجته ضرب تأديب وإصلاح، ضمن منهج تربوي رائع، لا يتورعون عن إنزال أشد أنواع العذاب والاضطهاد على الرجال والنساء والفتيان والفتيات، من أجل خلاف في الرأي السياسي أو المذهب الاجتماعي، لأنهم يعتبرون ذلك خروجاً على طاعتهم، إذ فرضوا أنفسهم عليهم أولياء أمور بدون حق. ل- المرأة والطلاق: يحاول بعض أعداء الإسلام تلفيق انتقادٍ لنظامه في موضوع الطلاق، إذ جاء فيه الإذن بحلّ عقدة النكاح بين الزوجين به، وفي هذا إذن بهدم مؤسسة

الأسرة، وكان ذلك بيد الزوج فلا تملك المرأة حق مباشرته، وفي هذا تفضيل للرجل على المرأة، مع أنها العضو الثاني في بناء هذه المؤسسة الاجتماعية. وفي دفع الشبهات المطروحة في هذا الموضوع، نلجأ إلى تحليل موجبات هذا النظام، وتفصيل الاحتمالات المختلفة، لكشف أن ما اختاره نظام الإسلام هو الحلّ الأفضل من سائر الحلول الممكنة، لسلامة المجتمع الإنساني. موجبات الإذن بالطلاق: مما لا ريب فيه، أنّ نظرة الإسلام إلى عقد الزواج بوصفه شركة اجتماعية تهدف إلى بناء أسرة من أسر المجتمع الإنساني المتكاثر، نظرة تحرص على أن يكون هذا العقد مؤبداً، ليضطلع كل من الزوجين بمسؤوليته الكاملة، تجاه أوصال هذه الحلقة من حلقات السلسلة الإنسانية الكبرى، التي يتكون منها المجتمع الكبير. من أجل ذلك لم يرتض التوقيت لهذا العقد بمدة زمنية محدودة، مهما كانت هذه المدة، باستثناء ظروف الضرورة القصوى التي كان قد رخص فيها بالمتعة، ثم ألغى هذه الرخصة كما يرى ذلك جمهور فقهاء المسلمين. إلا أن ضمان استمرار هذه الشركة على الوجه الذي يرافقه الخير والسعادة للزوجين، ولسائر أعضاء الأسرة، أمر لا يملكه بحال من الأحوال نظام يقضي بمنع حل هذه الشركة، إن استمرار هذه الشركة على هذا الوجه، حتى تؤدي وظائفها الاجتماعية أداء حسناً أمر لا يتم إلا ضمن شروط نفسية وخلقية ومادية، وأهم هذه الشروط ما يلي: الشرط الأول: المودة والرحمة بين الزوجين، ومتى فقد هذا الشرط لم يكن لهذه الشركة أي معنى من المعاني، ولا يمكن أن يتم عن طريقها تلبية مطالب الشريكين التي دفعت كلاً منهما إلى الزواج، كما لا يمكن أيضاً تأدية الوظيفة الاجتماعية لأعضاء أسرتهما على الوجه الصحيح المطلوب، علماً بأن تأدية هذه الوظيفة هي الهدف الأكبر من وراء التجاذب الفطري بين الرجل والمرأة، ومن وراء ما ينعقد بينهما من مودة ورحمة.

وتحقيق هذا الشرط لا يملكه أي نظام من الأنظمة، وقد تساعد على إيجاهد ألوان التربية الخلقية التي عني بها الإسلام، ولكنها لا تملك تحقيقه دائماً، فالقضية فيه قضية عاطفة قلبية، وميل نفسي، يقومان على أساس تلاؤم فطري، ومن أصعب الصعب معالجتهما بوسائل مادية. وكثيراً ما يبدأ الزوج بالمودة والرحمة ثم يتحول الأمر بين الزوجين إلى نقيض ذلك، فتغدو هذه الشركة منحلة في الواقع النفسي، وإن بقيت مرتبطة في الظاهر، وأنت خبير أن من الخير لشركة منحلة في الواقع النفسي، أن تمنح لها فرصة الانفكاك الشكلي ضمن حدود النظام العام، لا أن يرفض عليها استمرار في الصورة، وهي منحلة في الحقيقة، لأن هذا الوضع المتناقض لا بد أن ينجم عنه سيئات وموبات نفسية وخلقية وجسدية واجتماعية، ومن شأن هذه السيئات والموبقات أن تتزايد وتتكاثر مع الزمن. الشرط الثاني: التلاؤم الخلقي أو الطبعي، فقد يصادف أن تكون أخلاق الزوجين أو طباعهما متنافرة تنافراً بيّناً، حتى لا يملك كل منهما تكييف نفسه بشكل يتلاءم به مع صاحبه، فلا يحسن أحدهما أو كلاهما معاشرة قرينه بالمعروف، وقد تطول تجربتهما رغبة بإيجاد التلاؤم المطلوب، ولكن يستمر حالهما على التنافر الخلقي أ, الطبيعي، وربما يشعر أحدهما أو كلاهما نحو صاحبه بالمودة الزوجية، إلا أنه لا يستطيع تحمل التنافر بينهما في الخلق أو الطبع، ومن شأن هذا التنافر إذا استمر أن ينتهي إلى مثل الحالة التي فقد فيها الشرط الأول، وعندئذ تتشابه المشكلة، وتتشابه معها طريقة الحل، ويكون حينئذ حل هذه الشركة خيراً من استمرارها على وضع يؤدي إلى فساد خطير، وسيئات اجتماعية لا تحتمل، وآلام للزوجين وأولادهما. الشرط الثالث: تلبية مطالب كل من الزوجين المادية، التي تعتبر من العناصر الأساسية لهذه الشركة. وقد يحدث أن لا يجد أحد الزوجين أو كلاهما عند الآخر مطالبة مادية، التي لا يكون الزواج سوياً بدونها، وفي هذه الحالة يكون الزواج مجرد صداقة، لا شركة لبناء أسرة من أسر المجتمع الكبير.

وليس من المفروض أن يلزم أحد الزوجين بأن يتنازل عن مطالبه المادية إذا تنازل الشريك الآخر عن مطالبه المادية المناظرة لها؛ فقد يكون عند أحد الشريكين قدرة يستطيع بها أن يصبر على الحرمان، في حين أن الشريك الآخر ليس لديه مثل هذه القدرة. وليس من العدل ولا من الحكمة في التزامات الحياة القائمة على التراضي بين فريقين، أن تُفْضِي إلى إكراه لأحد الفريقي أو لكليهما، رغم اختلال شرط من الشروط الأساسية التي قام عليها ذلك التراضي. ولدى التأمل نرى أن اختلال شرط تلبية المطالب المادية الزوجية مما يجعل الزواج منحلاً في الواقع غالباً، وإن كان قائماً في الصورة، وعندئذ يكون حل هذه الشركة خيراً من استمرارها، ما لم يكن استمرارها مقروناً برضى كل من الشريكين رضاً قلبياً وظاهراً، لمصلحة يريانها ويقدرانها. من كل ما سبق يتيبن لنا أنه قد تدعو الضرورة الملحة الفردية والاجتماعية إلى حل عقدة النكاح بين الزوجين، وهذه الضرورة تستدعي كل نظام أن يراعيها في أحكامه. من أجل ذلك وجدنا الإسلام المنزل من لدن عليم حكيم خبير قد راعى هذه الضرورة، فشرع الطلاق مع كراهيته له، إذ جاء في الحديث: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق". والإذن بالطلاق شبيه بالإذن ببتر عضو من أعضاء الجسد، حينما يُخشى من بقائه ضرر أشد من فقده، وهذه الضرورة هي التي دعت معظم القوانين الوضعية الحديثة في أوربا وأمريكا أن تخرج على تعاليم الكنيسة، وتبيح الطلاق إباحة تامة، إلا أنها تجاوزت في إباحته الحدود المنطقية، فلا تلاحظ المعوقات التي وضعها الإسلام رغبة بإصلاح ذات البين قبل بت الطلاق والجزم به بشكل نهائي. المعوقات: ولما دعت الضرورة الاجتماعية والفردية أن تتضمن الشريعة الإسلامية في

نظام الأسرة جواز حل عقدة النكاح بين الزوجين، لدفع آلام قائمة، وفسخ المجال لإجراء تجربة أخرى ربما تصادف لكل منهما نجاحاً لم يظفرا به في التجربة الأولى الفاشلة، أحاط الله ذلك بما يعوق طريق ممارسته الفعلية، وبما يهيئ الفرص المشجعة على الرجوع عنه، حتى تهبط نسبة الطلاق الذي يمارسه الناس إلى أقل نسبة ممكنة يتم فيها الانفصال النهائي بين الزوجين، وليظل البناء لكل أسرة بناء متماسكاً، ما لم يصبح أحد هذه الأبنية عنصراً غير صالح للبقاء، وما لم تقضِ الضرورة بفسح المجال لتجديد على وجه آخر. فمن المعوقات النصوص التي تتضمن كراهية الإسلام للطلاق. منها ما رواه أبو داود عن ابن عمر أن النبي قال: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق". ومنها ما رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، والدارمي، بإسناد جيد، عن ثوبان، قال: قال رسول الله: "أيما امرأة سألت زوجها طلاقاً من غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة". ومن المعوقات إلزام الزوج بأن لا يطلق إلا في وقت تستطيع المرأة فيه أن تباشر أيام عدتها، وذلك إنما يكون في حالة طهرها من الحيض وقبل أن يمسها في هذا الطهر، أو إذا كانت حاملاً. روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر أنه طلق امرأة له وهي حائض، فذكر عمر لرسول الله فتغيظ فيه رسول الله ثم قال: "ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهراً قبل أن يمسها، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء" وفي رواية: "مُرهُ فليراجعها، ثم ليطلقها طاهراً أو حاملاً". أما الأمور التي شرعها الإسلام لتكون مغرية الرجل بالرجوع عن طلاق زوجته، إذا كان الطلاق رجعياً، فهي أمور ثلاثة: الأمر الأول: أن يكون طلاق المدخول بها على ثلاث مراحل، تكون المرحلة الأولى

والمرحلة الثانية منها قابلتين للعودة إلى رباط الزوجية، وترميم ما وهن أو انشق من بناء الأسرة. الأمر الثاني: نهى الأزواج عن إخراج المطلقات في المرتين الأولى والثانية من بيوتهم، ونهي الزوجات عن الخروج منها، واعتبار هذه البيوت بيوتهن، ليكون بقاؤهن فيها أدعى لتحريك عوامل المودة، وتذكر الصلات الأولى، والإغراء بالعودة إلى رباط الزوجية. الأمر الثالث: إطالة فترة العدة، ولو حصل التأكد من الخلو من الحمل بما دونها، إذ جعلها الإسلام ثلاثة قروء (أي: حيضات أو إطهار) إذا كانت المرأة من ذوات الحيض، وهي غالباً في ثلاثة أشهر، وجعلها ثلاثة أشهر إذا كانت المرأة من اللواتي لا يحضن، وأما الحوامل فتستمر عدتهن حتى يضعن حملهن. ونجد الدليل على ما شرعه اللهمن هذه المعوقات عن الطلاق، والمغريات بالرجوع عنه، في قول الله تعالى في سورة (الطلاق/65 مصحف/99 نزول) : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً * فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} . وقول الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) : {َالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ

الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} . ثم قال الله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} . والحق أقول: إنه متى التزم الناس بهذه الحدود الربانية التي شرعها الله لهم، ضمنوا لأنفسهم أسراً محكمة البناء، تؤدي وظائفها الاجتماعية خير أداء. والحق أقول: إنه لا يؤدي تجاوز هذه الحدود الربانية لا إلى إخلال في تماسك الأبنية التي يتألف منها المجتمع الكبير، ثم إلى فساد عريض في الأرض. حق مباشرة الطلاق: يحاول أعداء الإسلام إثارة المرأة المسلمة ضد تعاليم دينها إذ جعل للرجل حق مباشرة تطليق زوجته، ولم يجعل للمرأة مثل هذا الحق إلا عن طريق القضاء الشرعي. ولا بد لرد هذه الشبهة من دراسة الاحتمالات الممكنة كلها، وبيان الأصلح منها بشكل منطقي سليم، لنقارن ذلك بما أخذ به الإسلام منها. إن لحل هذه الشركة الاجتماعية - عندما تلجئ الضرورة إلى حلها - عدة احتمالات: الاحتمال الأول: أن يكون حلها مثل عقدها لا يتم إلا بتطابق إرادتي الزوج والزوجة، ولكن لهذا الاحتمال سيئات، أهمها: أنه لو ألحت الضرورة على أحد الزوجين فعزم على الحل، وأصر الآخر على بقاء الشركة للإضرار بشريكه لم يستطع أن يصل إلى ما يريد، وبذلك تنمو مشكلة استمرار شركة بموجب إرادة مستمرة من طرف واحد فقط، مع أنها لم تتم إلا بتطابق إرادتين من طرفين، ومع إلزام الإنسان بما يكره أو لا يوافق مصلحته تنمو عوامل الاحتيال والمكارهة، والتهرب من الواجبات، والانحراف عن الصراط السوي، وقد تصل في آخر الأمر إلى حد الجريمة. إذن فهذا الاحتمال احتمال مرفوض.

الاحتمال الثاني: أن يكون في يد كلٍ من الزوجين إمكان حلّها من طرفه دون أية قيود تفرض عليه، وقد كان من المقبول اللجوء إلى هذا الاحتمال في التشريع لولا ملاحظة الأمور التالية: 1- أن تكوين مؤسسّة الأسرة ذو طابع اجتماعي، ولذلك اقتضى أن يكون لها كل ما للجماعة من مقومات، وأهمها أن بعضها ذو ولاية على الآخر، ليتمّ بذلك تماسك الجماعة، واستقامة أمرها، وبعدها عن الفوضى، فلو أنّ في سلطة كل من القيم صاحب الولاية وشريكته حل هذه الشركة بشكل مباشر، ودون أية عقبات، لكان نقضاً بيناً لمعنى الولاية، ومؤدباً إلى سلب كل قواها المادية والم عنوية. وذلك لأن صاحب الولاية وهو الزوج سيكون مهدداً بحل هذه الشركة من قبل الطرف الآخر، كلما أراد أن يوجه أمراً أو نهياً اقتضته المصلحة، وهو يخالف هوى الطرف الآخر، فتفقد الولاية بذلك كل معناها، ومتى فقدت الولاية معناها الحقيقي عاد أمر هذه المؤسسة الاجتماعية إلى الفوضى، واستقلال كل عنصر من عناصرها برأيه وأهوائه وشهواته. 2- أن المرأة في الغالب تقع تحت تأثير عواطفها الآتية، فلو أن في يدها حل عقد النكاح مباشرة دون أية عقبة شكلية، لكانت هذه المؤسسة الاجتماعية عرضة للحل لدى أية حالة انفعالية رعناء تعتريها، والأمر في حل عقدة النكاح يخالف الأمر لدى ربطها، وذلك لأن ربطها يكون غالباً في حالة ذات استقرار عاطفي، لما يسبق ذلك من تأمل وتبصر، ولا يتم إلا عند تطابق إرادتي العاقدين، بخلاف الحل فإن أية رعونة طائشة كفيلة بالبت فيه، دون روية طويلة. 3- أن معظم أعباء هذه المؤسسة الاجتماعية المادية والمعنوية، في بنائها أو هدمها ملقاة على عاتق الزوج في نظام الإسلام، فهو أحرى بأن يكون صاحب روية طويلة قبل أن يقدم على البت بحل هذه الشركة، وهدم هذه المؤسسة التي ستتهاوى أنقاضها عليه، وأحرى بأن لا يكون سريع الاستجابة لانفعالاته الآنية المفاجئة، التي قد تثيرها أمور طفيفة كثيراً ما

تحدث بين الزوجين، لأنه لا بد أن يقع في تقديره ما سيترتب عليه من مسؤوليات جسام مادية ومعنوية، إذا بت عبارة حله لهذه الشركة. بخلاف الزوجة في ذلك، فإنه لو كان بيدها مباشرة حل هذه الشركة متى أرادت، فإنها ربما تتخذ الزواج سبيلاً إلى تجاربها الزوجية الكثيرة، التي لا تكلفها شيئاً بل تدر عليها فوائد مادية تجنيها عن طريق المهر وغيره، وتعطي لنفسها مجالاً واسعاً. تنقل أهواءها فيه. كل هذه الأمور موجبة لرفض الأخذ بهذا الاحتمال. الاحتمال الثالث: أن يكون باستطاعة كل من الزوجين حل هذه الشركة ولكن ضمن قيود. وقد رأى الإسلام بحكمته العالية أن الأخذ بهذا الاحتمال أكثر صيانة لبناء الأسرة، من أن يكون عرضة لعوامل الهدم السريع، فأعطى الرجل بوصفه قيم هذه المؤسسة الاجتماعية وراعيها، سلطة حل الشركة بينه وبين زوجته بشكل مباشر، ولكن جعل له فرصتي روية يرجع فيهما عن رأيه، وحمله أعباء النفقات التي يستتبعها الطلاق، بعد أن حمله أعباء النفقات التي استتبعها عقد الزواج، وأعطى المرأة بجانب ذلك حق المطالبة بحل هذه الشركة عن طريق القضاء الشرعي، فإن كانت مطالبتها بذلك مستندة إلى مبررات مشروعة لم يكن للزوج أن يطالبهاب المهر ولا بأية نفقات أخرى استتبعها عقد الزواج أو الخطبة، وإن كانت مطالبتها بذلك مستندة إلى إرادة خاصة بها كان لزوجها الحق بأن يطالب برد المهر الذي ساقه إليها لدى عقد النكاح، والحكمة في ذلك أن لا تتخذ النساء من منحها الحق بأن تطالب بحل هذه الشركة، وسيلة لتحصيل المهور، واتخاذ عقد الزواج تجارة قائمة على مصلحة مادية بحتة. وقد أذن الإسلام للزوج بأن يمارس حقه هذا بشكل مباشر، وعن غير طريق القضاء الشرعي، صيانة للمرأة من الفضيحة التي يفضي إليها بيان الأسباب الداعية إلى الطلاق، وليخفف الأعباء عن القضاء الشرعي، كما خفف الأعباء منه في سائر العقود المادية والأدبية، فجعل الناس مسؤولين عما

يبتّونه منها فيما بينهم، ولو لم يكن ذلك بإشراف جهة رسمية تمثل الدولة. لكن للدولة الإسلامية أن تفرض على الناس ما يضمن تطبيق نظام التسجيل، إذا رأت أن النظام العام يقضي بأن تقوم الدوائر الرسمية بتسجيل عقود الزواج، وتسجيل حل هذه العقود ضماناً لحقوق الناس وأنسابهم. والتطبيق السوي لأحكام الإسلام هو الكفيل بأن يبرز كمالها وعظمتها، وهو الكفيل بأن يسكت ألسنة أعداء الإسلام. وقد كان المجتمع النصراني يحرم الطلاق بموجبة أحكام كنسية، ثم أثبتت لهم التجارب أنّ هذا الحكم غير صالح، وأنه قد نجم عنه مفاسد كثيرة، منها اعتبار الخيانة الزوجية أمراً عاديّاً لا غبار عليه، لأنه النافذة الوحيدة لتلبية رغبات كلّ من الزوجين اللذين ساءت العلاقة بينهما، وهما لا يستطيعان حل عقدة النكاح بموجب الحكم الكنسي. هذا الواقع الذي جرّ إلى الفساد الخطير جعل المجتمع النصراني يلجأ إلى مبدأ إباحة الطلاق في الأنظمة المدنية، التي أخذت بعد ذلك نوعاً من الموافقة الكنسية المحدودة، في بعض البلدان. ولكنه إذا أخذ بمبدأ إباحة الطلاق وقع في إطلاق مسرف، جرّ إلى مفاسد أخرى كثيرة، إذْ أباح لكلّ من الزوجين المطالبة بالطلاق، فانتشر الطلاق في كثير من بلاد الغرب انتشاراً واسعاً جدّاً، حتى صار من الوقائع التي تذكرها الإحصائيات أن الرجل يتزوج ويطلق في السنة الواحدة عدداً من المرّات، وكذلك المرأة، وغدا الزوج عند الكثيرين أشبه بالمعاشرة المؤقتة، كصور الزواج التي نشاهدها فيما يسمّى بالوسط الفني. في تقرير للمكتب الرئيسي للشؤون الاجتماعية في (فيسبادن) بألمانيا، أنه ارتفع معدل الزواج في مقاطعة (هليسن) بمقدار (2) لكل ثلاثين ألف حالة في العام الماضي (1980م) بينما بلغت حالات الطلاق (8400) حالة، أي

بزيادة (25) في المئة عن السنة السابقة. وقد كان عام (1979م) عاماً حافلاً بطلبات الطلاق التي أغرقت معظم المحاكم هنا. وقد بلغت حوالى (80) ألف معاملة معاملة طلاق كانت تمثل كثيراً من المآسي الإنسانية هنا. والملاحظة تثبت أن النساء هنّ أصل المشكلة بسبب البحث عن مزيد من الحرية. * * *

الفصل الثامن أجوبة أسئلة تشكيكية

الفصْل الثامِن أجوبَة أسئِلة تَشكيكيَّة موَجهَة من قبل منَظمَة "الآباء البيض" التبشيرية وفيه ما يلي: (1) بيان الأسئلة الموجهة من منظمة "الآباء البيض" التبشيرية. (2) مقدمة عامة. (3) الحرية في مفهومنا الإسلامي. (4) المساواة في مفهومنا الإسلامي. (5) شعارا الحريّة والمساواة صناعة يهودية. (6) أجوبة الأسئلة الموجّهة. أوّلاً: أسئلتهم حول الحريّة وأجوبتها. ثانياً: أسئلتهم حول المساواة وأجوبتها.

(1) بيان الأسئلة الموجهة من منظمة "الآباء البيض" التبشيريّة وجّهت منظمة "الآباء البيض" النصرانيّة التبشيريّة، لعلماء المسلمين الأسئلة التشكيكيَّة التالية: أسئلة حول الحرّيّات (1) كيف يمكن التوفيق بين حريّة التفكير والاعتقاد الّتي منحها الله للإنسان، وبين منعه (مع استخدام العقوبة القُصْوى وهي القتل) من تغيير دينه وإنْ كان هذا التغيير قد نجم عن قرار شخصيّ نابع من تفكير عميق، ولأسبابٍ جدّيّة؟ (2) المسلمون يعتبرون من الطبيعيّ جدّاً أن يعترف النصارى بحقّ إخوتهم في العقيدة في اعتناق الإسلام. ألاَ يُمْكن للمسلمين الراغبي في دخول النصرانيّة من التّمتُّع بالحقّ نفسه، إقراراً للحريّة التي منحها الله للإنسان؟ (3) هل الإسلام على استعداد - في البلاد الإسلاميّة - لمنح المسيحيّين تلك الحرّيّات الّتي يتمتّع بها المسلمون في البلاد المسيحيّة، بما في ذلك دخول المساجد، والتعبير الحرّ عن دينهم، ودعوة الجماهير لاعتناق المسيحيّة؟ (4) كيف يكون منطقيّاً التأكيد بأنّ الله قد منح الحرّيّة بالتساوي للرّجل والمرأة، ثمّ تُمنَعُ المرأة المسلمة من اختيار الرجل الذي ترغب في الزواج منه، إنْ لم يكن مسلماً؟

( 5) كيف يُمْكننا تفسير العقوبات الجسديّة، كقطع يَدِ السارق، أو الجلْدِ أو الرّجْم، وهي المبينة في بعض الآيات القرآنية؟. أسئلة حول المساواة (1) ما معنى الدفاع عن تفوّق الإنسان الحرّ على العبد، دون إدانة للعبوديّة، أو القضاء عليها؟ (2) لماذا يُقال بأنّ الله قد خلق البشر سواسية في الحقوق والواجبات، بينما تقبل عدم المساواة لأسباب دينيّة؟ كما يعلن عن تفوّق المسلم على غير المسلم وإن كان الأخير من (أهل الكتاب) أو من أتباع الديانات الأخرى أو من غير المؤمنين؟ ونجد هذه اللاّمساواة في الميادين الحقوقيّة والاجتماعيّة، اعتماداً على العقائد الدينيّة، ونحن بدَوْرِنا نتساءل: هل يتعارض التعايش - بالحقوق نفسها - بين المسلمين والنصارى واليهود وبقيّة الناس، مؤمنين أم غير مؤمنين، مع العقيدة الإسلامية، وبخاصة بالنسبة لقضيّة تطبيق الشريعة دون تمييز على المسلمين وغير المسلمين؟ (3) ولماذا يقْبَلُ تفوُّق جنس على آخر، وهو أمر نراه من خلال النقاط التالية: * قبول تعدّد الزوجات، مع تحريم تعدّد الأزواج. * إمكانيّة هجر الرجل لزوجته دون أن يقدّم تبريراً لعمله، ومن دون أن يعاني من أيّة نتائج لعمله هذا، بينما لا تستطيع المرأة سوى الحصول وبصعوبة على الطلاق، وعن الطريق القانوني فقط. * للأب حقّ الوصاية أو الولاية على الأبناء دائماً وإن كان الأطفال في حضانة الأمّ. * بالنسبة للمواريث نجد أنّ نصيب المرأة، وفي أغلب الأ؛ يان، هو أقلّ من نصف حصة الرجل.

(4) وأخيراً أيْنَ نجد الترابط المنطقيّ لله والذي خلَق البشر وأحبَّهمه جميعاً، بينما نجد - كما في النصوص القرآنيّة - يحثُّ على قتال الكفار؟. ( 5) وفي الدولة الإسلاميّة الّتي تُطَبَّقُ فيها الشريعة، هل التعدّديّة (في كافّة صورها الدينيّة والثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والعائليّة) هل ستعتبر هذه التعدّديَّة رحْمةً إلهيَّةً تضمن الحرّيّة والمساواة، أم إنّه ستفرض الشريعة على الجميع بشكل ديكتاتوري، كما نراها حاليّاً في كثير من الدُّول الإسلاميّة؟ * * * هذا هو نصُّ أسئلتهم التشكيكيّة، وأجيب عليها في هذا الفصل بإيجاز بمعونة الله وتوفيقه. * * * (2) مقدمة عامة الحمد لله ربّ العالمين، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفُواً أحد، ولم يتَّخذ صاحبةً ولا ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، ولا شريك له في ربوبيته ولا في إلهِيّته، سبحانه وتعالى عن كل ذلك، وتنزه عن الحلول والاتحاد بشيء مما خلق، وكل ما سواه خلقٌ من خلقه. والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى إخوانه نوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل وموسى وعيسى، عبادِ الله وأنبيائه ورسله، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد، فإنَّ الله عزَّ وجلَّ لم يخلق الناس في هذه الحياة عبثاً ولا باطلاً، ولم يخلق كونه لعباً ولا لهواً، بل كلّ خلقه وأمره وتصاريفه في كونه

لحكمة، ولا مجال لتصوّر العبث أو الظلم أو اللهو أو اللَّعب في شيءٍ من ذلك، وهو العليم الحكيم القدير الذي يفعل ما يشاء ويختار، خَلْقُه فَيْضٌ، وعطاؤه فَضْلٌ، وعقابه عَدْلٌ. وقد خلق الله الناس على أحسن تقويم، وجعل حياتهم الأولى في هذه الدنيا داخل أحداث متداخلة متشابكة، وصور مختلفة كثيرة، ليبلوهم أيُّهم أحسن عملاً، فمن هو دون ذلك، حتى أسوئهم عملاً، وأحطِّهم دركة في أسفل سافلين، ليجزيهم في الحياة الأخرى، بعد الموت والبعث على مقادير أعمالهم. فهذه الحياة الدنيا رحلة امتحان، والممتحن فيها إمَّا أن يسعى إلى سعادته يوم الدين، وإمَّا أن يسعى إلى شقائه وتعاسته وعذاب أليم. والذين هم في الامتحان الربّاني مكلَّفون، ليسوا أحراراً في رفض التكليف. إنَّهم قبل الظهور إلى عالم الامتحان وهم في عالم الذرّ قد خُيّروا، كما جاء بيان هذا في القرآن الكريم في سورة (الأحزاب/33) الآية (72) ومضمون هذا التخيير: هل يريدون أن يكرّموا بإنسانيتهم، ويحملوا الأمانة وتكاليفَها، ويجتازوا رحلة الامتحان للظفر بالنَّعيم الخالد، فإن خالفوا أوامر ربّهم ونواهيه الجازمة وهم في رحلة الامتحان، كانوا عرضة للعقاب من دركات العقاب المؤقت على مقادير المعاصي في غير الكفر، حتى دركات الخلود في عذاب النّار بالكفر، ثمَّ حتَّى أسفل الدركات بالنفاق. فكل من يجتاز رحلة الامتحان في ظروف هذه الحياة الدنيا بشروطه، فهو مكلَّف أن يؤمن بالله إيماناً صادقاً موافقاً للحقّ والواقع على ما يقضي به برهان العقل، وهو ما جاء على ألسنة رسل الله، وتنزَّلت به كُتُبه، من كونه تبارك وتعالى متَّصفاً بكلّ صفات الكمال، ومنزَّهاً عن كلّ صفات النقصان، ومنها توحيده في ربوبيته، وتوحيده في إلهيته، وأنه لا والد ولا ولد ولا صاحبة، وأن يؤمن باليوم الآخر يوم الحساب وفصل القضاء والجزاء، وأن

يؤمن بكتب الله المنزَّلة التي فيها بيان الدين الذي اصطفاه الله للناس، وأن يؤمن برسُل الله المبلِّغين عن الله رسالاته للناس، وأن يؤمن بسائر النبيين الذين اصطفاهم الله بوحيه، وأن يؤمن بملائكته، وأن يؤمن بقضاء الله وقدره خيره وشرّه، ثم يعبد الله في حياته لا يشرك بعبادته أحداً، وأن تكون عبادته على وفق صراط الله المستقيم المبيّن في آخر رسالاته للناس وآخر تنزيل من لدنه، بلَّغه آخر رسولٍ لاحق، حتى خاتم الأنبياء والمرسلين. وتكون درجة الممتحن المكلَّف عند الله بحسب قوَّة إيمانه ويقينه بالله، وبما صحَّ وثبت عنه، وبحسب مقدار الأعمال الصالحات المرضيات لله، من أعمال ظاهرة، وأعمال باطنة. أمَّا درجات الجنّات يوم الدين فهي متفاضلات على مقادير تفاضل الناس في الإيمان والعمل الصالح. وقد أمر الله عزَّ وجلَّ بمستوى من الإيمان، وبمقدار من العمل الصالح، تكليفاً وإلزاماً. وأمر بمستوياتٍ أسمى من الإيمان وبمقادير أكثر وأحسن من الأعمال الصالحات، ترغيباً وندباً. ونهى الله عزَّ وجلَّ عن الكفر به كلّياً وعن الإشراك به، نهياً من الدرجة القصوى، فمن كفر بالله ولو بالإشراك به في ربوبيَّته أو إلهيّته، ومات على ذلك لم يغفر الله له: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ومن عصى الله من دون الإشراك به، في أوامره ونواهيه، الإلزاميَّة الجازمة، استحقَّ من عقاب الله بالعدل، على مقدار معاصيه، فجزاء كلّ سيِّئة بمثلها. وعقوبة الإشراك بالله وسائر دركات الكفر التي هي أشدّ من الشرك الخلُود الأبديُّ في عذاب النار يوم الدين، وهذا من العدل، لأن الكافر لو

جعله الخالق خالداً في الحياة الدنيا لبقي كافراً، فاستحق بالعدل الخلود في العذاب. وعقوبة المعاصي من دون الإشراك بالله على مقاديرها كمّاً وكيفاً، ويغفر الله ما يشاء منها برحمته، على وفق حكمته، وبحسب علمه بأحوال عبده. فالإنسان في الحياة الدنيا مخلوق ممتَحنٌ مكلَّف، وليس مخلوقاً متروكاً لكامل حرِّيته، يختار ما يشاء، ويفعل ما يشاء، دون مسؤولية عمّا يعتقد بإرادته غير المجبورة، وعمّا يعمل من عمل ظاهر أو باطن، بإرادته غير المجبورة، ودون حساب ولا جزاء، بل هو ملاحقٌ بالمسؤولية والحساب والجزاء، بالثواب أو بالعقاب. وحرّيته المطلقة إنَّما تكون فيما أباح الله له فقط. وله أيضاً حّريةٌ أخرى في ترك ما هو أحسن له وأفضل دون عقاب، لكنه يحرم نفسه من الثواب العظيم والأجر الجسيم، إذا اختار أن يترك ما هو الأحسن والأفضل، وليس من حقِّه بعد ذلك أن يقول: لِمَ لا أنال من النعيم والأجر العظيم مثل ما نال أولئك الذين فُضّلوا عليّ يوم الدين؟ فجوابه: أولئك اختاروا لأنفسهم في الحياة ما هو الأفضل والأحسن، مما فيه رضوان الله، وأنت لم تختر لنفسك ذلك، بل آثرت متاع الحياة الدنيا على الدرجات الحسنيات في الآخرة، فحرمت هذا الفضل العظيم من الربّ الكريم. وبهذا البيان نفهم أنَّ ما فرضه الله على عباده من إيمان ومقدارٍ من العمل الصالح، وما حرَّمه عليهم من كفر وشرك به ومقدارٍ من العمل غير الصالح، إنَّما تكون حرّيَّة الإنسان فيه حريَّة الممتَحَن ما دام في ظروف الامتحان، لاستكمال اختباره، حتّى إذا انتهت ظروف امتحانه صار مُلاحقاً على ما قدَّمه في امتحانه بالمسؤولية والحساب والجزاء. وهذه في الحقيقة ليست حريَّة كاملة، بل هي تكليف وإلزام، ولكن

عن طريق إرادة المكلف غير المكرهة وغير الملجأةِ إلجاءً، فلا جبر لإرادات المكلّفين ولا قهر ولا قسر ولا إلجاء، ولو كان الأمر كذلك لما كان امتحاناً أصلاً. كذلك نفعل نحن في امتحاناتنا واختباراتنا، حين يختبر بعضنا بعضاً، وبعد هذا أقول: حين يوضع الإنسان في امتحان ما حول أمْرٍ معيَّن، كامتحانٍ في علم من العلوم، أو رياضة من الرِّياضات، أو مسابقة من المسابقات، فإنَّه لا يسمح له بحالٍ من الأحوال أنْ تتعدّى حرِّيته حدود مجال امتحانه. فمثلاً: إذا كان يمتحن في مختبر الكيمياء لتحليل مادَّةٍ من المواد، فإن حريَّته تكون ضمن استعمال الأدوات على وفق شروطها، واستعمال الموادّ الكاشفة ضمن ضوابطها. فإذا دخل مختبر الكيمياء، فأخذ يفسد الأدوات، ويحطِّم زجاجات الموادّ الكيميائية، فإنَّه يعاقب مباشرةً عقاباً صارماً حاسماً، أو يطرد من المختبر كلّياً، ويُخْرَجُ من دائرة الامتحان، وإخراجه هذا هو نظير قتل المجرم بجريمة تستحق بحكمة الرَّبّ الخالق إخراجه من مختبر الحياة الدنيا، عن طريق تكليف أولي الأمر من أصحاب السلطة الإدارية، أن يُنفِّذوا فيه عقوبة القتل. وإذا كان يُمْتَحن في حلبة المصارعة فإنَّ حدود حرّيته تكون ضمن شروط متساوية مع قرينه أو قرنائه فيها، وضمن أعمال تتعلَّق بالامتحان نفسه. فإذا تعدّاها، فأحضر أدوات ممنوعة، أو جعل يتعرَّض لِحَكَمِ المبارة كأنَّه خصم، أو صار يقذف جماهير المشاهدين بالحجارة، أو يرمي المصابيح الكهربائية فيحطِّمها، فإنَّ حرّيته تمنع حينئذٍ، ويُطْرَدُ من الحلبة كلها، وطرده منها يساوي تماماً طرد إنسانٍ من الحياة الدنيا بالقتل، إذا ارتكب أمراً تجاوز فيه حدود حرّية امتحانه.

وهكذا إلى أمثلة كثيرة تُعْتَبَرُ من بدهيات قواعد الحقّ والعدل في مفاهيم كلّ الناس. وقد خلق الله عزَّ وجلَّ الناس متفاضلين في الصفات والخصائص، وجعل مسؤوليَّة كلّ فردٍ حين يصل إلى درجة التكليف، محدودة بحدود ما وهبه الله من صفات وخصائص، ضمن الأُطُرِ العامَّة للتكليف، فلم يخلق الناس متساوين في الذكاء والغباء، ولا متساوين في القوة والضعف، ولا متساوين في الخصائص والصفات النفسية والجسديَّة، ولا متساوين في الوظيفة الاجتماعية. إنَّ نظام الله في الخلْقِ قائم على قاعدة التفاضل، لا على قاعدة التساوي. بعد هذا يتضح لكلّ ذي نظر أنَّ التفاضل في الخصائص والصفات يلائمه مبدأ العدل، ولا يلائمه مبدأ المساواة. إنَّ مبدأ المساواة مع التفاضل في الخصائص والصفات والوظائف الاجتماعية ظلم وإفسادٌ في الأرض عريض. وأُسائِلُ طارحي الأسئلة، من المؤسسة التبشيرية العاملة تحت تنظيم "الآباء البيض" قائلاً: هل المراتب الدينيَّة في السلك الكنسيّ النصراني قائمة على مبدأ المساواة، أو على مبدأ التفاضل، من درجة الشمّاس، حتى درجة البابا؟! ويظهر أن واضعي الأسئلة التشكيكيَّة من منظمة التبشير المذكورة قد وقعوا فريسة الخديعة اليهودية التي أطلق اليهودي فيها شعارَيْ الحرّية والمساواة، بصورة تعميميَّة مُضَلِّلة، ولم يدركوا أغراض قادة اليهود من إطلاق هذين الشعارين، اللََّذين يُرَادُ منهما تدميرُ المجتمعاتِ البشرية، ونُظُمِها الإدارية، وأوَّل ما دمَّروه بالحريّة أُسُسُ المجتمعات النصرانية، وكثيرٌ من أركانها. ومن العجيب أن يقوم رجال الكنيسة أنْفُسُهم بترويج هذين الشعارين محقِّقين به في شعوبهم وفي كنائسهم أهداف المكر اليهودي الرامي إلى

تدمير الشعوب، وتفتيت وحدتها، وإطلاق الغرائز البَهَمِيَّة في الناس إطلاقاً فاسداً مفسداً دون حدود. ومن العجيب أن يتعاملوا مع المسلمين , ومع تعاليم الله عزَّ وجلَّ في الإسلام، من خلال المنظار الفاسد الذي صنعه لهم أعداؤهم اليهود، منصرفين عن منظار الحقّ والعدل، ودينِ الله الحقّ الذي أنزله على إبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وسائر أنبياء بني إسرائيل، وأنزله أخيراً على محمّد بن عبد الله، خاتم الأنبياء والمرسلين، عليهم أجمعين صلاة الله وسلامه. وفي بيان لاحق مزيد تفصيل حول الحرية والمساواة، وترويج قادة اليهود الصهاينة لهما، مع تقديم بعض أقوالهم في بروتوكولاتهم. أما نحن المسلمون فحريصون جدّاً على أن يكون النصارى وسائر أتباع الملل والنحل المختلفة، وسائر بني آدم إخوتنا في الإنسانية، سالكين معنا الطريق التي تُوصل إلى جنّات النعيم يوم الدين، وإلى رضوان ربِّ العالمين، والخلود الأبدي السعيد. ولا نريد أن نحتكر الجنَّة لأنفسنا، بل نريد أن يشاركنا فيها الناسُ أجمعون، فقد أعدَّ الله فيها لكلِّ إنسان حظّاً عظيماً جدّاً، إنْ هو آمَنَ وعمل صالحاً استحقه بفضل الله، وإلاَّ ورثه يوم الدين مستحقو الجنة زائداً على ما لكلٍّ منهم فيها. وإنني أدعو النصارى جميعاً، قادتهم وعامتهم، وأعضاء منظمات التبشير فيهم، ورجال السلك الكنسي، إلى دين الإسلام بفكر مُسْتَنير، وعقل بصير، وإلى النظر المتجرِّد المنصف في حجج الإسلام وبراهينه بدءاً بقاعدته الأولى، ثم ما يتفرع عنها، ويُبْنَى عليها من أحكام وشرائع ربّانيّة، وليذكروا أنّ الله عزَّ وجلَّ قد أبان في القرآن أنَّهم أقرب الناس مودَّة للذين آمنوا بالله ورسوله محمّد صلى الله عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، فقال الله عز وجل في سورة (المائدة/5 مصحف/112 نزول) : {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ

أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} . وأدعوهم أيضاً إلى إمعان النظر في البيان التالي عن شعارَيْ الحرّية والمساواة، عسَى أن يشرح الله صدر من هو مستعدٌّ منهم للإيمان بالحقّ، فيطرحَ عن تصوُّراته الزيف الذي صنعه اليهود وروَّجوا له عن الحريَّة والمساواة، ويُدْرِكَ حقيقة واقِع الإنسان في رحلة امتحانه في هذه الحياة الدنيا، فيحرصَ على ما فيه نجاتُه وسعادتُه يوم الدين، يوم ينقسم الناس إلى ناجين منعَّمين في جنات الخلد، وإلى معذَّبين خالدين في النار دار العذاب، وإلى معذَّبين عذاباً مؤقتاً ضمن مقادير ذنوبهم ومعاصيهم، ثم يتفضَّل الله عليهم فيُخْرِجُهم من دار العذاب بسبب إيمان صحيح مَاتُوا عليه، ويُدْخلهم جنَّتَه. وما أظنُّ أحداً له ذرَّة من فكر وعقل سليم يعرِّض نفسه لخطر عذاب الله يوم الدّين، من أجل تَعَصُّب أعمى، أو مصلحةٍ دنيوية زائلة فانية، أو لإرضاء نوازع الكبر فيه، أو رغبات الفجور في الأرض. * * * (3) الحرِّية في مفهومنا الإسلامي أنقل هنا ما كتبته في كتابي "كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة" عن الحرية: في ظروف الاستبداد الدكتاتوري الذي كان سائداً في أوروبّا قبل الثورة الفرنسية، وإبَّان مصادرة حرِّيات الطبقات الضعيفة في المجتمع،

وحرّيات الأفراد الذين لا يملكون انتزاع حقوقهم في معظم المجتمعات الغربيَّة، انطلق دعاة الحريّة ينادون بها مبدأً إنسانيّاً، وأخذت فئات كثيرة تُروِّجها. واستغلَّت المنظمات ذاتُ المصالح الخاصَّة الرامية إلى تقويض النظم الإدارية، والمؤسَّسات الدينية، والنظم الاجتماعيَّة ومؤسَّساتها، لتكون لها السيطرة الشاملة، شعارَ الحريَّة، فوسَّعَتْ دائرة المفهوم المقبول الصالح للحريَّة شيئاً فشيئاً، دون أن تَشْعُر الجماهير بمكيدة التوسيع التعميمي المنافي لمنطق العقل، ولمبادئ الأخلاق، ولمصالح الناس أفراداً وجماعات، ولنظام الْخَلْقِ وقَوانين الوجود الجبريَّة، فيما عدا الأعمال الإراديَّة للمخلوق، وغفل عن ذلك أيضاً كثيرٌ من أهل الفكر والعلم. وصادت الماسونية والمكر اليهودي فيها شعار الحريَّة وجعلته أحد مبادئها، ثمَّ قامت الثورة الفرنسيَّة التي كان المكر اليهوديّ وراء تدبيرها والتخطيط لها، وتحريكِ القوى لاندلاعها، وتنظيم المنظمات لتفجيرها، والتربُّص لاستثمارها، واستغلالها، والانقضاض على غنائمها بعد قيامها ونجاحها، فجعلت هذه الثورة الحرِّيَّة واحداً من شعارها المثلث: "الحرِّية – المساواة – الإخاء". واندفعت الجماهير مفتونة بشعار الحرِّية، وهي لا ترى من معاني الحرِّيَة إلاَّ مساحةً محدودةً مقبولة معقولة، يتحقَّق لها بها الخلاص من الظلم الاجتماعي الذي تعاني منه، والخلاص من الاستبداد الضاغط عليها، والقاهر لإرادتها بقوى ظالمة آثمة، طاغية غاشمة. ونشط شياطين الإنس بقيادة المردة من اليهود يروِّجون لشعار الحرِّية، ويوسِّعون ممن مساحة دلالتها شيئاً فشيئاً، حتَّى تشمل كلّ سلوكٍ فرديٍّ أو جماعيٍّ يُحَقِّق أهداف الإفساد في الأرض، وتدمير كُلِّ القيم الدينيَّة والخلقية، وإماتة الوازع الديني والخلقي في الأفراد، وتحطيم النظم الاجتماعيَّة الإدارية والسياسيَّة والاقتصادية وغيرها، بغية إضعاف البشريَّة،

وتمكين اليهود في العالم من السيطرة التامَّة عليها، بعد إضعافها وتفتيتها، وبثّها بثّاً متنافراً متبايناً متعادياً متصارعاً متقاتلاً. ونجم عن إطلاق شعار الحرِّيَّة دُون أن تكون محصورةً في المساحة التي تكون فيها نافعةً وصالحة، انطلاقُ الوحش البشري مفسداً مدمِّراً، محطِّماً الفضائل، والأخلاق، والقيم الدينية، والنُّظم الاجتماعية، ومحطماً مبادئ الحقّ والعدل، واسْتغلَّ هذا الوحش البشريّ شعارَ الحريَّة لتحسين كلّ فسادٍ وإفساد، ولاستخدام القوة التي تعتمد عليها الثورات مع ما تُشْعِلُه من فتن، لمصادرة حياة خصومها، ومصادرة أمنهم وأموالهم وسائر حقوقهم، ولمحاربة كلِّ منصف يحبّ الحقَّ والعدل والفضيلة، ويطالب بسيادة هذه القِيَم. وفهم المجرمون الحرِّية على معنى إطلاق أيديهم في ارتكاب الجرائم على ما يشتهون، قتلاً وسلباً، وظلماً وعدواناً. وفهم الفاسقون والفاسقات الحرِّية على معنى أنَّ لهم الحقَّ الكامل في أن يَفْسُقُوا ويفجروا على ما يشتهون، دون أ، يكون لأحد أو جهةٍ ما حقٌّ في محاسَبَتِهِمْ ومُعَاقبتهم، أو كفِّهم عن فسقهم وإباحيَّتهم الَّتي لا تَحُدُّها حدود. وفهم محتالوا سلْب الأموال الحرَّيَّةَ على معنى إطلاق أيديهم في ألوان الغش والاحتكارات، وحيل المضاربات وخُدَعِ القمار، وأشباه ذلك، لسلب الناس أموالهم وهم غافلون أو مكرهون. وفهم العمّال والصناع والأجراء الحرِّية على معنى استخدام تكتُّلاتهم وتنظيماتهم للوصول إلى الاستيلاء على أموال أرباب العمل، ومصانعهم، وممتلكاتهم، ونهبها وسلْبها، أو استحقاق الأجور المرتفعة دون أن يقوموا بعمل يستحقُّون عليه الأجور التي يُطَالِبُون بتقاضيها. وفهمت النساء الحرِّية على معنى انطلاقهنَّ من ضوابط العفَّة، وتمرُّدهنَّ وانسياحهنَّ بحسب أهوائهن، وتفلُّتهِنَّ من كل واجب اجتماعي، وكلّ ضابط خلقي.

وفهم المراهقون والمراهقات، والفتيان والفتيات الحرِّية على معنى الانفلات الأرعن، والتمرُّد على الرعاة من الأسرة، وعلى المربّين والمعلمين. وصار كلّ ضابط للسلوك من سلطة مدنيَّةٍ أو عسكرية أو قانونية أو دينيّة أو أسريَّة عدوّاً للحرِّيَّة، في مفهوم حملة شعار الحرِّية الذين أطلقوها من حدودها المقبولة المعقولة، وعمَّموها تعميماً مدمِّراً للإنسانية وكرامتها، ومُخْرِجاً للإنسان عن موقعه الذي وضعه الله فيه موضع الابتلاء الْمُسْتَتْبَع بالحساب والجزاء، وقاذفاً به إلى مستوى الأنعام أو أضلَّ سبيلاً. هذا هو ما كان المفسدون في الأرض قد أر ادوه وخطَّطوا له، وأطلقوا من أجله شعار الحرِّية، ووسعوا من مساحتها حتى عمَّموها تعميماً فاسداً مفسداً، مصادماً للحقِّ والخير والفضيلة والجمال والكمال. إنَّ الحرّية مثل النار، لا تستخدم إلاَّ ضمن حدود وضوابط، وبحذر شديد، ومراقبة تامَّة، وإلاّ أكلت الأخضر واليابس، وابتلعت كلَّ شيءٍ أتَتْ عليه. إنَّ الحرِّية المقبولة المعقولة في واقع الناس ذاتُ مجالٍ محدود، وهذا المجال المحدود لا يجوز تَجَاوُزُهُ ولا تعدِّيه، لا في منطق العقل، ولا في منطق مصلحة الإنسان في ذاته، ولا في منطق مصلحة المجتمع البشري. فإذا تجاوزت حدودها كانت وحشاً مفترساً، أو ناراً هَوْجاء ثائرة محرقة، أو سيلاً عَرِِماً مدمِّراً، وكانت نذير شؤمٍ وخراب، وفوضى واضطراب، وصراعات بشرية تدمِّر الحضارات، وتمهِّد لأن تحلَّ بهم سنة الله في الذين خَلَوْ مِنْ قبلهم، إهلاكٌ عامٌّ، وعذابٌ أليم. إنَّ الحرِّية المقبولة المعقولة التي يقرُّها الإسلام تقع ضمن المجالات التاليات، وعلى وفق القيود المبينة فيها:

المجال الأول: حرِّيَّة الاعتقاد، فالإنسان المسؤول المكلَّف حرٌّ في هذه الحياة الدنيا، في أن يؤمن بقلبه بما يشاء، من حقٍّ أو باطل، لكنَّه ملاحقٌ بالمسؤولية عند الله عزَّ وجلَّ عن اختياره الذي كان حُرّاً فيه، وكانت حرِّيته هي مناط ابتلائه وامتحانه في الحياة الدنيا. وهي هنا حرِّيَّة الممتحن المسؤول، وليست حرِّيَّة مطلقة خالية من المسؤولية والجزاء. دلَّ على هذه الحرِّية الملاحَقة بالمسؤوليَّة والجزاء عند الله عدَّة آيات قرآنية، منها قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الكهف/18 مصحف/69 نزول) : {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} . ومنها قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/2 مصحف/69 نزول) : {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} . المجال الثاني: حرِّيَّة العبادة على وفْق الاعتقاد، والحرِّيَّة هنا كسابقتها هي حرِّية الممتحَن المسؤول الْمُلاَحَقِ عند الله بالحساب والجزاء، وليست حرِّيَّة مطلقةً خاليةً من المسؤولية والجزاء. دلَّ على هذه الحرِّيَّة الملاحَقة بالمسؤولية والجزاء الربَّاني، قولُ الله عزَّ وجلَّ في سورة (الزُّمر/39 مصحف/59 نزول) : { قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} . وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (فُصِّلت/41 مصحف/61 نزول) : {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .

المجال الثالث: حرِّيَّةُ اختيار ما يُريدُ الإنسان ويَشتهي ويهوى، ممّا أباح الله في شريعته لعباده من عمل ظاهر أو باطن. وهذه الحرِّيَّة غيرُ ملاحَقةٍ بالمسؤولية والحساب والجزاء، ما لم ينجم عنها لدى استعمالها تركُ واجب، أو فعلُ مُحرَّم، أو عدوان على حقّ الغير فرداً كان أو جماعة، أو ضررٌ أو إضرار. وإنَّما كانت الحرِّيَّة في هذا المجال غير مُلاحَقَةٍ بالمسؤوليَّة والحساب والجزاء، لأنَّ الرَّبَّ الخالق سبحانه وتعالى الذي له الخلق والأمر، قد منحها ذلك، فأباح لها أن تختار ما تشتهي من أصنافٍ أو أفراد داخلةٍ في دائرة المباحات التي أباحها لعباده، وأنزل فيها إذناً شرعيّاً ضمن دائرة ما أباح لهم أن يفعلوه أو يتركوه. وما أباح الله عزَّ وجلَّ للإنسان من سلوك شخصيّ لا علاقة للمجتمع به، أو لا يمسّ إنساناً بضرر، فلا حقَّ لأحدٍ أيَّاً كان بأنْ يَحْرِمه منه، أو يمنَعَه عنه. ومن الخير للمجتمع أن يترك هذا المجال مفتوحاً للنّاس، يُعَبِّرون فيه عن حرِّيّاتهم الخاصة، ويشعرون فيه باستقلاليَّتهم. المجال الرابع: حرِّيَّة تعبير الإنسان عن أفكاره وآرائه، ما لم يكنْ مُضلِّلاً بباطلٍ واضح البطلان، أو داعياً لضُرٍّ أو شرّ أو أذى، أو مشجِّعاً على إدحاض الحقّ ونصرة الباطل، ونشر الظلم والعدوان والفساد والإفساد في الأرض. المجال الخامس: كلُّ ما للإنسان فيه حقٌّ مشروع واضح للجميع، ولا يحتاج إثباته إلى دعوى قضائية، فإنَّه يملك الحرِّيَّة في الحصول عليه بوسيلةٍ مشروعة، لا

ضرر فيها ولا عدوان ولا ظلم ولا أذى، ولا مخالفة فيها لما أمر الله به، أو لما نهى عنه. وأمّا ما لا حقّ للإنسان فيه فمن حقِّ المجتمع، بسلطته الإداريَّة أن يحجر على حرِّيته فيه. أمثلة: (1) من حق الإنسان العمل لكسب ما قسم الله له من رزق، لاستعماله فيما أمر الله به أو أذن فيه. فهو إذن يملكُ الحرِّيَّة في العمل لكسب رزقه في المجالات التي لا ضرر فيها ولا عدوان ولا ظلم ولا أذى، ولا مخالفة لما أمر الله به ولما نهى عنه. وعلى المجتمع أن يُتِيح َ له فُرْصة توجيه نشاطه وأعماله لكسب رزقه ضمن هذه المجالات، وأن لا يحجر على حرِّيته تلك، ومن ذلك ممْشَاه للحصول على عمل مأجور لدى الدولة، أو أَيَّة مؤسَّسة عامَّة، ومستحقُّ العَمَل هو الأكثر كِفَاية للقيام به، ما دامت الشروط العامَّة مُتَوافِرَةً فيه. (2) ومن حق الإنسان ذي الباءة أن يتزوَّج، فهو إذن يملك الحرِّيَّة في أن يسعى في اختيار زوجة يستطيع الحصول على موافقتها وليّ أمرها، من اللَّواتي أذن الله في شريعته لعباده بأن يتَزَّوج منهنَّ. وعلى المجتمع أن يُتِيحَ له فرصة السعي لاختياره الزوجة التي تلائمه، ضمن ما أذن الله به له ولأمثاله، وأن لا يحجر عليه حرِّيته في هذا المجال. (3) ومن حقِّ الإنسان أَنْ يتزوَّد من العلم والمعرفة بما يشاء من كلّ نافع مفيد، أمر الله به أو أذن في تعلُّمه. فهو إذن يملك الحرِّيَّة في أن يسعى في تحصيل العلم الذي يريد ضمن حدود الإذن الرَّبّاني. وعلى المجتمع أن يُتِيحَ له فرصة السعي لتحصيل ما يشاء من علم مأذون به شرعاً، على مقدار ما يملك من قدراتٍ تمكِّنُه من ذلك التحصيل.

(4) ومن الحقوق المشروعة للإنسان حقّ مطالبته بحقوقه التي هي له، وحقّ الاعرتاض على ظُلْمٍ لَحِقَ بِه، وحقُّ الشكْوَى ضدّ من ظَلَمه، وحقُّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل ربَّما يكون واجباً عليه في كثير من الأحوال، فمن حقِّه ممارسته، وحقُّ توجيه النُّصح لغيره محكوماً أو حاكماً، رعِيَّة أو سلطاناً. الحجر على الحرِّيَّة إذا عرفنا الم جالات التي يملك فيها الإنسان الحرِّيَّة الملاحَقَة بالمسؤولية والحساب والجزاء، والحريَّة غير الملاحقة بالمسؤولية، يتَّضح لنا ما يلي: (1) لا حرِّية في ظلم أو عدوان أو هضم لحقوق الآخرين. (2) لا حرِّيَّة في مخالفة الحقِّ والعدل والخير، في كلِّ سلوك عمليّ ذي أثرٍ مادِّيّ يضرُّ المجتمع أو يؤذيه أو يُفْسد نظامه. (3) لا حرِّيَّة لمن آمن برسالة الإسلام، وبايع على الالتزام بأحكامه وشرائعه، في أن يخالف أحكامه، بترك فرائضه وارتكاب محرّماته، وإلاَّ كان عرضةً للملاحَقَة بالمسؤولية والمحاسبة، وبالجزاء المقرَّر في أحكامه، من قِبَلِ سلطة الدولة الإسلامية، إذا كانت المخالف لها عقوبة دنيويَّة مقرَّرة في الإسلام. ومما يخالف أحكام الإسلام الانتحارُ، أو ارتكاب الإنسان شيئاً يضر بجسمه أو نفسه أو ملكاته الفكرية، أَو يُبَدِّد أمواله في المتالف بلا فائدة سفهاً وتبذيراً. ( 4) من أعلن دخوله في الإسلام باختياره الحرّ، فقد أعلن التزامه به وبأحكامه، فلا حرِّيَّة له بعد ذلك في الرِّدَّة عنه، وإِلاَّ فهو مُلاحَقٌ بعد استتابته بالمسؤولية الجزائية التي عقوبتها القتل، ولا حرِّية له أيضاً في الاعتراض على أحكامه وشرائعه المقرَّرة.

(5) لا حرِّية لمسلم ولا لذميٍّ ولا لمستأمن ولا لمعاهد في دار الإسلام، في الطعن بالعقائد والشرائع والأحكام الإسلامية، المجمع عليها، ولا حرِّيَّة له في التشكيك فيها، أو تشويهها أو تحريفها، أو القيام بما يُسيءُ إلى نظام الإسلام، أو دولته، أو جماعة المسلمين، لأنَّ في ذلك نقضاً لما التزم به كلّ منهم. ولا حرِّيَّة لأحدٍ من هؤلاء في الدعاية لأعمال حرَّمها الإسلام، أو لأشياء حرَّم الإسلام تناولها كالخمور، أو الترويج لأفكار مناقضة لحقائق الإسلام وتعاليمه. ولا حرِّيَّة لأحد منهم في تأسيس مؤسسات عامَّة أو خاصة تشتمل على أعمال أو أشياء محرَّمة في الإسلام، كبنوك ربويَّة، أو بيوتٍ للقمار، أو بيوت للزنا والدعارة والفجور، أو حانات لبيع الخمور وشربها، أو مصانع لصناعتها، ولكن يسمح للنصارى بشربها وصناعتها داخل بيوتهم، والأماكن الخاصة بهم، دون أن يتظاهروا بذلك أمام المسلمين. خاتمة: وتقع في موضوعات مختلفات مغالطات كثيرات، بسب كسر الحدود الفاصلة بين الحقِّ والباطل، والعدل والظلم، والخير والشرِّ، ومن أسباب ذلك إطلاق الحرِّية، والتلاعب بمفاهيمها، وعدم تحديد المساحات التي تكون فيها صالحة مقبولة، وينجم عن ذلك شرّ مستطير، وفساد عريض.

(4) المساواة في مفهومنا الإسلامي وأنقل هنا أيضاً ما كتبته في كتابي "كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة" عن المساواة: المساواة من الشعارات التي دبَّرها المكر اليهودي، وجعلتها الماسونية ضمن شعارها المثلث "الحرِّيَّة - المساواة - الإخاء" وقامت على أساسه الثورة الفرنسيَّة التي دبَّرها المكر اليهودي واستغلَّها. والغرض من هذا الشعار تضليل الناس وفتنتهم، لتقوم الصراعات بين الأفراد، وبين الطبقات، مطالبين بتحقيق المساواة المنافية والمصادمة لقانون العدل. واندفعت الجماهير مفتونة بشعار المساواة، ومخدوعة بالمساحة القليلة المقبولة منها، ولكنَّ اللُّعبة المضلّلة زحفت بالمساواة زحفاً تعميميّاً باطلاً، وناشراً لفساد عريض. وقامت فتنٌ عامَّة تطالب بتحقيق المساواة، ونجم عن ذلك خَلْخَلَةٌ في نظام الحياة، وإفساد للمجتمع البشري. وزحف هذا الشعار إلى أدمغة مفكِّرين وعلماء وكُتَّاب، فجعلوه في مقولاتهم أحد المبادئ الإنسانيَّة الصحيحة، وأحد المبادئ الإسلامية المجيدة، غفلةً منهم، وانسياقاً مع بريق الشعارات التي روَّجتها وسائل الإعلام الشيطانية المضلّلة. وتحت هذا الشعار الخادع البرّاق أخذ الجاهلون يطالبون بمساواة العلماء، والضعفاء يطالبون بمساواة الأقوياء، والكسالى يطالبون بمساواة العاملين المجدّين، والمنحرفون يطالبون بمساواة ذوي الاستقامة، والنساء يطالبْنَ بمساواة الرِّجال في كل شيء، والفاشلون يطالبون بمساواة الناجحين، واضطرب الحياة، وقامت الثورات، واستثمرها اليهود لمصالحهم.

المفهوم الإسلامي للمساواة: نظام الخلق تحكُمُه سُنَّةُ التفاضل لا التساوي، فشعار المساواة بصيغته التعميميَّة يتنافى مع نظام الخلق، وهو مطلب مناقض لمبدأ العدل، إلاَّ في بعض الأحوال، وهي التي يقضي العدل فيها بالتساوي. فالإسلام يُقَرِّرُ ويَحْمِي مبدأ العدل، ومبدأ الإحسان، ولا يُقرُّ المساواة على أساس أنَّها مبدأ عامٌّ، وقاعدة مطَّردة، إنَّما يُقرُّهَا حينما يقتضيها العدل، أو يَتَبَرَّعُ بها المحسنون أصْحَابُ الحقِّ. وإنَّما يقتضي العدلُ المساواة حينما يكون واقع الأفراد واقعاً متساوياً تماماً في كلِّ الصفات، أو تكونُ المساواةُ في الصفات التي يُوجدُ فيها التساوي، دون الصفات الأخرى المتفاضلة فيما بينها. التفاضل سُنَّةُ اللهِ في الخلْق: إننا لا نكاد نجد في الوجود شيئين متساويين تماماً في كلِّ صفاتهما، ولو كانا من جنس واحد، أو من نوع واحد، أو من صنف واحد. بل نجد أن صفاتهما متفاضلة، فالدَّعوة إلى المساواة بينهما دعوة إلى الْجَوْرِ والظُّلْم، ودَعْوةٌ إلى الأخذ بأمر باطل، وإلى إلغاء قانون العدل. وادِّعاء المساواة مع واقع التفاضل ادِّعاءٌ كاذب، والتسويةُ بين المتفاضلين عملٌ ظالم مناقض لقانون العدل، وكلُّ مناقضٍ لقانون العدل مناقض لكلمات الله التكوينيَّة والتشريعيَّة والخبريَّة التي تمَّتْ صِدْقاً وعدلاً، كما قال الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول) : {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . إنَّ كلمة الله التكوينيَّة قد حدَّدت لها الإرادة الربَّانية خلقاً متفاضلاً، وهذه ظواهر الخلق شواهد: هل الزجاج والألماس متساويان؟ هل الذهب والحديد متساويان؟

هل الذكي والغبيّ متساويان؟ هل القويّ والضعيف متساويان؟ وهكذا نجد التفاضل في كل الأجناس والأنواع والأصناف والأفراد، نجد التفاضل في الشجر، وفي الثمر، وبين أنواع الأحياء، وبين كلِّ فردٍ وفردٍ آخر من كلِّ نوع، وأفراد الناس هم فيما بينهم متفاضلون، والرجال مفضلون بخصائص لوظائفهم الاجتماعية على النساء، والنساء مفضّلات بخصائص أخرى لوظائفهنَّ الاجتماعية على الرجال، وبين الرجال تفاضل، وبين النساء تفاضُل. فهل يصحّ عقلاً أن ندَّعي التساوي بين الأجناس والأنواع والأصناف والأفراد، وهي في الواقع متفاضلة؟ إننا بذلك نكذب على الواقع، ونجانب الحقَّ. وهل يصحّ عقلاً أن نسوّي بينها في الأحكام مع تفاضلها في الصفات؟! إننا بذلك نجانب مبدأ العدل ونصادمه، ونقيم أحكامنا على الظلم. وقد دلَّت نصوص القرآن المجيد على التفاضل في الخلق بين الأشياء، ويتبع هذا التفاضلَ التَّخَالُفُ في الأحكام، وعَدَمُ جَوازِ التسوية بين المتفاضلات. (1) ففي تفضيل الثمرات والزروع بعضها على بعض في الأُكُل، قال الله عزَّ وجلَّ في سورة (الرعد/13 مصحف/96 نزول) : {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} . (2) وفي تَفْضيل بعض النَّاس على فيما يُصِيبُون من عطاء الله، ليَبْتَلِيَهُمْ (أي: ليمتحنهم) فيه، قال الله عزَّ وجلَّ في سورة (الإسراء/17 مصحف/50 نزول) :

{كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} . ( 3) ونَهَى الله عزَّ وجلَّ المؤمنين والمؤمنات عن تمنّي ما فَضَّلَ به بعضَ النَّاس على بعض، فخَاطبهم في القرآن بقوله تعالى في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول) : {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} . (4) وبيَّنَ اللهُ عزَّ وجلَّ حكمته في جعل الرجال قوّامين على النساء، ومنها أنَّه فضَّل في خصائص التكوين صنفَ الرِّجال على صنف النساء، بالصفات التي تؤهلهم للقيام بوظائف اجتماعيَّة غير الوظائف الاجتماعية التي يقوم بها النساء، ومن هذه الوظائف القوامة في دائرة الأسرة، فقال الله تبارك وتعالى في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول) : {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ....} . (5) وبيَّن الله عزَّ وجلَّ أنَّه فضَّل بعض الناس على بعضٍ في الرزق ليبلُوَهم فيما آتاهم، فقال تعالى في سورة (النحل/16 مصحف/70 نزول) : {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ....} . وهذا التفضيل من الأمور المشاهدة في واقع الناس، ولم يستطع أيُّ نظامٍ اشتراكيٍّ أو شيوعيّ أو غيرهما إقامة التسوية بين الناس في الرزق. (6) حتَّى الأنبياء والرُّسُل قد فضَّل الله بعضهم على بعضٍ في عطاياه وما وَهَبَ كلاًّ منهم، فقال تعالى في سورة (الإسراء/17 مصحف/50 نزول) : {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} .

وقال تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ....} . (7) وفي تكريم بني آدم وتفضيلهم على كثيرٍ ممَّنْ خَلَقَ الله، قال عزَّ وجلَّ في سورة (الإسراء/17 مصحف/50 نزول) : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} . فالتَّفَاضُلُ سُنَّةُ الله في الخلْقِ بوجهٍ عام، وهو أمر يشهدُ به الواقع في الوجود. التسوية بين المتفاضلات ظلم للحقِّ: ولمّا كان منطق العقل وبرهانُ الواقع يقرِّران عدم التساوي بين المتفاضلات، كانت أحكام التسوية بينهما أحكاماً ظالمة. وتأصيلاً للحقِّ والعدل، ولئلا تُزَيَّن للنَّاسِ أفكارُ التسوية بَيْنَ المتفاضلات، أنزل الله عزَّ وجلَّ في كتابه نصوصاً ذوات عدد، تبيِّن عدم التساوي بين طائفةٍ من المتفاضلات في حقيقة أمرها، فمنها ما يلي: (1) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (المائدة/5 مصحف/112 نزول) : {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . (2) وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الرعد/13 مصحف/96 نزول) : {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} . (3) وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الزُّمر/39 مصحف/59 نزول) : {ُقُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} . (4) وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (فاطر/35 مصحف/43 نزول) :

{ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} . (5) ولمّا كان التفضيل التابع للعمل الأفضل من المكلَّفين المختارين، هو الأمر الذي يوجبه الحقّ والعدل، كان من العدل أن يفضّل الله المجاهدين في سبيله بأموالهم وأنفسهم على القاعدين، فقال الله عزَّ وجلَّ في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول) : {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} . وكان من العدل أن يُفَضِّل الله مَنْ أنفق مِنْ قَبْل فتح مكَّةَ وقاتل على من أنفق من بعد الفتح وقاتل، فقال الله عزَّ وجلَّ في سورة (الحديد/57 مصحف/94 نزول) : {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} . وكان من العدل أن لا يُسَوِّي الله عزَّ وجلَّ بين المسلمين والمجرمين، فقال الله تعالى في سورة (القلم/68 مصحف/2 نزول) : {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} . نظراتٌ حول واقع التساوي: أمّا الأمور التي هي متساوية في الواقع وحقيقة الأمر فالحقُّ يَقْضِي بوجوب التسوية بينها في الأحكام.

أمثلة: (1) الناس متساوون في كونهم مخلوقين لله عزَّ وجلَّ، ومتساوون في عبوديتهم له، فهم متساوون بين يديه من هذه الجهة. (2) والناس متساوون في حق الحياة إلاَّ إذا كان منهم ما يقتضي إهدار دمائهم، أو إنْزال قيمتها بكفر أو ظلم أو عدوان. (3) والخصمان في مجلس القضاء لهما من رعاية القضاء حقّانِ متساويان، فينبغي التسوية بينهما في مجلس القضاء. (4) والأصل تساوي الناس في حق العمل والكسب والتعلُّم والسَّبْق لاغتنام خيرات الدنيا والآخرة. فالعدل يقضي بإتاحة الفرص لهم جميعاً بنسبة متساوية، ثمَّ يكون لكلِّ فردٍ بحسب ما يقدّم من عملٍ أو جَهْد أو أيّ كسْب إرادي، أو سَبْق في علمٍ أو خلُق أو رأيٍ أو إخلاصٍ أو غير ذلك ممّا له قيمةٌ تُقدَّرُ. (5) والناس متساوون في إنسانيَّتِهم، باعتبار الأصل، إذْ كلُّهم أولادُ آدم، وكلُّهم من تراب، وكلُّهم مخلوقون لله عزَّ وجلَّ وهم عباده. فالعدل يقضي بعدم تفضيل عرقٍ على عرق، أو قومٍ على قوم، أو أهل لون على أهل لونٍ آخر، أو أهل لسانٍ على أهل لسانٍ آخر، من أجل أعراقهم، أو أقوامهم، أو ألوانهم، أو ألسنتهم. (6) وهكذا كلّ قضيَّة يكون الحقّ فيها متساوياً بين فريقين، فقاعدة العدل توجب التسوية بينهما. وكلُّ تفاضُل على غير أساسٍ من الحقِّ والواقع في مفاهيم الناس، فهو ظلم اجتماعي، كمفاهيم التفاضل الطبقي الذي يزعم الطبقيُّون أنَّه يُورَث، وكمفاهيم التفاضل على أساس العرق، أو اللَّون، أو اللِّسان. أمّا إذا كان الواقع متفاضلاً فالعدل يوجب التفضيل، كالذكاء والجماء والقوَّة وحسن الخُلُق الفطري أو المكتسب، وغير ذلك ممّا لا حصر له.

فالإسلام يقوم في الحقوق على مبدأ العدل، لا على مبدأ المساواة، وفي بيان الواقع يقوم على ما هو الحقّ في واقع المحال، لا على التسوية مطلقاً، ولو كان الواقع متفاضلاً. فلا يمكن أن يساوي الناقص الكامل، ولا أن يستوي الحقّ والباطل، ولا العالم والجاهل، ولا يمكن أن يتساوى الذهب والقصدير، ولا المسك والجير، ولا الظلمات والنور، ولا الظلُّ ولا الحرور، ولا الطيِّب والخبيث، ولا الأحياء ولا الأموات، ولا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والَّذين كَفروا وعملوا السيئات. والعدل: هو إعطاء كلّ ذي حقٍّ بمقدار حقه. أما المساواة: فقد تقتضي إعطاء ذي الحقّ أكثر من حقه، وإنقاص ذي الحق عن حقِّه، وهذا جور وظلم ومخالفة لمبدأ العدل. * * * (5) شعارا الحرِّيَّة والمساواة صناعة يهودية (1) لقد ثبت أنَّ الحرِّيَّة والمساواة من شعارات الماسونية، وهي منظمة ذات قيادة يهودية. وقد عرَّف المستشرق الهولندي "دوزي" الماسونية بتعريف موجز، فقال فيه: "جمهور كبير من مذاهب مختلفة يعملون لغاية واحدة: هي إعادة الهيكل، إذْ هو رمز دولة إسرائيل". (2) وثبت أنَّ الثورة الفرنسية المشهورة، قد كان اليهود هم المخطِّطين والمدبرين لها، وكان شعارها المثلث "الحرِّيَّة - المساواة - الإخاء".

(3) وجاء في البروتوكول الأوَّل من البروتوكولات المعروفة ببروتوكولات حكماء صهيون، ما يلي: "لقد كنّا قديماً أوَّل من هتف بكلمات (الحرِّيَّة والمساواة والإخاء) ، وما انفكَّت هذه الكلمات تردِّدها ببَّغاوات جاهلة، يتجمهرون من كلِّ حدب وصوب حول هذه الشعارات المغرية، الَّتي حطَّموا عن طريقها ازدهار العالم، وحرية الفرد الشخصيَّة الحقيقيَّة التي كانت من قَبْلُ في حمّى يحفظها من أن يخنُقَها السفلة. ولم يفهم الذين يدَّعون الذكاء وسعة الإدراك من غير اليهود "الجوييم" المعاني الرمزية التي تهدف إليها هذه الكلمات، ولم يتبيَّنوا عواقبها، ولم يُلاحظوا ما فيها من تناقصٍ في المعنى، كما لم يدركوا أنَّ الطبيعة نفسها تخلو من المساواة، وأنَّ الطبيعة قد أوجدت أنماطاً غير متساوية في العقل والشخصيَّة والأخلاق والطاقة وغيرها. إنَّ صيحتنا (الحرِّيَّة والمساواة والإخاء) قد جلبت إلى صفوفنا فرقاً كاملةً من زوايا العالم الأربع عن طريق وكلائنا المغفَّلين، وقد حملت هذه الفرق ألويتنا في نشوة، بينما كانت هذه الكلمات مثل كثير من الديدان تلتهم سعادة الجوييم (غير اليهود) وتحطم سلامهم واستقرارها ووحدتهم، مدمِّرةً بذلك أسس الدُّول، وقد جلب هذا العمل النصر لنا". * * * (6) أجوبة الأسئلة التي وجهها المبشرون من تنظيم "الآباء البيض" بعد الذي سبق في المقدِّمات العامة أجيب باختصار وإيجاز على الأسئلة التي وجَّهها جماعة المبشرين من تنظيم "الآباء البيض" على أنَّ من أمعن في المقدِّمات العامة، وكان منصفاً فاهماً، لم يجد شبهةً تحتاج إلى

ما يزيلها أو يدفعها، إذ الأسئلة تدور حول التسليم بمبدأي الحرِّيَّة والمساواة، على أنَّهما من المبادئ الكليَّة العامَّة، وقد سبق بيان ما في هذين المبدأين من باطل ومغالطات، ومعلوم في أصول الفكر المتفق عليها لدى ذوي العقول جميعاً أنَّ ما بُنِيَ على فاسد فهو فاسد، وما بني على باطل فهو باطل، وما بُني على غير أساس فهو منهار. ولست في أجوبتي بحاجة إلى أن أقف موقف المدافع عن الإسلام وأحكامه، فالإسلام الحقُّ، وهو من عند الله ربّ العالمين، ولكنَّني أقف موقف الناصح الذي يَعْرض الحقّ ويبيِّنه لأولي الألباب، ولأولي الأفكار المنصفة، فمن شأن الحقّ أنَّه إذا جاء بنوره الساطع زهق الباطل، إنَّ الباطل كان زهوقاً. وإنَّني أُقّدِّمُ الأجوبة من منظار الحقّ، ليكون بياني حجّةً عند الله يوم الدين على واضعي الأسئلة، والمتأثرين بهم، وحجَّةً لناشدي الحقّ وطالبيه، الذين قد تؤثر في أفكارهم ونفوسهم التشكيكات والشُّبُهات والمغالطات، وحجَّةً ينتفع منها أنصار الإسلام، والدعاة إليه، والمدافعون عن شرائعه وأحكامه. * * *

أوّلاً: أسئلتهم حول الحرِّيَّة وأجوبتها السؤال الأول: "كيف يمكن التوفيق بين حرِّيَّة التفكير والاعتقاد التي منحها الله للإنسان، وبين منعه (مع استخدام العقوبة القصوى وهي القتل) من تغيير دينه، وإن كان هذا التغيير قد نجم عن قرار شخصيّ نابع عن تفكير عميق، ولأسباب جدّيَّة؟ ". الجواب: إضافة إلى ما سبق بيانه حول "الحريّة في مفهومنا الإسلامي" أقول: إنَّ الإنسان البالغ العاقل له الحرِّيَّة التامّة قبل أن يدخل في الإسلام في أن يُسلم أو لا يُسلم، فلا تُْكْرَهُ إرادته، إذْ لا إكراه في الدّين. لكنَّه مُسْتَتْبَعٌ بالمسؤولية عند الله عزَّ وجلَّ عن اختياره، فإن اختار الكفر بما جاء به الإسلام من عقيدة وشريعة وأحكام، فالنار مثواه يوم الدين خالداً مخلَّداً فيها أبداً. ولا يُكْرَهُ إنسان على الدخول في الإسلام بحال من الأحوال. ومن أراد أن ينتمي إلى الإسلام فعليه أن يعرف قبل انتمائه أنَّه سيُكلّف تكاليف إذا خالفها فقد يعرِّض نفسه للعقاب، حتى درجة العقوبة القصوى، وهي القتل. وهكذا كمن يريد أ، يطلب جنسيَّة دولة من الدول، فإنَّ عليه أن يعلم

أنَّه مسؤول عن الالتزام التام بقوانين هذه الدولة وأنظمتها قبل أن يتمّ العقد معه على منحه جنسيَّتها، ومن هذه الأنظمة معاقبتها بعقوبتها إذا فعل ما يقتضي عقابه، ولو كانت العقوبة القصوى. فطلب الجنسية من قِبَل الفرد، ومنْحُها له من قِبَلِ الدولة، عقْدٌ بين طرفين يشتمل على منافع وتبعات، ومن تبعات اكتساب الجنسية تطبيق أنظمتها، ودفع الضرائب كسائر نظرائه، والجندية الإجبارية عند وجودها، وقبول قانون العقوبات التي لديها، حتّى ما يجدّ من قوانينها في المستقبل، وإذا خان الدولة خيانة عظمى، فتعامل مع أعدائها حُكم عليه بالعقوبة القصوى. ومن الأمور التي يُبايع عليها من يرغب أن يدخل في الإسلام أنَّه إذا ارتدَّ عنه، عرَّض نفسه للقتل. إذن فليفكِّرْ بأناة وبكامل حرّيته قبل أن يسلم وينخرط في جماعة المسلمين، ويلتحق بالدولة الإسلامية، فمن وافق وهو بكامل حرّيته وعقله وإدراكه على أن ينتمي إلى الإسلام، فقد التزم وهو حرّ حريةً تامَّة أن يكون مُعاقباً بالقتل إذا ارتدَّ عنه. فلا تعارضَ إذن بوجه من الوجوه بين حرِّيَّة التفكير والاعتقاد وبين هذا، والسؤال مطروح بجهل، أو بمغالطة للتلبيس وخلط المفاهيم. فالعقاب على الردَّة ليس هو في الحقيقة إكراهاً على الدين، ولكنَّه حمايةٌ للأمَّة الإسلامية من المتلاعبين ذوي الحيل الذين يدخلون في الإسلام بحريَّة، ويخرجون منه بحريَّة، وهم أعداءٌ للإسلام والمسلمين، يمكرون بهما، ويكيدونهما، ويتَّخذون الوسائل المختلفة للتلاعب بالإسلام، وتمزيق وحدة المسلمين وإضعافهم، والتسلُّط عليهم، والاستيلاء على ثرواتهم وخيراتهم، وحربهم من داخل صفوفهم، متذرِّعين بشعار الحرِّيَّة. ومن ادَّعى أنَّه كان يجهل عند دخوله في الإسلام أنَّ عقابه القتل إذا

ارتَدَّ عنه، فإننا نقول له: من المعروف المقرر عند كل القانونيّين أنَّ الجهل بالقانون العامّ لا يعفي الفرد من المسؤولية إذا هو خالف أحكامه. * * * السؤال الثاني: "المسلمون يعتبرون من الطبيعي جداً أن يعترف النصارى بحقّ إخوتهم في العقيدة في اعتناق الإسلام.... ألاَ يمكن للمسلمين الراغبين في دخول النصرانية من التمتّع بالحقّ نفسه، إقراراً للحرِّيَّة التي منحها الله للإنسان؟ ". الجواب: جاء في جواب السؤال الأول ما يتعلَّق بالردَّة عن الإسلام فلا داعي لإعادته هنا. وأقول هنا: إنَّ ما ورد في السؤال ليس هو ما يُناظر به المسلمون النصارى، فهم لا يقولون: إنّ من حقِّ النصرانيّ أن يعتنق الإسلام وينضم إلى المسلمين، باعتبارهم حزباً، أو جماعة من الناس. ولكن الدّعاة المسلمين يقولون لكل إنسان: إننا نبلِّغك أنَّك مخلوق لله ربّ العالمين، ربّ السماوات والأرض، وأنَّ من الواجب عليك أن تؤمن به ربَّاً واحداً لا شريك له، وتعبدَهُ وحده، ولا تشرك بعبادته أحداً، وتؤمن بكلّ ما جاء من عند الله، وبكلّ رُسُل الله وأنبيائه، دون تفريق، وأن يكون إيمانك على وفق الحق الذي جاء من عند الله، والذي لم يتعرَّض لتحريفٍ أو تبديلٍ أو تغيير، وأنَّ من الواجب عليك أن تعمل بمقتضى آخِر دين مُنزَّل من عند الله، مؤيّد بالحجج والبراهين، ومقترن بالمعجزة التي تُثْبت صدق الرسول الذي بلَّغه عن ربِّه، فإن لم تؤمن ورفضت هذا الدين الخاتم عرَّضت نفسك لعذاب الله في نار جهنَّم يوم الدين خالداً مخلَّداً فيها أبداً، ولا ينفعك يومئذٍ حزبٌ ولا جماعة، ولا

تنفعك شفاعةٌ من أحدٍ، ونحن لك مبلِّغون وناصحون، لا نكرهك ولا نجبرك، فإنْ منعك مُكْرِهِين فباستطاعتك أن تؤمن مستخفياً، حتى إذا سنحت لك الفرصة أعلنت إيمانك، والتحقت بجماعة المسلمين وضممتَ قُوَّتَك إلى قوتهم. ولسنا نقول للنصارى: إنَّ من حقّه أن لا تمنعوه ولا تكرهوه على البقاء في النصرانية بمقتضى مبدأ الحرِّيَّة. ولكن نقول لهم: أنتم جميعاً يجب عليكم أن تؤمنوا بدين الله الحقّ، وبجميع أنبياء الله ورُسُله، فإنْ أبيتم عرَّضتم أنفسكم، وأهليكم، وأتباعكم، لعقاب الله الشديد يوم الدين. ونقول لهم جميعاً: نحن مستعدّون أن نقدِّم لكم الحجج والبراهين العقلية والعلمية لإقناعكم إنْ شئتم. ولكم أن تقولوا ما تشاؤون حول أصول دينكم ومبادئكم، ونحن مستعدّون لمناظرتكم حولها، على مستوى أرضيَّة فكريَّة عقليَّة علميَّة مشتركة بيننا وبينكم، فمن لزمته الحجّة وقام عليه البرهان الحقّ منّا فعليه أن يعلن اعترافه به، ونقول لكم كما علَّمنا القرآن المجيد في سورة (سبأ/34 مصحف/58 نزول) : {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} فالسؤال الثاني كما ورد في أسئلة تنظيم "الآباء البيض" لا يكون على الطريقة التي ساقوها، إلاَّ إذا اعتبر موجهو السؤال أنَّ الدّين قضيَّة جماعات بشريَّة ذات انتماءات إنسانيَّة، لا قضيَّةٌ ربّانيَّة يُطالب الناس جميعاً بها، فطرح السؤال طرحٌ قائمٌ على فكرة خاطئة غير صحيحة أصلاً، فنحن لا نقول للنصارى: إنَّ من حقّ النصراني عليكم ألاَّ تعترضوا حرِّيته في اختيار تغيير دينه. إنَّ قضيَّة الدين ليست قضيَّة مساومات سياسية أو اقتصادية، حتى يكون التعامل فيها بالمثل. إنَّ الدين حقُّ الله على عباده جميعاً، وليس حقّ المسلمين حتّى

يتنازلوا عن شيءٍ منه، فإن كان النصارى يعتقدون أنَّ النصرانية حق النصارى، وأنَّ لهم أن يساوموا عليه فهذا شأنهم، وهو مختلف تماماً عن الفكر الإسلامي، والعقيدة الإسلامية الرَّبّانية. * * * السؤال الثالث: "هل الإسلام على استعداد - في البلاد الإسلاميَّة - لمنح المسيحيين تلك الحريّات التي يتمتَّع بها المسلمون في البلاد المسيحية، بما في ذلك دخول المساجد، والتعبير الحرّ عن دينهم ودعوتهم الجماهير لاعتناق العقيدة المسيحية؟ ". الجواب: المسلمون مستعدّون لعقد مناظرات عامة حول قضايا العقائد الإسلامية والعقائد النصرانيَّة، وسائر العقائد والمبادئ المنتشرة في مختلف شعوب الأرض، سواء أكان ذلك في بلدان الشعوب غير المسلمة، أم في بلدان الشعوب المسلمة، فمن شاء أن يناظر مناظرةً حرَّةً مفتوحةً ضمن أصول وقواعد المناظرات المنطقيَّة فمرحباً به، ولدينا في بلدان المسلمين قاعات وصالات عامَّة كبرى تصلُح للمناظرة، وفي كلّ بلدان شعوب الأرض مثل ذلك. ولا نكون ضيِّقي الأفق ولا مُحْرِجين ولا مُتَعنِّتين في أن تكون هذه المناظرات في معابدهم الخاصة، ولا في المُدن الدينيَّة الخاصة بهم، كالفاتكان مثلاً، بل نرضى أن تكون في أيّ مكان جامع يَصْلُح لعقد مناظرات عامَّة، نعرض فيها مبادئنا، ويعرض فيها الآخرون مبادئهم. مع بيان أنَّنا لا ندخل عليهم كنائسهم ولا معابدهم، ولا نُحرجهم بذلك، يُضَاف إلى ذلك أننا لا نجدهم في واقع الأمر يسمحون بأن نكون دعاة للإسلام في كنائسهم أو مجامعهم العامَّة دعوةً علنيَّة.

ففي السؤال مغالطة إيهاميَّة لا تستند إلى واقع، وهي محاولة لستر أعمال المبشرين النشيطة داخل بلاد العالم الإسلامي، إذْ للمبشرين النصارى في البلدان الإسلامية آلاف البعثات والإرساليات والمنظمات والمؤسسات التعليميَّة والطبيَّة وغيرها ذات المهمّات التبشيريَّة، وقد انتشرت في بلدان المسلمين بتسامح السلطات الإدارية، وبتأثير الدول الاستعماريَّة النصرانية، وليس للمسلمين بمقابل ذلك في بلدان الشعوب المسيحيَّة دعاة يبشرون بالإسلام إلاَّ العدد القليل جدّاً، وبعض المراكز الإسلامية التي توجِّه نشاطها للأقليات المسلمة في هذه البلدان. والمعاملة بالمثل التي يُطالِبُ بها السؤال تستدعي أن يكون للمسلمين في البلدان المسيحية مثلُ ما للمبشِّرين النصارى في بلدان المسلمين من مؤسسات تبشيريَّة، مختلفة الأسماء، ومختلفة التخصُّصات، ومن بعثات تبشيريَّة تتخذ مختلف الوسائل الإغرائية غير الشريفة لتنصير المسلمين، ومنها استغلال الأزمات والجوائح والمجاعات، واستغلال الأموال التي توجّه للمساعدات الإنسانية العامَّة، وتوجيهها لمهمَّات التنصير، ومن هذه الأموال ما تبذله شعوب الأمَّة الإسلامية للمساعدات الإنسانية. * * * السؤال الرابع: "كيف يكون منطقيّاً التأكيد بأنَّ الله قد منح الحريَّة بالتساوي للرجل والمرأة ثمَّ تمنع المرأة المسلمة من اختيار الرجل الذي ترغب في الزواج منه إنْ لم يكن مسلماً؟ ". الجواب: سبق في المقدّمات العامَّة بيان أنَّ الإسلام لم يجعل الحريَّة المطلقة مبدأً من مبادئه، فالحريَّة المطلقة منافية لحكمة خلق الناس ممتَحَنِين بأوامر الله ونواهيه في هذه الحياة الدنيا.

وأُضيف هنا أنَّ التشكيك في حكمة الله بما يشرع لعباده وبما يوجب عليهم من واجبات، وما يحرِّم عليهم من محرَّمات، وما يُبيح لهم من مباحات، هو مذهب إبليس حين رفض السجود لآدم، زاعماً أنَّ عنصره الناريَّ أفضلُ من عنصر آدم الطينيّ، مع أنَّ منطق العقل يرفض العنصريَّة أصلاً، ويحكم على الكائن بما هو عليه، لا بما كان قبل ذلك في عنصره وأصله، وقد كان ما انتهى إليه تكوين آدم أن كرَّمه الله بالعلم، وبأدوات المعرفة، فأمَرَ اللهُ من تساءل عن الحكمة من خلقه بأن يسجدوا له، وهم ملائكة، بعد أن أظهر الله لهم أن هذا الإنسان مستعدٌّ أن يكون أعلم منهم. ونظير النزعة العنصرية الفاسدة التي اعتمد عليها إبليس، التسويةُ بين المتفاضلين في الخصائص والصفات وما ينجم عنها من نتائج وآثار، فادِّعاء المساواة بين صنفين مختلفين في الخصائص الجسديَّة والنفسيَّة، ومختلفين في الوظائف الاجتماعية، يتضمَّن قضيَّة فاسدة تناقض مبدأ الحق والعدل. إنَّ من المعلوم في المشاهد والتجربة، وفي المقرَّرات العلميَّة حتّى أحدث ما ظهر منها أنَّ المرأة ذات خصائص جسديَّة ونفسية مختلفة عن خصائص الرجل. فخصائص المرأة تؤهلها لوظائف اجتماعيَّة أهمُّها الأمومة، ثم حاجتها إلى رجل يكون هو صاحب القوامة عليها وعلى سائر أعضاء أسرته. وصاحب القوامة الذي هو الرجل في أسرته، قد يستخدم سلطة قوامته في حمل زوجته على ترك دينها. من أجل ذلك فإنَّ الله عزَّ وجلَّ لم يُبِحْ للمرأة المسلمة بأن تتزوَّج زوجاً غير مسلم، حمايةً لها من ضغط الزوج، وتأثيره عليها بإخراجها عن إسلامها، وتعريضها لعذاب الله الأبديّ.

وفي المقابل فإننا لا نعترض على غير المسلمين إذا منعوا نساءهم من أن يتزوَّجْنَ بالمسلمين، بل هذا يسرُّنا، وبوبدّنا أن يُصْدِروا قرارات تحريميّة تمنع نساءهم من الزواج برجالٍ مسلمين، فهذا أحفظ لرجالنا، وأبعد عن الفتنة في الدين. لكن ماذا نفعل إذا أباح غير المسلمين لنسائهم بأن يتزوَّجْنَ برجالٍ مسلمين؟ إنَّنا على كراهية وعدم رغبة نوافق على زوج الرجل المسلم بامرأة من أهل الكتاب، بشرط أن يكون الزواج بينهما على وفق نظام الإسلام في أحكام الأحوال الشخصيَّة، وأن تكون الولاية والقوامة للرَّجل، وأن يكون الأولاد (ذكوراً وإناثاً) تابعين لآبائهم في الدين، وأن يكون الميراث وفق أحكام الإسلام، فإذا اختلت هذه الشروط، أو اختلَّ بعضها، فإنَّ الإسلام لا يُبِيحُ للرجل المسلم أن يتزوج بامرأة غير مسلمة ولو كانت كتابيَّة. وتعاليم الإسلام تُرْشِدُ إلى اختيار المرأة المسلمة التقيَّة النقية ذات الدين والخلق القويمة عند الرغبة في الزواج. * * * السؤال الخامس: "كيف يمكننا تفسير العقوبات الجسديَّة كقطع يد السارق أو الجلد أو الرجم وهي المبيَّنة في بعض الآيات القرآنية؟! ". الجواب: إجابتي على هذا السؤال تنطلق من منطلقات خمسة: * أولاً: الدين شريعة وأحكام ربّانية، وحق الله على عباده أن يدينوا له وحده، فيستمسكوا بشريعته ويعملوا بأحكامه.

وليس دين الله للناس من أوضاع الناس، حتى يجري التفاوض عليها معهم. والتشكيك في شريعة الله وأحكامه لعباده تشكيك في حكمته، ورفضٌ لحقِّه جل وعلا في تنظيم أمور عباده بما يعلم أنَّه هو الأصلح والأنفع لهم. وقد ثبت لدينا بالدليل القاطع أنَّ الإسلام الذي بلَّغه رسول الله حقٌّ منزَّل من عند الله لا ريب فيه، ومعجزةُ القرآن شاهد قائم دائم يشهد بأنه تنزيلٌ من عند الله. * ثانياً: العقوبات الجسديَّة موجودة في الرسالات الرَّبانية المنزَّلة على المرسلين الصادقين المبعوثين من عند الله، ومنهم رسل بني إسرائيل، ومن هذه العقوبات عقوبة الرجم. وأصحاب السؤال الذين يقولون: إنَّهم نصارى، يؤمنون بأسفار العهد القديم، وبما جاء فيها، ويجعلونها ضمن كتابهم المقدَّس الجامع لأسفار العهد القديم، وأسفار العهد الجديد. ألم يقرؤوا سفر اللاّويّين؟ ألم يدرسوا ما فيه؟ ألم يبيِّن لهم رجال الكنيسة ما في كتب أهل الكتاب من عقوبات جسديَّة؟ إذا كانوا على علم بها، فنقول لهم على طريقة سؤالهم: كيف يفسِّرونها؟! وإذا كانوا يجهلونها، فنقول لهم: تعلَّموا دينكم أوَّلاً، وادرسوا كُتُبَكُم، ثم تعالوا إلى المناظرة وطرح الأسئلة التشكيكية إنْ شئتم، ولا تطرحوا أسئلة من وجهة نظر العلمانيين، أو الملحدين الذين لا يؤمنون بالله ورُسُله وكُتُبه. اقرؤوا هذا النصّ من الإصحاح العشرين من سِفْر اللاّويين: "9 _ كلُّ إنْسَانٍ سَبَّ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ فإنَّهُ يُقْتَلُ. قَدْ سَبَّ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ. دَمُهُ عَلَيْهِ.

10- وَإذَا زَنَى رجلٌ مع امرأةٍ فإذا زنى مع امرأة قريبه فإنَّه يقتل الزاني والزانية. 11- وإذا اضطجع رجل مع امرأة أبيه فقد كشف عورة أبيه. إنهما يقتلان كلاهما. دمهما عليهما. 12- وإذا اضطجع رجلٌ مع كنته فإنهما يقتلان كلاهما. قد فعلا فاحشة. دمهما عليهما. 13- وإذا اضطجع رجل مع ذكر اضطجاع امرأة فقد فعلا كلاهما رجسا. إنهما يقتلان. دمهما عليهما. 14- وإذا اتخذ رجل امرأة وأمها فذلك رذيلة. بالنار يحرقونه وإياهما لكي لا يكون رذيلة بينكم. 15- وإذا جعل رجلٌ مضجعه مع بهيمة، فإنه يقتل. والبهيمة تميتونها. 16- وإذا اقتربت امرأة إلى بهيمة لنزائها تميت المرأة والبهيمة. إنهما يقتلان. دمهما عليهما". وجاء فيه أيضاً: "1- وكلم الرب موسى قائلاً: وتقول لبني إسرائيل: كل إنسان من بني إسرائيل ومن الغرباء النازلين في إسرائيل أعطى من زرعه لمولك فإنه يقتل. يرجمه شعب الأرض بالحجارة". مُولَك: اسم ملك. وهو اسم ملك جهنم حسب رأي الكنعانيين الوثنيّين (عن: قاموس الكتاب المقدَّس) . وجاء فيه أيضاً: "27 - وإذا كان في رجلٍ أو امرأةٍ جان أو تابعه فإنه يقتل بالحجارة يرجمونه. دمه عليه".

واقرؤوا هذا النصّ من سفر التثنية (الإصحاح العشرين) وفَسَّروه لنا بحسب منطقكم الإنساني: "10- حين تقرب من مدينةٍ لكي تحاربها استدعها إلى الصلح. 11- فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك التسخير ويستعبد لك. 12- وإن لم تسالمك بل عملت معك حرباً فاحصرها. 13- وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف. 14- وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاها الرب إلهك. 15- هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جداً التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا. 16- وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيباً فلا تستبق منها نسمة ما. 17 - بل تحرمها تحريماً، الحثيين، والأموريين، والكنعانيين , والفرزيين، والحويين، واليبوسيين، كما أمرك الرب إلهك. 18- لكي لا يعلموكم أن تعلموا حسب جميع أرجاسهم التي عملوا لآلهتهم فتخطئوا إلى الرب إلهكم". بعد هذا أقول لأصحاب السؤال: كيف يفسرون ما في كتب العهد القديم التي يؤمنون بها من عقوبات جسدية، قبل أ، يسألوا عن تفسير العقوبات الجسدية الموجودة في الإسلام؟.

* ثالثاً: لقد تراجعت شعوب الأرض، ودول العالم المتحضِّر عن أفكار إلغاء العقوبات الجسدية، ولجأت في الآونة الأخيرة إلى إصدار قوانين بالعقوبات الجسدية حتى مستوى العقوبة القصوى، كالجرائم المتعلقة بنشر المخدرات وترويجها. مع إقرارهم جميعاً استباحة ما تصنعه الحروب ذات الأهداف المدفوعة بالأنانيات غير النبيلة ولا الشريفة، من قتل وصور بشعةٍ جداً، تحرم من يصاب بها من بعض أعضائه وحواسه، وتعطله في الحياة، وتجعله من المعوقين، مع ما تجلبه له من آلام جسيمة. * رابعاً: على طارحي السؤال أن يراجعوا تاريخ النصارى المملوء بمآسي القتل والاضطهاد الشنيع بكلّ أنواع التعذيب والإذلال، والتي منها قطع الأيدي والأرجل والأنوف والآذان، ومنها سملُ العيون وإطفاء نورها بالحديد المحمى،وغير ذلك، لإكراه النصارى ولا سيما المسلمون على ترك دينهم، والدخول في النصرانية. وقد كان بين طوائفهم مثل ذلك أيضاً، بسبب الخلافات الدينية. ألا يذكرون ما صنعت محاكم التفتيش في أسبانيا؟ ألا يذكرون ما صنع رجال الكنيسة من حبس الألوف في أقبية مغلقة وجمعهم فيها كجمع سمك السردين في العلب، وتركهم فهيا حتى يموتوا وقوفاً متراصين، مختنقين جياعاً ظماءً؟ ألا يذكرون القسوة الشديدة التي عاملوا بها المسلمين في المستعمرات التي استعمرتها بعض الدول المسيحية لبعض بلدان المسلمين في الشرق الأقصى، واعترف بها بعض قادة المبشرين، وقد بارك رجال الكنيسة هذه الأعمال؟ * خامساً: لقد جرَّب المسلمون عبر تاريخهم العقوبات الجسديَّة الَّتي أمر الله بها، كالقطع والجلد والرجم، فكان من منافعها العظيمة

حماية المجتمعات الإسلاميَّة من جرائم قتل شنيع فما دونه تعادل آلاف أضعاف ما تمَّ تنفيذه من عقوبات جسدية، بمعنى أن يداً واحدةً قطعت حماية المجتمعات الإسلامية من جرائم قتل شنيع فما دونه تعادل آلاف أضعاف ما تم تنفيذه من عقوبات جسدية، بمعنى أن يداً واحدة قطعت لسارق قد حمت آلافاً من الناس بريئين سويّين غير مجرمين، كان من الممكن لولا هذه العقوبة الصارمة الحاسمة أن يتعرضوا للقتل وقطع الأيدي والأرجل وبقر البطون وإحداث عاهات مستديمات فيهم، بأيدي مجرمين عدوانيين، مع ما يسلبون وينهبون من أموال ويهتكون من أعراض. ويحسن بطارحي السؤال أن يراجعوا إحصائيات دول العالم اليوم التي لا تعاقب السارقين بقطع الأيدي، وما فيها من أرقام جرائم خيالية فيها قتل بأبشع الصور فما دون القتل من أعمال عدوانية إجرامية، من أجل الحصول على المال الحرام بالسرقة أو السلب والنهب والقهر بالقوة. كذلك نقول: إن رجم عددٍ لا يتجاوز عدد أصابع اليدين لزناة متزوجين محصنين، ثبت على الزاني منهم الزنى بشهادة أربعة شهود عدول شاهدوا بأعينهم فعلته، أو قدموا أنفسهم للتطهير باعتراف منهم لم يكرهوا عليه، ولم يستدرجوا إليه، بأية وسيلة من وسائل الاستدراج، قد حمى المجتمع الإسلامي قروناً متعددة من انتشار فاحشة الزنى في الأسر المحصنة، وحماه مما تجر هذه الفاحشة من فسادٍ في المجتمع، واختلاطٍ في الأنساب، ومآسٍ في الأسر، ثم مما تجلبه من أمراض وبائية قد أحدثت طوفاناً وبائياً في الشعوب التي تهاونت بهذا الأمر، وجعلت ممارسته من مظاهر الحرِّيَّة الشخصية. وأقول لأصحاب السؤال الذين يقولون: إنهم نصارى: هل أباحت شريعة من الشرائع الربانية الزنى المنتشر في عالم اليوم في الشعوب النصرانية بشكل معتاد غير منتقد، باعتباره ظاهرة من ظواهر الحريات الشخصية، وقد سبب في شعوب الأرض مآسي تدوَّن بها بحوث ورسائل بل كتب كبيرة؟!

إنَّ أصل الحكم الرباني في شريعتهم هو الرجم، وقد كانوا يفعلونه في عصورهم الأولى، ثم دخل عليهم التحريف في الدين، والتهاون بتطبيق أحكامه، فليراجعوا تاريخهم، أو فليقرؤوه إن كانوا جاهلين. أفيعترضون على حكم هو من أحكام الإسلام وهو من أصول شريعتهم، وأحكام دينهم، ومنصوص عليه في الكتب التي يؤمنون بها، كما سبق بيان ما جاء في الإصحاح العشرين من سفر اللاّويين؟! إذا تحولوا علمانيين فلينصروا العلمانية صراحةً، وليخلعوا قناع مناصرة الديانة النصرانية. وإذا كانوا ينصرون ما هو قائم في الشعوب النصرانية مما هو مخالف لأصول دينهم، فليدعوا الأديان كلها جانباً، وليتحدثوا عن واقع بشري بحت، لا عن أديان ربانية منزلة من عند الله رب العالمين. وأذكرهم با جاء في الإصحاح الثامن من إنجيل يوحنا: "1- أما يسوع فمضى إلى جبل الزيتون. 2- ثم حضر إلى الهيكل في الصبح وجاء إليه جميع الشعب فجلس يعلمهم. 3- وقدم إليه الكتبة والفريسيون امرأة أمسكت في زنا. ولما أقاموها في الوسط. 4- قالوا له: يا معلم، هذه المرأة أمسكت وهي تزني في ذات الفعل. 5- وموسى في الناموس أوصانا أن مثل هذه ترجم فماذا تقول أنت؟ 6- قالوا هذه ليجربوه لكي يكون لهم ما يشتكون به عليه. وأما يسوع فانحنى إلى أسفل وكان يكتب بأصبعه على الأرض.

7- ولما استمروا يسألونه انتصب وقال لهم: من كان منكم بلا خطية فليرمها أولاً بحجر. 8- ثم انحنى أيضاً إلى أسفل وكان يكتب على الأرض. 9- وأما هم فلما سمعوا وكانت ضمائرهم تبكتهم خرجوا واحداً فواحداً مبتدئين من الشيوخ إلى الآخرين". * * *

ثانياً: أسئلتهم حول المسَاواة وأجوبتها السؤال الأول: "ما معنى الدفاع عن تفوق الإنسان الحر على العبد، دون إدانةٍ للعبودية والقضاء عليها؟ ". الجواب: إنَّ المفاهيم الإسلامية التي يدل عليها كتاب الله القرآن، وتدل عليها أقوال الرسول وأفعاله ووصاياه تقرر أن الحر ليس له - بسبب كونه حراً - تفوق عند الله، وكذلك في المجتمع الإسلامي المطبق لأحكام الإسلام، على العبد، بسبب كونه عبداً، وكذلك في وجدان كل مؤمن مسلم، فلا تفوق في الإسلام للحر على العبد. فرب عبد مؤمن مسلم صالح تقي هو خير بإيمانه ودينه وعلمه وعقله وخصائصه النفسية والجسدية من سيده. أما الحرِّيَّة والعبودية فقضيتان من النظام الاجتماعي الذي يحدد علاقات البشر، دون النظر إلى اعتبارات تفوق واستعلاء، أو تدن وانحطاط. إن العلاقة بين العبد وسيده في مفاهيم الإسلام تشبه العلاقة بين عامل بأجر، مهما كان هذا العامل عظيماً في صفاته وخصائصه الذاتية والاجتماعية، وبين رب عمل، مهما كان رب العمل هذا منحط القيمة في صفاته وخصائصه الذاتية والاجتماعية. فموقع العامل بأجر اضطُرَّ أن يؤجّر

نفسه لحاجته إلى الأجرة، تجاه رب العمل، هو موقع المكلف المسؤول، الذي يتلقى أوامر الذي يعمل عنده، ويتلقى نواهيه، حول العمل الذي أجر طاقة عمله له ما دام أجيراً، وهذه العلاقة تحكمها ضوابط حقوقية. وهي أيضاً تشبه العلاقة بين رئيس الدولة أو أي ذي سلطة إدارية، وبين الذين هم تحت سلطته. فهل صاحب السلطة الإدارية له تفوق في خصائصه البشرية بسبب كونه في موقعه الإداري؟! إن كثيرين من الذين هم تحت سلطته هم أفضل منه أضعافاً مضاعفة في خصائصهم وصفاتهم النفسية والجسدية، لكن موقعهم في حدود النظام الإداري هو موقع المأمور الذي يجب عليه أن يطيع أوامر رئيسه. ونقول هنا لطارحي السؤال على طريقة سؤالهم: ما معنى هذا التفوق؟! وإذا دافعوا عنه فنقول لهم على طريقتهم أيضاً: ما معنى الدفاع عن تفوق الرئيس على مرؤوسيه؟!. وما معنى تفوق المدير على من هم تحت إدارته؟!. وما معنى تفوق البابا على الكرادلة؟! وتفوق الكرادلة على البطارقة؟! وهكذا تسلسلاً حتى أدنى مراتب الإكليروس. أما نحن المسلمين المؤمنين بمفاهيم الإسلام فلا نرى العلاقة بين العبد وسيده، ولا أمثالها تفوقاً، بل هو أمرٌ من النظام الاجتماعي اقتضته طبيعة الحياة الاجتماعية البشرية، لتنظيم أحوال الناس، ولولا ذلك لفسدت المجتمعات، ولصار الناس فوضى. وتطبيقاً لهذا المفهوم الإسلامي اتخذ العبيد والموالي في تاريخ المسلمين سبلهم للارتقاء إلى أرفع المراتب الاجتماعية، فكان منهم كبار العلماء والمحدثين والقادة الموجهين، والأئمة الأعلام، ثم كانت لهم دولة ذات شأن تعرف في تاريخ المسلمين بدولة المماليك.

على خلاف العبيد في تاريخ الشعوب النصرانية، الذين كانوا يسترقون نهباً وسلباً من السواحل الإفريقية، ويساقون بالتعذيب إلى أمريكا، وعلى أجسادهم أقام النصارى العالم الجديد، وهذه بقعة مظلمة سوداء في تاريخ الشعوب النصرانية، ولا زالت مظاهر الاستعلاء التفوقي للعرق الأبيض على الشعوب السود موجودةً حتى الآن، في الشعوب النصرانية، وهو ما يسمى بالتمييز العنصري، الذي تعاني منه الشعوب السود، على خلاف واقعهم بين شعوب الأمة الإسلامية. وأما الرق فقد كان قبل الإسلام نظاماً عاماً عند كل الشعوب، وعند كل أهل الملل والنحل، ومنهم اليهود والنصارى. وقد كانت له أسبابٌ هي في معظمها ظالمة آثمة لا أخلاقية ولا إنسانية، تعتمد على السلب والنهب والسطو بالقوة المسلحة مع الإكراه بالقتل لمن يسترق، إذا تمرد على من استرقه أو على من اشتراه منه. ولما جاء الإسلام حث على عتق العبيد، ولم يكن من الممكن إلغاء الرق نهائياً من طرف واحد، وهو طرف الأمة الإسلامية، لأن الرق من القضايا التي تواضعت عليها شعوب الأرض، لكن الإسلام منع كل الموارد الظالمة الآثمة التي كانت تمد نظام الرق، وتجعل الأحرار عبيداً، وكان من اللازم أن يعامل بالمثل في أسرى الحرب فقط، لأن الأسرى من المسلمين عند غير المسلمين كانوا عرضة ً للاسترقاق، أو يفدون بنظرائهم، أو بالأموال، فكان من العدل في نظام الإسلام المعاملة بالمثل. وزاد الإسلام الأسرى تكريماً، فأعطى القيادة المسلمة حق المن بإطلاق الأسرى دون مقابل، وبدأ النص القرآني به، وسكت عن الاسترقاق، إشعاراً بعدم الرغبة فيه، ولكن قد تدعو إليه المعاملة بالمثل، فقال الله عزَّ وجلَّ في سورة (محمد/47 مصحف/95 نزول) : {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} .

ولم يقل القرآن: وإما استرقاقاً، ليدل على أن الاسترقاق غير مرغوب فيه، وإنما قد تدعو الحاجة إليه، بمقتضى قواعد المعاملة بالمثل، وليدل على أن من صلاحيات القيادة الإسلامية أن تتفق مع محاربيها على أن يكون التعامل فيما بينهم على إيقاف نظام الاسترقاق، والاكتفاء بالمن (أي: بإطلاق الأسرى دون مقابل) ، أو بالفداء (أي: بافتداء أسرى بأسرى، أو افتداء أسرى بمال) . وإذا كان أصحاب السؤال يجهلون أو يتجاهلون أن نظام الرقيق والعبيد من الأنظمة لدى أهل الكتاب جميعاً ومنهم النصارى، فإنني أحيلهم على النص الذي أوردته فيما سبق من الإصحاح العشرين في سفر التثنية، وليقارنوا بين قول الله تعالى في القرآن: {إِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً....} . وبين ما جاء في سفر التثنية حول محاربة أهل المدن: "فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك التسخير ويستعبد لك. وإن لم تسالمك بل عملت معك حرباً فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف". إلى آخر ما جاء في النص مما هو أشد وأقسى. وأقول لهم أيضاً: ألم يكن لداود عبيد يطيعونه، ويخضعون له؟! ألم يكن لسليمان عبيد يطيعونه ويخضعون له؟! ألم يكن لأيوب عبيد يطيعونه ويخضعون له؟! إذا كانوا يجهلون ذلك، فإني أعرض عليهم مقاطع من كتابهم المقدس: (1) جاء في الإصحاح الثاني عشر من "صموئيل الثاني" ما يلي في معرض بيان حزن داود من أجل مرض الولد الذي حملت به منه امرأة

أوريا (كما يزعمون) كذباً وبهتاناً على داود فيما نعتقد نحن له من عصمة عن الزنا: "18 - وكان في اليوم السابع أن الولد مات، فخاف عبيد داود أن يخبروه بأن الولد قد مات لأنهم قالوا: هو ذا لما كان الولد حياً كلمناه فلم يسمع لصوتنا. فكيف نقول له قد مات الولد. يعمل أشر. 19- ورأى داود عبيده يتناجون ففطن داود إلى أن الولد قد مات. فقال داود لعبيده: هل مات الولد؟ فقالوا: مات" إلى آخر القصة. (2) وجاء في الإصحاح الحادي عشر من سفر "الملوك الأوَّل" ما يلي في معرض الحديث عن سليمان: "3- وكانت له سبع مئة من النساء السيدات وثلاث مئة من النساء السراري فأمالت نساؤه قلبه". (3) وجاء في سفر أيوب بيانٌ عن خدمه وغلمانه الكثيرين، العاملين في خدمته، المطيعين لأوامره ونواهيه، وجاء فيه بعض بيان عن عبيده وإمائه. فلما امتحنه الله بزوال النعمة جاء في أقواله كما في الإصلاح التاسع عشر: "14- أقاربي قد خذلوني والذين عرفوني نسوني. 15- نزلاء بيتي وإمائي يحسبونني أجنبياً، صرت في أعينهم غريباً. 16- عبدي دعوت فلم يجب". ثم ألا يذكرون أن "سارة" زوجة سيدنا إبراهيم عليه السلام كانت لها أمة هي "هاجر" وأنها وهبتها لزوجها إبراهيم، ولما حملت منه غارت منها، وألزمت زوجها بإبعادها، حتى أخذها هي وابنها الرضيع إسماعيل إلى مكة وتركها في وادٍ غير ذي زرع بأمر الله وإذنه؟

(4) وجاء في رسالة بطرس الرسول الأولى (الإصحاح الثاني) ما يلي: "18- أيها الخدام كونوا خاضعين بكل هيبة للسادة ليس للصالحين المترفقين فقط، بل للعنفاء أيضاً. 19 - لأن هذا فضل إن كان أحدٌ من أجل ضمير نحو الله يحتمل أحزاناً متألماً بالظلم. 20- لأنه أي مجد هو إن كنتم تلطمون مخطئين فتصبرون، بل إن كنتم تتألمون عاملين الخير فتصبرون فهذا فضل عند الله. 21- لأنكم لهذا دعيتم". * * * السؤال الثاني: "لماذا يقال بأن الله قد خلق البشر سواسية في الحقوق والواجبات، بينما تقبل عدم المساواة لأسباب دينية. كما يعلن عن تفوق المسلم على غير المسلم وإن كان الأخير من (أهل الكتاب) ومن أتباع الديانات الأخرى، أو من غير المؤمنين. ونجد هذه اللامساواة في الميادين الحقوقية والاجتماعية، اعتماداً على العقائد الدينية. ونحن بدورنا نتساءل: هل يتعارض التعايش بالحقوق نفسها، بين المسلمين والنصارى واليهود وبقية الناس، مؤمنين أم غير مؤمنين مع العقيدة الإسلامية، وبخاصة بالنسبة إلى قضية تطبيق الشريعة دون تمييز على المسلمين وغير المسلمين". الجواب: السؤال مطروح بشكل عام دون بيانٍ ولا تحديد ولا أمثلة، والأسئلة العامة مزالق مغالطات لا يجاب عليها أجوبة عامة.

والاعتراض الوارد في السؤال يتضمن اعتراضاً عاماً غير محدد، وغير مقترن بأمثلة، ومثل هذا الاعتراض ساقط لا قيمة له في مجال البحث العلمي، والحوار العقلي المنصف المتجرد. إن باستطاعة أي إنسان غير ملتزم بمنطق الحوار العلمي والمناظرة النظيفة الحصيفة الشريفة، أن يقول لأي فاضل نزيه شريف بريء: لماذا تتظاهر بالفضل والنزاهة والشرف والبراءة، بينما نجدك على خلاف ذلك؟! إن أول رد مهذب يرد به هو أن يقول: ماذا تنكر علي من قول، أو خلق، أو سلوك؟ أثبت بالأمثلة من الواقع ما أنت تشتمني به. ونحن هنا نرد بمثل ما رد به الرسول "نوح عليه السلام" على قومه إذ قالوا له: إنا لنراك في ضلال مبين. فقال لهم: يا قوم ليس بي ضلالة. قال الله عزَّ وجلَّ في القرآن، في سورة (الأعراف/7 مصحف/39 نزول) : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} . ونرد بمثل ما رد به الرسول "هود عليه السلام" على قومه إذ قالوا له: إنا لنراك في سفاهةٍ وإنا لنظنك من الكاذبين. فقال لهم: يا قوم ليس بي سفاهةٌ ولكني رسول من رب العالمين. قال الله عزَّ وجلَّ في القرآن، في سورة (الأعراف) أيضاً: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ

الْكَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} . ومع هذا، فإني أقدم تصوراً كلياً عاماً عن الحقوق والواجبات في الإسلام، يدرك طارحو السؤال من خلاله كيف ينبغي أن تطرح الأسئلة والاعتراضات، ويظهر أنهم بعيدون عن الدراسات الحقوقية والقانونية، أميون في هذا المجال العملي، كما هم أميون في كتابهم المقدس، أو متجاهلون يغالطون في طرح الأسئلة، ظانين أن الأسئلة تنطي عليهم حيل الأسئلة. إن التفصيل في هذا الموضوع يحتاج بياناً واسعاً يعتمد على تتبع جزئيات الحقوق والواجبات، ومعرفة من له حق ما، ومقدار ذلك الحق، ومعرفة من ليس له حق، ثم معرفة من عليه واجبٌ ما، ومقدار ذلك الواجب، ومعرفة من ليس عليه واجب، كل ذلك على وجه الدقة. وقبل أي بحث في هذا الموضوع أقول: إن الإسلام يقرر من مبادئه الكلية العامة مبدأ العدل، لا مبدأ المساواة، ومبدأ العدل يقتضي إعطاء كل ذي حق حقه، أو على مقدار حقه دون زيادة ولا نقصان. وإعطاء كل ذي حق حقه، أو على مقدار حقه دون زيادة ولا نقصان هو واجب على من يملك هذا الإعطاء. أمثلة: (1) فمن حق الله على عباده أن يؤمنوا به رباً واحداً أحداً لا شريك له ولا ند له، ولا ولد له، ولا صاحبة له. ومن حق الله على عباده أن يعبدوه وحده ولا يشركوا بعبادته أحداً. وأن يطيعوه في أوامره. إذن، فعلى كل ذي إرادة حرة علم بحقوق الله عليه بنفسه، أو بلاغاً عن طريق الرسل، واجبُ أداء هذه الحقوق.

ومن كفر بالله، في ربوبيته الواحدة، أو في إلهيته الواحدة، أو عصى أوامر الله ونواهيه، ولم يؤد حقوق الله عليه ظلم وأجرم، واستحق المؤاخذة والعقاب بنفسه، على مقدار استهانته أو تقصيره بأداء حقوق الله عليه، ولا يحمل مخلوقٌ ما كائناً من كان وزراً اكتسبه مخلوق آخر {كل نفس بما كسبت رهينة} ، وهذه قاعدة من قواعد الدين منزلة على إبراهيم عليه السلام فمن بعده من المرسلين، وفكرة تحمل عيسى عليه السلام الخطيئة عن غيره بتقديم نفسه للصلب، خرافةٌ لا أصل لها في قانون العدل الرباني، صنعها محرفو الديانة الربانية، التي جاء بها عبد الله ورسوله عيسى عليه السلام فمن بعده من المرسلين، وفكرة تحمل عيسى عليه السلام الخطيئة عن غيره بتقديم نفسه للصلب، خرافةٌ لا أصل لها في قانون العدل الرباني، صنعها محرفو الديانة الربانية، التي جاء بها عبد الله ورسوله عيسى عليه السلام. (2) وقد أعطى الله عباده حقوقاً قسمها بينهما بحسب ما وهبهم، وكلفهم من الواجبات على مقدار ما وهب كلاً منهم. فلكل ذي حياة حق في أن يحيا، وفي أن يكون له رزق، وفي أن يكون له من مطالب حياته ما يحتاجه له، طوال مدة رحلة امتحانه في الحياة الدنيا. وعلى الناس جميعاً أن يصونوا له هذا الحق، ما لم يعمل عملاً يستحق عليه عقاباً، وقد يصل العقاب إلى عقوبة الطرد من الحياة الدنيا بالقتل. هذا الحق يتساوى فيه الناس جميعاً، فهم فيه سواسية، بشرط أن لا يعتدي صاحب هذا الحق على حق الله، أو حقوق الآخرين من عباد الله، أو شيء من خلق الله. ومن الحقوق التي يجب أن تبقى مصونة للإنسان في رحلة امتحانه، تأمين حريته الشخصية في أن يؤمن بما شاء، ويكفر بما شاء، وفي أن يفكر كما يشاء، ويختار لنفسه من الدين والاعتقاد ما يشاء، فلا يُكرَهُ ولا يُجْبَرُ على دينٍ ما، أو اعتقاد ما، لكنه بعد ذلك ملاحقٌ عند الله بالمسؤولية والحساب والجزاء، فإن اعتدى على غيره من أصحاب هذا الحق فأجبرهم

أن يؤمنوا بمثل ما آمن به، أو أن يدينوا بدينه، وأكرههم بأية وسيلة من وسائل الإكراه، كان على أهل الرشد من البشر أن يمنعوه من ذلك، ولو بأن يقاتلوه إذا اقتضى الأمر قتاله، لإزاحته من موقع السلطة الإكراهية. وقد علمنا القرآن أنه لا إكراه في الدين، وأن الأنبياء والمرسلين جميعاً لم يكرهوا الناس على الدين، ولم يقبلوا ديناً بإكراه، ولم يقرروا مؤاخذة على الكفر بالحق إذا كان ناشئاً عن إكراه. والأمر في التوراة والإنجيل والقرآن بقتال الكافرين، إنما هو لتأمين حريات الأفراد في الدين، وإزاحة ذوي السلطان الذين يكرهون الناس على وثنياتهم وكفرياتهم، عن مراكز قواتهم التي بها يكرهون الناس. هذه تعاليم الإسلام، وأدلتها كثيرة وواضحة. (3) وتوجد حقوقٌ لبعض الأفراد، هي واجباتٌ على غيرهم، دون تبادل التساوي بين هؤلاء وهؤلاء. إن للوالدين مثلاً حقوقاً على أولادهما، وهذه الحقوق يترتب عنها واجبات على الأولاد، ذكوراً وإناثاً، فالتساوي بين الوالدين وأولادهما في الحقوق والواجبات غير معقول وغير ممكن، لأنه لا يمكن أن يكون الابن أباً لأبيه حتى يكون له عليه من الحق مثل ما لأبيه عليه من الحق، إنه دور مستحيل عقلاً. إذن فحق الوالد على الولد لا يساوي من هذه الناحية حق الولد على والده أو والدته. لكن للود حقاً آخر على أبيه وأمه، ولا يوجد لهذا الحق مساوٍ عند الوالد نحو ولده. وكل حق من جهةٍ على جهةٍ يقابلُه واجب على من عليه الحق، فحق الرئيس على من هم تحت يده بمقتضى النظام الاجتماعي يقابله

واجب عليهم، هو أن يطيعوه في غير معصية الله، وفي أن يحترموه ويوقروه، ولهم حقٌّ عليه في أن يعدل بينهم ويرفق بهم، ويعمل على أمنهم، وتيسير وسائل كسب أرزاقهم، ونحو ذلك. والزوج بمقتضى قوامته على زوجته، له عليها حقٌّ أن تطيعه بالمعروف في غير معصية الله، وأن تعفَّه، وأن تهيئ له الوسائل حتى تكون له سكناً، ويجد عندها طمأنينته، إلى غير ذلك من حقوق. وحقها عليه أن ينفق عليها، ويكون لها عوناً وسنداً، ويرفق بها، ويعاشرها بالمعروف. ونرى أن الحقوق والواجبات بينهما ليست في كل العناصر متطابقة ولا متساوية، هو منفق وهي غير منفقة، هو صاحب قوامة وهي ليست صاحبة قوامة. إن طبيعة الخصائص المختلفة تقتضي التكامل، لا التطابق ولا التساوي، فمطلب التساوي منشؤه سوء الفهم لطبيعة الوجود، وطبيعة الحياة، وتطبيقه يؤدّي إلى الفساد والإفساد. وهكذا إلى سائر الحقوق والواجبات. أما المسلمون فقد قامت بينهم وحدة الدين عقيدةً وشريعةً ونظاماً فكل من ينتمي إلى هذا الدين هو مكلف أن يلتزم بالحقوق والواجبات المبينة فيه، والتي تحددها الخصائص والصفات، وتقوم على مبدأ العدل، لا على مبدأ التساوي. وأما المسلمون مع غير المسلمين الذين لم يؤمنوا بالعقيدة الإسلامية، والشرائع الإسلامية، والنظام الإسلامي، فالجامع بينهم روابط إنسانية، والحقوق والواجبات بيهم تحددها مفاهيم هذه الروابط، وقواعدها عامة، وتقوم على مبدأ العدل لهم أو عليهم، لا على مبدأ التساوي، فكل حقٍ تقرره مبادئ الحقوق الإنسانية يقابله واجبٌ على الآخرين أن يحترموه، ويلتزموا به إذا كان يتعلق بهم.

فالجماعة المسلمة لها روابط قائمة على وحدة الدين , وهذه الرواط لها نظام عام شامل. وحين يتكون مجتمع ما من أكثرية لها روابط قائمة على وحدة الدين، وأقلية لا تدين بدين الأكثرية، فإن الأكثرية ليست مطالبة في منطق المجتمعات البشرية كلها بأن تتنازل عن مبادئها ومصالحها من أجل الأقلية، وقد تعطى الأقلية بعض استثناءات لا تتعارض مع قواعد النظام العام، ولا تتعارض مع المصالح الكبرى للأكثرية. وهنا أقول: هل يوجد في أية دولة ذات أكثرية نصرانية أو قومية من دول العالم أنظمة متعددة بعدد الأقليات الدينية أو القومية فيها؟! أم توضع الأنظمة العامة بمقتضى رغبات ومصالح الأكثرية؟! إن كل الأنظمة الديمقراطية في العالم تحددها -بحسب الظاهر - إرادة الأكثرية، ثم تفرض على الجميع، ومنهم الأقليات التي لم تحترم إرادتها، وفي أحسن الأحوال وبعد المطالبات الملحة قد تعطى إنسانياً بعض حقوق استثنائية، كالمعابد والمدارس الخاصة بها، وبعض المراكز التي يمكنون فيها من نشاطٍ ديني محدود، على الرغم من أنها أنظمة قائمة على مبادئ علمانية غير نصرانية. أما الدول التي تشتد فيها النزعة النصرانية، فالأقليات المسلمة فيها مقهورة، مهضومة الحقوق، مضطهدة من أجل دينها، لا تجد أية مساواة بينها وبين الأكثرية النصرانية، في كل المجالات، وبعض الأقليات المسلمة في بعض البلدان النصرانية من هذا القبيل يفرض عليها تغيير أسمائها الإسلامية، فأين المساواة والمدعاة؟ هل وجدت الأقليات النصرانية في الدولة الإسلامية عبر تاريخها الطويل، شيئاً من هذا الذي تعاني منه الأقليات المسلمة في الدول ذات التعصب النصراني؟ إن الإسلام راعى للأقليات غير المسلمة استثناءاتها

الخاصة التي تقتضيها أحكام أديانها الخاصة، بشرط عدم التأثير على النظام العام، أو الإخلال بقواعده وأمن المجتمع. ومن ناحية أخرى أقول بنظرة حقوقية: إذا كان المسلم يتمتع بين المسلمين بحقوق أكثر من حقوق غير المسلم أحياناً، ويتحمل من الواجبات عليه للمسلمين أكثر مما يتحمل غير المسلم، فهذا أمر اقتضته طبيعة روابط وحدة الجماعة بيهم، ولا يقال: هذه نزعة تفوق. وفي المقابل نجد كل جماعة في الدنيا تجمعهم روابط متكافئة، لهم على بعضهم حقوق، وعليهم نحوهم واجبات، ولا يوجد نظيرها بينهم وبين غيرهم من الجماعات الأخرى، التي تؤلف بينهم روابط أخرى دينية أو طنية، أو مذهبية أو حزبية، حتى الأسرة تجمع بينها روابط، وهي لا تطالب بأن تعامل أفراد سائر الأسر بمثل ما تعامل به أفراد أسرتها تماماً. كذلك لا يقال: إن لغير المواطن الذي لا يحمل جنسية الدولة من الحقوق على الدولة مثل حقوق المواطن بالتساوي، فهذا لا يقول به أحدٌ من الناس، وذلك لانعدام روابط المواطنة، وليس تفضيل المواطن في الحقوق على النزيل الضيف، أو عابر السبيل، أو المقيم بعهد أو أمان، هو من قبيل التفوق الإنساني. والذي يظهر أن واضعي السؤال من المؤسسة التبشيرية العاملة تحت تنظيم "الآباء البيض" لم يدرسوا مبادئ الحقوق في الشرائع الدينية أو القوانين الوضعية، لأننا نلاحظ على أسئلتهم حول المسا واة جهلاً لا نراه عند الذين لديهم معرفة ما بأصول قوانين الحقوق وقواعدها. وأكره أن أقول: إن السؤال يعتمد على المغالطة والتضليل، فهما فغير أخلاقيين في المناظرة أو الحوار أو طرح الأسئلة. * * *

السؤال الثالث: "لماذا يقبل تفوُّق جنس على آخر؟ وهو أمر نراه من خلال النقاط التالية: (1) قبول تعدد الزوجات مع تحريم تعدد الأزواج. (2) إمكانية هجر الرجل لزوجته دون أن يقدم تبريراً لعمله، ومن دون أن يعاني من أية نتائج لعمله هذا، بينما لا تستطيع المرأة سوى الحصول وبصعوبة على الطلاق، وعن الطريق القانوني فقط. ( 3) للأب حق الوصاية أو الولاية على الأبناء دائماً، وإن كان الأطفال في حضانة الأم. (4) بالنسبة إلى المواريث نجد أن نصيب المرأة، وفي أغلب الأحيان، هو أقل من حصة الرجل. الجواب: إن سؤالهم حول تعدد الزوجات مع تحريم تعدد الأزواج سؤال عجيب من الذين يؤمنون بأنبياء بني إسرائيل، وبأسفار العهد القديم من كتابهم المقدس. ولنا مع الذين لا يؤمنون بكتاب رباني من الملاحدة والعلمانيين كلامٌ طويل، وبيانٌ مستفيض، نبين فيه حكمة الرسالات الربانية في إباحة تعدد الزوجات، مع تحريم تعدد الأزواج في وقت واحد. أما النصارى الذين يؤمنون بإبراهيم عليه السلام رسولاً، ويؤمنون بإسحاق ويعقوب وموسى وسائر أنبياء رسل بني إسرائيل، فإننا نحيلهم على ما هو مدون في كتابهم المقدس من نصوص وبيانات تدل على أن من شريعة هؤلاء الرسل جميعاً إباحة تعدد الزوجات، دون تعدد الأزواج طبعاً، وأن بعض أنبيائهم ورسلهم كانوا يعددون الزوجات. فقد كان لإبراهيم عليه السلام في وقت واحد زوجة، هي "سارة"

وجارية وهبتها له زوجته وهي "هاجر" المصرية، التي وهبا لسارة فرعون مصر، وحملت منه بإسماعيل عليه السلام. وكان ليعقوب "إسرائيل" عليه السلام زوجتان شقيقتان، هما: "ليئة" وهي الكبرى، و"راحيل" وهي الصغرى، وكان له معهما جاريتان هما: "بِلْهَة" جارية راحيل، و"زِلْفَة" جارية ليئة، وأنجب من الأربعة أولاده الاثني عشر، هم أجداد أسباط بني إسرائيل. وكان لداود عليه السلام عدة زوجات، فمنهن زوجتان جاء ذكرهما في الإصحاح الثاني، من سفر "صموئيل الثاني" فقد جاء فيه: "2- فصعد داود إلى هناك هو وامرأتاه أخينوعم اليزرعيلية وأبيجايل امرأة نابال الكرملي. 3- وأصعد داود رجاله الذين معه كل واحدٍ وبيته وسكنوا في مدن حبرون. 4- وأتى رجال يهوذا ومسحوا هناك داود ملكاً على بيت يهوذا". وقد سبق بيان ما لسليمان عليه السلام من زوجات، وهن (700) سيدات، و (300) سراري، كما جاء في الإصحاح (11) من سفر الملوك الأول. واستمرت شريعة تعدد الزوجات في بني إسرائيل، وفي رسالة عيسى عليه السلام، ثم جاء منع التعدد تحريفاً كنسياً في النصرانية، مستنداً إلى وصية بولس في رسائله، كما جاء في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوث (الإصحاح السابع) . والتعدد أمر منصوص عليه في سفر "التثنية" ففي الإصحاح الحادي والعشرين منه ما يلي:

"15 - إذا كان لرجل امرأتان إحداهما محبوبة والأخرى مكروهة فولدتا له بنين المحبوبة والمكروهة، فإن كان الابن البكر للمكروهة. 16- فيقوم يقسم لبنيه ما كان له لا يحل له أن يقدم ابن المحبوبة بكراً على ابن المكروهة البكر. 17 - بل يعرف ابن المكروهة بكراً ليعطيه نصيب اثنين من كل ما يوجد عنده لأنه هو أول قدرته له حق البكورية". بعد هذا أقول ما هو جواب أصحاب السؤال حول إباحة تعدد الزوجات في رسالات رسل بني إسرائيل؟ وحول وجوده فعلاً في تاريخهم؟ إنهم إذا وصلوا إلى جواب يقنعهم عما لديهم في الرسالات الربانية التي يؤمنون بها، فليكن هذا الجواب كافياً لهم، ورداً على سؤالهم الإيهامي التشكيكي. إجابة لإقناع العلمانيين اللادينيين: وبعد دفع تشكيك أصحاب السؤال من النصارى، أقول للعلمانيين اللادينيين الذين قد يخطر في بالهم طرح مثل هذا السؤال، ما يلي: إن إباحة تعدد الزوجات في الإسلام دون إباحة تعدد الأزواج، هو ما تقضيه الحكمة الرفيعة في المجتمع البشري. أما تعدد الأزواج فأمرٌ لا يقره عاقل، ولا يقره دين، ولا نظام وضعي بشري، إذ لا تساوي بين المرأة والرجل في الحمل والولادة، فكيف يطلب التساوي في التعدد؟ إن السبب في منع تعدد الأزواج ظاهر واضح، وهو ما قد يُفضي إليه تعدد الأزواج من اختلاط الأنساب، مع منافاته أصلاً للطبيعة البشرية التي فطر الله الناس عليها، فالزوج هو الذي له الإدارة والقوامة، ومعلومٌ

أن السفينة الواحدة لا يقودها ربانان في آنٍ واحد، والتناوب في الحياة الزوجية بين صاحبي قوامة غير ممكن لا على سبيل المشاركة، ولا على سبيل التقسيم الزمني الذي يعرف بالمهايأة، ويؤدي إلى خلافات وصراعات حتمية تنتهي بالتدمير السريع للأسرة. وأما إباحة تعدد الزوجات فأمر تقتضيه مصالح إنسانية كثيرة، وقد يكون التعدد هو الحل الأفضل والأنسب لكثير من المشكلات في المجتمع البشري، ومن ذلك ما يلي: * أولاً: إن إباحة تعدد الزوجات بشكل صريح وعلني، مع عدم الإذن بالزيادة على أربع زوجات في وقت واحد، ومع الإلزام بالعدل بين الزوجات وإلا فيجب الاقتصار على واحدة، وهو ما قررته أحكام الشريعة الإسلامية، أفضل ألف مرة مما تعاني منه المجتمعات النصرانية والعلمانية التي تمنع تعدد الزوجات الرسمية الصريحات، من انتشار التعدد فعلاً دون ضوابط، وبطرق سفاحية غير مشروعة، ولا تستتبع حقوقاً، ولا التزامات على الزوج، وينتشر بها اللقطاء أولاد الزنا، أو يعيشون في الحياة ليس لهم آباءٌ معروفون يُسألون عنهم، ويتحملون مسؤولياتهم تجاههم. إن هذه المجتمعت التي تمنع تعدد الزوجات تغض النظر عن تعدد العشيقات والخليلات والصواحب أو تسمح بذلك علناً ولا تجد في الزنا أي حرج ما دام قائماً على تراضي الطرفين، حتى غدا التعدد بهذه الطرق غير المشروعة والتي لا ضابط لها، ظاهرة متفشية في هذه المجتمعات التي تنتمي إلى المسيحية أو إلى العلمانية اللادينية، حتى لا تكاد تسلم منها إلا القلة القليلة النادرة. والسبب في ذلك أن كثيراً من الرجال لا تقنعهم ولا تكفي مطالبهم زوجة واحدة، فإذا كان النظام المعمول به لا يسمح بأكثر من زوجة

واحدة، فإنهم يلجؤون إلى اتخاذ العشيقات والخليلات والصواحب غير الشرعيات، مع ممارسة الزنا فوقهن بلا حدود. أفإقرار التعدد عن طريق الزنا مع التحرر من التبعيات أصلح للمجتمع، أم إقراره مضبوطاً مراقباً محدوداً، تراعى فيه الحقوق، وتلتزم فيه تبعات الحياة الزوجية كاملة؟! * ثانياً: قد تتعرض المجتمعات البشرية لاحتمالات زيادة عدد النساء عن عدد الرجال، الأمر الذي يفضي إلى إبقاء قسم من النساء عوانس أو أرامل، لا يجدن من يتزوجهن من الرجال، لقلة أعدادهم عن أعداد النساء، وقد حصل هذا كثير في أعقاب الحروب. ولا نعلم فيما سبق في التاريخ أن زاد عدد الرجال على عدد النساء، فالحكمة تستدعي إعطاء حكم الإباحة، مع ضوابط العدل بين الزوجات، وضمان حقوقهن كاملة. * ثالثاً: قد تتعرض المرأة لمرض لا تستطيع معه القيام بالوظائف الزوجية، وتكون مجرد عبء على الزوج، أو قد يفقد الرجل مشاعر الميل الجنسي إلى زوجته، وفي كل من هاتين الحالتين يكون الزوج أمام حلين: - إما أن يطلق ليتزوج غير زوجته. - وإما أن يعدد، والتعدد خير للمرأة من طلاقها، أو أهون على نفسها، على أن لها أن تختار الطلاق عن طريق المخالعة إذا لم تصبر على أن تشاركها غيرها في زوجها. * رابعاً: قد يكون الرجل مخصباً، وتكون المرأة عقيماً، ولا يريد الرجل أن يضار العقيم بالطلاق، ويحرص على بقاء المودة بينهما، مع رغبته في الإنجاب. وفي هذه الحالة قد يكون من الأصلح للمرأة، أو الأهون عليها أن

تكون شريكة لامرأة أخرى في رجلها، من أن تطلق وتكون بغير زوج، وهذا ما تفضله معظم الزوجات العقيمات. على أنها إذا رغبت في الطلاق فلها أن تطالب به، ويتم ذلك عن طريق السلطة القضائية وبحكم الشرع، ثم تبحث عن زوجٍ آخر يرضى بها وهي عقيم، ويكون ملائماً لها. وحين يكون العقم من الزوج، فإن لها الحق بأن تطالب بالطلاق عن طريق المخالعة لتتزوج بمخصب. وأخيراً أقول: إن التعدد في الغالب يكون مخالفاً لرغبة المرأة، ولا يكون موافقاً لرغبتها إلا نادراً جداً، ولكنه لا يكون مخالفاً لإرادتها، ولما تراه الأفضل لها، أو الأخف والأهون على نفسها. وذلك لأن السابقة التي يسوؤها مشاركة أخرى لها في زوجها، باستطاعتها أن تطالب بالطلاق، ولكنها قد لا تطالب به لأنها ترى أن من الأفضل لها أن تكون شريكة لأخرى في زوجها، من أن تكون خلية في بيت أبيها لا زوج لها. أما اللاحقة فإنما تدخل وهي راضية بأن تكون شريكة، إذ لو وجدت الأفضل لما وافقت، إذن فموافقتها قائمة على أساس الرضا بالمشاركة، فلو أنها كانت قد وجدت الزوج المناسب الذي تستقل به لم توافق على أن تكون شريكة لأخرى. بهذا نلاحظ أنه لا ظلم ولا إكراه لإرادة المرأة في أي حالٍ من الأحوال، أما الرغبات ومطالب النفس وما تشتهي في الحياة الدنيا، فإنه ما من رجل ولا امرأة في هذه الحياة يستطيع أن يحقق كل رغباته، ولا الكثير منها، لأن الحياة الدنيا حياة امتحان وابتلاء، بالخير والشر، بما يسر وما يسوء، بالنعم والمصائب، وليست حياة تحقيق كامل الرغبات، بل نعمها ولذاتها مختلطة دواماً بمصائب ومؤلمات ومحزنات، والمحبوبات فيها ممتزوجة بالمكروهات، لحكمة الامتحان، في ظروف

هذه الحياة الدنيا، وهكذا دواماً ظروف الامتحان الأمثل، وقد جعل الله للمرأة التي تصبر على مشاعر الغيرة من شريكتها في زوجها أجراً عظيماً. * * * وأما حق الوصاية على الأبناء فهو تابع لقوامة الرجل في نظام الإسلام داخل أسرته، وهو كحق الرئيس أو المدير على كل من هو تحت يده، في كل الشرائع والأحكام الربانية، وفي كل الأنظمة البشرية الوضعية، وقد سبق إيضاح هذه الفكرة. وأزيد هنا أن التعاليم الدينية عند أهل الكتاب من اليهود والنصارى، تجعل للرجل حق السيادة في أسرته على زوجته وأولاده. ففي الإصحاح الثالث من رسالة بطرس الرسول الأولى ما يلي: "1- كذلكن أيتها النساء كن خاضعات لرجالكن حتى وإن كان البعض لا يطيعون الكلمة يربحوهن بسيرة النساء بدون كلمة. 2- ملاحظين سيرتكن الطاهرة بخوف.... 5- فإنه هكذا كانت قديماً النساء القديسات أيضاً المتوكلات على الله يزين أنفسهن خاضعات لرجالهن. 6- كما كانت سارة تطيع إبراهيم داعية إياه سيدها التي صرتن أولادها صانعات خيراً وغير خائفات خوفاً البتة". أليس عجيباً أن يطرح "الآباء البيض" سؤالاً انتقاداً للإسلام، حول أمرٍ هو جزء من وصايا دينهم؟!! لو طرحه العلمانيون أو الذين لا يؤمنون بدين لكان لنا معهم أجوبة أخرى علمية وعقلية وتجريبية. * * *

وأما كون ميراث المرأة أقل من ميراث الرجل، فلدى المسلمين بحوث تفصيلية كثيرة، حررها كتاب مسلمون متعددون، وأثبتوا فيها أن هذا هو الأمر الطبيعي الأكمل، بعد أن حمل الرجل في نظام الإسلام مسؤولية بذلك المهر لزوجته، والإنفاق عليها وعلى سائر أسرته ولم تكلف المرأة من ذلك شيئاً وإن كانت ذات غنى. وحكمة الإسلام في كل ذلك مبينة لدى فقهاء المسلمين والباحثين في حكمة التشريع الرباني. والرد على هذا السؤال لا يزيد على أنه تكرير لما فصله الباحثون من المسلمين. ولكن واضعي الأسئلة التشكيكية لا يريدون أن يقرؤوا ما عند المسلمين من بيانات كافيات شافيات، خوفاً على أنفسهم من أن يقنعوا بها، فيؤمنوا بالإسلام، ويهجروا دينهم المحرف. وإن قرأها بعضهم من أهل الهوى والتعصب ضد الإسلام والمسلمين طمسها، أو تلاعب في مفاهيمها، وأبعدها عمن قد يتأثر بها من جماعته، والمناصرين لأهوائه وتحريفاته. يا أهل الكتاب تعالوا فاقرؤوا ما عند المسلمين، تعالوا إلى حوار حرٍ مكشوف بيننا وبينكم. إننا نرى بعض الدعاة إلى النصرانية منكم من رجال الكنيسة أو أصحاب الأهواء الأخرى، يقرؤون ألف جواب مقنع، يدحض تساؤلاتهم المشككة بالإسلام، فيطمسونها كأنهم لم يقرؤوها، ثم يعودون إلى طرح الأسئلة نفسها من جديد، بأساليب الدس والبث الإعلامي التسللي، الذي يراد منه إلقاء الشكوك في نفوس الجهلة بالدين من عليه الصلاة والسلام امة المسلمين، ولا يراد منه التوصل إلى معرفة الحقيقة. قليلاً من الحق والعدل والإنصاف يا أهل الكتاب، إنه لا ينفعكم عند الله أن تدعوا حب عيسى عليه السلام واتباعه، وأنتم تتبعون في الواقع

محرفي دينكم، دين الله الذي جاء به عيسى، وأوصاكم فيه باتباع محمد متى بعثه الله من بعد عيسى. اقرؤوا ما جاء في إنجيل "برنابا" ولا تقولوا هذا لا نعترف به، فالمكر اليهودي قد حرف لكم دينكم وأبعدكم عن الحق، كفاكم غفلة ً واتباعاً للهوى والتعصب الأعمى، واتباعاً للمنافقين من اليهود فيكم. * * * السؤال الرابع: "أين نجد الترابط المنطقي لله والذي خلق البشر وأحبهم جميعاً بينما نجد - كما في النصوص القرآنية - يحث على قتال الكفار؟ ". الجواب: أقول: إن الله عزَّ وجلَّ قد كرم بني آدم بصفات لم يعطها لغيرهم، والتكريم شيء، والمحبة شيء آخر. أما محبة الله لعباده فهي خاصة بمن آمن به على ما أنزل سبحانه وتعالى، وتزداد محبة الله لعبده كلما أكثر العبد من طاعة ربه وعبادته والعمل بما يرضيه. فادعاء أن الله يحب الناس جميعاً لا دليل عليه مطلقاً، لا من العقل، ولا من الرسالات الربانية الصحيحة، ما دام الناس موضوعين في الحياة الدنيا موضع الامتحان، ولو كان الله عزَّ وجلَّ يحب الناس جميعاً على خيرهم وشرهم، وصالحهم وفاسدهم، ومؤمنهم وكافرهم، وضالهم ومهتديهم، فلماذا يعذب يوم القيامة في جهنم من يستحق منهم العذاب، ولماذا أيضاً يسعى النصارى في زعمهم لتخليص الناس من العذاب عن طريق الإيمان بالنصرانية، وتكريمهم بهدايتهم إلى المسيحية، ألا يكفيهم أنهم مشمولون بمحبة الله، والله لا يعذب من يحبه؟.

ليس صحيحاً أن الله يحب الناس جميعاً، فالله لا يحب الكافرين، ولا يحب الظالمين، ولا يحب الفاسقين، ولا يحب الطغاة البغاة المتجبرين، ولا يحب المتكبرين، ولا يحب كل مختال فخور، وهكذا إلى سائر المجرمين. ولكن الله عزَّ وجلَّ يحب لكل الناس أن يؤمنوا به حق الإيمان ويؤمنوا برسله جميعاً، ويؤمنوا بما بعث الله به رسله، ويحب لكل الناس أن يسلموا لأوامره ونواهيه عن طريق إرادتهم الحرة، لا جبراً ولا إكراهاً، إن الله عزَّ وجلَّ يحب للناس جميعاً أن يؤمنوا ويسلموا طائعين مختارين ليخلصهم من عذابه، وليدخلهم في جنته يوم الدين، دار كرامته التي أعدها لعباده المؤمنين به وبرسله أجمعين، وبما جاءوا به عن ربهم، وبناءً على الإيمان الصحيح الصادق ساروا في صراط الله المستقيم يعملون الصالحات عبر رحلة امتحانهم في الحياة الدنيا. فمن عاند وكفر غضب الله عليه، ألم يغضب الله على فرعون وجنوده حتى أغرقهم في البحر؟ كما جاء في القرآن، وكما جاء في سفر الخروج، (في الإصحاح الرابع عشر) . ألم يغضب الله على بني إسرائيل حين بعدوا العجل الذهبي، في عهد موسى عليه السلام، فأمرهم بأن يقتلوا أنفسهم ليتوب عليهم، كما جاء بيان هذا في القرآن، وفي سفر الخروج (الإصحاح الثاني والثلاثين) ؟. ألم يغضب الله على الكفار الوثنيين، ويأمر بني إسرائيل بمداهمتهم في بلادهم وأرضهم في فلسطين، ومقاتلتهم وقتل ذكورهم بحد السيف، كما جاء في سفر التثنية؟ وفي الإنجيل الأصل غير المحرف قد كلف الذين آمنوا بعيسى أن يقاتلوا في سبيل الله، إذا تهيأت لهم وسائل القتال وأسبابه، لنصرة دين الله، وإعلاء كلمته، ومقاومة الكفر والكافرين، والقرآن يكشف هذه الحقيقة، بقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (التوبة/9 مصحف/113 نزول) : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ

يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . وأؤكد هنا أن قتال الكافرين ليس لإكراههم على الإيمان، ولكن لتأمين حرِّيَّة الناس في عقائدهم، ولإقامة الحق والعدل، ورفع الظلم. وهذه قضية شرحها المفكرون المسلمون في مقالات مستفيضات، فلا داعي هنا إلى تكرار هذا الموضوع، وأحيل على ما كتبت حوله في غير هذا الموضع من الكتاب. بعد هذا أقول لطارحي السؤال: ألم تجتمع دول أوروبا المسيحية كلها، بقيادة رجال كنائسها لمحاربة المسلمين، فيما عرف في التاريخ بالحروب الصليبية، التي استمرت قرابة مئتي سنة، تأتي فيها جيوشهم الجرارة من بلدانها، لقتال المسلمين في بلادهم بأرض الشام؟! فأين هذا من محبة الله لكل البشر؟! ألم تحتل الدول الاستعمارية الغربية النصرانية معظم بلدان العالم الإسلامي بالقوة تعاونها الكنائس النصرانية، وتبارك أعمالها، مع أنها كانت تنشر العلمانية والإلحاد والكفر بالله، وتنهب خيرات البلاد وتسخر رجالها؟! وعن طريق الدول الاستعمارية نشرت الجمعيات التبشيرية مؤسساتها المختلفة في بلدان المسلمين؟! فأين هذا من محبة الله لكل البشر؟! يا دُعاة التبشير بالنصرانية، آمنوا بالإسلام فهو خير لكم، تنجوا يوم الدين من عذاب ربكم في جهنم وبئس المصير، وتدخلوا جنته دار كرامته التي أعدها سبحانه وتعالى للمتقين المؤمنين المسلمين. * * *

السؤال الخامس: "وفي الدول الإسلامية التي تطبّق فيها الشريعة.. هل التعددية (في كافة صورها الدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية والعائلية) هل ستعتبر هذه التعددية رحمة إلهية تضمن الحرِّيَّة والمساواة، أم أنه ستفرض الشريعة على الجميع بشكل ديكتاتوري، كما نراها حالياً في كثير من الدول الإسلامية؟ ". الجواب: إن أي عالم مفكر منصف لا يطرح مثل هذا السؤال العام. فالتعددية العائلية من حيث كونها تعددية عائلية فقط، موجودة في كل بلدان العالم الإسلامي، وفي الدولة الإسلامية نظرياً وتطبيقياً، ويحكمها جميعاً نظامٌ عامٌ يطبق على الجميع دون استثناء، ومن أساء في التطبيق اعتبره المسلمون من المذنبين العصاة الخارجين عن الالتزام بالأحكام الإسلامية. وهذه التعددية موجودة في كل شعوب العالم، حتى عند الذين من مبادئهم إلغاؤها كالماركسيين. والتعددية السياسية: إن كانت بمعنى أنظمة سياسية متعددة مختلفة فيما بينها، فهو أمرٌ لا يوجد في أية دولة من دول العالم، ولا يطالب بها إلا من يريد إقامة صراع يؤدي إلى الانقسام والانفصال الحتمي عند التكافؤ، أو إلى تغلب فريق على فريق، ثم فرض نظامه. وإن كانت بمعنى التعددية الحزبية فالإسلام لا يمنع من حرِّيَّة الفكر، وحرية إبداء الآراء السياسية، والاجتهادات الفردية والجماعية في هذا المجال، ولكن تشكيل أحزاب سياسية تعسى للوصول إلى الحكم لتحقيق مصالح خاصة، مقنعة بأقنعة العمل السياسي لمصلحة الشعب كل الشعب أمرٌ من عناصر النظام الديمقراطي العلماني، وهو نظام له مجموعة

أسس ومفاهيم يتفق في بعضها مع نظام الإسلام في الحكم، ويختلف في بعضها معه، وشرح عناصر الاتفاق والاختلاف يتطلب بحثاً مستقلاً، وباستطاعة الحريص على المعرفة التفصيلية أن يرجع إلى ما كتبت حول هذا الموضوع في كتابي "كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة". ولست أدري: هل طارحو السؤال علمانيون أن نصارى دينيون؟ فإن كانوا دينيين فقد عرفنا أن تاريخ النصارى الديني يعتمد على النظام الملكي الوراثي، ولا يعتمد على النظام الديمقراطي، وإذا كان الأمر كذلك فما علاقة سؤالهم بقضايا الدين النصراني، في حوارهم مع المسلمين، ومن الأفضل لهم أن يتركوا مثل هذا السؤال للعلمانيين الديمقراطيين، وعندئذٍ فإننا على استعداد لأن نبين لهم نظام الإسلام في الحكم بصورة مقنعة، ونناظرهم في عناصر ديمقراطيتهم، ونكشف لهم أن نظام الإسلام هو الأحسن والأكمل. وأما أمر الأقليات غير المسلمة في الدولة الإسلامية، فقد سبق بيان أوضاعها في جواب السؤال الثاني من أسئلتهم حول المساواة، فلا داعي لإعادته هنا. بقي الكلام على التعددية الاجتماعية والثقافية والدينية: * أما التعددية الاجتماعية فلم أجد في السؤال عنها قضية محددة قابلة للبحث والبيان. وحين يبينون لنا عناصرها فنحن على استعداد تام لبيان موقف الدولة الإسلامية منها بالتفصيل، مع بيان مطابقته لأسس الحق والعدل. * وأما التعددية الثقافية فالجواب حولها يكون ببيان ما يلي: (1) من الثقافات أنواع مشتركة بين شعوب الأرض جميعاً، فالوحدة فيها قائمة، ولا تعددية في واقعها.

(2) ومن الثقافات أنواع مشتركة بين أهل الإيمان بالله، والوحدة فيها قائمة بين أهل الإيمان، ولا تعددية في واقعها. (3) ومن الثقافات أنواع خاصة بالملحدين الذين لا يؤمنون بالله، وهذه الثقافات لا تتبناها الدولة الإسلامية، ولا تضعها ضمن أنظمتها، وحين تجعل شيئاً منها في مناهج دراستها فلترد عليها، ولتبين زيفها وبطلانها، وهذا هو ما عليه كل الدول الدينية النصرانية واليهودية وغيرهما. (4) ومن الثقافات أنواع خاصة بأديان الأقليات غير المسلمة، والدول الإسلامية تسمح لهذه الأقليات بأن تنشئ ما تشاء من مؤسسات تعليمية خاصة بأبناء ملة كل منها، لتعليمهم ثقافاتهم الدينية الخاصة. * وأما التعددية الدينية فقد وجدت عبر تاريخ الدول الإسلامية الطول، طوائف نصرانية ويهودية وبوذية وبرهمية، وقد كانت لهم من الدول الإسلامية الحماية التامة والرعاية الشاملة، ولم يضاروا من أجل دينهم في أي أمرٍ من أمورهم الخاصة بهم. وما هو مباح في دينهم فإنهم يعاملون فيه بمقتضى أحكام دينهم في بيئاتهم الخاصة دون أن يخلوا فيها بما يفضي إلى إفساد أحوال المسلمين الذين هم الكثرة الكاثرة. أما النظام المشترك العام الذي تحكمه علاقات مدنية وإدارية واقتصادية وأمنية فالجميع فيه سواء، وهذا أمرٌ تتفق عليه نظريات الحقوق الدولية جميعها. ألا فكفوا أيها المشككون لئلا تعرى أفكاركم الضحلة، وتنكشف عوراتها. * * *

القسم الثالث نظرات عامة حول دوافع الغزو في الناس

القِسمُ الثالِث نَظَراتٌ عَامَّة حَوْل دَوافِع الغزو في الناسِ وَتلخيص وَتوجيه للِمسْلمين وفيه فصلان: 1- دوافع الغزو 2- خلاصة وتوجيه

الفصل الأول دوافع الغزو

الفصْل الأوّل دَوافع الغزو إما إصلاحية ربّانية وإما عدوانية ومطامع إنسانية 1- ربّانية أو عدوانية. 2- الجهاد المقدس: أ- أهدافه. ب- الدعوة إليه في الرسالات الربانية. جـ- وسائل الجهاد المقدس. د- استخدام وسائل العنف. هـ- الشروط التي يجب توافرها أثناء القتال. و الروح المعنوية العالية لدى حملة رسالة الجهاد المقدس. 3. أهداف محاولات التسلط المادي المرتبط بالدوافع العدوانية. 4- تآزر الغزاة لتحقيق الأهداف المشتركة.

(1) ربانية أو عدوانية

(1) ربانية أو عدوانية تنحصر أهداف امتداد بعض الأمم أو الشعوب إلى بعضٍ مؤدياً ذلك إلى بسط سلطان إحداها على الأخرى في هدفين رئيسين: الهدف الأول: ما تحدده الشرائع الربانية من إعلاء لكلمة الله، وإقامة للحق والعدل، وحكم بما أنزل الله، ووسيلته الجهاد المقدس. الهدف الثاني: ما توسوس به مطامع النفوس وشهواتها وغرائزها وأهواؤها ونزواتها، وألوان عدوانها، ووسيلته الحروب العدوانية المختلفة، المادية والمعنوية، الحارة والباردة. (2) الجهاد المقدس أ- أهدافه: إن الجهاد المقدس يهدف إلى غاية نبيلة مثالية، هي العمل على نشر عقيدة دينية ربانية بين الناس، آمنت بها أمة، ودعاها إيمانها بها إلى أن تسعى في نشرها وتعميمها على الناس، حباً للخير، وغيرة على بني الإنسان، وطاعة لله، وهي أيضاً تمكين المؤمنين بها من إقامة الحق والعدل بين الناس والحكم بينهم بما

أنزل الله والسعي في جلب الخير لهم، على حب ورحمة وإخاء. هذه هي غاية الجهاد المقدس في أصول تعاليم الأديان الربانية كلها، وليست غايته الأساسية طلباً لثراء المؤمنين، أو رغبة بانتصارهم أو غلبتهم، أو سعياً وراء السلطان والعلو في الأرض، إلا أن تكون هذه الأمور وسيلة للغاية الأساسية. وبناء على هذه الغاية الأساسية للجهاد المقدس يغدو المستجيبون الجدد لدعوته مثل المجاهدين الفاتحين، دون أي فروق بين حامل العقيدة الأول وحامل العقيدة الجديد، إلا الفروق التي تقتضيها طبيعة الأمور لدى كل أمة، وهي الفروق التي تعتمد على التفاوت في مقدار الثقة، والكفاءات الذاتية أو العلمية أو المكتسبة بالخبرات والمهارات العملية، ويدل على إقرار اعتبار ذلك قول الله تعالى في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول) : {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فهذا يشعر باعتبار فروق العمل لدى قياس نسب التفاوت بين الأفراد، ويدل عليه بوضوح أيضاً قول الله في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول) : {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} . ويدل عليه أيضاً قول الله تعالى في سورة (الزمر/39 مصحف/59 نزول) : {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} وقوله تعالى في سورة (الزخرف/43 مصحف/63 نزول) : {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً} .

ويدل عليه قول الرسول: "المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير". أما عند الله تعالى فالتفاوت في التكريم يستند إلى مقدار التفاوت في تقوى الله لا غير، وهو المقياس الذي يقاس به الجزاء الرباني يوم القيامة، ويدل عليه قول الله تعالى في سورة (الحجرات/49 مصحف/106 نزول) : {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . فأفضلية التكريم عند الله متناسبة طرداً مع أفضلية نسبة التقوى، ويلزم من ذلك عقلاً أن تتنازل الأفضلية بمقدار تنازل درجات التقوى. والغاية المثالية العظيمة التي هي هدف الجهاد المقدس لا يخدشها ما يلزم عنه من أمور مادية ترافق حركته، دون أن تكون مقصودة في الأصل لرسالته. فقد يفضي الجهاد إلى تحقيق بعض المغانم المادية، وقد يفضي إلى ضرورة بسط سلطان المجاهدين الفاتحين، لإقامة الحق والعدل والدعوة إلى الخير، وفعل الخير وتأمين حرِّيَّة انتشار دين الله، نظراً إلى طبيعة الأحوال الإنسانية التي تقتضيها ظروف الجهاد والفتح من جهة، وظروف عناد أعداء دين الله وصراعهم للحق وكيدهم له من الجهة المضادة، مع إلحاح الدواعي المثالية التي توجب إضعافهم كبحاً لجماح الشر والفتنة. ومع ذلك فإن رسالة الجهاد المقدس تظل في جميع الأحوال رسالة مثالية، لا تهدف في أساسها إلى إرضاء شهوة الحكم عند أمة ضد أخرى، أو كسب مغانم لها، أو تسليط شعب على شعب. ومتى تحول الجهاد عن غايته الربانية إلى الغايات الإنسانية الأخرى، المتصلة بالمطامع المادية أو الغرائز النفسية، أمسى شكلاً من أشكال محاولات سيطرة بعض الشعوب على بعض. ولقد عرف التاريخ منها في بحر الزمن أمواجاً كثيرة مقبلة أو مدبرة، تبعاً لرياح المطامع والشهوات الإنسانية، مع الشعور بالقوة القادرة على التغلب والاستيلاء. وحينما ينحرف الجهاد عن غايته التي حددها الله في رسالاته، يكلُ الله

القائمين به إلى أنفسهم، وإلى إمكاناتهم الإنسانية البحتة، ويحجب عنهم العون والمدد والتأييد، ويقذف في قلوبهم الرعب، ويطرحهم مع حشد الأمواج البشرية التي تتلاطم في حدود إمكاناتها المادية الخالية من القوى المعنوية المؤثرة الغلابة. وكذلك حينما يستثمر المجاهدون الفتح والنصر لغير الغاية التي قام الجهاد المقدس من أجلها، فإن الله يكل الفاتحين إلى أنفسهم، ويرفع عنهم يد التثبيت والمعونة، فتموج بهم الأرض التي فتحوها، وترتج بهم العروش التي اعتلوها، وتأتيهم إنذارات الانهيار، ليصلحوا نياتهم وأعمالهم، فإذا استمروا في الانحراف عن الطريق الذي حدده الله لهم، آذنهم بنقمته، وأنزل بهم عذابه، فدالت دولتهم، وانهارت قوتهم، وظفر بهم عدوّهم. ب- الدعوة إلى الجهاد المقدس في التوراة والإنجيل والقرآن: ولقد ظهرت الدعوة إلى الجهاد المقدس في الأديان الربانية الثلاثة، التي جاء بها موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وكان ظهورها فيها بشكل بارز قوي، يدل على ذلك قول الله تعالى في سورة (التوبة/9 مصحف/113 نزول) : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . أما موسى عليه السلام فقد طلب من بني إسرائيل أن يباشروا هذا الجهاد المقدس ليحقق الله لهم الفتح فرفضوا طلبه، وقالو له كما أخبرنا الله في سورة (المائدة/5 مصحف/112 نزول) : { قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} . فقضى الله عليهم أن يتيهوا في الأرض أربعين سنة، وتوفي موسى

وهارون عليهما السلام دون أن يباشر بنو إسرائيل الجهاد، ثم باشروه في عهد طالوت بشكل إقليمي محدود، ولما فتح الله عليهم وأظفرهم بالملك، وتمتعوا بخيراته، وانتهت موجة الملك النبوي بانتهاء عهدي داود وسليمان، استكانوا وفسدوا، وتحولت غاية الجهاد في نفوسهم من رسالة ربانية إلى غايات مادية وقومية عنصرية بحتة، وأخلدوا إلى الأرض فضرب الله قلوب بعضهم ببعض. وأما عيسى عليه السلام فقد دعا قومه إلى الجهاد، وباشر منه المراحل الأولى، وهي الدعوة اللسانية، ولكن لم تمر عليه فترة من الزمان كافية تمكنه من أن ينتقل من طور جهاد الدعوة إلى طور جهاد النضال والكفاح المسلح، إذ رفعه الله إليه بعد ثلاث سنوات فقط من بدء دعوته. وأما الذين اضطلعوا بأعباء الجهاد المقدس وأعمال الفتح بشكل واسع في التاريخ وعلى ما يجب، فقد حدثنا القرآن منهم عن ذي القرنين، وحدثنا منهم عن جهاد الرسول محمد وعن جهاد الذين معه ممن آمن به وصحبه، وحدثنا التاريخ عن جهاد المسلمين وفتوحاتهم بعد الرسول صلوات الله عليه. لقد أخبرنا القرآن عن ذي القرنين، فقال الله تعالى في سورة (الكهف/18 مصحف/69 نزول) : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا * كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا

حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} فمن خلال هذا النص القرآني يتبين لنا أن ذا القرنين قد قاد جيوش الجهاد المقدس، وقام بأعمال الفتح الديني على نطاق واسع جداً، فقد مكن الله له في الأرض، وآتاه أسباب التمكين والقوة بحسب عصره، فاستعمل هذه الأسباب في نشر دين الله في الأرض، وامتدت فتوحاته حتى بلغ أقصى المعمور من جهة مغرب الشمس، وأدرك القسم الذي يعظم الليل فيه، وتغرب الشمس فيه سريعاً وهي في عين حمئه ووجد هنالك أقواماً فدعاهم إلى الله فعذب من كفر منهم، وأحسن إلى من آمن، ثم توجه شطر مشرق الشمس، حتى بلغ أقصى المعمور من جهة المشرق، وأدرك القسم الذي يعظم فيه النهار، فدعاهم إلى الله، فعذب من كفر منهم، وأحسن إلى من آمن، ثم توجه إلى أمكنة آهلة بالسكان من الشرق، حتى بلغ بين السدين، وأقام حاجزاً بين بعض سكان تلك البلاد وبين قبائل يأجوج ومأجوج الشريرة، ودعا إلى الله ونشر دينه. وأخبرنا القرآن أيضاً عن الجهاد المقدس الذي قام به محمد رسول الله صلوات الله عليه والمسلمون في غزواته، وكان به ظهور الإسلام، وذلك في سور كثيرة ومواطن متعددة. وحدثنا التاريخ عن الجهاد المقدس والفتح المبين الذي قام به المسلمون بعد الرسول محمد في عصورهم الزاهرة الأولى، فأثمر ذلك لهم فتحاً مبيناً، وامتد الإسلام به شرقاً وغرباً، وتحققت للمسلمين بالجهاد المقدس معجزة الفتح التاريخية، إذ التزموا بحدود غايته المثلى، وظل أمر المسلمين كذلك حتى تسرب

إلى نفوسهم مرض الانحراف عن الهدف المثالي الحق، ودخل إلى قلوبهم داء الوهن، والطمع بالدنيا، وحب الشهوات، والتثاقل عن الجهاد في سبيل الله، والإخلاد إلى الأرض، فوكلهم الله إلى نفوسهم، وسلط عليهم عدوَّهم. ولن يستطيع المسلمون أن يرفعوا عن صدورهم ضغط أعدائهم، وأعداء دينهم الكثيرون، ما لم يراجعوا دينهم، ويلتزموا بما يوجبه عليهم، ويجاهدوا في سبيل الله حق جهاده، أما الحروب التي خمل فيها المنتسبون إلى الإسلام شعارات وطنية أو قومية أو غير ذلك مما لا يقره الإسلام، فلم تجن لهم إلا الخيبة والهزائم، لأن الله عزَّ وجلَّ لم يمدهم فيها بعونه وتأييده، وتركهم فيها لوسائلهم، وهي وسائل أضعف من وسائل أعدائهم. جـ- وسائل الجهاد المقدس: نظرة إجمالية عامة إلى وسائل الجهاد المقدس تكشف أنها ذات نسق مثالي رائع. فهي تبدأ أولاً بمجاهدة النفس، ثم تثني بمجاهدة الآخرين، ومجاهدة الآخرين تبدأ بوسائل الدعوة المختلفة التي تتدرج من الأخف إلى الخفيف، فإلى الشديد فالأشد، وتراعي في كل ذلك أحوالهم النفسية والاجتماعية، ومكاناتهم ومنازلهم في أقوامهم، وتنتهي هذه الوسائل في آخر الأمر بالقيام بأعمال القتال، وفق الدواعي الذي تقتضيه، من دفاع، أو كسر أسوار تحجب عن الشعوب نفوذ أنوار الحق والهداية إليها. وابتغاء مرضاة الله، وإعلاء كلمته في الأرض، وإقامة الحق والعدل بين الناس، والحكم بما أنزل الله، هي الغايات المثلى من الجهاد المقدس في قلوب المؤمنين الصادقين. أما جاهد النفس فيكون بمقاومة جهلها وانحرافاتها الفكرية والاعتقادية بالعلم والمعرفة الحقة، وبمقاومة شهواتها الجامحة وأخلاقها الجانحة بوسائل التربية الفضلى والسلوك الأقوم. كمقاومة الطمع فيها بالقناعة، وتحويل أطماعها إلى ما عند الله من أجر عظيم لأهل طاعته. وكمقاومة الحسد فيها بالرضى عن قسمة الله، والاعتقاد بأن العطاء والمنع بيده، وأنه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر، وأن كلاً من عطائه ومنعه لا بد أن يكون لحكمة يعلمها، وقد

يكون كل منهما خيراً للإنسان متى رافقه طاعة الله ورضوانه. وكمقاومة الشهوات الملحلة بالصبر، وإطماع النفس بما عند الله من أجر، وتغذيتها بما أحل الله والكف عما حرم. وكمقاومة الجبن والشح فيها وبوسائل الإقناع والترغيب التي تغذيها بأن الآجال والأرزاق محتومة، وتفتح أمامها أبواب الأمل والرجاء بما أعد الله لباذلي أرواحهم وأموالهم في سبيله من أجر عظيم وثواب جزيل، وباستثارة كوامن الإيمان في القلب، حتى تندفع النفس إلى مرضاة الله مشحونة العاطفة بقوة الإيمان، ومهدية السبيل بنور الإيمان. وهكذا، وقد كان الصدر الأول من المسلمين يسمون جهاد النفس الجهاد الأكبر، فإذا قفلوا من معركة من معارك القتال مع عدوهم قالوا: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، أي: إلى مجاهدة نفوسهم. وأما جهاد الآخرين فله وسائل شتى، يرتقي المجاهد فيها على سلم متعدد الدرجات، وليس كل مخالف عدوّاً ما لم يمارس عداوته بشكل عملي، والمخالفون في نظر حملة لواء الجهاد المقدس جاهلون ومرضى، والرسالة الخيرة التي يحملها العلماء الأصحاء إنما هي تعليم الجاهلين، وتطبيب المرضى، ومساعدتهم، والرفق بهم، والأخذ بأيديهم في طرق الصحة والسلامة الفكرية والقلبية والنفسية. لذلك تعين على هؤلاء المجاهدين أن يبدأوا من أول درجة من درجات سلّم الجهاد، وهي درجة الدعوة إلى الله على بصيرة، ضمن الأساليب الحكيمة. ووسائل الدعوة هي كل ما أن يوصل فكرة الحق وتطبيقاته إلى عقول المعارضين ونفوسهم وأعمالهم. أ- فتكون بالدعوة الحكيمة باللسان، ويقتدي المجاهد في ذلك بجهاد الدعوة الذي قام به الرسول صلوات الله عليه، وقامت به النخبة ال ممتازة من أصحابه وتابعيهم بإحسان، وتتضمن الدعوة الحكيمة باللسان، الإقناع بالحديث الخاص، والإقناع بالخطابة العامة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ويدل على ذلك قول الله تعالى في سورة (النحل/16 مصحف/70 نزول) :

{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ....} . ويمكن أن يكون المراد من الحكمة وسائل الإقناع بالعلم والحجج المنطقية البرهانية، وأن يكون المراد من الموعظة الحسنة وسائل التأثير الخطابي بالترغيب والترهيب، أما الجدال فهو صراع الأدلة والحجج وفق أصول المناظرة السليمة من المماراة والمغالطات. ب- وتكون أيضاً بالدعوة عن طريق الكتابة والنشر، في نثر الكلام أو شعره، بتأليف المؤلفات، وكتابة المقالات، ونظم القصائد والدواوين، وإعداد البيانات، وتوزيع المطبوعات، والعمل على نشر الجيد النافع منها، إلى غير ذلك من كل مكتوب نافع يدخل إلى النفوس عن طريق الإقناع الفكري، أو لتأثير الوجداني. جـ- وتكون أيضاً بالدعوة العاملة الصامتة، عن طريق الأسوة الحسنة، وذلك بأن يكون الداعي في نفسه قدوة حسنة محببة، يؤثر بلسان حاله العلمي التطبيقي، فيقتدي به الآخرون اعتقاداً وسلوكاً، قولاً وعملاً. د- وتكون أيضاً بالتربية والتعليم، والبدء بهذه الوسيلة ينبغي أن يكون منذ المراحل الأولى للطفولة، لأنها حينئذٍ تكون أنفذ إلى أعماق النفس وأكثر تأثيراً وأبقى مع الزمن. هـ- وتكون أيضاً ببذل عرض الحياة الدنيا من مالٍ أو متاع، أو ببذل الخدمات والمعونات، لتأليف القلوب على الخير، وجلبها إلى تقبل الهداية، فللمعونات والصلات المادية والمعنوية آثارها في السيطرة على القلوب واستمالة النفوس، وإزاحة العقبات منها، وما أكثر ما كان رسول الله يبذل من ذلك لتأليف القلوب، إضافة إلى كون حب العطاء خلقاً أصيلاً فيه صلوات الله عليه. وبالجملة: فعلى الداعي المجاهد أن يتدرج في وسائل الدعوة، وأن ينزل الناس منازلهم، وأن يقتدي بأساليب الدعوة التي قام بها أنبياء الله ورسله.

د- استخدام وسائل العنف في الجهاد المقدس: إذا لم تجد لدى القيام برسالة الجهاد المقدس الوسائل الهينة اللينة البيانية والتربوية والترغيبية المختلفة، دعت الضرورة إلى اللجوء إلى وسائل أخرى تترقى فيها أساليب العنف شيئاً فشيئاً، مع ضبط النفس وعدم اتباع الهوى، والرغبة بالانتصار لله فقط، دون تدخل عوامل نفسية أخرى. فمن هذه الوسائل استخدام القوة، ويكون ذلك بتسخير قوة السلطان المعنوية ثم المادية لهداية الناس إلى الخير، وإلزام المنتسبين إلى الإسلام أو الخاضعين له بتطبيق أحكامه، ولاستخدام قوة السلطان وجوه تطبيقية كثيرة جداً: منها إصدار القرارات والتنظيمات، وتوجيه الأوامر المكتوبة، وترتيب الجزاءات المعنوية والمادية، واعتبار الالتزامات الدينية جزءاً من الكفاءات التي تدخل في شروط التوظيف والترقيات، واعتبار عدم الالتزام بها إخلالاً بالوجبات المسلكية التي تستدعي الإنذار ثم المعاقبة، ومنها تنفيذ الأحكام الشرعية على الجناة والمجرمين، إلى غير ذلك من وسائل كثيرة. وقد يغدو فريق من مخالفي الإسلام أعداءٌ متربصين أو محاربين، لذلك يجد حملة الجهاد المقدس أنفسهم أمام أمرٍ لازب، إنهم دعاة هداة، ولكن فرض عليهم المخالفون المعادون أن يتخذوهم أعداءً. لذلك كان لا بد لحملة لواء الجهاد المقدس من اتخاذ وسائل الدفاع الكافية، والمبادهة في بعض الأحيان قبل المباغتة، مع التزام شروط رسالتهم الربانية التي يضطلعون بمهماتها، ويكون ذلك بأمرين: الأمر الأول: إعداد المستطاع من القوة، والاجتهاد في إعدادها حتى تربو على قوة العدو، من مالٍ وسلاحٍ ورجالٍ وخبراتٍ وغير ذلك. قال الله تعالى في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول) : {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} .

الأمر الثاني: القتال لإعلاء كلمة الله، وتكون هذه الوسيلة في آخر الأمر، حينما لا تجدي كل الوسائل الأخرى من دونه، وحينما يصبح حملة لواء الجهاد المقدس تحت الخطر الهاجم من قبل عدوّهم. وإذا ألجأت الضرورة إلى سلوك سبيل القتال فإن القتال يستدعي الجود بالنفس، والجود بالنفس أقصى غاية الجود. ولذلك كان لمن يجود بنفسه في هذا السبيل حظ الشهادة في سبيل الله، وكان للمقاتل في هذ السبيل من الضمان الإلهي أن يدخله الله الجنة، وأن ينال ما لا يوصف من أجره عنده. ولكن للقتال في سبيل الله ركناً أساسياً لا بد منه، وهو أن يكون في سبيل الله، ويعني هذا الركن العام في دلالته ما يشمل تحديد الباعث له على الخروج إلى القتال، والمطلب الذي يسعى إلى تحقيقه في الدنيا، والغاية القصوى التي يرجوها عند الله. وذلك لأن الضمان الذي ضمنه الله للمجاهدين، إنما هو لمن خرج مجاهداً في سبيله لا يخرجه أي دافع دنيوي، وإنما يخرجه أمور ثلاثة: أولها: باعث أسمى في نفسه يحركه إلى الخروج مجاهداً، ألا وهو باعث الإيمان بالله، والتصديق برسله. أما من خرج للقتال في سبيل ضلالات شيطانية إلحادية، أو في سبيل وثنيات مادية، فإنه يعرض نفسه إلى تهلكتين، تهلكة الموت أو القرح في الدنيا، وتهلكة العذاب الأليم في الآخرة. ثانيها: مطلب يسعى إلى تحقيقه في الدنيا إذ يقذفه بنفسه إلى معترك الموت بإذن الله وطاعته فيقتل أو يقتل، ألا وهو نشر دين الله وإعلاء كلمته، وقد أوضح هذا الأمر الحديث الذي رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، (أنَّ النبي سئل فقيل له: يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل ليذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه والرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل غضباً فمن في سبيل الله؟ فقال رسول الله: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله") .

ثالثها: غاية قصوى يرجوها عند الله، ألا وهي نيل رضوانه، وبلوغ جنته، والظفر بما أعد الله من أجر عظيم للمجاهدين المقاتلين في سبيله وأما الظفر في الدنيا فهو أمرٌ إن قضاه الله فتلك حُسنى عاجلة أكرم الله بها المؤمنين المجاهدين في سبيله، وإن لم يقضه الله فقد حقق المؤمنون غايتهم القصوى، وهي نيل رضوان الله وجنته، والأجر العظيم الذي أعده، ولذلك خاطب الله المؤمنين بقوله تعالى في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول) : {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} . وهكذا تنحصر دوافع الجهاد المقدس: بالباعث الأسمى وهو الإيمان بالله والتصديق برسله، وبالمطلب العاجل وهو العمل على نشر دين الله وإعلاء كلمته، وبالغاية القصوى وهي ابتغاء رضوان الله ونيل ثوابه الذي أعده للمحسنين، وهذه الدوافع هي على النقيض من دوافع العدوان الذي يقوم به أعداء دين الله. هـ- الشروط التي يجب توافرها أثناء القتال في جهاد مقدس: حينما تلجئ الضرورة حملة رسالة الجهاد المقدّس أن يقفوا موقف القتال في مواجهة من ناصبوهم العداوة، وكادوهم وكادوا دينهم، فإن للقتال شروطاً تلزمهم بها رسالة الجهاد نفسُها. فبعد تحديد الغاية من القتال، وإعداد العدّة له، والتصميم على مباشرته - ابتغاء نشر الدين، ودفعاً لعدوان المعتدين - يجب على المقاتلين في سبيل الله أن يتقيدوا بالمنهج التطبيقي الذي شرعه الله في القتال، وأن يلتزموا جميع الشروط التي أمر الله بها فيه، وأن ينتهوا عما نهى الله عنه. ونستطيع أن نجمل الشروط التي يجب توافرها اقتباساً من الآيات القرآنية في القتال، وذلك فيما يلي: الشرط الأول: وحدة الغاية، وذلك بأن تكون غاية المقاتلين واحدة، وهي ابتغاء مرضاة الله، بالعمل لنشر دينه وإعلاء كلمته، والحكم بما أنزل

لعباده، ودليل هذا الشرط من القرآن قول الله تعالى في سورة (التوبة/9 مصحف/113 نزول) : {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . وقوله تعالى في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول) : {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} الشرط الثاني: وحدة صف المقاتلين وتماسك جماعتهم، وذلك لأن تفرق صفوف المقاتلين دون خطة موحدة جامعة مبدد للقوى، موهن للعزائم، ممكن للعدو من أن يظفر بكل قسم على حدة، ودليل هذا الشرط من القرآن قول الله تعالى في سورة (الصف/61 مصحف/109 نزول) : {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} . الشرط الثالث: الاعتماد على الله في تحقيق النصر، وعدم الاغترار بالنفس، وهذا الشرط مهم جداً لإحراز النصر، لأن الاعتماد على الله مع ملاحظة أوامره بوجوب بذل قصارى الجهد لنيل تأييده ونصره من شأنه أن يضاعف القوة، ويزيد من إمكانات القتال، عند حملة رسالة الجهاد. أما الاغترار بالنفس فإنه يفضي إلى الاستهانة بقوة العدو، ومع الاستهانة يحصل التهاون والتباطؤ والتواكل، وهذه من أبرز عوامل الخذلان ومسبباته. ودليل هذا الشرط من القرآن قول الله تعالى في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول) : {وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم} . وقوله تعالى في سورة (التوبة/9 مصحف/113 نزول) : {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} .

الشرط الرابع: شدة البأس في القتال، وذلك لأن شدة البأس تجعل قلوب الأعداء فريسة الخوف، ومتى وجد الخوف سبيله إلى القلوب انهارت قوى الهجوم، ثم تنهار من ورائها قوى المقاومة ويفضل المقاتل حينئذ الفرار أو الاستسلام، ودليل هذا الشرط من القرآن قول الله تعالى في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول) : {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} . فقوله تعالى: "فشرد بهم من خلفهم" يدل على الإلزام بإيقاع البأس الشديد في العدو المقاتل حتى تنخلع قلوب الذين من خلفهم ذعراً، فيشردوا ويفروا من وجوه المقاتلين من المسلمين، طلباً للسلامة، وإيثاراً للعافية، ومخافة أن يقع بهم مثل هذا البلاء العظيم. الشرط الخامس: الثبات والمصابرة وعدم تولية الأدبار، مع الاعتصام بالإكثار من ذكر الله تعالى، وذلك لأ، من طبيعة الثبات والمصابرة أن تفل حد العدو المقاتل، وتسقيه كؤوس اليأس من الظفر، وبذلك تنهار قوته، ويساعد على الثبات والمصابرة الاشتغال بذكر الله والأمل بمدده المادي والمعنوي، ويدل على هذا الشرط من القرآن قول الله تعالى في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول) : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . وقوله تعالى في سورة (الأنفال) أيضاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . الشرط السادس: طاعة القيادة، وعدمُ التنازع في الأمر، ذلك لأن فقد الطاعة يجعل القيادة غير قادرة على استعمال القوى في مواجهة العدو، فتجمد القوى أو تتصارع فيما بينها، أو تستعمل في غير صالح المعركة، وذلك من

أسباب الفشل الكبرى، كما أن التنازع في الأمر باختلاف وجهات النظر في القتال يؤدي إلى هذه النتائج نفسها التي تسبب الفشل، وليس من شأن حملة رسالة الجهاد المقدس العصيان والتنازع، ودليل هذا الشرط من القرآن قول الله تعالى في سورة (الأنفال) أيضاً: { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} . وقوله تعالى في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول) : {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} . وبتحقيق هذه الشروط في القتال مع شرط إعداد المستطاع من القوة الكافية السابق له، ومع تحديد الهدف منه كما أمر الله، يستطيع حملة رسالة الجهاد المقدس أن يظفروا دائماً بالنصر على أعداء الإسلام. و الروح المعنوية العالية لدى حملة رسالة الجهاد المقدس: حينما تلجئ الضرورة حملة رسالة الجهاد المقدس أن يقفوا موقف المقاتلين في مواجهة أعدائهم وأعداء دينهم فإن الروح المعنوية سترتفع في قلوبهم ارتفاعاً عالياً جداً. وذلك لأنهم يتلمسون في أنفسهم أن الباعث لهم على القتال أنبل غاية تقصد، ويجدون أنفسهم مندفعين إلى التقيد بشروط القتال التي حددها الله لهم، وأمرهم بالتزامها، ويشعرون بأن شوقاً يقذف بهم إلى الظفر بما وعدهم الله، إما النصر وإما الشهادة وجنّة الخلد. وما من جيش استجمع كل ذلك إلا نزع الجبن من قلوب أفراده، فلم يخشوا الموت، وأقبلوا على القتال وهم شديدو البأس، ثابتو الأقدام، وعندئذ يجد هذا الجيش معونة الله المعنوية والمادية مصاحبه له مهما كر أو فر في مساجلات القتال.

ومن المستبعد جداً أن يصاب في وقت من أوقاته بالضعف أو التخاذل والوهن، ما دام مستجمعاً لما سبق بيانه، وذلك لأنه على يقين بأن وعد الله بالنصر للصادقين معه، والمخلصين له، لا بد محقق، فهو شديد الثقة بذلك، كيف لا وهو فيما يقوم به إنما يقاتل عدو الله وعدو دينه، وعدو رسالة الخير التي أمر الله بها عباده، وهو يعتقد أنه يقاتل بإذن الله وأمره، مؤيداً بعون الله وقهره، موعوداً بأجر الله ونصره. من أجل كل ذلك ترتفع قوة المقاتلين في سبيل الله بنسبة ما في قلوبهم من إيمان وصبر، وصدق مع الله، حتى يكون الواحد كفؤاً للعشرة من العدو في الحد الأعلى، وكفؤاً لاثنين من العدو في الحد الأدنى. ويدلّ على ذلك قول الله تعالى في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول) : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ *) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} . وكذلك تكون قوة المؤمنين الصابرين بخلاف الذين يخرجون بطراً ورئاء الناس ويقاتلون حميةً وعصبية، أو يقاتلون للفخر والعلو في الأرض بغير الحق أو يقاتلون ليثني عليهم بين الناس بالشجاعة أو بغية الوصول إلى مال أو الحصول على شهوات ولذات أو الوصول إلى مجد دنيوي لا يهدف إلى غاية من غايات الجهاد المقدس، أو يقاتلون في سبيل فرد أو جماعة من الناس أو غير ذلك من أمور لا تعادل غايتها بذل الروح في سبيلها، فإن هؤلاء إن يخرجوا إلى القتال فما أسرع ما يدب الذعر إلى قلوبهم، ويصيبهم الخوف والهلع، ثم إنهم في أغلب أحوالهم متى وجدوا لأنفسهم منفذاً للفرار من المعركة أخذوا سبيلهم إليه، إلا أن يغلب على ظنهم أ، هم بقوتهم المادية منتصرون، وأن عدوهم ضعيف أو جبان، أو أن يقوم في أنفسهم أنهم قد أمسوا ملزمين بالقتال وإلا قتلوا وأبيدوا. ومن أجل ذلك نلاحظ أن الجيوش

التي لا تحمل رسالة جهاد مقدس تعاني أكبر ما تعاني مما يمسى عند العسكريين بفقد الروح المعنوية، وتحاول قياداتها رفع هذه القوة بوسائل مختلفة دعائية ونفسية ومادية، ومن الوسائل المادية ما يتم به سلب الشعور العاقل عند الجندي المقاتل، عن طريق المسكرات، ولكن كل وسائلهم لا تحقق بعض النتائج التي يحققها الإيمان. أما الجيوش التي تحمل رسالة الجهاد المقدس بصدق فإنها قلما تصاب بفقد الروح المعنوية، ولو لم يتحقق لها الظفر المادي على العدو، لأن كل مقاتل فيها يعتقد أنه قد ظفر بما يقاتل من أجله، وهو بلوغ رضوان الله، واستحقاق الأجر عنده، وأنه يقاتل لغاية هو يرجوها ويطلبها، ولم يفرض عليه القتال لمصلحة غيره من الناس. أما النصر المادي فيعتقد أنه بيد الله يؤتيه من يشاء لحكمة يعلمها، وحكمة الله غير متهمة في قلوب المؤمنين. وقد لاحظ أعداء الإسلام هذه العقيدة القوية الراسخة التي تجعل جيوش حملة رسالة الجهاد المقدس كأنها الجبال الراسيات قوة وثباتاً، وامتحنوها بشكل عملي خلال قرون، فوقفوا أمامها وقد مستهم صدمة عنيفة من الذعر والدهش والحيرة، ثم لم يجدوا سبيلاً لتفتي هذه القوة الهائلة إلا بأن يأتوا إلى جيوش رسالة الجهاد المقدس فيفرغوها من سر قوتها الحقيقية، ويضعوا مكانها قوة خلبية باردة، ثم يوجهوا عليها ضرباتهم القاصمة، ورأوا أنه لن يتم لهم الظفر عليها إلا بذلك، وكذلك فعلوا فوجهوا جهودهم لإزالة قوة الإيمان بالله وتهديم البواعث على الجهاد المقدس، وأتبعوا ذلك بإلغاء شروط القتال في سبيل الله، ووضعوا مكان كل ذلك قوى صورية تعطي صوتاً عظيماً مدوياً، ولكنها لا تحدث إلا أثراً يسيراً، وقد لا تحدث أي أثر إلا أثراً ضد حاملها، ووضعوا مكان الشروط الربانية شروطاً أخرى، فأحلوا محل الاعتماد على الله الاعتماد على إمدادات الدول الطامعة ذات المصالح الشخصية، والاغترار بالنفس، وأحلوا محل ذكر الله عبارات قومية وعنصرية، وأغانٍ مشحونة بتبجحات حقيرة وحميات جاهلية وبردوا حرارة الاندفاع الحقيقي إلى القتال، ففقدت

(3) أهداف محاولات التسلط المادي المرتبط بالدوافع العدوانية

الجيوش المسلمة بذلك عناصر قوتها الحقيقية، فكيف يتم لها الظفر بعد ذلك على عدوها؟! (3) أهداف محاولات التسلط المادي المرتبط بالدوافع العدوانية سجل تاريخ الإنسان القديم والحديث أنواعاً من التسلط المادي المرتبط بالدوافع والغرائز الفردية لذوي سلطان الأرض، أو الدوافع والغرائز الجماعية لأمم وشعوب، وكان منها أمثلة مفرطة في الهمجية، وأمثلة دون ذلك، وكان منها أمثلة مقنعة بأثواب نفاق مزورة، تدعي الرقي والتهذيب، وهذه أكثرها مكراً وأبعدها غوراً وأطولها مدة استقرار في البلد المغلوب على أمره. وأهداف هذه الأنواع من التسلط لا تعدو أن تكون أهدافاً توسوس بها مطامع النفوس وشهواتها وغرائزها ونزواتها وأهوائها وأحقادها. وقد تتحكم هذه الوساوس بإرادة صاحب سلطان قوي أو تتحكم بإرادة بطانته المسيرة لأمره، فيلتفت صاحب السلطان يمنة ويسرة، فيجد قوة كبيرة من حوله رهن إشارته وطوع أمره، ويرى أنها قادرة على تحقيق مطامعه في التسلط، فيسخرها في ذلك. وقد تتوسع حلقة هذه الوساوس فتكون في أمة بأسرها ضد أمة أخرى، أو في شعب ضد شعب آخر، أو في قبيلة ضد قبيلة، وحيثما ترى هذه الحلقة الموسعة أن لديها من القوة ما يمكنها من التسلط على ما تطمع به، تتحرك في محاولة التسلط، وتسخر قواها المادية في سبيل تحقيق مطامعها الأنانية. وقد تتوسع حلقة هذه الوساوس توسعاً ثانياً فتكون في مجموعة أمم أو شعوب تشعر فيما بينها بجامعة ما تجمعها، ضد مجموعة أخرى من الناس، تتسع حيناً وتضيق حيناً آخر بحسب مقتضيات الظروف المواتية للقيام بأعمال التسلط. ولا تعدو أنواع التسلط الذي يراد منه تحقيق الأهداف التي توسوس بها

دوافع النفوس الأنانية، أن تكون أنواع تسلط همجي مدنس بالقذارات الفكرية والنفسية والتطبيقية، مهما تفاوتت الصور التطبيقية فيما بينها، في القدرة على إخفاء همجيتها أو عدم القدرة على ذلك. إنها على اختلاف صورها مظاهر للرغبة النفسية بالعدوان على حقوق الآخرين، ولكن بعض هذه المظاهر ذكي ماكر متمدن، وبعضها بدائي همجي جاهل، وفي باطن كلٍ من المظهرين تقبع نفسية ذئب مجرم نهم إلى الافتراس، إلا أن الخطة التنفيذية في القسم الأول خطة ثعلب والحركة حركة إنسان، أما القسم الثاني فخطته وحركاته وحشية بشعة في صورة جسدٍ إنساني، وبين المرتبتين الذكية المتمدنة والبدائية الهمجية مراتب متعددة، تختلف فيما بينها بحسب قربها أو بعدها عن مظاهر التمدن أو مظاهر الهمجية. ونضرب مثلاً للعدوان الذكي الماكر المتمدن بالطبيب المجرم الذي طمع بالمال الوفير، فاتفق مع زوجة الرجل الثري على قتله في صورة طبية خفية، لا تنتبه إليها يد العدالة، مقابل عداءٍ مغر تدفعه إليه، إذ هيأ لها فرصة وراثة زوجها الثري، والتخلص منه لتتزوج بآخر تهواه. وأما مثل العدوان الهمجي فيكون بأن تتفق هذه الزوجة مع نفر من متوحشي الغابات على قتل زوجها بالصورة التي اعتادها في صيد الوحوش والحشرات، وهذه الصورة بعيدة طبعاً عن كل مظهر من مظاهر القتل المتمدن. فالباعث في كلٍ من الصورتين واحد والغاية واحدة ونسبة العدوان والظلم في كل منهما واحدة أيضاً والجريمة في كلٍ منهما هي الجريمة نفسها إلا أن الصورة الأولى قد كانت صورة ذكية ماكرة متمدنة أما الصورة الثانية فقد كانت صورة بدائية همجية متوحشة تنفر منها طبائع المتمدنين. واختلاف الصورة في فلسفة الجريمة لا يؤدي إلى الحكم بأن إحداهما أخف من الأخرى في نسبة الجريمة، نظراً إلى أن البواعث النفسية، والغاية التي هي الحصول على المال الحرام، والطريق إلى ذلك وهو العدوان بالقتل كلها واحدة، ولم يختلف بين الصورتين إلا شكل القتل فقط، إذ تم أحد الشكلين بالوسيلة التي استطاع أن يتوصل إليها الطبيب المثقف بالثقافة المتمدنة الراقية،

بينما تم الشكل الآخر بالوسيلة التي وقفت عندها معارف الهمجي المتوحش، البعيد عن المعارف المدنية وأساليبها. وهكذا تكون أنواع التسلط المادي الذي تدفع إليه أهواء النفوس وأحقادها ومطامعها وغرائزها وشهواتها، ونشاهد من أمثلتها في العالم الحديث تحركات جيوش أجنحة المكر الثلاثة، وشر ما في هذا التسلط أن يوجه ضد حملة رسالة الخير والهداية للإنسانية جمعاء، وأن يعلن عداءه للإسلام، حيثما نبتت له غرسة، أو ظهرت له دعوة. وباستطاعتنا أن نكشف الغطاء عن طائفة من البواعث النفسية الأنانية، التي تدفع مجرمي التسلط المادي المدنس بالمطامع والشهوات والأهواء والغرائز والنزوات والأحقاد السود، إلى العدوان على غيرهم من الأمم والشعوب. فلدى البحث النظري والبحث التاريخي يتبين لنا عدد من هذه البواعث، ونذكر منها البواعث التالية: 1- الباعث الأول: الرغبة بإشباع الشهوة إلى الحكم والسلطان، وحب الاستيلاء على كل شيء، وهذه نزعة ربوبية تتحكم ببعض النفوس البشرية. 2- الباعث الثاني: الرغبة بابتزاز الأموال، والاستيلاء على مصادر الثروات إما حباً بالمال وافتتاناً به واستزادةً منه، وإما لتسخيره في تنمية القوة أو تحقيق مطالب الأنفس وشهواتها. 3- الباعث الثالث: الرغبة باحتلال أرض ذات مناخ أجود أو طبيعة أجمل من أرض الطامع بالتسلط، طلباً للمتعة، أو حباً بالتفاخر والتكاثر بين الناس. أو الرغبة باحتلال أرضٍ ذات مركز له أهمية تجارية أو سياسية أو عسكرية أو دينية في العالم. 4- الباعث الرابع: الرغبة بتسخير الشعب المطموع به في الأعمال المدنية الزراعية أو الصناعية أو العمرانية أو غيرها، أو تسخيره في الأعمال العسكرية وذلك بتجنيد مقاتليه لقتال أعداء قوة التسلط، واستخدامهم

في الأغراض التي تقوم بها جيوش هذه القوة. 5- الباعث الخامس: الرغبة بالتوسع في الأرض للاستيطان أو الاستغلال، ولا تتحقق هذه الرغبة إلا بمزاحمة السكان الأصليين، أو بطردهم من أرضهم، أو بإبادتهم وإفنائهم. 6- الباعث السادس: التنفيس عن كراهة موروثة وأحقاد قديمة، والرغبة بالانتقام من أمة من الأمم، أو دين من الأديان، أو مذهب من المذاهب الفكرية والاجتماعية، التي كان لها نفوذ ما عليهم أو على أسلافهم في حقبة من الزمن ويكون هذا التنفيس ضد العقائد والمذاهب بمحاولات هدم العقائد والمذاهب الصالحة، ونشر الأفكار الفاسدة الضارة، وإحلالها محلها. 7- الباعث السابع: الرغبة بإرضاء نوازع الحسد الذي يأكل قلوب طائفة من مجرمي التسلط، ولا تتحقق هذه الرغبة إلا بسلب كل أسباب النعمة التي يتمتع بها المحسودون، وذلك عن طريق استخدام القوة وبسط السلطان، أو عن طريق المداهمة بالغارات العدوانية وإتلاف أسباب النعمة التي أثارت داء الحسد في نفوس الباغين. 8- الباعث الثامن: خوف صاحب السلطان على سلطانه من القوة التي يتمتع بها قادته وضباطه وجنوده، فيحاول أن يتخلص منهم بتوجيه طاقاتهم الحربية لقتال شعوب غير خاضعة لسلطانه، ويغريهم باستباحة أموالهم ونسائهم وذراريهم إذا ظفروا بهم وغرضه من ذلك شغلهم أو صرفهم عن التفكير بإزاحته واحتلال مركزه وتدبير المؤامرات ضده. 9- بواعث متفرقة: وتوجد بواعث أخرى متفرقة، لا قيمة لها بذاتها عند الناس، إلا أن بعض ظروف الاحتكاك والتنافس المصحوب برعونات فكرية ونفسية جاهلية، قد تولدت مضاعفات غضبيّة وحميّات وعصبيات تؤدي إلى العدوان فالتسلط. وقد تتذرع بعض هذه البواعث بذرائع التفوق العرقي أو الحق الإلهي، كمطامع هتلر وموسوليني، وكمطامع اليهود الذين

يخططون لحكم العالم، زاعمين أنهم شعب الله المختار. 10- اجتماع عدة بواعث للعدوان: فقد تجتمع عدة بواعث للقيام بعدوان أمة على أمة وظاهرٌ أن أي باعث من هذه البواعث لا يعتبر مشرفاً في مستوى المجد الإنساني، والقيم الأخلاقية الكريمة، لأي متحرك به، ولذلك نلاحظ أن معظم الذين يتحركون بواحد أو أكثر منها لقتال الأمم والشعوب عدواناً وظلماً - بغية التسلط عليها، للانتقام منها، أو للظفر بما لديها من نعم وخيرات مادية أو معنوية - لا يُعربون عن بواعثهم الحقيقية، وإنما يجعلون فوقها أقنعة مزوّرة، ويسوقون دونها المبررات الكثيرة الكاذبة، لتغطية الأهداف الحقيقية لتحركاتهم، وقد يفتعلون مثيرات الغضب لتأتي تحركاتهم العدوانية في لباس المؤدب، أو في لباس المنتقم. ومن المبررات التي اصطنعتها الدوائر الاستعمارية لصور الاستيلاء الذي فرضته على أمم وشعوب كثيرة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، مزاعمُ التمدين والتحضير والتعليم والمساعدات الصحية والاجتماعية، والحقيقة أن معظم هذه المزاعم لم تكن إلا ستائر فقط، والغرض منها خداع الرأي العام العالمي، وتخدير الشعوب التي ستدفع ضريبة استكانتها وذلّها، من أموالها ورجالها ودمائها وذراريها ومبادئها وعقائدها وأخلاقها. وقد كانت هذه المبررات ضرورية لها، وذلك لإحكام خطتها في الاستيلاء والتسلط، ولولا ذلك لظلت الشعوب في حالة صراع مستمر لقوى الاحتلال الأجنبي لأرضها، الأمر الذي يجعل قوى الاحتلال في حالة قلق دائم، واضطراب مستمر، ثم لا يمكنها ذلك من تحقيق رغباتها، لأن رغباتها المادية أو المعنوية لا يمكن تحقيقها إلا في جوٍ من الاستقرار والطمأنينة، يضاف إلى ذلك الأعباء المتتابعة التي ستثقل كاهلها من جراء حركات التحرير الوطني، واضطرار السلطة المستولية لإخماد نيرانها المتأججة. وهكذا تظل صور التسلط المادي المدنس بالمطامع والشهوات والغرائز والأحقاد والنزوات بين باعث عدواني يحرضها، وغلالة مزورة خادعة تسترها

أو لا تسترها، وجرائم عدوانية وحشية ترافقها، وقد اكتوى العالم الإسلامي وما زال يكتوي بنيران قوى التسلط عليه، المباشر أو غير المباشر،من المعسكرين الغربي والشرقي، ضمن البواعث الشخصية الأنانية التي سبق ذكرها بشكل مجمل، وفيما يلي شرح هذه البواعث: 1- الرغبة بإشباع الشهوة إلى الحكم والسلطان: وقد تكون الشهوة إلى الحكم والسلطان غريزة في معظم النفوس الإنسانية، ومن الثابت أنها لدى بعض القياديين نامية جداً وموجهة لمعظم أعمالهم، وهذه الغريزة من أقوى الغرائز ذات الأثر التاريخي العام، بما فيها من جموح وطموح لا يحققان وجودهما إلا بإخضاع الآخرين، والتغلب عليهم في ميادين الصراع والسبق والتنافس، إلا أن لها ما يكبح جماحها، ويقيدها بقيود خلقية كريمة، كما أن لها صوارف تصرفها وتحولها إلى ميادين تنافس لا مزاحمة فيها، لأنها تتسع لكل متسابق كريم طالب للمجد. لكنها حينما تترك دون قيد يقيدها أو صارف يصرفها فإنها ربما تغدو أخطر باعث مدمر للكون، مهلك للحرث والنسل، موصل إلى ادعاء الربوبية، إذا تهيأت لها الأسباب المساعدة على ذلك. وأعظم القيود التي تكبح جماحها قيود الإيمان بالله، ومخافة عقابه وانتقامه، ورجاء فضله وإنعامه، أما الصوارف التي تصرفها فيأتي في مقدمتها توقع مسؤوليتها الكبرى، التي تُلقى على صاحب السلطان، وملاحظة أعبائها الجسام التي ينوء بحملها أفذاذ الرجال، والزهدُ بما في السلطان من منافع ذاتية دنيوية، أو جاهٍ عريض، أمام عظم المسؤولية، وثقل الأعباء، وبذلك فقد تضطر الأمة إلى أن تدفع الصالحين للحكم إلى سدته دفعاً، دون أن يكونوا شرهين له، جامحين إليه، يقاتلون الناس جميعاً - لو استطاعوا - من أجل اعتلاء سدته. ولهذه الصوارف الدينية قوة على نقل ما في النفوس من طمع بمظاهر الحكم والسلطان، إلى الطمع بالتزود من المعارف والتسابق فيها، أو الطمع

بابتغاء مرضاة الله عن طريق التنافس في فعل الخير، أو الطمع بالجهاد في سبيل الله لهداية الجاهلين وإرشاد الضالين، والنكاية بأعداء الحق والخير والهدى، الجاحدين المعاندين، الذين يكيدون دين الله كيداً شديداً، ويصدون الناس عنه، ويقاتلون المؤمنين به، ويريدون إطفاء نور الله بأفواههم. وهكذا تستطيع الصوارف الدينية إجراء التحويلات النفسية لشهوات الحكم النانية، وبهذه التحويلات تجعل طاقات العمل المختلفة تتوجه لتحقيق سعادة الناس، بعد أن ك انت موجهة توجيهاً أنانياً ينجم عنه شرور كثيرة، وعدوان وظلم، وآلام جسيمة للمجتمع البشري. ولن تتمّ هذه التربية التحويلية بصورة فضلى إلا في ظل تربية دينية صحيحة ولا نجد لها صورة صحيحة مثلى إلا في الإسلام، الذي يعمل على التخفيف منها حتى آخر حدّ يمكن أن تصل إليه مجموعة بشرية. وكم جرّ باعث الشهوة إلى الحكم والرغبة بالسطان على الناس عبر التاريخ الطويل من ويلات ونكبات جسام، في حروب طاحنة، أزهقت فيها أرواح، وأريقت فيها دماء، وأتلفت فيها خيرات، وبددت قوى وطاقات، ودرست مدن وحضارات، ودهّمت مساجد وبيع وصلوات، لا سيما حينما يضطرب جنون العظمة في رأس زعيم يتوقد في نفسه لهيب الشره بأن يكون له سلطان على كل شيء، ثم يستطيع أن يجد بطانة تؤازره، وقوة تناصره، مع كفر بالله يطلق لأهوائه العنان ويجعلها ملك قيادة الشيطان. ومع هذه المطامع التي ليس لها أساس إنساني كريم تستجيب له النفوس البشرية أو ترضى به، لا بد أن تقف الأمم والشعوب من صاحبها موقف الدفاع عن حقوقها التي يراد لها أن تكون غنائم باردة، وأسلاباً سهلة المنال، في أيدي مجرمي الحروب، كما لا بد أ، تقف في وجهها مطامع مناظرة عند جموحين آخرين يتوقد في نفوسهم أيضاً لهيب الشره إلى السلطان والحكم، ومن هذا أو ذاك يكون الصراع الدموي العنيف، الذي تنشأ عنه مضاعفات كثيرة، إذ يتولد منه الحقد والكراهية والرغبة بالانتقام، وفساد الطبائع الإنسانية، كما يتولد منه التفاخر بالبطولات، وشدة الارتباط بالعنصريات والعصبيات والحميّات

الجاهلية، وهكذا إلى آخر حشد الرذائل الخلقية والاجتماعية، التي تخلفها الحروب المدنسة بالمطامع الأنانية غير المقدسة. وقد عرف التاريخ القديم والحديث أمثلة كثيرة من الحروب، التي تثيرها من الشهوة إلى الحكم والسلطان بواعث ضاربة ضارية في نفوس بعض الناس، ممن ليس لهم من الدين ومخافة رب العالمين ما يضبط شراسة نفوسهم، ويملك جماحها العنيد، وليس لديهم مشاعر إنسانية عامة يحسون بها آلام شركائهم في الإنسانية. وقد ظهرت هذه الأمثلة في مختلف الأمم البدائية والمتحضرة، وكذلك ظهرت في الأمم التي أدركت مدنيات القرن العشرين. فنجد أمثلة منها في تاريخ الفرس، وأمثلة أخرى في تاريخ الروم، وأمثلة في تاريخ اليونان، وأمثلة في تاريخ الأحباش، وكانت الأمثلة التي ظهرت قديما ًفي هذه الأمم أمثلة كبرى ذات نطاق واسع. وفي تاريخ العرب قبل الإسلام نجد أمثلة كثيرة منها، ولكنها جزئية ومحدودة ونجد مثل ذلك في تاريخ الشعوب البدائية. وكانت الأمثلة منها قليلة ومحدودة في تاريخ المسلمين بفضل التربية الإسلامية، والروادع الدينية، ولم تظهر هذه الأمثلة إلا من منحرفين خارجين على التعاليم الإسلامية والوصايا الربانية. أما أعداء الإسلام والمسلمين فقد سجل التاريخ عليهم أمثلة كثيرة منها، وتذهلنا الأمثلة التي قدّمتها الشعوب المغولية، والشعوب التترية، وفي الصليبية أمثلة دون ذلك. فإذا وصلنا إلى تاريخ شعوب أوربا الحديثة جابهتنا الأمثلة الصارخة التي أعلنت عنها حروب كونية كبرى. وهذه الأمثلة لا بد أن تتكرر وتظهر في كل مجموعة بشرية لم تعم فيها يد الإصلاح الديني عملاً فعالاً مثمراً، وشر ما في الأمر أن تحمل هذه المطامع

الشخصية الأنانية مدمرة بها أمجاد الإنسانية الخيرة، التي يحملها دعاة الخير ورسل الهدى. وقد حمل نفر غير قليل من أصحاب المطامع الشخصية بالحكم والسلطان، في تاريخ الإنسانية الطويل العداوة ضد دعاة الحق من الأنبياء والمرسلين , وضد الإسلام خاتمة الرسالات الربانية، واستخدموا ما استطاعوا أن يجمعوه من قوة وكيد في حرب الأمم والشعوب المؤمنة المسلمة لربها، بغية إضعاف قوتها، وصرفها عن رسالتها الربانية، التي تحمل الخير والرفاه والسعادة لكل الأمم والشعوب. 2- الرغبة بابتزاز الأموال والاستيلاء على مصادر الثروات وقد تكون الرغبة بابتزاز الأموال، والاستيلاء على مصادر الثروات، حبّاً بالمال، وافتتاناً به، أو بغية تسخيره في تنمية القوة، أو تحقيق مطالب الأنفس وشهواتها، من أبرز البواعث النفسية التي تدفع مجرمي التسلط المادي المدنس بالمطامع الأنانية والشهوات والغرائز والنزوات والأحقاد، إلى العدوان على غيرهم من الأمم والشعوب. ومن المعلوم بالتجربة أن النظريات الحقوقية تغدو غير ذات أثر فعال في النفوس، حينما تشعر أن لديها من القوة ما يمكنها من تحقيق مطامعها، متجاوزة كل مبدأ من مبادئ الحق والعدل، وتشعر مع ذلك بانعدام الرقابة عليها من قبل سلطة إنسانية تحاسبها وتجازيها، ثم لا تؤمن برقابة ربانية عليمة حكيمة قديرة عادلة، ستسألها وستحاسبها وستجازيها بالعدل على أعمالها. ولما كان المال على اختلاف أشكاله وصوره إحدى القوى الخطيرة التي يتوسل بها إلى تحقيق مطالب الأنفس وشهواتها، كان له في نفوس الناس جميعاً مكانة عظيمة موصولة بالدوافع الأولية التي بني عليها وجود الإنسان في هذه الحياة، وموصولة أيضاً بالدوافع الثانوية وغيرها من الدوافع التي تحقق للإنسان متعة ولذة، أو تفاخراً وتكاثراً، أو لهواً ولعباً، أو غير ذلك من زينة الحياة الدنيا.

قال الله تعالى في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول) : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} . وفي كلام الرسول قوله صلوات الله عليه: "لو أوتي ابن آدم وادياً من ذهب لابتغى إليه ثانياً، ولو أوتي ثانياً لابتغى إليه ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب". ولما كان علم الإنسان ضمن قدراته التي يستطيع بذلها لا يحقق له جميع مطامعه في تحصيل المال الوفير، الثراء الكثير، كانت نفسه باستمرار ممتدة للاستيلاء على أموال الآخرين التي جنوها بكدهم وسعيهم، إلا أن يردعهم رادع من دين، أو من خوف رب العالمين. ولكن الآخرين حريصون أيضاً على ما لديه من أموال، فلم يكن أمام الناس بين يدي معركة الطمع والدفاع عن الحق إلا طريقان: طريق الحق والعدل الذي تحمل لواء الدعوة إليه وصيانته شريعة الله الثابتة، ومعها وسيلتا الترغيب والترهيب العاجلتين والآجلتين. وطريق العدوان والظلم الذي تميل إليه معظم النفوس، ما دامت في أيديها القوة الكافية لانتزاع حقوق الآخرين، والاستحواذ عليها إرضاءً لمطامع النفوس وشهواتها وأهوائها. أما طريق الحق والعدل فمن العسير أن يلتزم الناس به إلا في حالتين: إحداهما: ضعف قوتهم عن العدوان على غيرهم، وعند ذلك ينادون بمبدأ الحق والعدل صيانة لأنفسهم وحفظاً لحقوقهم. وثانيتهما: سموّهم إلى مراتب الإيمان بالله، وشعورهم بأن الله القادر القاهر يراقبهم على أعمالهم، صغيرها وكبيرها، وسيحاسبهم ويجازيهم، ويقيم فيهم عدله بحسب أعمالهم، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، ولا يضيع عمل عامل منهم، ولو كان مثقال ذرّة. وليس وراء هاتين الحالتين إلا تكلفات تعاني منها المجتمعات الإنسانية عناءً كبيراً، ثم تفلت

من أيديها جميعا الضوابط حينما يظفر المجرمون بالقوة الكافية. وأما طريق العدوان والظلم فإنه في نظر كثير من الناس المجرمين، الذين لا يراقبون الله، ولا يرجون ثوابه، ولا يخشون عقابه، أيسر طريق لبلوغ الثروات الكبرى، وحينما تتجلى هذه الانحرافات في أفراد أو في عصابات تتولد جرائم محلية محدودة، يؤدبها ويحد منها الرأي العام المتواضع على خلافها، أما حينما تتجلى هذه الانحرافات في نفوس من بأيديهم مصائر شعوب، وقوى دول كبيرة، أو تتجلى في نفوس أمة بأسرها، تجمعها رابطة ما من الروابط الإنسانية، فإن مشلكة العدوان تغدو حينئذٍ مشكلة دولية، أومشكلة عالمية، إذ تبرز في أشكال غزوات سلب ونهب، أو حروب سلب ونهب كبرى، تزهق فيها أرواح بريئة، وتدمر فيها حضارات، وتتلف فيها خيرات. وقد عرف تاريخ الإنسان القديم والحديث أمثلة كثيرة من أمثلة الغزوات والحروب الصغرى والكبرى، التي تحركها المطامع المادية والرغبة بابتزاز أموال الآخرين، وسلبها بغير حق، والاستيلاء على مصادر ثرواتهم. ومن أمثلة ذلك حروبٌ كثيرة توقدت نيرانها بين الناس، في تاريخ الإنسان القديم والحديث، كالحروب التي كانت تحركها المطامع الرومانية والفارسية والحبشية، وكالغزوات التي كانت تمارسها قبائل العرب أيام الجاهلية، وقبائل معظم الشعوب المتخلفة حضارياً، وقراصنة البحار وغيرهم، ومن أمثلة ذلك أيضاً الحروب التي أوقد نارها المغول والتتار، والدول الصليبية، ثم الحروب العنيفة التي أوقدت نيرانها الدول الاستعمارية. وقد تعرضت بلاد المسلمين وأموالهم لصور كثيرة من الغزو الذي كان الدافع له ابتزاز أموالهم، والاستيلاء على مصادر ثرواتهم. 3- الرغبة باحتلال أرض ذات امتيازات طبيعية مفضلة وقد تكون الرغبة باحتلال أرض ذات مناخ أجود أو طبيعة أجمل من أرض الطامعين، أو ذات مركز ذي أهمية تجارية أو عسكرية، من البواعث النفسية الأنانية التي تدفع مجرمي التسلط المادي المدنس بالمطامع والشهوات

والأهواء، إلى العدوان على غيرهم من الأمم والشعوب. فمن المعلوم أن لكل إقليم خصائص اختصته العناية الربانية بها، فالإقليم الرخي الطري الناعم المثمر قد لا تكون فيه كنوز الذهب والفضة وسائر المعادن الثمينة، والإقليم المثمر قد لا تكون فيه كنوز الذهب والفضة وسائر المعادن الثمينة، والإقليم الذي تكثر فيه الكنوز قد لا يكون رخياً طرياً ناعماً مثمراً، وبعض الأقاليم محظوظ بأنه محطة اتصال بين عالمين متباعدين أرضا ً، مترابطين في المصالح التجارية أو السياسية أو غيرهما، فيحتل بينهما مركز الوسيط والطريق الذي يضطر إليه كلٌّ منهما. وهذه الخصائص والهبات الربانية من شأنها أن تثير مطامع الطامعين، وحسد الحاسدين، فتجلب إلى أهلها موجات الغزاة، وتجعلهم عرضة لعدوان المعتدين ومحاولات تسلط الغاصبين، الذين ليس لديهم من الدين أو مخافة عدل رب العالمين ما يردعهم عن الاعتداء على حقوق غيرهم، فيحملون أسلحة التسلط المدنس بالمطامع الأنانية، ويباشرون أعمال الغزو غير المقدس ضد أصحاب الأرض الشرعيين، ولا غرو أن يقف هؤلاء موقف الدفاع الشريف عن أرضهم وبلدهم، وبذلك يقع الصدام الدموي المسلح، وتسفك الدماء، ويكثر الفساد في الأرض. والباعث المؤدي إلى حدوث هذه الويلات الجسام منحصر في المطامع النفسية الدنيئة التي ليس لها سند إلا الأنانية المجرمة، وحب الأثرة، والرغبة بالعدوان. 4- الرغبة بتسخير الشعوب ومن البواعث النفسية التي تحرض مجرمي الحروب على التسلط، الرغبة بتسخير الشعوب في الأعمال الاستثمارة وغيرها، كالأعمال الزراعية أو الصناعية أو العمرانية أو أعمال الخدمات، وأشدها الأعمال الحربية، إذ يجندون الشعوب المغلوبة ويدفعون بها إىل معارك حربية ضد شعوب أخرى. وهذا لون من ألوان استعباد الإنسان للإنسان بغية تسخيره في الأعمال، وقد سجل تاريخ الإنسان القديم والحديث أمثلة كثيرة من هذا الاستبعاد. لقد كانت الشعوب الغالبة تستعبد الشعوب المغلوبة استعباداً تاماً أو جزئياً،

فتسخرها فيما تشاء من أعمال، ثم جاء الاستعمار بصوره المختلفة فكان لوناً متمدناً من ألوان الاستعباد. وإذا كان التاريخ القديم يحدثنا عن الشعوب المغلوبة المستعبدة التي بنت بكدها وذلها ودمها وآلامها للغالبين آثاراً خالدة، ظلت مائة آلاف السنين تشهد بمقدار التسلط الذي بلغوه، إننا قد شهدنا في التاريخ الحديث جيوشاً جرارة من إفريقية والهند مستعبدة مسخرة لتوطيد دعائم دول استعمارية، تسلطت على شعوبها، وبنت أمجادها بكد وذلك هذه الشعوب، وبطاقات أفرادها، وبخيرات أرضها. وقدم إنسان المدنية الحديثة أمثلة من الاستعباد مناظرة لما كان يقدمه إنسان القرون الأولى دون فروق جوهرية كبيرة، إلا الفروق التي تقتضيها وسائل العصر، فكل منها قائم على استغلال الإنسان وغذلاله لأخيه الإنسان دون حق مشروع، أو هدف مثالي، ولدى البحث نجد أنه لا دافع لهذا العدوان إلا النانية الشخصية أو الجماعية، والمطامع النفسية الظالمة، والنزوات القائمة في نفوس أفراد متسلطين، أو شعوب أخذتها العزة بالإثم، فنمت فيها أنانيات ومطامع ونزوات مشتركة، فتواطأت على إروائها باضطهاد شعوب أخرى وإذلالها واستعبادها. بينما لا نجد في رسالة الجهاد المقدس أي أثر لإقرار صور الإذلال والاستغلال والاستعباد، أما نظام الرقيق فقد كان لوناً من ألوان المعاملة بالمثل، إذ كان نظاماً سائداً في مختلف أمم الأرض، وحينما جاء الإسلام أخذ في إصلاح هذا النظام داخل المجتمعات الإسلامية، إذ لم يكن يستطيع أن يملي إرادته على الشعوب التي كانت تعلن عداءها للإسلام والمسلمين، أما إصلاحه تمهيداً للتخلص منه فقد كان بالحرص على تحرير الرقيق، وإيجاب الرفق في معاملته، واعتباره بمثابة عضو من أعضاء الأسرة الإسلامية، التي وكل إليها أمر الرقابة عليه خشية مؤامراته، فهو يأكل مما تأ: له منه، ويلبس مما تلبس منه، ولا يكلف من العمل إلا في حدود طاقته، حتى إذا ظهرت عليه أمارات صلاح حاله، واطمأنت النفوس إليه أطلقت حريته، ورفعت الرقابة عنه، وأعطي بذلك

مباشرة جنسية المواطن الشريف، وأخذ يتمتع بكل الخيرات التي يتمتع بها جميع المسلمين، من خيرات اقتصادية وأدبية واجتماعية وغيرها، أما المجالات العلمية فإنه لا يحرم منها بحال من الأحوال، حتى في أشد أحوال الأسر، لأن رسالة الإسلام في أساسها تعليم وهداية. وهكذا يظهر الفرق دائماً بين البواعث النفسية الأنانية غير المقدسة، وبين أهداف رسالة الجهاد المقدس. ولعل هذا النظام الذي يقوم على أساس جعل الأسير عضواً من أعضاء أسرة إسلامية داخل المجتمع المسلم يخالط شؤون الحياة كلها، إلا أنه موضوع تحت الرقابة، أكرم لإنسانية الأسير وأرحم، وأفضل لترقيته ثقافياً واجتماعياً، من الأنظمة المتبعة الآن بالنسبة إلى الأسرى، فهي أنظمة شبيهة بالاستعباد الجماعي، إذ فيها إذلال جماعي، وحجز لكل الحريات في السجون، وتسخير في بعض الأعمال، وتقتير في وسائل العيش، مع تعذيب وإهانة. 5- الرغبة بالتوسع في الأرض للاستيطان أو الاستغلال ومن البواعث النفسية التي تدفع مجرمي التسلط المادي المدنس بالشهوات والمطامع الأنانية، إلى العدوان على غيرهم من الأمم والشعوب، الرغبة بالتوسع في الأرض، بغية الاستيطان فيها أو استغلالها. وحين لا تتحقق هذه الرغبة لهم برضا أصحاب الأرض الشرعيين فإنهم لا يجدون سبيلاً إلى ذلك إلا سلوك سبيل الجريمة والظلم والعدوان، إما بمزاحمة أصحابها، ومقاسمتهم أرضهم ومعيشتهم ومصادر رزقهم، وإما بسلبها منهم سلباً كلياً، وطردهم والعمل على إبادتهم وإفنائهم بشتى وسائل الإفناء الوحشي أو المتمدن. وما نشاهده من ذلك في الناس على متسوى الأفراد أو العصابات، نشاهد نظيره على مستوى الأمم والشعوب والدول الكبرى. ففي الأمثلة المصغرة نشاهد جرائم التوسع في الأرض بالظلم والعدوان، عن طريق السرقة أو الاحتيال، أو عن طريق استخدام القوة المباشرة أو غيره

المباشرة، كتسخير قوة الحكم، والضرب بسيف السلطان أو عن طرق أخرى، والوسائل الشيطانية في ذلك كثيرة. هذا جار سكن يحركه الطمع للاستيلاء على قطعة أرض من دار جاره ظلماً وعدواناً، ليوسع بها داره، ويزيدها حسناً وجمالاً، ويجازف بارتكاب جريمة الاستيلاء لبغير حق على ملك جاره، وربما تكون حاجة جاره لها وهو صاحب الحق تمثل ضرورة من ضرورات سكنه وسكن أسرته، بينما لا تزيد حاجة المتسلط على أنها لون من ألوان استكمال مظاهر الرفاهية والزينة له ولأسرته. وهذا جار في أرض زراعية يحركه الطمع أيضاً للاستيلاء على قطعة أرض من مزرعة جاره، ليوسع بها مزرعته، ويجمل بها أرضه، فيجازف بارتكاب جريمة الاعتداء على حق غيره، وربما كانت حاجة جاره لهذه القطعة - وهو صاحب الحق - تمثل ضرورة أساسية من ضرورات عيشه لأنها الوسيلة الوحيدة لعمله الذي يجني منه رزقه ورزق أسرته. وهنا تقف تعاليم الإسلام حارساً أميناً على حقوق الناس،ففي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن سعيد بن زيد، أن رسول الله قال: "من أخذ شبراً من أرض ظلماً فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين". وفي الأمثلة المكبرة التي يرتكبها مجرمو التسلط من الأمم والشعوب، نشاهد جرائم التوسع في الأرض، بطرق شتى، منها ألوان الغزو المادي المسلح، الذي يمتلك الغزاة فيه بلاداً لشعوب وأمم أخرى بمقاتلة أهلها وقهرهم، وطردهم أو إبادتهم. ومن أمثلة ذلك في القرن العشرين للميلاد مطالب ألمانية هتلرية، التي نشأ عنها ما سمي بالحرب الكونية الثانية. ومن أفحش الأمثلة وأكثرها تصويراً للجريمة الإنسانية ما يمارسه اليهود في فلسطين ضد سكان الأرض الأصليين، وأصحاب الحق الشرعي فيها، وليس التذرع بأن اليهود قد سبقت لهم سكنى هذه الأرض منذ نيف وألف سنة، لذلك فلهم الحق بأن يستردوها ويطردوا أهلها منها أو يعملوا على إفنائهم، إلا كحجة الضيف الذي استقبله صاحب

الدار بالترحاب والإكرام، ثم زاد في إكرامه فأطال مدة إقامته، إلا أن أولاد هذا الضيف استطاعوا في يوم ما أن يستغلوا مرض صاحب الدار، ويعلنوا أمام الجيران أنهم أصحاب الدار ومالكوها، ثم شفى الله المريض وشهد ما وصل إليه أولاد ضيفه من فساد ولؤم وعدوان، فاستعان عليهم بذوي القوة فطردهم من بيته، فتفرق هؤلاء الأولاد في الأرض، ولكنهم ما زالوا يحنون إلى دار الضيافة، وبعد عشرات القرون من السنين، رجع الأحفاد يطالبون بدار الضيافة، ويزعمون أمام الناس أنهم أصحابها، وأنهم كانوا قد طردوا منها، وما على الناس إلا أن يملكوهم إياها، ويطردوا منها أبناء الذين كانوا قد استضافوهم في دارهم. هذا هو منطق اليهود في هذا العصر، ومنطق الدول الكبرى التي تؤديهم وتمدهم؛ وما يدرينا فلعل اليهود سيطالبون بتملك جميع بلاد الدنيا، لأنهم سكنوها ضيوفاً فترات طويلة من الزمن. أما وجود اليهود في فلسطين فإن الحقيقة التاريخية التي يعترفون بها تثبت أنه قد كان بمثابة وجود الضيف في المثل السابق، فإبراهيم عليه السلام قد كان من سكان ما بين النهرين، فجاء مهاجراً إلى أرض الكنعانيين، وقد استضافه الكنعانيون وأحسنوا وفادته، وكان له أسرة قليلة العدد ضمن سكان كثيرين، ولم تلبث هذه الأسرة أن هاجرت إلى مصر، ثم عادت بعد قرون ومعها رسالة الجهاد المقدس، إلا أن الفساد قد أسرع إليها، فسلب الله عنها النعمة، واستمر أصحاب البلاد الأصليين في أرضهم، ولما جاءت المسيحية دخل قسم منهم فيها، ثم لما جاء الإسلام أسرعوا إليه فصاروا مسلمين. فهل لهذه الدعوى التي يصنعها اليهود، ويؤيدهم فيها أمثالهم في الإثم والجرم، أقدام تقف عليها في مواجهة منطق الحق الذي يملكه الفلسطينيون؟ 6- الرغبة بالانتقام تنفسياً عن الكراهية والأحقاد الموروثة ومن البواعث النفسية الأنانية التي تدفع مجرمي التسلط المادي المدنس بالأهواء والشهوات، والأحقاد والنزوات، إلى العدوان على غيرهم من

الأمم والشعوب، الرغبة الانتقام تنفيساً عن كراهية موروثة وأحقاد قديمة. وحينما يكون الانتقام الجاهلي موجهاً ضد مجموعة من الناس، يتوجه أيضاً ضد كل ما يختص بهم من دين، أو نظام اجتماعي، أو تاريخ، أو أرض، أو أي مجد حضاري أو مدني، مهما كانت هذه الأمور جديرة بالاحترام والتقدير، أو حقيقة بأن تتبع أو يستفاد منها للتقدم وإسعاد الناس ورفاههم ونشر الخير بينهم. ويظل الإنسان في انفعالاته الانتقامية المستندة إلى الكراهية الموروثة جاهلياً، بعيداً عن المنطق الحضاري، ما لم تهذب عواطفه وتضبط نفسه وانفعالاته مجموعة العقائد والمفاهيم والنظم الدينية الربانية الحقة، القائمة على أسس عامة بعيدة عن كل تعصب أناني أو قومي أو عرقي. ويظهر أثر التكوين البدائي لطبائع النفوس في كثير من شعوب الأرض المتمدنة، ما دامت بعيدة عن التربية الدينية الربانية الصحيحة، أو المفاهيم الاجتماعية التي تدعو إليها، وكلما قربت هذه الشعوب في حضاراتها من إدراك هذه المفاهيم، وتمثلها في السلوك، تضاءلت في نفوسها الطبائع الجاهلية. ومن خصائص التربية الدينية الربانية الصحيحة، التي تمثلها التعاليم الإسلامية أصدق تمثيل، الأسس الاجتماعية التالية: الأساس الأول: "لا تزر وازرة وزر أخرى" فلا تتحمل الجماعة ذنوب أفراد منها، ما لم تكن متواطئة معهم عليها، أو راضية بها، ولا يتحمل الأبناء والأحفاد ذنوب الآباء والأجداد، ما لم يتابعوا ممارستها، أو تصبح فيهم أموراً تقليدية محببة غير مستنكرة. وهذه الأساس من شأنه أن يقطع دابر كل كراهية متوارثة بين الأمم والشعوب. الأساس الثاني: الأخوة الإنسانية التي لا تعترف بالفوارق العرقية أو اللونية أو اللغوية أو السكنية أو الطبقية، وهذه الأخوة ذات مستويين: أما المستوى الأول: فهو المستوى العام الذي يشمل الناس جميعاً، ويتمثل بحب المسلم الخير والسعادة لكل بني الإنسان، وفي هذا المستوى يقول

الرسول: "كلكم لآدم وآدم من تراب" ويقول الله تعالى في سورة (الحجرات/49 مصحف/106 نزول) : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} . وأما المستوى الثاني: فهو المستوى الخاص، ويتمثل بحب الخير والسعادة مع التأييد والمناصرة والمودة للملتزمين بالحق، الداعين إليه، السالكين صراط الخير والهدى، صراط الله المستقيم. وذلك لأنه قد اقتضت طبيعة نشر الحق والخير في المجتمع الإنساني، وطبيعة العمل على مقاومة الباطل والشر أين وجد ومن أية جهة صدر، مناصرة دعاة الحق والخير الملتزمين بهما، وكبح جماح دعاة الباطل والشر العاملين بها. ولما كانت المناصرة أثراً من آثار الإرادة الإنسانية، التي تتأثر بالميل العاطفي، كان من مقتضى النصرة أن تكون مصحوبة بالحب في الله، وكان من مقتضى المكافحة أن تكون مصحوبة بالبغض في الله. وقانون الحب والبغض في هذا الأساس مستند إلى مبدأين، يضم أحدهما الحق والخير، ويضم الثاني الباطل والشر، وضابط المبدأ الأول منهما ما أمر الله به عباده ودعاهم إلى العمل به وابتاعه، وضابط المبدأ الثاني منهما ما نهى الله عنه عباده ودعاهم إلى تركه واجتناب سبيله. وقد بين الدين الإسلامي للناس أوامر الله ونواهيه. من أجل ذلك كانت ثمرة هذا القانون تتجلى في الحب في الله والبغض في الله، دون أن تتدخل في كل من الحب والبغض أية عوامل شخصية أو أهواء نفسية. ومن شأن هذا الأساس أن يطلق دوائر الجماعات الإنسانية، ويأخذ بأيدي الناس إلى الوحدة العالمية، التي تعتمد على وحدة الفكر ووحدة الهدف في الحياة ويرافقهما وحدات أخرى ذات ارتباط بالنظم العامة، والتكوين السياسي للجماعات الإنسانية.

الأساس الثالث: إلغاء الأنانيات على اختلافها أمام مبادئ الإصلاح والخير، ومكتشفات العلم ومنجزاته. ويقتضي هذا الأساس، أن يتقبل الذين تأثروا بالتربية ألإسلامية المثلى كل مبادئ الإصلاح والخير، وأن يمتصوا بسرعة كل مكتشفات العلم ومنجزاته، ولو حملها إليهم أقل الناس مكانة اجتماعية بين الأمم، وقاعدتهم في هذا ما جاء في الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: "الكلمة الحكمة ضالة الحكيم، فحيث وجدها فهو أحق بها". وكلمتهم المأثورة في ذلك "خذ الحكمة من أي وعاءٍ خرجت". ومع تمثل هذه الأسس الراقية تنعدم معظم عوامل الكراهية والبغضاء والحقد، التي لها في معظم الأمم والشعوب رواسب موروثة، مع أنها غير ذات أساس منطقي مقبول، لدى التقويم الفكري السليم. وكم تعرضت الإنسانية لآلام كثيرة، وحروب بشعة حقيرة، وألوان شتى من العدوان والظلم التي لا دافع لها إلا مخزونات كره وحقد تغلغلت في النفوس، تكاثرت عن طريق التوالد الذاتي البحت، وورثها الأبناء والأحفاد عن الآباء والأجداد، وحينما نرجع إلى أصولها الأولى نجد أنها ناتجة عن رعونة وطيش، وأنانية وأثرة، أملتها عادات وتقاليد جاهلية، تحمل الجماعة وزر مذنب منها، ولا تفهم معنى الأخوة الإنسانية ولا تشعر به، ولا تعترف بأي إصلاح أو خير أو علم، ما لم يكن صادراً عنها أو منسوباً إليها. وقد صادفت حركة الإصلاح ونشر الخير والعلم على أيدي المسلمين موجة عنيفة مضادة من الكره والحقد والبغضاء وعند بعض الذين رفضوا الإسلام، وقد اختزن طاقة هذه الموجة فئات من الناس، فورثوها لأولادهم وأحفادهم. أما الذين استجابوا لدعوة هذه الحركة فقد اندمجوا بسرعة في صفوف المؤمنين المصلحين، فقبلوا الإسلام، ورضوا به ديناً ونظام حياة، فسعدوا به، ولم يجدوا في نفوسهم أي حرج، وهؤلاء هم النسبة الغالبة من

الشعوب التي دخلت إليها حركة الإصلاح. وأما الذين لم يستجيبوا فلم يقترف المسلمون تجاههم ذنوباً تستحق أن يقابلوا عليها بالكره والحقد والبغضاء، لكن الجاهليات الأنانية جعلتهم لا يعترفون بالأخوة الإنسانية، ولا يتقبلون مبادئ الإصلاح والخير التي جاءهم بها دعاة من غيرهم، فكرهوا وأبغضوا وحقدوا، وورثوا ذلك لأبنائهم وأحفادهم، واتبعوا المفاهيم الجاهلية، التي لا تتجاوز حدود الدوائر الأنانية الضيقة والعصبيات المقيتة. وكم تعرض المسلمون في قرون الضعف والتجزئة لعداء شديد، وكيد مديد، من وارثي كراهية وحقد وبغضاء. 7- الرغبة بإرضاء نوازع الحسد ومن البواعث النفسية الأنانية التي تدفع مجرمي التسلط المادي المدنس بالانحرافات الخلقية، إلى العدوان على غيرهم من الأمم والشعوب، داء الحسد الذي يأكل قلوب طائفة من الناس. ومعلوم أ، هاذ الداء القبيح، متى استحكم في قلوب الحاسدين، لا تتحقق رغباته إلا بإزالة كلّ أسباب الن عمة التي يتمتع بها المحسودون. ثم لا يقف داء الحسد عند حدود الأماني، ولكنه ينتقل إلى مباشرة الأسباب المادية لتحقيق رغباته الحقيرة، وذلك عند شعور الحاسد بأن لديه من القوة المادية ما يستطيع أ، يزيح به من الوجود مثيرات حسده، مهما كان نوعها، إما بسلب أسباب النعمة من صاحبها وإضافتها إلى نعمه، وإما بحجبها عنه، وإما بإتلافها وإزالتها من الوجود. إلا أن المؤمنين بالله حق الإيمان، الراضين بقسمته وعدله، إذا مسهم طائف من شياطين الحسد تفجرت في قلوبهم ينابيع ذكر الله، وامتدت أمام بصائرهم آفاق المعرفة، وتدفقت عليهم فيوض العلم، فأدركوا سر الابتلاء في هذه الحياة الدنيا، وأبصروا حكمة الله، فاطمأنت بها قلوبهم، وعظمت بها قناعتهم، ثم جاءهم من الله شفاءٌ لما في الصدور. ويمكن أن نضع لهذا الداء وآثاره قانوناً نفسياً يستند إلى عناصر ثلاثة:

العنصر الأول: وجود هذا الداء في النفس بالمقدار الذي يؤثر تأثيراً على ما في سلوك الإنسان وانفعالاته. العنصر الثاني: فقد الشعور بمراقبة الله، والتبصر بحكمته، والخوف من نقمته. العنصر الثالث: شعور الحاسد بأن لديه من القوة ما يمكنه من سلب أسباب النعمة عمن يحسده، أو حجبها عنه، أو إتلافها إتلافاً كلياً. فإذا اجتمع العنصران الأول والثاني ولم يتوافر للحاسد العنصر الثالث - وهو شعوره بالقوة على تحقيق رغبات داء الحسد - تولدت عنهما أماني سلب النعمة أو حجبها أو إتلافها. وإذا اجتمعت الع ناصر الثلاثة تولد عنها جميعاً كل المحاولات العملية الإجرامية التي تستهدف مباشرة تحقيق الأماني. وتتفاوت النتائج بنسبة تفاوت وجود هذه العناصر، فإذا كانت نسبة داء الحسد مثلاً بمعدل (70) درجة مئوية من النسبة العظمى التي بلغها إبليس في حسده لآدم، وتضاءل معها الشعور بمراقبة الله والخوف من جزائه ونقمته، حتى بلغ دون العشرة في المئة. وبلغ معهما الشعور بالقوة على تحقيق الأماني دون التعرض لعقاب مادي معدل (70) درجة مئوية مثلاً، فإن قوة فاعلية الأماني ستكون قوة كبرى، والاندفاع إلى الجريمة سيكون أمراً محققاً في تقدير مدى سلوك الإنسان سبل الشر والأذى. أما إذا كانت النسب ضئيلة، أو كانت نسبة الشعور بمراقبة الله والتبصر بحكمته والخوف من نقمته عالية، فإن آثار الحسد في السلوك ستكون آثاراً ضئيلة خفيفة. ومن هذا نلاحظ أن وجود عنصر داء الحسد مع الشعور بالقوة على تحقيق أماني الحاسد يلغيهما أو يكبحهما الشعورُ بمراقبة الله، والتبصر بحكمته، والخوف من نقمته، بل من شأن هذا الدواء المدهش أن يطارد جرثومة الداء من أساسها.

ولدى النظر في تاريخ الإنسان القديم والحديث نلاحظ كم كان لهذا الداء الخبيث من آثارٍ إنسانية مخزية، وأعمال في الكون مفسدة مدمرة، وكم دفع مجرمي التسلط المادي إلى إشعال نيران حروب كثيرة وكبيرة، نجم عنها آلام جسيمة، وأمراض اجتماعية وجسدية ونفسية خطيرة، ونجم عنها أيضاً دمارٌ لمظاهر تقدم الإنسان وحضارته، وفساد عريض وشر مستطير. ولما اصطفى الله محمداً بالنبوة، وأننزل عليه القرآن، واختصه بأن يكون خاتم المرسلين، وحمل من آمن به من العرب لواء الدعوة إلى رسالته العظيمة، خاتمة رسالات السماء، وأقبلت عليهم رياح النصر والتأييد من كل جهة، أثار ذلك حسد بعض أتباع الديانات السابقة، وأوقد في قلوبهم نيرانه، فكان منهم معتدلون لم يتجاوزوا حدود الأماني، وكان منهم مجرمون أخذوا يهتبلون كل فرصة للنكاية بالمسلمين، وقطع كل طريق من طرق الدعوة دونهم، وللنكاية بالإسلام الذي كان سر مجدهم ونصرهم وخذلان عدوهم. واحتل اليهود الصف الأول بين طوائف الحاسدين، فأخذوا ينكرون الحق الذي جاء به محمد صلوات الله عليه، ويتآمرون عليه وعلى رسالته في حياته، ثم أخذوا يكيدون للمسلمين وللإسلام كيداً عظيماً، على مقدار القوة التي يشعرون بأنها تمكنهم من فعل شيء يسيرُ في طريق تحقيق أمانيهم العدوانية الظالمة الآثمة، إلى أن مرّ نهر الزمن في صحراء القرن العشرين، وبدت على الشعوب الإسلامية مظاهر الضعف، تسارع اليهود من كل حدب وصوب إلى إرضاء نوازع الحسد الذي يأكل قلوبهم من قرون، وإلى تلبية مطامع أخرى في نفوسهم، وإلى سلب المسلمين جوهرة عظيمة عزيزة عليهم دينياً وتاريخياً، وانتزاع الرئتين من الجسد، بوسائل إجرامية، وآزرهم على ذلك آخرون في الأرض، أكثر منهم قوة على تحقيق أمانيهم، وأقل منهم حسداً، ولكن اشتركوا جميعاً في جريمة التسلط على ما ليس لهم به حق، بالغضب والقتل والسلب والتشريد ومحاولات الإفناء مع محاربة الدين الذي كان سبب نعمة المسلمين العظمى، منذ ظهور الإسلام في القرن الأول الهجري، الموافق للقرن السابع من ميلاد المسيح عليه الصلاة والسلام.

8- خوف صاحب السلطان على سلطانه من عناصر قوته البشرية ومن البواعث النفسية الأنانية غير المقدسة، التي تدفع مجرمي التسلط المادي إلى العدوان على غيرهم من الأمم والشعوب، خوفُ صاحب السلطان على سلطانه من القوة العسكرية والسياسية التي يتمتع بها قواده وضباطه وجنوده، فيحاول أن يتخلص منهم بتوجيه طاقاتهم القتالية لقتال شعوب غير خاضعة لسلطانه. ويبدو أن هذا الباعث يلازم معظم ذوي السلطان، الذين لا يرون فيه معنى المسؤولية الكبرى الملقاة على عاتقهم، والتي ينوء بحملها أفذاذ الرجال على مدى تاريخ الإنسان، وإنما يرون فيه مغانم وأمجاداً لهم ولمن يصتل بهم فقط، وربما يلازم طائفة من المخلصين الذين يدركون عظم مسؤوليته، إذا كانوا في مجتمع كثير الشر، يحتاج تقويمه إلى حشد كبير من القوى والخطط الذكية، واليقظة التامة، أما إذا كانوا في مجتمع قليل الشر، يقدر في ذوي السلطان العدل والاستقامة، ويشكر لهم قيامهم بالمسؤولية الكبرى، فإنهم قلما يلمس قلوبهم الخوف لى أنفسهم أو سلطانهم. ومن الأمثلة التاريخية لهذا القسم الخليفتان أو بكر الصديق وعمر بن الخطاب، إذ كانا في المجتمع الإسلامي في عهديهما مثل سائر الناس في طمأنينة قلوبهما، وذلك لتوافر شرطين أساسيين: أحدهما: فيمن بيده السلطان، وهو العدل والاستقامة، والشعور بالمسؤولية، والزهد القلبي بكل مظاهر الحكم. وثانيهما: في المجتمع،وهو كثرة ذوي الاستقامة فيه، الذين يرون السلطان على صورة يزهد بها الحريصون على دينهم، الخائفون من ربهم، ما لم يلجئهم الواجب إلى الاضطلاع به، وهم يمجدون من يضطلع به منه من الأكفاء الأفذاذ، ذوي العدل والاستقامة. على أنه رغم وجود هذا الباعث في نفس صاحب السلطان، فإنه لا يتخذ خطة لتثبيت حكمه بالعدوان والظلم والفساد في الأرض، متى كان لديه نصيب كافٍ من الإيمان بالله وحسن مراقبته والخوف من عقابه. أما الذين قست قلوبهم وتعاظمت نفوسهم وسيطر عليهم الغرور

وحرموا من نعمة الطمأنينة التي هي ثمرة من ثمرات الإيمان بالله، وأثر من آثار مراقبته وخشيته. فأولئك هم الذين تعمل أفكارهم في ابتكار الحيل وتخطيط الخطط الشيطانية لتثبيت دعائم ما في أيديهم من سلطان، لأنهم لا يملكون من صفات الحاكم العادل المالك لقلوب رعيته رصيداً يدعم سلطانهم ضد بعض الطامعين الذين يمثلون قوتهم في عدم سلطانهم تجاه نقمة رعيتهم عليهم. وحينما يشعر هؤلاء بأن قوتهم التي تثبت حكمهم ضد الرغبة الحقيقية لرعيتهم. وقد أصبحت مربض خطر على سلطانهم لوجود عناصر فيها أخذت تشعر بمقدرتها على انتزاع الحكم والاستئثار به لأنفسها عن طريق القوة العسكرية أو السياسية التي في أيديها فإن موجة من القلق والاضطراب تستولي عليهم. وعندئذٍ يقلبون وجوه الرأي للتخلص من هذه الأزمة المثيرة للقلق والاضطراب، إذ تتنازعهم فيها عوامل نفسية مختلفة، أهمها العوامل التالية: العامل الأول: الحرص الشديد على ما في أيديهم من سلطان، لأنهم يرون فيه مغانم كثيرة لأنفسهم ولذويهم، ولا يشعرون فيه بالمسؤولية العظمى الملقاة على عاتقهم، لأنهم فقدوا معاني الإيمان بالله ومراقبته والخوف من نقمته. العامل الثاني: الطمع بالاستزادة من مغانم الحكم. العامل الثالث: الخوف الشديد من القوى الطامعة بانتزاع ما في أيديهم من سلطان. وحينما يقلبون وجوه الرأي للتخلص من الأزمة النفسية التي أثارت قلقهم واضطرابهم يعثرون على حيل شيطانية وخطط إجرامية مختلفة منها ما يلي: أ- حيلة إيقاع الخلاف بين عناصر القوة السياسية أو العسكرية التي يخشاها أصحاب السلطان لأنهم يتصورون أنه متى وقع الخلاف بينها مع تعادل قوتها تفرقت كلمتها وتكونت فيها زعامات متناقضة. ومع تناقضها تجد أطراف النزاع فيها بقاء صاحب السلطان هو الحل الذي يحميها من الصدام المتكافئ.

ب- خطة التخلص من عناصر القوة التي يخشونها ولو بوسيلة جريمة من جرائم القتل المباشر أو غير المباشر. وهذه الخطة الإجرامية قد لا تظفرهم بما يريدون. وربما كانت سبباً في إضعاف قوتهم أمام أعدائهم أو أعداء شعوبهم وبلادهم. ج- خطة التخلص منهم بإبعادهم عن مركز السلطان إبعاداً مادياً أو معنوياً. د- خطة شغلهم بإثارة فتن وإقامة حروب آثمة ظالمة وإطلاق أيديهم في البلاد التي يغزونها إرضاءً لغرورهم ومطامعهم وإبعاداً لهم عن جو الاستقرار الذي قد يفكرون فيه بانتزاع السلطان، وإذا كانت هذه الفكرة دائرة في رؤوسهم فإن هذا الإبعاد يساعد على تأجيل التفكير بمحاولات تنفيذها. وهنا تقع ظروف جرائم العدوان على الشعوب الآمنة التي لا جرم لها. كما أنه ليس للذين يريدون غزوها هدف مثالي كريم؛ وإنما أراد حكام هؤلاء الغزاة التخلص من القوى التي تحت أيديهم؛ والتي يخشون منها على سلطانهم. وكم تعرضت شعوب كثيرة في التاريخ القديم والحديث إلى غزو مجرمين من هذا النوع، ونالتهم منهم مصائب وآلام كثيرة، دون هدف مثالي كريم. وكم قوضت بهم حضارات وظلمت بهم مبادئ إنسانية عظيمة وهدمت بهم أركان ديانات سماوية صحيحة فيها الخير والسعادة للناس , واضطهد معتنقوها اضطهاداً شنيعاً. 9- بواعث متفرقة أخرى ومن البواعث النفسية الجاهلية التي تدفع مجرمي التسلط المادي غير المقدس، إلى العدوان على غيرهم من الأمم والشعوب مجموعة رعونات فكرية ونفسية طائشة تدل على مبلغ السذاجة الفكرية والنفسية والبدائية الاجتماعية المتخلفة تخلفاً حضارياً شائناً مهما كانت تتمتع بالمظاهر المدنية الفخمة لأن المظاهر المدنية ليست هي التي تصنع الحضارات الراقية، وإنما تصنعها المبادئ الفكرية السليمة والتعاليم الخلقية العظيمة.

وقد سجل تاريخ الإنسان طائفة من الحروب بين القبائل والشعوب والأمم أدت إلى تسلط بعضها على بعض، واستعباد بعضها لبعض عدواناً وظلماً دون أن يكون الباعث لها غير رعونات وحماقات غضبية جاهلية، ناشئة عن افنعالات نفسية ساذجة، أثارتها أسباب جزئية تافهة، لا تحرك الألوف منها شعباً راقياً متحضراً أثرت فيه التربية الدينية الإلهية بمثلها تربيةً مباشرة. كالأمم المتمسكة برسالاتها الربانية، أو تربية غير مباشرة كالأمم التي احتكت بأتباع الرسالات الربانية. فأخذت عنها فضائل أخلاقية عن طريق السراية والعدوى الطيبة والاقتناع بالمفاهيم التي دعوا إليها. ومن أمثلة الحروب الانفعالية الطائشة أيام العرب في الجاهلية، وهي أيام حروبهم التي كانت معظم أسبابها أموراً تافهة جداً، وقد ذكر المؤرخون أنها بلغت نحواً من (1700) يوم، ورغم أن هذه الحروب لم يكن من نتائجها التسلط المادي السياسي العام فذلك لأن حياة العرب المائجة في الصحراء لا تسمح بذلك. أما التسلط الذي كان يسمح به شكل حياتهم فقد كان يحصل كالاستيلاء على الأموال وكاسترقاق العبيد والإماء عن طريق السلب والنهب والعدوان والظلم. ومفاهيم الحضارة الراقية التي جاء بها الإسلام، جعلتنا اليوم نعجب كثيراً لسبب الحروب التي استمرت في الجاهلية بين قبيلتين من قبائل العرب، هما عبس وذبيان، مدة أربعين سنة. وهي الحروب المشتهرة باسم حروب داحس والغبراء، إذ كان سببها على ما يذكر الإخباريون، أن "قيس بن زهير" زعيم قبيلة عبس، و"حمل بن بدر" زعيم قبيلة ذبيان، تراهنا على أن يتسابقا على فرسيهما المسميين: "داحس" و"الغبراء" فاحتال زعيم قبيلة ذبيان بحيلة تساعد فرسه على السبق، فثار قيس زعيم قبيلة عبس، وتفاقم الأمر وحميت العصبيات في النفوس، واهتاج الغضب في كل من القبيلتين، فقامت الحرب بينهما، وتكررت أيامها خلال أربعين سنة. وهذه الحروب الآثمة الظالمة لم تعدُ أسبابها الأولى أنها نزوة من نزوات الغضب، ثارت ضمن حادثة تسابق بين زعيمين، وهي من الأسباب التي لا تستحق الذكر لتفاهتها.

وربما ثارت حروب طاحنة بين قبيلتين أو بين شعبين، انتصاراً لكرامة رجل أو امرأة، تعرّض أحدهما للإهانة من قبيل شخصٍ من غير قبيلته أ, غير شعبه. وربما ثارت حروبٌ ثأراً لمقتل إنسان، فذهب ضحيتها ألوف القتلى، وسقط فيها ألوف الجرحى. وربما قامت حروب دفع إليها التفاخر بين الأنداد بالشجاعة والقوة وكثرة الأنصار، أو طلب مجد وهمي لا تسنده حقيقة فكرية تقبلها العقول السليمة. وربما قامت حروب دفع إليها شتيمة ظهرت على لسان أحمق طائش. إلى غير ذلك من أسباب تافهة مناظرة لهذه التوافه. بينما نجد الإسلام ينظر إلى أهم هذه الأسباب وهو القتل بأمثل نظرات الحكمة والعدل، فيقرر مبدأ القصاص من القاتل عمداً وعدواناً، فرداً كان أو جماعة، إلا أن يعفو أولياء القتيل رضاً بالدية، كما ينهى بحزم بالغ عن الإسراف في القتل، وقد ألغى الإسلام بذلك تقاليد الحماقات والرعونات الجاهلية، التي كانت تقتل برجل من قبيلتها أي رجل من القبيلة الأخرى، وقد تأخذ على نفسها أن تقتل بقتيلها عشرات من قبيلة القاتل، وهنا تضرب الحمية في رؤوس الآخرين، فيقابلون بالمثل، ويسرف كل منهما في القتل. أما الإسلام فإنه يقرر ما يلي: أولاً: ما تضمنه قول الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) : {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . وبذلك حدد الإسلام مبدأ القصاص، حرصاً على حياة الناس ونبه إلى أن الالتزام بهذا الحكم الرباني من شأنه أن يحافظ على حياة الأفراد والجماعات، لأن من يريد أن يقتل عمداً وعدواناً متى علم أنه سيقتل قصاصاً ارتدع عن القتل وأدرك أنه يقدم على عملية انتحار، وليس كلّ مجرمي القتل يحلو لهم أن ينتحروا. أما حينما يخطر على بالهم أنهم سيعاقبون بالسجن فقط، أو سيقتل غيرهم من أفراد قبيلتهم مكانهم فإن الرادع لهم عن القتل لا بد أن يضعف في نفوسهم. ثانياً: ما تضمنه قول الله تعالى في سورة (الإسراء/17 مصحف/50 نزول) :

{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} . وهذا يحد من دوافع الغضب التي تثور في نفوس أولياء المقتول ويثبت لهم أنهم منصورون بحكم الله إذ جعل لهم سلطاناً أن يطالبوا الدولة الإسلامية بالقصاص من القاتل مهما كان شأنه، ثم يردعهم عن أن يسرفوا في القتل، وذلك بأن لا يتجاوزوا حدود الله، فيقتلوا غير القاتل، أو يقتلوا معه أحداً من عشيرته رغبة بالانتقام الشديد على عادات الجاهلية. لأن هذا من شأنه أن يثير الحميات والعصبيات؛ ويزيد من احتمالات تدافع أمواج الانتقام بين القبائل والشعوب؛ ويمكن العداوات والجماعية ويشق عصا الجماعة الواحدة ويحدث الفرقة بينها فيطمع بها عدوها. 10- اجتماع عدة بواعث نفسية وقد تجتمع عدة بواعث نفسية غير كريمة من البواعث التي سبق بيانها، فتدفع مجرمي التسلط المادي المدنس إلى العدوان على غيرهم من الأمم والشعوب. وعندئذ تتولد طاقات عنيفة من طاقات الشر الفعالة المتحركة في اتجاه الظلم والعدوان والتصميم على التسلط الآثم المقرون بالغايات النفسية البحتة البعيدة عن كل هدف مثالي كريم، يعمل لصالح تقدم الإنسانية ورفع مستواها الحضاري الصحيح. وقد نجد معظم هذه البواعث مجتمعة في جيش الغزو ذي الأجنحة الثلاثة (المستعمرين والمبشرين والمستشرقين) المتجه بقواه المادية والفكرية من كل الجهات ضد الإسلام عقيدة ونظاماً، وضد المسلمين أفراداً وجماعات معاصرين وغابرين، وضد الأرض التي لهم فيها حق وسلطان، ومساكن ومزارع وطرقات برية وبحرية ومصادر ثروات ومناجم خيرات. فبينما نرى الجناح السياسي والعسكري للدول ذات المطامع الاستعمارية غربية كانت أو شرقية يتجه نحو التسلط على الأرض والمال والأنفس، وسائر

القوى البشرية والطاقات الإنسانية في البلاد الإسلامية نرى جناحاً آخر سائراً في موكب الغزو أو متقدماً عليه حاملاً شعاراته التي تحمل في بطائنها ألغام هدم الإسلام، وتفتيت وحدة المسلمين وإضعاف قوتهم ويبذل ما لديه من حيلة ومكر وكيد لمساعدة الجناح السياسي والعسكري. ثم نرى جناحاً ثالثاً سائراً في موكب الغزو أو متقدماً عليه أيضاً يحمل حقائبه العلمية والثقافية والفنية وفيها مخططات هدم العقائد والنظم والأخلاق الإسلامية عن طريق بث النظريات الفلسفية والمادية والقانونية والنفسية المتضاربة تحت ستار العلمانية. وفيها أيضاً مخططات تهدف إلى تفتي وحدة المسلمين وإضعاف قوتهم. ويبذل ما لديه من حيل تلبس أثواب العلمانية المزورة لمساعدة الجناحين السابقين. وقد تتوجه طائفة من قوى الأجنحة الثلاثة شطر أهداف واحدة ظاهراً وباطناً بينما يتفرد كل منها بتسديد أسلحته الخاصة به إلى الأهداف التي تمثل نوع الاختصاص الموكول إليه. فبينما تكون المهمة المباشرة لقوى الجناح السياسي والعسكري الظفر بالتسلط المادي تكون المهمة المباشرة لجناح المبشرين التبشير بعقائدها الدينية المناهضة للإسلام والمكذبة له ونشر الأكاذيب المنفرة من الإسلام والمسلمين والمشوهة لتاريخهم. وتكون المهمة المباشرة لجناح المستشرقين العبث بأفكار الشعوب المسلمة عن طريق الفلسفات التي لا سند لها من الحق والنظريات التي لم تشهد البراهين العلمية بصحتها والأكاذيب الملصقة بالعلم زوراً وبهتاناً مع تظاهر هذا الجناح بالعلمانية والتحرر من الدين وعدم الاعتراف بأية تعاليم تتصل به. والحال أن أكثر عناصره من المنتظمين في سلك التبشير. إلا أن خطة العمل الماكرة ألزمتهم بأن يتظاهروا بالعلمانية والتحرر من الدين لتكون كلمتهم أكثر قبولاً في نفوس ضحاياهم من أبناء المسلمين. وقوى الأجنحة الثلاثة على اختلاف مستوياتها ومهماتها واختصاصاتها وتباين وجهات نظرها بحسب الظاهر في صور لقائها وصور افتراقها تسير متآزرة متعاونة، تؤدي وظائف يتمم بعضها بعضاً، ضمن آلة واحدة تخفى على الكثيرين روابطها. وربما تكون القيادة المتحركة لها في الحقيقة

(4) تآزر الغزاة لتحقيق الأهداف المشتركة

واحدة أيضاً، إلا أنها قد بالغت في ستر نفسها حتى لا تنكشف للباحثين المتتبعين، وحتى تظفر بالقدرة التامة على متابعة خطتها الذكية الماكرة. وهي في مأمن من الرقباء الذين قد يدلون المعرضين للصيد على مرابض الصيادين، وينبهون الضحايا إلى منطلق طوابير جيش الغزو ذي الأجنحة الثلاثة. (4) تآزر الغزاة لتحقيق الأهداف المشتركة تتضح أهداف تنفيذية مشتركة بين الأجنحة الثلاثة في خطط العمل التطبيقية التي من شأنها أن تحقق لهم غايات بواعثهم النفسية. من البدهي أن قوى الدفاع السليمة عند أية جماعة بشرية لا بد أن تتألف من مجموعة عناصر، منها العناصر التالية: العنصر الأول: القوى المادية وتتمثل هذه القوى: أ- بالمقدار العددي للطاقة الحية لكتلة الدفاع البشري. ب- بمدى القدرة الحية البشرية المدربة على الدفاع أفراداً وجماعات , ويمثل ذلك القادة والجنود من المستويات المختلفة. جـ- بمقار القدرات الأخرى التي تستخدمها أو تنتفع منها كتلة الدفاع البشري، وتمثلها الأسلحة الخفية والحصون والمنشآت الدفاعية والعقبات والمواقع المساعدة في طبيعة الأرض والمناخ. د- بالكفاية التموينية لكتلة الدفاع البشري وللقدرات الأخرى. العنصر الثاني: القوى الفكرية وتمثلها المفاهيم الفكرية والأسس الاعتقادية التي تنظم الأفراد في سلك كتلتهم البشرية الواحدة والتي ينجم عنها وحدة عاطفية تؤكد روابط الكتلة وتدعم تماسكها. العنصر الثالث: القوى النفسية والإرادية وتمثلها في الأفراد وفي الجماعة الواحدة ما لديهم من القواعد الأخلاقية المشتركة، وما لديهم من شجاعة وروح معنوية، وما لديهم من تصميم إرادي على الدفاع.

وقد أدرك جيش غزو الإسلام والمسلمين ذو الأجنحة الثلاثة هذه الحقيقة، فأعد لكل عنصر من عناصر قوى المسلمين المختلفة خطط تفتيت وهدم وتوهين. وتآزرت الأجنحة على محاربة هذه العناصر، واعتبرت محاربتها أهدافاً مشتركة تعمل على تحقيقها، وانطلق كل جناح يستعمل الأسلحة التي يقدر على استعمالها، ضمن خطوط السير التي ترسمها وتملي تعليماتها غرفة العمليات العليا لقيادة هذا الجيش الظالم الآثم. فبينما تكون أسلحة الجناح السياسي والعسكري دائرة بين مصاولات ومداورت الخداع السياسي والحربي، تكون أسلحة الجناح الذي يضطلع بمهماته المستشرقون دائرة بين محاورات فكرية ودسائس علمية وبحوث ومؤلفات دينية واجمتاعية ونفسية وتاريخية مملوءة بالدس والتحوير والتلاعب بالحقائق ومملوءة بالانتقادات والتهجمات المزورة الملفقة على المفاهيم والأفكار والأحكام والشرائع الإسلامية، ومشتملة على أكاذيب موضوعة على التاريخ الإسلامي، وعلى ما يستطيعون من تعاليم الإسلام، وفي الوقت ذاته تكون أسلحة الجناح التبشيري دائرة في ميادين التعليم والخدمات الصحية والاجتماعية بمختلف المستويات. ولذلك نجد السلطات الاستعمارية سياسية كانت أو عسكرية تدعم كلاً من الجناحين الاستشراقي والتبشيري دعماً كبيراً جداً بالمال والحماية وتذليل المهمات والإنقاذ عند اشتداد الأزمات والتزويد بالمعلومات السياسية والعسكرية عند الحاجة وبكل ما لديها من خبرات سياسية وإدارية، ولكنها تحاول بقدر الإمكان أن لا تتظاهر بذلك. وفي هذا الدعم تتلقى المؤسسات التبشيرية المساعدات الجمة من مختلف الدول الكبرى على شكل مخصصات ذات أرقام عالية جداً تستطيع أن تدعم بها ميزانياتها الضخمة وأن تنشئ بها المؤسسات التعليمية والثقافية الصحية والاجتماعية في معظم البلاد، وأن تعد البعوث وما تسميه بالإرساليات إعداداً عالياً، حتى تستطيع القيام بمهماتها على أكمل وجه ممكن لها، ويضاف إلى هذه المخصصات الدولية سيل عظيم من المساعدات المالية التي يقدمها أثرياء العالم من الذين يؤمنون بالرسالة التي يقوم

بها المبشرون، وكذلك سيل أرباح هذه المؤسسات من الأسر الإسلامية التي تدفع أبناءها إليها. والأنكى من ذلك ما يدفعه بعض أغنياء المسلمين لهم من تبرعات تتجمع لدى مؤسسات التبشير ميزانيات قد تفوق ميزانيات دول ذات وزن. ويتلقى المبشرون أيضاً دعماً مماثلاً من كل السلطات الاستعمارية والمؤسسات التبشيرية إذ تغدق عليهم المرتبات الضخمة منها، وتعطى لهم كل إمكانات التفرغ للبحث والمتابعة. ثم تتلقى ما ينتجونه من أعمال تلقي الصادي المتلفه. فتكافئهم عليه وتعمل على نشره وتوزيعه توزيعاً واسعاً، وإحاطته بكل دعايات التمجيد والإكبار، وتدفع بالمنتجين إلى مراكز الصدارة العلمية بين العلماء الباحثين، وقد يكونون من القماءة والضآلة بحال لا يستحقون معها إلا أن يكونوا خاملي الذكر قابعين في زوايا الإهمال، إلا أن القوى المساندة المساعدة هي التي رفعتهم وأشادت بهم. وفي مقابل ذلك تجد السلطات الاستعمارية لها سنداً مقنَّعاً عند كل من جناحي المستشرقين والمبششرين، ففي المراكز التبشيرية مكاتب استخبارات تزود السلطات الاستعمارية بالمعلومات المطلوبة. وفيها أيضاً مكاتب دس لتصدير الإشاعات وتصيد الأجراء، وشراء الضمائر والذمم، وقد يكون فيها مرابض قوى مادية تستعمل عند اشتداد الأزمات على السلطات الاستعمارية، وأجهزة خاصة لتقديم التقارير والتوصيات. كما أن المستشرقين يقومون بإعداد ما يلزم من تقارير ونصائح تستفيد منها السلطات الاستعمارية فوائد جمة، وتعمل بوحيها وإشاراتها. * * *

الفصل الثاني خلاصة وتوجيه للمسلمين

الفصْل الثاني خلاَصَة وتوجيه لِلمسْلمين :1- مقدمة. 2- العناصر الغازية. 3- نتائج حققها الغزاة. 4- خطوات العودة الحميدة.

(1) مقدمة

(1) مقدمة بعد امتحان الغزو المادي المسلح الخائب الذي قام به الغزاة ضد الإسلام والمسلمين، استطاعوا أن يصلوا إلى خطة غزو جديدة ذات شطرين الشطر الأول منهما: خطة غزو هدفها امتلاك نفوس أبناء المسلمين وأجيالهم الناشئة بالشهوات ومرضيات الأهواء والنزعات. وقد وضع الغزاة تفصيلات واسعة جداً لتنفيذ هذه الخطة وصيد أبناء المسلمين وبناتهم بها داخل البلاد الإسلامية وخارجها حينما يذهب هؤلاء إلى بلاد الغزاة زائرين أو دارسين أو أصحاب مصالح. الشطر الثاني منهما: خطة غزوٍ هدفها السيطرة على عقول أبناء المسلمين وأجيالهم الناشئة بالأفكار وأنواع الثقافات التي يراد لها أن تحل محل المفاهيم الإسلامية الأصيلة. ولا بد أن تكون هذه الأفكار وأنواع الثقافات بعيدة عن العلوم المادية البحتة والتكنولوجيا، لأن هذه العلوم لا بد أن تخضع للتجربة المادية ولا بد أن تمتحن بنتائجها. فإذا كانت مزيفة فلا بد أن يظهر زيفها بسرعة لدى فشلها في تقديم نتائجها المرجوة منها، على أن هذه لا تمس المفاهيم الإسلامية الصحيحة. إذن فالأفكار والثقافات الغازية ينبغي أن تكون مما يمس المفاهيم الإسلامية التي هي الحصن الأعظم الجامع للشعوب الإسلامية والحامي لها. وينبغي أيضاً أن تهيأ لها الظروف الملائمة والوسائل الكافية لتزاحم المفاهيم الإسلامية ثم تبعدها وتحل محلها. وعندئذٍ يظفر العدو بتحقيق كامل خطته

بسهولة ويسر. فإن لم يتيسر له ذلك، فلا أقل من أن تسلك الأفكار والثقافات الغازية طريقاً ولو طويلاً ومتعرجاً يمكن أن ينتهي في آخر مسيرة الغزو إلى مزاحمة المفاهيم الإسلامية وإبعادها واحتلال محلها. فماذا عسى أن تكون ميادين هذه الأفكار والثقافات الغازية؟ إنها لا بد أن تكون ميادين لقسمين من العلوم: القسم الأول: العلوم المتصلة بفلسفة الوجود ونشأته والغاية منه ومصير الحياة ومصير الإنسان بعد هذه الحياة. لأن هذه العلوم أو بالأ؛ رى ما يسمى علوماً من أفكار لا سند لها من علم أو تجربة هي التي يمكن أن تمس كبريات العقائد الإسلامية. إذ معظم المفاهيم الإسلامية النظرية الجذرية تدور في هذا الفلك. وفي هذا القسم تدخل علوم الفلسفة ونشأة الكون ونشأة الحياة وأصل الإنسان والتطور وما إلى ذلك من بحوث. القسم الثاني: العلوم المتصلة بسلوك الإنسان في هذه الحياة، فرداً كان أو جماعة، لأن معظم المفاهيم الإسلامية العملية تدور في هذا الفلك. وفي هذا القسم تدخل جملة من العلوم كعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم الأخلاق وعلم الاقتصاد وعلم السياسة والفنون الجمالية المختلفة وبعض النظريات التي ليس لها نتائج عملية من نظريات العلوم المادية البحتة. فمن شأن هذه العلوم - إذا صيغت ضمن نظريات مزخرفة وأحيطت بهالة من التقديس العلمي المزور - أن تكون قادرة على غزو عقول الأجيال الناشئة من أبناء المسلمين وبناتهم، لا سيما إذا جاءت مقترنة ببعض الحقائق الظاهرة الخاضعة للتجربة والملاحظة، والتي ليس في إمكان الإنسان أن يزورها، والتي تقدم برهان صدقها من نتائجها المادية الظاهرة. إذن فليكن عبور خطة الغزو الفكري أو الغزو الثقافي ضمن هذين الفلكين الثقافيين.

(2) العناصر الغازية

وهنا قامت في وجه الغزاة أسوار العلوم الإسلامية الرصينة وحصون النصوص الإسلامية الحصينة وأمجاد تاريخ المسلمين الناصع في جملته. (2) العناصر الغازية وبعد البحث والتأمل والاختبار والتجربة والملاحظة وتقويم النتائج رأى الغزاة أن يهاجموا هذه الأسوار والحصون بخطة ماكرة جداً، تشتمل على عناصر كثيرة جداً منها العناصر التالية: العنصر الأول: إثارة الشبهات حول المبادئ والمفاهيم الإسلامية، وإثارة الشبهات حول النصوص المشتملة في مضمونها على هذه المبادئ والمفاهيم، وبعد العناء الطويل لم يظفروا من ذلك بطائل كبير يذكر، أو يستطيع التأثير في العقول النيرة الواعية البصيرة، وقام الباحثون من المسلمين يفندون هذه الشبهات، ويكشفون حقيقة الإسلام الناصعة. العنصر الثاني: تشويه المفاهيم الإسلامية، بدس أفكار غير إسلامية في أصلها، ثم يجعل بعض المسلمين يأخذونها على أنها من الإسلام، ثم بحاربة الإسلام بها. إن الغزاة في هذا يحاولون أن يقذفوا فينا الوباء بدسائسهم ليوجهوا لنا النقذ اللاذع بعد ذلك، وليقولوا لنا: أنتم موبوءون، وما كان فينا هذا الوباء الذي ينتقدوننا به إلا بأسباب من دسائسهم. العنصر الثالث: تجهيل المسلمين بإسلامهم، أو صرفهم عن تفهمه تفهماً صحيحاً بدسائس كثيرة ومكايد خطيرة، وللعملاء والأجراء، والمخدوعين بهم دور كبير وخطير في حمل هذه الدسائس، وتنفيذ هذه المكايد. والغرض من هذا التجهيل أن تكون عقول المسلمين ونفوسهم وقلوبهم مستعدة بفراغها لتقبل ما تمليه عليهم خطة الغزو. وفي تنفيذ خطة التجهيل هذه يحاربون كل نشاط تعليمي صحيح مشرق

منير، هدفه تعليم العلوم الإسلامية الحقة، وفق الأساليب المعاصرة، ووفق الصور السليمة المقنعة القادرة على الصمود والثبات، ضدّ كلّ أنواع الغزو الثقافي الماكر. وهذه المحاربة تتخذ طريقين: طريقاً تنتهي بإلغاء مواد تعليمية قادرة على التبصير الصحيح للأجيال الناشئة، مع اصطناع المبررات المزيفة لذلك. وطريقاً تنتهي بتعقيد المعارف الإسلامية، وجعلها في وضع عقيم الإنتاج، غير صالح لمسايرة معارف العصر، ومناهضة الثقافة الغازية، ولهذه الطريق نتيجة أخرى هم يرجونها، ألا وهي تنفير الأجيال الناشئة تفي البلاد الإسلامية من العلوم الإسلامية. مع العلم بأن المعارف الإسلامية والمفاهيم الإسلامية لو صيغت صياغة مسايرة لأساليب التعليم الحديث، مع احتفاظها بمضمونها الحق، قادرة على أن تكون هي الغازية حقاً، لأنها في مستوى القمة، بالنسبة إلى الميادين التي عالجتها في المفاهيم الكبرى والصغرى، وفي تحديد كمال السلوك الإنساني، الذي يحقق أرقى مستوى من السعادة التي يمكن تحقيقها في ظروف هذه الحياة الدنيا للفرد وللجماعة. العنصر الرابع: تشويه واقع تاريخ المسلمين تشويهاً يجعل المسلمين يفقدون مشاعرهم بأمجادهم، وينظرون إلى تاريخهم نظرات استهانة ونقد، مع أن في تاريخهم العظيم ما ليس في تاريخ أية أمة من الأمم، علماً وحضارة وإنسانية مثالية ومجداً كبيراً. العنصر الخامس: محاولة إقامة حجب وعقبات كثيرة بين أبناء المسلمين وبين العلوم المادية البحتة العالية والعلوم التكنولوجية الكبرى، لإقامة حاجز بينهم وبين مياادين القوة المادية الحقيقية، ثم شغلهم بسيول هائلة من العلوم الأخرى التي تشتمل على الأفكار والثقافات الغازية، والإيحاء لهم بأن الاشتغال بها هو طريق التقدم العلمي الصحيح للارتقاء الحضاري. العنصر السادس: قيادة حركة التعليم العالية خطة ومناهج

ومضامين وعناصر عمل وتنفيذ، ثم القبض على نواصي وثائق المعرفة وصكوكها الورقية التي ترتبط بها الألقاب العلمية، وكراسي التعليم في كل معاهد التعليم وجامعاته. وكان من ضمن المعارف التي زحف الغزاة إلى قيادة التعليم فيها لمنح أعلى الوثائق فيها العلوم الإسلامية والعربية، لاستقدام أبناء المسلمين إلا بلادهم واستدراجهم إلى شبكة الصيد التي نصبوها لهم، بغية أن ينفذوا خطتهم العامة عن طريق من يستطيعون تصيده من هؤلاء الأبناء، ومتى تولى قيادة العلوم الإسلامية والعلوم العربية الخادمة لها، حملة ألقاب عليا مطبوعون بخاتم العدو مرصوصون في قالبه، فإن خطة الغزو تكون أكثر إحكاماً وأعظم نفاذاً. ويخرج زمرٌ من أبناء المسلمين إليهم، فيسقط من يسقط منهم في حبائل الفكر والثقافات المدسوسة المزيفة، ويسقط من يسقط منهم في حبائل الشهوات والمطامع، ومرضيات الأهواء والنزغات، وينجو من ينجو منهم بفضل الله وعصمته، إلا أنه كما ينجو من الحريق من يدخل النار وهو يلبس الألبسة الواقية، أو كما ينجو من الغرق من يتوغل سابحاً في عباب البحر الهائج. وهنا نقول: إن أخذ هذه العلوم الإسلامية والعلوم العربية على أيدي أعداء هذه العلوم - وإن نا فقوا لها وتظاهروا بالإخلاص لها في البحث العلمي - يمثل خطراً عظيماً على الأمة الإسلامية، ويمهد للغزاة سبيل الغزو للإسلام نفسه ولو بعد حين. ولكن ثقتنا بالله أن الله لن يمكنهم من ذلك لأنه تكفل بحفظ كتابه، وإن من حفظ الله أن يتخذ المسلمون الخطط والوسائل اللازمة للحماية. ومن العجيب أن كراسي العلوم الإسلامية في الجامعات العالمية إنما يتولاها في هذه الجامعات من لا يدين بالإسلام، بينما لا يتولى كراسي العلوم النصرانية إلا عالم من علماء النصرانية، ولا يتولى كراسي العلوم اليهودية إلا عالم بالهيودية من علماء اليهود، فماذا فعل المسلمون تجاه واجبهم الذي يقضي عليهم بانتداب علماء من المسلمين يتولون كراسي العلوم الإسلامية في الجامعات العالمية!؟.

(3) نتائج حققها الغزاة

وفتنتنا الكبرى بشهادات الماجستير والدكتوراه، نبهت الغزاة إلى خطة يسلكونها عن طريق هذه الشهادات. جاء في كتاب المشكلة الشرقية "Eastern Problem London 1957-p.149" ما يلي: "لا شك أن المبشرين فيما يتعلق بتخريب وتشويه عقيدة المسلمين قد فشلوا تماماً. ولكن هذه الغاية يمكن الوصول إليها من خلال الجامعات الغربية. فيجب أن تختار طلبة من ذوي الطبائع الضعيفة والشخصية الممزقة والسلوك المنحل من الشرق ولا سيما من البلاد الإسلامية وتمنحهم المنح الدراسية. وحتى تبيع لهم الشهادات بأي سعر، ليكونوا المبشرين المجهولين لنا، لتأسيس السلوك الاجتماعي والسياسي الذي نصبو إليه في البلاد الإسلامية. إن اعتقادي القوي بأن الجامعات الغربية يجب أن تستغل استغلالاً تاماً جنون الشرقيين للدرجات العلمية والشهادات، واستعمال أمثال هؤلاء الطلبة كمبشرين ووعاظ ومدرسين لأهدافنا ومآربنا، باسم تهذيب المسلمين والإسلام". العنصر السابع: تشويه الإسلام بتحريف معانيه ونصوصه، وإخراجها عن مواقع دلالاتها المرادة. (3) نتائج حققها الغزاة ووقع المسلمون من جراء أعمال الغزاة، وبأسباب من أنفسهم، في أمراض وانحرافات، يجب عليهم أن يتخلصوا منها، حتى يستعديوا مجدهم في العالم، ويحتلوا مراكز القيادة الحضارية المثلى. ومن هذه الأمراض والانحرافات ما يلي: 1- مفاهيم غير صحيحة، مسيطرة على أفكار كثيرين منهم، منها مستحدث، ومنها موروث من عصور الانحطاط.

2- الانبهار بظواهر الحضارة المادية الحديثة، وهذا الانبهار يسوق إلى التقليد الأعمى، الذي تغدو فيه القوى الفكرية والنفسية والإرادية معطلة مشلولة، وتغدو فيه القوى الجسدية المختلفة مندفعة اندفاعاً أرعن وراء جهة الانبهار. 3- التخلف العلمي والعملي عما يجب أن يكونوا عليه، والسابقين إليه قبل كل سابق من أمم الأرض، بموجب قوة الدفع الحضاري الموجود في تعاليم الإسلام وتوجيهاته ووصاياه. 4- تلقي الضربات المتتاليات من قبل أعدائهم وأعداء دينهم، الطامعين ببلادهم والعاملين على إخراجهم من دينهم وأخلاقهم الإسلامية، وتفتيت وحدتهم الكبرى إلى أجزاء صغرى لا كيان لها ولا وزن لها بين أمم الأرض. ومن شأن هذه الضربات المتتاليات أن ترسم في النفوس الضعيفة صوراً من اليأس والقنوط، وترسم في النفوس القوية صوراً من الأمل والرغبة بالتنافس والتحدي، ولكن هجر عامة المسلمين لإسلامهم أضعف نفوسهم. 5- تأثر معظم طلائع الأجيال الحديثة بحملات الغزو الفكري والنفسي والاجتماعي والسياسي والسلوكي الذي غزانا به أعداء الإسلام من مختلف الأشكال والأجناس والألوان. وبعض هذا الغزو قد جاءت حملاته إلينا، وبعض هذا الغزو قد حُمل أبناؤنا إليه. 6- تخلي معظم المسلمين عن التطبيقات الإسلامية، وارتداد كثيرين من أبناء المسلمين عن العقيدة والمفاهيم الإسلامية ارتداداً كلياً. 7- انتشار الجهل بالمفاهيم والتعاليم الإسلامية الصحيحة، وانشغال النفوس والأفكار بمطالب الأجساد والشهوات والأهواء.

(4) خطوات العمل الحميدة

(4) خطوات العمل الحميدة والعمل للإسلام الحق يتطلب من طلائع الوعي الإسلامية حركة فعالة متزنة تتسم بطول الصبر وسعة الصدر وعدم استعجال النتائج والتخطيط للأمد البعيد بفكر عميق مستفيد من تجارب الماضي وعظاته، لتقف بقوة وثبات بعيدين عن الثورات الانفعالية الآنية في المواجهة المضادة لأعمال الغزو وفي البناء الإيجابي الفعال للفكر الإسلامية وللأمة المسلمة الصحيحة. ولهذه الحركة الإسلامية أن تستفيد من خطة العمل التالي: 1- ينطلق العمل الإسلامي بالاعتماد على عنصرين رئيسين من عناصر العمل الفعالة المنتجة بهدوء واتزان ودأب: العنصر الأول: مثقفون ثقافة إسلامية واعية متسمة بعمق التفكير وسعة الأفق ورحابة الصدر وقوة الحجة والفاعلية الدائبة. العنصر الثاني: جمهور من الملتزمين بالإسلام عقيدة وعملاً، الغيورين عليه، المتحمسين للاضطلاع بمسؤولياتهم نحوه، أياً كانت مجالات عملهم في اكتساب الرزق، مع زاد مناسب من الثقافة الإسلامية. 2- منهاج العمل: لإعداد عنصري العمل السابقين يمكن رسم بعض الخطوات الرئيسة دون الدخول في التفاصيل. الخطوة الأولى: الانطلاق إلى العمل، وتتم هذه الخطوة بإحدى وسيلتين: أ- إما باندفاع نواة أولى صالحة للاستقطاب، مزودة بكفاءة طيبة للعمل ومعرفة إسلامية واسعة وأخلاق قيادية حكيمة. ب- وإما بتجميع نخبة ممتازة من الباحثين الإسلاميين، ليصدر عنهم مجتمعين الانطلاق إلى العمل، مع التخفيف من مشكلات القيادات الجماعية ما أمكن.

الخطوة الثانية: وضع ميثاق إسلامي عام، يمكن أن يلتقي عليه معظم المسلمين وأن يلتزموا به، ومن طبيعة هذا الميثاق أن يكون بعيداً عن إثارة كل النقاط الخلافية الفرعية. الخطوة الثالثة: وضع منهاج التثقيف الإسلامي العام، باختيار البحوث الإسلامية التي يحتاج إليها المسلم المعاصر. ويتم وضع هذا المنهاج، ثم تؤخذ الموافقة عليه من قبل علماء المسلمين الموثوقين المنبثين في الأقطار الإسلامية. الخطوة الرابعة: إعداد المصنفات الإسلامية الحديثة، أو انتقاء المناسب منها، على أن تتناول بالبحث الموضوعات المقررة للتثقيف الإسلامي العام، وتصدر هذه المصنفات بعد الموافقة على إصدارها من قبل عدد من علماء المسلمين الموثوقين في الأقطار الإسلامية. وينبغي أن تتفادى هذه المصنفات عناصر الخلافات المذهبية العنيفة، ما لم تتصل بجوهر العقيدة الأساسية. وينبغي أيضاً أن تكون هذه المصنفات ذات مستويين أو أكثر، مستوى ابتدائ يُعدّ لتثقيف الجماهير المسلمة بالثقافات الإسلامية المطلوبة، ومستوى متوسط ثم مستوى آخر عال، لتثقيف زمرة العنصر الأول بالثقافات الإسلامية التفصيلية، المدعمة بالحجج والبراهين المقنعة. الخطوة الخامسة: إعداد جيش المثقفين ثقافة إسلامية راقية، مقرونة بوعي والتزام واتزان. ويجب أن تكون دوائر التثقيف الإسلامي الراقي في حالة اتساع مستمر، ومن بين هذا الجيش المثقف بالثقافة الإسلامية الراقية تتفجر القيادة الحكيمة الرزينة، الحريصة على متابعة الجهد التثقيفي، والعمل للإسلام بغيرة وإخلاص. الخطوة السادسة: التوعية الإسلامية العامة، بمستويات تتناسب مع حال الجماهير المختلفة، مع التربية الحكيمة على الالتزام بالتطبيق الدقيق للأحكام

والأخلاق الإسلامية، دون شدة أو عنف في بعض الفروع الشكلية البحتة. ويدخل في هذه الخطوة تكليف كل مثقف إسلامي - سواء أكان من زمرة العنصر الأول أو من زمرة العنصر الثاني - نقل ما تزود به من معرفة إسلامية، ونقل ما التزم به من سلوك إسلامي إلى غيره، عن طريق الدعوة، أو التأثير بالقدوة الحسنة، وذلك ضمن برنامج تفصيلي محدد، يفرض على كل عامل وظيفة يومية يباشرها في ميدان التثقيف والتوعية الإسلامية. ويجب أن يكون التثقيف بالأساليب المؤثرة، التي لا تثير عصبيات الآخرين، ولا تحرضهم على الاستمساك بالباطل والإصرار عليه، وسلوك مسلك العناد والمخالفة. ومن أمثلة الأساليب الرفيعة المؤثرة، الاستدراج إلى الإقرار بالفكرة، بعد وضع هالة حولها من الحجج الخفية والبراهين غير المباشرة، وذلك قبل الإعلان التام عنها، فبهذا الأسلوب يظن الآخر أنه هو صاحب الفكرة ومبتكرها، فيستمسك بها، ومن الأساليب أيضاً أن يهدي حامل رسالة التوعية صديقاً أو زميلاً له كتاباً إسلامياً، يشعره بأنه اطلع عليه وأعجب به، أو يضعه بين يديه ليقرأه ويبدي فيه رأيه بعد فترة كافية لقراءته، مع متابعته برفق، واستنجازه قراءته برقة متناهية. الخطوة السابعة: تبريد حرارة الخلافات المذهبية، والعمل على تقريب وجهات النظر بطريق لا جدال فيها ولا مشاحنات، مهما دعا الانفعال إلى ذلك. وطريق تبريد حرارة الخلافات المذهبية البث العارض، أو الكتابات المتسمة بالاعتدال والرفق واللين، وتكريم كل جهة من جهات الخلاف، وعرض الحق مقترناً بالدليل، دون إبراز صورة التعصب له. الخطوة الثامنة: فضح دسائس أعداء الإسلام الفكرية والعملية بين المسلمين، وإبراز الصورة الإسلامية المشرقة الحقة، بكل وسيلة من وسائل الإعلام والتنوير العام.

واتخاذ الوسائل الكفيلة بحماية أبناء المسلمين حماية تامة من المواطن التي تكثر فيها شبكات الصيد التي ينصبها الأعداء الغزاة. الخطوة التاسعة: استغلال مختلف المشاعر الإنسانية، لإيقاف المسلمين موقف الحذر في مواجهة كل غزو فكري يمس عقائدهم وعباداتهم وأخلاقم ونظمهم الإسلامية ووحدتهم العالمية. وضرورة هذه الخطوة تظهر حينما نلاحظ افتتان معظم النفوس بالمدنية الحديثة، التي تأتي ومعها المتفجرات السرية لهدم العقائد والأخلاق. الخطوة العاشرة: تجنب أي صراع مباشر مع أية حركة إسلامية مهما كان نوعها، لأن هذا الصراع من ِشأنه أن يبدد طرق طاقات المسلمين تبديداً داخلياً، يسمح لأعداء الإسلام بأن يظفروا بأطراف النزاع، بينما يجب تجميع القوى الإسلامية كلها لتكون في مواجهة أعدائهم الكثيرين. الخطوة الحادية عشر: توجيه قدر كبير من طاقات العمل إلى بلاد الغزاة، لنشر الإسلام الصحيح الصافي فيها، بمختلف وسائل النشر، مع إعطاء صورة سليمة للتطبيق الإسلامي. * * *

خَاتِمَة لا أزعم أنني في هذا السِفّرْ أحصيت كل أنواع المكر التي مكرتها قوى الأجنحة الثلاثة وخوافيها، ولكنني بالتأكيد قد نبهت على معظمها، ووجهت الأنظار إلى الاحتراس منها. ولجأت إلى طريقة التحليل واستخلاص العظة، وبيان ما يجب عمله تجاه القوى المختلفة للأعداء الكثيرين، وإنني واثق من أن الله سينصر أولياءه على أعداء دينه مهما كثرت أعدادهم وعظمت قواتهم، بشرط أن يصدقوا إيماناً وعملاً وجهاداً، ويحققوا في أنفسهم ما يجب عليهم للظفر بالنصر كما أمرهم الله. وكان الفراغ من تنسيقه وتنقيحه في أواخر جمادى الثانية من العام الهجري 1395 الموافق لشهر حزيران من العام الميلادي 1975. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني

§1/1