أثر الدعوة الوهابية في الإصلاح الديني والعمراني في جزيرة العرب وغيرها

محمد حامد الفقي

مقدمة

مقدمة ... بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين. والعاقبة للمتقين. ولا عدوان إلا على الظالمين. والصلاة والسلام الأتمان الأكملان الطيبان الطاهران على سيد الأنبياء وأشرف المرسلين، وأفضل الخلق أجمعين: محمد عبد الله ورسوله، الذي ختم الله به الرسالة، فلا نبي بعده، وختم بكتابه الكتب، فهو المرجع والموئل لكل من طلب الهداية إلى الصراط المستقيم، وجعل شرعته آخر الشرائع وأقومها، لأنها أكملها وأجمعها لكل علم وهدى، وخلق، واعتقاد وعمل يحبه الله تعالى، ويبلغ صاحبه به أعلى الدرجات، وأرفع منازل السعادة والفوز في الدنيا والآخرة، والشقي كل الشقاء من تنكب سبيله، واتخذ إلهه هواه، وعمدته الرأي والاستحسان وحجته ما قال فلان، وما اخترع علان، فإن كل ذلك لا يغني من الحق شيئا، وهو بعد لا ينجي من هول سؤال القبر، وما بعده من مواقف الحساب التي لا ينجي منها إلا القرآن: إيمانا وعلما وعملا والرسول صلى الله عليه وسلم معرفة، وحبا خالصا، وطاعة واتباعا. اللهم اجعلنا بفضلك من أولئك الناجين، وآتنا هذه الحجة القويمة، واجعل لنا منها يوم القيامة نورا بين أيدينا وبأيماننا، وأتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير. "أما بعد" فهذه نبذة لطيفة في بيان حقيقة الدعوة الوهابية، وإمامها وشيعتها وأنصارها، أقدمها في هذه الورقات، راجيا أن أكون قد وفقت

لإزاحة حجب الأوهام والأباطيل، والأخطاء، والأكاذيب عن هذه الدعوة وعن إمامها وشيعتها وأنصارها، حتى يعرفها العالم الإسلامي على حقيقتها، ويروها في لونها الحقيقي مجردة عن الزغل، والغش والخداع وإنما حملني على ذلك، كثرة ما رأيت وما سمعت من تخبط كثير من الناس في شأنها، ما بين مفرط، ومقصر. وإن من شر ما منى به المسلمون الجرأة على إلقاء القول بدون تحقق، ورمي التهم الشنيعة في وجوه الأبرياء بدون تروٍّ ولا تثبت، ولقد غلب هذا الخلق الذميم على بعض المتعلمينٍ حتى أصبحوا يقلدون العامة في كل شائعة، ويطلقون ألسنتهم بما لا يليق من القول على غير علم ولا بصيرة، وبلا تفكير في عاقبة ذلك ونتيجته في الدنيا والآخرة، ولا واقفين عند قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} - وفي قراءةِِ: فتثبتوا- {أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] وقوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [قّ:18] وقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل فيما رواه أحمد والترمذي والنسائي "أمسك عليك لسانك"، فقال: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: "ثكلتك أمك. وهل يَكُبُّ الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم" وقوله صلى الله عليه وسلم "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرقين" رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة. أسال الله العافية من كل هذا، وأن يقينا شر أنفسنا وسيئات أعمالنا، ويجعلنا بمنه وكرمه من المؤمنين المخلصين الفائزين في الدنيا والآخرة.

وأن يوفق المسلمين جميعا ملوكا وأمراء، وزعماء، وقادة، وعلماء، وعامة في مشارق الأرض ومغاربها: إلى توحيد كلمتهم، وربط قلوبهم برباط الإيمان الخالص، والتوحيد النقي الصافي، وأن يعيذهم من كل أنواع الشرك وعمله ومن كل ما يقرب إلى النار. وإنما أتاح لي هذه الفرصة، ومهد لي في نشر هذه الكلمة: أن تحطمت عن القلوب قيود التقليد الأعمى والعصبية، وخلصت الأفكار إلى جو البحث الصحيح في سرور واطمئنان، حين ألقيت مقاليد الرياسة الدينية إلى رجل العصر، ومقيل العلم من كبوته، قوي القلب والنفس، ماضي العزيمة، صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي، شيخ الأزهر الحالي، أطال الله أيام رياسته، ليحقق للأمة آمالا للأزهر والإسلام تعيد إليهما عزهما المسلوب وشرفهما المضيع، وليتضح للناس نور الهداية الإسلامية في ظل نصير العلم والدين، الناهض بأمته إلى أعلى درجات الإنسانية الكاملة، صاحب الجلالة ملك مصر المفدى، الملك فؤاد الأول، أدام الله نصره وتأييده صالحا مصلحا، وخادماً للإسلام أمينا، وأقر عين جلالته بولي عهده صاحب السمو الملكي أمير الصعيد الأمير فاروق. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وصحبه الخيرة الأبرار، وآل بيته الطيبين الأطهار. القاهرة في العاشر من ذي القعدة سنة 1354. وكتبه محمد حامد الفقي رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية بالقطر المصري

مدخل

مدخل ... 1- الوهابية: نسبة إلى الإمام المصلح، شيخ الإسلام، محمد بن عبد الوهاب مجدد القرن الثاني عشر، وهي نسبة على غير القياس العربي فلقد كان الصحيح أن يقال: "المحمدية" إذ أن اسم صاحب هذه الدعوة، والقائم بها هو "محمد" لا "عبد الوهاب" على أننا نتجاوز عن هذا الخطأ العربي، ونماشي العامة الآن، لننظر كيف، ولماذا أطلق هذا اللقب على هذه الدعوة، والقائمين بها؟ علّنا نقف بالقارئ على بعض السر الذي دعا إلى استعماله، ثم إلى شيوعه في الأقطار العربية وغيرها، إلا نجدا، وما يتصل بها. فإن من أعجب العجب أنك لا تجد لهذا اللقب أثرا فيها، ولا عند النجديين النازحين عنها إلى غيرها للتجارة، أو الإقامة والاستيطان، لا بل الأعجب من هذا أنهم يستنكرون ذلك ممن يخاطبهم به، أو ينسبهم إليه وأنهم جميعا من ملكهم، وأمرائهم، ومشايخهم- الذين أكثرهم من آل الشيخ محمد، وتجارهم وعامتهم يطلقون على أنفسهم، من حيث الوطن والقطر "نجديين" ومن حيث المذهب والعقيدة "حنابلة". 2- وإنهم لحنابلة متعصبون لمذهب الإمام أحمد في فروعه، ككل أتباع المذاهب الأخرى، فهم لا يدّعون – لا بالقول، ولا بالكتابة-: أن الشيخ ابن عبد الوهاب أتى بمذهب جديد، ولا اخترع علما غير ما كان عند السلف الصالح، وإنما كان عمله وجهاده لإحياء العمل بالدين الصحيح، وإرجاع الناس إلى ما قرره القرآن في توحيد الآلهية والعبادة لله وحده: ذلاً وخضوعا، ودعاء ونذرا، وحلفا وتوكلا، وطاعة لشرائعه، وفي توحيد الأسماء والصفات، فيؤمن بآياتها كما وردت، لا يحرف ولا يؤول، ولا

يشبه ولا يمثل، على ما ورد في لفظ القرآن العربي المبين وما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه الصحابة وتابعوهم والأئمة المهتدون من السلف والخلف رضوان الله عليهم في كل ذلك، وأن تحقيق شهادة "أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" لا يتم على وجهه الصحيح إلا بهذا. 3- اجلس إلى أي نجدي في أي مكان يكون. مهما كان مركزه، ومهما بلغت معلوماته: من الملك إلى أقل تاجر، ومن شيخ القضاة إلى أبسط عامي، فإنك لا تكاد تجلس إليه حتى يبدأ في الحديث عن الشيخ محمد، وعن مؤلفات الشيخ محمد، وجهاد الشيخ محمد، وما قام به من إصلاح، وما أنقذ الناس به من الشرك والوثنية إلى التوحيد والهداية الإسلامية. وهم في كل هذا لا يجري على ألسنتهم إلا "شيخ الإسلام محمد" أو "الشيخ" فقط، أو "آل الشيخ" وقَل أن تسمع باسم والده "عبد الوهاب". 4- من هذا نعلم أن منبت هذا اللقب وشيوعه كان ولا بد بعيداً عن البيئات والأوساط النجدية قديما وحديثا 5- إذن فمن أين نشأ هذا اللقب. وأين نبت، وكيف شاع هذا الشيوع؟ 6 - يغلب على ظني أنه نشأ في الأقطار والأوساط التي كانت تبذل أقصى جهدها لحرب هذه الدعوة والقضاء عليها، في أيام حروبها الأولى، حين كان الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، وحين كان ولده سعود الكبير ينشران من جناحي هذه الدعوة، ويبسطان من نفوذها على الجزيرة وما حولها، إلى أطراف العراق والشام. كما سيجئ بيان ذلك إن شاء الله.

7- فبدهي أنه كان من أعظم الأسلحة، وأنكى ما يستخدمه قادة هذه الحروب والمضرمون لنارها: الدعاية السياسية بالصاق أشنع التهم، وأقبح الجرائم زورا وبهتانا- بمؤسسها وشيعته فلو أنهم أطلقوا عليها "المحمدية" لكان ذلك لقبا جميلا مشوقا. فعمدوا إلى إطلاق لقب "وهابي" لتنفير الناس من هذه الجماعة، وتشويه سمعتهم الطيبة، حتى يكثر أعداؤهم، ويقل أنصارهم وبذلك يظفر أولئك المحاربون بهم، ويتقلص ظل دعوتهم التي بهرت بجمالها عقول الناس، وأخذت تمتد بسرعة عظيمة، حتى أصبح لها من الاتباع والأنصار من لا يحصون كثرة. وكانوا في القوة بحيث هزموا جيوش الدولة العثمانية العظيمة في مواقع عدة. وما زالوا بها حتى أزالوا سلطانها عن الحرمين الشريفين. 8 - والسر في هذا الامتداد، وهذه القوة يرجع إلى جمال هذه الدعوة، وبساطتها، وأنها في غير حاجة إلى أدلة جديدة ولا براهين مخترعة، فإنها تعتمد على صريح القرآن الكريم وصحيح السنة النبوية الكريمة. والقرآن بين أظهر الناس –محفوظا ومكتوبا- قائم بحمد الله لم يذهب، ولكن العقول هي التي ذهبت عنه، فحين وُجهت إليه توجهت، وحين كشف لها عن نوره أقبلت عليه تقتبس منه الهداية والرحمة. 9- وكان من أهم ما خدم به الشيخ ابن عبد الوهاب الناس: أن رفع عن قلوبهم غشاوة الجهل، وكابوس التقليد الأعمى لكل ناعق على غير هدى ولا بصيرة. 10 - فحارب الأمية بكل ما استطاع من قوة، وكان يلزم كل أتباعه

تعلم القراءة والكتابة مهما كانت سنه، ومهما كانت منزلته، حتى كان الأمراء يقرؤون مثل بقية الناس. فصار منهم العلماء المدرسون كالإمام سعود الكبير، فإنه كان له درس يلقيه في التوحيد، فوق أعمال الإمارة. 11 - وكان تعليمه إياهم الكتابة في القرآن وحفظه، كما يصنع مع صبية المكاتب، ثم وضع الرسائل السهلة العبارة، القريبة إلى عقول البسطاء في بيان التوحيد وما يحققه ويقويه، وما يهدمه وينقضه: من الاعتقاد والقول والعمل، وكان كل اعتماده في مؤلفاته- في الرسائل الصغيرة، والكتب الكبيرة، في عقيدة التوحيد وغيرها-: على الكتاب العزيز والسنة الصحيحة، وكان يلزم الناس أن يحفظوا القرآن ثم يطالعوا هذه الرسائل ويحفظوها، فكان ذلك من أقوى الأسباب لانتشار هذه الدعوة وسرعة انتقالها إلى ما وصلت إليه من بقاع الأرض، وذلك طبعا كان يستند إلى سيف آل سعود ونصرتهم. 12 - وإني أسوق إليك نبذا بسيطة من كلام الشيخ رحمه الله لترى فيها تلك الروح القوية والطريقة البسيطة السهلة التي كانت من أنجع الطرق في نشر التوحيد الصحيح. 13 - إذ يقول في رسالة الثلاثة الأصول: "اعلم رحمك الله أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل"الأولى" العلم وهو معرفة الله، ومعرفة نبيه، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة "الثانية" العمل به "الثالثة" الدعوة إليه "الرابعة" الصبر على الأذى فيه. والدليل قوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {وَالْعَصْر إِنَّ الْإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ

آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3] إلى أن قال: "اعلم أرشدك الله لطاعته أن الحنيفية ملة إبراهيم: أن تعبد الله وحده مخلصا له الدين. وبذلك أمر الله جميع الناس. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ومعنى "يعبدوني" يوحدوني. وأعظم ما أمر الله به التوحيد، وهو إفراد الله بالعبادة. وأعظم ما نهى عنه الشرك، وهو دعوة غير الله معه. والدليل قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء: 36] فإذا قيل لك: ما الأصول التي يجب على الإنسان معرفتها؟ فقل: معرفة العبد ربه، ودينه، ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم- إلى أن قال: وأنواع العبادة التي أمر الله بها: مثل الإسلام، والإيمان، والإحسان. ومنه الدعاء والخوف والرجاء، والتوكل، والرغبة، والرهبة، والخشوع، والخشية، والإنابة، والاستعانة، والاستعاذة، والاستغاثة، والذبح، والنذر، وغير ذلك من العبادة التي أمر الله بها، كلها لله" 14 - ثم ساق الأدلة من القرآن والسنة على كل نوع من هذه الأنواع، ثم بين الأصلين الآخرين: معرفة حقيقة الإسلام، ثم معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بنبذة لطيفة، تصور النبي صلى الله عليه وسلم عند العامي صورة تملأ نفسه بحبه وتعظيمه وطاعته، وهذه الرسالة يحرص عليها أهل نجد جد الحرص، ولا تلقى نجديا كبيرا ولا صغيرا إلا وهو يحفظها عن ظهر قلب, ومن النقص الكبير عدم حفظها 15 - وقال الشيخ في رسالة القواعد الأربعة "اعلم أن العبادة لا تسمى عبادة إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تسمى صلاة إلا مع الطهارة فإذا دخل

الشرك في العبادة فسدت، كالحدث إذا دخل في الطهارة. فإذا عرفت أن الشرك إذا خالط العبادة أفسدها وأحبط العمل، وصار صاحبه من الخالدين في النار عرفت أن أهم ما عليك هو معرفة ذلك، لعل الله أن يخلصك من هذه الشبكة. وذلك بمعرفة أربع قواعد، ذكرها الله في كتابه: "الأولى" أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مقرين بأن الله تعالى هو الخالق الرزاق المدبر، وأن ذلك لم يدخلهم في الإسلام – ثم ساق الدليل على ذلك من القرآن "القاعدة الثانية" أنهم يقولون: ما دعوناهم وتوجهنا إليهم إلا لطلب القربة والشفاعة عند الله، ثم ذكر الدليل على كل من الشفاعة والتقرب من آيات القرآن "القاعدة الثالثة" أن النبي صلى الله عليه وسلم ظهر على أناس متفرقين في عباداتهم: منهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الأنبياء والصالحين. ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار. ومنهم من يعبد الشمس والقمر. فقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفرق بينهم، ثم ساق الدليل أيضا على ذلك من القرآن الكريم "القاعدة الرابعة" أن مشركي زماننا أغلظ شركا من الأولين، لأن الأولين كانوا يشركون في الرخاء، ويخلصون في الشدة ومشركو زماننا شركهم دائم في الرخاء والشدة. والدليل قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65] "الأصل الأول" إخلاص الدين لله تعالى وحده لا شريك له، وبيان ضده الذي هو الشرك بالله، وكون أكثر القرآن في بيان هذا الأصل من وجوه شتى بكلام يفهمه أبلد العامة، ثم صار على أكثر الأمة ما صار: أظهر الشيطان الإخلاص في صورة تنقص الصالحين والتقصير في

حقوقهم. وأظهر لهم الشرك بالله في صورة محبة الصالحين وأتباعهم "الأصل الثاني" أمر الله بالاجتماع في الدين، ونهى عن التفرق، وبين الله هذا بيانا شافيا تفهمه العوام، ونهانا أن نكون كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم، فهلكوا، ويزيده وضوحا ما وردت به السنة في ذلك، ثم صار الأمر بالناس إلى أن أصبح الافتراق في الدين هو أهدى السبل إلى الله، وأعظمها عنده ثوابا، وصار الأمر بالرجوع إلى الكتاب والسنة والاجتماع على ذلك لا يقوله إلا زنديق أو مجنون. "الأصل الثالث" من تمام الاجتماع: السمع والطاعة لمن تأمر علينا ولو كان عبدا حبشيا، فبين النبي صلى الله عليه وسلم هذا بكل نوع من البيان شرعا وقدرا، ثم صار هذا الأمر مجهولا عند أكثر من يدعي العلم، فكيف العمل به؟ "الأصل الرابع" بيان العلم والعلماء، والفقه والفقهاء، وبيان من تشبه بهم، وليس منهم، وقد بين الله تعالى هذا الأصل بحكاية ما كان عليه بنو إسرائيل في صورة التشنيع والتوبيخ في أول سورة البقرة من قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40] إلى الآية 133، وغير هذا من الآيات في ذم الجهل والجهلاء، ومدح العلم والعلماء، وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بكلام كثير في ذلك يفهمه العامي البليد، فضلا عن أهل العلم، ثم صار هذا من أغرب الأشياء، وصار العلم والفقه هو البدع والضلالات والآراء

والاختلافات، وخيار ما عندهم لَبس الحق بالباطل، وصار العلم الذي فرضه الله على الخلق ومدحه وأثنى على أهله، وهو معرفة الله بأسمائه وصفاته وحقوقه الخالصة، ومعرفة دينه، وأنبيائه، ورسله وثوابه، وعقابه وجنته، وناره، لا يتفوه به إلا من يصفونه بأنه زنديق أو مجنون، وصار كل من أنكره وعاداه وصنف في التحذير منه هو العالم الفقيه. "الأصل الخامس" بيان الله سبحانه وتعالى لأوليائه. وتفريقه بينهم وبين المتشبهين بهم من أعداء الله المنافقين والفجار، ويكفي في هذا آيات آل عمران: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] وفي سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 54، 55] وفي سورة يونس: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] . ثم صار الأمر عند أكثر من يدعي العلم وهداية الخلق وحفظ الشرع: أن الأولياء لا يكونون إلا من المهابيل والمجاذيب، التاركين للصلاة، المضيعين لحدود الله، ومن كان على شاكلتهم من الطبَّالين والزمارين، والرقاصين الذين اتخذوا آيات الله هزواً، واتخذوا دينهم لعبا ولهواً، واحتفالا بموالد الموتى وأعيادهم الجاهلية مما أصبح معلوما لكل ذي عينين "الأصل السادس" رد السنة السيئة التي وضعها الشيطان في ترك

القرآن والسنة، واتباع الآراء والأهواء المتفرقة المختلفة بدعوى أن القرآن والسنة لا يعرفهما إلا المجتهد المطلق، ثم اخترعوا للمجتهد شروطا وأوصافا لعلها لا توجد في أبي بكر وعمر. وإذا لم يجتمع في الإنسان هذه الأوصاف المستحيلة كان فرضا عليه حتما الإعراض عن القرآن والحديث، وأخذ دينه من المتون والشروح والحواشي، ومن طلب الهدى من القرآن والحديث فهو إما زنديق أو مجنون، سبحانك هذا بهتان عظيم، والأمر برد هذه الشبهة الملعونة، وبيان وجوه ردها لا يكاد يحصى من القرآن الكريم والسنة النبوية، حتى أصبح من ضروريات الدين {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: من الآية26] {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يّس:7-11] 18 -وفي رسالة أخرى يقول الشيخ رحمه الله:- "اعلم أن نواقض الإسلام عشرة "الأول" الشرك في عبادة الله تعالى. قال الله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:116] وقال {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: من الآية72] ومنه الذبح لغير الله كمن يذبح للجن أو للقبر، أو لنحو ذلك "الثاني" من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة

ويستغيث بهم، ويستمد مددهم ويتوكل عليهم "الثالث" من لم يكفر المشركين الذين يفعلون ما تقدم، أو يشك في كفرهم أو صحح مذهبهم. "الرابع" من اعتقد أن هدى غير النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذين يفضلون حكم الطواغيت على حكم الله ورسوله. وقوانين البشر على ما أنزل الله. "الخامس" من أبغض شيئا مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. ولو عمل به. "السادس" من استهزأ بشيء من دين الرسول صلى الله عليه وسلم وما ذكر من ثواب أو عقاب. والدليل قوله تعالى {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ؟ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 66] "السابع" السحر ومنه الصرف والعطف، فمن فعله أو رضي به كفر والدليل قوله تعالى {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة: 102] "الثامن" مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51] "التاسع" من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، للعمل بمنام أو ما يدّعونه من مكاشفة أو غير ذلك. فهو كافر "العاشر" الإعراض عن دين الله تعالى: لا يتعلمه ولا يعمل به. والدليل قوله تعالى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة:22] ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف، إلا المكره

وكلها من أعظم ما يكون خطرا، وأكثر ما يكون وقوعا، فينبغي للمسلم أن يحذرها ويخاف منها على نفسه، نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وصحبه وسلم. 18- وقال في كتاب كشف الشبهات:- "اعلم رحمك الله أن التوحيد هو إفراد الله بالعبادة، وهو دين الرسل الذين أرسلهم إلى عباده، فأولهم نوح عليه السلام، أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين وَدًَّا، وسُواعَ، وَيغُوث، وَيَعُوق، ونَسْرًا. وآخر الرسل محمد صلى الله عليه وسلم وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين أرسله الله إلى قوم يتعبدون، ويحجون، ويتصدقون، ويذكرون الله، ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله، ويقولون: نريد منهم التقرب إلى الله، ونريد شفاعتهم عنده: مثل الملائكة وعيسى وأمه مريم، وأناس غيرهم من الصالحين وغير الصالحين، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم، ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد، وهو محض حق الله، لا يصلح منه شيء لغير الله. 19- ثم أخذ الشيخ يشرح هذه القاعدة ويبسطها بذكر الآيات القرآنية التي فيها حكاية اعتراف المشركين بأن الله هو خالقهم ورازقهم وحده، وأنه سبحانه لم يقبل ذلك منهم حتى يكون مقرونا بتوحيد الالهية الذي هو إفراد العبادة والدعاء، والذبح، والنذر، والحلف لله وحده، وضرب الأمثال لذلك بما عليه أكثر الناس اليوم، وذكر اعتراضاتهم وأجاب عنها واحدا واحدا، بعبارة سهلة لطيفة، قريبة إلى عقل العامي وفكره.

20- ثم وضع كتاب التوحيد أبسط من هذه وأوسع، ذكر فيه أنواع التوحيد بقسميه: توحيد العلم والمعرفة، وتوحيد الإرادة والمحبة والتعظيم والعبادة، وذكر في توحيد الأسماء والصفات جملا قيمة مؤيدة بآيات الذكر الحكيم والأحاديث النبوية والصريحة في استواء الله على عرشه، وعلوه على خلقه وأمثال هذه الصفات على ما يليق به سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] وذكر في هذا الكتاب نواقض التوحيد من السحر، والتمائم وعبادة الجن، وغير ذلك. 21- ثم وضع لبيان أنواع الشرك حتى يحذرها المؤمن-: كتاب مسائل الجاهلية، ذكر فيه مائة وثمانية وعشرين مسألة، مما كان معروفا من أعمال أهل الجاهلية، وهدمه الإسلام، ثم رجع الناس إليه، معرضين عما في القرآن والسنة من آيات التحذير منه، لكنهم أحيوه بأسماء أخرى اخترعتها لهم الشياطين، ليلبسوا عليهم دينهم، ويفتنوهم عن عقيدتهم الصحيحة، التي نزل بها القرآن وشرحها النبي عليه الصلاة والسلام، وغير ذلك من الكتب والرسائل التي كان يبعث بها إلى الأمراء والعلماء، إما ابتداء، وإما جوابا على أسئلة كانوا يوردونها عليه. 22- من هذا يتبين واضحا حقيقة هذه الدعوة، وأنها أولى أن تسمى الدعوة "السلفية المحمدية" لأنها لم تخرج في جملتها وتفصيلها عن الإسلام الصحيح الذي بعث به جميع الأنبياء، وخصوصا خاتمهم وأشرفهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. 23- وإن أهم ما كان يعنى به الشيخ محمد في دعوته هو توحيد الآلهية والعبادة الذي هو حق الله تعالى على عباده شكراً منهم لله سبحانه وتعالى على

ما أنعم عليهم بصفة ربوبيته، فإنه ربهم وحده باعتقادهم وفي الواقع، فالواجب أن يكون هو معبودهم وحده، كما قال {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذريات:56-58] . 24- ولقد خلق الله عباده على الفطرة حنفاء يعرفون ربهم فيعبدونه، فمازالت بهم الشياطين حتى أفسدت عليهم فطرهم بالأهواء والفتن، ووضعت في طريق معرفتهم لله عقبات حجبت عن قلوبهم نور المعرفة الصحيحة، فاتخذوا من دونه أنداداً يحبونهم كحب الله، ويطيعونهم في غير ما أمر الله باسم المشايخ والعلماء، وآلهة يعبدونهم ويدعونهم في شدائدهم، ويلجأون إليهم في مهماتهم، باسم الأولياء، والشفعاء، والوسائط والوسائل من أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، وما عندهم بها من علم {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [لنجم: 28] ولقد لبس عليهم الشياطين حتى زعموا أن هذه الظنون التي يمليها سدنة أولئك الأنداد والأولياء، ويتأكلون منها-: علوما يقينية، وأخبارا حقيقية، يشكون في كل شيء ثبت بالعيان ولا يشكون فيها، وذلك لأن الشياطين قد أفسدت عليهم فطرهم وحجبت بصائرهم بغشاوات من العمه والغي والفساد، فكل ما جاء على خلاف معتقدهم هذا نبذوه، وعادوه، وأبغضوا القائم به، وحاربوه بكل ما عندهم من قوة، ولو قد تبين لهم الحق وقامت عليهم الحجة! فهم محجوبون على عقولهم، لا يقدرون على فكّها من الأغلال والقيود، فلو جاءتهم كل آية لا يؤمنون {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ

يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنعام:25] 25- فوظيفة الرسل صلوات الله تعالى عليهم، ووظيفة أتباعهم السالكين لسبيلهم الوارثين لعلومهم وهديهم، هي كسر هذه الأغلال عن القلوب وإرجاعها إلى حالتها الفطرية، سليمة صافية ترى كل شيء على حقيقته فترى الحق حقا والباطل باطلا، وسلاحهم لذلك ما يوحي الله تعالى من علوم، وما ينزِّل من هداية ورحمة، وما يصف نفسه به من صفات حسنى بأسلوب ونظام يملأ القلوب إجلالا له، وحبا خالصا، ليعبدوه مخلصين له الدين حنفاء. 26- كذلك قام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر الهجري، ومن قبله قام بهذه الوظيفة علماء مخلصون صادقون، ولا تزال في هذه الأمة طائفة قائمة على الحق لا يضرها من خالفها ولا من خذلها حتى يأتي أمر الله، كما أخبر بذلك الرسول الصادق صلى الله عليه وسلم. 27 - ومن أبرز هؤلاء وأظهرهم في القرنين السابع والثامن شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، وتلميذه العلامة ابن القيم رحمهما الله، فإن هذين الإمامين الجليلين قاما في وقتهما بجهاد ما كان مستوليا على الأمة من الجبت الطاغوت، فقام عباد هذه الطواغيت يدفعون عن أنفسهم وعن طواغيتهم بكل ما استطاعوا: تلك الصواعق التي كان يرسلها هذان الإمامان من سماء علمهما، وما زالت الحرب بين حزب الرحمن وحزب الشيطان على أشدها حتى اخترمت المنية شيخ الإسلام ابن تيمية حبيسا في قلعة دمشق التي كانت

تحاول يد الظلم القاسية تقييد علمه، وإطفاء نوره، ولكن الله غالب على أمره، فكان يبعث علمه، من طاقات السجن، وكان التلاميذ، ورواد منهله العذب يجلسون تحتها بمحابرهم وأوراقهم وهو يملي عليهم من حفظه، ثم قام من بعده ذلك التلميذ البار، وخلفه في جهاده حتى ملأوا الدنيا علما، وكبت الله حزب عدوه، وأذلهم في مواطن عدة. 28- وما انقضى القرن الثامن الهجري حتى كان الجو العلمي مكهربا بنظريات ابن تيمية وابن القيم، ولم يستطع حزب الطواغيت أن يحط من قدر هذين المجاهدين، ولا أن يفل من سلاحهما على كثرة ما بذل من أنواع الجهود وما اتخذ من أسباب الأذى. 29- ولقد كان من أضعف سلاحهم: الكذب والافتراء، الدال على نذالة في النفوس وحقارة، وأنه لم يبق عندهم من صفات الرجولة شيء، فقد قالوا عن شيخ الإسلام ابن تيمية: إنه مجسم ومشبه الله بخلقه، إذ قالوا كذباً أنه قال: إن الله ينزل كنزولي هذا –ونزل درجتين من المنبر- كما اتهموه هو وتلميذه ابن القيم بأنهما يحقران عباد الله الصالحين وآل بيت النبي الطاهرين، وينكران كرامات الأولياء المتقين، وقالوا غير ذلك من الأكاذيب والمفتريات التي لا تروج إلا على من فقد كل شيء من الذوق والإحساس، أما من كمله الله بالعقل والتمييز فإنه يرجع إلى كتبهم المنتشرة في كل البلاد، فلا يجد فيها إلا تنزيها لله تعالى بما نزه هو نفسه، وتوضيحا لما في القرآن والسنة النبوية من الأسماء الحسنى والصفات العليا، وصواعق مرسلة على الجهمية والمعطلة، ويرى فيها جموع الجيوش الإسلامية حشدت

لغزو أولئك المعطلة والجهمية، تسمهم بميسم الصغار والهوان، وتقطع لسنتهم الكاذبة، التي تقول على الله وفي الله بالهوى والرأي لا بالعلم والبرهان. 30- ومهما حاول أولئك الطواغيت وعبادهم، زعزعة العقلاء الأحرار، والمفكرين الصادقين عن حب شيخ الإسلام ابن تيمية ومن تبعه قديما وحديثا، فلن يفلحوا أبدا، بل كل يوم يزداد حقهم ظهورا، وعلمهم نورا، لأنهم يستمدون ذلك من نور القرآن والسنة، ولا يخرجون عنهما قيد شعرة، ولأنهم مع الحق، والحق لا يفنى ولا يزول. 31 - وعلى نهج شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم سلك شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، لكنه كان قد هيئ له من الظروف ما لم يتهيأ للشيخين، فبلاد نجد البدوية غير مصر والشام التي كانت تعج بالملوك والأمراء والجيوش والقواد، والمدارس، والحضارات، وتكايا المتصوفة المختلفة، والقضاة، والعلماء المدرسين في جميع المذاهب، وما كان باقيا من آثار عقيدة العبيديين وعلومهم الزائفة، والنجديون كانوا –ولا يزالون- يعظمون أهل العلم، ويوقرونهم، ولا يصدر الأمير إلا عن ما يقول العالم، فكان مقام العلماء في نفوس الناس يحمل الأمراء على الرغبة في الاعتزاز بهم، ومن أجل هذا وجد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب من بين أمراء نجد من يرحب به، ويؤيه، وينصره، ويضع سيفه وملكه تحت تصرفه. 32- فكان أن قوي ساعد الشيخ، وارتفع صوته، وعلا ذكره وجاء إليه الناس أفواجا، وكان أن امتد سلطان دعوة التوحيد حتى خفقت راية

الإسلام في ظلها في كل نواحي نجد وأغرى ذلك البلاد المجاورة فقامت تخطب وُدَّ هذه الراية، وتتطلع بشوق عظيم إليها، ورفع الإسلام طرفة الكسير إليها في رجاء وضراعة، يستمد من قوتها أن تتداركه، لتقيله من عثرته، وترفع عن ظهره كابوس البدع والضلالات التي ناء بها، فسرعان ما لبى السعوديون السلفيون ضراعته، وذهبوا يكسرون تلك الأغلال الشركية عنه، ويهدمون هذه الطواغيت والأنصاب التي كادت تقضي عليه، واستخلصوا الإسلام في هذه البلاد والنواحي من براثن أعدائه، فما لبث أن قام أعداء الأنبياء من شياطين الجن والإنس يتصايحون بالويل والثبور، ويتنادون: {وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 68] 33- لكنهم أضعف ناصراً وأقل عدداً، فلجأوا إلى الدولة العثمانية يستنصرون بقوتها وبجيشها، ويستفزون ملوكها وقوادها بأساليب الخدع وأنواع الإغراء: بأنها حامية الإسلام، وأن أولئك النجديين يفسدون قلوب الناس، ويغيرون عقائدهم، ويريدون تحويلهم عن الطريق الموروثة، والسبل التي وجدوا عليها الآباء والأجداد، ويحقرون شعائر الدين بهدم قباب المشايخ والأولياء الكبار، التي أطبقت الأجيال على تعظيمها والتبرك بها، وأن قعود الدولة عن رد هؤلاء المعتدين يذهب بهيبتها من نفوس المسلمين، ويحقر من شأنها عندهم، فلا تبقى صاحبة الحق في دعوى الخلافة عليهم. 34- وما زالوا بالعثمانيين يتوسلون إلى ملوكهم وقضاتهم وشيوخ إسلامهم وقواد جيشهم ووزرائهم حتى بعثت جيشا لمحاربة السعوديين، فما لبث أن

أوقع الله الرعب في قلوبهم فولوا الأدبار، ثم أعادت الكرة فكان نصيب هذه الحملة كالأولى، وهكذا دَحر جيش الموحدين جيش العثمانيين في مواقع عدة، حتى انتهى الأمر بهم إلى دخول الحجاز آمنين، محلقين رؤوسهم ومقصرين لا يخافون، وأزالوا ما كان به من آثار، وهدموا ما كان على قبور آل البيت وغيرهم في مقبرة المعلاة من قباب، وأبطلوا ما كان في مكة من شرور ومظالم، فكان دخولهم الحجاز أكبر صاعقة على رؤوس عباد القبور، ودعاة الموتى، وأئمة البدعة والمتأكلين بهذه الآثار، فضاعفوا جهودهم في الكيد للموحدين، ورأت الدولة العثمانية من ناحيتها أن ذلك قضاء تام على سلطانها ونفوذها، وأن هؤلاء النجديين الموحدين لا يقفون عند هذا الحد؛ فإنهم لا يزالون يرسلون بعض السرايا لأطراف الشام؛ ويبعثون بالكتب والرسائل إلى ولاة الشام والعراق وزعمائها وعلمائها يدعونهم فيها إلى تحقيق كلمة الإخلاص، وتحقيق أتباع الإسلام والرسول صلى الله عليه وسلم علما وعملا؛ وأن هذه الدعاية التي يقومون بها معقولة مقبولة؛ وأنها لا بد واجدة من كثير من الناس تحبيذاً لها، وإقبالا على اعتناق ما تدعوا إليه من عقائد وأعمال؛ وهاهم قد وضعوا أيديهم على الحرمين الشريفين قبلة العالم الإسلامي، ومحط آماله، ومجتمع وفوده كل عام لأداء مناسك الحج، فهما كمنبر عام يتلقى المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها ما يلقى من فوقه بالقبول الحسن؛ وينظرون إليه بعين الإجلال والاحترام، بل هما بمثابة مفتاح لقلوب المسلمين؛ من أمسك به فقد أخذ بمجامع هذه القلوب، وتمكنت فيها هيبته والطاعة له والانضواء تحت رايته حقيقة أو تقليداً.

35- وملوك العثمانيين إنما كانت خلافتهم الوهمية تعتمد على هذين الحرمين؛ وفخرهم إنما هو بحمايتهما وخدمتهما؛ وأعذب الألقاب في أسماعهم وأضخمها "سلطان البرين والبحرين، وخادم الحرمين الشريفين" ويعتقدون أن جمهور المسلمين لا يقر لهم بهذه السلطة الوهمية في الخلافة إلا بهذه الحماية والخدمة. 36- أما وقد بسط السعوديون سلطانهم على هذه البقاع المقدسة، وقبضوا بأيديهم على مفتاح قلوب المسلمين؛ فهم بهذا يريدون ولا بد منازعة العثمانيين هذه الخلافة، سناد عزهم، وعماد ملكهم؛ وهم لا بد ساعون إليها إما قريباً أو بعيدا، وتمكن هذا الوهم. 37- وما كانت هذه الخلافة العثمانية الضعيفة إلا نكبة على الإسلام والمسلمين؛ لأنها لم تكن في وقت من أوقاتها تعمل على تدعيم بناء الصرح الإسلامي، ولا على تقوية الوشيجة الإسلامية بين المسلمين، بل ما كانت تعمل إلا لإرضاء نعرات سلاطينها وزعمائها، وقضاء مآربهم من الرياسة أو الشهوات، وما كانت فتوحها لأجل نشر الإسلام وتعميم نوره في البلاد التي تفتحها، وإلا لبقي لذلك آثار خالدة كبقية آثار الفتوح الإٍسلامية الأخرى؛ وإنما كانت حروبها في أغلب الأحوال للملك والرياسة فقط، ولذلك فإننا نراها صمّت آذانها عن صراخ المسلمين بالأندلس الذين كانت تصبُّ على رءوسهم صواعق العذاب من المسيحية الظالمة، وما كان نصر الإسلام ودفع المسيحية عن محقه في الأندلس يكلف العثمانيين في ذلك الحين كبير مجهود، لأن دولتهم كانت في أوج قوتها وعزتها، وأنت إذا تتبعت أحداث العثمانيين وأعمالهم

في الدولة الإسلامية لوجدته على ما ذكرت لك، إلا قليلا لا يذكر بجانب إساءاتهم إلى الإسلام. 38- على أنه يغلب على ظني أنهم ما كانوا يعمدون إلى هذه الإساءات ولا يقصدونها، وإنما كان يقع منهم ذلك عن جهل، وعدم معرفة لنتائجه، فقد كان أكثر علمائهم لا يعرفون من الإسلام إلا قشوراً لاخير فيها، ولا يفقهون من الدين إلا بعض كتب الخلاف والجدل، وما يسمونه بعلم الكلام وفلسفته اليونانية، وكانت عنايتهم بالدين منصرفة إلى زخرفة المساجد وتزويق المصاحف، وتجويد كتابة الدلائل والبردة ونحو ذلك، وكانت فئة أهل الطرق البكتاشية والمولوية والنقشبدنية والرفاعية وغيرها صاحبة السلطان التام النافذ على الملوك فمن دونهم، وحسبك بأبي الهدى الصيادي وسلطانه على السلطان عبد الحميد – دليلا على ذلك، وما تمكنت هذه الطائفة المدعية التصوف من دولة أو بلد أو جماعة إلا ألقت بها في مهاوي التهلكة السيحقة، وقضت على سلطان الإسلام والقرآن فيها بالفناء. 39- وما ظنك بعقلية تعتقد أن سلطانها لا تشتد أواصره، ولا تقوى دعائمه إلا إذا كان شيخ الطريقة البكتاشية أو المولوية هو الذي يتفضل بالباس الملك الجديد والخليفة ما يزعمونه البردة في حفل حاشد من الجمهور والدهماء؟ أي عقلية هذه العقلية؟ وأي تأثير في نفوس الجمهور ينطبع لهذا الشيخ الذي لا يعرف من الدين إلا إتقان رقصة المولوية على الناى والمزمار؟ وأي خلافة هذه الخلافة التي تسمد سلطانها ونفوذها من أولئك المشايخ

الذين هم أبعد الناس عن هداية القرآن، وسنن النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام!!. 40 - لقد خدع أولئك الشيوخُ ملوك آل عثمان شر خديعة، وغشوهم ِأعظم غش، إذ أوغروا صدورهم على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وشوهوا وجهها الجميل بما كذبوه عليها، وألصقوه بها من الفِرى والبهتان، حتى قامت هذه الدولة التي تدعي الخلافة الإسلامية تحارب الدعوة الإسلامية!! 41 - ولو أن ملوك العثمانيين قبلوا في ذلك الحين دعوة الحق، واستجابوا لصوت القرآن وداعي التوحيد، وأحيوا العمل والحكم بما أنزل الله في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لعادت خلافتهم إسلامية حقيقية، والتفَّ المسلمون بقلوبهم وأرواحهم حولها، وسرت فيها روح العظمة والقوة، وتوطدت دعائمها، فما كانت تستطيع أن تنال منها ما نالت تلك المعاول التي سلطها عليها أعداء الإسلام أخيراً فقوضوا بناءها المتداعي، وذهبوا بخيالها الذي كان كالعهن المنفوش، وأصبح المسلمون بعد هذه الأحداث بلا خلافة يعتزون بها، حتى ولو كانت صورية، وقرَّت عيون دول الفرنج التي كانت هذه الخلافة غصة في حلوقها، وقذى في عيونها. 42 - ولعل الله سبحانه وتعالى يهيئ للمسلمين ملكا عادلا مسلما صحيح الإسلام، عظيم النفوذ واسع السلطان يرجع للإسلام خلافته ومجده في ظله، والله بعباده رءوف رحيم. 43 - استجاب العثمانيون لدعاة السوء الخادعين الغاشين، فقاموا يحاربون دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، واستنصروا عليهم بالسيف والقلم، والمدفع

واللسان، واستخدموا لذلك كل من يقدرون على استخدامه؛ فقام كل بما وظف له. 44 - فأما رجال اللسان والقلم فأخذوا يشوهون سمعة هذه الدعوة وشيوخها وأتباعها، ويصمونهم بأقبح الصفات، وينبزونهم بأشنع الألقاب، وينسبون إليهم أعظم الجرائم. 45 - فمرة يصفون شيخ الإسلام ابن عبد الوهاب بأنه مدع الاجتهاد والإمامة في الدين، ومحدثٌ مذهباً جديدا غير المذاهب المعروفة، وأنه بهذا يحتقر الأئمة ولا يعترف لهم بالإمامة، ويدعي أنه أعلم منهم وأولى بالإمامة والفضل. 46 - وليت شعري: ماذا على الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أو غيره من أهل العلم الأكفاء، أن يسلك إلى العلم طريق الأئمة المجتهدين، ويرجع في كل الأحكام إلى الكتاب والسنة، وما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم؟ وما فائدة القرآن الكريم والحديث النبوي إذا لم يكن بقاؤهما ليتعلم الناس في كل عصر منهما الإسلام الصحيح والدين الحق؟ وما قيمة ما ثبت عن علماء السلف جميعاً رضي الله عنهم من شديد النهي والتحذير عن التقليد الأعمى لأقوال الرجال والعصبية لفلان على فلان؟ أمن المعقول أن نتبعهم في القول الفلاني، ورأيهم في الحكم الفلاني ونخالفهم في هذا النهي والتحذير الشديد عن التقليد؟ لا، بل إنهم ليكفرون من اتبعه وعمل به وحققه. 47 - فإن كانوا يزعمون أن الله تعالى قد أغلق أبواب الهداية من القرآن والحديث فليأتونا بدليل على ذلك، وإن كانوا يزعمون أن الله لم يشأ خلق العقول التي تفهم دينه الذي حفظه وأبقاه إلى قيام الساعة محجة واضحة للمؤمنين،

وحجة قائمة على الكافرين، فقد ضيقوا فضل الله الواسع، وما يجترئ على هذه المقالة إلا جاحد أو غبي، وإن كانوا يزعمون أن القرآن أصعب على الأفهام وأبعد عن عقول أهل هذا الزمان، فذلك والله أبطل الباطل، فأين عذوبة القرآن وسلاسة معانية؟ وسهولة ألفاظه وإعجاز مبانيه، من الكتب التي زعموا أنها الدين والتوحيد في كلامها المعقد، وعباراتها المشوشة، ومعانيها المظلمة، التي يصرف طلابها فيها السنين ولا يخلصون منها بطائل؟!! 48 - وإن زعموا أن الفِطَر قد فسدت، والقلوب قد تغيرت، والأفهام قد صدأت، فنقول لهم: نعم، في هذا صدقتم، ولكن ما أفسد الفطر إلا علومكم العقيمة، وكتبكم المشوشة وطرائقكم الملتوية، ومذاهبكم المعقدة، وأحزابكم وأذكاركم المبتدعة، ومخادعتكم الناس: بأن الله قد فرق الإسلام شيعاً ومذاهب، فرضٌ واجب تقليد واحد بعينه منها والتعصب له، والحمية الجاهلية في الدفاع عن حقه وباطله، وصوابه وخطأه!!؟ 49 - نعم فسدت الفطر بما تغرسون في نفوس النشء من أن هذه الآية الظاهرة المعنى الواضحة الدلالة، ليست على مذهب فلان، ولا على طريقة فلان، وهذا الحديث الصحيح الثابت المحكم، لم يأخذ به فلان، وأخذ به فلان، فجعلتم القرآن والسنة عِضِين، آمنتم بما وافق أهواءكم منها ورددتم ما خالفه، وألزمتم الناس ذلك، ففسدت الفِطَر والعقول، وصدأت الأفهام والقرائح، وكيف لا تفسد الفطر ولا تسود القلوب من كل هذا، وقد حلتم بينها وبين غذائها النافع، وروحها وريحانها الذي لا تجده إلا في أصدق الحديث وأطيبه، وأنفعه وأوضحه وأبينه: من قول الله وقول الرسول صلى الله عليه وسلم

50 - فليس القرآن ببعيد المعنى، وليست السنة بمستعصية على طالبيها، وإن كل ذلك لسهل ويسير {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [قّ: 37] 51 - فاغسلوا أيها الجامدون قلوبكم وعقولكم من هذه الزبالات، ونقوها من هذه الوساخات، واطردوا ما فيها من الظلمات بنور القرآن والسنة تروا العجب من آيات الله وهدايته {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا؟} [محمد:24] 52 - بلى، يارب إنه على القلوب أقفالها من طاغوت التقليد الأعمى، والعصبية الجهلاء، فاكسر اللهم بفضلك تلك الأقفال، وطهر القلوب من هذه العصبية، واهد قومي فإنهم لا يعلمون. 53 - شنع عبدة الطواغيت على شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بدعوى الاجتهاد، وهي المحمدة كل المحمدة، التي حقٌ على كل مسلم أن يسلك سبيلها بالعلم الصحيح مع الإخلاص واللجأ إلى الله مالك القلوب أن يهدي قلبه، ويشرح صدره، وكذلك صنع الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ويصنع غيره من المؤمنين المخلصين في كل عصر ومصر. 54 - لم تلق هذه التهمة رواجا عند الناس، ولم يأبه لها الجمهور، وعدها العقلاء حسنة لا سيئة، فقام دعاة الفتنة وعبدة الطاغوت يرمونه وشيعته بشنيعة أفظع، وفرية أدخل في البهتان، إذ قالوا: إنه يبغض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه وشيعته يحرمون قول: "أشهد أن محمداً رسول الله" ويمنعون من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون: عصا أحدنا خير منه صلى الله عليه وسلم، وأنهم يبغضون الأولياء والصالحين، ويحقرون آل بيت النبي، ويحرمون زيارة

المقابر، ويخربون المساجد، ويهينون شعائر الإسلام، بهدم القباب والقبور، ويكفرون المسلمين، إلى غير ذلك مما سودوا به الصحف. 55 - والله يعلم: أن أشد الناس حبا للرسول صلى الله عليه وسلم، وتعظيما له وتوقيراً لآل بيته الطاهرين، وإحياء لسنته، تمسكا بدينه وشريعته: هم أولئك النجديون أتباع الشيخ محمد، بل لا أرى أحداً من أهل الأرض اليوم أحرص على الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم منهم. 56 - اقرأ كتب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، صغيرها وكبيرها، وكتب أولاده وأحفاده، وكتب العلماء الآخرين من النجديين، ومنشورات الأمراء، فلا يمكن أن يمر بك فيها ذكر النبي إلا وتجد الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، محال أن تجد في أحدها لفظ "محمد" مجردة جافة، تقرع أذن المسلم وقلبه فتؤلمه، بل تجد فيها من تبجيل النبي صلى الله عليه وسلم ما ينبئ عن حب خالص وتعظيم حقيقي تقر به عيون أحباب الرسول صلى الله عليه وسلم. 57 - لقد كنت ألقي في محطات الإذاعة الأهلية بمصر من سنتين مضتا محاضرات في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكنت كلما ذكرت اسمه صليت عليه طبعا، اتباعا لما أمر به الله ورسوله، وكنت كلما لقيت واحدا من سامعي هذه المحاضرات يظهر لي الضجر والسِأم من كثرة ذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وينصح لي باختصار ذلك، وطبعا كنت أحاول إقناعه بوجهة نظري، فكان القليل هو الذي يقتنع، والكثير يصر على قوله، وما كنت ألتفت إليه، بل أود لو يكون كل حديثي في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ليكون أكثر قولي صلاة عليه.

58 - هذا وقد حضرت مجالس لا تحصى لجلالة الملك عبد العزيز آل سعود، ولسمو ولي عهده الأمير سعود، ولسمو نائبه على الحجاز الأمير فيصل، ولغيرهم من علماء وعامة، وكنت شديد الملاحظة، فما كان أكثر ذكرهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أبدا أن يذكر أحد منهم اسمه الشريف مجرداً عن الصلاة والسلام عليه، وما حفظت أبداً على واحد منهم أنه تركه ولو سهواً. 59 - ولقد كتب الأستاذ المرحوم أمين الرافعي بك مثل هذه الملاحظة في جريدة الأخبار بعد عوده من الحج في إحدى السنين، وحضوره مجلس جلالة الملك، والأمراء، فانظر بالله، أمثل هؤلاء يقال عنهم: إنهم يكرهون النبي صلى الله عليه وسلم، ويحرمون الصلاة عليه؟ اللهم إن هذا بهتان عظيم من أعداء رسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم تنبه لما سيتلى عليك من خطب الملك ابن السعود وكتبه في القسم الثاني إن شاء الله. 60 - أما دعوى تكفير المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم، فليس عليها من حجة ولا برهان، وما هي إلا دعوى مجردة، نطقت به ألسنة الفساد، مثل ما اتهم المشركون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بانتهاك الأشهر الحرم وما كانت حروب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا دفعاً لشرورهم، وتعظيما لحرمات الله. كذلك ما كان قتال النجديين إلا جهادا في سيبل الله، وهدما لآثار الوثنية. فمن وقف في سبيل تنفيذ ذلك حاربوه. فمن خلى بينهم وبين هذه الطواغيت لم يتعرضوا له، كما سيأتيك من أخبار حروبهم وجهادهم ما فيه أوضح الأدلة على ذلك ثم هذا إمامهم، والذي هو أعظم ملك قام

بنصر هذه الدعوة الإسلامية، وأيدها حتى امتد سلطانها، جلالة الملك عبد العزيز آل سعود، وهذا موقفه بالأمس في الحرب اليمنية. وكل العالم يشهد أنه طالما صبر على الأذى، ودفعه بالحسنى، محاولا حقن الدماء الإسلامية، واتقاء الفتن، ومازال كذلك حتى أرغم على خوض غمارها، فكان النصر حليف جيشه، رغم كل الجهود التى بذلت، ثم كان أن لجأ الإمام يحيى إلى طلب الصلح. وشرط الإمام يحيى من شروط جائرة، منها أن يرجع الجيش السعودي إلى بلاده، ويخلى كل بلد وبقعة احتلها بلا مقابل، ولا غرامة مالية، فقبل جلالة الملك ذلك، وأرغم جيشه على التقهقر والعودة، فعادوا وهم يبكون على ترك ما أخذوه بحد سيوفهم، ولكن طاعة الملك عندهم كانت أعز من كل شيء فهذه مواقف هذا الملك العظيم كلها سلم إلا إذا اضطر وأكره على دفع الأذى. فبعد هذا يقال: إنهم يستحلون الدماء والأموال الإسلامية؟! سبحانك هذا بهتان عظيم. 61 - لم يكن شيء من هذه الحقائق يغيب عن عقول الناس وأذهانهم بعد أن انتشرت كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأولاده، وأقبل كثير من الناس عليها يقرؤونها بشغف وإخلاص، ولكن عبدة الطاغوت هم الذين أقض مضاجعهم، وأوقد نار الغيظ في قلوبهم ما رأوا من سرعة انتشار هذا الدعوة، وأنها كادت أن تطهر الجزيرة من زيفهم الكاذب ودجلهم الباطل، وتقضى على سلطانهم الوهمى، فقاموا يجلبون عليها بكل ما أوتوا من قوة، وينفثون سمومهم في العقول لإبقائها على مرضها وفسادها،

واستغلوا جهل ملوك الأستانة ونعرتهم وخلافتهم، وأخذوا يهولون من شأن هذه الحركة الإسلامية الإصلاحية، ويخوفونهم عاقبة انتشارها: أن تقضي على دولتهم، وتأتى على ملكهم من الأساس، وكان ضعف عقولهم وخمود فكرهم في البحث في علوم الدين، وانقيادهم الأعمى لمدعى التصوف قد هيأ مرتعاً خصباً لدعاة السوء، ونافخي بوق الفتنة. فقام كثير من أدعياء العلم في مصر والحجاز والآستانة ينصرون هذه الدعاية السياسية ضد حركة الإصلاح الوهابية السلفية. 62 - وكان لأولئك الأدعياء من سلطان آل عثمان وأنصارهم وشيعتهم ما استعانوا به فأعانهم، على طبع الآلاف المؤلفة من هذه الكتب والرسائل، وتوزيعها على الناس ونشرها في الأمصار الإسلامية، وبذلوا كل جهد في ترويجها بما أوتوا من قوة وسلطان، فلم يلبث العامة الذين لا يعلمون من الدين شيئا إلا تقاليد لا قيمة لها، ولا يعرفون العلم إلا إذا كان من كتاب مطبوع، ولا يقيمون وزنا للقول إلا إذا كان مقدماً له بمقدمة "تأليف العالم العلامة، الحبر البحر الفهامة، القطب الرباني، والفرد الصمداني". وما إلى ذلك من تهاويل تدهش العامي فيخر لها عقله وقلبه ساجدا وهو لا يدري. 63 - ثم ما زالت هذه الدعاية السيئة بالكتب والخطب والدروس: تفعل فعلها وبجانبها قوة السيف والمدفع تحصد في جند السعوديين حصداً، وتطاردهم من بلد ومن واد إلى واد حتى كان من قضاء الله أن خمدت جذوة هذه الدعوة حينا من الدهر

64 - هذه هي العوامل الحقيقية –فيما أعلم وأعتقد- التي شوهت دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وجعلت هذا اللقب عند العامة مماثلا ليهودي أونصراني، لا بل لقد سمعت بأذني من يقول: أن النصراني واليهودي خير من الوهابي، وسمعته من بعض من ينتسب إلى العلم، ومنهم من لفت نظره إلى ما في هذه المقالة من خطر، فإن قائلها لا علم له بأصول هذه الدعوة ولا معرفة عنده لحقيقتها، فمنهم من أنصف من نفسه، وطلب الكتب، فحين قرأها صار من أشد الدعاة إليها ومن أقوى أنصارها. 65 - ذلك يدلكم يا إخواني على مقدار تأثير هذه الدعاية السياسية وبلوغها بأساليبها الشيطانية في افتراء الكذب وإلصاق التهم الشنيعة بهذه الدعوة أن وقر في وهم الجمهور الإسلامي الكره الشديد والمقت لهذه الدعوة وكل من يمت إليها بسبب، بل لقد جعلوه سبة لكل مطعون عليه في دينه عندهم. 66 - والدليل على أن الكره إنما كان عن وهم لا حقيقة له في الواقع ودعاوى باطل لا تعتمد على حجة ولا برهان: أنه بمجرد أن قامت دولة التوحيد على ساعد الإمام الكبير، والبطل العظيم عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل بن تركي آل سعود، وامتد سلطانها على شبه الجزيرة وانبعث منها نور العدل الإسلامي في البلاد، وقامت حدود الله، وظهر الهدى والرحمة في العمل بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونشر الهدية السنية والتحفة النجدية بالعربية في مصر وما حولها، وبالأردية في الهند وبالملايو في جاوه، وغيرها من كتب التوحيد للشيخ وآله ما لبث الجمهور

الإسلامي أن عدل رأيه وبدأ ينظر إلى ما كان يلقى على سمعه من المنابر وما يَقرأ في الكتب والصحف عن هذه الدعوة بحذر، ولا يأخذه على علاّته، ثم ما لبث أن تبين العقلاء ما في هذه الكتب من الباطل والكذب والبهتان، وازدادوا إيمانا بهذه الحقيقة حين فتحت أبواب الحجاز، وذهبت الوفود الإسلامية وهم يرتجفون من هول ما قد كانوا يتوهمون أنه سيرونه في الحجاز من المنكرات والشنائع التي قيل، إن الحكومة السعودية أحدثتها، فإذا بهم يرون بلادا عمها الأمن بكل مظاهره، وشملها الخير من جميع نواحيه، ويرون قوما مؤمنين يبذلون أقصى ما في وسعهم للترحيب بوفد الله وضيوفه، ويرون ملكا ديمقراطياً مسلما، كواحد من رعيته في لباسه ومظهره وتواضعه وأخلاقه، ويجلسون إليه فيسمعون منه عن الإسلام والمسلمين وعن الرسول صلى الله عليه وسلم والأئمة، والكتب الدينية، وغير ذلك من الشئون الإسلامية، في فصاحة نادرة، وقوة بيان، وحجة واضحة، وجلال الملك، وأبهة الدولة، ما تأخذهم روعته ويجذبهم بحلاوته، فينصرفون من مجلس جلالته وكلهم إيمان بأن كل ما سمعوا على منابر الفتنة، وما قرأوا في كتب الدجل والبهتان كذب صراح، وباطل محقق، وإن من أظلم الظلم أن تؤخذ هذه الجماعة الموحدة الداعية إلى التوحيد بذلك الإفك الذي سودت به هذه الصحائف. 67 - ثم رجعوا إلى بلادهم وكلهم ألسنة بالحمد والثناء على ما رأوا في الحجاز من حكومته وشعبه وملكه، بردّ هذه المفتريات التي ملأت أوهام العامة والدهماء، وها أنا ذا أسوق إليك ترجمة الإمام العظيم، المجاهد الكبير،:الشيخ محمد بن عبد الوهاب لتعرف مكانته العلمية، ومنزلته الدينية:

شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب

شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: 68 - ولد في بلدة العُيينَة سنة 1115 هجرية ونشأ بها. 69 - كان جده الشيخ سليمان بن محمد من كبار علماء نجد، المشهورين بالعلم والفضل، والورع والتقوى، وكرم الأخلاق، وكثرة البذل، وإكرام الفقراء من طلبة العلم وغيرهم من الوافدين إليه، وإليه تطمح أنظار طلاب العلم والفقه الحنبلي، ومنتجع السائلين والمستفتين من مختلف جهات نجد ونواحيها. 70 - تولى وظيفة الفتوى في نجد، وتتلمذ له أكثر علماء نجد في علمي التفسير والحديث، والعلوم الدينية الأخرى المعروفة في هذه الأصقاع، وكان لشدة شغفه بنشر العلم وتعليمه: يؤوي طلاب العلم وفقراء التلاميذ في داره، وينفق عليهم من خالص ماله، وكان ذا هيبة ونفوذ لدى الولاة والأمراء في مختلف جهات نجد، فكان ملاذا وملجأ لكل المظلومين وما زال في حياته محطا للمتعافين واللاجئين حتى توفاه الله تعالى. 71 - ثم خلفه في علمه ومنزلته وإقبال الناس عليه ولده الشيخ عبد الوهاب، فكان مثالا للعدل والفضل، وألف عدة رسائل في الفقه والتفسير، وكان مشهوراً عند الناس بالتواضع وسهولة الأخلاق، وكرم الطباع، ولين العريكة، ولي القضاء في العيينة، في إمرة عبد الله بن محمد بن معمر الذي كانت العيينة في زمنه على حال حسنة من العمران والرخاء، وكان يقرأ لطلاب العلم في مسجد العيينة دروسا في الفقه والتفسير والحديث. 72 - ما كاد ولده محمد يشب عن الطوق، ويحسن الكلام حتى أخذ

في إقرائه القرآن الكريم وتعليمه القراءة والكتابة، فرأى الوالد من ولده ما أدهشه من سرعة حفظه، وحدة ذهنه وتوقد ذكائه، فأتم حفظ القرآن قبل بلوغه السنة العاشرة، وجلس في مجلس والده يتلقى علوم التفسير والفقه والحديث، فبزَّ تلاميذ والده الذين كانوا أكبر منه سناً وأسبقَ منه إلى الطلب، وكان فوق ما يتلقى على والده من الدروس يقرأ وحده فيما كانت تصل إليه يده من كتب العلم والدين، وقد جعل الله تعالى له من قوة ذكائه وحدَّة ذهنه عوناً كبيرا على تدبر القرآن الكريم، حين كان يقرؤه مجرداً عن التفسير ويتلوه للذكر والموعظة. 73 - ففتح الله عليه من ذلك باباً في فقه كتابه عرف منه مقاصد القرآن الكريم، وغايته التي يرمي إليها من معرفة الله وإجلاله وإكباره وإخلاص الدين كله له وحده لا شريك له، وشرح الله صدره بمعرفة مبادئ التوحيد الصحيح ومعرفة نواقضه، وأخذ يقايس بين ما يراه في آيات القرآن من الدين والإيمان، وبين ما يرى عليه الناس من تعظيم القبور والأحجار والأشجار والتبرك بها والطواف حولها والنذر لها والاعتقادات السخيفة في المقبورين من الصالحين وغير الصالحين، ودعائهم في الشدائد، والاستشفاء بهم من الأمراض، وطلب كشف الكربات، وتفريج الضائقات، والحلف بهم أوثق الايمان، والاستعاذة بالجن، والذبح لهم، وصنع الطعام وجعله في زوايا الدور المظلمة والخربات بقصد شفاء المرضى، وجلب النفع ودفع الضر، وتعليق التمائم والتعاويذ والحجب والفتنة بالسحر لجذب قلوب المحبين وصرفها، وغير ذلك من الطلاسم

والكتابات التي فيها عبادة الشياطين والكواكب: الذي ينسبونه كذباً وزوراً إلى سليمان النبي عليه السلام، أو إلى جعفر الصادق من آل البيت رضي الله عنهم، أو إلى غير هؤلاء من الصالحين، وإنما هو من عمل اليهود وكفرهم الذين اتبعوه، وأعرضوا به عن الحق المنزل من عند الله على موسى وعيسى وخاتم الأنبياء. 74 -نظر الشيخ إلى كل هذا، وقارن بينه وبين هداية القرآن، وما وضح من عقيدة وإيمان، فوجد الفرق بينهما كما بين السماء والأرض، وما بين الظلمات النور، والموت والحياة، والعمى البصر. 75 - وقد كان أكثر هذه العقائد الزائفة والأعمال الضالة، وافدا ًعلى نجد وغير نجد من بلاد العجم: كربلاء والكاظمية والأهواز وغيرها من بلاد الشيعة الرافضة، التي هي معقل عبادة القبور، ومنبع العقائد الشركية في المقبورين وآثار الصالحين، ولقد كان سلف هؤلاء الأولون يضمرون في نقوسهم نزغات وثنية مجوسية، ونزعات سياسية فارسية، يحرصون على تحقيق كل منهما. ويعملون عليه، ويبذلون ما يستطيعون فيه، ويسلكون إلى أغراضهم من ذلك كل طريق، وكان الإسلام في أول نشأته قوى الشوكة، عظيم السلطان. صارم القضاء، لا يتهاون مع من يشم منه رائحة هذه النزعات الخبيثة، والنزعات الشيطانية، فكان أولئك الفرس- لهذا- يستخفون باسم الإسلام ويمهدون لتحقيق نزغاتهم باسم حب على بن أبي طالب وآل بيته وبنيه وعترته، وراج ذلك على بعض قصار العقول فشايعوهم على أعمالهم، ومالؤوهم على بغيهم، ورفعوا القبور التي سواها علي

رضي الله عنه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وعلقوا عليها الستور، وزخرفوها بكل ما وصلت إليه أيديهم ليجذبوا قلوب العامة إلى تعظيمها، ويزخرفوا للجهال عبادتها، وسنُّوا لها أعياداً ومواسم يبالغون في الاحتفال بها، وما كان عملهم هذا إلا محاربة للإمام الشهيد على بن أبي طالب وولده الإمام الشهيد الحسين وعترتهم وآل بيتهم رضي الله عنهم، ومشاقة لله ورسوله، وإتباعا لغير سبيل المؤمنين. 76 - وآية ذلك أن أظهر المبتدعين لهذه البدع والمؤسسين لها والمدافعين عنها والباذلين في سبيلها الأموال الوفيرة: هم العبيديون بنو عبيد الله القدَّاح اليهودي، المزورون نسبهم كذباً وتمويهاً إلى السيدة الطاهرة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها ليستروا أفعالهم الشنيعة، وجرائمهم المنكرة بهذا النسب المتبرئ منهم 77 - ويدل أوضح الدلالة على كذبهم في هذا الانتساب: أن وزراءهم وقادة الرأي في دولتهم كانوا يهوداً أو نصارى، وأنهم أقصوا المسلمين من علماء وقواد، بل عذبوهم، ونكلوا بهم أشد التنكيل. 78 - وهل رأيت أغرب من أن يكون يعقوب بن كلس اليهودي إماما من أئمة الخلافة ومؤلفا، وزعيما للعلماء والمدرسين، في الأزهر، بل مبتدع فكرة التدريس، ليتعلم فيه دعاة ضلالهم وكفرهم ما ينشرونه على الناس. ولكن الله رد كيدهم في نحورهم، وجعل الأزهر بعد أكبر حصن للإسلام يدفع عادياتهم ويتخرج فيه علماء السنة، وأئمة الدين الحق في القديم والحديث.

79 - ولقد كان من سابق قضاء الله الذي لا مرد له: أن راجت تعاليم أولئك الأعاجم وشيعتهم من اليهود على كثير من العامة، ونفق سوقها في البيئات التي لم يتمكن من قلبها نور الإسلام وهدايته. فكان من آثارها توهين العقيد الإسلامية، التي أساسها إخلاص العبادة لله، التي يقول الله فيها {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18] {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5] 80 - كانت نجد في ذلك الحين مباءة للأوثان والطواغيت التي لا يحصيها العد، كغيرها من الأمصار الإسلامية- وكان للقلوب تعلق شديد بهذه الطواغيت؛ لطول الأمد عليها، إذ نشأ فيها الصغير، وشاب فيها الكبير، وتلقاها الخالفون عن السالفين من آبائهم، وأخذوها بالوراثة التي امتزجت بنفوسهم في جميع أدوار حياتهم. وليس في الناس من يقوم بالإنكار على هذه المبتدعات، ولا من يرد الناس عنها إلى الدين الصحيح، إما لتعلق بها وحرص عليها، لأنها مورد رزق، وسبيل رياسة، وذلك شأن متصوفة الزمن، وسدنة المقابر، والموظفين في خدمتها وترويج عبادتها، وهؤلاء أضر خلق الله على الناس. 81 - وإما لجهل بحقيقة الإسلام، وما بعث به الرسول عليه والصلاة والسلام، وتعوضهم عن ذلك بما حفظوا أو قرؤوا من بعض الكتب المحشوة بما يزيد هذه البلايا رواجا. والرؤساء والأمراء لا هَمَّ لهم إلا جمع الدنيا وتحصيل لذاتها ومتاعها من كل طريق وبكل وسيلة. فكان المسلم

السليم القلب، العارف لربه وعبادته، ولنبيه وهديه وسنته إذا تأمل في هذه الحال تفطر فلبه حسرة. 82 - وكان الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد فتح الله له إلى الهداية الإسلامية بابا من تدبر آيات القرآن الكريم، وأحاديث النبي صلى الله عليه ويسلم، وعرف ما يدعو إليه الإسلام من إخلاص الدين لله، وأن أهل العيينة وما جاورها، وما بعد عنها من البلاد النجدية وغيرها منغمسون في هذه البدع والخرافات الشركية، فأخذته عليهم الشفقة والرحمة، وذهب يدعو إلى الله سرا، ويعظ أصدقاءه وإخوانه، فاستمع بعض من أراد الله هدايتهم لكلام الشيخ وقبل نصيحته. وكان للشيخ من الأخلاق والسجايا الكريمة والعزوف عن زينة الدنيا ومتاعها، والإقبال على العبادة، وكثرة مدارسة العلم وإكرام طلابه، ما حببه إلى كثير من الناس. 83 - لكنه أدار نظره فإذا الميدان واسع المدى، وإذا جند الباطل كثير، وأنصاره أشداء، وتوغل هذه العقائد في النفوس جعل انتزاعها منها أمرا عسيرا، ثم ذكر أن هذه الجاهلية الثانية قد لا تقل عن الجاهلية الأولى في العناد، والعصبية، والحرص على تراث الآباء والأجداد، والفتنة بالمترأسين بالباطل في الدين، والمتعالمين فيه بالجهل والرياء، وأن النبي صلى لله عليه وسلم لقي من الجاهلية الأولى ألوان الأذى، وصنوف الشدائد، وما تغلب عليها وهدم أركانها وقوض دعائمها إلا بالعلم الصحيح الكثير الطيب، والذي كان ينزل به الروح الأمين على قلبه صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين، وبجانب هذا العلم الحديد، فيه بأس شديد، ومنافع للناس الذين

لا يلين الكلم الطيب، والنصح الخالص قلوبهم ورءوسهم. ولا تستطيع الموعظة الحسنة أن تستخرج من رءوسهم شياطين الفتنة وطواغيت الشرك والوثنية، فلصوت الحديد عندئذ وبريقه النفع الكثير في تنفير تلك الشياطين من عشها، وطردها من أو كارها. 84 - وأين للشيخ هذا العلم، والحديد؟ فأما العيينة فما فيها من العلم لا يساوى شيئا، ولا يغنى شيئا، وها هو ذا قد استوعبه كله؛ فلم يبق فيها شيء من العلم إلا وهو في صدره وعلى لسانه. وأما الحديد فأين يجده، وأمير العيينة كغيره من عبيد الشهوات والدنيا؟ فليبحث أولا عن العلم، ثم ليكن من فضل الله بعدُ أن يهيئ للعلم أميرا يؤيده، وسيفا يقوم بجانبه يحرسه. لا بد من انتجاع العلم في غير بلده، ولا بد من الرحلة سعيا وراءه حيث يكون. 85 - تجهز للرحلة إلى البلاد المقدسة ليؤدى فريضة الحج أولا، ثم ليغترف من بحر العلم في الحرمين فوصلها وأدى نسكه وقضى تفثه، وأشبع روحه من مناسك الحج ومشاعره، ثم انقلب يشبع نفسه من العلم، فجلس إلى علماء الحرم المكي، وسمع لحديثهم في العلوم الدينية، والظاهر أنه لم يرقه ما يقولون. ولم يجد من نفسه إقبالا على دروسهم وعلومهم. إذ خرج من مكة مبادراً يقصد شطر طيبة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيمم مسجدها أول مسجد أسس على التقوى، وصلى فيه، ثم سلم بعد على المصطفى سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه، أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. ثم ذهب يطلب العلم.

فلقي الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف من آل سيف رؤساء بلد المجمعة، من قرى سدير أحد أقاليم نجد- فأنس بهذا الشيخ واطمأنت نفسه إليه، وأخذ نفسه بملازمته. فانتفع به كثيرا، وأحس الشيخ عبد الله بن إبراهيم بمثل ذلك فأحب الشيخ محمدا وكان به حفيا، وبذل جهدا كثيرا في تثقيفه وتعليمه. وتلازما في المسجد والدار، وكل مكان. 86 -ولقد كان من أكبر عوامل توثيق الروابط بينهما وتمكين المحبة: أن كان الشيخ عبد لله بن إبراهيم آل سيف يشارك الشيخ محمدا أفكاره ومبدأه في عقيدة التوحيد، والتألم مما عليه أهل نجد وغيرهم من عقائد وأعمال باطلة؛ ويود لو يجد عنده من القوة ما يجاهدهم به. 87 - يدلنا على هذا قول الشيخ "كنت عند الشيخ عبد الله يوما، فقال لي: أتريد أن أريَك سلاحا أعددته للمجمعة؟ قلت: نعم. فأدخلني منزلا عنده فيه كتب كثيرة، وقال: هذا الذي أعددنا لها". 88 - أخذ الشيخ كثيرا من العلم عن الشيخ عبد الله واستفاد من مصاحبته فوائد عظيمة. فقد أجازه الشيخ عبد الله من طريقين: أحدهما من طريق ابن مفلح عن شيخ الإسلام أحمد بن تيمية عن شمس الدين ابن أبي عمر عن عمه موفق الدين بن قدامة عن الشيخ عبد القادر الجيلاني عن القاضي أبي يعلى المرداوي عن ابن حامد، عن الخلال، عن الإمام أحمد رحمة الله عليه ورضوانه. 89 - والثاني: من طريق عبد الرحمن بن رجب عن العلامة أبي شمس الدين

أبي بكر محمد بن قيم الجوزية عن شيخه شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية عن شمس الدين نجل ابن أبي عمر عن عمه موفق الدين عن الشيخ عبد القادر الجيلانى عن أبي الوفاء بن عقيل عن القاضي أبى يعلى عن ابن حامد عن أبى بكر المروزي عن الخلال عن الأثرم عن الإمام أحمد. 90 - وأجازه الشيخ عبد الله أيضا بكل ما في ثبت الشيخ عبد الباقي الحنبلي شيخ مشايخ وقته. قراءة، وتعلما وتعليما-: صحيح البخاري بسنده إلى مؤلفه، وصحيح مسلم كذلك وشروح كل منهما وسنن الترمذي، والنسائي وأبى داوود وابن ماجه، ومؤلفات الدارمي كلها. كل ذلك بسنده المتصل إلى مؤلفه. ومسند الإمام الشافعي، وموطأ الإمام مالك، ومسند الإمام أحمد ومسند أبى داود الطيالسي ومعاجم الطبراني وبسلسلة العربية بسندها إلى أبى الأسود الدؤلى عن على بن أبى طالب رضي الله عنه، وبكتب النووي كلها، وفي المصطلح ألفية العراقي، والترغيب والترهيب، والخلاصة في النحو لابن مالك، وسيرة ابن هشام وسائر كتبه، ومؤلفات الحافظ ابن حجر العسقلاني، وكتب القاضي عياض، وكتب القراءات، وكتاب الغنية للشيخ عبد القادر الجيلاني. وكتاب القاموس في اللغة بالسند إلى مؤلفه وكتب السيوطي، وكتب فقه الحنابلة وأصوله بسلسلتها. 91 - ثم وصل الشيخ عبد الله بن سيف حبل الشيخ محمد بحبل المحدث المحقق الشيخ محمد حياة السندي، وعرفه به، وبما هو عليه من عقيدة صافية، وبما تجيش به نفسه من مقت الأعمال الشائعة في كل مكان من

البدع والشرك الأكبر والأصغر. وأنه إنما خرج من نجد للرحلة في طلب العلم، وسعياً إلى الاستزادة من السلاح الديني القوى الذي يعينه على ما هو مصمم عليه من الجهاد في سبيل الله. 92 - كان الشيخ محمد حياة السندي عالما عاملا، تقيا فاضلا، يكره التقليد للمشايخ، والتعصب للمذاهب، ويصرح أن ذلك من إتباع الطاغوت الذي صرح الله تعالى بالنهي عن التحاكم إليه، وأن كل المصائب التي حلت بالمسلمين إنما هي ثمرة هذا التقليد الخبيث 93 - فهو الذي فرقهم في دينهم شيعا وأحزابا، وطرائق قددا: من نقشبندية، وشاذلية، ورفاعية وخلوتية، ومولوية، وغير ذلك من أسماء لا تحصى، ومسارب إلى الباطل والزندقة، واتباع الهوى في عبادة الله، وتشريع عبادات وأعمال وأقوال ما أذن الله بها ولا رسوله، زينها الشيطان موهما لفاعليها أنها أقوم الطرق إلى الله، وضل سعيهم في كل ذلك. فما الطريق الأقوم إلا الصراط المستقيم الذي سلكه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والأئمة من بعده رضي الله عنهم أجمعين: مما يتلى في القرآن الكريم وفي كتب السنة النبوية الصحيحة. 94 - والتقليد الأعمى هو الذي مكن للشيطان في قلوب الجاهلين والمشركين في كل وقت. فأطاعوه فيما زين لهم من عبادته باسم الأولياء والصالحين {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ

يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} [النساء:117-120] 95 - وكلما قام الداعي إلى الله، لينقذهم من مخالب الشيطان، تدرعوا بالتقليد الأعمى وتحصنوا به، فقالوا: {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء:74] ، وهذا الذي عليه المشايخ كلهم، كم لنا من سنين طويلة ونحن نرى الناس على هذا العلم والدين؟ فكل هؤلاء ضلال. وأنت المهتدى وحدك؟. 96 - فانظر أيها المنصف إلى تلك الحجج الداحضة ولا تعجب من شيوخ هذا الضلال، ورؤساء هذا الشرك فإنهم يربون المريدين على قاعدة "إذا كان شيخك جحشاً أمسك في ذيله، إذا رأيت أهل البلد يعبدون حماراً أو عجلا حش وارمي له، شيخك جاسوس قلبك، يدخل ويخرج من حيث لا تشعر. كن بين يدي شيخك كالميت بين يدي المغسل، لا إرادة لك ولا عقل ولا تفكير: فإذا قال لك السماء تحت، والأرض فوق. قل آمنت وصدقت. وإياك ثم إياك أن تعترض على شيخك في أي قول يقوله، أو أي فعل يفعله، أو أي أمر يأمرك به: مهما كان مخالفاً للكتاب والسنة والقياس والإجماع فإن المعترض مغلوقة دونه أبواب السموات والجنات". 97 - التقليد الأعمى هو الذي قتل في الأمة الإسلامية التفكير الجدي الذي يثمر الثمرات الصالحة، وقتل فيها روح الاستقلال، فأصبحت خاملة خامدة أطفأ فيها جذوة النشاط وجعلها ذيلا لغيرها في كل أمر وعمل فأصبحت كالخرقة البالية، وقتل كل خلق حميد، وصفة جميلة. ومهد للمدنية الأوربية الفاجرة، ولدولها من ورائها، فاستعمرت الدور والقلوب.

كل ذلك من ثمرات شجرة التقليد الخبيثة لعنها الله. 98 - وأنا مؤمن كل الإيمان أن مقلدة زمننا لا يقلدون الأئمة الأربعة: مالكا، وأبا حنيفة، والشافعي وأحمد رضي الله عنهم. بل ولا يقلدون تلاميذهم، ولا الطبقة الثانية من تلاميذهم. وإنما يقلدون الشروح والمتون والحواشي التي هي حُثالة آراء المتأخرين التي ليس فيها بعد التمحيص إلا سواداً في بياض فحسب. ويا حبذا ألف مرة لو أنهم تركوا هذه الكتب ورجعوا إلى الأمهات والأصول التي هي من قول الأئمة أنفسهم، أو من كلام تلاميذهم، إذن لبثت فيهم هذه الكتب روح الفقه والتدبر مستقلين وكوَّنت فيهم ملكة العلم الصحيح لا العلم التقليدي الذي هو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. 99 - من أجل هذا كان من أعظم ما يعنى به الأنبياء وورثتهم هو محاربة هذا التقليد وتحرير العقول من سلاسله. والمأثور عن الأمة الأربعة وغيرهم من علماء السلف الصالح من ذلك شيء كثير. 1 00-واقرأ أن شئت مقدمة المزنى لمختصره لكتاب الأم، وكتاب جامع العلم لابن عبد البر، ورسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام لشيخ الإسلام ابن تيمية، وإعلام الموقعين لابن القيم، والرد على من أخلد إلى الأرض وأنكر أن الاجتهاد في كل عصر فرض، للجلال السيوطي، ومحاورات المصلح والمقلد، لأستاذنا زعيم السلفيين السيد رشيد رضا رحمة الله عليهم جميعاً وتفسيره الذي هو أنفع التفاسير. 1 0 1 - وتلك سنة العلماء المخلصين في حرب التقليد. فهذا شيخ الإسلام

ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وجهادهما المشهور، وهذا الشيخ محمد بن عبد الوهاب وهذا الأستاذ الإمام زعيم نهضة مصر وموقظها الشيخ محمد عبده، وهذا السائر على نهجه والرافع لرايته السيد رشيد رضا، وهذا خليفتهم في عصرنا الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي يسلك طريقهم وينهج نهجهم في الرجوع بالعقل إلى فطرته وبالعلم إلى منابعه الأصلية من الكتاب والسنة الصحيحة ومحاربة البدع المضلة والخرافات المفسدة للفطر والعقول وهذا فضيلة المفتي الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم ينهج في دروسه التي يلقيها في كلية الشريعة منهج شيخه الأستاذ الإمام، بل لا أكون مغاليا إذا أنا قلت إن أكثر علماء الأزهر اليوم على هذا إن شاء الله. 1 0 2 - ولسنا بهذا ندعو إلى الفوضى العلمية، وأن يقول كل واحد في الدين والقرآن بما يمليه عليه عقله الجاهل وقلبه المريض، فذلك لا يقل في الفساد والشر عن الأول، لكننا ندعو طلاب العلم المخلصين، ذوي القلوب السليمة أن يبذلوا الجهد في الاستعداد لفهم القرآن، وتدبر نصوص الدين بمؤهلات ذلك، معتقدين أنهم مع بذل الجهد وصدق النية واصلون إن شاء الله، خصوصا في عصرنا الذي تهيأ فيه من أسباب العلم بالمطابع وغيرها ما لم يكن مهيئاً للأولين. 1 0 3 - لقد كان الشيخ محمد حياة السندي من أولئك العلماء الذين عرفوا عن التقليد هذه الحقائق فأبغضه وعاداه، وحاربه بنفسه ودعا أهل العلم إلى حربه. 1 0 4 - ورأى في الشيخ محمد بن عبد الوهاب قوة ذكاء، ومضاء عزيمة،

وعلو نفس: صفات تهيئ صاحبها للزعامة، فأعطاه من وقته وعنايته الحظ الأوفر. ورسم له طريق العلم الصحيح، وعلمه كيف يسير في طريق الدعوة إلى الله، إذا هو استقل وحده بالجهاد. فنفع الله تعالى الشيخ محمد بن عبد الوهاب بهذا أعظم النفع، في مستقبل حياته. 1 0 6 - وقد كان الشيخ حياة يغذي روح الثورة الدينية في نفسه تغذية قوية جداً. 1 0 7 - فمن ذلك أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وقف يوما على الحجرة النبوية، ويكاد مرجل غيظه ينفجر مما يرى ويسمع من الاستغاثات برسول الله صلى الله عليه وسلم ودعائه والضراعة إليه. فرآه الشيخ حياة على تلك الحال. فجاءه يسعى فلما رآه الشيخ محمد بادر بسؤاله: ما تقول يا شيخ في هؤلاء؟ فقال السندي على الفور {إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [لأعراف:139] 1 0 8 - بمثل هذه الروح تغذَّى الشيخ محمد من الشيخ حياة ومن معارفه. 1 0 9 - وممن أخذ عنهم أيضا وانتفع بمصاحبته: الشيخ علي أفندي الداغستاني، والشيخ إسماعيل العجلوني، والشيخ عبد اللطيف العفالقي الأحسائي، والشيخ محمد العفالقي الأحسائي، وقد أجازه الشيخان الداغستاني والأحسائي بمثل ما أجازه الشيخ عبد الله بن إبراهيم آل سيف بما في ثبت الشيخ أبي المواهب وغيره كما تقدم ذلك. 11 0- ومكث الشيخ محمد بالمدينة على قدر ما أيقن أنه قد أخذ من

علمائها وشيوخها أكثر ما يستطيع أن ينتفع به في حربه التي يتهيأ لها. وانطبع في نفسه أيضا صورة لما اعتقد أن عليه أغلب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها: مما رأى من وفودهم التي كانت تأتي المدينة لزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم، حين تدعو رسول صلى الله عليه وسلم، وتطلب منه تفريج الكربات وقضاء الحاجات، وتصيح بأمثال قول شاعرهم: يا أشرف الرسل ما لي من ألوذ به ... سواك عند حدوث الحادث العمم وما كانوا يخاطبون به أبا بكر الصديق، وعمر وحمزة، وغيرهم رضي الله عنهم من الاستغاثات والتضرعات التي لا تكون إلا لله وحده، مثل قولهم: يا سيدنا أبابكر الصديق يا مفرج كل هم وغم وضيق. وغير ذلك مما وضعت له الكتب يحفظها المزورون ويلقنونها لهم، كما يحفظ المطوف أدعية الطواف ويلقنها للحاج. 111 - رأى الشيخ كل هذا وأمثاله وسمعه من أولئك الوافدين من مختلف البلدان، فكان عنده من ذلك يقين: أن هؤلاء إنما يحكون ما عليه جمهور أقطارهم من عقائد، وما يدينون به من تقاليد فزاد ذلك في نار ألمه ضراما 112 - خرج الشيخ من المدينة موليا وجهه شطر نجد، ليعلن الحرب الشعواء على تلك الآلهة الباطلة، والعادات الضالة، وعلى مروِّجيها، والقائمين بشأنها، لعله يؤتى من عند الله النصر العزيز، فتصبح كلمة الذين كفروا هي السلفي وكلمة الله هي العليا. والله عزيز حكيم.

113 - لكنه أحسَّ في نفسه بعض الحاجة إلى ما عند علماء الشام، مما لعله لم يظفر به في المدينة المنورة، فتوجه يريدها عن طريق البصرة. فلما وصل البصرة أخذ يستقصى أخبار من فيها من أهل العلم، حتى دُلَّ على من عُرِفَ فيها بذلك، فجلس إليهم، وأخذ عنهم حاجته. 114 - فمن أولئك: الشيخ محمد المجموعي، قرأ عليه الكثير من كتب اللغة والحديث. ثم ما لبث أن رأى في البصرة وسمع مثل ما رأى في غيرها وسمع من البدع والخرافات فأخذ ينكر ذلك، وينهى عنه أشد النهي، ويغلظ القول على فاعليه ومعتقديه. 115 - قال الشيخ "كان ناس من مشركي البصرة يأتون إليَّ بشبهات يلقونها عليَّ. فأقول، وهم قعود: لا تصلح العبادة إلا لله فيبهت كل منهم ولا ينطق فاه". 116 - فاستحسن منه ذلك الشيخ محمد المجموعي، وأعانه عليه وأيَّده، وزاد في حماسه. ثم ذاع أمر الشيخ وأمر إنكاره لما يفعله الناس عند القبور من تمسح وطواف بها ونذر لها، وما يقولونه من دعائها والتوسل بها والالتجاء إليها. فخشي سَدَنة هذه المقابر والمتأكلون بها، ومن لفَّ لَفَّهم، من المنتسبين إلى العلم ظاهراً: على ما يربحون من مال، وما ينالون من جاه عند العامة والدَّهماء، في ظل هذه القبور وببركة سر أهلها. وخافوا أن يظهر للناس جهلهم وضلالهم فتنهار من القلوب مكانتهم، فكادوا للشيخ وشوهوا دعوته، وأغروا به الرؤساء الجاهلين، والسفهاء المقلدين، فاجتمع عليه هؤلاء وهؤلاء ونالوه بأشد الأذى، وما زالوا به حتى أخرجوه من البصرة خائفا يترقب

117 - فأخذ طريقه إلى الزبير سيرا على الأقدام، ولم يكن معه لذلك الطريق رفيق ولا زاد ولا ماء، فناله من الظمأ ما أشرف معه على الهلاك، لولا أن أدركه الله تعالى وأغاثه برجل يقال له: أبو حمدان من أهل الزبير، فأخذه من هيبة الشيخ والشفقة عليه ما حمله على التطوع لخدمته، وكان معه ماء فسقاه ونزل له عن حماره فأركبه، حتى وصل إلى بلدة الزبير. 118 - فلم يلبث بالزبير إلا يسيرا ثم خرج منها ميمما الأحساء، فنزل فيها ضيفا على الشيخ العالم: عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف، وكان شيخا شافعيَّ المذهب ذا شهرة في الفقه، لكنه لم يكن في حرية الفكر وقوة العلم كالشيخ المجموعي أو الشيخ حياة السندي، فلم يرُقْ عند الشيخ –فيما يغلب على الظن- الإقامة عنده كثيرا، فخرج من الأحساء، ووليَّ وجهه شطر بلدة حريملاء، وكان والده الشيخ عبد الوهاب قد انتقل إليها في سنة1139، فلما وصل الشيخ محمد إلى حريملاء أخذ يقرأ على الناس ما وعى من العلوم، ويقرر لهم التوحيد الصحيح، وينكر ما أحدث الناس من البدع والشرك والأقوال والأفعال التي عرف أنها لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في القرون الفاضلة، وأخذ يشتد في ذلك ولا يُداجِِي أحدا. 119 - كان والده كشيوخ بلاده، إنما يحيط علما بما في كتب الفقه التي ألفها المتأخرون من متون وشروح وحواشٍ، وما في كتب الكلام العقيمة التي ليس فيها إلا جدل فارغ، وحكاية كلام معقَّد يسمونه علم التوحيد، فسمع من ابنه علما جديدا، وكلاما لا عهد له بمثله، فخشي على ولده أن يرى عند العامة بالكفر، وأن يوصف من الدهماء بالمروق من الدين، ولعله نصح حينئذ

لابنه أن يعدل عن ذلك الطريق، وأن يسلك ما يسلك الجمهور والسواد الأعظم من الناس وشيوخهم وآبائهم. 12 0- فلم يقبل الشيخ نصح والده، بل رده عليه مبينا له أن النصيحة الخالصة هي أن يقوم معه بإعلان كلمة التوحيد خالصة، وأن يعملا معا على غسلها مما علق بها من تلك الخرافات ليعرف الناس حقيقتها، وتذوق قلوبهم حلاوتها فيعبدوا ربهم وحده {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] 121 - وقامت المنازعات، والخصومات الكلامية بين الشيخ محمد وبين أهل العلم في حريملاء، فكانت كالزند يقدح عليها شرر الدعوة فيشتعل، كالريح ينفخ في ضرامها فيشتعل، ويمتد نوره قليلا قليلا، وهكذا كلما كانت الدعوة عنيفة في حكمة، وأغرت خصومها بمناهضتها بالمجادلات والمنازعات حتى تكون شغل الناس، وحديثهم في مجالسهم، كان ذلك أعون على انتشارها وأجدى عليها بكثرة الأنصار والأتباع، فإن ذلك يلفت الأنظار التي كانت محرومة من نور هذه الآيات، ويفتح القلوب المغلقة فتفهمها، وهذا كان في الحريملاء، فإن الشيخ لم يلبث أن ذكر اسمه، والتفَّ حوله أنصار يقولون بقوله ويؤيدون دعوته، ويذهبون في التوحيد مذهبه، ووقف والده منه موقف الحياد، فلا هو من أنصاره وحزبه، ولا هو من أعدائه ومناوئيه. حتى مات سنة 1153 رحمه الله. 122 - جلس الشيخ محمد بن عبد الوهاب في حلقة أبيه، وحلَّ من نفوس أهل البلد ما كان يَحُلُّ أبوه، وارتفع مكانه عندهم، فانتهزها فرصة هيأها

الله تعالى لأن يأخذ في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأشد من ذي قبل، وأن يِجْبه بها الكبير والصغير، والمأمور والأمير. 123 - وأساس دعوة الإسلام أن يخلص القلب لله وحده وإذا خلص القلب لله زكت الروح وصفت النفس من كل خلق ذميم، وصفة قبيحة، فعرفت الحق لله، والحق لعباده، فلم تعتد على حق الله فتجعله لأحد غيره، ولم تعتد على حق العباد، فتظلمهم إياه. 124 - قد كان في حريملاء رؤساء على سنة رؤساء عصرهم بكل بلد وقبيلة في نجد: ظلم ظاهر، وقسوة شنيعة، وانتهاك لحرمات الأعراض والدماء لا حدُّ له، وكان لكل رئيس أتباع، هم شر منه في كل ما تقدم، لأنهم في الغالب من العبيد ذوي النفوس المنحطة، والعقول المظلمة، والقلوب السوداء. 125 - فلما اشتد جانب الشيخ، بمن اتبعه، وقوي ظهره بمن ناصر مذهبه القويم، من أهل حريملاء، فكَّر أن يقطع على هؤلاء العبيد طريق الفساد، وأن يكف من شرهم، فأخذ يتأتى لذلك، ويُعْمِل الحيلة على تنفيذه، لكن السادة والعبيد أحسوا بما يريد الشيخ بهم: من ردهم إلى طريق العقل، وهم أعداؤه وارجاعهم إلى الإنسانية، وهم خصومها، فغضبوا غضبتهم، وذهبوا يتسورون عليه داره ليلا محاولين قتله، وكادوا أن يبلغوا ما أرادوا، لولا أن سبقت رحمة الله بأهل نجد، فعصمه منهم، وكفَّ أيديهم عنه، فولوا مدبرين، ولكنه أيقن أنهم إن لم يظفروا به الليلة، فهم لا بد محاولون ذلك مرارا حتى يظفروا به وهم واجدون من الفوضى وظلم رؤساء البلدة، ما يعينهم على ذلك ويمكنهم منه.

126 - فخرج من الحريملاء، وذهب ناجيا بنفسه إلى العيينة مسقط رأسه، ووطنه الأصلي، علَّه يلقى فيها من الأمن على حياته، والعون على تبليغ دعوته مالم يجده في حريملاء، وكان رئيسها يومئذ: عثمان بن معمر. 127 - فما كاد يحطُّ رحله بها حتى أعلن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتقرير التوحيد الصحيح، والدعاء إلى هدم القباب وقطع الأشجار المعظمة فيها، وأخذ يحرض الناس عليها ويغريهم بها، حتى اجتمع عليه ناس كثير، فبعث سرا من هدم بعضها على جُعل من المال، 128 - وفي البلدة شجرة هي أعظم هذه الأشجار تدعى شجرة الذئب، يؤمها العوانس لطلب الزوج الحبيب خرج إليها بنفسه، فوجد عندها راعي غنم أراد منعه والتشويش عليه فاشترى سكوته ببعض ثيابه خلعها عليه ليخلِّي بينه وبينها، فقطعها، وأصبح الناس وقد طاحت بالشجرة المعظمة المحترمة فأس الشيخ، فأخذهم من الدهش لذلك والفزع شيء كثير، فاشتهر أمره عند الناس وزاد أتباعه. 129 - وكان بقرب بلدة جُبيلة قُبة عظيمة، ينسبونها لزيد بن الخطاب، ويحتفلون لها الاحتفال العظيم، ويعلقون عليها الأستار الغالية، ويجلبون إليها النذور من طعام وأنعام، من قصى البلاد ودانيها فعمل الشيخ على هدمها ودبر الحيلة لذلك، وأفضى بما في نفسه إلى عثمان بن معمر قائلا له: دعنا نهدم هذه القبة التي وضعت على الباطل؟ وضل بها الناس عن الهدى، فقال له: دونكها فاهدمها، فقال: الشيخ نخشى أن يخرج علينا أهل الجبيلة، فلا بد أن تكون معي، فخرج عثمان معه في ستمائة رجل بالسلاح، فحين قربوا

من الجبيلة خرج أهلها يريدون منعهم بالقوة، فتأهب لهم عثمان برجاله. فلما رأى أهل الجبيلة ذلك خلوا بينهم وبين القبة، وقام الشيخ عليها بفأسه، وهدمها بيده، حتى سوَّاها بالأرض، كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد بهدم العزى، وكما صنع علي بن أبي طالب حين بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليمن كما رواه مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي. 13 0- فعظم ذلك في نفوس العامة والسفهاء وهالتهم هذه الجرأة العجيبة على الآثار المعتقدة والقبور المباركة التي تقصد لقضاء الحاجات ودفع البليات، ووقع في نفوسهم أن ستظهر هذه القبة كرامتها وسرها الباتع في الشيخ الذي تجرأ على إزالتها وهدمها، ولا بد أن يصيب الشيخ من ذلك شر، ولكن الله أراهم إياه في عافية وقوة نشاط {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} [الزمر:36، 37] 131 - تسامع الناس بهذا الحادث، وتناقله الركبان، فتحدث الناس عن الشيخ، ووقع في قلوبهم له من الهيبة والرهبة أمر عظيم، ووقر في نفوسهم أن الله قد أتى به في هذا الزمان ليجدد للناس عهد الخلفاء الراشدين، في إقامة الحدود الشرعية، وإحياء سنة النبي صلى الله عليه وسلم ونشر راية الإسلام المطويَّة. 132 - فوفدوا عليه يغترفون من بحر علمه، ويستشفون من أمراض قلوبهم ببليغ وعظه ونصحه. 133 - وجاءته امرأة، قد زنت، واعترفت لدية بالزنا، وطلبت إليه أن يُطَهِّرها بإقامة الحدِّ عليها، وكان الرجم، لأنها محصنة، وذلك كما

فعلت المرأة الجهنية التي اعترفت للنبي صلى الله عليه وسلم بالزنى فأقام عليها الحدَّ، وصلى عليها، وقال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه "إنها تابت توبة لو وزعت على سبعين لو سعتهم" رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. فلما جاءت هذه المرأة وعرضت أمرها على الشيخ، وأقرت بين يديه بالزنى سأل عن عقلها، فقيل له: هي صحيحة العقل. فقال لها: لعلك غصبت، فأقرت أن ذلك كان عن رضا منها ورغبة، فكرر عليها القول أربع مرات، وهي مصممة على قولها، ثم أمر بها فشُدَّت عليها ثيابها، وأخرجت إلى الساحة، وقام الناس يرجمونها بالحجارة حتى ماتت. وكان أول من بدا بإقامة ذلك الحد وتنفيذه عثمان بن معمر، أمير البلدة. 134 - فسار خبر هذا الحادث الأعظم في الوديان والبوادي سير البرق، ووقع على القلوب الأثيمة وقع الصاعقة، وارتجفت له نفوس كانت راتعة في الآثام والشرور: أن يَحُلَّ بهم ما حلَّ بهذه المرأة الزانية، إذا نالتهم يد الشيخ محمد ووقعوا تحت طائلة سلطانه، وفرح بذلك المؤمنون الذين يعلمون أن الرحمة والبركة والخير تنزلان من عند الله تعالى عند إقامة الحدود. ويتنزل الغضب وترفع البركة والخير، ويعم الفساد إذا عُطِّلت الحدود، وتركت النفوس المجرمة سائمة ترتع حيث شاءت، وتأتي من المنكرات ما هويت. 135 - وبلغ هذا النبأ العظيم أهل الحساء – وأميرهم: سليمان آل محمد رئيس بني خالد الذي كان سلطانه يمتد على الحسا والقطيف حتى العارض وكان ابن معمر عاملا له على العيينة، فقام العلماء من أهل الحسا يشوهون

عمل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ويرجفون على الأمير سليمان بذلك وبما قام به ابن معمر من معاونته على إقامة الحد على الزانية فأعظم ذلك جدا وأخذه منه ما قرب وما بعد، وأقامه هذا الحدث وأقعده، وصورت له نفسه ما يكون من عظائم الأمور، إذا هو أرخى لهذا الشيخ ومعينه ابن معمر العنان في هذه الأمور، التي لا عهد لهم بها. فكتب إلى الشيخ يتوعده ويتهدده بالقتل إذا هو لم يرجع عن "تخريب قلوب المسلمين وإفساد دينهم". 136 - طبعا لم يعبأ الشيخ بهذا الوعيد والتهديد، ولم يعره التفاتا، ثقة بالله، ثم بمساعدة ومعاونة الأمير عثمان بن معمر. فنشط في دعوته. واستمر في جهاده. وطارت الأنباء بذاك إلى سليمان في الحساء، فثارت حميته وأخذته العزة أن شيخا من أولئك المطاوعة الذين كان يستخدمهم الأمراء لأهوائهم وأغراضهم بقليل من متاع الدنيا لا يعبأ بقوله، ولا يسمع لأمره؟! بل ويسخر منه أيضا؟! هذا كثير جدا، وما سمع بهذه الجرأة على الأمراء طول حياته. 137 - فكتب إلى ابن معمر يشدد عليه الأمر بقتل الشيخ محمد، ويتوعده إذا هو لم يفعل: أن يقطع عنه الألف والمائتي أحمر وما يتبعها من الكسوة والطعام التي يرسلها إليه من الحساء كل عام، فاستعظم ابن معمر ذلك وهاله هذا الوعيد، فكلم الشيخ وأظهر له السآمة والتبرم به والانخزال عنه لأنه لا طاقة له بحرب سليمان وإغضابه، وإنما كان ذلك لأن ابن معمر إنما كان يناصر الشيخ رغبة في الدنيا، وحرصا على

أن يتسع من وراء ذلك جاهه ونفوذه، ولم يكن لأجل العقيدة الصحيحة والدين الحق الذي يدعو إليه الشيخ، فإنه لم يكن قد نفذ إلى قلبه، ولا وصل إلى قرارة نفسه. 138 - فحين جاءه كتاب سليمان طارت نفسه هلعا، وأقبل عليه الشيطان بجنده يخيفه فوات ما يؤمل من الدنيا مستقبلا، وما بيده منها حالا {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] 139 - ورأى الشيخ من ابن معمر ذلك الخوف مجسما، فحاول أن يثنيه فقال له: "إن هذا الذي أدعوا إليه كلمة لا إله إلا الله، وأركان الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن أنت تمسكت به ونصرته فإن الله سبحانه يظهرك على عدوك، فلا يزعجك سليمان، ولا يفزعك تهديده، فإني أرجو أن ترى من الظهور والتمكين والغلبة ما ستملك به بلاده وما وراءها وما دونها إن شاء الله". 14 0- فوقع ذلك من نفس عثمان، وأغضى عن تهديد سليمان، وسكت عن الشيخ، ولكنه لم يلبث أن عاوده الشيطان يثير مخاوفه، ويوسوس له بغضب سليمان، وضياع المال والرياسة من يده، فعاود الكلام مع الشيخ قائلا له: إن سليمان أمرنا بقتلك، ولا نقدر على غضبه ولا مخالفة أمره، وليس من المروءة ولا كرم الأخلاق أن نقتلك، وأنت جارنا، فشأنك ونفسك وارحل عن بلادنا، وقرن الفعل بالقول، وفأنفذ في الحال من جنده الخيالة من أخرجه من البلد قسرا، وأوعز إليهم سرا أن يقتلوه إذا هم

وصلوا غار يعقوب، فذهب الجند إلى الشيخ، وسأله رئيسهم عن وجهته. 141 - وكان الشيخ قد فكر في أي البلاد تجد الدعوة مأمنا، ومنبتا طيبا، فوقع طائر فكره على الدرعية، لأنه كان له بها تلاميذ ومحبون، أظهرهم محمد بن سويلم العريني، فقال الشيخ لهم: أريد الدرعية، فقالوا له: سر إليها، فخرج من العيينة كسيرا حزينا، خاشع البصر، يكاد ينوء بما أصابه في مخرجه هذا من أرزاء وبلاء. 142 - ولعله ذكر حينئذ مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف حين طرده أهلها، وقد جاء يدعوهم إلى الفلاح والسعادة، وعزَّ الدنيا والآخرة، فأبى عليهم شيطانهم هذه النعمة المساقة إليهم، وأغروا به سفهاءهم يشتمونه بمقذع القول، ويرمونه بالحجارة، وهو يقول: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي، وهوَاني على الناس، يا أرحم الراحمين". 143 - خرج الشيخ ذلك المخرج من العيينة يسير على رجليه، ووراءه أولئك الجند القساة يسوقونه أمامهم، ويرهقونه بخيلهم، ويتربصون به المكان الذي تواعدوا عنده على قتله، كأمر سيدهم ابن معمر، ولكن الله غالب على أمره، ولا حول ولا قوة إ، لا بالله العلى العظيم. 144 - سار الشيخ في يوم قائظ تحت وهج الشمس المحرق، وليس معه إلا مروحته، والفرسان من ورائه يجهدونه متعجلين، والشيخ لا يلتفت إليهم لأنه في شبه غيبوبة من تأثره، وكلما استحكمت الشدة، وألحت الكوارث كلما ألجأ ذلك المؤمنين إلى ربهم، فصدقوا قلوبهم معه، ووثَّقوا توكلهم

عليه، فيريهم من آيات رحمته بهم ما يفرج كربهم ويكبت عدوهم. 145 - أخذ الشيخ يتلو {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} الآية [الطلاق: 2،3] وغيرها من التسبيح والحمد لله، حتى إذا حاذوا المكان الموعود إذا بالله سبحانه يلقي الرعب في قلبهم حتى لم يستطع أحد أن ينقل قدما، فلووا عنان أفرسهم وولوا راجعين إلى ابن معمر يقصون عليه كيف إن الله كف أيديهم عن الشيخ فلم يستطيعوا أن يمسوه بسوء 146 - أخذ الشيخ طريقه إلى الدرعية وحده، يحمد الله على حفظه، وكف يد الظالم عنه، ومازال يجدُّ في السير حتى وصلها من أعلاها وقت العصر، وتوجه من فوره،إلى دار تلميذه محمد بن سويلم، فتحرَّج ابن سويلم من وفود الشيخ عليه، وخاف على نفسه من أمير البلدة: محمد بن سعود، وكان شأن الأمراء، وحاشيتهم، والعامة، كما قدمنا لك: على الجاهلية، والعنجهية الهوجاء، والظلم البين، وكان النفر القليل الذين أجابوا إلى دعوة الشيخ لا طاقة لهم بأحد هؤلاء، ولا قبل لهم بحربهم، لأنهم في قلة وذِّلة. 147 - فسكن الشيخ جأش ابن سويلم، وهوَّن عليه الأمر بتلاوة آيات من القرآن والحديث في الثناء على المؤمنين الصابرين، وأن سنة الله تعالى: أن العاقبة للمتقين. 148 - فتسامع الناس بالشيخ، ووفد على دار ابن سويلم بعض الخاصة ينظرون من هذا الذي بلغهم عنه ما كان من أحداث العيينة من هدم

القباب وقطع الأشجار المعظمة، ورجم الزانية، فسمعوا منه ما لا عهد لهم به من العلم الصحيح والدين الحق ودعاهم إلى التوحيد، وإخلاص الدين لله. 149 - وكان من فضل الله على آل سعود: أن حضر مجلس الشيخ، وسمع وعظه ونصحه ثنيان ومشاري ابنا سعود، أخوا الأمير محمد، فألقى الله حب الشيخ في قلبهما، وسلك الإيمان الصحيح والتوحيد الحق سبيله إلى نفسيهما الطيبتين، وذهبا إلى أخيهما يدعوانه إلى لقاء الشيخ، وإجارته وأتباعه على ما يدعوا إليه من الهدى. 15 0- لكن الأمير كان قد وصل إلى مسامعه أخبار ما كان من الشيخ في العيينة مشوهة، وزاد في تشويشهها ما هَوَّل به ناقلوها: من إخراج ابن معمر للشيخ على تلك الصفة الشنيعة، طاعة لأمر رئيس بني خالد سليمان أمير الحساء، فتوقف عن قبول نصح أخويه، وتردد في الأمر، يَزِنه من ناحيتيه: ماذا عليه من الغرم وماذا له من الغنم؟ إذا هو أصبح لهذا الشيخ معينا وناصرا، وهذه دعوته تظهر جلية: أن لا بد لها من الثورة، ولا بد لها من الحرب والجهاد. 151 - وكان موقفه حينئذ موقف وفد الأنصار مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ليلة العقبة "إذ أرادوا أن يبايعوه على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يقولوا في الله لا يخافون لومة لائم، وعلى النصرة، فيمنعوه إذا قدم عليهم مما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم، وأبناءهم

ولهم الجنة" فقام أسعد بن زرارة فقال: "إن إخراجه اليوم مناوأة للعرب كافة، وقتل خياركم وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة، فذروه فبينوا ذلك، فهو أعذر لكم عند الله. فقالوا: أمِطْ عنا يا أسعد، فو الله لا ندع هذه البيعة ولا نستقيلها أبداً". 152 - قد كان موقف الأمير محمد مماثلا لهذا الموقف، لأنه بنصرته للشيخ سيتعرض لأهل نجد، وسيرميه هؤلاء وأولئك جميعا عن قوس واحدة، لأنه قام يهدم معبوداتهم الباطلة ويندد بجاهليتهم، ويقضي على عقائدهم الخرافية التي تمكنت من قلوبه، مع الزمان الطويل والتقيد للآباء 153 - فاستمهل أخويه: أن يراجع نفسه، وينظر في أمره فاستعانا عليه بزوجه الصالحة المؤمنة العاقلة الحازمة "موضى بنت أبي وهطان" وشرحا لها أمر الشيخ، وما يدعو إليه، وما طارده أهل العيينة وغيرها من أجله 154 - فما لبثت المرأة الصالحة أن أدركت بفراستها أن مثل هذه الدعوة لا بد أن ينصرها الله، وينصر من قام بها مخلصا صادقا، لا يرجو إلا وجه ربه، وسرعان ما انضمت إلى أخوي زوجها تؤيدهما. 155 - وأخذت حين رأت زوجها تعزم عليه أن يستجيب لأخويه فيما دعواه إليه من الخير، وتبين له أن هذا الشيخ نعمة عجلها الله له، وعز في الدنيا والآخرة خصه الله به، فبادرْ إلى إكرامه والحفاوة به، واغتنم هذه الفرصة وقم بنصره فيما يدعو إليه ولينصرن الله من ينصره.

156 - فشرح الله صدره، وألقى محبة الشيخ في قلبه، وسار إليه في دار ابن سويلم، وحياه أجمل تحية، وقال له: "أبشر يا شيخ ببلاد خير من بلادك، بلاد فيها العز والمنعة، فيها الصدق والإخلاص لما تدعو إليه من الهدى ودين الحق الذي بعث الله به أشرف المرسلين عليه الصلاة والسلام". 157 - فامتلأ قلب الشيخ سرورا، واطمأنت نفسه المضطربة، وأحسَّ بالظفر والقوة على حمل ذلك الأمر الذي كان يراه منذ أمد قريب ثقيلا عسيرا إذ عوضه الله داراً خيرا من داره، فيها أنصار أقوياء أشداء مخلصون صادقون جزاء صبره، وثمرة يقينه، وحسن توكله على الله الذي لا يضيع أجر من أحسن التوكل عليه في كل أمره، واعتمد عليه وحده في جميع شأنه {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق: 4] . 158 - أخذ الشيخ يشرح للأمير محمد حقيقة الإسلام الذي بعث الله تعالى به رسله، وأوحاه إلى أنبيائه، وأخذ عليهم العهد به من نوح عليه السلام إلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، والذي أجمله الله في قوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] وشرح له حال المشركين، ودينهم الذي كانوا يحرصون عليه، ويعادون النبي صلى الله عليه وسلم من أجله، ويزعمون أنه دين إبراهيم وأن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقتالهم والغلظة عليهم، ووعده النصر عليهم، ووعد أصحابه إحدى الحسنين: النصر، أو الشهادة التي يبوؤهم بها {غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} [الزمر: 20] وأن قلة المؤمنين دائما إلى كثرة، وفقرهم إلى غنى، وذلتهم إلى عزة، إذا هم أخلصوا

دينهم لله، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [لأنفال:26] وعلى عكس هذا، فكثرة المشركين إلى قلة، وعزتهم إلى ذلة، وقوتهم إلى وهَنُ، وغناهم إلى فقر {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [لأنفال: 36،37] 159 - وجلَّي له حقيقة ما عليه أهل نجد وغيرها من العقائد، وأنه عكس الإسلام ونقيضه، وأنهم إنما يشاقون الله ورسوله، ويتبعون غير سيبل المؤمنين. 16 0- وأن إنقاذهم مما تورطوا فيه بجهلهم يسير هين إن شاء الله، مع الصبر والتقوى، وابتغاء وجه الله، إذ ليس الإسلام، في حاجة إلى جديد، بعد أن حفظ الله كتابه، ووفق العلماء والمخلصين لحفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فما في الأمر أكثر من أن يوجد عالم يعرف حقيقة الإسلام من منابعه الصافية، يقوم بلسان فصيح، وقلب لا يخاف إلا الله، ويقوم بجانبه سيف عادل يجعل له في الصدور رهبة، وقد يَزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. وأن يصبر هذان القائمان على ما ينالهما من الابتلاء والأذى في سبيل ذلك، فإنه لا يذكر شيئا بجانب ما وعد الله من الحسنى للمتقين {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران:186]

161 - ما كاد الأمير يسمع مقالة الشيخ حتى وقر في نفسه صدقها، وأن أوجب الواجبات عليه أن يضع سيفه وماله وولده تحت أمره. 162 - أخذ الأمير يفكر في مستقبل هذه الدعوة، وما ستجر وراءها من حروب سيشعل نارها عبدة الطاغوت. فإذا ما عزَّ جانب الشيخ، وقوي حزبه. فلعل أهل العيينة أو غيرهم يحتالون على خروج الشيخ إلى بلدتهم فيحرم هو وإخوانه من علم الشيخ، وشرف الجهاد معه لإعلاء كلمة الله. فقال له: "يا شيخ، هذا دين الله ورسوله، لا شك، وأبشر بالنصرة والجهاد لمن خالف التوحيد. ولكن أريد أن أشترط عليك اثنتين "الأولى" إذا قمنا في نصرتك والجهاد معك في سبيل الله وفتح الله البلدان، أخاف أن ترحل عنا، وتستبدل بنا غيرنا. "والثانية": لي على الدرعية قانون آخذه منهم في وقت الثمار، وأخاف أن تقول: لا تأخذ شيئا منهم". 163 - فقال له الشيخ: "أما الأولى فابسط يدك الهدم الهدم، والدم الدم. وأما "الثانية" فلعل الله أن يفتح لك الفتوح، فيعوضك من الغنائم خيراً منها" فبايع الشيخ على ذلك، وعلى إقامته شعائر الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وسُرَّ الشيخ والناس بذلك أعظم سرور. 164 - ولما تمت هذه البيعة، ووثَّق صفقتها، وأشهد الله عليها قام ودخل مع الأمير إلى الدرعية. في حفل حاشد وجمع عظيم وكان يوماً في الدرعية مشهوداً.

أثر آل سعود الكرام في خدمة الإسلام وإحياء سنة النبي صلى الله عليه وسلم

أثر آل سعود الكرام في خدمة الإسلام وإحياء سنة النبي صلى الله عليه وسلم: 165 - انتقل الشيخ إلى الدرعية في خلال سنة 1158، وكان له من العمر إذا ذك اثنتان وأربعون سنه، قضاها كلها في طلب العلم والرحلات مابين نجد والحجاز والبصرة واليمن، وكان حاضر البديهة متوقد الذكاء، دقيق الحس، لا يترك شيئاً يقع تحت حسه إلا درسه من جميع نواحيه الدينية والاجتماعية، ثم خلص من درسه هذا بنتيجة عملية كان لها بعدُ أثرها في الدعوة وتنظيمها. 166 - فكان إذن قد تهيأت له كل أسباب القوة: علم واسع، وخبرة بأساليب نشر هذا العلم وإذاعته، وسيف آل سعود الذي كان بريقه يخطف أبصار ورؤس المجادلين بالباطل عن الباطل، فيبطل كيد الشيطان ويتجلى للناس ما في دعوة التوحيد، وهداية القرآن من سعادة ورحمة. 167 - ما أسرع ما شاع خبر هذه البيعة-بيعة الأمير محمد بن سعود على نصرة التوحيد، والجهاد في سبيل الله وعلم ذلك أتباع الشيخ وأحبابه الذين استجابوا لله وللرسول في العيينة وحريملا وغيرها، وقد كانوا من قبل هذه البيعة يستخفون، حذراً من شوكة الجهلاء القائمة، وسلطانهم النافذ:

168 - فما كاد خبر هذه البيعة يصل إلى مسامعهم حتى بادروا إلى الدرعية، ووفدوا من كل البلاد والنواحي يحتمون براية ابن سعود وسيفه، ويكرعون من علم الشيخ ويزدادون من هداية الله ورحمته. 169 - عضَّ ابن معمر يده ندما على ما ضيع من فرصة هذا الشيخ الذي تحل البركة أين يكون، إذ سمع ما آل إليه أمر الدرعية من العظمة؛ فبادر في وفد من صحبه يستغفر الشيخ من زلته ويرجوه أن يعود إلى بلده العيينة. ويعطيه العهد والميثاق أن ينصره وينصر دعوته بكل ما يملك من نفس وولد ومال. 170 - فقال الشيخ له: ليس هذا إليََّ، إنما هو إلى محمد بن سعود. فإن أذن ذهبت معك، وأن أبى إلا أن أقيم عنده أقمت. ولا أستبدل برجل تلقاني بالقبول والمعاهدة على نصرة التوحيد رجلا أخرجني من بلده. 171 - فأتى عثمان إلى الأمير محمد، وأخذ يستعطفه؛ ويلحُّ في الاستعطاف أن يأذن برجوع الشيخ إلى العيينة. فأبى عليه ابن سعود كل الإباء. وكيف يرضى ذلك وقد أخذ على الشيخ العهد أن المحيا محياهم والممات مماتهم؟ فرجع ابن معمر كاسف البال حزينا. 172 - كان شأن أهل الدرعية كغيرهم في الجهالة أو أشد، لا يعرفون من الدين إلا ما هو شائع عند الجمهور والدهماء في نجد وغيرها، فشمر الشيخ عن ساعد الجد في تعليمهم أولا أصول الإسلام من التوحيد الصحيح الذي بعث الله به رسله والتسليم لشرع الله وحكمه بالطاعة والإتباع في أعمال

الدين والدنيا. فلا شرع إلا شرعه ولا طاعة إلا له ولرسوله ولا عبادة إلا بالذي بين في كتابه وعلى لسان رسوله، لا بالقياس والاستحسان. 173 - فتبين للناس من قول الشيخ وتعليمه الرشد من الغي، والهدى من الضلال، والعلم من الجاهلية. وأيقنوا أن هذه نعمة تفضل بها الله عليهم، لا يحصون شكره عليها، وقام الأمير محمد بن سعود وإخوانه: مشاري وثنيان وفرحان بالوفاء بما عاهدوا الله عليه وأظهروا من الحفاوة بالشيخ والخضوع التام لقوله ونصحه، ما شاع أمره في البلاد. 174 - فقصد الناس إلى الدرعية، وأمست تعجُّ بالوافدين عليها؛ والمنتجعين لعلم الشيخ من كل فج، وأخذ ينفر من كل بلد إليها طائفة ليتفقوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون، فقويت شوكة الدعوة، وكثر أنصارها، وسلك طريقها أغلب أهالي البلاد المجاورة للدرعية. 175 - وكان ممن استجاب لدعوة التوحيد أهالي بلدة المنفوحة. فبلغ ذلك دَهام بن دواس أمير الرياض، وصنيعة الأمير محمد بن سعود، فاعتدى على أهلها محاولا بذلك فتنتهم عن دينهم، وإرجاعهم عن صراط الله المستقيم. 176 - فبلغ ذلك الشيخ والأمير محمدا، فغضب لذلك الشيخ، وجند الله. وقام الأمير محمد لفوره، ومعه إخوانه وجنده وتوجهوا إلى دهام، وكانت بينهم موقعة انتصر فيها حزب الله، صبيان التوحيد، إخوان من أطاع الله، وجرح دهام وقتلت فرسه.

177 - وكانت هذه شرارة إيقاد نار العداوة والبغضاء وتسعيرها في قلب دهام الخبيث للتوحيد وأنصاره، وفاتحة الجهاد في سبيل الله، الذي لم يكن في كل أدواره إلا دفعاً لعدوان ابن دواس وعريعر بن نجيد رئيس بنى خالد بالأحساء وابنه سعدون وغيرهم من حزب الشيطان، ورداً لكيدهم الذي حاولوا به أن يفتنوا المؤمنين {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191] . 178 - فلما رأى جيش التوحيد ما آتاه من النصر، قوى بأسه، واشتد ساعده ورغَّبَ ذلك النصر الكثير من أهالي البلاد المجاورة في الانضواء تحت راية التوحيد، فقامت رءوس الفتنة في الحريملا، والعيينة، والجبيلة وما جاورها من وادي حنيفة، وكانت بينهم وبين جيش التوحيد مواقع عقد فيها لواء الظفر والنصر على رأس الموحدين. 179 - وكان كلما أعطى الله النصر لأتباع الشيخ محمد كلما كثر أنصاره، وكلما غاظ ذلك حزب الشيطان، ونكأ في صدورهم وقلوبهم، فيؤلبون من ناحية أخرى، فيذهب إليها الموحدون، فيخرجون من معمعتها ظافرين منصورين. 180 - كان دهام عنيداً عاتياً صمد لحرب التوحيد سنين عدة، وهو يأخذ بعض البلاد، ثم لا يلبث أن يخرج منها مذؤوماً مدحوراً، ومع هذا لم يفتر ولم ينِ عن متابعة الحرب، بالسنان والسيف، وبالفتنة. 181 - فكان يعمل لإغراء ضعاف العقول والعلم بالارتداد إلى الجاهلية، ثم يجعل من هؤلاء شعلة يحاول بها إيقاد الفتنة بين أتباع الشيخ، فيرد الله كيده في نحره.

182 - وطالما خادع وأظهر الانضمام إلى جيش الموحدين وأتباع الدين الحق، لكنه لا يلبث أن يكشف الله عن خبث نفسه، ولؤم طبعه ومازال هذا شأنه ثلاثين سنة كاملة حتى دحره الإمام عبد العزيز بن محمد في موقعة سنة 1178. واستولى فيها على الرياض. وفرَّ دهام إلى بلاد الخرج، بأهله وماله، حتى وافته المنية فيها وحيداً شريداً مرذولا. 183 - وكان العلماء المزورون والمتصوفون والمتزهدون الفرحون بما لم يؤتوا الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا – عددا كثيرا، وجما غفيرا- تحالفوا على مناوأة الشيخ وتعاهدوا على حربه، وإماتة دعوته، جاهدين صابرين، مصرين على أن لا ينهزموا ما بقي فيهم رمق من الحياة. شأنهم معه يشبه كثيرا شأن قريش وأهل الكتاب مع الرسول صلى الله عليه وسلم الذين حكى الله عنهم في سورة ص قوله: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [صّ:4-7] 184 - وبجانب هؤلاء المتعالمين وإخوانهم المتزهدين، والمتصوفين تأتى جماعة الأمراء والزعماء الذين حنقوا على الأمير محمد بن سعود، وحسدوه: أن رفع الله ذكره، ومدَّ في ظل سلطانه، إذ قام ينصر هذه الدعوة ويشد أزرها، ويرفع رايتها. 185 - اجتمع هؤلاء وأولئك على غاية واحدة، وتوافقوا على مقصد واحد: هو القضاء على العالم الكبير محمد بن عبد الوهاب والأمير

الجليل محمد بن سعود، وعلى هذه الدعوة المنسوبة إليهما والمنسوبان إليها، مهما كلفهم ذلك من مال ورجال، ومهما كان من نتائج ذلك وعواقبه من صلاح في البلاد أو فساد. 186 - لكن دعوة الشيخ صمدت أمام هذه الجموع الحاشدة المتكاثرة من الخصوم الأشداء. بفضل بساطة هذه الدعوة، وسرعة وصولها إلى القلوب، لأنها لم تكن قلوبا قاسية بالفلسفات والعلوم الجافة التي كانت منتشرة في غير نجد من البلاد التي كثرت فيها المدارس والتعليم على غير النهج الإسلامي الصحيح، وبفضل تفاني آل سعود: محمد، ومشاري، وثنيان، وفرحان أولاد سعود، وعبد الله وعبد العزيز ابنا محمد، وسعود بن عبد العزيز بن محمد، وأنصارهم وأتباعهم. 187 - فلقد كان لإخلاص هؤلاء الأمجاد، وشجاعتهم وثباتهم، وسياستهم الحكيمة. أطيب الأثر في ظفر هذه الدعوة أو لا ثم امتداد سلطانها، وثباتها وتوطد دعائمها، حتى لم تستطع أحداث الحروب، وما زلزلت به نجد، وأهلها من غارات الترك وأشياعهم أعوانهم-: أن تجتث شجرتها الطيبة من الجذور، وأن تأتى على بنيانها العالي من القواعد. 188 - فإنها وأن استطاعت أن تضعف من صوتها حيناً من الدهر وأن تطوى من سلطانها أياما إلا أنها تقدر بكل ما فعلت من ضروب الجور والعسف والظلم، وإحراق الدور، وهدم القصور، وسفك دماء من أعطتهم الأمان غدراً وخيانة. لم تقدر بكل هذا الإرهاب أن تميت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، لأنها دعوة الحق والإصلاح والعمران

ولأنها دعوة التوحيد التي من أجلها قامت السموات والأرض، وخلق الجن والأنس، ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون. 189 - كانت الدرعية معهد التربية الدينية والعلمية، والحربية. وكانت حركتها نشيطة عنيفة في كل هذه النواحي من التربية، لا تني ولا تفتر. 19 0- تجد أهلها: ما بين مكبِّ على لوح من القرآن يحفظه، أو أصل من أصول الإسلام يتعلمه، أو كتاب من كتب الشيخ في شرح التوحيد وما يحققه، وبيان ما يهدمه، أو يبين شروط الصلاة، أو غير ذلك يستظهره. أو نبل يبريه، أو سيف يصقله، أو رمح يقوَّمه، أو فرس يمرِّنه، أو درع يَسْرُده، أو فن من فنون الجلاد والنزال يتقنه، كانت هذه الدرعية على هذه الحركة الدائمة. وكان هذا السر في انتشار دعوة الشيخ وامتداد سلطانها وثباتها أمام العواصف الهوج، والزلازل العنيفة 191 - ومن فضل الله أن بارك في عمر الشيخ، ورزقه من الأبناء والتلاميذ رجالا أشداء في العلم والسيف، يحاربون بالحجة القوية، ويجالدون بالسيف البتار، ويهدمون بكليهما جحور الشرك، ومعاهد الوثنية، والشيخ يجني من ثمار غرسه سرورا وغبطة، فيزداد لله شكرا، ويزيده الله من نعمائه، حتى رأى من تلاميذه من غير بنيه وأحفاده وغيرهم-: دعاة من الرجال، وداعيات من النساء غرس الشيخ فيهم وفيهن هذه الشجرة المباركة الطيبة الأصل والثمر. 192 - ولقد كان الشيخ رحمه الله يبعث دعاة التوحيد ممن ثقَّفهم بيده

حتى خالطت حلاوة التوحيد بشاشة قلوبهم، كما كان يعقد بيده الألوية للغزاة والمجاهدين ويزودهم بنصائحه الصادقة وينفخ فيهم من روحه القوية، وشجاعته النادرة، حتى لقد كانوا يخوضون غمار الحرب وهم واثقون من فضل الله: إما بالنصر، أو بشهادة تعجل بهم إلى الجنة. 193 - وطال عمر ابن سعود كذلك، حتى ربى بنيه على ما أُشربه قلبه من إيمان وشجاعة، وإخلاص في نصرة الحق. وأسس للتوحيد جيشاً قويا من رجال أشداء لا يرهبون الموت ولا يحرصون على الحياة، وجنى هو كذلك من ثمرة غرسه سروراً بما كان يترامى إلى سمعه من انتصارات ابنيه عبد الله وعبد العزيز وحفيده سعود، ويشكر الله على ذلك فيزيده الله من أسباب سروره، ويزيده عزة وتمكينا وبسطة في الملك والمال، حتى مات سنة 1179 قرير العين بما رأى من عز التوحيد وانتشاره رحمة الله عليه ورضوانه. 194 - بهذه الروح القوية من الشيخ وآله من آل سعود طار صيت الدعوة، وتعدى حدود نجد إلي الحجاز والعراق واليمن والشام، بل ومصر أيضا. 195 - وحين وصل صوت الدعوة إلي اليمن، أخذ علماؤها يتحدثون عن شأن الشيخ وشأن دعوته، وقد كان باليمن الإمام العلامة الشيخ محمد الأمير الصنعاني، صاحب كتاب سبل السلام شرح بلوغ المرام، وكتاب تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد. وهو من أنفس الكتب في الدعوة إلى توحيد العبادة، وتطهير القلوب والعقيدة من عبادة الموتى ودعائهم

والتوسل بهم إلي الله تعالى. 195 - وكان الشيخ الصنعانى رحمه الله يلقى من أهل اليمن كل الأذى في دعوته إياهم إلي التوحيد، ومحاربته الشرك وأهله، وأهل اليمن ينتسبون إلى آل البيت، وعندهم من قبورهم، وقبابها المعظمة، الشيء العظيم المدهش. فحين سمع الشيخ الصنعانى بالشيخ محمد بن عبد الوهاب فرح به كل الفرح وأنس به كل الأنس، وكتب إليه بقصيدة عظيمة يقول فيها:- سلامى على نجد ومن حل في نجد ... وإن كان تسليمي على العبد لا جدي وقد صدرت من سفح صنعا، سقى الحيا ... رباُها وحيَّاها بقهقهة الرعد سرت من أسير ينشد الريح إن سرت: ... ألا يا صبا نجد، متى هجت من نجد؟ قفي واسألي عن عالم حلَّ سوحها ... به يهتدي من ضل عن منهج الرشد محمد الهادي لسنة أحمد ... فيا حبذا الهادي، ويا حبذا المهدى لقد أنكرت كل الطوائف قوله ... بلا صَدَرٍ في الحق منهم ولا الوِرد وما كل قول بالقبول مقابل ... وما كل قول واجب الطرد والرد سوى ما أتى عن ربنا ورسوله ... فذلك قول، جل، يا ذا، عن الرد وأما أقاويل الرجال فإنها ... تدور على حسب الأدلة عن النقد وقد جاءت الأخبار عنه بأنه ... يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي وينشر جهرا ما طوى كل جاهل ... ومبتدع منه. فوافق ما عندي ويعمر أركان الشريعة هادماً ... مشاهد ضل الناس فيها عن الرشد أعادوا بها معنى سُواعَ ومثله ... يغوث ووَداَّ، ليس ذلك من وُدي وقد هتفوا عند الشدائد باسمها ... كما يهتف المضطر بالواحد الفرد

وكم عقروا في سُوحها من عقيرة ... أُهلَّت لغير الله جهرا على عمد وكم طائف حول القبور مقبِّل ... ومستلم الأركان منهن باليد لقد سرني ما جاءني من طريقه ... وكنت أرى هذى الطريقة لي وحدي يُصب عليه سوط ذم وغيبة ... ويجفوه من كان يهواه عن بعد ويُعزى إليه كل ما لا يقوله ... لتنقيصه عند التهامي والنجدي فيرميه أهل الرفض بالنصب فِرية ... ويرميه أهل النصب بالرفض والجحد وليس له ذنب سوى أنه أتى ... بتحكيم قول الله في الحل والعقد ويتبع أقوال النبي محمد ... وهل غيره بالله في الشرع من يهدي؟ لئن عده الجهال ذنبا فحبذا ... به حبذا يوم انفرادي في لحدي سلامى على أهل الحديث فإننى ... نشأت على حب الأحاديث من مهدي هم بذلوا في حفظ سنة أحمد ... وتنقيحها من جهدهم غاية الجهد .......................................... ... .......................................... أأنتم أهدى من صحابة أحمد ... وأهل الكسا؟ هيهات ما الشوك كالورد أولئك أهدى في الطريقة منكم ... فهم قدوتي حتى أوسد في لحدي وشتان ما بين المقلد في الهدى ... ومن يقتدي. والضد يعرف بالضد فمقتديا كن في الهدى لا مقلدا ... وخَلِّ أخا التقليد في الأسر بالِقِدِّ وأكفر من في الأرض من قال: إنه ... إله، فإن الله جل عن الند ثم وصف الاتحادية وعقيدة ابن عربي في فصوصه وأنه يقول: إن في كل شيء إلهه: من الكلب والخنزير، وأن عذاب النار عذاب لأهلها مثل نعيم أهل الجنة، ثم قال:

يلذون عند العجز بالذوق ليتهم ... يذوقون طعم الحق. فالحق كالشهد نقول لهم: ما الذوق؟ قالوا: مثاله ... عزيز. فلا بالاسم يدرك والحد ففشرهم بالكشف والذوق مشعر ... بأنهم عن مطلب الحق في بعد وهيهات كل في الديانات تابع ... أباه. كأن الحق في الأب والجد وهذا اغتراب الدين فاصبر فانني ... غريب، وأصحابي كثير بلا عد وإذا ما رأوني عظموني وإن أغب ... فكم أكلوا لحمي وكم مزقوا جلدي فدونكها تحوى علوما جليلة ... منزهة عن وصف خد ولا قد وهى طويلة قد تركنا بعض أبيات منها اختصارا. 169 - وقد كان من أثر بلوغ صوت الدعوة إلى الحجاز أن بعث في سنة 1185 شريف مكة أحمد بن سعيد بكتاب إلى الشيخ وإلى الإمام عبد العزيز، ومعه تحف وهدايا سنية يطلب إليهما أن يبعثا بعالم من علماء نجد إلى الحجاز يبين له ولأهل الحجاز حقيقة ما يدعو إليه الشيخ محمد من الدين فبعثوا إليه الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل حصين فما كاد هذا الشيخ يبلغ مكة ويقرأ على الناس بعض رسائل الشيخ محمد ويبين لهم ما فيها من عقيدة التوحيد الصحيحة، حتى ثار آل مساعد على عمهم أحمد الشريف وانتزعوا من يده ولاية مكة بالقوة، وأخرجوه منها، جزاء استقدامه هذا العالم النجدي. ووضعوا مكانه على مكة شريفا آخر. 197 - والذي يغلب على الظن كثيراً أن ليد علماء السوء أثراً في هذه الثورة على الشريف أحمد، فإنهم لا بد خافوا أن تنتشر في الحجاز هذه

العقيدة، وأن يهدم الشريف معالم الشرك التي في مقبرة المعلاة وجدة وكل بلاد الحجاز، وأهل مكة وغيرها كانت معيشة كثير منهم في ذلك الحين على الدجل والتمويه على عامة الحجاج بهذه المآثر، وابتزاز الأموال منهم باسمها. فإذا ذهبت دهب معها مورد عظيم كانوا يستفيدون به مالا كثيراً، ورياسة ضخمة، ومنزلة في العامة رفيعة، وعند الله وضيعة. 198 – ومن يومئذ بدأ أهل مكة وأشرافها يرهبون النجديين، ويخافون صولتهم، ويحسبون كل ساعة حسابا لغزوتهم التي كانت متوقعة. 199 – فحاولوا مرارا أن يأخذوهم قبل أن يكفروا هم في ذلك. وطالما بعثوا بالجيوش الكثيفة مزودة بأقصى ما تصل إليه يدهم مما تمدهم به الدولة العثمانية من عتاد وسلاح-:إلى أطراف نجد فتفشل، ثم يعيدون الكرة، وتتوغل هذه الجيوش الحجازية التركية في قلب نجد، ثم لا يكون حظها إلا كسابقاتها من الفشل والخيبة، فعمدوا إلى الصلح والمهادنة فعقدوا بينهم وبين الإمام عبد العزيز صلحا، جاء بعده الإمام عبد العزيز يجمع كثير من علماء نجد وأعيانها للحج، ثم جاء في السنة التالية أيضا بجمع أكثر فحجوا وعادوا. ولم يلقوا إلا سلاما وأمنا. 2 00- فوجه النجديون جهودهم وجيوشهم إلى ناحية الحسا لقطع دابر مثيري الفتنة فيها، وكانت مواقع عنيفة دحر النجديون فيها عريعرا، وابنه سعدون، وغنموا مدافعهم التركية التي جاءوا بها إلى الدرعية محملة على الجمال. 2 0 1 – وما زال الإمام سعود يتابع غزواته لنبى خالد حتى أنهك قواهم، وأضعفهم عن أن يقفوا مرة أخرى في وجه جيشه الظافر.

2 0 2 - وبينما كان الإمام عبد العزيز في غزواته تلك مات الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه ورضوانه في سنة 1206عن احدى وتسعين سنة قضاها في الجهاد، وتغذية روح التوحيد بالقوة والعلم، حتى بلغت أقصى ما كان يرجو ويحب. 2 0 3 - ولاقي ربه قرير العين بما قام به في إعلاء كلمة الله، وهدم طواغيت الشرك وتطهير نجد من آثار الجاهلية، وبما نشر من العلوم والمعارف التي نور بها بصائرهم، وطهر أخلاقهم، وزكى أرواحهم، فأمنت البلاد بعد الخوف، واطمأنت النفوس بعد طول الاضطراب، وقام ميزان العدل والقسط، فعرف كل واحد حدَّه فوقف عنده ولم يتعداه وبسط الأمن رواقه، فأصبح المسافر يقطع البلاد من أقصاها إلى أقصاها ومعه المال الوفير، والمتاع الكثير لا يخاف أحدا، ولا يخشى إلا الله. وانصرف الذين كانوا بالأمس قطاع طريق، وسفاَّكي دماء إلى قراءة الكتب ومدارسة العلم، واستثمار الأرض بالحرث والزرع وأنواع المكاسب الطيبة الحلال، فعمت البركة أهل نجد، وشملهم الله بالخير والرحمة. 2 0 4 - مات الشيخ قرير العين آمنا على شجرة التوحيد الزكية التي غرسها، إذا جعل الله له من ذريته رجالا أشداء في الحق أمناء على العلم مخلصين لله دينهم، صادقين مع الله عهدهم. فان والدهم قد نشَّأهم أطيب نشأة وأزكاها، وأعدهم لهذه التركة ليقوموا على حفظها وصيانتها، أولئك هم: الشيخ حسين، والشيخ عبد الله، والشيخ على، والشيخ إبراهيم، وغير هؤلاء من أحفاد الشيخ وذوى قرباه، ومن تلاميذه الذين كانت تعج

بهم الدرعية وغيرها من بلاد نجد وقراها يعلمون الناس الدين الحق ويخرجهم الله بهم من الظلمات إلى النور. 2 0 5 - ومات قرير العين مطمئن القلب بأولئك الفرسان الأشداء من آل سعود الذين يحمي الله بهم جانب التوحيد. ومات قرير العين بما ترك وراءه لخلفائه على تركته من كتب ومصنفات كانت ولا تزال نبراس الهداية لكل داع إلى الله والى سبيله. فنرجو من الله الذي لا يضيع أجر المحسنين أن يجزى الشيخ أحسن الجزاء، وأن يبوئه برحمته دار كرامته مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. 2 0 6 - وحين بلغت وفاته إلى الشيخ الإمام المصلح العلامة محمد بن على الشوكانى الزبيدي اليمني، صاحب كتب نيل الأوطار، والدر النضير في إخلاص كلمة التوحيد، وشرح الصدور بتحريم رفع القبور، والقول المفيد في إبطال التقيلد، وغيرها من الكتب النافعة رثاه بقصيدة عظيمة يقول فيها-: مصاب دها قلبي فأذكى غلائلي ... وأصمى بسهم الافتجاع مقاتلي وخطب به أعشار أحشاى صدعت ... فأمست بفرط الوجد أي تواكل ورزء تقاضانى صفاء معيشتي ... وأنهلني قسرا أمرَّ المناهل مصاب به ذابت حشاشة مهجتي ... وعن حمله قد كلَّ متني وكاهلي مصاب به الدنيا قد اغبر وجهها ... وقد شمخت أعلام قوم أسافل به هدَّ ركن الدين وانبتَّ حبله ... وشد بناءُ الغي مع كل باطل وقام على الإسلام جهرا وأهله ... نعيق غراب بالمذلة هائل

وسيمم منار الاتباع لأحمد ... هوان انهدام جاء من كل جاهل فقد مات طود العلم قطب رحَى العلا ... ومركز أدوار الفحول الأفاضل وماتت علوم الدين طرا بموته ... وغُيِّبَ وجه الحق تحت الجنادل إمام الهدى ماحي الردى، قامع العدى ... ومروى الصدى من فيض علم ونائل إمام الورى علامة العصر قدوتى ... وشيخ الشيوخ الجد فرد الفضائل "محمد" ذو المجد الذي عز دركه ... وجل مقاما عن لحوق المطاول إلى عابد الوهاب يعزى وأنه ... سلالة أنجاب زكى الخصائل عليه من الرحمن أعظم رحمة ... تبلُّ ثراه بالضحى والأصائل لقد أشرقت نجد بنور ضيائه ... وقام مقامات الهدى بالدلائل ومن شأنه قمع الضلال ونصره ... لمن كان مظلوما وليس بخاذل وكم كان في الدين الحنيف مجاهدا ... بماضي سنان دامغ للأباطل وكم ذبَّ عن سامي حماه وذاد من ... مضل وبدعيٍّ ومغوٍ وفائل ففيم استباح أهل الضلال لعرضه ... وما نكست أعلامه بالأراذل فلولاه لم تحرز رحى الدين مركزا ... ولا اشتد للإسلام ركن المعاقل ولا كان للتوحيد واضح لاحب ... يقيم اعوجاج السير من كل عادل فما هو إلا قائم في زمانه ... مقام نبي في إماتة باطل ستبكيه أجفاني حياتي وإن أمت ... سيبكيه عني جفن طَل ووابل أفق يا معيب الشيخ ماذا تعيبه ... لقد عبت حقا وارتحلت بباطل نعم ذنبه التقليد قد جدَّ حبله ... وفَلَّ التعصب بالسيوف الصياقل

ولما دعا لله في الخلق صارخا ... صرختم له بالقذف مثل الزواجل أفيقوا أفيقوا إنه ليس داعيا ... إلى دين آباء له وقبائل دعا لكتاب الله والسنة التي ... أتانا بها طه النبي خير قائل ثم عزَّى آل الشيخ بأبيات طويلة، وعطف على آل سعود، فقال: وأضعافها للمقرنيين كلهم ... هداة الورى من محتدى فرع وائل هم الناس أهل البأس يعرف فضلهم ... جميع بني الدنيا فما للمجادل؟ لقد جاهدوا في الله حق جهاده ... إلى أن أقاموا بالظبى كل مائل لقد نصروا دين الآله وحزبه ... كما دفعوا داعي الهوى بالقنابل وهي قصيدة طويلة تركت منها أبياتا كثيرة اكتفاء بما يدل على المراد من ذيوع صيت الشيخ محمد وحب العلماء المخلصين أنصار الحق له. 2 0 7 - كان الإمام عبد العزيز قد نزل عن الأمارة لابنه سعود في سنة 1203 فأصبح سعود من ذلك الحين إمام الوهابيين وزعيمهم الأكبر، ولم تشغله إدارة هذا الملك الواسع، والقيام بشئون هذه الدولة الضخمة عن فتح البلاد، وغزو أعداء التوحيد. 2 0 8 - فقد توجه في ذي القعدة من سنة 1216 بجموع كثيرة وقوة عظيمة إلى العراق، والتقى في "كربلاء" بجموع كثيفة من الأعاجم ورجال الشيعة الذين استماتوا في الدفاع عن معاقل عزهم، ومحط آمالهم قبة الإمام الشهيد الحسين رضي الله عنه، وغيرها من القباب والمشاهد. 2 0 9 - ولكن جيش التوحيد قد تغلب بقوة إيمانهم، وصدق

عزيمتهم في الجهاد لهدم كل نُصُب، وطاغوت اتُّخِذَ مع الله شريكا في العبادات وجُعل لله ندا في القربات، وشأن مشاهد كربلاء، والكاظمية والنجف، ومعصومة قوم، وموسى الرضا: عند الشيعة وتعظيمهم لها معلوم للقاصي والداني. 21 0- فكانت موقعة هائلة، وكانت مذبحة عظيمة، سالت فيها الدماء أنهارا، خرج منها سعود وجيشه ظافرين، ودخل كربلاء وهدم القبة العظيمة، بل الوثن الأكبر المنصوب على ما يزعمون من قبر الإمام الحسين بن على رضي الله عنهما، وأقر الله تعالى بهدمها عين الإمام الحسين وعيون الموحدين الذين يتبعون شرعة جد الحسين أشرف الخلق محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عن الحسين وآله الطاهرين. 211 - ويعلم الله كم تتأذى روح الحسين وروح الطيبين من آل البيت بهذه القباب التي حورب بها الله ورسوله، وكيد بها للإسلام وأهله، وقُصد بها إحياء ما أمات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وعليٌّ وعترته وبنوه رضي الله عنهم، وتشبه فاعلوها باليهود والنصارى الذين لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل حياته وقبل موته بخمس، كما روى البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة على وجهه، فإذا اغتمَّ كشفها فقال، وهو كذلك: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، قالت عائشة رضي الله عنها: يحذر ما صنعوا ولولا ذلك لأُبرز قبره وروى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي "أن عليا رضي الله عنه قال له: أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن: أن لاتجد قبرا مشرفاً إلا سويته، ولا تمثالاً إلا طَمَسْتَه".

212 - وروى سعيد بن منصور عن سهيل ين أبى سهيل قال: رآني الحسين بن الحسن بن على بن أبى طالب عند القبر، فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى، فقال: هلم إلى العشاء فقلت: لا أريده فقال: مالي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: لذا دخلت المسجد؟ ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه سلم قال: "لاتتخذوا بيتي عيدا. ولا تتخذوا بيوتكم مقابر. لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. وصلوا عليَّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني. ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء". وروى الضياء المقدسي في المختارة عن على بن الحسين "أنه رأى رجلا يجئ إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى لله عليه سلم فيدخل فيها، فيدعو. فنهاه، وقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبى عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم مقابر، فان تسليمكم يبلغني أينما كنتم" فهدان إمامان جليلان من أئمة آل البيت الأطهار يحذران أشد التحذير من اتخاذ قبر رسول الله صلى الله عليه سلم الذي هو أشرف القبور على وجه الأرض-: عيداً، ويعنيان بالعيد: مجتمع الناس. واعتيادهم ذلك في زمن معين، كما يصنع الناس في الرجبية وفي ربيع الأول للنبي صلى الله عليه سلم، ولغيره من الصالحين والمتقين. فانظر هده السنة التي خرجت من عند آل البيت الأطهار، وأعجب إذ ينسب الرافضة وفروخهم في مختلف البلاد: أعياد القبور وعبادتها والعكوف عندها إلى آل البيت الأطهار الأبرار، وهم بريئون من ذلك رضي الله عنهم براءة عيسى وأمه من عابديهما وعابدي الخشبة التي زعموه صلب عليها- وحاشاه- وكذلك كل من اتخذ معبودا غير الله فإنهم يوم

القيامة يكفرون بشركههم، كما قال تعالى {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} . وقال {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} . 123 - قال العلامة ابن القيم في اغاثة اللهفان "ص102" فمن مفاسد اتخاذها أعياداً الصلاة إليها، والطواف بها، وتقبيلها، واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها، وعبادة أصحابها، والاستعانة بهم، وسؤالهم النصر والرزق والعافية، وقضاء الديون، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيدا- مثل الشيعة في العراق-وقدنزلوا عن الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد، فوضعوا لها الجباه، وقبلوا الأرض، وكشفوا الرءوس، وارتفعت أصواتهم بالضجيج، وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج، ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج. فاستغاثوا بمن لا يبدى ولا يعيد، ونادوا ولكن من مكان بعيد، وإذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين. ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ولا أجر من صلى إلى القبلتين. فتراهم حول القبر ركعا سجدا، يبتغون فضلا من الميت ورضوانا. وقد ملؤا أكفهم خيبة وخسرانا فلغير الله بل للشيطان ما يراق هناك من العبرات ويرتفع من الأصوات. ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين، تشبيها له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركا وهدى للعالمين. ثم أخذوا في التقبيل. والاستلام، أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفد البيت الحرام؟

ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود، التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود. ثم كملوا مناسك القبر بالتقصير هنالك والحلاق. واستمتعوا بخلافهم من الوثن إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق. وقربوا لذلك الوثن القرابين. وكانت صلاتهم ونسكهم وقرباتهم لغير الله رب العالمين فلو رأيتهم يهنئ بعضهم بعضا، ويقول: أجزل الله لنا ولكم أجرا وافر وحظا. فإذا رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحج المتخلف إلى البيت الحرام. فيقول: لا، ولو بحجتك كل عام. هذا ولم نتجاوز فيما حكينا عنهم، ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم، إذ هي فوق ما يخطر بالبال ويدور بالخيال" اهـ 214 - رجع المسلمون في العجم إلى نجد فرحين بما آتاهم الله من النصر والغنائم ثم كان أن عثمان العراقي الرافضي ذهب متنكراً في زي الدراويش إلى الرياض، ونزل ضيفا على الإمام عبد العزيز وأظهر التنسك والطاعة وتعلم شيئا من القرآن، فأكرمه عبد العزيز وكساه ورتب له من يعلمه أركان الإسلام، وأقام ينتهز الفرصة لاغتيال الإمام سعود أو الإمام عبد العزيز. فحانت له في 10 رجب سنة 1218 حين كان قائماً يتظاهر بصلاة العصر في الصف الثالث وراء الإمام عبد العزيز فلما أهوى الإمام عبد العزيز للسجود انتزع الخبيث من داخل ثيابه خنجرا قد أعده لفعلته الشنعاء وطعنه به في خاصرته فضج الناس وتألبوا عليه، فحاول طعن غير الإمام، فلم يمكنوه من ذلك، وقبضوا عليه. فقتلوه ضرباً بالسيوف وحملوا الإمام إلى داره، فمات من هذه الطعنة رحمه الله.

وراح ضحية دسائس الأعاجم المفسدين، كما راح من قبله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بطعنة أبى لؤلؤة الذي كان موفداً من قبل قومه أعداء الإسلام والمسلمين-كما أوفد هذا الدرويش الخبيث-انتقاماً منه لأنه نكس راية المجوسية، وقوض دعائم عزِّ النار آلهتهم التي كانت قد مضى عليها آلاف السنين وهي شامخة الذرى والبنيان. فحسبنا. الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم. 215 - كان الإمام عبد العزيز رحمه الله كثير الخوف من الله كثير الذكر له، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم، ينفذ الحق ولو على أهل بيته وعشيرته، لا يتعاظم عظيما، إذا ظلم فيقمعه عن الظلم، وينفذ الحق فيه. ولا يتصاغر حقيرا ظُلم. فيأخذ الحق له، ولو كان بعيد الوطن. وكان لا يكترث في لباسه ولا سلاحه؛ بحيث كان بنوه وبنو بنيه سيوفهم محلاة بالذهب والفضة، وليس في سيفه هو شئ من ذلك إلا القليل. وكان لا يخرج من المسجد بعد صلاة الصبح حتى ترتفع الشمس ويصلى صلاة الضحى. وكان كثير الرأفة والرحمة بالرعية، وخصوصا أهل البلدان بإعطائهم الأموال، وبعث الصدقة لفقرائهم، والدعاء لهم والتفحص عن أحو الهم. كان يكثر الدعاء لهم في ورده: "اللهم أبق فيهم كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، حتى يستقيموا عليها ولا يحيدوا عنها". 216 - وكانت الرعية في زمنه آمنة مطمئنة في عيشة هنية. كان الشخص الواحد يسافر بالأموال العظيمة في أي وقت شاء من ليل أو نهار، شرقا أو غربا لا يخشى أحدا إلا الله، لا سارقا ولا مكابرا.

وكانت جميع بلدان نجد وغيرها من النواحي يسيبون جميع مواشيهم في البراري ليس لها راع ولا مرعى، وربما تلقح وتلد ولا يدري أهلها إلا إذا جاءت وولدها معها، لا يتعرض لها أحد من غير أهلها. وكان رحمه الله شديدا على الجناة وقطاع الطرق والسرَّاق شدة ليس معها تهاون. 217 - وكان أهالي نجد من جميع نواحيها في غاية الاستقامة والخوف من الله أو من عقاب عبد العزيز، وكانت الزكاة والأخماس والغنائم التي تجبى إلى الدرعية لا يحصيها العد. وكان رحمه الله تعالى يوزعها كلها على ضعفة المسلمين وفقرائهم وفي وشراء السلاح والعتاد والخيل. 218 - وكان رحمه الله تعالى كثير العطاء والصدقات، جاءه يوما خمسة وعشرون حملا من الريالات فمر عليها وهي مطروحة، فنخسها بسيفه وقال: اللهم سلطني عليها ولا تسلطها على؛ ثم فرقها. 219 - وكان رحمه الله مع هذه الشفقة شديد الهيبة في النفوس. إذا أراد هو، أو أحد أولاده الخروج إلى غزو وواعد الناس يوما معينا على مكان معين، لا يتخلف منهم أحد من بوادي الحجاز ولا العراق ولا الجنوب ومن تخلف بعث إليه واحدا من عنده فيؤدبه بالضرب، أو أخذ المال. ويعذب المجرم بأنواع العذاب ولا يستطيع أحد أن يتعرض له، أو يعين المجرم، بل كلهم مطيعون خاضعون. وكل هذا إنما كان لإقامته حدود الله تعالى، وإجراء العدل على نهجه، فلا ينال البريء شيء من السوء أو الأذى، بل ينتظر الكرامة والعطايا. 22 0- وكان حريصا كل الحرص على نشر العلم، وتعليم الناس

ما يفقههم في دينهم فيخافون ربهم وعذابه أشد مما يخافون نكال عبد العزيز ويعرفون حق الإمام الذي جعله الله تعالى عليهم: من السمع الطاعة، ويرون من سجايا هؤلاء الأئمة ما يملأ قلوبهم بمحبتهم وإجلالهم وتعظيمهم. 221 - وكان هذا شأن الإمام محمد والد عبد العزيز، وشأن سعود ولد عبد العزيز وشأن عبد الله بن سعود. وكذلك هو شأن الإمام الكبير والملك العظيم: عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل بن تركي، ملك المملكة العربية السعودية. فانه سلك سيرة آبائه الطيبين وأحيا العمل بكتاب الله المبين؛ وسنة النبي الأمين، فقطع دابر المفسدين، وطهر الأرض وأمن السبل لكل المسافرين، بعد أن كان الحاج لا يكاد يتخلف عن القافلة قليلا حتى يؤخذ فيسلب ماله أو يقتل، ويذهب دمه الحرام هدرا بيد أولئك البدو السفاكين. فحق على كل مسلم أن يسأل الله الكريم أن يديم ظل هذه الدولة السعودية ممدودا على الحجاز ونجد وملحقاتها وأن يمتع المسلمين بخيراتها وبركاتها إنه سميع مجيب.

النجديون في الحجاز في المرة الأولى

النجديون في الحجاز في المرة الأولى: 222 - في سنة 1217 نقض الشريف غالب بن مساعد ما كان قد عقد من الصلح مع الإمام عبد العزيز بن محمد وولده الإمام سعود، فلم يرق ذلك في نظر عثمان بن عبد الرحمن المضايفى وزير غالب، وزعيم عربان تَرَبة، وما جاورها، فنابذه وخرج من مكة مغاضبا للشريف، والتحق بالإمام عبد العزيز وبايعه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه سلم والسمع والطاعة،

وحظي عثمان عند آل سعود حظوة عظيمة، لما رأوا من إخلاصه، وصدق رغبته في الدين، وصار من ذلك الحين من زعماء جيش التوحيد. ثم نزل عثمان ببلدة العبيلا، بين الطائف وتربة. واجتمع إليه كثير من عربان الحجاز وغيرهم. فبلغ ذلك الشريف غالبا فسار إليه بجموع كثيرة من الحجازيين والأتراك وغيرهم. وكانت بينهما موقعة هزم فيها عثمان ومن معه، ثم استنجد عثمان بمن يليه من الموحدين، فلبوا سراعا، وسار إليه جماعات كثيرة: من بيشة وقراها ورينية قراها وأهالي، تربة، وما والاها من البقوم وقحطان وعتيبة. وسار هذا الجمع الكثير إلى الطائف، وكان غالب ومن معه قد انحازوا إليها. فما كاد يبلغهم خبر هذا الجيش الكثيف، حتى فروا هاربين إلى مكة. فدخل عثمان ومن معه الطائف، وأخذ منها أموالا طائلة تركها الفارون ليتخففوا. فبعثها إلى الإمام عبد العزيز. فبعث إليه عبد العزيز يوليه على الطائف والحجاز أميرا. 223 - ثم إن الإمام سعوداً سار بجيوش كثيرة حتى نزل وادي العقيق. وكان ذلك أيام الحج، وفي مكة كثير من الحجاج، فحاول غالب ومن معه من أشراف مكة وعلمائها أن يجندوا من الحجاج جيشا يردون به سعودا، ويمنعونه من دخول الحجاز، فلم يفلح، وانصرف الحجاج إلى بلادهم. فألقي الله الرعب في قلب غالب، فخرج من مكة هاربا إلى جدة ومعه ما استطاع حمله من أمواله وذخائره ولحقه أتباعه وعساكره. 224 - وبلغ ذلك سعودا فرحل من وادي العقيق إلى مكة. ودخلوا المسجد الحرام محرمين آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين لا يخافون

ولا يخيفون. واستولى على مكة بلا حرب ولا قتال. ونادى في الناس بالأمان ووزع عليهم من كثير الصدقات والأعطية مالا يحصى. وشرع بعد ذلك في هدم القباب والأنصاب التي في مقبرة المعلاة وغيرها من الأماكن التي اتخذها أهل مكة من المطوفين سبيلا إلى ابتزاز أموال الحجاج بالباطل. وكان بمكة عاليها وسافلها ووسطها، وفي بيوتها من ذلك شيء كثير جدا، لبثوا في هدمه عشرين يوما 225 - ثم ولى سعود على مكة الشريف عبد المعين بن مساعد ونزل إلى جدة فحاصرها أياما، ثم تركها وكرَّ راجعا إلى مكة فرتب فيها الجند والموظفين ثم عاد قافلا إلى وطنه. ثم ما لبث غالب أن ثاب إلى رشده وبادر إلى مصالحة الإمام سعود، فصالحه ورجع إلى مكة فأقام بها. وكذلك أهالي المدينة المنورة قد أرسلوا ببيعتهم إلى الإمام سعود، في سنة 1220، وقاموا بهدم ما في البقيع وغيره من القباب والتي على قبر حمزة، والشهداء. 226 - وكان الإمام سعود بعد مصالحة غالب، وإظهاره السمع والطاعة، يحج كل عام بجموع كثيرة من أطراف نحد ونواحيها، وبنى له قصرا بالبياضية بجانب المعلاة على يسار الذاهب إلى منى، وكان يكسو الكعبة كل سنة بالقيلان الأسود وإزارها وبابها من الحرير المطرز بالذهب والفضة، ويقيم في مكة ما بين الثماينة عشر يوما إلى العشرين، يوزع على أهل مكة وضعفائها من الصدقات والأموال شيئا لا يحصى ويتزاور هو والشريف غالب ويتهاديان.

227 - وهكذا حج سعود ثماني حجات آخرها في سنة 1226 يحج معه كل عام عشرات الآلاف من أطراف هذه المملكة العظيمة، ويكسو الكعبة على الصفة الماضية، ويتصدق على أهل مكة بالصدقات الطائلة والأموال الوفيرة، ويقيم أياما، ثم يقفل راجعا إلى نجد معرجا على المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام فيقضى فيها أياماً يصلى في مسجد الرسول ويوزع على أهلها الصدقات الكثيرة. 228 - وفي سنة 1226 خرجت من مصر الجيوش الكثيفة بقيادة طوسون باشا بن محمد على باشا، وبدأت الحرب بين الفريقين إلى انتهت بزوال ملك آل سعود من الحجاز ومن نجد، وتشريدهم في البلاد، ومعهم أولاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وجئ بكثير منهم إلى مصر، وبقوا فيها مدة ثم عادوا فارين، أو مأذونا لهم إلى نجد. وأسسوا فيها مرة ثانية دولة سعودية، ودعوة إسلامية، انتابتها أحداث في أدوار نشأتها، حتى استقرت سفينتها أخيرا بعد طول الارتطام، والتقلب مع عواصف الفتن:- على شاطئ النجاة بقيادة ربانها الماهر، وقائدها العظيم جلالة الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود أدام الله تأييده ونصره، وجمع بينه وبين إخوانه ملوك المسلمين الآخرين على أحسن ما يجب الله ورسوله والمسلمون.

حال الحجاز في العهد السعودي وقبله وبعده

حال الحجاز في العهد السعودي وقبله وبعده: 229 - كانت الدولة العثمانية حين قيام الشيخ محمد بن عبد الوهاب بدعوته، في غاية الخلل والانحلال، واضطراب حبل الأمن في ولاياتها ووهن عناصر القوة فيها: وكان من آثار هذا الوهن: أنها لا تولي – في الغالب- وظائف الدولة، وإمارة الولايات، إلا لمن يدفع الرشوة ثمن ذلك لمن بيده الأمر، وربما يكون الأمر في كثير من الأحيان بيد جهلة المتصوفة أو بعض أشياعهم الخاضعين لنفوذهم. فيكون من أثر هذا أن تسند الأمور إلى غير أهلها، فضلا عما كان عليه كثير منهم من انحلال الأخلاق بانحلال عروة الدين عن نفوسهم، فكان الوالي إذا حل في وظيفته لا همَّ له إلا إشباع نفسه الشرهة، من شهوات وملذات، ومن أموال ودور وعقار، يأخذها غصبا، ويدفع ثمنها لمن يطلبه سياطا على الظهور والجنوب، وكم أصيبت مصر وأهلها بالكثير من هذا الأذى، مما ألجأ المصريين إلى انتخاب محمد على باشا واليا على مصر، لما توسموا فيه من الخير لمصر والعقل والسياسة، والقوة، والحزم، وحب الإصلاح العمران. 230 - فقامت الدولة وقعدت، وأرغت وأزبدت، فلم يعبأ محمد على بها، ولم يعرها المصريون اهتماما، وتمنوا لو أنهم تخلصوا مرة واحدة من هذه التبعية التي طالما جرت على مصر الدمار والخراب 231 - وأخذ محمد على باشا سبيله في إصلاح مصر، وتنظيم جيشها، واستثمار أراضيها وخيراتها، وإعدادها لتكون دولة عظيمة كشأنها في الأعصر الماضية. وواتاه الحظ، بما وجد في نفوس المصريين من

التعطش لما يدعو إليه بعد ما احترقت قلوبهم من امتصاص الولاة الترك دماءهم وأموالهم 232 - وسار محمد على باشا في سبيله بجد ونشاط لا يعرفان الكلل ولا السآمة، وقضى على كل مخلفات ولاة الأتراك من الرشوة، والاغتصاب والظلم وانتهاك الحرمات، فسارت مصر إلى الرقي المادي بخطى واسعة حتى تبوأت مكانة، خافتها الدولة العثمانية وخشيت من تقدم الوالى العظيم محمد على المطرد في سبيل المجد والعظمة. 233 - وكان الحجاز أشقى من مصر، وأتعس حظا، إذ كانت الدولة تعتبره منفى لكل وال، أو موظف، أو ضابط، اشتهر من أعماله وأخلاقه ما يضج منه العباد والبلاد، فأين تذهب به؟ وأي البلاد ترميها بهذا الأثيم؟ الحجاز المسكين، البلاد المقدسة التي جعلها الله مثابة للناس وأمنا. فإذا ما حط رحله في الحجاز، وهو يعتقد أنه جيء به إلى المنفى للانتقام منه- أخذ يأتي من أنواع فساده وضروب شره، ما كان من نتائجه: الذي تسامع به الناس كلهم: أن مكة منتشر فيها الأمراض السرية: من السيلان والزهري وغيرها من ثمرات الفسق والفاحشة، مما أمسك قلمي ولساني عن الخوض فيه. وكان فيها من أنوع التهتك في الملاهي والخمور ما يدهش الإنسان عند ما يسمع حكايته ممن شهدوه في عهد الأتراك من كبار الأسنان. 234 - وكان هذا شأن ولاة الأتراك في الحجاز إلا القليل النادر جدا من بعض الولاة الصالحين الذين يعدهم الحجازيون على أصابع يد واحدة أو أكثر بقليل. وإلى جانب هؤلاء الولاة المفسدين من الأتراك يأتي الأشراف

الذين كان أكثرهم مُنشأ في الآستانة، أو ما شابهها في المدنية، والذين كان أكثرهم لا يحسن إلا التعاظم بالأنساب، والتفاخر بالآباء والأجداد، وينظرون إلى الناس كأنهم جميعا عبيد لهم، وكل ما ملكت أيديهم فهو حق للشريف يأخذ منه ما يشاء فكم كان لهؤلاء أيضا من أذى وفساد ونهب واغتصاب للأموال والأعراض، وانتهاك للحرمات، إلا من شاء الله من القليل الذي كان يخاف الله ويتقيه. 235 - كان هذا في الحجاز سببا عظيما مهد الله به للسعوديين الموحدين العادلين في دخول الحجاز سنة 1218، كما مهدَّ أيضا لهم ظلم الحسين بن على، واستبداده وغطرسته وجهله في إدارة الشئون. في دخولهم إياه سنة 1343. 236 - كتب الإمام سعود بعد دخوله مكة إلى السلطان سليم العثماني الكتاب الآتي: "من سعود إلى سليم. أما بعد فقد دخلت مكة في الرابع من المحرم سنة 1218، وأمنت أهلها على أرواحهم وأموالهم، بعد أن هدمت ما هناك من أشباه الوثنية. وألغيت الضرائب، إلا ما كان منها حقا. وثبت القاضي الذي وليته أنت طبقا للشرع. فعليك أن تمنع، والي دمشق ووالى القاهرة من المجئ، بالمحمل والطبول والزمور إلي هذا البلد المقدس. فإن ذلك ليس من الدين في شيء. وعليك رحمة الله وبركاته". 237 - ويقول المؤرخ النجدي ابن بشر رحمه الله "شهدت سعودا، وهو راكب مطيته محرما بالحج ونحن مجتمعون في نمرة لصلاة الظهر والعصر خطب قوق ظهرها خطبة بليغة وعظ الناس فيها وعلمهم المناسك، وذكرهم

ما أنعم الله عليهم من الاعتصام بكلمة لا إله إلا الله، وما أعطى الله في ضمنها من الاجتماع بعد التفرق، وأمان السبل، وكثرة الأموال، وانقياد عصاة الرجال، وأن أضعف ضعيف يأخذ حقه كاملا من أكبر كبير من مشايخ البوادي، أو عظم عظيم من رؤساء البلدان. ونادى وهو على ظهرها: لا يحمل في مكة سلاح، ولا تتبرج امرأة بزينة. وتوعد من فعل ذلك من جميع رعيته. وجعل في الأسواق وقت الصلاة رجالا يحضون الناس عليها فلا تجد فيها وقت الصلاة متخلفا إلا نادرا. ولا تجد في الأسواق من يشرب التنباك ولا غيره من المحظورات إلا مالا يرى ظاهرا". 238 - هذا هو دستور آل سعود في حكمهم الأول للحجاز، وهو دستورهم أيضا في حكمهم الثاني، لم يتغير فإذا ما قارنا بين ولاية الأتراك والأشراف وبين ولاية السعوديين لظهر لنا ما كانت تجره الأولى وراءها من مظالم، وأكل لأموال الناس بالباطل وانتهاك لحرمات الأعراض، وما يتبع ذلك من تمرد العريان وانتشار قطاع الطرق في كل مكان. وقسوة بالغة في معاملة الحجاج واستهانة بأرواحهم ودمائهم. دع عنك شيوع الجاهلية، وعقائد الوثنية، وإضاعة الصلاة، ومنع الزكاة، وتعدى الحدود، وغير ذلك. مما قضى على كل البلاد بالدمار والخراب، ثم كان من ثمرته أن قضى أخيرا على الدولة نفسها. 239 - أين هذا من حكم السعوديين وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وإقامتهم لحدود الله بلا تهادن ولاتراخ، ونشرهم نور الله وبثهم المعارف في كل مكان يحلون فيه، حتى البادية، وإيقاف كل واحد

عند حده لا يتعدى على غيره في مال ولا نفس ولا عرض، والضرب على أيدي المفسدين بعصا الإسلام الرادعة الزاجرة، حتى أصبح الحجاز مضرب المثل في الأمن. والاستقامة على صراط الله القويم، ودبت فيه روح الحياة القوية بنشر العلوم والمعارف، وأخذ أهله في ظل هذا الاطمئنان يفكرون في الأعمال المثمرة، من صناعات وغيرها؟ 240 - حكي الأستاذ أمين الريحاني عن "بركهارت السويسري" الذي دخل مكة يوم كان الأمير محمد على باشا بها سنة 1230 أنه قال "ما شعرت في مكان آخر بمثل الطمأنينة التي كنت أشعر بها وأنافي مكة"ولكنه لم يجهل أو يتجاهل ما اشتهر به المكيون والترك يومئذ من قبيح العادات والتقاليد، فذكرها في كتابه كلها وقد قال في كلامه عن الوهابيين "إنهم حقا جاءوا يطهرون الحجاز" ثم قال "وما الوهابية إذا جئنا نصفها: غير الإسلام في طهارته الأولى، وإذا ما جئنا نبين الفرق بين الوهابيين وبين الترك مثلا، فما لنا إلا أن نعد الخبائث التي اشتهر هؤلاء الترك بها". 241 - جاء الوهابيون يطهرون الحجاز، نعم، إنهم طهروه مما كان قد لوثه به ولاة الأتراك المنفيون إليه، ولكن شاء الله أن لا يطول عهد السعوديين في المرة الأولى في الحجاز، فخرجوا منه في سنة1228. وكان عليهم من الكائنات، والأحداث ما عزاه كثير من علمائهم، ومنهم ابن بشر:- إلى افتتانهم بالدنيا حين اتسعت عليهم. ودرت عليهم المال الكثير؛ وتراخيهم في تعليم الرعية الدين الصحيح، من القرآن والسنة، وانشغالهم

عن ذلك بما فتنوا به، وحين اختلطوا بالحواضر وامتزجوا بأهل المدن، فسرى إليهم من عدواهم. فانتقم الله منهم لذلك بما صار عليهم من الدمار والنكال. ونسأل الله لنا ولهم العافية من ذلك. 242 - وصل سعود بجيوشه إلى الجوف ثم إلى بصري، وحوران فأصبح على حدود الشام، أغنى ولايات الدولة العثمانية، وقويت شوكة الأمير محمد على باشا في مصر، واشتهر صيته في الإصلاح والعمران. وهو رجل طموح إلى العلى لا يرضى إلا به، فماذا عليه لو نادى بنفسه ملكا على مصر، وكل المصريين يحبونه يسمعون له ويطيعون، وقد أصبح عنده جيش لا يستهان به؟ ثم ماذا يكون حال الدولة بعد هذه الكوارث: الحرمان الشريفان ضاعا بيد الوهابيين، والشام على وشك الضياع، ومصر كذلك؟ وأوروبا تنظر إلى محمد علي باشا، وقيامه ببناء هذه الدولة المصرية العظيمة بعين الحقد والخوف، أن يؤول ذلك إلى دولة إسلامية ضخمة ترجع إلى الإسلام مجده، وتخيب آمالهم التي كانوا يبنون قصورها من أنقاض الدولة العثمانية الظاهر وهنها وتحللها وفساد أمرها. فقاموا ينصحون للدولة أن تصدر أمرها إلى الأمير محمد على أن يذهب بجيوشه لحر ب الوهابيين، فتكون قد أصابت عصفورين بحجر واحد. وإما أن لا يظفر أحدهما بالآخر، فتبقى أمام عدو واحد. وإما أن لا يظفر أحدهما بصاحبه، فيكون ذلك إنهاكا لقواهما جميعاً، وشغلا لهما عنها، حتى تتفرغ لكليهما ولو بعد حين. 243 - انتهزها محمد على باشا فرصة لتوسيع سلطانه ومد جناحيه

على الحرمين الشريفين، وذلك ما كان يرجوه ويصبو إليه من كل نفسه. 244 - وبلغ محمد على ما أراد من الحجاز ونجد، فأراد ضمهما إلى مصر، لكن أوربا لم تمكن له، فأغرت به الدولة العثمانية، وكان هو من جانبه يصانعها حرصا على كيانها أمام أوربا، وخوفا على الخلافة أن تضيع، فعاد الحجاز إلى الدولة العثمانية في ربيع الأول سنة 1243هـ، وعاد الفساد والفسق، وعبادة القبور وانتهاك الحرمات واضطراب الأمن، وفساد لأحوال، وعادت الجاهلية قريبا مما كانت. 245 - توالت على نجد، وعلى آل سعود الكوارث بعد الحرب التركية التي انتهت باستيلاء إبراهيم باشا على الدرعية، وتخريبها، والقبض على كل آل سعود وآل الشيخ، وإرسالهم أسرى إلى مصر، إلا من أفلت من أيديهم، وهرب في البادية فلم يقدروا عليه، وإرسال الإمام عبد الله بن سعود إلى الآستانة، ثم قتله بها، بعد إعطائه العهود الوثيقة بالأمان على نفسه وولده وماله. وعادت إليها القلاقل والفساد، لكن بعد مدة وجيرة، عاد كثير من آل سعود إليها، وعملوا على إرجاع ملكهم المضاع، وإصلاح ما فسد، ثم وقعت بين أفراد الأسرة السعودية فتن أخرجت الرياض من أيديهم في سنين عدة إلى آل الرشيد، من قبيلة شمر أمراء حايل. 246 - كانت الدولة العثمانية لا تفتأ تغري آل الرشيد بآل سعود وتمدهم دائما بالسلاح والمال للقضاء عليهم، وبعد حروب وفتن وقلاقل انتهى الأمر إلى استيلاء عبد الرحمن بن الرشيد على الرياض وإخراج الإمام عبد الرحمن بن فيصل بن تركي، والد جلالة الملك عبد العزيز، إلى

الكويت، وكان الإمام عبد العزيز إذ ذاك في العاشرة من عمره، فأقاموا ضيوفا على مبارك الصباح أمير الكويت إلى رمضان سنة 1319، إذخرج الملك عبد العزيز على رأس 40 بطلا من آل سعود، مصمما على دخول الرياض وانتزاعها من آل الرشيد وقتل عجلان أميرها من قبلهم أو الموت، فانه أهنا من حياة الذل بعيدا عن ملكه ووطنه. 247 - وكان السعد له رفيقا، فقد بلغ الرياض في اليوم الرابع من ذي القعدة، وأعمل الفكر في الاحتيال لدخول البلد، التي كانت مسورة بسور حصين تغلق أبوابه عند الغروب من كل يوم، فوفق الله، ودخل البلد، وتسلق الجدار حتى دخل القصر، وأخذ يبحث عن عجلان، في قصر الإمارة فوجده عند إحدى زوجاته في مكان آخر، فادخل رفقاءه وجلسوا يأكلون ويشربون إلى الصباح، ولبث حتى خرج عجلان من منزله، ثم هجم عليه هو ورفقاؤه وبعد محاولات، تمَّ قتل عجلان، وتسليم الرياض إلى البطل الفاتح عبد العزيز. 248 - وفرح بذلك أهل الرياض كل الفرح، فان آل سعود- وخصوصا الإمام عبد الرحمن وبنيه- كان لهم في قلوب أهالي الرياض الذين كانوا مخلصين في إيمانهم وحبهم منزلة لا تدانيها منزلة، وذلك لما كان مشهورا عنه من الإيمان الصادق، والتقوى، والعدل والشفقة التامة بالرعية، والحظ الوافر في نصر عقيدة التوحيد. وقد كان العلماء من آل الشيخ يحبونه كل المحبة، ويعتبرونه كوالد للجميع. لما كان ينالهم من بره بهم، وعطفه عليهم.

249 - ولقد كان يستحق هذا الحب وأكثر منه من آل الشيخ وطلبة العلم، وكل الناس، لأنه قد كان فيه من الخصال الحميدة، وصفات المؤمنين الأتقياء ما لا يكاد يوجد إلا في ولده جلالة الإمام عبد العزيز. 250 - وقد رأيت يوم كنت بمكة كبار العلماء من آل الشيخ يبكون مرَّ البكاء يوم جاء الخبر بوفاة الإمام عبد الرحمن حتى لترى الواحد منهم كأنه يبكي أباه بل أكثر، وكنت تسمع من تفجعهم عليه، ومن حزنهم أمرا عجبا، وكانوا يقصون علينا من جلائل أعمال الإمام، وحبه لأهل العلم ما يعذرهم السامع له في ذلك الحزن ويشاركهم البكاء. 251 - أخذ ابن الرشيد يشن الغارة ويؤجج نار الحرب على الإمام عبد العزيز سنين طويلة تمده فيها الدولة العثمانية بكل ما تستطيع حتى انتهى الأمر باستيلاء الإمام عبد العزيز على حائل سنة 1940، وأخذ آل الرشيد إلى الرياض ولا يزالون عنده إلى الآن في غاية الكرامة والإعزاز. 252 - ثم كان شريف مكة الحسين ين على قد أعلن التمرد على الدولة العثمانية وقتل من ضباط الأتراك والموظفين في الحجاز منهم عددا كثيرا، ومثَّل بهم تمثيلا تتفطر لهَوْله القلوب، فإنه كان يأتي بجثة الضابط أو الموظف ويجرها من رجلها أمام زوجه وأطفاله والناس، وأخذ نساءهم وأطفالهم وسلمهم للانكليز، بعد أن سلط عبيده، وخدمه على أولئك المساكين يفعلون معهن ومع أطفالهن من المنكر ما يشمئز المسلم من ذكره وحكايته وما تسمع فواجعه المفتتة للقلوب من الحجازيين الذين شهدوا هذه المآسي

بأنفسهم، وجمع أقصى ما استطاع من عربان الحجاز وباديتها وجيشهم بقيادة والده الملك فيصل انتصاراً للانكليز على الأتراك في الجزيرة والشام وانتهى الأمر بانهزام الأتراك وخروجهم من الشام بعد أن أذاقوا أهله الأمرَّين من ظلمهم. ولقد كان لجيش فيصل هذا في الميدان الشرقي أعظم الأثر في انتصار الحلفاء في الحرب العامة، فإنه حفظ لهم طريق الهند، واستراليا، اللتين كانت ترد منهما الجيوش بكثرة هائلة. 253 - وكان الحسين يفعل ذلك لاطفاء ما كان في نفسه من نار العداوة المتأججة على الأتراك، ويبتغى إرضاء الانكليز الذين منُّوه الأماني الكاذبة، وخدعوه بإمبراطورية عربية يكون حضرة الشريف على رأسها ملكا وخليفة للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. وما لبثت أحلامه أن طلع عليها صبح الحقيقة، فتبددت وعجز أن يشفى غيظه من الإنكليز إذ خدعوه. فوجه نار حقده إلى ألد أعدائه وأعظم خصومه الإمام عبد العزيز، لأنه هو الأمير العربي الوحيد الذي كان يخافه لقوته وسطوته، والذي كان مع هذا الخوف يعتقد كفره لعقيدته السلفية التي كان الحسين يحاربها في الحجاز بكل ما استطاع، حتى منع دخول كتب شيخ الإسلام بن تيمية، وابن القيم ومؤلفات غيرهم من علماء السلف، الداعين إلى خلع الأوثان وإخلاص العبادة الله، وكان إذا سمع عن واحد من الحجازيين عنده كتاب من هذه الكتب زج به في غيابات سجن القبو، وقد فعل ذلك بالمرحوم الشيخ أبى بكر خوقير مؤلف فصل المقال، وإرشاد الضال في توسل الجهال، وولده الذي كان ضابطا بالجيش التركي حتى مات هذا الولد

الضابط وبقيت جثته أمام والده أياما كثيرة حتى تعفنت وظهر عفنها وما خرج الشيخ خوقير عليه رحمة الله من سجن القبر إلا بعد دخول السعوديين إلى مكة، بعد أن أصيب بأمراض مزمنة مما لقي من أهوال هذا القبو 254 - ولطالما حاول إيصال الأذى لكبير أعيان الحجاز السيد محمد حسين نصيف أفندى، لأنه سلفي العقيدة، وما عصمه منه إلا الله ثم نفوذ هذا السيد، وغناه ومركزه المادي والأدبي في العالم الإسلامي كله 255 - ولقد منع الحاج النجدي من أداء مناسكه سنين عدة وحال بينهم وبين المسجد الحرام الذي جعله الله للناس سواء العاكف فيه والباد. وهذا زيادة على ما كان يبثه دائما ضد الإمام ابن سعود والنجديين وعقيدتهم السلفية. ثم أخذ يوقد نار الفتنة في إمارة عسير بواسطة جواسيسه، ويكتب في جريدة القبلة المقالات المثيرة لها، حتى إذا كانت سنة 1920 بعث حملة عظيمة مسلحة بكل ما كان عنده من مدافع ورشاشات وبنادق حديثة كان بعث بها إليه الانكليز في ثورته على الأتراك، ولم يبق في مخازنه سلاحا إلا أخرجه مع هذا الحملة. وكانت بقيادة ولده الأمير عبد الله، وما وصلت إلى تربه حتى بيتها جند الأخوان فافناها عن آخرها، ولم يسلم الأمير عبد الله إلا باعجوبة: إذ شق الخيمة من الخلف وخرج وعبده يعدو به فرسه حتى دخل على أبيه الحسين بمكة على شر حال. وقد كان هو وأبوه من غرورهما يزعمان أن حملتهم هذه ستواصل زحفها حتى تكتسح الرياض في أيام قلائل، ولكن الله غالب على أمره

256 - ولقد كان من السهل اليسير جدا على جيش الإخوان أن يتابعوا زحفهم حتى يدخلوا الحجاز في ذلك الحين، ولكن أوامر الملك ابن السعود ردتهم عن ذلك؛ واكتفى بهذه الضربة لعل الحسين يرعوى، ويستيقظ من حماقته، وغطرسته. 257 - لكن الحسين كان عنيداً، ضيق التفكير معجبا بنفسه. كتب إليه ابن السعود يخطب وده، ويرجوه أن يعمل على جمع كلمة أمراء العرب، ولمِّ شملهم، بعقد مؤتمر منهم يعمل على إطفاء نار الفتن من بينهم حتى لا يكونوا لقمة للعدو الذي يتربص بهم الوهن والضعف من وراء تناحرهم فكتب إليه الحسين كتابا لا. يليق أن يصدر من رجل عادى فضلا عن شريف عظيم يريد أن يكون خليفة للمسلمين. وأخذ مع هذا يبث جواسيسه ودعاته لإشعال نار الفتنة في عسير حتى قامت فيها ثورة أطفاها الملك ابن السعود قبل استفحالها. 258 - فلما رأى السعوديون أن الحسين لا يكف شره، ولا يترك فرصة في الكيد لهم إلا انتهزها، أمر جلالة عبد العزيز الشريف البطل، خالد بن لؤى أن يهجم برجاله على الطائف، فتقدم إليها ووصلها في أول صفر سنة 1343، وفر من كان فيها من جند الهاشميين واستولى عليها في السادس من صفر. 259 - فجمع الشريف الحسين جيشاً مهلهلا استأجر رجاله من أهالي مكة والأغراب المقيمين فيها والاعراب حولها، فالتقى بهم جيش الإخوان في لهدا، فما هي إلا جولة تمزق فيها الجيش الحسيني وولى منهزما إلى مكة، وتابع

الإخوان زحفهم إلى مكة، فقام عقلاء الحجازيين على الحسين وأرغموه على الخروج من مكة حتى لا يقع فيها حرب، ويدخلها الإخوان آمنين. فجمع أمواله ومتاعه، وخرج إلى جدة، ودخلها الشريف خالد والأخوان محرمين معتمرين، في نصف ربيع الأول سنة 1343 ونادوا في الناس بالأمان وأن لا يخاف أحد على نفسه، مادام متبعا لأحكام الإسلام. 260 - واضطر الحسين تحت ضغط الحجازيين على النزول عن الملك لولده الأكبر علي بن الحسين في يوم 6 ربيع الأول سنة 1343، ثم رحل بما جمع من أموال الحجازيين وغيرهم ظلما، إلى العقبة، ثم بعد أيام رحل على بارجة انجليزية إلى قبرص، حيث مات بها في سنة 1352 ونقلت جثته إلى القدس فدفن فيها، وجاء الملك عبد العزيز إلى الحجاز، في جمادي الأولى وأبى رحمةً بالحجاز وأهله وضيوفه إلا إخراج الهاشميين من الحجاز مرة واحدة ثم يحكمِّ المسلمين في مصير الحجاز، لأنه لا غاية له فيه ولا مطمع. وزحف على جدة في جمادى الآخرة. فحاصر الملك علياً في جدة أحد عشر شهرا انتهت بتسليم الملك على وسفره من الحجاز إلى بغداد في 24 ديسمبر سنة 1925 وبذلك دخل الحجاز كله تحت الراية السعودية الإسلامية السعيدة. 261 - وكتب الإمام عبد العزيز إلى العالم الإسلامي أن تبعث كل حكومة وهيئة إسلامية مندوبين من قبلها لتقرير مصير الحجاز وحكومته، فلم يرد عليه إلا جمعية الخلافة الإسلامية في الهند. وتبين بعدُ أنه كان لمندوبيها غرض لا يتفق مع الشرف الإسلامي ولا مع قداسة الحجاز. 262 - لما طال الحصار على جدة اشتد الضيق على أهلها، وعرف

العقلاء أن جيش الملك على الذي كان مؤلفا من مرتزقة الآفاقيين والضعفاء، والبدو القليلين: لا فائدة منه، ومحال أن يتغلب على الإخوان الاشداء المتحمسين – ارغمو الملك عليا علي التسليم، فوسط قنصل انكلترا في جدة أن يسعى لدى الملك ابن السعود في الصلح والاتفاق على شروط التسليم فكتب القنصل إلى الملك ابن السعود: 263 - "بعد الاحترام، مراعاة للإنسانية، ولأجل تسهيل عودة السلام والرفاهية إلى الحجاز: أكون مسرورا إذا تفضلتم عظمتكم بالموافقة على مقابلتي بالرغامة غدا يوم الخميس 17 ديسمبر سنة 925 قبل الظهر، أو بعد ذلك بأسرع ما يمكن" فارسل إليه الرد بالموافقة. فاجتمعا، وتم الاتفاق على شروط تسليم جدة، وهى تتلخص فيما يأتي "أن يسلم الملك على ما يكون عنده من الأسرى وأن يسلم كل الضباط والعساكر بأسلحتهم ومهماتهم الحربية إلى الملك عبد العزيز، بشرط أن لا يخربوا شيئاً منها، وأن تكون جميع ممتلكات الحكومة من دور وأبنية وأثاث وبواخر ومنشئات وسنابيك ملكا للملك عبد العزيز، ويتعهد الملك عبد العزيز أن يضمن سلامة جميع السكان والموظفين، وأن يمنحهم العفو العام، وأن يرحل الضباط العساكر الذين يرغبون العودة إلى أوطانهم، وأن يوزع عليهم خمسة آلاف جنيه، وأن يبقي الصالح من موطفي الحكومة في وظائفهم، وأن يسمح للملك على أن يأخذ أمتعته الشخصية، وأن يمنح أسرة الحسين ممتلكاتهم الموروثة، بخلاف ما يكون أصله وقفا أو أنشأه

الحسين أثناء حكمه. وأن يمنح سكان وأهالي ينبع كل ما منح لأهالي جدة. فان خالف الملك علي أو رجاله أو قصروا في تنفيذ أي شرط من هذه الشروط فيكون الملك عبد العزيز غير مسئول عما عليه في هذا الاتفاق". 264 - بعد التسليم انتخب أعيان الحجاز وفدا من بينهم قابل ابن السعود، وطلب إليه أن يترك لهم حق تقرير مصيرهم، فأجابهم إلى ذلك، وأصدر: بيانا هذا نصه: 265 - "أما بعد فقد بلغ القاصي والداني ما كان من أمر الحسين وأمرنا إلى أن اضطررنا لامتشاق الحسام دفاعا عن أرواحنا وأوطاننا، ودفاعا عن حرمات الله ومحارمه. ولقد بذلت النفس والنفيس في سبيل هذه الديار إلى أن يسر الله الكريم بفضله فتحها واستتباب الأمن فيها. ولقد كانت عزيمتي منذ باشرت العمل في هذه الديار أن أنزل على حكم العالم الإسلامي- وأهل الحجاز ركن منه-في مستقبل هذه الديار المقدسة. ولقد أذعت الدعوة للمسلمين عامة غير مرة أدعوهم لعقد مؤتمر إسلامي يقرر في مصير الحجاز ما يرى فيه المصلحة ثم عززت ذلك بدعوة عامة وخاصة. فأرسلت كتابا للحكومات والشعوب الإسلامية في 10 ربيع الآخر سنة 1342. وقد نشر ذلك الكتاب في سائر صحف العالم. ومضى عليه ما يزيد عن الشهرين لم أتلق على دعوتي جوابا من أحد، ما عدا جمعية الخلافة في الهند، فإنها -بارك الله فيها- عملت وتعمل كل ما في وسعها لراحة الحجاز وهنائه. ولما انتهى الأمر في الحجاز إلى هذه النتيجة التي نحمد الله

عليها جاء أهله جماعات ووحدانا يطلبون منى أن أمنحهم حريتهم التي وعدتهم بها في تقرير مصيرهم، فلم يسعني أمام طلباتهم المتكررة إلا أن أمنحهم هذه الحرية ليقرروا في شأن بلادهم ما يشتهون. بعد ما ظهر من العالم الإسلامي هذا الصد والإعراض عن مثل هذه القضية الهامة". 266 - ثم رفع الحجازيون بعد هذا كتابا إلى الإمام ابن سعود ضمنوه نص بيعتهم له علي الملك، إذا قالوا: 267 - "بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد الله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده: نبايعك يا عظمة السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود على أن تكون ملكا على الحجاز على كتاب الله وسنة رسوله صلى لله عليه وسلم وما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم والسلف الصالح والأئمة الأربعة رحمهم الله. وأن يكون الحجاز للحجازيين، وأن أهله هم الذين يقومون بإدارة شئونه. وأن تكون مكة المكرمة عاصمة الحجاز وأن يكون الحجاز جميعه تحت رعاية الله ثم رعايتكم" - ووقعه العلماء، والاعيان، ورؤساء التجار، والموظفون فأجابهم: 268 - "بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل إلى أخواننا الحجازيين الموقعين أسماءهم:سلام عليكم. وبعد فقد أجبناكم إلى ما طلبتم ونسال الله تعالى المعونة والتوفيق للجميع". 269 - ثم كانت البيعة في الكعبة المشرفة، في 22جمادى الثانية سنة 1344، ألقى الملك بعدها خطبة بليغة دعا فيها إلى الاعتصام بكتاب الله وإلى التوحيد الخالص. ثم قال:"إني أحمد الله الذي جمع الشمل وأمَّن الاوطان.

وأنا لكم على عهد الله وميثاقه إنني أنصح لكم كما أنصح لنفسي وأولادي وأسرة آل سعود: أحبكم في الله وأعاديكم في الله".

صقر الجزيرة وبطل الإسلام

صقر الجزيرة وبطل الإسلام: عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود أطال الله عمره، وأيد ملكه، ومتع الإسلام بقوة سلطانه، وامتداد زمانه. 270 - ولد عند أذان فجر يوم الثلاثاء العشرين من شهر ذي الحجة من شهور سنة 1297وهو الموافق لليوم السادس عشر من نوفمبر من سنة 1879 ميلادية. وكان جو الرياض في هذه الأيام مكفهرا بإحداث مروعة وفتن كقطع الليل المظلم. فالإمام عبد الرحمن لم يصل إلى الولاية إلا بعد حروب أهلية طاحنة، وعروة الصفاء والمحبة بين الرؤساء والزعماء منفصمة، فحين أخذ الإمام عبد الرحمن يطفئ هذه الفتن إذا بها تشتعل جذوتها بأروع وأشد من قبل ابن الرشيد الذي أخذ يتابع غزواته على الرياض في عنف وشدة، والرياض تزداد كل يوم وهنا على وهن أمام جيوش مزودة بالسلاح العثماني الكثير والمال الوفير، حتى انتهت أخيراً باستيلاء ابن الرشيد عليها في سنة 1885، وولى عليها من قبله من يحكمها تحت سلطانه. وقبع الإمام عبد الرحمن في داره. وجمرة الغيظ تأكل قبله، إذ أعجلته الأيام عن الوصول إلى غايته التي كان يسعى لها جاهدا. وهى لمُّ شعث أولئك الزعماء الذين أكلهم التحاسد، وفرق شملهم، وأذهب ريحهم، وألزمهم الفشل في كل مواقفهم. وحاول تقوية أواصر المحبة

والأخوة، والتي كان يعمل لها بالدين والعقيدة الإسلامية التي كان هذا الإمام متمكنا منها، ومتمكنة منه غاية التمكن. 271 - في وسط هذه العواصف الهوج، والزعازع المقلقة بزغت شمس عبد العزيز. حين صاح مؤذن الفجر "حي على الصلاة حي على الفلاح" فكأن ذلك الداعي إلى الفلاح الدنيوي والأخروي يبشر بهذا الفلاح في وجه ذلك المولود السعيد الذي حقق الله فيه هذه البشرى، فأسعد أهل الجزيرة. وأنا لهم على يديه عز الدنيا والآخرة، وفلاحهما. 272 - رضع هذا المولود السعيد التقوى والورع، وخشية الله مع لبان ثدي أمه التي كانت أصلح أهل زمانها وأتقاهن لله، ومن أبيه الذي كان كذلك، وغذى بآيات الجد والعمل، وروح الحرب والجهاد، وغسل ما لحق بأسرة آل سعود، وما لحق بدعوة التوحيد على يد ابن الرشيد وغير ابن الرشيد الذين كادوا لهما وأذلوهما بمعاونة العثمانيين 273 - حضر الحروب الهائلة، ورأى رؤوس الرجال تطير، والدماء تسفك، وهو حول العاشرة أو دونها. وذلك: أن سالما أمير الرياض من قبل ابن الرشيد حاول أن يقضى على آل سعود بمكيدة الأنذال الجبناء، وأن يجمعهم في حفلة سمر مع إمامهم عبد الرحمن، ثم يلقى بالإشارة إلى عبيده وجنده، فيذبحونهم كالخراف. لكن الإمام عبد الرحمن ليس بغافل، ففطن للمكيدة، ورأى الحفرة أمامه، فصمم على إيقاع سالم فيها، وأفضى بذلك آل سعود، فجاءوا إلى السمر متهيئين، وحضروا بقلوب السباع لا بوادعة الحمل، فلما صفا المجلس، وقبل أن يفكر سالم كيف يسلم مما رأى من خيبة

تدبيره، كانت السيوف قد ذهبت برءوس جنده جميعا، وكان هو في القيد أسيرا. وكان الطفل عبد العزيز يشهد هذه الحفلة الساهرة ليتلقي بها درس الرجولة ودرس السيف كيف يلعب برءوس الرجال. وكيف يروى ظمأه من دمائها الحارة. وكان هذا درسا لن يبلغ معلم إلى قلب عبد العزيز بمثل ما بلغ إليه هذا الدرس من رباطة الجأش، وثبات القلب، وقوة النفس، والشجاعة التي تحدثنا عن عمر بن الخطاب وعن خالد بن الوليد، وعن إخوانهما من ليوث التوحيد الأولين رضي الله عنهم. 274 - أدخله والده المكتب ليتعلم القراءة والكتابة، فعافت نفسه العظيمة أن يجلس وسط الأطفال، لأنها لم تكن نفس أطفال، وأن يقعد أمام معلم يلقى إليه التعليم بلسانه وعصاه، لأنه يحس من نفسه صارخا يقول: أنت يا عبد العزيز الذي ستعلم الناس، وأنت الذي ستكون للجميع إماما وزعيما. فلما عرف القراءة والكتابة، تمرد على المكتب وعلى شيخه، فخرج منه يتلقى الدروس والعلوم المعارف في مدرسة الحياة وعلى يد الحوادث 275 - سمع ثبت أحداث التاريخ، وتقلبات الأيام البيض والسود بأسرة آل سعود، وبدعوة التوحيد، وصوت الضربات التي وقعت على كلتيهما من خصومهما آل الرشيد، والعثمانيين، وأشراف الحجاز وغيرهم ممن تألب عليهما، وكاد لهما وشفى غيظه منهما، وأصابع الفتنة التي لعبت بهما حتى مزقت شملهما، وذهبت بريحهما، بما وصلت إليه من تفريق القوى، وفصم عروة الوحدة العربية الإسلامية التي كانا قد وثقاها، وبلغا

بها إلى أوج العز ومنتهى القوة، فكان لسماعه ذلك الثبت من أبيه، وأمه، وإخوته، والمشايخ، وغيرهم من كل من مسه شرر هذه الفتن والدسائس والخطوب:- أثره في رسم خطته في بناء ذلك الملك الذي شيده على أساس الدين، والحكمة، واستلال الحقد من القلوب، حتى سلمت وكانت قلبا واحدا، وكلمة واحدة، ويدا واحدة، وروحا واحدة، هي روح الجامعة الإسلامية تحت راية التوحيد"لا آله الله محمد رسول الله". 276 - أن الله تعالى قد اصطفاه، وآتاه بسطة في الجسم والعقل والعلم، فهو أفخم من رأيت من الرجال، قامة مديدة، وأكتاف عريضة، وصدر رحب، وجسم كله قوة؛ وكله نشاط وحركة. وعقل قوى، وجنان ذكي وفكر متوقد، وبديهة حاضرة، وقلب يسع كل الرجال والحوادث فلا يتزلزل، ولا يهن ولا يضعف بشيء منها، فهو كالجبل الراسي. ولسان فصيح ومنطق قوى، وقول يصيب المحز، وحكم رائعة، وبلاغة تفحم السامع، وتقوده بخيط من حرير، فإذا هو طوع هذا الخطيب العظيم. ويد سخية، لا تعرف للمال قيمة إلا ادخار المثوبة عند الله، ثم امتلاك أعناق الرجال وقلوبهم، فهو لا يعرف "لا" ولا يخطر في باله أن يقولها لأي سائل، ولا أن يرد بها على أي مسترفد فضله، أو مجتد من كرمه، اللهم إلا فيما ينال من كرامة دينه، أو ملكه أو نفسه. سمعته يوما-وقد دخل عليه البطل خالد بن لؤي رحمه الله عليه، وعقب إطفاء فتنة الدويش- يقول له: اسمع يا خالد اسمعوا يا الاخوان، أنا عندي أمران لا أتهاون في شيء منهما ولا أتوانى في القضاء على من يحاول النيل منهما ولو بشعرة: الأول كلمة

التوحيد، لا آله إلا الله محمد رسول الله. اللهم صلى وسلم وبارك عليه. أني والله وبالله وتالله أقدم دمي ودم أولادي وكل آل سعود فداء لهذه الكلمة لا أضن به. والثاني هذا الملك جمع الله به شمل العرب بعد الفرقة وأعزهم به بعد الذلة، وكثرهم بعد القلة، فإني كذلك لا أدخر قطرة من دمى في سبيل الذود عن حوضه. وقد عودني الله سبحانه وتعالى ومن كرمه وفضله أن ينصرني على كل من أراد هذا الملك أو دبر له كيدا، لأني جعلت سنتي ومبدأي أن لا أبدأ أحدا بالعدوان؛ بل أصبر عليه وأطيل الصبر على من بدأني بالعداء وأدفع بالحسنى ما وجدت لها مكانا، وأتمادى في الصبر حتى يرميني البعيد والقريب بالجبن والضعف. حتى إذا لم يبق للصبر مكان ضربت ضربتي فكانت القاضية، وكانت الآية على ما عودني الله من فضله. والحمد الله رب العالمين. 278 - سجايا فطر الله تعالى عليها عبد العزيز: الحلم البعيد المدى والشجاعة النادرة، وقوة الفصاحة التي لا تبارى، والقلب المملوء بالعلم والحكمة، فإذا خطب ملك القلوب وقاد النفوس العصية، والكرم الذي يجعله كالريح المرسلة، والبساطة في كلامه، ولباسه، وطعامه، ومجلسه، وفي كل شأنه والتواضع الذي يملك على رائية كل مشاعره، والعدل الذي فتح بابه لكل مظلوم، والتنبه الدقيق جداً لكل شأن من شون ملكه حتى لا تفوته صغيرة ولا كبيرة، والصراحة في الحق حتى لا يخشى فيه أحدا ويحبه من كل أحد، ولا يدخر في نصره وسعا. وقوة الذاكرة التي تعي الحوادث والمسائل العلمية مفصلة فلا يند منها شيء،فيجمع شتاتها، ويقرنها ببعضها،

ويستخلص منها التجارب: يرسم بها خطط عمله، وأساليب حكمه، ونظم مملكته. ورحمة وحنان على الضعيف والصغير يحسُّ معه رحمة الأبوة، وحنان المؤمن الذي قلبه مرآة ينطبع فيها شعور كل أخوانه وإحساساتهم، فيفرح بما يفرحون، ويتألم مما يتألمون. كم رأيته في مجلسه يجلس أحد أطفال أولاده أو أحفاده في حجره، يداعبه ويلاطفه، وهو مع تلك المداعبة والملاطفة لا ينشغل عن حديثه، ولا يقطع مجرى خطبته. وقد وفق إلى حرص عظيم على بر الوالدين وصلة الأرحام، ويتجلى به معنى قوله تعالى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: 23،24] حدثني من رآه بمكة، وقد أردا والده الإمام عبد الرحمن رحمه الله أن يركب، فوطَّأ له من كتفه حتى وضع قدمه عليه، فصعد على مركبه، وأنه كان يتولي بنفسه صب القهوة في مجلس والده. وكان ذلك في الحجاز. وعبد العزيز ملك الحجاز وسلطان نجد، وصقر الجزيرة وبطل الإسلام, وبذلك ضرب للناس أعظم المثل، وأحسن القدوة في إتباع الكتاب الكريم وسنة النبي صلى الله عليه سلم، وأنه هو أحق الناس أن يكون زعيما، وأن يكون إماما وأبا للجميع وذلك خلق بنيه الكرام، فإنك ترى من توقيرهم لوالدهم وتآلفهم فيما بينهم ما يخبرك أصدق الأخبار عن المؤمنين السالفين. 278 - بهذه السجايا العظيمة، والخلال الكريمة بسط الله لعبد العزيز

هذا الملك، ووطأ له من أكناف هذه الدولة. وبهذه الروح المؤمنة الصادقة أتاح الله للجزيرة عهدا سعيدا بالأمن والرخاء ورغد العيش، يذكرنا بعهد عمر بن الخطاب وإخوانه الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم. 279 - هذه عجالة لطيفة عن هذا البطل العظيم وعن بنيه الأمراء. اجتزئ بها الآن مرجئا بسط القول إلى كتابي الذي ستقرءونه قريبا إن شاء الله وتعرفون عن هذا البطل آيات عدله، وفصاحته ورحمته، وكيف وطد الأمن في هذه الجزيرة المترامية الأطراف وسط هذه الجبال والأغوار والصحارى والقفار، في وقت نسمع فيه عن حوادث خطف الأطفال في أمريكا وأوربا بالآلاف، وحوادث القتل والسرقات بالملايين، مع كثرة الشُّرط والقضاة ورجال الإدارة، والقوانين واللوائح. مما ليس عشره ولا واحد من ألف منه عند الملك عبد العزيز. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. 280 - هذا، وقد أعجلني السفر إلى الأقطار الحجازية عن التنميق والتدقيق، ولم تكن النية قد انعقدت على عمل هذه المحاضرة إلا قبيل السفر. فمن أجل هذا أرجو من القارئ أن يلتمس لي العذر في بعض ما لعله واقف عليه من خطأ لفظي أو معنوي. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل وصلى الله علي سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

§1/1