أثر الإيمان في تحصين الأمة الإسلامية ضد الأفكار الهدامة

عبد الله بن عبد الرحمن الجربوع

المجلد الأول

المجلد الأول مقدمة ... أثر الإيمان في تحصين الأمّة الإسلامية ضد الأفكار الهدّامة تأليف د. عبد الله بن عبد الرحمن الجربوع المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70، 71] . أما بعد: فقد يسر الله لي الالتحاق بالدراسات العليا بقسم العقيدة بالجامعة الإسلامية وعينت معيداً في كلية الدعوة عام 1407هـ. وكان عليّ أن أكتب بحثاً، للحصول على الدرجة العالمية العالية الماجستير.

وبين ذلك اتجاهات وتصورات كثيرة لا يخلو واحد منها من جهل أو خطأ أو قصور. ولست أدعي خلو الساحة من العلماء والدعاة المتبصرين العاملين القائمين بالحق، الداعين إليه المدافعين عنه، المشفقين على الأمة، الذين يجتهدون في نصح العباد ودعوتهم إلى طريق ولاية الله، بتصحيح المعتقد ونبذ البدع، والاجتماع على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونبذ الفرقة والاختلاف. إلا أن صوت هؤلاء مع ظهوره ووضوحه، لا يكاد يسمع في خضم الاتجاهات والتصورات والجماعات الكثيرة والمناهج المختلفة. فهذا البحث إن شاء الله يسلط الضوء على أهم أسباب القوة والحصانة الفكرية، ونقطة البدء، ومحور العمل، وأنه تحقيق الإيمان بمفهومه الصحيح، ويعرّف بآثاره المباركة في هذا المجال. فهو دعوة للعمل على استجلاب ولاية الله ليكون سعي المؤمنين بعد ذلك مؤيداً منصوراً مسدداً مباركاً فيه. وهو باعث للأمل بإذن الله للقلوب اليائسة. فالإيمان سبب قوى مؤثر في تخليص وتحصين القلوب والمجتمعات من الشرور الجاهلية الفكرية وغيرها. وتعلمه والعمل به والدعوة إليه أمر ممكن ميسور بإذن الله إذا تظافرت الجهود وخلصت النيات. وإذا عرف المؤمن ميدان علمه ونقطة انطلاقه زاح عن كاهله هم كبير، وخرج من دوامة الحيرة إلى العمل، وانبعث في نفسه الأمل.

ولست أقصد أنه يُكتفى بتعلم الإيمان وأداء العبادات، وترك الأسباب المشروعة للنهوض بالمسلمين -معاذ الله-، وإنما قصدت أن المؤمنين إذا حققوا الإيمان علماً وعملاً رضي الله عنهم وتولاهم، ووفقهم إلى الأسباب وسهلها لهم، وبارك فيها وكمّل نقصهم، وسدد سعيهم. فيدخلون ميدان العمل ومجابهة الباطل مؤيَّدين بالله. وإذا تخلف الإيمان الصحيح فإنهم يوكَلون إلى أنفسهم. تحرير المراد بالعنوان: الأثر: المراد اسم جنس. وله أكثر من معنى. منها أنه يطلق على النتيجة. أو الأمر الحاصل من الشيء. والآثار: هي اللوازم المعللة بالشيء1 أو جملة الأمور التي تنتج عن الشيء المسبب لها. وهذا المعنى هو المعتبر في العنوان. فالمراد بأثر الإيمان: أي الأمور التي تنتج عن تحقيق الإيمان، ويكون سبباً في حصولها، والتي لها دور في تحصين الفرد والجماعات ضد الفكر الهدام خصوصاً.

_ 1 التعريفات، علي بن محمد الجرجاني، ط9، دار الكتب العلمية، بيروت، ط: الأولى1403?.

الإيمان: المراد به الإيمان الشرعي الذي جرى بيانه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكان عليه السلف الصالح ـ وسيأتي بيان طبيعته في التمهيد. الأفكار: جمع فكر. ومؤنثه فكرة ويطلق ويراد به معنيان1. - الأول: الفعل الذي تقوم به النفس عند حركتها في المعقولات. وهذه هي عملية التفكر والنظر. - الثاني: يطلق على المعقولات نفسها. والمراد المعنى الثاني: أي المعقولات والمعاني التي تنتج عن تفكر البشر وتأخذ شكل عقيدة أو مبدأ يؤمن به، فتتكون منه العقائد والتصورات البشرية المصدر، وتكون باعثة ومؤثرة على السلوك. فيدخل في ذلك عقائد ومفاهيم الأديان البشرية المصدر، أو السماوية الأصل لكن دخلها التحريف بفعل الفكر البشري، وتصورات الفلاسفة وأوهام وأساطير الوثنيين التي تأخذ شكل عقائد وقناعات وتصورات معتبرة. ولا يدخل فيه عقائد وشرائع الدين المحفوظ لأنها ليست نتائج فكر بشري بل هي وحي إلهي.

_ 1 المعجم الفلسفي، جميل صليبا، ح2/156، دار الكتاب اللبناني، بيروت ط: الأولى 1979م.

وقد رغبت إلى الله أن يحفظ وقتي وجهدي في المدة المقررة لإعداد هذا البحث في عمل أرجوه عنده، ويعالج جانباً يحتاج إليه المسلمون في هذا الوقت. وبتوفيق الله اخترت موضوعاً هاماً بعنوان: أثر الإيمان في تحصين الأمة الإسلامية ضد الفكر الهدام ليكون موضوع البحث. سبب اختيار الموضوع: لقد بدأ اهتمامي في هذا الموضوع عندما درست أساليب الغزو الفكري ووسائل مقاومتها في السنة الرابعة في كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية. وأشار مدرس المادة إلى أهمية العقيدة في مجابهة الغزو الفكري كما أن الذين كتبوا في ذلك أشاروا إليه إشارات مختصرة. فتكونت عندي رغبة في تجلية الدور الهام للعقيدة السليمة في التصدي للفكر الهدام. كما أن من أسباب اختياري له تلك الأهمية البالغة والتي تتبين فيما يلي: 1- شدة الهجوم الفكري على الأمة الإسلامية في القديم والحديث ونجاحه في اختراق صفوفها، وتفريق المسلمين وحرف كثير منهم عن الإسلام.

2- ازدياد الصيحات التي تحذر من الأساليب الحديثة للغزو الفكري وتبين أنها أعظم تحد يواجه الإسلام اليوم وتدعو للتصدي له.1 3- أن أساليب مكافحة الغزو الفكري كثيرة، يأتي على رأسها تحقيق الإيمان الصحيح بتعليمه للناس وتربية الأجيال عليه، وتطبيق تعاليمه

_ 1 ولا أدل على ذلك من قرار (مجلس مجمع الفقه الإسلامي) رقم: 71/7/7، المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجده في المملكة العربية السعودية من 7 إلى 12 من ذي القعدة 1412?. الموافق: من 9 إلى 14 مايو 1992م، حيث ورد في بداية القرار: "إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي ... بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (الغزو الفكري) والتي بينت بداية هذا الغزو وخطورته وأبعاده وما حققه من نتائج في بلاد العرب والمسلمين، واستعرضت صوراً مما أثار من شبه ومطاعن، ونفذ من خطط وممارسات، استهدفت زعزعة المجتمع المسلم، ووقف انتشار الدعوة الإسلامية، كما بينت هذه البحوث الدور الذي قام به الإسلام في حفظ الأمة وثباتها في وجه الغزو وكيف أحبط كثيراً من خططه ومؤامراته. وقد اهتمت هذه البحوث ببيان سبل مواجهة هذا الغزو وحماية الأمة من آثاره في جميع المجالات وعلى كل الأصعدة، ثم أوصى المجلس بعدة توصيات لمقاومة الغزو الفكري، ثم ختم قراره بما يلي: "كما يوصي المجلس أيضاً الأمانة العامة للمجمع باستمرار الاهتمام بطرح أهم قضايا هذا الموضوع في لقاءات المجمع وندواته القادمة نظراً لأهمية موضوع الغزو الفكري وضرورة وضع استراتيجية متكاملة لمجابهة مظاهره ومستجداته". نقلاُ عن: مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، السنة الرابعة، العدد الخامس عشر عام 1413هـ. ص208.

وشرائعه في كل المجالات. لذلك فإن هذا البحث يجلي بعض الآثار المباركة للإيمان في مجال التحصين ضد الفكر الهدام. 4- أن أهل الإسلام قد ذهبوا مذاهب شتى في تصوراتهم لما ينبغي فعله في مقابلة هذه المخططات الماكرة. فمنهم من رأى أن مقارعة الأعداء لا تكون إلا بسلاحهم، فركّز على النواحي المادية والوسائل العصرية، والسيطرة على السلطة وامتلاك مراكز القوى والنفوذ والإعلام.. ونحوها، مع وجود تقصير في الدعوة والعمل على تحقيق الإيمان الصحيح. بل وحدث أن وُجدت دعوة إلى توحيد الجهود دون اعتبار للاختلافات الجوهرية في العقيدة، ووُجد من يضع ثقته بكل من زعم نصرة الإسلام ولو كان على واقع بعيد جداً عن الإيمان الذي دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم وجاء بيانه في نصوص الوحي. وطائفة أخرى ظنت أن معنى أن الحياة جنة الكافر أنه لا نصيب للمؤمن فيها من العزة والتمكين، وامتلاك مصادر القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية، فانصرفت إلى العناية بأنفسها، وتكميل إيمانها بالذكر والأعمال الصالحة، وأبعدت من برامجها ودعوتها النظر في السياسة والجهاد والعلم والمجادلة عن دين الله بالحق. ومن المسلمين من أسلمه هول ما يرى عند الكفار من القوة المادية وأسباب التأثير والمكر ووسائل الإغواء، وما يرى من حال المسلمين وما آل إليه من الضعف والانحراف واستحكام الجهل، إلى اليأس والقنوط.

والوصف بالهدامة: يدل على أن المقصود هي تلك الأفكار التي تتسلط على العقائد الإيمانية بالهدم والتشكيك، وعلى التعاليم الإسلامية والأخلاق بالتعطيل والتحريف، كما يخرج بهذا الوصف الأفكار غير الهدامة فهي غير مراده. الصعوبات: لم أواجه ـ بفضل الله ـ صعوبة في جمع المادة العلمية ذلك أن الموضوع يتعلق بجانب من جوانب الإيمان. وكل ما يتعلق بالإيمان فقد ورد بيانه في نصوص الوحي، وأشار إليها العلماء في كتب التفسير والحديث والعقائد والفقه ونحوها. كما أن الموضوعات المكملة للبحث قد اعتنى بها العلماء والمفكرون قديماً وحديثاً. إلا أن البحث لم يخل من صعوبات. كان أهمها الكيفية التي ينبغي أن يُنظَّم عليها، في تقسيمه وتوزيع المسائل على أبوابه وفصوله ومباحثه ومطالبه، واختيار العناوين المناسبة لكل منها. فهذا الموضوع ـ حسب علمي ـ لم يفرد ببحث مستقل من قبل. وإنما هو مُفَرَّق في بطون كتب التفسير والحديث والعقائد ونحوها، كما تُذكر بعض جوانبه في الكتب التي تكلمت عن آثار الإيمان عامة.

ومن الصعوبات صعوبة نفسية وهي إحساسي بعمق وثقل هذا البحث، وخوفي ألا أوفيه حقه، ولعلي بما تيسر أكون قد جئت ولو بأدنى مراتب الكفاية. منهجي في البحث: لقد استقر الأمر ـ بحمد الله ـ على أن يجري الكلام في أبواب البحث على ما يتعلق بالآثار الإيمانية المحصنة للفرد والجماعة ضد الفكر الهدام. أما القضايا التي يتطلبها البحث وليست من صلبه فقد تطرقت إليها في التمهيد. وقسمت البحث على أساس تنوع الآثار الإيمانية من حيث تعلقها بالعبد ومواطن تجلي تلك الآثار. وهي على وجه الإجمال ثلاثة أنواع: الأول: مظاهر ولاية الله للمؤمنين التي تحصنهم من الفكر الهدام. الثاني: الآثار القلبية التي يحدثها الله في قلب العبد المؤمن فيحصنه بها من ضلالات الجاهلية. الثالث: الآثار الاجتماعية. وهي آثار إقامة الشعائر الإيمانية الاجتماعية فيتحصن بها المجتمع ضد الشرور عامة والفكرية خاصة. وأورد قدر الإمكان الأدلة التي تشير إلى كل أثر، والشعائر الإيمانية الجالبة له، مع ذكر الفكر الهدام أو أساليبه التي يتصدى لها كل أثر، مع بيان أن فقد هذا الأثر ـ نتيجة لتعطيل الشعيرة الإيمانية ـ يمثل ثغرة تسري منها الأفكار الهدامة.

وفي مجال التوثيق أذكر بعد الآية اسم السورة التي وردت فيها، ورقم الآية. وقد خرجت الأحاديث من كتب السنة. فإن كان في الصحيحين أو أحدهما فإني أكتفي بالإشارة إلى موضعه ذاكراً اسم الكتاب والباب ورقم الحديث والجزء والصفحة، وإن كان في غيرهما ذكرت بعض كتب السنة التي أخرجته، ثم أتبع ذلك ببعض أقوال أهل العلم التي تبين درجة الحديث. وقد ترجمت للرجال الذين ورد ذكرهم في المتن باختصار، ما عدا المعاصرين. هذا وقد جرى البحث حسب الخطة الآتية: المقدمة: وتكلمت فيها عن سبب اختيار الموضوع، وأهميته، وبينت المراد بالعنوان، وأهم الصعوبات، ولمحات في المنهج، وخطة البحث. التمهيد، وفيه مبحثان: المبحث الأول: طبيعة الإيمان المؤثر. وفيه مطلبان: المطلب الأول: تعريف الإيمان. المطلب الثاني: الأسس التي يقوم عليه الإيمان. المبحث الثاني: الفكر الجاهلي في مجابهة الإيمان وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: الصراع بين الحق والباطل من سنن الله الجارية إلى يوم القيامة.

المطلب الثاني: الصراع بين الحق والباطل في عصور الإسلام المتقدمة. المطلب الثالث: الغزو الفكري للأمة الإسلامية في العصر الحديث. الباب الأول: الإيمان سبب لتحصيل ولاية الله الأثر الخارجي. وفيه فصلان: الفصل الأول: صفات المستحقين للولاية. وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: مراتب أهل الإيمان. وفيه أربعة مطالب. المطلب الأول: بيان أصل الإيمان. المطلب الثاني: مرتبة الظالم لنفسه. المطلب الثالث: مرتبة المقتصد. المطلب الرابع: مرتبة السابق بالخيرات. المبحث الثاني: أهل ولاية الله. المبحث الثالث: العناية بأهم سبب لحصول الولاية. الفصل الثاني: أثر ولاية الله في تخليص المؤمنين وتحصينهم من الأفكار الهدامة. وفيه مبحثان: المبحث الأول: مظاهر ولاية الله لعبده المؤمن. وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: إخراج المؤمن من الظلمات إلى النور.

المطلب الثاني: تثبيت المؤمن عند الشدائد. المطلب الثالث: الحيلولة بين المؤمن وبين ما قد يقوم بقلبه من الإرادات السيئة. المطلب الرابع: مظاهر الولاية الكاملة للكُمّل من عباد الله. المبحث الثاني: مظاهر ولاية الله للجماعة المؤمنة. الباب الثاني: أثر الإيمان في تحصين القلب ضد الأفكار الهدامة الأثر القلبي. وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: وظائف القلب وأحواله. وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: الوظائف القائمة بالقلب. وفيه خمسة مطالب: المطلب الأول: وظيفة التعقل. المطلب الثاني: الاعتقادات. المطلب الثالث: النيات والإرادات. المطلب الرابع: العواطف. المطلب الخامس: الانفعالات. المبحث الثاني: العلاقة بين الوظائف القلبية. المبحث الثالث: أحوال القلوب. المبحث الرابع: أثر الإيمان في القلوب دائر بين التطهير والتزكية. الفصل الثاني: أثر الإيمان في تطهير القلوب. وفيه ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: أثر الإيمان في تطهير القلب من العقائد الباطلة والظنون السيئة. المبحث الثاني: أثر الإيمان في تطهير القلب من الران ودرن المعاصي. المبحث الثالث: أثر الإيمان في تطهير القلب من العواطف الفاسدة. وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: أثر الإيمان في تخليص القلب من محبة غير الله. المطلب الثاني: أثر الإيمان في تخليص القلب من حب الشهوات المحرمة. المطلب الثالث: أثر الإيمان في تخليص القلب من الحقد والحسد. الفصل الثالث: أثر الإيمان في تزكية القلوب. وفيه مبحثان. المبحث الأول: أثر التزكية في طمأنينة القلب. المبحث الثاني: أثر التزكية في حصول النور والفرقان. الباب الثالث: أثر الإيمان في تحصين المجتمع المسلم ضد الأفكار الهدامة. وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: أثر الرابطة الإيمانية والأخلاق والنظم الإسلامية في صيانة المجتمع المسلم من الانحراف الفكري. وفيه مبحثان: المبحث الأول: أثر المحافظة على الرابطة الإيمانية في الحصانة الفكرية.

وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: التزام الأخلاق الفاضلة. المطلب الثاني: قيام المؤمنين بالحقوق المفروضة لبعضهم على بعض. المطلب الثالث: الالتزام بالنظام الاجتماعي والاقتصادي الإسلامي. المطلب الرابع: المحافظة على الوحدة الفكرية. المبحث الثاني: العمل على سلامة مقومات المجتمع المسلم. وفيه مطلبان: المطلب الأول: أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكونه واجباً اجتماعياً. المطلب الثاني: أثر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في تحصين المجتمع المسلم من الأفكار الهدامة. الفصل الثاني: دور ولاة الأمر في حماية المجتمع من الأفكار الهدامة. وفيه مبحثان: المبحث الأول: ضوابط الإمامة في المجتمع المسلم. المبحث الثاني: وظائف الإمامة ومقاصد الحكم. الفصل الثالث: أثر وضع الدولة المتمكن في الأرض في تحصين المجتمع ضد الأفكار الهدامة.

وتكلمت فيه عن: أثر الجهاد في عزة الإسلام وتمكين المسلمين في الأرض وتحصين المجتمع الإسلامي ضد الأفكار الخبيثة. الخاتمة: ولخصت فيها أهم النتائج التي توصلت إليها في هذا البحث. الفهارس والمراجع: وتشتمل على ما يلي: فهرس الآيات، وفهرس الأحاديث، وفهرس تراجم الأعلام، وقائمة المصادر والمراجع، وفهرس المحتويات.

تنبيه واعتذار نظراً لطبيعة البحث الذي يتطرق بجانب النواحي العقدية، إلى الآثار التي يحدثها الإيمان على النفس البشرية والمجتمع، كما يتطرق إلى النواحي الفكرية وغيرها من الموضوعات التي تبحث غالباً في مجالات الدعوة، فقد دعت الحاجة إلى الاستفادة من بعض العلماء والدعاة والمفكرين والكتاب القدامى والمعاصرين، الذين خالفوا ببعض آرائهم أو فتاويهم أو مناهجهم أو حتى عقائدهم ما ذهب إليه السلف الصالح؛ بل قد تجاوزت ذلك إلى النقل عن غير المسلمين والمشتغلين بعلم النفس والاجتماع والطب مما يوجد فيه خليط من الحق والباطل. والقاعدة في ذلك: الحكمة ضالة المؤمن وقد حرصت أن لا أنقل عنهم إلا ما كان صواباً ليس فيه شيء من مخالفاتهم أو باطلهم، فيما أرى أنه يؤيد الحق أو يجلي بعض الجوانب التي تطرق إليه البحث. وقد أشار شيخ الإسلام إلى هذا المنهج في النقل بقوله: "وليس كل من ذكرنا شيئاً من قوله من المتكلمين وغيرهم يقول بجميع ما نقول في هذا وغيره، ولكن الحق يُقْبَل من كل من تكلم به ... "1. وقد بذلت جهدي وطاقتي الضعيفة القاصرة، ولم آل جهداً، وأرجو أن أكون قد وُفقت إلى الصواب. ألا وإن الله متفرد سبحانه بالكمال.

_ 1الفتوى الحموية الكبرى، لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية ص60، القاهرة، ط: الثالثة، 1398هـ.

وحَكم على البشر بالعجز والقصور، فلا يسلم أحد من الخطأ إلا من عصمه الرحمن. وحسبي ـ إن شاء الله ـ أني اجتهدت في تحري الحق ولم أتعمد الخطأ. فما كان فيه من صواب فمن الله وله الحمد، وما كان فيه من خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله.

شكر وتقدير هذا وأحمد الله وأشكره على عظيم منته وكريم فضله، حيث وفقني لسلوك طريق العلم، ويسر لي الالتحاق بالجامعة الإسلامية والتزود من علومها، وأعانني على كتابة هذا البحث الذي أرجو أن يكون على الوجه الذي يرضيه، وأن يكون خالصاً صواباً نافعاً. وله الحمد على نعمه التي لا تحصى. ثم أتوجه بالشكر لكل من كان له فضل عليَّ في إتمام هذا البحث، وعلى رأسهم شيخي المشرف على البحث الدكتور: أحمد بن عطية الغامدي، الذي زودني بنصائحه وتوجيهاته القيمة والتي أسهمت في إنجاز هذا البحث وتخطي ما يعرض فيه من إشكال. وكانت أوقات التقائي به فرصة للاستفادة من علمه وتجاربه. فله مني جزيل الشكر والتقدير، وأسأل الله أن يجزل له المثوبة، وأن يرفع منزلته في الدنيا والآخرة. ثم أثني بالشكر للجامعة الإسلامية ـ ممثلة بكلية الدعوة وأصول الدين وقسم العقيدة، وقسم الدراسات العليا سابقاً ـ التي هيأت لي الفرصة للنهل من علومها، وعلى ما يسّرته من المكتبات التي سهلت مهمة البحث، وما وجدته من المسئولين من التفاهم والتعاون. كما أشكر كل من ساعدني في إتمام هذا البحث من الأساتذة والزملاء بإبداء رأي أو نصيحة أو إعارة كتاب وإرشاد إلى مرجع أو غير ذلك، والحمد لله أولاً

وآخراً. والصلاة والسلام على الرسول المصطفى وعلى آله وأصحابه السادة النجباء. عبد الله بن عبد الرحمن المنصور الجربوع المدينة النبوية 1/11/1412هـ

تمهيد

التمهيد وفيه مبحثان: المبحث الأول: طبيعة الإيمان المؤثر المبحث الثاني: الفكر الجاهلي في مجابهة الإيمان المبحث الأول: طبيعة الإيمان المؤثر من المهم معرفة طبيعة الإيمان الذي نبحث في آثاره في مجال تحصين المؤمنين جماعات وأفرادٍ ضد الفكر الجاهلي الهدام. والمسلم مطالب بمعرفة المفهوم الصحيح للإيمان والالتزام به. وبذلك يبتعد عن المفاهيم المبتدعة المنسوبة للإسلام. كما يتحصل بالالتزام به على الآثار المباركة التي رتبها الله على ذلك، ويكرم بها من جاء به، والتي سيجري الكلام على كثير منها في هذا الكتاب. والإيمان الذي أراده الله من الناس، وكلفهم به، ورد البيان الواضح لجميع معالمه في آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. فالله لا يرضى ولا يقبل من الناس إلا إيمانهم على الكيفية التي بيَّن لهم. وما عدا ذلك من معتقدات أو شعائر أو مناهج اصطلحوا عليها واستحسنوها ثم عكفوا على ممارستها ونسبوها إلى الإيمان وهو منها براء، فإن الله سبحانه لا يرضاها ولا يتولى من جاء بها. ولا تثمر لصاحبها البركات والكرامات التي يكرم بها من سار على صراطه المستقيم، ولا يتحصن بها من كيد الشياطين. كما أن حسن النية، وصدق التوجه لله لا يغني شيئاً إذا لم يتقيد المسلم بالإيمان الصحيح والسنة المستقيمة. وسيجري الكلام في هذا المبحث على مطلبين هامين:

الأول: تعريف الإيمان بالله كما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وبينه السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين. الثاني: الأسس التي يقوم عليها الإيمان بالله. وسوف أفرد لكل منهما مطلباً مستقلاً.

المطلب الأول: تعريف الإيمان الشرعي للإيمان مفهوم شرعي دلت عليه نصوص كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. هذا المفهوم أجمله السلف رضوان الله عليهم في تعريفهم للإيمان بأنه اعتقاد بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية. وفيما يلي عرض لبعض النصوص التي تدل على ذلك: أولاً: الأدلة على أن الإيمان يكون بالقلب. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة:41] . وقال: {مَنْ كفر بالله مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ} [النحل:106] . وقال: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ... ألا وأن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب "1. وصلاح القلب إنما يكون بعمرانه بالعقائد الحق. فإذا أُشْرب القلب الحقائق الإيمانية وانبعثت منها أعماله القلبية كان قلباً سليماً. وفي حديث جبريل ـ عليه السلام ـ: "قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره ... " 2. وهذه الأمور الستة يكون الإيمان بها بالعلم والتصديق والقبول الذي يكون في القلب. فدلت هذه النصوص على أن الإيمان يدخل القلب ويطمئن به، وأن إيمان القلب هو الأصل وأنه شرط في صحة الإيمان، ولا عبرة لغيره بدونه، وأن أساس الإيمان هي الاعتقادات التي تقوم بالقلب.

_ 1 رواه البخاري، كتاب الإيمان، ح (52) . الصحيح مع فتح الباري الطبعة السلفية ج1/126. 2 رواه مسلم، كتاب الإيمان، الباب الأول، ح (8) صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ج1/36.

ثانياً: النصوص الدالة على أن الإيمان يكون باللسان. قال صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله ... "1. وقال عليه الصلاة والسلام: " يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعرة من إيمان، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من إيمان، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من إيمان "2. ففي هذين الحديثين دلالة واضحة على اشتراط النطق بالشهادتين لصحة الإيمان. وأن الإيمان الذي يدخل في الإسلام والذي يُنجي من الخلود مكوّن من قول اللسان مع عقد القلب. وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث شعب الإيمان: " الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان " 3.

_ 1 رواه مسلم. كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ح (20) ج1/51. 2 رواه البخاري، كتاب الإيمان. باب زيادة الإيمان ونقصانه، ح (44) الصحيح مع الفتح 1/103. 3 رواه مسلم. كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان. ح (35) ج1/63.

فيه دليل على أن التلفظ بلا إله إلا الله أفضل شعب الإيمان سواء قالها عقداً أو ذكراً. ثالثاً: النصوص الدالة على أن الإيمان يكون بالأعمال الظاهرة: كل النصوص المتقدمة في المجموعة الثانية داخلة في هذا النوع، وذلك أن النطق باللسان عمل ظاهر. ويضاف إلى ذلك: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] . أي صلاتكم، فسمى الصلاة إيماناً. قال البخاري1 ـ رحمه الله ـ في الصحيح: وقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} يعني صلاتكم عند البيت، ثم أورد بسنده إلى البراء2 أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} 3.

_ 1 الإمام الحافظ محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري، صاحب الجامع الصحيح، والتاريخ الكبير، والأدب المفرد، وغيرها. توفي سنة256. انظر: سير أعلام النبلاء 12/391، ومقدمة فتح الباري. 2 البراء بن عازب الأنصاري أبو عمارة. صحابي جليل توفي سنة 72 وقيل 71?. انظر: سير أعلام النبلاء 3/164، والإصابة 1/142. 3 صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الإيمان، باب الصلاة من الإيمان ح (40) ج1/95.

ومن أقوى الأدلة وأصرحها في القرآن على أن الأعمال من الإيمان قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2-4] . حيث جعل سبحانه إقام الصلاة والإنفاق من صفات المؤمنين حقاً. أما من الأحاديث، فقد تقدم في حديث شعب الإيمان أن إماطة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان وهو عمل ظاهر. ومن ذلك حديث وفد عبد القيس1، وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ".. هل تدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وأن تؤدوا خُمْساً من المغنم ... "2.

_ 1 بنو عبد القيس: قبيلة تنتسب إلى عبد القيس بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد ابن ربيعة بن نزار. كانت ديارهم في تهامة ثم خرجوا إلى البحرين. قدم وفدهم على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلموا ومقدمهم يومئذ المنذر بن عائذ. انظر: جمهرة أنساب العرب لابن حزم 295. 2 رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله تعالى.. ح (17) ج1/48.

فهذا الحديث من أقوى الأدلة وأصرحها على أن الأعمال من الإيمان وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الإيمان بالنطق بالشهادتين، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأداء خمس المغنم، وهذه أعمال ظاهرة.

رابعاً: النصوص الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه: قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] . قال ابن كثير1–رحمه الله- في تفسيره لهذه الآية:"وقد استدل البخاري وغيره بهذه الآية وأشباهها على زيادة الإيمان وتفاضله في القلوب كما هو مذهب جمهور الأمة، بل قد حكى الإجماع عليه غير واحد من الأئمة كالشافعي2 وأحمد بن حنبل3 وأبي

_ 1 الإمام الحافظ إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الشافعي ألف تفسير القرآن العظيم، والبداية والنهاية، وطبقات الشافعية وغيرها توفي سنة 774هـ. انظر: شذرات الذهب 6/237، والبدر الطالع 1/153. 2 الإمام الفقيه محمد بن إدريس الشافعي القرشي المشهور بالشافعي. إمام المذهب المعروف. صاحب كتاب الرسالة توفي سنة 204هـ. سير أعلام النبلاء ج1/5 وتهذيب التهذيب9/25. 3 إمام أهل السنة أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، صاحب المذهب المشهور مصنف المسند، وفضائل الصحابة، والزهد وغيرها توفي سنة 241هـ. سير أعلام النبلاء ج11/177، والبداية والنهاية 1/340.

عبيد1 ... "2. وأشباه هذه الآية التي أشار إليها كثيرة منها: قوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124-125] . وقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [الفتح:4] . ونحوها. أما الأحاديث فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان " 3.

_ 1 الإمام الحافظ أبو عبيد القاسم بن سلام بن عبد الله مصنف غريب الحديث وفضائل القرآن والأقوال، توفي سنة 224. سير أعلام النبلاء 10/490 والبداية والنهاية 10/391. 2 تفسير القرآن العظيم -للحافظ ابن كثير ج3/552. تحقيق: عبد العزيز غنيم ومحمد أحمد عاشور ومحمد إبراهيم البنا ط-الشعب. 3 رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان. ح (49) ج1/69.

فدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من شعب الإيمان وخصاله1 وأن بعضه أعلى من بعض. وقال صلى الله عليه وسلم: " يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من إيمان، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من إيمان.."2. فدل هذا الحديث على أن الإيمان يتفاوت قوة وضعفاً في القلوب. كما دل الحديث الذي قبله على أن شعب الإيمان بعضها أقوى وأعلى من بعض. ومما تقدم من النصوص يتضح لنا تعريف الإيمان في الكتاب والسنة وأنه قول وعمل واعتقاد، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأن بعض خصاله أعلى من بعض، وأن أهله يتفاوتون فيه قوة وضعفاً. وعلى هذا القول السلف الصالح -رضوان الله عليهم- أهل الذكر الذين لازموا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واستمدوا علومهم منهما.

_ 1 جامع العلوم والحكم، عبد الرحمن بن شهاب الدين بن رجب الحنبلي ص306 مكتبة الرسالة الحديثة- عمان، ط. ت: بدون. 2 تقدم تخريجه ص (33) .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية1 -رحمه الله-: "والمأثور عن الصحابة وأئمة التابعين، وجمهور السلف، وهو مذهب أهل الحديث، وهو المنسوب إلى أهل السنة: أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ... "2 وقال ابن حجر3 -رحمه الله-: " ... وروى اللالكائي4 بسنده الصحيح عن البخاري قال: لقيت أكثر

_ 1 الإمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الدمشقي، جاهد بيده ولسانه، تصانيفه الكثيرة تدل على قوة فهمه وسعة علمه وتمسكه بالكتاب والسنة؛ ومن أشهرها: منهاج السنة، ودرء تعارض العقل والنقل، ونقض التأسيس، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، واقتضاء الصراط المستقيم، وجمعت فتاواه في مجموع ضخم. توفي سنة 728هـ. انظر: الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية للبزار- والبداية والنهاية 14/141. 2 مجموع الفتاوى ج7/505. 3 الحافظ العلامة أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني المصري الشافعي، صاحب فتح الباري شرح صحيح البخاري والإصابة في معرفة الصحابة، ولسان الميزان، وغيرها، توفي سنة 852هـ. انظر: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع للسخاوي 2/36، وشذرات الذهب لابن العماد ج7/280. 4 الإمام الحافظ أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري اللالكائي الشافعي، صنف شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، وأسماء رجال الصحيحين، وكرامات الأولياء. توفي سنة 418هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 17/419، والبداية والنهاية 12/26.

من ألف رجل من العلماء بالأمصار، فما رأيت أحداً منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص. وأطنب ابن أبي حاتم1 واللالكائي في نقل ذلك بالأسانيد عن جمع كثير من الصحابة والتابعين وكل من يدور عليه الإجماع من الصحابة والتابعين.."2. وقد عرف الإمام ابن القيم3 -رحمه الله- الإيمان تعريفاً وافياً فقال: "وهو حقيقة مركّبة من معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم علماً، والتصديق به عقداً، والإقرار به نطقاً، والانقياد له محبة وخضوعاً، والعمل به باطناً وظاهراً، وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان. وكماله في الحب في الله والبغض في الله، والعطاء لله والمنع لله، وأن

_ 1 الإمام الحافظ ابن أبي حاتم أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن إدريس الحنظلي الرازي، صنف الجرح والتعديل، والرد على الجهمية، وتفسير القرآن، توفي سنة 327هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 13/263، والبداية والنهاية 11/203. 2 فتح الباري ج1/74. 3 الإمام الحافظ شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الدمشقي الحنبلي المشهور بابن قيم الجوزية. صنف أعلام الموقعين، والصواعق المرسلة، وإغاثة اللهفان، وزاد المعاد، وغيرها. توفي سنة 751هـ. انظر: ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 2/447، وشذرات الذهب 6/168.

يكون الله وحده إلهه ومعبوده. والطريق إليه تجريد متابعة رسوله ظاهراً وباطناً، وتغميض عين القلب عن الالتفات إلى سوى الله ورسوله وبالله التوفيق" 1.

_ 1 الفوائد لابن القيم، ص140، دار النفائس، بيروت، ط: السابعة 1986م.

المطلب الثاني: أهم الأسس التي يقوم عليها الإيمان بالله لا بد من التأكيد على أن الإيمان الذي يجري بيان طبيعته هو الإيمان المؤثر الذي يقرب من الله ويجلب ولايته ويتحصن به المؤمن من كيد شياطين الإنس والجن، وأفكارهم العفنة وأفعالهم القبيحة. وهذا الإيمان يقوم على عدة أسس أهمها: 1- الكفر بالطاغوت. 2- الإيمان بالغيب. 3- القيام بمقتضى التكليف بامتثال الأوامر واجتناب النواهي. 4- الإخلاص لله في العبادة. 5- صدق المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم. 6- العلم. وسوف أتكلم على كل منها بما أرى أنه يفي بالغرض والله المستعان.

الأساس الأول: الكفر بالطاغوت الطاغوت في اللغة: مشتق من طغا يطغو: إذا عدا وتجاوز قدره1. ومنه قول الله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11] . وقد قدم الله تعالى الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله في بعض النصوص لكونه شرطاً لصحته. كما في قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256] . وقوله: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر:17] . وفي ذلك إشارة إلى أن التطهير مقدم على التزكية، وأن تخليص القلب من أدرانه ونجاساته المتمثلة بالمعتقدات الباطلة وما يترتب عليها من محبة الطواغيت أو التعلق بهم واجب لحلول الإيمان بالقلب.

_ 1 انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري ج3/19 مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وشركاه-مصر، ط: الثالثة 1388هـ. والمفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني أبي القاسم الحسين بن محمد، تحقيق محمد سيد كيلاني ص304. دار المعرفة بيروت. ط، ت: بدون.

وفي بعض النصوص نجد تقديم الإيمان والأمر بالعبادة على الكفر بالطاغوت، كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] . وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله " وفي رواية: " من وحد الله " ثم ذكر بمثله1. وتقديم الأمر بالتوحيد على الكفر بالطاغوت يتضمن الإشارة إلى أمرين هامين: الأول: أن عبادة الله وحده لا شريك له هي الأساس الأهم للإيمان، وهي حق الله على عباده. والكفر بالطاغوت شرط لها. فدعوة الرسل تنصب على المقصد الأهم وهو العبادة الخالصة ثم بيان شرطها. فتقديم الغاية على شرطها هو الأنسب في مقام التبليغ والبيان. أما في فعل العبد وامتثاله لما كلف به، فلا بد أولاً أن يخلع ثوب الشرك ويكفر بالطاغوت ثم يدخل الإيمان نقياً طاهراً فيتزكى، كما قال تعالى في فعل العبد: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ويُؤْمِن بِاللهِ} . وقال: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} [الزمر:17] .

_ 1 رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس ... ح (23) ج1/53.

الثاني: أن تأخير {وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوت} في الآية، و"كفر بما يعبد من دون الله" في الحديث تفيد وجوب الاستمرار. فكما أن الكفر بالطاغوت مقدم في المجال العملي، إلا أنه يجب أن يستمر إلى أن يلقى العبد ربه. فعلى المؤمن طول حياته أن يستقيم على عبادة الله الخالصة، ويجتنب الطاغوت، وذلك كالصلاة والطهارة لها. فالطهارة تكون قبل الصلاة وتستمر حتى نهايتها. والله أعلم. والكفر بالطاغوت أصل تتضمنه شهادة أن لا إله إلا الله. قال الشيخ سليمان1 بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله- مبيناً حقيقة التوحيد: "وحاصله هو البراءة من عبادة كل ما سوى الله، والإقبال بالقلب والعبادة على الله. وذلك هو معنى الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله وهو معنى: لا إله إلا الله"2.

_ 1 الشيخ العلامة سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب. صنف تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، وأوثق عرى الإيمان. قتل رحمه الله سنة 1233هـ على يدي إبراهيم باشا بعد استيلائه على الدرعية. انظر: الأعلام للزركلي 3/191، ومشاهير علماء نجد 44. 2 تيسير العزيز الحميد، للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ص139. المكتب الإسلامي ط الثالثة، 1397هـ.

المراد بالطاغوت في خطاب الشارع: فُسر الطاغوت بالشيطان، والساحر، والكاهن، والأصنام1. وهذا تفسير له ببعض أفراده، وإلا فالطاغوت يطلق على كل من طغى وتجاوز حده، وادّعى حقاً من حقوق الله التي تفرد بها. قال ابن جرير2 -رحمه الله-: "والصواب من القول عندي في الطاغوت أنه كل ذي طغيان على الله فعُبد من دونه، إما بقهر منه لمن عبده، وإما بطاعة ممن عبده له، إنساناً كان ذلك المعبود أو شيطاناً، أو وثناً، أو صنماً كائناً ما كان من شيء" 3. فالضابط إذاً لمعنى الطاغوت: أنه كل مخلوق تجاوز حده وادّعى لنفسه أو لغيره شيئاً مما تفرد الله به4، أو نُسب إليه ورضي بذلك، أو كان في حكم الراضي. ويخرج من هذا الأنبياء والملائكة وصالحو الإنس والجن الذين عُبدوا

_ 1 انظر: جامع البيان لابن جرير 3/18، 19، والتفسير الكبير لمحمد بن عمر الرازي ج7/16. دار الكتب العلمية طهران. ط: الثانية، ت: بدون. 2 الإمام الحافظ أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري، صنف التفسير والتاريخ وتهذيب الآثار. توفي سنة 310هـ. 3 جامع البيان لابن جرير ج3/19. 4 سيأتي بيان الأمور التي تفرد الله بها عند الكلام على الأساس الثاني: "الإيمان بالغيب".

في حياتهم أو بعد موتهم، أو أسند إليهم دون رضاهم شيء مما اختص الله به. وذلك أنهم لم يدّعوا ذلك ولن يُقروا من ادعاه. وسيتبرؤون منه إن علموا به في حياتهم أو يوم القيامة كما قال تعالى مبيناً ذلك: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:40، 41] . فهم لا يعبدونهم في حقيقة الأمر، إنما يعبدون الشياطين الذين زينوا لهم ذلك، والذين يتلاعبون بهم بما يظهرون لهم من خوارق العادات ونحوها. ويدخل في مسمى الطاغوت الجمادات التي عُبدت من دون الله، كالقبور والأحجار والأشجار والعتبات والمشاهد، ونحوها. وذلك أنه نُسب إليها وفُعل عندها ما لا يجوز إلا لله وحده، فهي في حكم الطواغيت. وسوف تُلقَى في النار مع من عبدها زيادة في تبكيت المشركين، كما قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98] . وقد استثنى الله عبادة الصالحين الذين عُبدوا من دونه من الدخول في جهنم وذلك أنه نُسِب إليهم ذلك زوراً وبهتاناً. فلم يدْعوا لذلك ولن

يرضوا به، وسيتبرّؤون منهم يوم القيامة فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء 101، 102] . والإيمان بالطاغوت: يكون بتصديقه فيما ادعاه من حق الله. أو تصديق ما نسب إليه من ذلك حتى لو لم يعمل به. وعبادة الطاغوت: تكون بالعمل بموجب ذلك التصديق، بصرف شيء من العبادة له كالصلاة أو الدعاء أو الرجاء ... ونحو ذلك. والكفر بالطاغوت: يكون باعتقاد بطلان عبادة غير الله، وتكذيب ما يدّعون أو ما ينسب إليهم من حق الله. ويدخل في ذلك بغض الطواغيت وأتباعهم ومللهم وكراهتهم والبراءة منهم ومما يعبدون وعداوتهم1 وقد بين الله تعالى أهمية الكفر بالطاغوت وكيفيته وممن يكون في سياق واحد في سورة الممتحنة فقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ

_ 1 انظر: مجموعة التوحيد: مجموعة رسائل لنخبة من علماء المسلمين، الرسالة الأولى ص11، ط: السلفية. وانظر تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، ص34.

كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الممتحنة:4-6] . فقوله تعالى في أول السياق: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ..} وفي آخر السياق: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ..} بيان لأهمية هذا الأمر وتأكيد له وأنه من الأسس التي تقوم عليها الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام، وأن الكفر بالطاغوت والبراءة من الشرك وأهله لازم لمن أراد أن يلقى الله وهو راض عنه فيفوز في اليوم الآخر. وفي قوله: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} بيان أن البراءة تكون من الشرك وأهله، من الطواغيت وأتباعهم وأعمالهم وكل خصائصهم وأحوالهم المنحرفة. وفي قوله: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا} بيان لكيفية الكفر بالطاغوت، وأنها تكون بجحد وتكذيب ما هم عليه من

الشرك والعقائد الباطلة، وإظهار العدواة والبغضاء لهم. وفي قوله: {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} بيان لغاية الكفر بالطاغوت وأنها مستمرة ما دام الكافر على كفره، لا حد لها إلا رجوعه عن باطله. فالكفر بالطاغوت والبراءة من الشرك وأهله أساس هام للإيمان بالله، وخطوة مقدمة لتطهير القلب، وتهيئته لاستقبال الإيمان وعقائده المباركة. الأساس الثاني: الإيمان بالغيب الإيمان بالغيب هو حقيقة الإيمان بالله وتصديق المرسلين. وقد ذكره الله في مطلع سورة البقرة أول وأهم صفة يتميز بها المتقون. قال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة:1-3] . والغيب: هو كل ما غاب عنك من شيء. والإيمان به هو: التصديق والإقرار1. قال ابن جرير -رحمه الله- في بيان المراد بالإيمان بالغيب: "الإيمان كلمة جامعة للإقرار بالله وكتبه ورسله، وتصديق الإقرار بالفعل" 2.

_ 1 جامع البيان لابن جرير ج1/101. 2 جامع البيان لابن جرير ج1/101.

والإيمان بالغيب هو: التصديق والإقرار بكل ما أخبر به الله من الأمور المغيبة. ويشمل ما أخبر به عن نفسه تعالى، وملائكته، وكتبه، ورسله، وأخبار الأمم السابقة، وما سيكون في مستقبل الزمان، واليوم الآخر، والقدر. قال الربيع بن أنس1 -رحمه الله- في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} : "آمنوا بالله، وملائكته، ورسله، واليوم الآخر، وجنته، وناره، ولقائه، وآمنوا بالحياة بعد الموت" 2. وقد جمع الرسول صلى الله عليه وسلم أصول الأمور الغيبية بتعريفه للإيمان في حديث جبريل -عليه السلام- حيث قال: " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره " 3. وسأتكلم -باختصار- على تعريف هذه الأركان الستة بما يحصل به المقصود من تجلية الأسس التي يقوم عليها الإيمان، وأهم معالمها دون قصد الشرح والتفصيل، فذلك له مواضعه من كتب أهل العلم.

_ 1 الربيع بن أنس بن زياد البكري، عالم مرو في زمانه، توفي سنة 239هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 6/169، وتهذيب التهذيب 3/238. 2 جامع البيان ج1/101. 3 سبق تخريجه ص (32) .

الأول: الإيمان بالله. وهو التصديق والإقرار الجازم بكل ما أخبر الله به عن نفسه وما يجب له من الأسماء والصفات والأفعال، وسننه وحكمته في خلقه وحقه على عباده. وهو توحيده سبحانه، الذي يكون باعتقاد تفرده بما أخبر بأنه متفرد به من الأمور. وهي تنحصر إجمالاً في ثلاثة أمور: 1- تفرده بالذات المقدسة، وصفات الكمال، والأسماء الحسنى الواردة في نصوص الكتاب والسنة. وإثباتها على الحقيقة، وِفْقَ منهج السلف الصالح، بعيداً عن المناهج المبتدعة القائمة على التعطيل أو التأويل أو التشبيه. قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] . وقال: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163] . وقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] . وقال: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] . ومعرفة ذلك وإثباته هو: توحيد الأسماء والصفات.

2- تفرده بأفعاله العظيمة الحكيمة. قال تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16] . وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس:31] . وقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الروم:40] . وقال: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:100] . واعتقاد ذلك هو: توحيد الربوبية. 3- تفرده بالألوهية واستحقاقه للعبادة. قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [محمد:19] . وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] . واعتقاد تفرد الله بالألوهية، وإخلاص العبادة له، هو توحيد الألوهية، الذي هو حق الله على عباده وأساس الدين.

فإذا اعتقد العبد تفرد الله بهذه الأمور، وانقاد لموجبها، فقد حقق التوحيد، وكان إيمانه بالله صحيحاً. الثاني: الإيمان بالملائكة. "وهو الاعتقاد الجازم بأن الله تعالى خلَق عالماً أسماه الملائكة. وهم أرواح قائمة في أجسام نورانية، قادرة على التمثل بأنواع مختلفة الشكل، بإذنه تعالى مناسبة للحال التي يأتون بها" 1. "كما يجب التصديق بصفاتهم وأفعالهم الواردة في نصوص القرآن الكريم والأحاديث النبوية، الدالة دلالة قطعية على وجودهم، وأنهم يتصفون بصفات حميدة وأفعال رشيدة" 2. الثالث: الإيمان بكتب الله: "وهو الاعتقاد الجازم بأن الله تعالى أنزل على رسله كتباً مشتملة على هدى العباد، مبينة لهم ما يصلح دينهم ودنياهم، موضحة ما عليهم من واجبات، وما لهم من حقوق، بها الأنظمة الشرعية والتوجيهات الخُلُقية"3.

_ 1 منهج القرآن في الدعوة إلى الإيمان. د/علي بن ناصر فقيهي ص21 ط: الأولى 1405هـ. 2 انظر: المرجع نفسه ص23، 27. 3 د/ علي ناصر فقيهي، المصدر السابق ص29.

هكذا يكون الإيمان إجمالاً بالكتب المنزلة على رسل الله السابقين: كالتوراة التي أنزلت على موسى، والإنجيل على عيسى، والزبور على داود، وصحف إبراهيم، وكل ما وردت الإشارة إليه في نصوص الوحي. أما القرآن فيزيد على ذلك باعتقاد حفظ الله له، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والإيمان بعقائده، والتصديق بأخباره، وامتثال أوامره، والانتهاء عن نواهيه، وتنفيذ وصاياه. واعتقاد أنه كلام الله حقاً سمعه منه جبريل -عليه السلام-، وسمعه محمد صلى الله عليه وسلم من جبريل. وسمعه الصحابة -رضوان الله عليهم- من النبي، وتناقلته الأمة بالنقل الصحيح المتواتر جيلاً بعد جيل وإلى أن يرفعه الله إليه. الرابع: الإيمان بالرسل: وهو الاعتقاد الجازم بأن الله سبحانه وتعالى بعث في كل أمة رسولاً منهم يدلهم على الخير ويحذرهم من الشر رحمة بهم1. قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24] .

_ 1 المصدر السابق ص30.

ويتضمن الإيمان بالرسل أربعة أمور1: 1- الإيمان بأن رسالتهم حق من الله تعالى، فمن كفر برسالة واحد منهم فقد كفر بالجميع. 2- الإيمان بمن علمنا اسمه منهم، مثل محمد وإبراهيم وموسى ونوح -عليهم السلام- وغيرهم مما ذكر اسمه في الكتاب أو السنة على وجه التعيين. أما من لم نعلم اسمه منهم فنؤمن به إجمالاً حيث نعتقد أن الله بعث في كل أمة نذيراً. 3- تصديق ما صح عنهم من أخبارهم. 4- العمل بشريعة من أُرسل إلينا منهم وهو خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم. الخامس: الإيمان باليوم الآخر. قال تعالى في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4] . والإيمان باليوم الآخر: هو الاعتقاد بالبعث بعد الموت وأن هناك يوماً يحاسب فيه الناس على أعمالهم، والتصديق بكل ما أخبر الله به مما

_ 1 انظر: رسائل العقيدة. الشيخ محمد بن صالح العثيمين الرسالة الأولى ص25، 26، دار طيبة الرياض، ط الثانية 1406.

يكون في ذلك اليوم. ويشمل الإيمان باليوم الآخر أموراً أهمها: الإيمان بالبعث بعد الموت، وبعد النفخ في الصور، والحساب والجزاء والموازين، ولقاء رب العالمين، والحوض والصراط، وما ورد الخبر به مما يجري على العباد، والجنة والنار وما ورد في صفاتهما وصفات أهلهما. ويلحق بالإيمان باليوم الآخر التصديق بما يكون بعد الموت، من فتنة القبر والسؤال فيه وعذاب القبر ونعيمه1. السادس: الإيمان بالقدر: وهو الاعتقاد الجازم بأن الله سبق في علمه مقادير الخلائق -ويشمل ذلك ما يعمله العباد من خير وشر، وطاعة ومعصية، ومن هو من أهل الجنة، ومَنْ مِن أهل النار- وقد كتب الله ذلك في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. كما كتب لهم وعليهم ما تقتضيه حكمته، من المقادير والأحوال التي يستحقونها على أعمالهم التي علم أنهم سيعملونها، وأراد إرادة كونية أن يقع ما عَلِمَه وكَتبه لأجلهِ الذي قدر له. وهو الذي يخلقه إذا حان الأجل، فهو الخالق لكل شيء بما في ذلك أفعال العباد، من الكفر والإيمان

_ 1 الشيخ محمد بن عثيمين. المصدر السابق ص29، 30.

والطاعة والعصيان وغيرها1. فإذا آمن العبد بهذه الأمور الغيبية الستة أصبح من المؤمنين بالله الذين تصح منهم العبادة، كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] . الأساس الثالث: القيام بمقتضى التكليف بامتثال الأوامر واجتناب النواهي والمراد أن العبد إذا كفر بالطاغوت، وتبرأ من الشرك وأهله، وآمن بالله وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر، فعليه بعد ذلك أن يستجيب لله بفعل ما كلفه به من الطاعات، وترك ما نهاه عنه من المحرمات. قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] . ففي هذه الآية بيان للحكمة الشرعية التي خلق الله من أجلها الناس، وهي أن يكلفهم بعبادته، بالامتثال لأوامره والانتهاء عن نواهيه.

_ 1 انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب ص24، ورسائل العقيد للشيخ محمد بن عثيمين الرسالة الأولى ص37-40.

قال الشوكاني1 -رحمه الله-: "وروي عن مجاهد2 أنه قال: المعنى إلا لآمرهم وأنهاهم ويدل عليه قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [التوبة:31] واختار هذا الزجاج 3" 4 وقال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40] . وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] .

_ 1 هو العلامة الفقيه المحدث محمد بن علي بن محمد الشوكاني من أهل اليمن، صنف نيل الأوطار، وفتح القدير، والسيل الجرار. توفي سنة 1250هـ. انظر: البدر الطالع 2/214، والأعلام 6/298. 2 هو شيخ القراء والمفسرين أبو الحجاج مجاهد بن جبر المكي توفي سنة 103 وقيل غير ذلك. انظر: سير أعلام النبلاء 4/449، والبداية والنهاية 9/232. 3 الزجاج: إمام زمانه في النحو، أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الزجاج البغدادي. صنف معاني القرآن، والاشتقاق والنوادر توفي 311هـ. انظر: وفيات الأعيان 1/49، وسير أعلام النبلاء 14/360. 4 فتح القدير لمحمد بن علي الشوكاني، ج5/92. دار المعرفة -بيروت.

وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] . فقوله: تعبدوا وليعبدوا واعبدوا في النصوص المتقدمة تأكيد لوجوب الامتثال لأمر الله بفعل الطاعات، واجتناب ما نهى عنه بترك المحرمات. وأن ذلك أساس هام يقوم عليه الإيمان الصحيح والعبودية الحق التي لا يتحصل العبد على الإيمان الجالب لولاية الرحمن بدونه. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:208] . السلم: هو الإسلام. والمراد بكافة: أي جميع شرائع الإسلام. ففي الآية يدعو الله المؤمنين إلى الأخذ بجميع شرائع الإسلام، وإقامة جميع أحكامه، وحدوده، دون تضييع بعضه والعمل ببعضه1. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24] . وقد حذر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من التفريط في الطاعة وعدم

_ 1 انظر: جامع البيان لابن جرير ج2/324.

الالتزام بالتكليف في نصوص كثيرة، منها قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] . وقال صلى الله عليه وسلم: " كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى "1. وليس الغرض الكلام على تفاصيل التكاليف، وإنما بيان أن القيام بمقتضى التكليف أساس مهم في الإيمان الصحيح الراسخ الذي يتحصن به العبد ضد الفكر الخبيث، ويتحصل به على الثمرات المباركة التي يكرم الله بها أولياءه. والقيام بمقتضى التكليف مشروط بشرطين هامين هما الإخلاص والمتابعة. وسوف يجري الكلام عليهما في الأساس الرابع، والخامس. الأساس الرابع: الإخلاص لله في العبادة والمراد أن العبد إذا ستبرأ من الشرك وأهله وآمن بالله وما أخبر به من الأمور الغيبية وانقاد لموجب الأمر، واجتنب ما يُنهى عنه، فإنه لا يتحقق الإيمان إلا بالإخلاص لله في عبادته. فالإخلاص في العبادة هو حق الله الذي أمر به عباده.

_ 1 رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ح (7280) ج13/249.

قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] . وقال صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ1 رضي الله عنه: " فإن حق الله على العباد أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً "2. والإخلاص هو أن يقصد العبد بكل عباداته وجه الله تعالى. فلا يشرك معه في العبادة المعينة أحداً، ولا يصرف جنس العبادة لغيره. قال تعالى مبيناً نية عباده الذين رضي عنهم وأشاد بصنيعهم: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان:9] . والإخلاص في العبادة أساس الحنيفية ملة إبراهيم وهو الأمر الذي تميز به الحنفاء أتباع الأنبياء عن غيرهم من الأدعياء الذين ينتسبون إلى الأديان السماوية وهي منهم براء. فالفارق الأساس هو التوحيد الخالص

_ 1 هو الصحابي الجليل معاذ بن جبل بن عمرو الخزرجي الأنصاري. أعلم الصحابة بالحلال والحرام. توفي سنة 17 وقيل 18هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 1/443 وتهذيب التهذيب 10/186. 2 متفق عليه. البخاري، كتاب الجهاد، باب اسم الفرس والحمار، ح (2856) الصحيح مع الفتح 6/58. ومسلم كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً، ح (30) 1/58.

عند أتباع النبي صلى الله عليه وسلم والذي لا يوجد عند أهل الكتاب الذين حادوا عن منهج الأنبياء. بين ذلك ربنا بقوله: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} [البقرة:139] . فانظر إلى قوله في ختام الآية {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} ولم يقل وأنتم له مخلصونّ مما يدل على أن هذا الأمر تفرد به المسلمون. والإخلاص هو حقيقة معنى شهادة أن لا إله إلا الله. قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب –رحمهم الله-:"النوع الثالث: توحيد الإلهية المبني على إخلاص التأله لله تعالى، من المحبة والخوف، والرجاء والتوكل، والرغبة والرهبة، والدعاء لله وحده. ويبنى على ذلك إخلاص العبادات كلها ظاهرها وباطنها لله وحده لا شريك له، لا يُجعل فيها شيء لغيره، لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، فضلاً عن غيرهما ... وهذا التوحيد هو أول الدين وآخره، وباطنه وظاهره، وهو أول دعوة الرسل وآخرها، وهو معنى قول: لا إله إلا الله. فإن الإله هو المألوه المعبود بالمحبة والخشية والإجلال والتعظيم، وجميع أنواع العبادة، ولأجل هذا التوحيد خلق الخليقة، وأرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، وبه افترق الناس إلى مؤمنين وكفار، وسعداء أهل الجنة، وأشقياء أهل النار" 1.

_ 1 تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، ص36.

وضابط الإخلاص: أن كل ما ثبت أنه عبادة فهو من الدين. وما كان من الدين فيجب أن يكون خالصاً يقصد به وجه الله وحده: فلا يشرك معه فيه أحد، ولا يصرف جنسه إلى غير الله. وذلك أن الله تعالى قال: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3] . قال: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر:65] . فالدعاء -مثلاً- من الدين، فيجب أن يكون خالصاً. فلا يجوز أن يدعى الله ويدعى غيره في آن واحد. ولا يجوز أن يصرف جنس الدعاء لغير الله -كأن يدعو الله وحده مرة، وفي مرة أخرى يدعو غير الله. وهكذا كل العبادات: كالصلاة، والتوبة، والطواف، والاستعانة، والسؤال، والخوف، والرجاء، ونحوها. فالإخلاص شرط في صحة العبادة. وأساس هام من أسس الإيمان. بدونه لا يدخل العبد في ولاية الله، ولا يقبل منه عمل، ولا يتحصل على ثمرات الإيمان وكراماته التي وعد الله بها عباده المؤمنين. الأساس الخامس: صدق المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أن العبد إذا كفر بالطاغوت وآمن بالغيب، وقام بفعل ما أمر به وانتهى عما نهى عنه، وتوجه لله وحده، فعليه مع ذلك أن يقتدي بالنبي

صلى الله عليه وسلم في أداء العبادات، وأن يتلقى منه وحده بيان العبادات وكيفياتها وكل ما يحتاج إليه في القيام بما كُلف به. وصدق المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم هو حقيقة معنى شهادة أن محمداً رسول الله. قال ابن رجب1–رحمه الله-: "وتحقيقه بأن محمداً رسول الله، ألا يعبد الله بغير ما شرعه الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم"2. قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] . قال ابن كثير -رحمه الله-:"هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله، وأفعاله، وأحواله" 3. وفي قوله: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} دليل على أهمية الاقتداء

_ 1 الإمام الحافظ العلامة أبو الفرج عبد الرحن بن أحمد بن رجب الحنبلي، صنف شرحاً لصحيح البخاري ولم يتمه، والقواعد الفقهية، وجامع العلوم والحكم. وغيرها. توفي سنة 795هـ. انظر: شذرات الذهب 6/339، والجوهر المنضد 46. 2 كلمة الإخلاص وتحقيق معناها. للحافظ عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي ص21. 3 تفسير القرآن العظيم لابن كثير 6/392.

برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه أساس من أسس العبودية التي ينبغي أن يكون عليها من كان يرجو الله، والحصول على ولايته والفوز يوم القيامة. وهذا الأصل العظيم دلت عليه نصوص كثيرة منها: قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] . وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] . وقد جمع الله بين هذا الأصل -صدق المتابعة- والذي قبله -الإخلاص- في قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] . "وهذان ركنا العمل المتقبل لا بد أن يكون صواباً خالصاً. فالصواب: أن يكون على السنة، وإليه الإشارة بقوله: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا} . والخالص: أن يخلص من الشرك الجلي والخفي، وإليه الإشارة بقوله: {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} "1. واتباعه صلى الله عليه وسلم يكون بتعلم ما جاء به من الوحي والعمل والاقتداء به.

_ 1 تيسير العزيز الحميد ص525.

قال صلى الله عليه وسلم آمراً بالاقتداء به وبالخلفاء الراشدين السائرين على نهجه المقتفين لأثره، ومحذراً من البدع والمحدثات: " أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً، فإنه من يعِشْ منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، فتمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة "1. وكما نهى عند البدعة والمحدثات نهى عن الغلو فقال: " هلك المتنطعون " قالها ثلاثاً2. وقال أيضاً: " فمن رغب عن سنتي فليس مني "3. وبهذا يتبين أن التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم وصدق المتابعة له شرط في صحة العبادة، وأساس عظيم يقوم عليه الإيمان بالله، وأن ذلك لا يتحقق إلا بالابتعاد عن الغلو والبدع والمعاصي.

_ 1 رواه الإمام أحمد: المسند 4/126 واللفظ له، مسند العرباض بن سارية، وابن ماجه، المقدمة: باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين ح (35) 1/10 تحقيق محمد مصطفى الأعظمي. ورواه الترمذي أبواب العلم، باب 16، 4/149 وقال:" حديث حسن صحيح" وصححه الألباني في إرواء الغليل 8/107. 2رواه مسلم، كتاب العلم، باب هلك المتنطعون، ح (2670) 4/2055. 3 متفق عليه. البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، ح (5063) الصحيح مع الفتح 9/104. ومسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح ... ، ح (1401) 2/1020.

الأساس السادس: العلم والمراد أن الإيمان الصحيح الراسخ المؤثر على صاحبه تطهيراً وتزكية وتحصيناً، هو الذي يقوم على العلم المستقى مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي. وهو أمر لازم لتحقيق جميع الأسس المتقدمة، فلا يتسنى له -مثلاً- تحقيق الكفر بالطاغوت إلا بالعلم بصفات الطواغيت وخصائصهم وأحوالهم، لذلك جرى بيانها في الكتاب والسنة، أشار إلى ذلك ربنا بقوله: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55] . وهكذا سائر الأسس وغيرها من المطالب الإيمانية، لا يمكن القيام بها إلا بالعلم بما ورد من تفاصيلها في كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالعلم أساس هام في الإيمان بالله، وركن بارز في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] . هذه الآية وردت في أواخر سورة يوسف عليه السلام، فهي تعقيب وربط بين ما قرر فيها من منهج وطريق المرسلين السابقين، وما ينبغي أن تكون عليه الدعوة الجديدة التي يقوم بها المصطفى صلى الله عليه وسلم:

فهذه الآية تبين أن النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه على طريق يوسف -عليه السلام- الذي كان على ملة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب -عليهم السلام. تلك الملة القائمة على الكفر بالطاغوت، والالتزام الدقيق بالتوحيد الخالص والتي بينها يوسف -عليه السلام- بقوله: {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [يوسف:37، 38] . فهذه الملة هي طريق النبي صلى الله عليه وسلم وأمته أيضاً وأساس دعوتهم، كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123] . فدلت آية سورة يوسف على أن طريق النبي صلى الله عليه وسلم يقوم على ثلاثة أمور: الأول: التوحيد الخالص: القائم على فعل الطاعات واجتناب المحرمات، مع الإخلاص لله في ذلك. الثاني: الدعوة إلى توحيد الله.

الثالث: العلم والبصيرة في ذلك كله. قال ابن جرير -رحمه الله-: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد هذه الدعوة التي أدعو إليها، والطريقة التي أنا عليها من الدعاء إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له، دون الآلهة والأوثان، والانتهاء إلى طاعته وترك معصيته، سبيلي وطريقتي ودعوتي أدعو إلى الله وحده لا شريك له على بصيرة بذلك، ويقين علم مني به أنا ويدعو إليه على بصيرة أيضاً من اتبعني وصدقني، وآمن بي. وسبحان الله يقول تعالى ذكره: وقل تنزيهاً لله وتعظيماً له، من أن يكون له شريك في ملكه أو معبود سواه في سلطانه. وما أنا من المشركين يقول: وأنا بريء من أهل الشرك به، لست منهم ولا هم مني" 1. وقد بين سبحانه أن التعليم من أخص وظائف النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أخرج به المسلمين من الضلال المبين، فقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] .

_ (1) جامع البيان 13/79، 80.

فالعلم مقدم على كل قول أو عمل كُلف به الإنسان، أو رام القيام به، وشرط في صحته. قال الإمام البخاري رحمه الله في الجامع الصحيح: "باب العلم قبل القول والعمل، لقول الله تعالى {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} فبدأ بالعلم"1. وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب2 -رحمه الله-: "اعلم رحمك الله أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل: الأولى: العلم، وهو معرفة الله، ومعرفة نبيه، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة. الثانية: العمل به. الثالثة: الدعوة إليه. الرابعة: الصبر على الأذى فيه. الدليل قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا

_ 1 صحيح البخاري مع الفتح 1/159. 2 الإمام العلامة مجدد الدعوة السلفية في الجزيرة العربية محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي النجدي، ألف كتاب التوحيد، وكشف الشبهات، ومختصر السيرة النبوية، وغيرها. توفي رحمه الله في سنة 1206هـ. انظر: روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام، لحسن بن غنام، والأعلام 6/725.

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3] 1. وبهذا يتبين أن العلم والبصيرة في الدين أساس هام لا يتحصل العبد على الإيمان المثمر المحصن بدونه. وفيما يأتي مزيد بيان لأهمية العلم وآثاره المباركة وبيان لبعض مباحث الإيمان كلما اقتضت الحاجة ذلك. والله المستعان.

_ 1 الأصول الثلاثة وأدلتها، للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص5 مكتبة الشباب، مكة المكرمة، ط: الأولى، 1387هـ.

المبحث الثاني: الفكر الجاهلي في مجابهة الإيمان والمراد بهذا المبحث بيان أن أعداء الإسلام قد شنوا حرباً فكريةً عنيفة ومستمرة استهدفت القضاء على الإيمان، وذلك ضمن كيد ومكر متكامل، استخدموا فيه جميع الوسائل الممكنة في حرب الإسلام. ومن ذلك توجيههم الكثير من الأفكار الخبيثة نحو العلم المبين للإيمان، بهدف تحريفه وتشويهه ومعارضته بالشبهات، وتوجيهه الوجهات الضالة، ووضع التصورات والتعاريف المنحرفة لجميع مسائله وقضاياه. وبذلك يعطون من ظفروا به من الناشئة ومعتنقي الإسلام مفاهيم خاطئة ضالة للإيمان من البداية. ووجهت أفكار ومخططات أخرى نحو قلوب معتنقي الإيمان الصحيح في محاولة لزعزعتها، وتزيين الباطل لها ولبسه بالحق، وإيقاد نار الشهوات وإطفاء نور الإيمان المتأجج فيها. وبذلك كانت الأفكار الهدامة بمثابة الجراثيم والديدان، التي تنخر في الأبدان فتمرضها، فالأفكار الضالة تنخر في القلوب والعقول، وتتسلط على العقائد الحق، والعواطف الطيبة، والإرادات، فتمرضها وتوجهها نحو الباطل والشر. وسوف يجري الكلام في هذا المبحث من خلال المطالب الآتية:

المطلب الأول: بيان أن الصراع بين الحق والباطل من سنن الله الجارية إلى يوم القيامة. المطلب الثاني: الصراع الفكري بين الحق والباطل في عصور الإسلام المتقدمة. المطلب الثالث: الغزو الفكري للأمة الإسلامية في العصر الحديث.

المطلب الأول: بيان أن الصراع بين الحق والباطل من سنن الله الجارية منذ خلق الله الإنسان وإلى يوم القيامة لقد كرم الله الإنسان فخلقه بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه الأسماء كلها، وأعطاه العقل الذي يعرف به الخطاب، ويطلب به الأسباب، ويستفيد مما سخره الله له على وجه الأرض. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70] . وهبط آدم أبو البشر -عليه السلام- إلى الأرض عارفاً بربه، عالماً بما يجب له، مؤمناً نقياً مغفوراً له، واصطفاه الله بالنبوة والوحي. قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:37] . وعاش البشر الذين تناسلوا من آدم وحواء مدة من الزمن على دين أبيهم، وكانوا أمة واحدة على التوحيد ودين الحق كما قال تعالى:

{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213] . قال ابن جرير -رحمه الله-: "فإن دليل القرآن واضح على أن الذين أخبر الله عنهم أنهم كانوا أمة واحدة، إنما كانوا على الإيمان ودين الحق دون الكفر بالله والشرك به" 1. ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عباس2 -رضي الله عنهما- أنه قال: "كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين"3. والعجيب في واقع البشر أن الهدى الرباني - الذي شاء الله بإرادته

_ 1 جامع البيان في تفسير القرآن، لابن جرير 2/196. 2 إمام التفسير وحبر الأمة الصحابي الجليل عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. توفي سنة سبع أو ثمان وستين. سير أعلام النبلاء 3/331، والبداية والنهاية 8/298. 3 رواه ابن جرير، جامع البيان 2/194.

الشرعية1 أن يكون مزيلاً للخلاف بينهم- تؤول حالهم معه إلى التفرق

_ 1 الإرادة المنسوبة إلى الله نوعان: الإرادة الشرعية: وهي إرادة الله المتعلقة بالشرع والتكليف، وأمره سبحانه المتوجه إلى المكلفين بما يجب أن يفعلوه وما يرضاه لهم من الشرائع والعبادات والأخلاق، كما في قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} (يوسف:40) وهي إرادة متعلقة بالحكمة الشرعية، أي أنه يشرع لعباده ما تقتضيه حكمة التكليف من حصول المصالح لهم كما في المعاملات والأخلاق، ودفع المفاسد كما في الحدود، وحصول محبوبات لله كما في العبادات. وقد وردت الإشارة إلى الإرادة الشرعية في بعض النصوص نحو: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر} (البقرة:185) أي أن الله شرع لعباده الفطر في رمضان لمن كان مريضاً أو مسافراً، لأنه يحب لهم اليسر، ولكن اليسر لا يحصل إلا لمن امتثل هذه الشرائع فأفطر. والإرادة الكونية: وهي متعلقة بالخلق والإيجاد، وأمر الله المتوجه إلى سائر المخلوقات بما يريد خلقه وإيجاده، كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يس:82) وهي نافذة لا يتخلف عنها المراد {فَعَّالٌ لِمَ يُرِيدُ} (البروج:16) وهذه الإرادة متعلقة بحكمة الله الكونية أي أنه سبحانه يخلق ويوجد ويصرف خلقه كما تقتضيه حكمته من تهيئة الكون بما يصلحه والأرض للعيش عليها وما يحقق حصول الابتلاء والامتحان للعباد، وغير ذلك من الحِكم التي يُعلم بعضها ويقصر العقل عن معرفة الكثير منها. ويمكن حصر الفروق بين الإرادة الكونية وما يتعلق بها من الأمر والحكمة، وبين الإرادة الشرعية وما يتعلق بها من الأمر والحكمة فيما يلي: 1- الإرادة الكونية متعلقة بالخلق والإيجاد والشرعية بالشرع والتكليف. 2- الكونية لا يلزم منها محبة المراد فيخلق سبحانه ما يحبه وما لا يحبه، فخلق الأنبياء مثلاً وهو يحبهم، وخلق إبليس والكفار وهو لا يحبهم، أما الشرعية فهي متعلقة بالمحبة فلا يشرع لعباده إلا ما يحبه ويرضاه. 3- الكونية نافذة لا محالة لا يتخلف عنها المراد، أما الشرعية فإنها لا تنفذ إلا فيمن جاء بالسبب وامتثل الشرع وانقاد للأمر، وتتخلف عمن أعرض عن الأمر. 4- الكونية متوجهة إلى جميع المخلوقات، أما الشرعية فهي متوجهة إلى المكلفين. انظر: مجموع الفتاى 2/159-160، 188-189، وشفاء العليل لابن القيم 559-567، وشرح العقيدة الطحاوية 249-254 ط الثامنة.

والاختلاف. وقد بين الله ذلك من حالهم بقوله: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:4] . وقال: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً} [البقرة:213] . وقال: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُم} [آل عمران:19] . فالله سبحانه أنزل الوحي والهدى، رحمة بالناس، ليحققوا به ما

أراده منهم من الحكمة الشرعية لخلقهم وهي عبادته وحده لا شريك له والتي بينها بقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] . ولكن الكثير من الناس يأبى إلا التنازع، والبغي والعدوان، والغرور الذي ينتج عنه الخلاف المذموم الذي يقع بعد البينة والعلم. فواقع الناس صائر إلى ما أراده الله بحكمته الكونية من اختلافهم وتفرقهم إلى أهل باطل وخلاف مذموم، وأهل حق رحمهم الله فتمسكوا بدينه ولازموه1، بيّن ذلك ربنا بقوله: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118، 119] . فهذه هي الحال التي علم الله أنها ستكون من الناس، فأرادها وقدرها عليهم، وأذن بحصولها لتتحقق بها حكمته من وقوع الابتلاء والامتحان وتميز الفريقين، ووجود محبوبات له لا تحصل بدون ذلك، من وجود أناس يؤمنون بالغيب، ويعبدون الله عن حرية واختيار لا عن قهر واضطرار، يعرفون الله بالعقل والأخبار دون الحس والمشاهدة بالأبصار. ويجاهدون النفس والهوى وغيرها، من قوى الباطل، من شياطين

_ 1 انظر: درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية 8/477، تحقيق محمد رشاد سالم. جامعة الإمام محمد بن سعود الرياض ط-الأولى 1401هـ.

الإنس والجن، تصديقاً بالغيب، وثقة بكلام الله ووعده، بل ويقدمون أنفسهم في الدفاع عن دين الله، وذلك أسمى مراتب العبودية وأعظم محبوبات الله1. وسبب اختلاف الناس بعد أن يأتيهم العلم والبينة، هو البغي كما بيّن الله ذلك بقوله: {بَغْياً بَيْنَهُمْ} [البقرة:213] . والبغي هو: "طلب تجاوز الاقتصاد فيما يتحرى، فتارة يعتبر في القدر الذي هو الكمية، وتارة يعتبر في الوصف الذي هو الكيفية"2. "والبغي المذموم هو تجاوز الحق إلى الباطل أو تجاوزه إلى الشبه"3. فالاختلاف على هذا يكون سببه الظلم، والاعتداء، والطغيان في طلب العلم، حيث يؤدي إلى تجاوز العلم الذي أنزله الله، وتطلب الحق في غيره مما يقود إلى الاختلاف المذموم. ومن الدوافع التي تدفع بعض طلاب العلم إلى هذا التجاوز هو تنافسهم في الدنيا وحب الرئاسة وحسد بعضهم لبعض، حيث عمد بعضهم إلى تلك العلوم الغريبة عن الوحي الإلهي ليتفوقوا بها على أقرانهم،

_ 1 انظر: مدارج السالكين، لابن قيم الجوزية أبي عبد الله محمد بن أبي بكر 1/440، دار الكتب العلمية- بيروت ط: الأولى 1983م. 2 المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص55. 3 المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص55.

ويأتوا بجديد يتميزون به. ومن ذلك الاغترار بالعقل الذي كان وما يزال من أقوى الدوافع في تجاوز الوحي الإلهي إلى غيره من العلوم، التي ضررها أكثر من نفعها. فقد اغتر كثير من الناس بعقولهم، وأعطوها أكبر من قدرها، وظنوا أنهم قادرون على إدراك علم وحقيقة سائر الموجودات، المشاهدات منها والمغيبات، فحملهم ذلك مع شهوة حب الاستطلاع، وطلب المزيد إلى عدم الاكتفاء بالوحي، غير شاعرين أن الله -سبحانه- إنما علّمهم ما يكفيهم للقيام بما خُلقوا من أجله، من تحقيق العبودية والاستخلاف في الأرض، وحجب عنهم الكثير من العلوم، إما لعدم حاجتهم لها، أو لضررها عليهم، أو لعدم قدرتهم على إدراكها. ولقد انتهى بهم هذا الغرور، إلى الإعجاب بطريقة الفلاسفة، الذين اعتمدوا على عقولهم من البداية، وجردوا أنفسهم -بزعمهم- لمعرفة الكون وخالقه، والحياة والغيب، زاعمين أن العقل وحده قادر على معرفة ذلك، وشغلوا الناس قديماً وحديثاً، بوضع أسس ومقومات ومقدمات تحكم النظر العقلي وتحدد مساراته، وبنظريات وافتراضات لم يستفد منها البشر عبر تاريخهم الطويل، مصالح تذكر. بل إن الشر الذي نتج عن تلك المذاهب الفلسفية يفوق بأضعاف كثيرة، ما زعمه أهلها من مصالحها، وما أقربهم إلى الذين وصفهم الله وحذر أهل الكتاب منهم بقوله: {قُلْ يَا

أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77] . وكم يصدق عليهم قول الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:103-104] . فقد خاض بعض العلماء في تلك العلوم التي خاض فيها الفلاسفة، وراق لهم زخرف القول، واستهوتهم تلك المصطلحات والمناهج، وظنوا أنهم قادرون على الجمع بين الوحي الإلهي وبين تلك العلوم الفلسفية، وسولت لهم أنفسهم أن الوحي لا يعارض تلك العلوم العقلية، بل يجب أن يؤيدها لأن كلا من العقل والوحي من عند الله، فلا يتصور تعارضهما، وهم بذلك لم يفرقوا بين العلم الذي جاء به الوحي من عند الله، والذي يستمد كماله وصلاحه من كمال الله وشمول علمه، وبين العلم البشري الذي يتميز بالضعف والقصور والحيرة نتيجة لضعف العقل البشري الذاتي وتأثير الشهوات والغرائز والعواطف والموروثات البيئية والفكرية عليه. ونتج عن هذا الاقتحام لتلك المتاهات الفكرية، أن ضل أصحابها عن الوحي الإلهي، وحرفوا الأديان، ونقصوا منها، وزادوا فيها من التصورات والعقائد والأهواء الجاهلية.

وتنوعت المعتقدات والتصورات المنحرفة، نتيجة لاختلاف العقول والأهواء، واختلف الناس باختلافها، فيرسل الله الرسل ينذرونهم من عاقبة هذا الاختلاف والانحراف، ويبشرونهم بثواب الرجوع إلى دين الله والبقاء عليه، وعدم مجاوزته. وقد بين الله أنه يهدي المؤمنين إلى الحق الذي اختلف الناس في تعيينه بقوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:213] . فخص المهتدين بوصف المؤمنين. وهؤلاء المؤمنون الذين تكفل الله لهم بالهداية عند اختلاف الناس، هم الذين تمسكوا بما جاءت به الرسل ولم يحيدوا ولم يبدلوا، قال الربيع1 ابن أنس -رحمه الله-: "إن الله هدى المؤمنين الذين أقاموا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف، أقاموا على الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف، واعتزلوا الاختلاف، لذلك كانوا شهداء على الناس يوم القيامة" 2.

_ 1 الربيع بن أنس بن زياد البكري، عالم مرو في زمانه، توفي سنة 139هـ. سير أعلام النبلاء 6/169، وتهذيب التهذيب 3/238. 2 أورده ابن جرير في جامع البيان في تفسير القرآن 2/197.

وهذا البيان الذي ذكره الربيع بن أنس لأهم صفات المؤمنين الذين هداهم الله عند الاختلاف إلى الحق الذي لا مرية فيه، فتولاهم الله وخصهم بعنايته، جزاء موافقاً لعملهم، حيث رضوا بالله وبدينه ولم يجاوزوه إلى غيره، وهم بهذا الثبات أصبحوا شهداء على معاصريهم بوجود الحق وإمكان معرفته واعتناقه. وهذه الآية تحمل النور الساطع والدليل القاطع لمن أراد الحق وتحراه، وتثلج صدور المؤمنين الذين حققوا إيمانهم بالثبات على المنهج الأول الذي كان عليه سلف الأمة، ونفروا من المحدثات وحذروا منها، لذلك قال أبو العالية1 -رحمه الله-:"في هذه الآية مخرج من الشبهات والضلالات والفتن"2. والحق من جهة ظهوره أو خفائه، يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، ففي يعضها يكون ظاهراً يعلن به أهله ويجاهرون به، وفي بعضها يكون مستتراً مضطهداً، يصعب على الناس تعلمه والاهتداء إليه، فيبعث الله عند ذلك من رسله وأنبيائه مَن يبين للناس الحق في أمور دينهم، ويزيل عنهم تلك الظلمات، التي رانت على قلوبهم وعقولهم.

_ 1 هو الإمام المقرئ الحافظ المفسر أبو العالية، رفيع بن مهران الرياحي، أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلم في زمن أبي بكر، وثقه أبو زرعة وأبو حاتم، توفي 93هـ على الراجح. انظر: سير أعلام النبلاء /2074، وشذرات الذهب 1/102. 2 رواه ابن جرير في جامع البيان 2/339.

وفي رسالة خاتم الأنبياء والرسل صلى الله عليه وسلم، تكفّل الله بحفظ الحق في فئة من الناس لا يزالون ظاهرين حتى قيام الساعة. وعند استحكام الجاهلية في بعض الأماكن في وقت من الأوقات، أو التباس الحق بالباطل وصعوبة الاهتداء إلى الحق، يبقى تحقيق وصف الإيمان هو سبب الهداية بإذن الله ويكون -والحالة هذه- بالتجرد لطلب الحق وإسلام الوجه لله، وسلوك طريق العلم الصحيح، والالتجاء إلى الله والاستعانة به وسؤاله الهداية للحق، فإن من فعل ذلك، وعلم الله من قلبه الصدق، فإنه سبحانه يهديه للحق كما دل على ذلك عموم قوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] . وقوله: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس:9] . وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282] . ولقوله صلى الله عليه وسلم في دعائه إذا قام من الليل: " اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " 1.

_ 1 رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، ح (200) 1/534.

وإذا كان البغي والغرور، وعدم الاكتفاء بالوحي الإلهي، والتطلع إلى ما وراء الوحي من العلوم، أهم دافع لاختلاف الناس بعد مجيء البينة والعلم، إلا أنه ليس بالدافع الوحيد لاختلافهم. فهناك فئات من الناس لها طبائع شيطانية، قد انتكست فطرها وقست قلوبها، لا يحبون الخير بل يعادونه، قد زاغوا فأزاغ الله قلوبهم، وختم الله على سمعهم وأبصارهم، كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] . وقال: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:7] . هذا النوع من الناس هم الذين قال الله فيهم: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف:146] . فليس لهم هَم إلا الانغماس في الشهوات، والإفساد في الأرض، لا ينتفعون بعلم ولا هدى، فهم كالكلب الذي لا ينتفع بالراحة فيترك اللهث وإنما هو ملازم للهث، سواء تعب أو ارتاح، كما بين الله حال

بعضهم بقوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:175، 176] . فهم بدافع طبائعهم الفاسدة، ومن أجل تحقيق شهواتهم ومصالحهم، يعادون الحق من أول يوم، ويسلكون كل سبيل لمحاربته، ومن ذلك استغلالهم للخلاف الذي يقع من أتباع الحق، فيروجون لتلك الاختلافات، وينشرونها بقصد نشر البلبلة وتوسيع الخلاف. وهناك طائفة ثالثة جمعت بين الداءين، داء الاختلاف بعد البينة، وداء الطبائع الشريرة، والأغراض الدنيوية الفاسدة، أولئك هم اليهود الذي جاءهم الهدى والنور، فلم يلتزموا به، ولم يحافظوا عليه، بل زادوا فيه ونقصوا، وحرفوا وبدلوا، ولبسوا الحق بالباطل، وكتموا الحق، ثم ازداد أمرهم سوءاً وضلالاً، عندما زعموا أن الله إله اليهود وحدهم، وكرهوا أن تنزل الهداية والوحي على غيرهم قال الله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة:105] .

وقال: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة:90] . قلما اصطدمت أطماعهم الشريرة الباغية، بمشيئة الله وقضائه المحكم، ونزل النور والرحمة على غيرهم، شرقوا بغيظهم، وأحرق الحسد قلوبهم، وعزموا بغرورهم أن يقاوموا إرادة الله القوي العزيز، وانضمّوا إلى جند الشيطان، وبذلوا أقصى ما يستطيعون {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32] . {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109] . فقتلوا في ذلك الأنبياء، واضطهدوا أتباعهم، وتصدوا للرسالة الخاتمة بكل ما أوتوا من قوة، وسلكوا في سبيل الإفساد في الأرض كل الوسائل. وطائفة ضالة أخرى بَعُد بها العهد عن مشكاة النبوة والنور الإلهي، فخضعت للأوهام والخرافات، والعادات والتقاليد، وجعلت منها ديناً ألفته وتربّت عليه، وربت أجيالها، حتى صعب عليها فراقه، وخالفت الحق وناصبته العداء، محافظة على ميراثها وسِمَةِ أجدادها، وقد أشار الله

إلى هذا النوع بقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة:170] . وانتشرت هذه الطوائف المخالفة للحق، وتوزعت في أرجاء المعمورة، وأصبح لكل منها أتباع وأنصار، يتعصبون لها، ويدافعون عنها بدافع من الانتماء الفكري، أو العرقي أو المكاني. وبعد أن كان الناس في بداية عهدهم أمة واحدة، اجتالتهم الشياطين وهوى الأنفس، والبغي والوهم، حتى أصبحوا فرقاً مختلفة، تتخبط في ظلمات الجهل والضلال {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} [الأنعام:115] . حيث قال: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118، 119] وسيبقى هذا شأنهم إلى يوم القيامة، أمم تائهة ضالة، وطائفة على الحق ظاهرين. ونتيجة لوجود هذه الطوائف الضالة بين الناس من جهة، ووجود أهل الحق والنور الإلهي من جهة أخرى، وجد الصراع بين قوى الحق والباطل، سنة جارية أرادها الله إرادة كونية، فكان الناس كما اقتضت حكمته مختلفين.

وقد بين الله تعالى أن الاختلاف هو الدافع للصراع بقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقر:253] . ومن يستعرض واقع مسيرة البشر من آدم عليه السلام، وإلى اليوم يجد نماذج واضحة تؤكد هذه الحقيقة، حقيقة ملازمة الاختلاف والصراع بين الحق والباطل للناس إلى يوم القيامة. وقصص الأنبياء والمرسلين -عليهم السلام- مليئة بالشواهد على ذلك، كذلك قصص العلماء العاملين، والقادة المجاهدين، والدعاة والمصلحين. وقد دل الدليل الشرعي، والدليل الواقعي على أنه كلما ازداد البيان والإيضاح ازداد الخلاف والتفرق والصراع، فهذه الرسالة الخاتمة جاءت ببيان واضح مفصّل تفصيلاً دقيقاً شاملاً لجميع نواحي الحياة. قال الله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [الإسراء:12] . وظل الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة وعشرين عاماً يبين للناس الدين عقائده وشرائعه، على تؤدة وروية يبين لهم ما نزل إليهم من ربهم: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} [الإسراء:106] .

حتى بلغ البلاغ المبين، وترك الناس على المحجة البيضاء ليلها كنهارها. وشربت نفوس الصحابة -رضوان الله عليهم- ذلك العلم، فعملوا به وعلّموه لمن بعدهم. وظل هذا العلم والنور الإلهي ينقله من كل عصر عدوله، وبقي ظاهراً جلياً سليماً في جماعة من الناس محفوظاً بحفظ الله إلى أن يأتي أمر الله. ورغم هذا البيان الواضح والحفظ للرسالة، سرت في الأمة الإسلامية سنة الله الجارية، وقضاؤه النافذ بوقوع الاختلاف بعد العلم والبينة، بسبب بغي الناس وتعديهم، وبفعل الطبائع الشريرة الحاقدة المعادية للخير. فكان الخلاف في هذه الأمة أوسع منه فيمن قبلها، كما كان البيان فيها أوضح، وقد وردت الإشارة لذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: " ألا إن مَن قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين: ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة " 1.

_ 1 رواه الإمام أحمد، المسند 4/102، مسند معاوية بن أبي سفيان. ورواه أبو داود - واللفظ له -،كتاب السنة، باب شرح السنة ط الحلبي 2/503. وأخرجه الحاكم وقال: "هذه أسانيد تقام بها الحجة في تصحيح هذا الحديث" ووافقه الذهبي. المستدرك 1/128. وقال الألباني: "فقد تبين بوضوح ان الحديث ثابت لا شك فيه، ولهذا تتابع العلماء خلفاً عن سلف على الاحتجاج به" السلسلة الصحيحة ج1 ح (204) .

ففي هذا الحديث دليل على أن الخلاف داء متأصل في الأمم التي جاءها الكتاب، وأن هذا الداء سينتقل إلى هذه الأمة، وأنها ستتشبه بالأمم الضالة اليهودية والنصرانية والفارسية. قال صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، فقيل يا رسول الله: كفارس والروم؟ فقال: ومن الناس إلا أولئك " 1. وقال عليه الصلاة والسلام: " لتتبعنّ سنن من كان قبلكم، شبراً شبراً، وذراعاً ذراعاً حتى لو دخلوا حجر ضب تبعتموه، قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ "2. والتشبه بهذه الأمم عام في كل شيء فيشمل الاختلاف والتفرق في الدين، وقد نبه الله على هذه الناحية من التشبه بقوله: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ

_ 1 رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب لتتبعن سنن من كان قبلكم ح (7319) 13/300. 2 متفق عليه. البخاري -واللفط له- وتفاصيله كسابقه ح (7320) . ومسلم، كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى ح (2669) 4/2054.

كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [التوبة:69] . فقد أخبر الله سبحانه أن من هذه الأمة من سوف يتشبه بالأمم السابقة في الاستمتاع بالشهوات، والخوض بالشبهات، فإذا كان وقع هذا من بعض الأمم المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم، فوقوعه ممن بعدهم من باب أولى-فهو أخبر عن أمر دائم مستمر، فيكون كل من حصل منه الاستمتاع والخوض إلى يوم القيامة مخاطباً بذلك1. وقد حذر الله من التشبه بالأقدمين في الاختلاف والتفرق بقوله: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105] . فأخبر سبحانه أنه سيكون في المسلمين مضاهاة لليهود والنصارى والفرس، وليس هذا إخباراً عن جميع الأمة، بل قد تواتر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يزال ناس من أمتي ظاهرين، حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون "،2

_ 1 انظر: اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية تحقيق ناصر بن عبد الكريم العقل 1/105 ط الأولى 1404هـ. 2 رواه البخاري، كتاب المناقب، باب 28 الصحيح مع الفتح 6/632.

وهذه الطائفة هي الجماعة، وهي التي ضمن لها الرسول صلى الله عليه وسلم الجنة في حديث معاوية المتقدم: " ... وواحدة في الجنة، وهي الجماعة " 1. هذه الطائفة هي التي بقيت على الأمر الأول، واستمسكت بالكتاب والسنة وجانبت البدع والمحدثات، وهي التي يهديها الله إلى الحق بإذنه ويثبتها عليه. وقد فسر كثير من السلف الطائفة المنصورة الظاهرة الباقية على الحق إلى أن يأتي أمر الله بأنهم: أصحاب الحديث منهم علي بن المديني2، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وأحمد بن حنبل، وعبد الله بن المبارك3.. وغيرهم4.

_ 1 تقدم تخريجه ص (93) . 2 الإمام الحافظ على بن عبد الله بن جعفر البصري المعروف بابن المديني، إمام أهل زمانه في معرفة الحديث والعلل توفي سنة 234هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 11/41، وشذرات الذهب 2/81. 3 الإمام الحافظ عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي، صاحب كتاب الزهد، توفي سنة 181هـ. سير أعلام النبلاء 8/387، وتهذيب التهذيب 5/382. 4 شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي، تحقيق د، محمد سعيد خطيب ص26، 27 دار إحياء السنة النبوية، أنقره، ط الأولى 1971م.

وأهم صفة لهم أنهم تمسكوا بما كان عليه السلف الصالح في العقيدة والشريعة، مستمدين دينهم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قائمين بالدعوة إلى ذلك، قد فارقوا البدع والمحدثات وحذروا منها. قال الخطيب البغدادي1 مبيناً شرف أصحاب الحديث وثباتهم على الحق:"فقد جعل الله الطائفة المنصورة حراس الدين، وصرف عنهم كيد المعاندين لتمسكهم بالشرع المتين، واقتفائهم آثار الصحابة والتابعين، فشأنهم حفظ الآثار، وقطع المفاوز والقفار، وركوب البراري والبحار في اقتباس ما شرع الرسول المصطفى لا يعوجون عنه إلى رأي ولا هوى، قبلوا شريعته قولاً وفعلاً، وحرسوا سنته حفظاً ونقلاً، حتى أثبتوا بذلك أصلها وكانوا أحق بها وأهلها، وكم من ملحد يروم أن يخلط بالشريعة ما ليس منها، والله تعالى يذب بأصحاب الحديث عنها، فهم الحفاظ لأركانها والقوامون بأمرها وشأنها إذا صدف الناس عن الدفاع عنها، فهم دونها يناضلون.. أولئك حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون" 2. فالفرقة الناجية هم أهل الحديث أتباع السلف الذين سلكوا منهجهم، باستمداد العلوم من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولم

_ 1 الخطيب البغدادي أحمد بن علي بن ثابت البغدادي صاحب تاريخ بغداد وغيره، توفي سنة 263هـ انظر: وفيات الأعيان 1/92، وسير أعلام النبلاء 18/270. 2 شرف أصحاب الحديث، للخطيب البغدادي ص10.

يقدموا بين يدي ذلك بدعة ولا هوى، ولا رأياً ولا كشفاً، ولا وجداً ولا غيره. وهذه الفرقة باقية فيمن سار على نهجهم إلى يوم القيامة. ونتيجة لهذا الخلاف الشديد الذي وقع داخل الأمة الإسلامية، ولذلك الخلاف العنيف القديم الذي حصل من الأمم الأخرى التي رفضت الإسلام وناصبته العداء من أول يوم، كان الصراع عنيفاً شديداً بين دعاة الحق ودعاة الباطل في تاريخ الأمة الإسلامية، ساعد على قوته وشدته على أهل الحق وجود طوائف المنافقين والذميين، بين صفوف المسلمين والذين يساعدون على اتساع الخلاف الداخلي، ويعينون العدو الخارجي، ويمهدون لمخططاتهم الهدامة داخل جسد الأمة الإسلامية. وقد جرت سنة الله تعالى أن يكون اللقاء الأول بين دعاة الحق، ودعاة الباطل صراعاً فكرياً يبدأ بالمحاجة والمجادلة، يقدم كل من الفريقين دليله على دعواه. وهذا النوع من الصراع مشروع لكل أحد، فكل إنسان من حقه أن يظهر وجهة نظره التي يعتقد أنها الحق، ولكن مع التزامه بشرطين أساسيين: أحدهما: أن يكون طالباً للحق. ثانيهما: أن يجادل بالحق، وذلك أن يقدم أدلة صحيحة معقولة، ويقبلها إذا قُدمت إليه، فإذا توفر هذان الشرطان كانت المجادلة مشروعة،

ودائماَ تكون النتيجة ظهور الحق على أيدي دعاته وتفوق حجتهم، أما بالنسبة لأهل الباطل ففي كثير من الأحيان يهتدي طالب الحق، ويتبين له الرشد من الضلال، وفي أحيان كثيرة أخرى يتحول الأمر إلى صراع فكري آخر، قائم على المكر والكيد ومكابرة الحق من قبل أهل الضلال، ومحاربته والصد عنه عن طريق نشر الأفكار الهدامة من الأكاذيب على تعاليم الدعوة وعلى صاحبها وأتباعها تشويهاً للحقائق، ومجادلة بالباطل، ومن ذلك نشر الشبهات، وتزيين الفواحش والدعوة إليها، والاستهزاء بالدعاة وأتباعهم وتحقيرهم بالفعل والقول. ويختلف رد فعل جماعة المؤمنين على هذه الأعمال العدوانية والحرب الفكرية الخبيثة، حسب حال الجماعة من جهة القوة والضعف، فتارة يكون بالصبر والاحتساب وانتظار فرج من الله، كما قال تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة:109] . وتارة يكون الرد بالمعاقبة بالمثل كما قال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل:126] وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بالذين حاربوا الدعوة بافتراء الكذب، وهجاء المسلمين من اليهود والشعراء الكفار والقينات وغيرهم، حيث أجلى بعضهم، وأهدر دم بعض.

وقد بين حسان بن ثابت1 -رضي الله عنه- بلاء الأنصار في الدعوة المحمدية، وأنهم ردوا على طوائف الضالين بأساليبهم بقوله: لنا في كل يوم من معد ... سباب أو قتال أو هجاء فنحكم بالقوافي من هجانا ... ونضرب حين تختلط الدماء2 وهذا الصراع أحياناً ينتهي بعذاب من الله ينزل على الكافرين المعاندين، كما حصل لقوم نوح، ولوط، وهود، ولفرعون.. وغيرهم. وتارة يتحول إلى صراع مسلح حيث يكلّف الله الزمرة المؤمنة بجهاد الكفار وقتالهم بعدما يهيّئ لهم أسباب ذلك. ومن هذا العرض الموجز تبين أن الصراع بين الحق والباطل يأخذ أشكالاً متعددة أهمها ما يلي: 1- الصراع الفكري القائم على المحاجة والجدال. 2- الصراع الفكري القائم على المكر، والكيد ونشر الأفكار الهدامة، من قبل قوى الضلال. 3- الصراع المسلح.

_ 1 الصحابي الجليل حسان بن ثابت بن المنذر الخزرجي الأنصاري شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم قال له الرسول صلى الله عليه وسلم:" أهجهم وهاجهم وجبريل معك"، توفي سنة 54هـ. سير أعلام النبلاء 2/512، وتهذيب التهذيب 2/247. 2 ديوان حسان بن ثابت الأنصاري ص9، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت ط الأولى 1398هـ.

وقد بين الله سبحانه في كتابه الكريم وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم هذه الأنواع الثلاثة من الصراع، وبين موقف المؤمنين تجاه كل نوع منها، وبين علماء الأمة في كتب التاريخ والتفسير والعقائد والفرق ... ما لاقته الأمة الإسلامية من الصراع المرير والحرب المسعورة من أنصار الباطل بجميع الوسائل، وفي مختلف العصور، كما بينوا في كتب الحديث والأحكام المعاملات ما ينبغي للمسلم عمله في مجابهة هذه التحديات. والصراع الفكري -القائم على المكر، والكيد والتآمر في الخفاء ونشر الأفكار الهدامة- هو أشد تلك الأنواع خطراً وأعظمها فتكاً، لملازمته للدعوة الإسلامية من بدايتها، إذ لم ينفك عنها يوماً من الأيام، ولازدياد خطره وعظم ضرره على مر الأيام، ولتطور أساليبه، واعتماده على النفاق والسرية والخبث، والتهرب من المسئولية والتظاهر بخدمة الإسلام والتمسك به مع التخطيط لمحاربته. وسوف أخصص المطلبين القادمين للكلام على هذا النوع في المكر، والله والمستعان.

المطلب الثاني: الصراع الفكري بين الحق والباطل في عصور الإسلام المتقدمة لقد كان العالم قبل الإسلام يموج بتيارات فكرية مختلفة اختلافاً شديداً، وكانت تلك الأفكار الضالة السائدة، وذلك الاختلاف القائم على أساسها، أهم أسباب تصارع البشرية وضلالها وشقائها. قال سيد قطب1 -رحمه الله-:" جاء الإسلام وفي العالم ركام هائل

_ 1 الكاتب المفكر الأديب، سيد قطب، ولد عام 1906م، في إحدى قرى محافظة أسيوط بمصر، عاش حياة قلقة مضطربة، وتنقل في المدارس الأدبية، ثم استقر به المطاف على التأليف والدراسات الإسلامية بمنظور فكري أدبي. من مؤلفاته: في ظلال القرآن، وخصائص التصور الإسلامي، ومعالم في الطريق.. وغيرها. وقد تضمنت تلك الدراسات بعض البحوث الجيدة في مجال التصوير الأدبي، ونقد الحضارة الغربية المادية، والفكرة الشيوعية، والنظم المالية. وقد نقلت قطوفاً منها في هذا الكتاب. كما وقع -بسبب ضعف حصيلته العلمية، وجهله بمنهج السلف الصالح في العقيدة والحديث والأصول، واعتماده على المنهج الفكري الأدبي في فهم القرآن ومسائل الدين- في أخطاء كثيرة. قال الدكتور يوسف القرضاوي، عن سيد قطب وأخطائه:"ولكن المسألة هنا تتعلق باتجاهات، وهذا اتجاه ... وهذا الاتجاه يجب أن يُقوَّم، ولا نستطيع أن نهمش إلا إذا كانت المسألة جزئية، وإنما هو صاحب أفكار متسلسلة مرتبط بعضها ببعض، الأمة الإسلامية انقطعت من الوجود، وهو له رأيه المتطرف في مسألة بني أمية وعثمان، وغيره. ورد عليه الأستاذ محمود شاكر من قديم في مسألة الصحابة، ولا تسبوا أصحابي، ورأيه في المجتمع الإسلامي على طوال التاريخ [حيث يرى أنه انقطع من عهد الخلفاء الراشدين] ، ورأيه في المجتمع الحالي، وأنه لا يوجد على وجه الأرض مجتمع مسلم قط، في أي بلد من البلاد، حتى المجتمع الذي يعلن ارتباطه بالإسلام، ويقول: إن المجتمع جاهلي، وهذا في الظلال في عشرات المواضع. ودعونا نتكلم بصراحة: إن من حق الأجيال المسلمة أن تعرف هذا الأمر على حقيقته، ولقد كنت لا أعرف هذا! ... ولقد اضطررت أن أرد على هذا الكلام، وذلك من سنين طويلة ... إن سيد قطب قدم الكثير للفكر الإسلامي ... ولهذا: فمن الإنصاف لسيد قطب، ومن الإنصاف للفكر الإسلامي، ومن الإنصاف للحركة الإسلامية، ومن الإنصاف للمسلمين، ومن الإنصاف للإسلام نفسه أن نُقوّم فكر سيد الآن ... يمكننا أن نراجع تفكيره، وإنتاجه، ونقومه بميزان الكتاب والسنة، وبميزان الأصول عندنا، ونسأل الله أن يغفر له ويرحمه". كما دعا إلى تقويم فكر وكتب سيد قطب كل من: محمد سعيد البوطي، وجعفر شيخ إدريس، وغيرهم. انظر: ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر، البحرين، من ص547 إلى560، وأول من استجاب للدعوات التي تنادي بتقويم فكره وبيان أخطائه الشيخ عبد الله ابن محمد الدويش -رحمه الله- في كتابه: "المورد الزلال في التنبيه على أخطاء الظلال" ثم تلاه الشيخ د. ربيع بن هادي المدخلي في كتابه: "أضواء إسلامية على عقيدة سيد قطب وفكره" وكتابه:"مطاعن سيد قطب في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم". قتل سيد قطب رحمه الله سنة 1966م الموافق 1386هـ. انظر: سيد قطب، حياته وأدبه، لعبد الباقي محمد حسين. وندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر ص531-565.

من العقائد والتصورات، والفلسفات، والأساطير، والأفكار والأوهام، والشعائر والتقاليد، والأوضاع والأحوال ... يختلط فيها الحق بالباطل، والصحيح بالزائف، والدين بالخرافة، والفلسفة بالأسطورة ... والضمير البشري -تحت هذا الركام الهائل- يتخبط في ظلمات وظنون، لا يستقر منها على يقين، والحياة الإنسانية -بتأثير هذا الركام الهائل- تتخبط في فساد وانحلال، وظلم وذل، وفي شقاء وتعاسة، لا تليق بالإنسان، بل لا تليق بقطيع من الحيوان"1. لقد كان الإنسان -بعقله القاصر وعلمه المحدود- الينبوع لهذه الأفكار الضالة المتخبطة، فلم يكن -باستثناء أتباع الرسل- يستند إلى أصل ثابت ومنطلقات محددة صحيحة، تحكم سيره وتحدد هدفه. فقد كان للوهم والخرافة، والظن، وتأثير الشهوات والانفعالات

_ 1 خصائص التصور الإسلامي، سيد قطب، ص22، دار الشروق، القاهرة ط العاشرة، 1408هـ.

على العقول، وما توسوس به شياطين الجن في صدور الناس من زخرف القول ... تأثير في ابتكار ونمو تلك الأفكار الضالة التي سيطرت على عقول الناس قديماً وحديثاً. ومما لا شك فيه أن الجاهلية تكون في مكان أشد منها في مكان آخر، تبعاً لوجود العوامل التي تساعد على تركيزها في عقول الناس. ولعل أخف الجاهليات هي جاهلية العرب قبل الإسلام، وذلك أنه لم تكن قائمة على تلبيسات منطقية، وزخارف فلسفية، ولم تكن قد توغلت فيهم عقائد التناسخ والحلول، فقد كانت عقائدهم وهماً وخرافات، وعادات منها الطيب والخبيث، قلدوا فيها الآباء دون أن يعملوا فيها العقول، وألفوها حتى أصبحت ديناً لازماً لهم. فكانوا مع جاهليتهم أقرب إلى الفطرة، وأخف من غيرهم جاهلية، فكان ذلك -والله أعلم- مع فصاحتهم وسلامة فهمهم لمدلولات الكلام، وإقرارهم بربوبية الله وتعظيمهم له، من حكمة اختيار الله لهم لحمل الرسالة الخاتمة {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] . أما المجتمعات التي تمركزت فيها الحضارات القديمة، ووجد فيها الفلاسفة والنظارة، فإن جاهليتها أوسع وأعمق، ذلك أن الفلاسفة صاغوا العقائد الجاهلية صياغة تقربها من العقول، وزخرفوها، ونسجوا الأدلة والمبررات والأساطير الوهمية حولها، مما زاد من استحكامها في عقول الناس، وأصبحت مع مرور الأيام أدياناً مقدسة، وتوسعت نتيجة اختلاف

أولئك النظارة وتعدد مذاهبهم. فظهرت المدارس الإغريقية في بلاد اليونان، وتنوعت الأديان الهندية والفارسية والصينية والمصرية، وأثرت هذه الوثنيات في الديانتين السماويتين اليهودية والنصرانية، كما أن كثيراً من عقائدهما انتقلت إلى الأديان الوثنية، والفلسفات العقلية نتيجة لاحتكاك البشر عبر الهجرات والتجارة وغيرها. هذا حال العالم عندما بُعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة في أعلى مراتب النقاء والصفاء والوضوح، فيها البيان الشافي لكل ما يحتاجه البشر لتحقيق وظيفتهم على الأرض، من الاستخلاف فيها، وتحقيق العبودية لله، وتحصيل أسباب السعادة في الدارين. فقد تميزت الرسالة الخاتمة بالشمول لجميع متطلبات البشر، والعموم لجميع أجناسهم في كل مكان وزمان، فهي تحمل التعريف الصحيح بالله وحقه والكون والحياة، وعن مبدأ الإنسان ودوره في الحياة، ومصيره بعد الممات. كما تضمنت النظام الكامل السديد لعلاقة البشر مع خالقهم ومع بعضهم البعض {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:15، 16] .

فهذه الشمولية تجلي للفرد والمجتمع التوازن والانسجام في الفكر والنفس والعمل، الذي هو أهم مقومات الحياة السعيدة المثمرة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24] . فكانت الرسالة المحمدية رحمة من الله للناس لتخليصهم من تلك الجاهليات التي جثمت على قلوبهم، ولوثت أفكارهم دهراً طويلاً. لقد عاش الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة النبوية يؤسس للمجتمع المسلم، ويقيم جميع شئونه على منهج الله، ولم ينتقل صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه إلا وقد تحول الإسلام بكل ما فيه من عقائد وتعاليم وأخلاق إلى واقع حي، تظهر مظاهره وثماره في الأفكار والقلوب والسلوك. وبعده صلى الله عليه وسلم رسّخ الخلفاء الراشدون هذا الواقع، ووسعوا دائرته بالفتوحات الإسلامية، سعياً لتخليص البشر من الجاهليات، وما نتج عنها من ظلم وشقاء، وما هي إلى سنوات قليلة، حتى خلص المسلمون كثيراًَ من شعوب الأرض من الحكومات والجيوش التي كانت تحول بينهم وبين نور الإيمان، فدخل كثير من الناس في دين الله أفواجاً، وحل الأمن والعدل مكان الخوف والظلم والطغيان، وظهرت آثار تلك العقائد السامية الصافية، والتعاليم السديدة الرشيدة، صفاء في العقول، وسلامة في التفكير، وطمأنينة في القلوب، وصلاحاً في السلوك والأعمال، ونتج عن ذلك أعظم وأسمى حضارة عرفتها البشرية.

إلا أن الانتصار السريع في المجال العسكري لم يكن نهائياً، فقد كانت الجاهلية تخطط لجولة ثانية من الحرب، اتخذت من الفكر ميداناً لها، بعد أن أدرك قادتها قوة تأثر الأفكار على السلوك، وأن الحرب الفكرية هي السبيل الوحيد المتاح لهم في ذلك الوقت لمقاومة الإسلام. وسبب ذلك أن مواقف الناس في الشعوب التي دخلت في الإسلام، لم يكن واحداً، فمنهم من استبشر بهذا الدين، وانشرح صدره له، ومنهم من أذعن للوضع القائم دون أن يتفهم ويتحمس له، ومنهم من أخذ موقفاً معادياً وأخذ يعمل ضده. وأصحاب هذا الموقف الأخير هم عادة الملأ من أبناء الملوك والأمراء، وقادة الجيوش وأصحاب الجاه، ورجال الدين الذين سلبت منهم المناصب والمصالح الدنيوية فشرقوا بغيظهم، وزاد من غيظهم زوال ملكهم على أيدي العرب المسلمين الفاتحين، واقتسامهم لأموالهم ومزارعهم ونسائهم، وعزّ عليهم كثيراً هزيمة دينهم الذي ألفوه دهراً طويلاً. قال محمد محيي الدين عبد الحميد: "وقد دخل في الإسلام قوم خلصت قلوبهم من أدران التقليد والعصبية، وصفت نفوسهم لما يدعوهم إليه رسول الإيمان، واطمأنت خوالجهم إلى أمانة هذا الرسول الكريم وصدقِه فعضوا على ما دعاهم إليه بالنواجذ، واستمسكوا منه بالعروة الوثقى لا انفصام لها ...

ودخل في الإسلام -بجانب هؤلاء- أصناف من الناس أولهم جماعة من العرب شاقهم إلى الإسلام -حين جاء فتح الله والنصر- دخول قومهم فيه، فدخلوه تقليداً وانسياقاً مع الجمهور، ولم تكتحل أعينهم برؤية صاحب الرسالة، ولا انشرحت صدورهم بسماع تعاليمه منه، ولا صفت قلوبهم من آثار جاهليتهم، ولا نظفت من أدرانها، فكان سواء لديهم انتصرت الدعوة الإسلامية أم لم تنتصر. وثانيهم جماعة من عامة أهل الأديان الأخرى -على الأخص اليهودية والمجوسية- دخلوا في هذا الدين أيام الفتوح التي أخضعت الدولتين الكبيرتين اليونانية والفارسية، فراراً من حكم الإسلام على من يبقى على دينه منهم1، ولم تخالط بشاشة هذا الدين قلوبهم ... ولا استأصلت من أنفسهم أعلاق الحنين إلى دينهم القديم ... وثالثهم جماعة من دهاة الأديان الأخرى ذوو الخبث والمكر منهم-وعلى الأخص اليهودية والمجوسية أيضاً- تظاهروا بالدخول في الدين الجديد، وهم يضمرون في أنفسهم الكيد والمكر والخديعة، ويتحينون الفرصة للانقضاض على هذا الدين الذي بسط سلطانه على رقعة الأرض المعروفة يوم ذاك، ويعملون في الخفاء لإيجاد هذه الفرصة إن لم تواتهم من تلقاء نفسها، ويهيئون أذهان الطائفتين السابقتين وقلوبهم وجهودهم،

_ 1 أي فراراً من الجزية التي يدفعها الذمي أو المجوسي للدولة المسلمة.

للقيام معهم فيما يعتزمون القيام به ... فيلبسون للناس مسوح1 الصلاح تارة، ومسوح الحرص على تعاليم الدين تارة أخرى، ثم يلبسون لهم مسوح محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وآل بيته الطاهرين ... فينفث هؤلاء سمومهم، فيؤولون تعاليم الشريعة، ويدخلون فيها ما ليس منها، ويضعون على الرسول أحاديث تؤيد دعواهم، ويطالبون الأغرار -وهم الطائفتان الأولى والثانية- بالقيام لنصرة الدين، أو لنصرة آل الرسول الذي جاء بهذا الدين، هذا فيما نعتقد هو الأصل الأصيل في الفُرقة التي حدثت في الإسلام، وهو غض طري، لم يكتمل عليه قرن واحد" 2. فشن الحاقدون على الإسلام حرباً عليه من داخله، تستهدف الأصل الذي به ظهر وعز أهله، ألا وهو الإيمان بالله والالتزام بتعاليم الإسلام. ولم تكن هذه الحرب حرباً عشوائية، بل منظمة مدروسة، خطط لها

_ 1 المسوح: نوع من الكساء المصنوع من الشعر. لسان العرب 2/596. والمراد أنهم يتصنعون ويظهرون للناس الحرص على الدين والنصيحة لأهله، وهم ليسوا كذلك، كالذي يتزيا بزي الصالحين، ويظهر بمظهرهم وهو ليس منهم، ويأتون لكل أناس بالحال التي تناسبهم. 2 كتاب الفرق بين الفرق، لعبد القاهر البغدادي، مقدمة المحقق محمد محي الدين عبد الحميد ص4، 5.

المفسدون من أبناء الفرس واليهود في اجتماعات ومشاورات عقدوها لهذا الشأن، تمخضت عن تنظيم مكر كان له أثر بالغ في تفريق المسلمين وإضلال كثير منهم عن دينه. كشف خبر هذا الكيد ابن حزم1 في كتابه الفصل في الملل والأهواء والنحل، حيث قال: "والأصل في أكثر خروج هذه الطوائف عن ديانة الإسلام، أن الفرس كانوا من سعة الملك وعلو اليد على جميع الأمم وجلالة الخطر في أنفسهم، حتى أنهم كانوا يسمون الأحرار والأبناء، وكانوا يعدون سائر الناس عبيداً لهم، فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب، وكانت العرب أقل الأمم عند الفرس خطراً، تعاظمهم الأمر، وتضاعفت لديهم المصيبة، وراموا كيد الإسلام بالمحاربة في أوقات شتى.. فرأوا أن كيده على الحيلة أنجع، فأظهر قوم منهم الإسلام واستمالوا أهل التشيع

_ 1 أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، الإمام الظاهري، ولد بقرطبة سنة 384هـ، عالم الأندلس في عصره له من المؤلفات: المحلى، والإحكام لأصول الأحكام، والفصل في الملل والأهواء والنحل، وغيرها كثير، توفي سنة 456هـ. انظر: وفيات الأعيان 3/13 ومقدمة كتابه الفصل في الملل والأهواء والنحل 1/ 4 وما بعده.

بإظهار محبة أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستشناع ظلم علي رضي الله عنه1، ثم سلكوا بهم مسالك شتى حتى أخرجوهم عن الإسلام". ثم قال:"وقد سلك هذا المسلك أيضاً عبد الله بن سبإ الحميري2 اليهودي، فإنه لعنه الله أظهر الإسلام ليكيد لأهله" 3. "فابن حزم -رحمه الله- يوضح لنا أن المجوس اجتمعوا لمحاربة الإسلام وأهله، بأسلوب الخداع والمكر، حين عجزوا عن مواجهته علناً فأظهروا الإسلام للكيد وأظهروا للناس محبة أهل البيت لما يعلمون من تقدير المسلمين لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم"4.

_ 1 الخليفة الراشد والصحابي الجليل أول من أسلم من الفتيان، أبو الحسن علي بن أبي طالب الهاشمي القرشي، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته فاطمة، وأحد العشرة المبشرين بالجنة استشهد سنة 40هـ. انظر: البداية والنهاية 7/233 وتهذيب التهذيب 7/334. 2 عبد الله بن سبإ يقال له ابن السوداء، كان يهودياً ثم أظهر الإسلام نفاقاً، وصار مع علي بن أبي طالب، وأظهر الغلو فيه، فهمّ أن يحرقه، ثم نفاه إلى المدائن، وله أتباع يقال لهم السبئية من غلاة الروافض، يعتقدون الهية علي رضي الله عنه، ويقال أن علياً حرقهم في خلافته. انظر: لسان الميزان 3/289، والأعلام 4/88. 3 الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 2/273، 274. 4 د. علي ناصر فقيهي، كتاب الإمامة، والرد على الرافضة لأبي نعيم الأصفهاني، مقدمة المحقق، ص14، مكتبة العلوم والحكم المدينة المنورة ط الأولى 1407هـ.

وقد اختاروا بعد تأمل ودراسة لأحوال المسلمين أهل التشيع، وذلك لوجود ثغرتين خطيرتين فيهم مكّنتا المفسدين من التلاعب بهم، وبث ما يريدون من الفكر الهدام. الثغرة الأولى: عدم التزامهم بمنهج أهل الحديث القائم على تلقي العلم والحديث بالسند المتصل عن الثقات، فقد كانوا يأخذون قول كل من أعجبهم قوله، وأثار عواطفهم نحو أهل البيت، وتباكى على ما حصل عليهم من الظلم بزعمهم. الثغرة الثانية: عدم عرض أقوال الرجال على ميزان الشرع، وإنما الحق عندهم يعرف بالرجال، فمن ارتضوا ما ظهر من حاله، وأعجبوا بقوله قبلوا منه، وجعلوه حجة، فسهل على أهل الكيد والمكر التلاعب بهم وخداعهم. كما أن هذين المبدأين -وهما: تلقي العلم بالسند المتصل عن الثقات، وعرض أقوال الناس مهما كانوا على ميزان الكتاب والسنة-كانا بعد توفيق الله السبب الأهم في حفظ الله أهل الحديث على الصراط المستقيم، وتحصينهم من الأفكار المضللة. قال شيخ الإسلام -رحمه الله- مبيناً حال هؤلاء وتلاعب المفسدين بهم حتى أصبحوا مأوى لكل فكر هدام، وغرض خبيث: "وهم من أكذب الناس في النقليات، ومن أجهل الناس في العقليات، يصدقون المنقول بما يعلم العلماء بالاضطرار أنه من الأباطيل، ويكذبون بالمعلوم من

الاضطرار المتواتر أعظم تواتر في الأمة جيلاً بعد جيل، ولا يميزون في نقلة العلم ورواة الأخبار بين المعروف بالكذب، أو الغلط، أو الجهل بما ينقل، وبين العدل الحافظ الضابط المعروف بالعلم والآثار، وعمدتهم في نفس الأمر على التقليد وإن ظنوا إقامته بالبرهانيات، فتارة يتبعون المعتزلة والقدرية1، وتارة يتبعون المجسمة2 والجبرية3، وهم من أجهل هذه الطوائف بالنظريات، ولهذا كانوا عند عامة أهل العلم والدين من أجهل الطوائف الداخلين في المسلمين، ومنهم من أدخل على الدين من الفساد

_ 1 هم أتباع واصل بن عطاء الذي ابتدع القول بأن مرتكب الكبيرة من المسلمين في منزلة بين المنزلتين، واعتزل على ذلك مجلس الحسن البصري، فسموا المعتزلة لذلك، واستقر أمرهم على أصول خمسة مشهورة هي: العدل، التوحيد، المنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والوعد والعيد، وهم يجمعون بين نفي الصفات ونفي القدر. ولهم ضلالات أخرى، وسموا بالقدرية لنفيهم القدر. انظر: شرح الأصول الخمسة، والملل والنحل 1/43، 44، والفرق بين الفرق117. 2 المجسمة: هم الذين يقولون إن الله جسم من الأجسام؛ له طول وعرض وعمق وطعم ورائحة. انظر: الفرق بين الفرق 65-69، ومقالات الإسلاميين 1/106. 3 الجبرية هم الجهمية وكل من قال بأن الخلق مجبورون على أفعالهم، وليس لهم حرية ولا اختيار، وسواء أكانوا لا يثبتون للعبد فعلاً ولا قدرة على الفعل أصلاً، أم كانوا يثبتون قدرة غير مؤثرة. انظر: الملل والنحل 1/85، والبرهان في معرفة عقائد أهل الأديان 42.

ما لا يحصيه إلا رب العباد. فملاحدة الإسماعيلية1 والنصيرية2، وغيرهم من الباطنية المنافقين من بابهم دخلوا، وأعداء المسلمين من المشركين وأهل الكتاب بطريقهم وصلوا، واستولوا بهم على بلاد الإسلام، وسبوا الحريم وأخذوا الأموال، وسفكوا الدم الحرام، وجرى على الأمة بمعاونتهم من فساد الدنيا والدين ما لا يعلمه إلا رب العالمين"3.

_ 1 الإسماعيلية: هم المنتسبون إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، وقالوا: إن الإمام بعد جعفر ابنه إسماعيل، ثم بعد إسماعيل ابنه محمد وهم من الباطنية، ويزعمون أن لكل ركن من أركان الشريعة تأويلاً، فيزعمون أن معنى الصلاة موالاة إمامهم، والحج زيارته.. الخ، وهم زنادقة دهريون يقولون بقدم العالم، وإنكار الإله، واستحلال المحرمات، وغير ذلك. انظر: الفرق بين الفرق 281، والبرهان في معرفة عقائد أهل الأديان 81، والملل والنحل 1/191. 2 النصيرية: هم أتباع محمد بن نصر النميري من غلاة الرافضة، الذي ادعى النبوة ثم الربوبية، ويزعم أتباعه أن الله يحل في علي، ويعتقدون إباحة المحرمات، ولهم ضلالات أخرى، وقد أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية بأنهم أكفر من اليهود والنصارى، بل ومن كثير من المشركين. انظر: المل والنحل للشهرستاني 1/188، والفرق بين الفرق 255، ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 35/245 وما بعده. 3 مختصر منهاج السنة لابن تيمية، اختصار الشيخ عبد الله الغنيمان 1/8، 9 ط الأولى 1410هـ.

وعلى هذا فالتشيع "كان مأوى يلجأ إليه كل من أراد هدم الإسلام لعداوة أو حقد، ومن كان يريد إدخال تعاليم آبائه من يهودية أو نصرانية أو زرادشتيه1 وهندية، ومن كان يريد استقلال بلاده، والخروج على مملكته. كل هؤلاء كانوا يتخذون حب أهل البيت ستاراً يضعون وراءه كل ما شاءت أهواؤهم" 2. وكان رائد هؤلاء المفسدين عبد الله بن سبإ الحميري؛ الذي أنشأ فرقة السبئية، بل إن كل فرق الشيعة إنما حدثت من جراء ما أحدثه من الأفكار، وهو أول من قال بالنص على ولاية على رضي الله عنه، وبرجعته في آخر الزمان، والقول بتناسخ3 الجزء الإلهي في الأئمة بعد

_ 1 هم طائفة من المجوس ينتسبون إلى رجل يقال له زرادشت بن يورشب، وضع له كتاباً اسمه: "زندا أو ستا" وهم يوافقون بقية فرق المجوس في القول بأصلين، ويخالفونهم ببعض التفاصيل. انظر: الملل والنحل 1/236 وما بعده، ودائرة معارف القرن العشرين محمد فريد وجدي 8/451، دار المعرفة بيروت ط الثالثة 1971م. 2 فجر الإسلام لأحمد أمين ص276، مكتبة النهضة القاهرة، ط الحادية عشرة 1975م. 3 التناسخ: هو ادعاء انتقال الروح من الميت وولادتها في شخص آخر، ويتخبط التناسخية في كيفية التناسخ، وسببه وحدوده، تخبطاً عظيماً. انظر: الفرق بين الفرق ص271-276، وتناسخ الأرواح لمصطفى الكيك ص17-24 منشأة المعارف الإسكندرية ط، ت، بدون.

علي رضي الله عنه1، كما كان ابن سبإ السبب في إثارة الناس على عثمان2 رضي الله عنه3. وبدعة التشيع هي مفتاح باب الشرك والغلو في الصالحين وعبادتهم والتبرك بقبورهم، قال ابن تيمية -رحمه الله-:"ومن هنا أدخل أهل النفاق في الإسلام ما أدخلوه، فإن الذي ابتدع دين الرافضة كان زنديقاً4 يهودياً، أظهر الإسلام وأبطن الكفر، ليحتال في إفساد دين المسلمين -كما احتال بولص5 في إفساد دين

_ 1 الملل والنحل للشهرستاني 1/174. 2 الخليفة الراشد عثمان بن عفان بن أبي العاص القرشي، أحد العشرة المبشرين بالجنة، زوّجه النبي صلى الله عليه وسلم ابنته رقية، ولما توفيت زوجه بأختها أم كلثوم، استشهد رضي الله عنه سنة 35هـ. انظر: البداية والنهاية 7/208، وشذرات الذهب 1/40. 3 الفصل في الملل والأهواء والنحل 2/274. 4 زنديق: كلمة معربة أخذاً من المصطلحات الإيرانية، وجمعها زنادقة، وتطلق على الملحدين وكل من خرج عن الدين وسعى لنشر فكره الخبيث. انظر: دائرة المعارف الإسلامية 10/440-446. 5 بولس أو شاؤل كان يهودياً شديد العداوة لأتباع المسيح عليه السلام، وله دور كبير في قتلهم واضطهادهم. تحول في عهد الحواريين بعد رفع المسيح إلى المسيحية وأصبح معلماً لها، وأبطل دين المسيح عليه السلام، وأدخل الشرك، وأهم الأصول التي أحدثها، والتي أصبحت بعد ذلك أسس الديانة المسيحية: عالمية المسيحية، والقول بالتثليث، وألوهية المسيح، والروح القدس، والقول بأن عيسى ابن الله، وبدعة الصليب من أجل التكفير، وأن عيسى يجلس على يمين أبيه تعالى الله عن ذلك. انظر: مقارنة الأديان: المسيحية د. أحمد شلبي ص104-115 مكتبة النهضة -القاهرة ط الخامسة 1977م.

النصارى - سعى في الفتنة بين المسلمين حتى قتل عثمان، وفي المؤمنين من يستجيب للمنافقين، كما قال تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:47] . ثم إنه لما تفرقت الأمة، ابتدع ما ادعاه في الإمامة من النص والعصمة، وأظهر التكلم في أبي بكر وعمر، وصادف ذلك قلوباً فيها جهل وظلم، وإن لم تكن كافرة، فظهرت بدعة التشيع التي هي مفتاح باب الشرك، ثم لما تمكن الزنادقة أمروا ببناء المشاهد، وتعطيل المساجد محتجين بأنه لا تصلى الجمعة والجماعة إلا خلف المعصوم. ورووا في إنارة المشاهد، وتعظيمها والدعاء عندها من الأكاذيب، ما لم أجد مثله فيما وقفت عليه من أكاذيب أهل الكتاب ... وكذبوا..

على النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، أكاذيب بدلوا بها دينه، وغيروا ملته، وابتدعوا الشرك المنافي للتوحيد، فصاروا جامعين بين الشرك والكذب"1. ولم يمض القرن الأول إلا وقد أثمرت جهود المفسدين الحاقدين عن قيام فرق الشيعة الضالة، التي استحوذت على عدد كبير من المنتسبين للإسلام، وتبنت كثيراً من الأفكار الهدامة، والعقائد الضالة، وتفرقت في البلاد، وأصبح لها علماؤها ودعاتها، الذين يهدمون في جسد الأمة من داخلها. وفي مقابل الشيعة الذين غلوا في علي رضي الله عنه، ظهرت فرقة الخوارج2، التي أُسست على أفكار ضالة: كتكفير علي وعثمان -رضي الله عنهما-، والإكفار بارتكاب الكبائر، ووجوب الخروج على الإمام الجائر3.

_ 1 مجموع الفتاوى 27/161. 2 هم الذين خرجوا على الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم تفرقوا إلى فرق كثيرة، ولا يزال لهم وجود إلى الآن، ومن فرقهم الإباضية، وأجمعوا على أن كل كبيرة كفر، وأن الله يعذب أصحاب الكبائر عذاباً دائماً إلا النجدات لم يقولوا بذلك. انظر الفرق بين الفرق 72، ومقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري، تصحيح هلموت ريتر ص87 ط الثالثة. 3 انظر: الفرق بين الفرق ص73، ومقالات الإسلاميين ص86 وما بعدها.

فلما رأى الحاقدون ذلك وأنهم نجحوا في كيدهم هذا، كروا كرة أخرى على أهل السنة، ونفذوا إليهم من طريق التصوف والزهد المنحرف، الذي ظهرت بوادره في بداية القرن الثاني الهجري، والذي كان من أهم ركائزه الزهد في العلم، والتفرغ للذكر والعبادة -بزعمهم-. وهذا مقتل عظيم، ومنفذ خطير للأفكار الهدامة. وكان لدى هذه الطائفة ثغرة خطيرة، وهي تفريطهم في منهج أهل الحديث في التلقي، واعتمادهم في قبول المعارف على الذوق والإعجاب والعاطفة، والاغترار بأحوال الرجال وما ظهر لهم، فكانوا في هذا أشبه بأهل التشيع. وهي الحال التي تُعجب الشياطين، وتمكنهم من عملهم اللعين. قال ابن الجوزي1 -رحمه الله- يصف حال هؤلاء القوم، وكيف تلاعبت بهم شياطين الإنس والجن، فأوقعوهم في الأفكار الضالة والعقائد الفاسدة: "وكان أصل تلبيسه عليهم أنه صدهم عن العلم، وأراهم أن المقصود العمل، فلما أطفأ مصباح العلم عندهم، تخبطوا في الظلمات، فمنهم من أراه المقصود من ذلك ترك الدنيا في الجملة، فرفضوا ما يصلح

_ 1 الإمام العلامة أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي، الحنبلي، صنف زاد المسير، والموضوعات، والمنتظم، توفي سنة 597هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 21/365، والبداية والنهاية 13/31.

أبدانهم ... وهؤلاء كانت مقاصدهم حسنة غير أنهم على غير الجادة، وفيهم من كان لقلة علمه يعمل بما يقع إليه من الأحاديث الموضوعة وهو لا يدري. ثم جاء قوم فتكلموا لهم في الجوع والفقر والوساوس والخطرات ... وجاء آخرون فهذّبوا مذهب التصوف، وأفردوه بصفات ميزوه بها من الاختصاص بالمرقعة، والسماع والوجد والرقص والتصفيق ... ثم ما زال الأمر ينمو، والأشياخ يضعون لهم أوضاعاً ويتكلمون بواقعاتهم. ويتفق بعدهم عن العلماء، لا بل رؤيتهم ما هم فيه أوفى العلوم حتى سموه علم الباطن، وجعلوا علم الشريعة العلم الظاهر، ومنهم من خرج به الجوع إلى الخيالات الفاسدة، فادعى عشق الحق والهيمان فيه، فكأنهم تخايلوا شخصاً مستحسن الصورة فهاموا به، وهؤلاء بين الكفر والبدعة، ثم تشبعت بأقوام منهم الطرق، ففسدت عقائدهم، فمن هؤلاء منقالبا بالحلول1

_ 1 الحلول فكرة شيطانية مفادها: أنه يجوز أن يظهر الله في صورة بعض خلقه، وعلى ذلك أطلقوا الإلهية على البشر، ومن الحلولية النصارى حيث قالوا: حل الباري في عيسى، والسبئية، وغلاة الشيعة، وغلاة المتصوفة. انظر: كشاف اصطلاحات الفنون، محمد على الفاروقي التهانوي، تحقيق د. لطفي عبد البديع، 2/108، المؤسسة المصرية للتأليف والنشر القاهرة ط، ت: بدون.

ومنهم من قال بالاتحاد1، وما زال إبليس يخبّطهم بفنون البدع حتى جعلوا لأنفسهم سنناً" 2. فهذا الكلام الرصين من هذا العالم المستبصر، يبين لنا كيف يتعاون شياطين الإنس والجن على إضلال الناس، وكيف يكمل بعضهم عمل بعض، فالشيطان يوسوس في القلوب، ويقذف بها الشبهات، ويزين الباطل، ويغري به، وشياطين الإنس يأتون الناس بزي أهل الإيمان، والزهد والورع، وهم دعاة دين الشيطان، فيلبسون الحق بالباطل، ويجعلون من أنفسهم قدوة في فعل ما زينته الشياطين في القلوب من الباطل، ولا يزالون يستجرون الغُفّل من الناس حتى يخرجوهم من الإيمان ويقذفوهم في ظلمات الباطل، وهم -مع ذلك- يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

_ 1 الاتحاد: في اللغة: امتزاج شيئين واختلاطهما، حتى يصيرا شيئاً واحداً، وعند غلاة الصوفية هو الاتحاد والاستهلاك كليه في الإله، والفناء عما سواه. فهو يتصل بعقيدة الحلول، وبينهما فرق يسير، فالحلول بزعمهم يكون من الله في عبده، والاتحاد يكون سببه من العبد حيث يترقى في الكمال، حتى يتحد في الله، فهي عقيدة قائمة على أن الكون منبثق عن الله -كما في الديانة الهندوكية- والاتحاد هو عود الفرع إلى الأصل، والجزء إلى الكل. انظر: الموسوعة العربية الميسرة، بإشراف محمد شفيق غربال ص45، مؤسسة فرنكلين، القاهرة ط الأولى 1965. وانظر أديان الهند الكبرى 67. 2 تلبيس إبليس لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، ص163، 164، مؤسسة علوم القرآن، دمشق، ط الأولى 1396هـ.

فالتصوف أصبح المنفذ الثاني -بعد التشيع- الذي نفذ من خلاله أعداء الإسلام لمحاربة الإسلام والهدم فيه من الداخل. قال إحسان إلهي ظهير -رحمه الله-: "فظهر التصوف بصورة مذهب مخصوص، وبطائفة مخصوصة اعتنقه قوم، وسلكه أشخاص ساذجون بدون تفكير كثير، وتدبر عميق، كمسلك للزهد، ووسيلة للتقرب إلى الله، غير عارفين بالأسس التي قام عليها هذا المشرب، والقواعد الني أسس عليها هذا المذهب، بسذاجة فطرية، وطيبة طبيعية، كما تستّر بقناعه، وتنقّب بنقابه.. آخرون لهدم الإسلام وكيانه، وإدخال اليهودية والمسيحية في الإسلام وأفكارهما من جانب، والزرادشتية والمجوسية والشعوبية1 من جانب آخر، وكذلك الهندوكية2

_ 1 هي حركة تتمثل من مجموعة الآراء والأشخاص والمواقف التي عبرت عن نظرة عنصرية أساسها تفضيل الأجناس غير العربية على العرب، عن طريق ذمهم والحط من حضارتهم والعمل على إزالة سلطانهم وتتفرع عنها الشعوبية الدينية، وهي محاولة أحياء أديان الشعوب الأخرى عن طريق نشر أفكارها، ومحاربة الإسلام. انظر: الشعوبية د. عبد الله سلوم السامرائي ص8 المؤسسة العراقية للطباعة والنشر، بغداد 1984م. 2 الهندوكية: أشهر الديانات الهندية القديمة، وتسمى البرهمية، نسبة إلى معبودهم براهما، وهو دين قائم على وحدة الوجود والتناسخ. انظر: أديان الهند الكبرى لأحمد شلبي ص77-143 مكتبة النهضة المصرية القاهرة، ط: الرابعة 1976م. ودائرة معارف القرن العشرين محمد فريد وجدي 2/159، 164.

والبوذية1 والفلسفة اليونانية الأفلاطونية من ناحية أخرى، وتقويض أركان الإسلام، وإلغاء تعاليم سيد الرسل صلى الله عليه وسلم، ونسخ الإسلام وإبطال شريعته، بنعرة وحدة الوجود2، ووحدة الأديان3 ... وترجيح من يسمى

_ 1 البوذية: فرقة من فروق الهندوكية، أسسها "بوذا" وهي خليط من العقائد الهندية والصينية. أديان الهند الكبرى ص137 وما بعدها، ودائرة معارف القرن العشرين 2/388. 2 وحدة الوجود: هو مذهب الذين يوحدون الله والعالم -تعالى الله عن ذلك- ويزعمون أن كل شيء هو الله، وأن العالم مظهر من مظاهر الذات الإلهية، وأنه صادر عن الله بالتجلي، ويزعمون أن وجود الله هو عين وجود المخلوقات، سبحانك اللهم هذا إفك عظيم. انظر: المعجم الفلسفي د. جميل صليبا 2/569، دار الكتاب اللبناني، بيروت ط: الأولى 1973م، وانظر: مصرع التصوف أو تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي لبرهان الدين البقاعي، تحقيق عبد الرحمن الوكيل ص62، 63 دار الكتب العلمية، بيروت ط: الأولى 1400هـ. 3 وحدة الأديان: هي عقيدة متفرعة من القول بوحدة الوجود، وأن كل شيء فهو عين الحق، وعلى هذا فالآلهة المعبودة في كل دين هي في حقيقتها الإله الواحد، وإن كانت كواكب أو أحجاراً، أو موتى ... وكل عابد لأي منها عابد لله، فما ذلك المعبود إلا عين ذات الله تعالى الله عن إفك الزنادقة. انظر: مصرع التصوف 199، 100 المتن والهامش.

بالولي على أنبياء الله ورسله، ومخالفة العلم، والتفريق بين الشريعة والحقيقة، وترويج الحكايات والأباطيل، والأساطير باسم الكرامات والخوارق، وغير ذلك من الخرافات والترهات" 1. وكما أن ابن سبإ وغيره من دعاة الباطنية، امتطوا ظهر التشيع لبَثِّ الفكر الهدام، فقد كان التصوف ميداناً لزمرة أخرى أشد وأخبث في المكر والإفساد. فالحلاج2 بثّ فكرة الحلول في أوكار الطرق الصوفية وشطحاتها الكلامية، ووجد في مصطلحات القوم وأوهامهم ما يمكنه من ترويج فكره الجاهلي الملحد.

_ 1 التصوف: المنشأ والمصادر، إحسان إلهي ظهير ص45، إدارة ترجمان السنة، لاهور، باكستان، ط: الأولى 1406هـ. 2 الحسين بن منصور الحلاج، فارسي الأصل، أظهر الزهد والورع، واشتغل بكلام الصوفية، قال بالحلول، وتلفظ بألفاظ منكرة شنيعة، كقوله: "أنا الحق" و"ما في الجبة إلا الله". أفتى العلماء بكفره وقتله، فقتل بأمر المقتدر العباسي سنة 309هـ. ذكر عنه الجويني أنه كان يعمل على قلب الدولة وإفساد المملكة. انظر: وفيات الأعيان 181، والعبر 2/138، والفرق بين الفرق 260، 268.

وتبعه على ذلك ابن عربي1، الذي قال بفكرة وحدة الوجود، وألف كُتباً ضمنها الكفر الصريح، وإنكار وجود الله تعالى بذاته، بائناً عن خلقه، متفرداً بصفات الكمال، وهدم بتلك الكتب أعظم أساس قام عليه الدين، ألا وهو التوحيد. وتبعهما على هذا الفكر كثير من المفسدين، وضل بفكرهم كثير من الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ولم يأت القرن السابع الهجري، إلا والفكر الصوفي الفلسفي قد صار كالمستنقعات لكل الشرور الفكرية، والضلالات الموجودة في جميع الأديان والمذاهب، وليس عند كثير من فرق الصوفية شيء من الإسلام إلا أسماء ألبسوها تلك الأصول الجاهلية. ومن أساليب أهل التشيع والتصوف التي لبسوا بها باطلهم: التأويل ودعوى الظاهر والباطن، والتي تلاعبوا بها بنصوص الكتاب والسنة، وأدخلوا ما أرادوا من الشر والفكر الهدام كتفسير معنوي باطني للنصوص.

_ 1 الملحد الضال شيخ الصوفية الغالية، محمد بن علي بن محمد الطائي، المعروف بابن عربي أحد القائلين بوحدة الوجود وأشهرهم، كفّره عدد من العلماء، صنف: الفصوص والفتوحات المكية. هلك سنة 638هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 23/28، ومصرع التصوف أو تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي لبرهان الدين البقاعي، تحقيق عبد الرحمن الوكيل

كما يتهربون بهذه الدعوى من تبعات مقالاتهم الكفرية الإلحادية1. وكان من كيد أعداء الدين التحريض على الفتنة، وإيقاد نار الفرقة، وتعميق الخلاف بين المسلمين، وإحياء النعرات العرقية، وإذكاء النزعة الشعوبية. ومن كيدهم للإسلام وأهله وضع الأحاديث ونقل الإسرائيليات وأساطير أهل الكتاب وغيرهم. قال أنور الجندي: "وقد ذهب أغلب الباحثين إلى أن أكثر الأحاديث الموضوعة من الإسرائيليات، إنما وضعت عن تدبير وتخطيط وخصومة وكيد، وأنها من عوامل الحرب الفكرية والعقائدية الضارية، التي شنها اليهود وغلاة النحل المبتدعة على الإسلام والمسلمين بكافة الوسائل من التخفي والتسلل والتمويه، بقصد تمزيق وحدة المسلمين، وتلهيتهم عن دينهم القويم، وتشتيتهم عن صراطه المستقيم. ويصف بعض الباحثين هذه الظاهرة بأنها ليست إلا حرباً حقيقية لكتاب الله، أرادوا بها صرف كل من يقرأ تفسيراً من التفاسير عما يريده الله في كتابه من هداية البشر إلى حكايات وأعاجيب وأساطير تستهوي البسطاء، ثم تتراكم هذه الأساطير، وتعترض حركة الأفهام السليمة"2.

_ 1 التصوف المنشأ والمصادر، إحسان إلهي ظهير ص243. 2 الإسلام والدعوات الهدامة، أنور الجندي ص236 دار الكتاب اللبناني، بيروت ط الأولى 1974م.

ومن هذا النوع من المكر ترجمة كتب الفلسفة، والأديان المنحرفة والوثنية وآدابها مما كان له الأثر العظيم في انحراف كثير من المسلمين وظهور البدع والفرق الضالة، قال شيخ الإسلام رحمه الله:"وأظهر الله من نور النبوة شمساً، طمست ضوء الكواكب، وعاش السلف فيها برهة طويلة ثم خفي بعض نور النبوة، فعرب بعض كتب الأعاجم الفلاسفة من الروم والفرس والهند، في أثناء الدولة العباسية. ثم طلبت كتبهم في دولة المأمون من بلاد الروم، فعُربت، ودرسها الناس وظهر بسبب ذلك من البدع ما ظهر"1. ويرى بعض الباحثين المعاصرين أن الترجمة للفلسفة اليونانية كانت عاملاً في إضعاف الدولة الإسلامية، وهزيمتها بعد ذلك عسكرياً أمام أعدائها، فيقول: "وإنني أريد أن أعقب، بصفتي قارئاً ومتخصصاً في الفلسفة الإسلامية2 -بأن الترجمة الفلسفية اليونانية، التي وصلت إلى قمة الجهاز السياسي في عهد المأمون3 كانت إحدى عوامل الهزيمة الثقافية،

_ 1 مجموع الفتاوى 2/84. 2 قوله: "الفلسفة الإسلامية" تعبير غير سليم، حيث إن الإسلام ليس فيه فلسفة، بل هو دين إلهي ووحي رباني في غاية البيان والوضوح، والفلسفة لا يحتاجها إلا أهل التعقيد والتلبيس والتناقض، والأصح لو قال: "الفلسفة المنسوبة إلى الإسلام". 3 الخليفة العباسي عبد الله المأمون بن هارون الرشيد، تولى الخلافة بعد قتل أخيه الأمين سنة 198هـ، أشعل في آخر خلافته فتنة القول بخلق القرآن. توفي سنة 218. انظر: سير أعلام النبلاء 10/272، والبداية والنهاية 10/287.

بل الهزيمة العسكرية، فكان الحسم لصالحهم بعد ذلك عبر الغزو التتاري، والغزو الصليبي" 1. وهذا الربط بين ترجمة الفلسفة، وبين الهزيمة الثقافية، والعسكرية، هو الحق الذي لا مرية فيه، وذلك أن سر ظهور الإسلام وتمكن أهله في الأرض إنما كان بالتزام أهله بالدين الصافي، واستغنائهم عن معارف الجاهلية، ثم بعد الترجمة كان ما أشار إليه ابن تيمية من ظهور البدع، وما تبع ذلك من الخلاف، وذهاب الريح، فضعف السبب الذي به ظهر الإسلام، وكان من أهم أسباب الهزيمة العسكرية. كما أن قبول المسلمين لتلك الفلسفات واستخدامها في معرفة العقائد، وتقريرها بمثابة شهادة وتزكية لها بالصلاح، وهذا يرفع من شأنها كما أنه في الوقت نفسه يشعر بحاجة المسلمين وفقرهم لها، وهذه هزيمة ثقافية، مع أن الواقع أن الإسلام في أشد الغنى عنها.

_ 1 انظر: تعليق الدكتور راجح الكردي على تعليق على بحث:"موقف الفكر الإسلامي المعاصر من الحضارة الحديثة" للدكتور: إبراهيم زيد الكيلاني ص156 ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر، البحرين، مكتب التربية العربي لدول الخليج 1407هـ.

فلا يحتاجون إليها ولا إلى غيرها لمعرفة دينهم، ولو اقتصر استخدام تلك العلوم العقلية على المطالب المادية، كالصناعة والزراعة والطب ونحوها، لكان ذلك حسناً. أما الزعم بأنها الطريق إلى معرفة العقائد والأخلاق فهذا خطأ كبير وسبب من أسباب ضعف المسلمين وهزيمتهم، بل إن بعض الكتاب الغربيين يرى أن خوض الفلاسفة اليونان أنفسهم في هذه المطالب، كان سبباً في تأخر الحضارة اليونانية حيث قال: "إن الفلسفة التي تخوض فيما وراء الطبيعة، وفي علم الأخلاق من العقبات، التي حالت دون تقدم الحضارة اليونانية القديمة" 1. ولم يقتصر كيد الحاقدين على ما تقدم، بل كروا كرة هوجاء على جميع أصول الإسلام وأسسه، وراموا هدم عقائده، والتحلل من شرائعه، وتفكيك دعائمه الاجتماعية، فحدث في زمن المتأخرين من الصحابة خلاف القدرية في القدر، أخذه معبد الجهني2 عن سوسن3 النصراني

_ 1 قصة الحضارة وُل ديورانت 7/194. 2 معبد بن عبد الله الجهني نزيل البصرة، أول من تكلم بالقدر في زمن الصحابة، قيل إنه أخذ قوله في القدر من رجل نصراني اسمه سوسن، مات قبل سنة 90هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 4/185 والبداية والنهاية 9/36. 3 رجل نصراني أظهر الإسلام وقذف بين المسلمين القول في القدر، ثم لحق بدينه النصراني. انظر: سير أعلام النبلاء 4/186، والبداية والنهاية 9/36.

الذي أظهر الإسلام ثم تنصر وورثه عن معبد غيلان الدمشقي1 والجعد بن درهم2. وجاء من بعدهم الجهم بن صفوان3، فنفث في روع أناس من شروره الفكرية، فصبغت تلك الشرور كثيراً من الفرق المنتسبة إلى الإسلام على درجات متفاوته.

_ 1 غيلان بن مسلم الدمشقي القدري من أوائل من قال بإنكار القدر، ناظره الأوزاعي فلم يرجع عن بدعته، فأفتى بقتله فقتله هشام بن عبد الملك. انظر: لسان الميزان 4/424 والأعلام 5/124. 2 الجعد بن درهم مؤدب مروان بن محمد الأموي، أول من ابتدع في هذه الأمة إنكار أن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وأنه كلم موسى تكليماً، وأخذ ذلك عن الجهم بن صفوان الذي تنسب إليه الجهمية، وقد قتل الجعد والي العراق خالد بن عبد الله القسري سنة 124هـ على الزندقة. انظر: سير أعلام النبلاء 5/433، والبداية والنهاية 9/364. 3 أبو محرز الجهم بن صفوان الراسبي. تلميذ الجعد بن درهم الذي قتل على الزندقة، والجهم هو أول من جاهر بالقول بخلق القرآن، وتعطيل الباري تعالى عن صفاته وإليه تنسب الجهمية، قال عنه الذهبي: "الضال المبتدع رأس الجهمية، هلك في زمان صغار التابعين، وما علمته روى شيئاً، ولكنه زرع شراً عظيماً"، وكان مع بدعته يحمل السلاح ويخرج على السلطان، قتله سلم بن أحوز في آخر زمان بني أمية. انظر: الفرق بين الفرق تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد ص211، وميزان الاعتدال للذهبي تحقيق على محمد البجادي 1/426.

فتكلم بفكرة الجبر، وتعطيل صفات البارئ تبارك وتعالى، وفكرة الإرجاء1 وأن الإيمان هو المعرفة بالله، والكفر هو الجهل به، وقال بخلق القرآن2، وغير ذلك من الأفكار الخبيثة التي أحدثت جدلاً وفرقة، ونتج عنها فتن داخل الأمة الإسلامية.

_ 1 الإرجاء: معناه في اللغة التأخير، والمراد به تأخير العمل عن الإيمان، حيث زعموا أن الأعمال الصالحة من الأقوال، والأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان، وترتب على هذا القولُ بعدم زيادة الإيمان ونقصانه، والمرجئة فرق كثيرة مختلفة في قولها في الإرجاء. فمنهم الجهمية الذين قالوا: الإيمان هو المعرفة فقط، ومنهم من قال: هو تصديق القلب، كالأشاعرة ومن نحا نحوهم، ومنهم من قال: هو قول اللسان كالكرامية، ومنهم من قال هو: تصديق القلب وقول اللسان. انظر: الفرق بين الفرق 202، ومجموع الفتاوى لابن تيمية 7/195. 2 القول بخلق القرآن: عقيدة باطلة، قالت بها الجهمية، وتبعها على ذلك المعتزلة، وهي حقيقة قول الأشعرية والماتريدية، وهي ناتجة عن تعطيل صفات الله، وإنكارهم صفة الكلام لله عز وجل. والذي دل عليه القرآن والسنة، وعليه السلف الصالح أن الله تعالى يتكلم حقيقة، بكلام بدأ منه بحرف وصوت، يسمع منه متى شاء كيف شاء، والقرآن كلام الله منزل غير مخلوق. وقد استقصى علماء السلف الأدلة على ذلك في كتب السنة والإيمان والتوحيد. انظر: مثلاً: كتاب التوحيد من صحيح البخاري. وانظر: مجموع الفتاوى 12/118-125، والإبانة عن أصول الديانة لأبي الحسن الأشعري تحقيق د. فوقيه حسين محمود ص14، 15، 63 وما بعده دار الأنصار، مصر، ط: الأولى 1397هـ.

ثم ظهرت فرقة المعتزلة على يدي واصل بن عطاء1، وعمرو بن عبيد2 متأثرين بأفكار الجهمية، وراموا الرد على الجهمية بطريقة خالفوا فيها أهل الحق، كما تبنوا بعض أفكار الجهمية، كالقول بخلق القرآن وتعطيل الصفات وغير ذلك، فأخذوا من التجهم بنصيب.

_ 1 واصل بن عطاء البصري الغزال، أول من قال بأن مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين، وأحد شيوخ المعتزلة، صنف كتاب المنزلة بين المنزلتين توفي سنة 131هـ. انظر: وفيات الأعيان 6/7، وسير أعلام النبلاء 5/464. 2 عمرو بن عبيد البصري أبو عثمان كبير المعتزلة وأحد شيوخها الأوائل. تركه عدد من الأئمة لبدعته. صنف كتاب العدل والتوحيد مات سنة 143هـ. انظر: وفيات الأعيان 3/460، وسير أعلام النبلاء 6/104.

ثم ظهرت الماتريدية1 والأشاعرة2، وزعموا التوسط بين منهج أتباع السلف الصالح، وبين المعتزلة، فوافقوا المعتزلة والجهمية ببعض قولهم، ووافقوا السلف ببعض قولهم، فأخذوا من التجهم بنصيب. وقد امتطت هذه الفرق -كما فعل المتشيعة والمتصوفة- التأويل لإبطال دلالة نصوص التنزيل، قال ابن القيم رحمه الله: "الفصل الخامس والعشرون: في ذكر الطواغيت الأربعة الني هدم بها أصحاب التأويل الباطل معاقل الدين، وانتهكوا بها حرمة القرآن، ومحوا بها رسوم الإيمان وهي: قولهم: أن كلام الله، وكلام رسوله أدلة لفظية، لا تفيد علماً ولا يحصل منها يقين.

_ 1 الماتريدية: أتباع أبي منصور محمد بن محمود الماتريدي السمرقندي الحنفي المتوفي سنة 333هـ. وماتريد محلة من سمرقند، من بدعتهم الإرجاء، ونفي بعض الصفات، وغير ذلك. انظر: الفرق الإسلامية الكلامية 341، والماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات. 2 الأشاعرة: هم المنتسبون إلى أبي الحسن بن إسماعيل الأشعري بعد أن ترك الاعتزال، وأخذ بمذهب الكلابية، وهم مرجئة في باب الإيمان، معطلة لبعض الصفات، جبرية في باب القدر، ولهم بدع أخرى. انظر: الفرق الكلامية الإسلامية 278، ومجموع الفتاوى 12/204، 368 و 13/131.

وقولهم: إن آيات الصفات، وأحاديث الصفات مجازات لاحقيقة لها. وقولهم: إن أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة التي رواها العدول، وتلقتها الأمة بالقبول لا تفيد العلم، وغايتها أن تفيد الظن. وقولهم: إذا تعارض العقل ونصوص الوحي، أخذنا بالعقل، ولم نلتفت إلى الوحي. فهذه الطواغيت الأربعة التي فعلت بالإسلام ما فعلت، وهي التي محت رسومه، وأزالت معالمه، وهدمت قواعده، وأسقطت حرمة النصوص من القلوب، ونهجت طريق الطعن فيها لكل زنديق وملحد، فلا يحتج عليه المحتج بحجة من كتاب الله أو سنة رسوله، إلا لجأ إلى طاغوت من هذه الطواغيت، واعتصم به واتخذه جُنة يصد به عن سبيل الله، والله تعالى بحوله وقوته، ومَنّه وفضله، قد كسر هذه الطواغيت طاغوتاً طاغوتاً، على ألسنة خلفاء رسله، وورثة أنبيائه فلم يزل أنصار الله ورسوله يصيحون بأهلها من أقطار الأرض، ويرجمونهم بشهب الوحي، وأدلة المعقول" 1.

_ 1 الصواعق المنزلة على الطائفة الجهمية والمعطلة لابن القيم، تحقيق د. أحمد عطية الغامدي 2/379، 380 الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ط: الأولى 1410هـ.

ومع مرور الأيام انقسمت تلك الفرق على أنفسها، وزاد اختلافها وانحرافها وشقت طريقها بين أفراد المجتمع المسلم وكثر أتباعها، ومما ساعد على ذلك: 1- ضعف الإيمان وغلبة الجهل، وذلك أن الإيمان الراسخ القائم على التوحيد الخالص، والعلم المستمد من الكتاب والسنة، هو الحصن الحصين الذي يحصن الله به عباده من الفكر الهدام وسائر الفتن. 2- إظهار القائلين بهذه الأفكار، الداعين إليها للزهد والورع والحماس، وادعاء الحرص على الإسلام، وتحملهم الكثير من التضحيات والمشاق، مما جعل كثيراً من الناس يغترون وينخدعون بهم. 3- تقبل بعض المعروفين بالعلم لبعض هذه الأفكار، ومدحهم لأساطين الفلاسفة وعلومهم. 4- تسامح بعض الخلفاء والولاة والسلاطين مع أهل الأهواء والبدع، وعدم الحزم في مقاومتهم، ومناصرة بعضهم لهم وفرضهم لأفكارهم. 5- استيلاء بعض الحكام المنتمين إلى بعض الفرق الضالة على الحكم، في بعض البلاد الإسلامية. فهذه الأمور -وغيرها- كانت ثغرات نفذت منها الأفكار الهدامة إلى المجتمع المسلم، وما إن دخلت حتى وجدت آذاناً تستمع إليها، وقلوباً

مفتوحة لها، فتغلغلت وسرت كسريان النار في الهشيم، وأُشربت كثير من القلوب الفتنة. وحفظ الله الحق في طائفة من الناس، استمسكوا به وتجافوا عن البدع والمحدثات، وقاموا بما استطاعوا من النصيحة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولأئمة المسلمين وعامتهم، إلا أن الانحراف استبد وفرض وجوده، واستحكم في المجتمع {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] . {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [المائدة:41] . واستمر خطر الفكر الهدام والفرق الضالة يزيد مع مرور الزمن، ويقوى سلطان أهله واستحواذهم على المسلمين، حتى إذا جاء العصر الحديث فإذا الجهل والضلال قد استحكم في عقائد كثير من المسلمين وشرائعهم، وأصبحت البدعة سنة، والسنة بدعة، وألفوا ذلك ودافعوا عنه، وعادوا ما سواه، ولو كان الحق الذي ينطق به الكتاب. من أصدق الشواهد على هذه الحال، ذلك الوقوف المنكر والمجابهة لأهل التوحيد والدعوة إلى تنقية الدين مما خالطه من الفكر الهدام والانحرافات والرجوع إلى سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وما كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم، التي قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومن آزره في دعوته -رحمهم الله- فرموهم بالبدعة والضلال وحاربوهم باسم الإسلام.

وليس غريباً -وهذه حالهم- أن يتسلط عليهم أعداؤهم من النصارى واليهود، والشيوعيين فيشنوا عليهم حملات استعمارية، وقع في إثرها كثير من البلاد الإسلامية، تحت الاستعمار الصليبي الغادر، والشيوعي الملحد الفاجر، حيث شنّ على المسلمين نوعاً جديداً من الغزو الفكري الرهيب بغرض الإجهاز على الإسلام واقتلاعه من جذوره، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] وقد جاء المجال للكلام على الصراع الفكري في العصر الحديث، ويكون ذلك في المطلب القادم، والله المستعان.

المطلب الثالث: الغزو الفكري للأمة الإسلامية في العصر الحديث إن استخدام لفظ الغزو في التعبير عن كيد أعداء الأمة في العصر الحديث مناسب لطبيعة ذلك الكيد، وذلك أن جهود أعداء الإسلام في العصور الحديثة تختلف عن تخطيط أولئك الحاقدين في القديم. ففي القديم كان الإسلام قوياً مهيمناً، وفي الحديث نجد أن أهل الإسلام في أدنى مستويات الانحطاط الفكري والعسكري والاجتماعي. وفي القديم كان الالتزام قوياً، وكان يكثر وجود العلماء العاملين السائرين المستمسكين بالإيمان الصحيح، وكانت لهم مكانتهم عند العامة والخاصة، أما في الوقت الذي بدأت فيه الجولة الجديدة من الحرب الفكرية في العصور المتأخرة، كان المجتمع المسلم قد تنازعته الأهواء والفرق، فعكرت صفوه، وتدنس بعض العلماء بلوثات الأفكار الهدامة، والمذاهب المختلفة، والمناهج الضالة. وفي القديم كان الحاقدون يتظاهرون بالإسلام، ويفسدون بدعوى الإصلاح والحرص على الإسلام، أما في الحديث فرواد المجابهة الفكرية هم من النصارى واليهود، وهم يعملون لحساب دول ومنظمات قوية غنية. لذلك غلب على المواجهة القديمة، لفظ الصراع لوجود المقاومة العنيفة التي قام بها المسلمون من العلماء والخلفاء وغيرهم.

وفي العصر الحديث فالواقع يدل على وقوع الأمة الإسلامية تحت غزو فكري عنيف، سبق الغزو المسلح ومهد له، ورافقه واستمر بعده، وقد كان ميدان هذا الغزو هو المعارف الإسلامية، من العقائد والشرائع، والأخلاق والنظم، والأدب والتاريخ، وجميع المجالات الفكرية. مفهوم الغزو الفكري: بيّن بعض الباحثين مفهوم الغزو الفكري بقوله: "هو من شعب الجهد البشري المبذول ضد عدو ما، لكسب معارك الحياة منه، ولتذليل قياده، وتحويل مساره، وضمان استمرار هذا التحويل حتى يصبح ذاتياً إذا أمكن. وهذا هو أقصى مراحل الغزو الفكري بالنسبة للمغلوب، وإن كان في الوقت نفسه هو أقصى درجات نجاح الغزاة. وسلاح هذا الغزو: الفكرة، والرأي والحيلة، والنظريات والشبهات، وخلابة المنطق، وبراعة العرض ... ولدادة الخصومة، وتحريف الكلم عن مواضعه، وغير ذلك. ويتميز الغزو الفكري: بالشمول والامتداد، فهو حرب دائبة لا يحصرها ميدان بل تمتد إلى شعب الحياة الإنسانية جميعاً، وتسبق حروب السلاح وتواكبها، حتى تستمر بعدها لتكسب ما عجز السلاح عن تحقيقه، فتشل إرادة المهزوم وعزيمته حتى يلين ويستكين، وتنقض تماسكه النفسي حتى يذوب كيانه، فيقبل التلاشي والفناء في بوتقة أعدائه، أو

يصبح امتداداً ذليلاً لهم" 1. والمراد هنا هو ذلك الجهد الفكري المنظم، الذي شنه أعداء الإسلام، وبخاصة اليهود والنصارى والشيوعيون على الأمة الإسلامية في العصر الحديث. وقد مرت جهود أعداء الأمة في مجال الغزو الفكري في العصر الحديث بثلاث مراحل: الأولى: مرحلة الإعداد، وهي ما قبل الاستعمار العسكري المباشر، ويشمل ذلك التخطيط للتفريق بين المسلمين، وإسقاط الدولة العثمانية، وإيجاد الفكرة القومية2، لدى شعوب العالم الإسلامي، وإثارة الكراهية

_ 1 الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام د. عبد الستار فتح الله سعيد ص7 دار الأنصار، القاهرة، ط: الأولى، ت: بدون. 2 القومية: هي فكرة تقوم على التقاء كل شعب على الروابط المشتركة بين أفراده كالجنس، أو اللغة والتاريخ، أو الأرض والوطن، أو الظروف المعيشية والاقتصادية أو عليها جميعاً، واستثنى من ذلك الدين، وقد اختلفت وجهات النظر بين دعاة القومية في تحديد العنصر الأهم والمقوم الأساسي لهذه الفكرة. وحقيقة القومية التي دعا إليها الاستعمار، هي دعوة كل جنس من شعوب العالم الإسلامي إلى التلاحم والتآخي على أساس اللغة والدم وغيرها من الروابط، دون اعتبار للدين، كما استبعد التاريخ الإسلامي من الروابط المشتركة. انظر: الاتجاهات الفكرية المعاصرة وموقف الإسلام منها د. جمعة الخولي ص115، 116 الناشر الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ط: الأولى 1407هـ. والمخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام لمحمد محمود الصواف ص23-28 دار الإصلاح، الدمام، ط: الأولى 1979م.

بين العرب والترك، وقد نشطت هذه المرحلة في القرن التاسع عشر الميلادي1. الثانية: مرحلة الاستعمار العسكري، وقعت معظم البلدان الإسلامية تحت حكم المستعمرين النصارى، في أوائل القرن العشرين الميلادي، وبذلك استلم أعداء الأمة مباشرة مراكز التعليم والتربية، والحكم والإعلام وسائر مؤسسات الدولة، فوجهوها وجهة غربية إلحادية، وأقاموها على الأفكار والنظريات الضالة التي توافق وضع المستعمر وتحقق أهدافه. وأثيرت الأفكار الجاهلية، والشكوك والطعن في الإسلام، والدعوة إلى مسايرة الغرب علناً في مجالات واسعة، كالإذاعات والمسارح، والسينما والمدارس، والصحف وغيرها2. الثالثة: مرحلة ما بعد الاستعمار: وهي فترة تعتبر في كثير من البلاد

_ 1 انظر: فكرة القومية العربية على ضوء الإسلام د. صالح بن عبد الله العبود ص96-143 دار طيبة الرياض، ط الأولى 1401هـ. والاتجاهات الفكرية المعاصرة، ص122-128. 2 حاضر العالم الإسلامي وقضاياه المعاصرة د. جميل عبد الله المصري 1/133-155 مطابع الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ط: الأولى 1407هـ.

استمراراً لمرحلة الاستعمار العسكري، حيث إن المستعمربن يسلمون الحكم لمن ربوهم على أفكارهم واتجاهاتهم، أو تستلمه زمرة -بمساعدة المستعمر- من المنحرفين المنتسبين إلى بعض الأفكار الخبيثة كالشيوعية أو القومية البعثية أو غيرها. ففرض على الشعوب الإسلامية ما غرسه الاستعمار، أو وقعت تحت أوضاع أشد خطراً وكفراً وتسلطاً1. ويرجع كثير من الباحثين بداية التخطيط للحرب الفكرية الحديثة، إلى توجيهات ملك فرنسا لويس التاسع2 الذي كان يقود بعض الحملات الصليبية بنفسه، حيث أسر في أحدها وسجن في المنصورة بمصر، وقتل في حملة أخرى.

_ 1 انظر: احذروا الأساليب الحديثة في مجابهة الإسلام ص187، وأساليب الغزو الفكري د. علي جريشه، ومحمد شريف الزيبق ص48-49 دار الاعتصام القاهرة، ط: الأولى 1978. 2 لويس التاسع ملك فرنسا من سنة 1226-1270م قاد الحملة الصليبية السابعة عام 1249م التي توجهت إلى مصر والتي باءت بالفشل، وأسر فيها لويس وسجن في سجن المنصورة بمصر، وأطلق سراحه بفدية كبيرة، ثم قاد في آخر حكمه حملة أخرى سنة 1270م توجهت إلى تونس حيث فشلت أيضاً، ومات فيها لويس. انظر: أوربا العصور الوسطى، التاريخ السياسي د. سعيد عبد الفتاح عاشور 1/260-265 مكتبة الأنجلو المصرية مصر ط: السادسة 1975.

وقد أخذ يفكر بعمق – وهو في معتقله بالمنصورة في السياسة التي كان أجدر بالغرب أن يتبعها إزاء المسلمين. وبعد ذلك وضع خيوط المؤامرة الفكرية الجديدة على الإسلام، ولخصها في أربعة أمور: 1- تحويل الحملات الصليبية العسكرية إلى حملات سِلْمية صليبية تستهدف ذلك الغرض، ولا فرق بين الحملتين إلا من حيث نوع السلاح الذي يستخدم في المعركة. 2- تجنيد المبشرين1 الغربيين في معركة سلمية لمحاربة تعاليم الإسلام، ووقف انتشاره، ثم القضاء عليه معنوياً، واعتبار هؤلاء المبشرين جنوداً للغرب. 3- العمل على إنشاء قاعدة للغرب في قلب الشرق

_ 1 مفهوم التبشير المزعوم هو الدعوة إلى النصرانية، إلا أنه في الحقيقة يتقنع بالدين والأعمال الخيرية لتحقيق الغرض الحقيقي، وهو زعزعة عقائد غير النصارى عامة، والمسلمين خاصة، ثم تهيئتهم بشتى الوسائل لقبول النفوذ الغربي، والاستكانة للاستعمار وبسط السيطرة الغربية عليها، ثقافياً ودينياً وسياسياً. انظر: التبشير والاستعمار في البلاد العربية د. مصطفى خالدية، د. عمر فروخ ص5 المكتبة العصرية، بيروت، ط الثانية 1983، واحذروا الأساليب الحديثة في مواجهة الإسلام ص39.

الإسلامي، يتخذها الغرب نقطة ارتكاز لقواته الحربية ولدعوته السياسية والدينية، وقد اقترح لويس لهذه القاعدة الأماكن الساحلية في لبنان وفلسطين1. وقد سار الأوربيون بالفعل في طريق تنفيذ وصية لويس، حيث أعدوا جيوشاً من المستشرقين2 والمنصرين، الذين قاموا بحركة تشويه للإسلام بهدف تشكيك المسلمين فيه، كما قاموا بإنشاء قاعدة نصرانية لهم في لبنان، ويهودية في فلسطين3. والحق أن لويس بقراراته هذه وقع على أمرين هامين: الأول: أنه أدرك السر في قوة المسلمين، وهي عقيدتهم وتمسكهم بتعاليم دينهم، وأنه لا سبيل للغرب ولا لغيرهم للانتصار على المسلمين

_ 1 انظر: أساليب الغزو الفكري د. علي جريشه ومحمد شريف الزيبق ص19، واحذروا الأساليب الحديثة في مواجهة الإسلام ص33. 2 الاستشراق: هو حركة دراسة العلوم والآداب، والحضارة والثقافة الإسلامية، بهدف معرفة عقلية المسلمين وأفكارهم واتجاههم، وأسباب تفوقهم وقوتهم لضرب هذه القوة من جهة، والاستفادة من علوم المسلمين من جهة ثانية، والتمهيد للاستعمار النصراني لدول الإسلام وإخضاعها لنفوذه وسلطانه من جهة ثالثة. احذروا الأساليب الحديثة في مواجهة الإسلام ص89. 3 انظر: احذروا الأساليب الحديثة في مواجهة الإسلام ص34، وأساليب الغزو الفكري ص19.

مع تمسكهم به1.

_ 1 يثبت التاريخ أنه كلما قام رجال بالدعوة للدين الصحيح، وتطهير الاعتقاد، وقمع البدع، فإن الإسلام يقوى ويحيى فيه الجهاد، وتعتز الأمة وتسترد ما سلب من أوطانها، ومن شواهد ذلك ما حصل من استرداد بيت المقدس من الصليبيين، ودحر حملاتهم المتأخرة –ومنها الحملات التي قادها لويس- على أيدي رجال أمثال: نور الدين زنكي، وصلاح الدين الأيوبي، ومن جاء بعدهم واقتفى أثرهم في الصلاح والجهاد، قال ابن كثير –رحمه الله- في ترجمة نور الدين زنكي:"كان مجاهداً في الفرنج آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، محباً للعلماء والفقراء والصالحين، مبغضاً للظلم، صحيح الاعتقاد مؤثراً لأفعال الخير، ولا يجسر أحد أن يظلم أحداً في زمانه، وكان قد قمع المناكر وأهلها، ورفع العلم والشرع، وكان مدمناً لقيام الليل، إلى أن قال: قال ابن الجوزي: استرجع نور الدين محمد بن زنكي –رحمه الله تعالى- من أيدي الكفار نيفاً وخمسين مدينة". البداية والنهاية للحافظ ابن كثير 12/387، دار الفكر العربي. ففي مثل هذه الأحوال التي يقام فيها الإيمان الصحيح، وينصر تتجلى آثار الإيمان المباركة –التي هي موضوع هذه الدراسة- ومنها ولاية الله لعباده بحفظهم، والدفاع عنهم وتمكينهم في الأرض، كما يشهد لذلك ما حصل للموحدين في نجد، في القرن الرابع عشر الهجري الذين دعوا إلى ما دعا إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله- من تصحيح الاعتقاد ونبذ البدع واتباع السنة والجهاد في سبيل الله، فحفظهم الله في الجزيرة العربية، في وقت اكتسح فيه الاستعمار الصليبي جميع البلاد الإسلامية تقريباً، فحفظهم الله وحفظ بهم منهج السلف الصالح. وإذا قورنت هذه الأحوال بالأحوال التي ضاعت فيها بلاد المسلمين نجد أن السبب الأهم هو الانحراف عن الإيمان، وكثرة البدع والعصيان، ومن شواهد ذلك ما قاله ابن كثير وهو يبين سبب انتصار الروم على المسلمين وانتزاعهم الكثير من بلادهم:" ... وذلك لتقصير أهل ذلك الزمان، وظهور البدع الشنيعة فيهم، وكثرة العصيان من الخاص والعام منهم، وفشو البدع فيهم، وكثرة الرفض والتشيع منهم، وقهر أهل السنة بينهم". البداية والنهاية المصدر السابق 12/343.

وما داموا قد حددوا السبب الحقيقي: "فإن العلاج والمقاومة يكون من السهولة بمكان، وقد عرفوا سر قوة المسلمين وهو: عقيدتهم وشريعتهم وأخلاقهم وعاداتهم وتقاليدهم الإسلامية. إذاً -لا بد من توجيه الحرب إلى الإسلام نفسه كدين وعقيدة، ومنهج حياة، وعادات وتقاليد، ولا بد من زعزعة الإسلام في قلب المسلم، وتخريب العقيدة في قلوب المسلمين، أو بمعنى آخر قالوا: لا بد من القضاء على الإسلام كعقيدة وشريعة، ونظام ليسهل القضاء على المسلمين كقوة" 1. الثاني: أنه وقع على الكيد المؤثر في حرب الإسلام، وهو أسلوب الغزو الفكري، الذي يفوق بعشرات المراحل أسلوب الغزو العسكري، ذلك أنه يمتاز بعدة أمور منها: 1- الخداع: فالعدو من خلال هذا الغزو لا يقف أمامك عياناً بياناً، بل هو مستخف، يأتيك من وراء حجاب ويداهمك بدون شعور

_ 1 انظر: احذروا الأساليب الحديثة في مواجهة الإسلام ص32.

منك، قد يأتيك في صورة مقال جذاب، أو كتاب بغلاف براق، أو برنامج إذاعي أو تلفزيوني، أو فيلم أو مسلسل، بل إنه قد يأتيك من خلال واحد من أبناء جلدتك ووطنك، بل ودينك أحياناً. 2- الخطورة: الغزو الفكري أخطر بكثير من الغزو العسكري، لأنه عميق التأثير في الشعوب المغزوّة، إذ يمتد تأثيره عشرات بل مئات السنين أحياناً، والشعب الذي يُحارَب بالغزو الفكري ينصرف بمحض اقتناعه هو كما يريد الغازي ... 3- البساطة: فالغزو الفكري سهل وبسيط، وأقل تكلفة من الغزو العسكري، الذي يكلف كثيراً من الدماء والطاقات1. ومما يزيد في ضراوة المعركة أن معظم الطبقة التي تملك زمام البلاد الإسلامية من المفكرين والسياسيين مع القيم الغربية قلباً وقالباً2. وزاد من خطر هذه الهجمة الفكرية، التقاء المصالح والجهود النصرانية واليهودية في التخطيط للسيطرة على العالم وتدمير الإسلام، والتقاء هؤلاء مع الشيوعيين على عداوة الإسلام، واعتباره الخطر الأول عليهم، وعملهم جميعاً على محاربته بكل الوسائل الفكرية والمادية. وقد استخدموا لهذا الغرض جيوشاًَ من المبشرين والمستشرقين، الذين

_ 1 المصدر نفسه ص35. 2 المصدر نفسه ص35.

كان دورهم هو نشر الفكر الهدام في صفوف المسلمين، وصرفهم عن المفاهيم الصحيحة التي جاء بها الإسلام في كل المجالات. وقد أدرك المستشرقون ومَنْ وراءهم من قادة الاستعمار أن عقيدة كثير من المسلمين قد شابها ما شابها من الانحراف، وعملت فيها جهود الحاقدين القديمة، ولولا ذلك ما نجحت مخططاتهم الحديثة بسهولة، ولذلك اتجهت أهدافهم إلى ترسيخ الانحراف، والعمل على منع عودة المسلمين إلى الفهم الصحيح للإيمان المستمد من الكتاب والسنة، وما كان عليه السلف الصالح، وقد عملوا لتحقيق ذلك في عدة مجالات: منها: إحياء تلك الجهود القديمة وإذكاء نارها. قال أنور الجندي: "إن من أخطر التحديات التي تواجه الإسلام في العصر الحديث ابتعاث الفكر الوثني ... القديم ... هذا الفكر الذي يجمع بين الوثنية والإلحاد والتعددية، والإشراق والمادية، والذي عرفه العرب والمسلمون بعد ترجمة الفلسفة اليونانية، والفارسية والهندية، وظهر أثره في الفلسفة وعلم الكلام، والتصوف والدعوات الباطنية المتجددة عن المجوسية وغيرها"1. ومنها: العمل على استحداث المزيد من الأفكار الضالة، والفرق

_ 1 المؤامرة على الإسلام، أنور الجندي ص5، دار الاعتصام، القاهرة ط: الأولى 1977م.

الهدامة، فلقد شجع الاستعمار قيام عدد من الفرق، والمذاهب والجماعات المنحرفة، والتي تتبنى آراء تهدم مبادئ الإسلام من أساسه، وكان الهدف من إنشاء هذه الجماعات هو: 1- ضرب الإسلام كعقيدة وشريعة، وتشكيك المسلمين في دينهم بعد أن حاولوا إبعاده عن مجال التطبيق. 2- أن تساعد هذه الفرق على إسقاط شريعة الجهاد، التي أقضّت مضاجع المستعمرين، وذلك لاستمرار سيطرتهم على بلدان العالم الإسلامي. 3- أن تساعد على إشاعة الفرقة الفكرية بين المسلمين وشغلهم بالرد على بعضهم، واستنفاد قوتهم في الجدل والمناقشات. 4- أن تساعدهم على نشر عقائدهم الباطلة، فقد تبنت هذه الجماعات كثيراً من عقائد النصارى واليهود والماركسيين، وبذلك تستخدم هذه الجماعات كمدارس تبشيرية جديدة داخل العالم الإسلامي1. ومنها: التحريض على ضرب الحركات الإسلامية، وإجهاض الدعوات التي تهدف إلى عودة المسلمين إلى دينهم، وتبصرهم بكيد أعدائهم؛ ومن هذا الباب تشويه سمعة الدعاة، ووصفهم بالتطرف

_ 1 انظر: احذروا الأساليب الحديثة في مجابهة الإسلام ص283.

والإرهاب، ونشر الافتراءات عليهم1. ومن ذلك تشجيع الدول الاستعمارية على مزاولة الضغوط على الحكومات الإسلامية، بعدم انتهاج وتطبيق أحكامه، والالتزام به في سياساتها المختلفة. وقد اعتمد المستشرقون في كيدهم الفكري وغدرهم الخفي على حيلة المنهج العقلي المتجرد وادعوا أنهم يلتزمون به، ويبحثون عن الحق في دراستهم وفق أسس منطقية، ونظرة عقلية محايدة، فخدعوا الكثير من كتّاب ورجال الفكر من المسلمين فقبلوا أقاويلهم، ومفترياتهم ظناً منهم أنها نتائج بحث علمي متجرد. والحق أن دعوى التجرد والحياد، ودعوى المنطقية العقلية لا صحة لها في الواقع، وإنما هي أوهام وظنون وخدع قولية وتلبيسات شيطانية جعلها المستشرقون ومن سار في ركابهم من الحاقدين ستاراً للطعن في الإسلام، والتشكيك في تعاليمه وزخرفة الباطل. فالباحث والناقد والدارس –مهما كان- لا بد أن يكون له منهج يسير عليه، وميزان يزن به ويُرجع الحكم إليه. فالحكم بالخير والشر، والحق والباطل، والصواب والخطإ، يختلف باختلاف البشر ومشاربهم الفكرية، وقناعاتهم الشخصية، فلا بد أن يكون عند الباحث والناقد تحديد

_ 1 انظر المصدر نفسه، ص269.

مسبق لهذه المفاهيم يحكم به، ويحتكم إليه، لكن بعض الباحثين لا يجهر بمنهجه ويدّعي التجرد من باب التدليس وإعطاء نتائجه قوة وقبولاً. أما دعوى تحكيم العقل ومنطقه، وأن هناك منطقاً عقلياً مشتركاً بين جميع الناس يزنون به الأمور ويحتكمون إليه، فهي دعوى باطلة، وفتنة قديمة متجددة، ولا وجود لمثل هذا العقل أصلاً. وإنما الموجود هو إعمال الناظر العقل في أمر ما لينظر هل يستقيم على منهجه أو لا، قال سيد قطب رحمه الله: "إن العقل المبرأ من النقص والهوى لا وجود له في دنيا الواقع، وإنما هو مثال!.. فهناك عقلي وعقلك وعقل فلان وعقل علان ... وليس هناك عقل مطلق لا ينتابه النقص والهوى، والشهوة والجهل يحاكم النص القرآني إلى مقرراته، وإذا أوجبنا التأويل ليوافق النص هذه العقول الكثير، فإننا ننتهي إلى فوضى! " 1.2

_ 1 خصائص التصور الإسلامي، سيد قطب، ص19، دار الشروق، ط العاشرة 1408هـ. 2 هذه الومضة المنهجية القيمة في فكر سيد قطب، مفادها خطأ من يزعم وجوب تحكيم العقل في نصوص الكتاب والسنة، إذا لم توافق دلائل العقول القاصرة. إلا أن سيداً عندما كتب في التفاصيل، وخاصة في التفسير، خالفها من جهتين: الأولى: وقع في التأويل المذموم، وقدم العقل ورد الآثار الصحيحة. انظر أمثلة ذلك في كتاب: المورد الزلال في التنبيه على أخطاء الظلال، للشيخ عبد الله بن محمد الدويش، العناوين الآتية من فهرس أخطاء الظلال: -أسباب النزول. ص335. -تقديمه الرأي والاستحسان على الأثر ص338. الثانية: موافقته لأهل التأويل في بعض ما ذهبوا إليه من تأويل: صفات الله تعالى، كتأويل صفة الاستواء، وكلام الله عز وجل، ورؤيته، ونحوها. انظر: المصدر السابق ص329.

وبالإضافة إلى قصور العقل في القوة، وقصوره في العلم، وتأثير الشهوة والعواطف والانفعالات عليه، فهو أيضاً متأثر بالتصورات الفكرية، والقناعات الموروثة من البيئة أو الدين، أو التعصب للجنس أو الوطن أو نحوها. ومع ذلك فإن الكافر والفاسق ميدان لوسوسة الشياطين، وإمدادهم لأعوانهم بزخرف القول والباطل، كما قال رب العالمين: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء:221، 222] . فكيف بعد هذا تقبل دعوى من هذه حاله، بالنظر الصحيح، والتجرد والحياد العلمي. وليس الغرض هو التأريخ أو استقصاء الحركات الهدامة، وجهود

الأعداء، وإنما بيان خطورة الغزو الفكري الحديث، واعتماده على الأفكار الهدامة، مما يبين أهمية العناية بالإيمان ليتحقق أثره، في تحصين الأمة ضد الأفكار الضالة بمختلف أنواعها. وسوف أورد أهم الأساليب التي استخدمها الغرب الصليبي خاصة، وتعاون على تحقيقها أعداء الأمة عامة، وجندوا أنفسهم لمحاربة الإسلام والمسلمين بها، وقد لخص هذه الأساليب صاحب كتاب: المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام فيما يلي1: 1- فتح المدارس الأجنبية في ديار المسلمين وتكثيرها وتنويعها، وإرسال القُسوس والرهبان.. ليشرفوا على هذه المدارس، ويربوا أجيال المسلمين على أعينهم، ففتحوا المدارس التي كمن التبشير والاستعمار في طيات كتبها المسمومة، وفي صور أساتذتها الحاقدين على الإسلام، والذين وهبوا أنفسهم لمكافحة الإسلام ودحر المسلمين. 2- ومنها إرسال البعوث، وتكثير الإرساليات التبشيرية لتنشر مكامن التبشير في كل مكان، وتشكك الشباب المسلم في دينه وعقيدته، وتحيطه بسياج من أوهامها وضلالاتها، ومن وسائلهم فتح المستشفيات والمستوصفات ودور التمريض لنفس الغرض الخبيث.

_ 1 المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام، محمد محمود الصواف ص17-21، دار الإصلاح، الدمام، ط: الثالثة 1399هـ.

3- ومنها إرسال أكبر قدر ممكن من شباب المسلمين وأبنائهم، إلى ديار الغرب لينهلوا من ثقافته المسمومة هناك، ويعودوا إلى ديارهم وقد ودعوا هناك دينهم، وخُلقهم ومبادئهم، ورجعوا يحملون هم الأمانة1. أمانة التبشير وحرب رسالة الإسلام. 4- ومنها نشر الكتب المفسدة العابثة المضللة، التي تشغل الشباب عن ثقافتهم الأصلية، وتلهيهم بالعبث والخيال الماجن الذي سيجرهم إلى المجون والجنون. 5- ومن هذه المخططات السيطرة قدر المستطاع على برامج التعليم في الديار الإسلامية، وتوجيه التعلم توجيهاً علمانياً2 لا يؤمن بدين ولا يصدق برسول وينطلق نحو الإلحاد والفساد. 6- ومنها نشر المجلات الخليعة، والسينمات المسمومة، والتلفزيون المشحون بما يثير غرائز الشباب، ويشغلهم بالتفكير في إشباع غرائزهم عن التفكير في مصالح أمتهم، ومستقبل دينهم وعقيدتهم وحرية

_ 1 ليست بأمانة، وإنما هي عين الخيانة. 2 العلمانية: ترجمة مضللة لمصطلح أجنبي وترجمته الصحيحة: اللادينية أو الدنيوي، وهي دعوة إلى إقامة الحياة على غير الدين، والفصل الكامل بين الدين والحياة ولا صلة لها بالعلم. انظر: الاتجاهات الفكرية المعاصرة د. جمعه الخولي ص91، والموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة ص367.

أوطانهم وأمتهم. 7- ومنها العمل المتواصل لإفساد شبابنا ورجالنا بزجاجة الخمر، وفتاة الهوى، والصورة الخليعة، والقصة الماجنة، وإرسال القينات1 والفاتنات أفواجاً أفواجاً، إلى ديار المسلمين ليفسدن باسم الفن، ويهدمن باسم الحرية، ويخربن باسم الترفيه. 8- ومنها فتح نوافذ للحضارة الغربية، والثقافة الغربية وتمجيدها، والدعاية لها، لينظر منها شباب الإسلام فيفتن بمباهجها، وتأخذه مظاهرها الخلابة الكاذبة، فيبدأ يأخذ بثقافتها ويعجب بحضارتها، ويحتقر بعد ذلك أمته وبلاده، لسوء حاضرها الماثل أمام عينيه، وقد جهل ما هو ماضيها، وفُتِن بحاضر الغربيين. حتى أصبح قلبه معهم هناك، وإن كان جسمه هنا، وروحه مع الغرب، وإن عاش في الشرق وسكنه وولد فيه. 9- ومنها السيطرة الاقتصادية والتحكم في الأسواق، وامتصاص أكبر قدر ممكن من ثروة البلاد الإسلامية، وإشاعة الفقر والبطالة بين المسلمين، وهم أي المسلمون إن اشتغلوا بدنياهم لمعالجة عوزهم، وسد حاجاتهم وفقرهم نسوا دينهم، وأُشغلوا عنه، وأهمتهم أنفسهم وأهلوهم واحتاجوا إلى الغرب يستجدونه ويستقرضون منه ويسترضونه.

_ 1 القينات: المغنيات.

10- ومنها تمجيد وإحياء الحضارات القديمة كالحضارة الآشورية1، والحضارة الفينيقية2، والحضارة الفرعونية3، وتسليط الأضواء عليها، لينبهر بها الشباب المسلم، وينسى حضارته الإسلامية الأصلية، وقد طمسوا عنه أخبارها، وشوهوا له حقائقها، وفتحوا عينيه على حضارتهم وأمجادهم ومدنيتهم الحاضرة. 11- ومنها العمل على إلغاء المحاكم الشرعية في ديار المسلمين، وإلغاء دور الإفتاء والسيطرة على أوقاف المسلمين، ونشر القوانين الوضعية ودراستها، حتى أنشئت كليات للحقوق في أكثر البلاد

_ 1 الآشورية: نسبة إلى الآشوريين، وهم الشعوب التي استوطنت العراق وما حوله من بلاد الأكراد قبل الميلاد بقرابة ألف ومائتي عام، وأقاموا دولة واسعة. انظر: الموسوعة الثقافية د. حسين سعيد ص91، مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر-القاهرة 1972م. 2 الفينيقية: نسبة إلى الفينيقيين، وهم الشعوب التي سكنت لبنان وسواحل بلاد الشام قبل الميلاد بقرابة ألفي عام. انظر: نفس المصدر ص539. 3 الفرعونية: نسبة إلى الفراعنة، وهم ملوك مصر القدامى، الذين حكموا مصر قبل الميلاد، بأكثر من ألف سنة. انظر: المصدر 712. والمراد حضارة الدول التي حكمها الفراعنة في مصر والتي ينسب إليها بناء الأهرامات، وكثير من الآثار العمرانية الموجودة الآن.

الإسلامية، ويدرس القانون الروماني والقانون الفرنسي وغيرهما من القوانين الأجنبية، ولا تدرس الشريعة الإسلامية إلا في زاوية من زواياها وهي الأحوال الشخصية فقط، أما حقائق الشريعة الإسلامية وتشريعاتها المختلفة فلا نعلم عنها شيئاً، ونجهل حتى أبسط مبادئها وأحكامها. 12- ومنا إضعاف سلطان الإسلام في نفوس المسلمين، ويقوم هذا الأسلوب على السخرية بعلماء الدين، وتصويرهم بصورة الجهلاء، الجامدين تارة، والمنافقين المستغلين لسلطان وظائفهم ونفوذهم تارة أخرى، وبت الإشاعات ونشر الاتهامات المختلفة حولهم لتقليص نفوذهم وسيطرتهم على نفوس المسلمين. ولقد نجح الأعداء إلى حد كبير في الحقبة الأخيرة من هذا القرن، حتى شوهوا سمعة العلماء الذين يؤخذ عنهم الدين وتكتسب منهم الدعوة، ويقتبس منهم نور الإسلام وحقائقه، حتى زهدوا الناس في طلب العلم الديني، وأصبح العالم الإسلامي اليوم لا يشكو نقصاً في شيء، كما يشكو النقص في علماء الدين في معظم ديار الإسلام. 13- ومن هذه المخططات تشويه حقائق الإسلام ووضع الإسلام في قفص الاتهام، والتركيز على القرآن الكريم وتوجيه الهجوم عليه، وترجمته لغرض محاربته. 14- ومنها توجيه الأدب والصحافة وجهة علمانية، لا دينية، والسيطرة على دور النشر والتوزيع، وإنشاء دور ضخمة للطباعة والنشر والتأليف، تتولى نشر ما يريد الاستعمار ورجاله في أوساط المسلمين، وقد

أنشئت فعلاً في بعض العواصم الإسلامية كثير من هذه الدور. 15- ومنها تشويه التاريخ الإسلامي، والتشكيك في حوادثه، وإبراز الجوانب الضعيفة أو المؤسفة فيه.. كما فعل كثير من المستشرقين في هذا الميدان حتى أشبعوا شبابنا حقداً على الإسلام، وكرّهوهم ونفّروهم من تراثهم وتاريخهم. 16- ومن هذه المخططات إنشاء المذاهب والمبادئ الهدامة، كالماسونية1 والبهائية2 والقاديانية3 وغيرها، وإشغال المسلمين بها

_ 1 الماسونية: منظمة يهودية سرية إرهابية، غامضة محكمة التنظيم، تهدف إلى ضمان سيطرة اليهود على العالم، وتدعو إلى الإلحاد والإباحية، والفساد، وجل أعضائها من الشخصيات المرموقة في العالم، يوثقهم عهد بحفظ الأسرار، ويقومون بما يسمى بالمحافل للتجمع والتخطيط والتكليف بالمهام. انظر: الموسوعة الميسّرة في الأديان والمذاهب المعاصرة ص449-453، واليهودية لأحمد شلبي 325-330. 2 البهائية: حركة أسسها المرزا على محمد رضا الشيرازي عام 1260هـ، تحت رعاية الاستعمار الروسي، واليهودية العالمية، والاستعمار الإنجليزي بهدف إفساد العقيدة وتفكيك وحدة المسلمين، وصرفهم عن قضاياهم المعاصرة. انظر: المرجعين السابقين. الموسوعة الميسرة ص63-65، واليهودية ص349-358. 3 القاديانية: حركة أسسها مرزا غلام أحمد القادياني عام 1900 في القارة الهندية، بتخطيط من الاستعمار الإنجليزي، وتهدف إلى إبعاد المسلمين عن دينهم وعن فريضة الجهاد بشكل خاص حتى لا يواجهوا المستعمر. انظر: الموسوعة الميسرة ص389-391، والمخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام ص354-359.

وإخراجهم من دينهم بزعامات فارغة، يوجهها رجال من الشرق والغرب وهم جميعاً أعداء الإسلام. 17- ومنها العمل على إلغاء الخلافة الإسلامية، وتفريق كلمة المسلمين وجعلهم أمماً وشعوباً مختلفة، بعد أن كانوا تحت لواء الخلافة أمة واحدة. 18- ومنها العمل على إفساد المرأة المسلمة، ثم إخراجها باسم الثقافة والحرية والديمقراطية1 سافرة ومتبرجة، وجعلها أحبولة الفساد في المجتمعات الإسلامية، ومن ثم تعطيل الأسرة، وهدم كيان المجتمع الإسلامي. 19- ومنها محاربة اللغة العربية الأصلية، والدعوة إلى العامية، أو الدعوة إلى الكتابة بالحروف اللاتينية، لقطع الصلة بين ماضي المسلمين وحاضرهم، وضياع كنوزهم العلمية التي تركها سلفهم الصالح، وكانوا بها خير أمة أخرجت للناس.

_ 1 الديمقراطية: كلمة من أصل يوناني –معناها حكم الشعب-، وتنصرف إلى كل نظام سياسي يكون الشعب فيه مصدر السلطة والتشريع، وصاحب السيادة. انظر: الموسوعة الثقافية ص466.

20- اتفاق الاستعمار والصهيونية1 العالمية على مكافحة الإسلام، ووضع قدم للاستعمار في فلسطين قلب البلاد الإسلامية بواسطة اليهود، وباسم العطف على قضاياهم وشعبهم المنكوب، وتحويل قضية فلسطين من قضية إسلامية مقدسة، إلى قضية قومية لا ارتباط لها بالإسلام؛ وحربهم لنا في القدس إنما هي امتداد للحروب الصليبية. 21- ومن هذه المخططات وأهمها وأخطرها إحياء العاطفة القومية وإثارة النعرات القومية بين المسلمين. وبعد هذا الاستعراض الموجز لأهم مخططات الاستعمار الصليبي، لهدم الإسلام، أرى أنه ينبغي الوقوف عند نقطة هامة، وهي ما ورد في رقم 20 من الإشارة إلى اتفاق الاستعمار والصهيونية العالمية على مكافحة الإسلام. وهذا الاتفاق ما تم إلا بعد التقاء المصالح اليهودية، والصليبية والذي

_ 1 الصهيونية: هي حركة يهودية سياسية، عنصرية دينية، تهدف إلى جمع الملايين من يهود العالم في كيان يهودي قومي في فلسطين، استناداً إلى مزاعم تاريخية، ودينية، واتخاذ فلسطين نقطة انطلاق لدولة كبيرة تمتد من الفرات إلى النيل، ومن ثم تكوين إمبراطورية صهيونية عالمية، تكون وريثة للحضارة الغربية. انظر: حاضر العالم الإسلامي د. جميل المصري 1/84، والموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة ص321، الندوة العالمية للشباب الإسلامي الرياض ط: الثانية 1409هـ.

تم بعد أن استطاع المحتكرون والفلاسفة اليهود، السيطرة على الاقتصاد والفكر الأوربي، فوجهوه وجهة تتلاءم مع مخططاتهم التي وضعوها لإفساد العالم تمهيداً للسيطرة عليه وإقامة دولة اليهود الكبرى1، كما ورد ذلك في تعاليم التلمود2 والبروتوكولات الصهيونية3.

_ 1 انظر: حاضر العالم الإسلامي د. جميل المصري 1/87، 88.، والإسلام والدعوات الهدامة أنور الجندي ص109-11 دار الكتاب اللبناني، ط: الأولى. 2 التلمود: معناه في اللغة العبرية التعاليم، وهو علم على ثاني كتب اليهود بعد التوراة، وهو يجمع بزعمهم التعاليم الشفهية للديانة اليهودية التي يسمونها "المشناة" وشروحها المسماة "جمارا"، وهي تشتمل على كثير من المبادئ الهدامة التي أنكرها عيسى بن مريم عليه السلام. انظر: التلمود، تاريخه وتعاليمه، ظفر الإسلام خان دار النفائس، بيروت ط: السابعة 1405هـ، واليهودية أحمد شلبي ص265 مكتبة النهضة، القاهرة ط: السابعة 1984م. 3 اشتهرت باسم بروتوكولات حكماء صهيون، وهي عبارة عن محاضر جلسات أو قرارات اتخذها المخططون اليهود في مؤتمر بال الذي عقد سنة 1897م بسويسرا سرقت بعض هذه البروتوكولات من مكتب أحد زعماء اليهود في وكر الماسونية بباريس، ونشرت لأول مرة عام 1902م، وهي عبارة عن مخططات شريرة لهدم كل ما عند الأمم غير اليهودية من الخير والفضيلة، والتخطيط لسيطرة اليهود على وسائل النفوذ والضغط والتأثير تحقيقاً لهذا الغرض، وتمهيداً لإقامة دولة اليهود الكبرى التي تسيطر على العالم. انظر: بروتوكولات حكماء صهيون، واليهودية لأحمد شلبي ص272-268.

وأرى من المناسب أن أذكر أهم المخططات اليهودية لتتبين شدة الهجمة الفكرية الموجهة إلى الإسلام، ومدى التوافق بين التخطيط الصليبي الاستعماري، واليهودي الصهيوني، وقد لخص أهم هذه المخططات صاحب كتاب الإسلام والدعوات الهدامة وسوف أذكر منها ما له صلة بكيد اليهود ضد الإسلام خاصة، فمن ذلك1: 1- محاربة الأديان بصورة عامة، وبث روح الإلحاد والإباحية بين الشعوب، والغض من قدْر وقدرة العلماء والمتخصصين في العقائد والأديان. 2- تدمير القوى البشرية، ومعنويات الأمم، واستذلالها واستعبادها. 3- السيطرة على الشباب والأطفال من أول الغايات، وتنشئتهم على الكذب، والتمويه والمخادعة وعلى الأنانية، وحب المنفعة والسعي وراءها بكل الطرق، وكسر سلطة الآباء عليهم، والاستعانة على ذلك بالأندية، والفرق الرياضية الموسيقية والفن. 4- إشعال الثورات والفتن والاضطرابات، وإنفاق الأموال الطائلة في سبيل الأغراض الهدامة. 5- إيجاد جيل من العلمانيين في العالم، لمعالجة القضايا على أساس مادي وإبعاد الآثار العقائدية والدينية عن مخططات السياسة والاجتماع.

_ 1 نقلاً بتصرف عن كتاب الإسلام والدعوات الهدامة، أنور الجندي ص104-111.

6- التركيز على المذاهب والفلسفات، وبث الدعاية للمبادئ المستقاة منها –والتي تحارب الدين- وتسميتها بأسماء جذابة كعلم السياسة، والاجتماع والاقتصاد بحيث تسود هذه المبادئ على تعاليم الدين. 7- التركيز على المرأة، والدعوة إلى تحريرها، ونزعها من الدين والأسرة واجتذابها إلى المرقص والمحافل، وتدمير الأسرة، وإفراد الرجل من عائلته وإفساد أخلاقه، وترغيبه في المعيشة المتفلّتة. 8- الدعوة إلى التعليم العلماني اللاديني، الذي يفسد قلوب الشباب، ويغرس مقوّمات الرذيلة، واقتلاع العفة من عقول الفتيات، ويجهر فيه بالإلحاد وإنكار الخالق تبارك وتعالى. 9- التحريض على الفساد: عن طريق الثقافة، والصحافة، وذلك بنشر الروايات والصور الخليعة، والأغاني البذيئة، ونشر الخرافات، وإشاعة الأدب المكشوف الإباحي، وتسهيل أسبابه عن طريق نشر الرذائل والخمر، ومحلات البغاء والملاهي. 10- إحياء الوثنيات القديمة، ومحاربة تعاليم الدين. 11- الترويج للفلسفات المادية، وبناء جميع العلوم على أساسها، وتمجيد العقل، والزعم بأن العلم العقلي هو الأساس الوحيد لكل معتقد، ورفض كل عقيدة بُنيت على أساس الوحي، والدعوة إلى الإلحاد عن طريق حرية العقيدة.

12- السيطرة قدر الإمكان على الإعلام والتعليم، ودور النشر ووكالات الأنباء، واستخدامها في إثارة الرأي العام، وإفساد الأخلاق، وتحطيم الأسرة، لتسود عبادة المال والشهوات. وقد استخدم اليهود لتنفيذ هذه المخططات عدة أساليب منها: 1- احتكار المال والصناعات الحساسة، فكثير من البنوك والشركات الكبيرة، وأسواق الأسهم والمال العالمية، بأيديهم، مما يمكّنهم من الضغط غير المباشر على رجال السياسة، بل والتأثير في مجريات الانتخابات في الدول الديمقراطية. 2- عن طريق المنظمات السرية والعلنية، ومن أشهرها وأخطرها الماسونية، وهي تسمى عند كثير من الباحثين حكومة العالم الخفية، وذلك أنها تؤثر في مجريات الأحداث عن طريق أتباعها الموجودين في جميع الدول تقريباً، والذين يتقلد بعضهم مناصب حساسة، فمنهم: الوزراء والقضاة، وضباط في الجيش، والشرطة، والمباحث، بل ومنهم رؤساء بعض الدول، ورجال الفكر، وغير ذلك من المراكز الحساسة التي لها تأثير في توجيه الشعوب سياسياً واقتصادياً وفكرياً. 3- عن طريق وسائل الإعلام. فلقد أدرك اليهود في الوقت الذي أصدروا فيه بروتوكولاتهم الصهيونية في آخر القرن التاسع عشر، أهمية الإعلام المتمثلة في ذلك الوقت في الأدب والصحافة، وأنهما أعظم قوتين تعليميتين –كما قالوا-،

لذلك قرروا شراء العدد الأكبر من الصحف الدورية –وهدفهم من ذلك الظفر بالسلطان الكبير جداً على العقل الإنساني1، وأن لا يصل طرف خبر إلى المجتمع من غير موافقتهم2. وخططوا لنشر كتب رخيصة الثمن لتعليم العامة، وتوجيه عقولهم الاتجاهات التي يرغبونها3، لكي يتمكّنوا من إثارة عقل الشعب متى أرادوا وتهدئته إذا أرادوا4، والظفر بإرادة المجتمعات غير اليهودية إلى حد أنها لا ترى أمور العالم إلا بالمناظير الملونة، التي يضعها الإعلام على عيونها5. وقرروا استخدام الإعلام لإلهاء الشعوب، عن طريق الإعلان في الصحف وغيرها من وسائل الإعلان داعين الناس إلى الدخول في مباريات شتى في مجالات: الفن والرياضة وما إليها، هذه المتع التي ستلهي ذهن الشعب حتماً. وحالما يفقد الشعب تدريجياً نعمة التفكير في المستقبل بنفسه،

_ 1 انظر: بروتوكولات حكماء صهيون ص92، الاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية، ط: الأولى 1403هـ. 2 نفس المصدر السابق ص89. 3 المصدر السابق ص91. 4 نفس المصدر ص95. 5 نفس المصدر ص90.

سيهتف جميعاً معنا –على حد قولهم1. ومن ذلك استخدام الإعلام في توجيه العقل العام نحو كل نوع من النظريات المبهرجة، التي يمكن أن تبدو تقدمية وتحررية2. والنتيجة النهائية التي يطمحون إليها من وراء السيطرة على الإعلام، هي إثمار الملحدين وتحطيم كل عقائد الأديان3. ومن أجل هذا الغرض سعى اليهود إلى شراء وإنشاء آلاف الشبكات التلفزيونية في أنحاء العالم، وسيطروا على محطات الإذاعة العالمية، وامتلكوا عشرات الآلاف من الصحف والمجلات وغيرها من الدوريات4. ولم يكتفوا بذلك بل احتكروا معظم دور النشر الفعالة في العالم، وأوجدوا لهم نفوذاً وضغوطاً على ما لا يملكونه منها5. واهتموا بشكل خاص بوكالات الأنباء، فأكثرها وأهمها بأيديهم، كما ركزوا على السيطرة على صناعة السينما والتلفزيون، والمسرح

_ 1 نفس المصدر السابق ص100. 2 نفس المصدر السابق ص100. 3 المصدر السابق ص101. 4 النفوذ اليهودي في الأجهزة الإعلامية والمؤسسات الدولية، فؤاد بن سيد عبد الرحمن الرفاعي، 11، 14، 20 دار السياسة، الكويت، ط: الأولى 1407هـ. 5 المصدر السابق ص3، وانظر: اليهودية لأحمد شلبي ص212، 213.

والثقافة، والإعلان التجاري1. وقد ساعدهم على ذلك التقاء مصالحهم مع مصالح الغرب الصليبي، في حرب الإسلام، والسعي إلى السيطرة العالمية، وتحويل العالم جميعاً إلى أنماط الحضارة الغربية. فتساعد الفريقان على تسخير الإعلام وغيره من الأساليب في تحقيق هذه الأغراض. والحق أن جهود أعداء الإسلام من الصليبيين الحاقدين، واليهود الصهاينة المفسدين، نجحت نجاحاً لم يكن يخطر لهم على بال، فتغلغلت تلك الأفكار الجاهلية والمبادئ الغربية والقيم الإباحية تغلغلاً مفزعاً في معظم المجتمعات الإسلامية. وقد ساعد على نجاحها عدة عوامل، نجملها فيما يلي: 1- ضعف الأمة الإسلامية في وقت المجابهة الفكرية الحديثة، نتيجة للانحراف الخطير في مفهوم الإيمان، وسوء المعتقد، وانتشار الفرق المخالفة والبدع. كل ذلك كان من آثار الجهود القديمة التي أثرت فيه وترسبت واختمرت حتى أصبح ينظر إليها عند كثير ممن ينتسب إلى الإسلام أنها هي الإسلام. 2- قوة التخطيط ودقته وشموله، وتظافر جهود أعداء الله من اليهود

_ 1 النفوذ اليهودي ص36-65.

والنصارى والشيوعيين، والمنافقين على تنفيذه. 3- أن هذه الجهود الفكرية الحاقدة جاءت من القوي المنتصر الذي امتلك كثيراً من زخارف الحياة الدنيا ومتعها ومغرياتها، وتقدم في العلوم الدنيوية، وبرع في الصناعة مما جعل الكثير من الناس –وخاصة الشباب- ينساق إلى فكره وينخدع بزخرف قوله. 4- وقوع كثير من الدول الإسلامية تحت الاستعمار الصليبي، أو الشيوعي المباشر حيث فرض عليه الفكر الهدام فرضاً، وأبعد الإسلام عن نواحي الحياة، وشنت عليه حرب في كل الميادين، وبخاصة الحكومات الشيوعية التي فرضت الأفكار الإلحادية وربت عليها أجيالاً، خلال وقوع كثير من البلاد الإسلامية تحت الحكم الشيوعي، الروسي والصيني لعشرات السنين. واستمر ذلك بعد الاستقلال، حيث وقعت معظم الشعوب الإسلامية تحت حكومات إن لم تكن أسوأ من الاستعمار، فليست بأحسن منه. 5- تقدم وسائل الإعلام وامتلاك قوى الشر لزمامها. لقد تقدمت الوسائل الإعلامية تقدماً مذهلاً، ومن المؤسف أن ذلك تم على أيدي أعداء الإيمان ومن أجل تنفيذ أغراضهم. فتطورت الطباعة وتنوعت أساليب النشر، وتقدم البث الإذاعي والتلفزيوني بعد استخدام الأقمار الصناعية، وتطورت بشكل خطير جداً صناعة الأفلام والمواد التلفزيونية، واخترع الفيديو الذي سهل إلى حد

كبير جهود المفسدين. وها نحن هذه الأيام نعيش بداية طامة إعلامية كبرى، أقضَّت مضاجع الغيورين على هذا الدين، وأدخلت الوحشة في قلوب المؤمنين، ألا وهي البث المباشر1. إنها ولا شك أكبر إنجاز يتحقق للشيطان في هذا العصر. وليست الخطورة في الوسيلة، وإنما الخطورة تكمن في كونها بأيدي المفسدين حزب إبليس اللعين. فهي ولا شك سلاح قوي فعال، لو كان بأيدي أهل الحق لكان قوة لهم على دعوتهم، وسعيهم للإصلاح في الأرض. وامتلاك الجاهلين لها يؤذن بشر عظيم، وخطر جسيم يتهدد عقائد المسلمين، وسلوكهم وأخلاقهم، وكل قيم الخير والفضيلة، بل ويهدف في الصميم إلى اقتلاع الإيمان من الأرض اقتلاعاً ومحو رسومه. قال الله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ

_ 1 البث المباشر: "هو قيام الأقمار الصناعية بالتقاط البث التلفزيوني في بلد من البلدان، وبثه مباشرة إلى أماكن أخرى تبعد عن مكان البث الأصلي مسافات بعيدة تحول دون التقاط البث دون وسيط". البث المباشر حقائق وأرقام د. ناصر بن سليمان العمر ص22، دار الوطن الرياض، ط: الأولى 1412هـ. وهو تعبير يطلق ويراد به غالباً بث الدول الكافرة المنحلة أخلاقياً واجتماعياً، كالدول الأوربية ومن في حكمها لبرامجها التلفزيونية مباشرة إلى الدول الإسلامية.

اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] . ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم وحسبنا الله ونعم الوكيل. وسوف تكون معظم مواد هذا البث –كما هو في قرارات المشرفين عليه- في خدمة الدول التي تسعى إلى السيطرة على العالم، والصهيونية العالمية التي تخطط لإقامة الدولة اليهودية الكبرى، والمنصّرين الذين ملؤوا الدنيا جعجعة وصراخاً مبشرين بالتثليث، وتأليه البشر، والكفر بالله. وقد عقدت مؤتمرات لدراسة كيفية الاستفادة من البث المباشر في التنصير1، كما سيكون فيها لدعاة الإباحية، ونشر الفاحشة والرذيلة حظاً وافراً. وخلاصة القول: أن الغزو الفكري الحديث أحدث انقلاباً جذرياً في حياة المسلمين، في معظم البلاد الإسلامية، وابتعد بكثير منهم عن الطريق المستقيم، وهذا الخطر ما يزال يزحف ويشتد، والمكر يتعاظم ويتنامى. {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين} [الأنفال:30] . وكان من أبرز آثاره:"تحطيم مظلة الأعراف الأخلاقية في المجتمعات الإسلامية، فانطلقت تسري في أوصالها كل موبقات الحضارة الأوربية،

_ 1 انظر: البث المباشر حقائق وأرقام 54.

حتى وصلت في ظل الاحتلال إلى مرحلة الشيوع والظهور، ثم إلى مرتبة الاستقرار والاستحسان، ثم درجة الشرعية1 التي تحميها القوانين الوافدة وتدرّج بالمغلوبين الانحلال، بداية بالسلوك الفردي فالانحراف الجماعي عن نهج الدين، واستهوت مظاهر الحياة الغربية الناس، فأقبل كثير منهم على الخمور والفجور، والقمار والربا، ونحو ذلك، ثم دب دبيب التهاون في الدين، فتناول العبادات والعقائد وغيرها، فتكاسل الناس عن أداء العبادات، وانتشر في الجو ضروب من الفلسفة، والمذاهب الضالة، واستمالت الشباب وغير الشباب، وصارت العلاقات الجنسية والنزعة الإباحية الشغل الشاغل للسينما، وكثير من المجلات والصحف.. فانحرف الشباب وفسدت روابط الأسرة2، إلا من رحم الله. وقد عمّ السيل وطمّ، بانهيار الفضائل الاجتماعية وغيرها، عندما

_ 1 الشرعية: صفة تطلق على الأمر المتفق مع الشرع، والشريعة الحق هي: شريعة الله، إلا أنه غلب إطلاقها على كل أمر أو قرار يتفق مع القوانين السائدة المعتبرة في بلاد ما، فيكون شرعياً إذا وافقها، وغير شرعي إذا خالفها، ثم أطلق اصطلاح "الشرعية الدولية" ويراد به الأمور والقرارات الصادر عن هيئة الأمم المتحدة. إلا أنه لا يجوز للمسلم وصف قرار بأنه شرعي إلا إذا كان متفقاً مع الشرع الإلهي المطهر، أما ما شرعته القوانين الوضعية، فهو وضعي باطل، ولو سمي شرعياً، فالمسلم لا يرى شرعياً إلا ما شرعه الله وأقره. والله أعلم. 2 حاضر العالم الإسلامي وقضاياه المعاصرة ص165.

شهد العالم الإسلامي تغيراً اجتماعياً استجابة لدعوات التغريب1 على يد المستعمرين ومؤسساتهم التبشيرية والاستشراقية ... ولكنه وِفْق الأسلوب الجديد، أصبح يتم على أيدي المسلمين أنفسهم من تلاميذ المستشرقين والمبتعثين، يساندهم في تنفيذ هذا المخطط بعض الحكام من المسلمين"2. كما أثمرت جهود المنصرين تنصير كثير من أبناء المسلمين الذي درسوا في مدارسهم، أو ألجأتهم الحاجة أو الإعجاب إلى اتباع دين النصارى؛ كما اعتقد كثير من المنتسبين إلى الإسلام الأفكار الكافرة، كالفكرة الشيوعية، أو القومية البعثية، أو العلمانية، أو غير ذلك من الفلسفات الضالة. وكثمرة لتشجيع المستعمرين ازدهرت المظاهر الوثنية، من عبادة القبور والحج إلى المشاهد، والطرق الصوفية الضالة التي استحوذت على كثير ممن لديهم نزعة إلى التدين في كثير من البلاد الإسلامية.

_ 1 التغريب: مصدر تفعيل من غَرَّب يغرب تغريباً، وهو مشتق من الغرب، أي: الدول الغربية الأوربية والأمريكية، ومن في حكمها. ويراد بالتغريب: تغيير قيم الأمة ومُثلها، أي تغيير عقيدتها وثقافتها وأخلاقها، وإبعاد المسلمين عن دينهم باسم المدنية، أو التطور أو التقدم، وإحلال ما يقابل ذلك في الحضارة الغربية. انظر: المصدر السابق ص165 بتصرف. 2 نفس المصدر والصفحة.

أما الاقتصاد في العالم الإسلامي، فقد أسس تأسيساً كاملاً على الربا، وعلى نظريات ونظام الغرب الرأسمالي، أو الشرق الاشتراكي الشيوعي، وأصبح موجهاً ومرتبطاً بالدول الاستعمارية، أو المنظمات الاقتصادية العالمية والتي هي في الحقيقة يد خفية للاستعمار. أما الناحية السياسية فقد توزع العالم الإسلامي إلى دويلات، ومناطق نفوذ اقتسمتها الدول الاستعمارية الغربية أو الشرقية، واستبعد الحكم بالشريعة الإسلامية من جميع البلاد الإسلامية إلا من رحم الله، وحورب محاربة شديدة، وأصبح الخلاف والخصام سمة مميزة للدول الإسلامية في علاقتها فيما بينها. وفقد المسلمون الكثير من بلادهم، وحول كثير منها إلى دول نصرانية أو شيوعية، وأعطيت فلسطين قبلة المسلمين الأولى إلى شرار الخلق من اليهود الصهاينة، فهي حال تسر العدو وتدمي قلب المؤمن الغيور. لكن مع هذا الكيد الخبيث الماكر الشديد الوطأة، ومع هذا النجاح الكبير الذي تحقق لأعداء الله، ومع الضعف والفرقة والانحراف في مجتمعات المسلمين، مع ذلك كله فالإسلام –والحمد لله- باق. فهو في جانبه العلمي محفوظ بحفظ الله {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] وما زالت طائفة من أهل الحق تلتزم به علما

وعملاً ... دعوة وجهاداً، والأمل قبل ذلك منوط بعناية الله ورعايته. فالدين دينه.. والمؤمنون أولياؤه.. والناس خلقه وعبيده.. والأمر بيده.. وأمره نافذ لا يحول دونه شيء. فليس مكر الماكرين غائباً عن رب العالمين {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:46] {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14] . ومكر الأعداء وكيدهم الجديد، وما عندهم من القوة والعدة والوسائل عظيم شديد، لا يُقدر عليه بالمقارنة بجهد البشر، وما عند المسلمين من الأسباب المادية، لكنه بإزاء قدرة الله لا يساوي شيئاً. وقد جعل الله الدنيا ميدان صراع، ولا بد لأهل الحق أن يدخلوا الميدان ويقوموا بنصرة ما أكرمهم الله به من الحق، ويدافعوا عنه، ويعملوا على مقاومة الباطل ويستعينوا بالله، ويتوكلوا عليه ويحسنوا الظن به. وهو معهم سبحانه –إذا قاموا- يوفقهم للأسباب، ويبارك في المتيسر من أسبابهم ولو كان ضعيفاً، ويكمِّل ما نقص منها، ويخذل عدوهم، ويمدهم بنصره، ويهيئ لهم من رحمته ما لا يخطر لهم على بال! فالحق قليله كثير، والباطل كثيره قليل. والحق ظاهر، والباطل زاهق.

وكل ذلك مشروط بمجيء الحق وقيام أهله به، فإذا جاء الحق زهق الباطل بإذن الله وأمره {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81] . {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ:49] . {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] . وفي كل وقت يشتد فيه الهجوم والتآمر على الإسلام، تخرج –والحمد لله- بشارات تدل على عناية الله بهذا الدين. ومن ذلك ما حصل في هذا الزمان، فقد ظهرت عدة مظاهر تبشر بالخير، من ذلك رجوع كثير من الناس رجالاً ونساء كهولاً وشباباً إلى الالتزام بالدين. ودفع الإحساس بالخطر الكثير من العلماء وطلبة العلم والدعاة الصالحين من الأدباء والشعراء، والغيورين من الموسرين إلى الاهتمام ومضاعفة الجهد، في تعليم الناس وتوعيتهم، وطبع الكتب النافعة، ودعم الأشرطة المفيدة، واستخدام كل سبيل متاح مشروع، في مقاومة أعداء الله ومخططاتهم. ووجد وعي كبير بضرورة تطهير العقائد، وإزالة البدع، والرجوع إلى الفهم الصحيح للإيمان. وازدادت المطالبة من الشعوب الإسلامية بتحكيم شرع الله، ورفض حكم الطاغوت. والتزم كثير من النساء بالحجاب، وازداد الإقبال على الجامعات

والمعاهد الإسلامية إقبالاً شديداً، وزاد الطلب على الكتاب والشريط الإسلامي، بل وتنامى عدد مَن يعتنق الإسلام من غير المسلمين. وشهد الربع الأخير من القرن الرابع عشر الهجري قيام مؤسسات ومنظمات إسلامية عالمية وجامعات متقدمة، وهدف الجميع نشر الإسلام، والدفاع عنه، والتبصير بقضايا المسلمين في أنحاء العالم، والدفاع عنها، وكشف مخططات أعداء الله، والتحذير منها، وتشجيع البحوث التي تخدم هذه المجالات كلها. كما قامت جهود إعلامية، وهي وإن كانت متواضعة جداً بالمقارنة إلى ما عند العدو، إلا أنها مباركة، ظهر أثرها الفعال في أنحاء كثيرة من العالم الإسلامي، وهي تتنامى مع الأيام، ونرجو أن يتولاها الله بالرشد والسداد. والمظاهر المباركة كثيرة والحمد لله، وذلك يدل على صلابة الإسلام في وجه الأعاصير ولو كانت شديدة، وما ذاك إلا بحفظ الله له، وأن الدين الخاتم لن يخلو منه زمان حتى يأتي أمر الله، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. ومن هذا الاستعراض الموجز للحرب الفكرية، القديمة والحديثة الموجهة إلى الإسلام نستخلص عدة نتائج هامة: الأولى: شدة عداوة اليهود والنصارى والمشركين لهذا الدين، وسعيهم الخبيث ومكرهم المستمر الذي لا يفتر في مقاومته بكل الأساليب.

الثانية: تركيزهم على الحرب الفكرية، لإدراكهم خطورتها، وأنها السبيل الأمثل لحرب الإسلام، وتحطيم قيم الإيمان، وتزداد قناعتهم يوماً بعد يوما بذلك، بفعل النجاحات التي تتحقق لهم في مجال الغزو الفكري، لذلك فهم يحاولون بقدر الإمكان عدم اللجوء إلى الحرب العسكرية إلا عند الضرورة. الثالثة: أنه يجب على أهل الإسلام مدارسة الكيفية التي يتصدون ويقاومون بها هذه الجهود الخطيرة، ولا شك أن هناك جهوداً مشكورة لكنها لم تتعد إلى الآن مجال التوعية، وبعض الأعمال الخيرية.. ولم تصل بعد إلى المستوى المطلوب، من إيجاد خطة متكاملة منسقة، يجتمع عليها العلماء والدعاة والقادة، وتتكاتف جهود أهل الإسلام على تنفيذها من منطلق قول الله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:36] . الرابعة: أن أي وسيلة أو طريق يتبناه أهل الإسلام لمقاومة هذه الجهود الفكرية العدوانية لن يؤتيَ ثماره إلا إذا كانوا على حال توجب لهم ولاية الله، فيدخلون الميدان وقد تولاهم الله وأيدهم بنصره، وحيث أن الإيمان والتقوى هو السبيل الوحيد لتحصيل الولاية، فيكون الالتزام بالإيمان الصحيح هو الخطوة والسبب الأهم في مقاومة الفكر الهدام، والتخطيط الخبيث. مع أن للإيمان آثاراً أخرى –بجانب كونه سبباً لولاية

الله- تحصن الفرد والجماعات المؤمنة ضد الفكر الجاهلي. وعلى هذا يكون هذا البحث مساهمة في تبيين أهم جوانب الخطة الإسلامية، التي ينبغي أن يهتم بها للتصدي للغزو الفكري، وتسليط للضوء على السبب الأول والأهم في هذا المجال، فأرجو من الله التوفيق والتسديد، والله المستعان.

الباب الأول: الإيمان سبب لتحصيل ولاية الله " الأثر الخارجي "

الباب الأول: الإيمان سبب لتحصيل ولاية الله " الأثر الخارجي " * ... غرض هذا الباب بيان أن الله تعالى جعل الإيمان والتقوى السبب الأوحد للحصول على ولايته، فإذا جاء العبد بشرطها -وهو الإيمان والتقوى- فإن الله يتولاه. وعلى هذا فحصول العبد على ولاية الله، أهم الآثار التي يجنيها من تحقيقه الإيمان، وولاية الله هي أغلى مطلوب، وأهم وأسمى غاية يسعى لها ذوو الألباب، إذ عليها مدار السعادة في الدنيا والآخرة. والولاية: مدار معناها في اللغة على القرب والمحبة والنصرة1. وولاية الله لعبده المؤمن: أن يعامله ويدبّر أمره بما يقتضيه قربه منه، ومعيّته الخاصة ولطفه به، فيحوطه بعنايته ورعايته، ويحفظه وينصره ويحميه، فيكون بولاية الله في حصن منيع. فالله يكفي عبده ما يهمه ويدافع عنه، ويخرجه من الظلمات إلى النور. ويصرف عنه الشرور -ومنها الأفكار الخبيثة- أو يصرفه عنها بما يهيئ له من الأسباب. وسوف أتكلم على هذا الأثر العظيم في فصلين: الفصل الأول: صفات المتحقين للولاية. الفصل الثاني: أثر ولاية الله في تخليص المؤمنين وتحصينهم من الأفكار الهدامة. وقدجاء المجال للكلام على الفصل الأول والله المستعان.

_ 1 انظر: المفردات في غريب القرآن ص533، وانظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص5.

الفصل الأول: صفات المستحقين لولاية الله

الفصل الأول: صفات المستحقين لولاية الله * ... تقدم 1 الكلام على طبيعة الإيمان المؤثر، وأهم الأسس التي يقوم عليها، وهو الإيمان الجالب لولاية الله والآثار الأخرى المباركة التي جعلها الله أسبابا تحتمي بها العبد من الفكر الخبيث، وغيره من الشرور. ولاشك أن المفهوم الصحيح للإيمان ضروري لمعرفة الطريق إلى تحصيل ولاية الله، وأنه يكون بالالتزام الكامل به. وحيث إن المسلمين يتفاوت التزامهم بالإيمان، فأرى أنه من المهم أن أذكر مراتب المؤمين لكي يتبين نصيب كل منهم من ولاية الله وحظه من التحصين ضد الشرور الفكرية وغيرها 2.

_ 1 تقدم ص 29 وما بعدها. 2 وهذا مبحث هام في هذا الباب، لذلك نجد شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله - بدأ بهذا الموضوع في بداية كتابه " الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان " وكتابه " التحفة العرقية في أعمال القلوب ".

المبحث الأول: مراتب أهل الإيمان

المبحث الأول: مراتب أهل الإيمان إن المجتمع المسلم يضم أفراداً مختلفين من حيث تحقيقهم للإيمان الذي كلفهم الله به، فمنهم من ظلم نفسه بترك شيء مما أوجبه الله عليه، أو بفعل بعض ما حرم عليه، ومنهم من التزم بالإيمان الواجب فاعلاً الواجبات تاركاً المحرمات، مبادراً إلى التوبة عند الخطيئات. ومنهم من زاد على ذلك بالمسارعة في الخيرات. وعلى هذا فهم ثلاثة أقسام على وجه الإجمال، كل قسم في مرتبة، وإن كان أهل كل مرتبة يتفاوتون فيما بينهم. وأساس تقسيم المؤمنين على هذه المراتب، هو قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32] . قوله تعالى: {الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا} أي الأقسام الثلاثة الواردة في الآية اصطفاهم الله واختارهم للإيمان والتوحيد، فهم مؤمنو هذه الأمة الذين اشتركوا في أصل الإيمان، ولم يشركوا بالله شيئاً، لكن اختلفوا وتفاوتوا في تكميل الإيمان. وقد أورد ابن جرير أقوال من قال بذلك من السلف، ورجح هذا

القول1، كما رجحه ابن كثير وغيرهما من المفسرين2. قال الشيخ عبد الرحمن3 السعدي: "اشترك هؤلاء الثلاثة في أصل الإيمان، وفي اختيار الله لهم من بين الخليقة، وفي أنه منّ عليهم بالكتاب، وفي دخول الجنة. وافترقوا في تكميل مراتب الإيمان، وفي مقدار الاصطفاء من الله، وميراث الكتاب، وفي منازل الجنة ودرجاتها بحسب أوصافهم" 4. وقبل أن أتكلم على مراتب أهل الإيمان، أتطرق باختصار إلى بيان ضابط أصل الإيمان الذي من جاء به دخل في زمرة المصطفين.

_ 1 جامع البيان 22/133، 134، 136. 2 تفسير القرآن العظيم 6/533. 3 الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله آل سعدي التميمي، ألف تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، والدرة البهية في شرح القصيدة التائية، وتوضيح الكافية الشافية، وغيرها توفي سنة 1376هـ. انظر: الأعلام 3/340 وعلماء نجد للبسام 2/422. 4 فوائد قرآنية، عبد الرحمن بن ناصر السعدي ص60، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، بيروت، ط: الأولى 1389هـ.

المطلب الأول: بيان أصل الإيمان

المطلب الأول: بيان أصل الإيمان أصل الإيمان، به يدخل العبد في الإسلام، وبه يكون اعتبار سائر الأعمال، وبصلاح ما في القلب أو فساده يكون صلاح الأعمال أو فسادها، قال صلى الله عليه وسلم:" ... ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب " 1. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فأصل الإيمان في القلب، وهو قول القلب وعمله، وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد" 2. فالتصديق: هو قول القلب، وهو المعرفة والإثبات لما دلت عليه الشهادتان. والحب: عمل القلب نحو المشهود لهما، وهو الله تبارك وتعالى في شهادة أن لا إله إلا الله، ومحمد بن عبد الله في شهادة أن محمداً رسول الله، فيحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ودينه. والانقياد: عمل القلب أيضاً، وهو القبول وعقد العزم على الامتثال لما دلت عليه الشهادتان.

_ 1 رواه البخاري، كتاب الإيمان، ح (52) الصحيح مع الفتح 1/126. 2 مجموع الفتاوى 14/119.

ولا بد مع هذا الذي يقوم بالقلب، من النطق بالشهادتين؛ وجمع بينهما الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به " 1. قال النووي2 -رحمه الله- معقباً على هذا الحديث: "وفيه أن الإيمان شرطه الإقرار بالشهادتين مع اعتقادهما، واعتقاد جميع ما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم " 3. قوله: الإقرار بالشهادتين: التلفظ بهما. مع اعتقادهما: هو قول القلب وعمله كما تقدم. واعتقاد ما جاء به الرسول ... اعتقاد أن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق في كل ما أخبر به، وليس المراد أن من شرط الإيمان أن يعرف كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ويعتقده.

_ 1 رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى ... ص (34) 1/52. 2 الإمام العلامة أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري الحوراني النووي الشافعي، ولد سنة 631هـ، له من التصانيف: شرح صحيح مسلم، والأذكار، ورياض الصالحين، والأربعون النووية، وحلية الأبرار، وغيرها كثير، توفي سنة 676هـ ببلده نوا. انظر: البداية والنهاية 13/294، وشذرات الذهب 5/354. 3 شرح النووي على صحيح مسلم 1/212.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فلا يكون مسلماً إلا من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وهذه الكلمة بها يدخل الإنسان في الإسلام ... فيكون معه من الإيمان هذا الإقرار، وهذا الإقرار لا يستلزم أن يكون صاحبه معه من اليقين ما لا يقبل الريب ... لكن لا بد من الإقرار بأنه رسول الله، وأنه صادق في كل ما أخبر عن الله" 1. وبناء على ما تقدم يتبين أن أصل الإيمان ينعقد بثلاثة أمور: الأول: النطق بالشهادتين. الثاني: قول القلب وهو العلم والتصديق بمعناهما، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق في كل ما أخبر به عن الله. الثالث: عمل القلب، وهو قبول التوحيد والبراءة من ضده، والمحبة لله ولرسوله ولدينه، والعزم على الانقياد لهما. فإذا جاء العبد بأصل الإيمان فهو مأمور مكلف بتكميل إيمانه، ليس له أمن في الحياة الدنيا ولا في الآخرة إلا بذلك، فإذا امتثل العبد الطاعات، واجتنب المحرمات، فقد استكمل عرى الإيمان الواجب، وأصبح في مرتبة المقتصد.

_ 1 كتاب الإيمان لابن تيمية، المصدر السابق ص231، 232.

روى البخاري تعليقاً أن عمر بن عبد العزيز1 كتب إلي عدي بن عدي2: "أن للإيمان فرائض وشرائع وحدوداً وسنناً، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان ... " 3.

_ 1 الإمام الراشد والخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي، أحد خلفاء بني أمية كان ثقة مأموناً، له فقه وعلم وورع، وكان إماماً عادلاً وقد عد من الخلفاء الراشدين توفي سنة 101هـ. انظر: البداية والنهاية 9/200، وسير أعلام النبلاء 5/114. 2 عدي بن عدي بن عميرة الكندي الجزري، ثقة فقيه، عمل لعمر بن عبد العزيز على الموصل، كما ولي الجزيرة وغيرها لسليمان بن عبد الملك توفي سنة 120هـ. انظر: تقريب التهذيب 388، وتهذيب التهذيب 7/168. 3 صحيح البخاري مع الفتح 1/45.

المطلب الثاني: مرتبة الظالم لنفسه

المطلب الثاني: مرتبة الظالم لنفسه إذا جاء العبد بأصل الإيمان والصلاة وبعض الطاعات، لكن عصى الله بالإخلال ببعض الطاعات، أو فعل بعض المحرمات، كان إيمانه ناقصاً بقدر مخالفته، ولا يستحق اسم الإيمان المطلق، بل هو في مرتبة الظالم لنفسه الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً. قال ابن كثير -رحمه الله-: " فمنهم ظالم لنفسه وهو المفرِّط في فعل بعض الواجبات، المرتكب لبعض المحرمات" 1. فالظالم لنفسه: هو الذي جاء بأصل الإيمان صحيحاً، وأدى الصلاة، ولكن ظلم نفسه بأن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، ومات وهو مصرّ على بعض الكبائر، ولم تبلغ كبيرته الكفر. وتُسمى مرتبة الظالم لنفسه، ويُسمى من كان من أهلها: مرتكب الكبيرة، أو الفاسق الملي، أو المسلم الظالم لنفسه. وأهل هذه المرتبة عندهم من الإيمان المجمل ما كانوا به مسلمين، وإن ماتوا عليه دخلوا الجنة، لكن لم تدخل حقيقة الإيمان في قلوبهم، وليس عندهم من المعرفة بالله ورسوله وبدينه ما يوجب لهم رسوخ الإيمان وقوة اليقين الذي يحصنهم ضد الشبهات المضللة، ويخمد الشهوات المحرمة، إلا أن يشاء الله لهم ذلك ويهيئ لهم أسبابه، قال ابن تيمية -رحمه الله-:

_ 1 تفسير القرآن العظيم 6/532.

"فعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر، أو ولدوا على الإسلام والتزموا شرائعه وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله، فهم مسلمون وعندهم إيمان مجمل، ولكن دخول حقيقة الإيمان في قلوبهم إنما يحصل لهم شيئاً فشيئاً إن أعطاهم الله ذلك، وإلا فكثير من الناس لا يصلون لا إلى اليقين، ولا إلى الجهاد، ولو شُكّكوا لشكّوا، ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا، وليسوا كفاراً ولا منافقين، بل ليس عندهم من علم القلب ومعرفته ويقينه ما يدرأ الريب1، ولا عندهم من قوة الحب لله ولرسوله، ما يقدمونه على الأهل والمال، وهؤلاء إن عوفوا من المحنة وماتوا دخلوا الجنة، وإن ابتُلوا بمن يورد عليهم شبهات توجب ريبهم، فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب وإلا صاروا مرتابين، وانتقلوا إلى نوع النفاق ... فلو ماتوا قبل المحنة والنفاق، ماتوا على هذا الإسلام الذي يثابون عليه، ولم يكونوا من المؤمنين حقاً الذين امتحنوا فثبتوا على الإيمان، ولا من المنافقين حقاً الذين ارتدوا عن الإيمان بالمحنة، وهذا حال كثير من المسلمين في زماننا، وأكثرهم إذا ابتلوا بالمحن التي يتضعضع فيها أهل الإيمان، ينقص إيمانهم كثيراً، وينافق أكثرهم أو كثير منهم، ومنهم من يُظهر الردة، إذا كان العدو غالباً، وقد رأينا ورأى غيرنا من هذا ما فيه عبرة، وإذا كانت العافية، أو كان المسلمون ظاهرين على عدوهم كانوا مسلمين، وهم مؤمنون بالرسول باطناً وظاهراً، لكن

_ 1 الريب: يكون في علم القلب ويكون في عمل القلب، بخلاف الشك فإنه لا يكون إلا في العلم. انظر: كتاب الإيمان لابن تيمية ص241.

إيماناً لا يثبت على المحنة. ولهذا يكثر من هؤلاء ترك الفرائض، وانتهاك المحرمات" 1. وهؤلاء في عداد المسلمين، تجري عليهم أحكامهم، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، لكنهم على خطر -إذا لم يتوبوا من ظلمهم ويكملوا إيمانهم- من أمرين: الأول: أن تتسلط عليهم شياطين الإنس والجن -بسبب ظلمهم- فتستجرهم بالشهوات والشبهات إلى الكفر أو النفاق. الثاني: تعرضهم للعقوبات في الدنيا والآخرة. وقد صدر التحذير من المولى القدير، بهذين الأمرين لمن عصاه وتعدى حدوده، فقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] . قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول باطناً وظاهراً {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} أي في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي في الدنيا بقتل أو حد وحبس، أو نحو ذلك" 2.

_ 1 كتاب الإيمان لابن تيمية ص 240، 241، 242. 2 تفسير القرآن العظيم 6/97.

وقد بين الله بعض أنواع العذاب الدنيوي الذي قد يعاقب به العصاة بقوله: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام:65] . أما في الآخرة فهم تحت مشيئة الله، إذا لم يأت أحدهم بشرك أو كفر. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء:48] . ثم هم بعد ذلك أقسام، وقد لخص أحوالهم في ذلك اليوم الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله- فقال: "أما الظالم لنفسه فهو المؤمن الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وترك من واجبات الإيمان ما لا يزول معه الإيمان بالكلية، وهذا القسم ينقسم إلى قسمين: أحدهما: من يرد يوم القيامة وقد كفّر عنه السيئات كلها، إما بدعاء أو شفاعة أو آثار خيرية ينتفع بها في الدنيا، أو عذاب في البرزخ بقدر ذنوبه، ثم رفع عنه العقاب، وعمل الثواب عمله، فهذا أعلى هذا القسم، وهو الظالم لنفسه.

القسم الثاني: من ورد يوم القيامة وعليه سيئات، فهذا توزن حسناته وسيئاته، ثم هم بعد ذلك ثلاثة أنواع: أحدها: من ترجح حسناته على سيئاته، فهذا لا يدخل النار، بل يدخل الجنة برحمة الله، وبحسناته وهي من رحمة الله. ثانيهما: من تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فهؤلاء أصحاب الأعراف، وهي موضع مرتفع بين الجنة والنار، يكونون عليه ما شاء الله، ثم بعد ذلك يدخلون الجنة ... ثالثهما: من رجحت سيئاته على حسناته فهذا قد استحق دخول النار، إلا أن يمنع من ذلك مانع من شفاعة أحد من أقاربه، أو معارفه ممن جعل الله لهم في يوم القيامة شفاعة، لعلوّ مقاماتهم عند الله وكرامتهم عليه، أو تدركه رحمة الله المحضة بلا واسطة، وإلا فلا بد له من دخول النار يعذب فيها بقدر ذنوبه، ثم مآله إلى الجنة، ولا يبقى في النار أحد في قلبه أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان، كما تواترت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه سلف الأمة وأئمتها" 1. وخلاصة القول أن أهل هذه المرتبة -مرتبة الظالم لنفسه- هم الذين جاؤوا بأصل الإيمان، وأدوا الصلاة، ثم زادوا على ذلك أعمالاً صالحة لكنهم خلطوها بأخرى سيئة، وإن معهم من الإيمان ما يدخلون به في

_ 1 فوائد قرآنية، عبد الرحمن السعدي ص60، 61.

زمرة المسلمين، وينفعهم في دخول الجنة إن ماتوا عليه، لكن ليس معهم من قوة الإيمان ورسوخه ما يحصنهم أمام الشهوات والشبهات، ومنها الأفكار الهدامة، لذلك يكثر منهم النفاق العملي، وتنقص ولاية الله لهم بقدر بُعدهم عن تكميل إيمانهم، كما نخلص إلى أنهم ليسوا من المعنيين بقوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس:62-64] . أما في الآخرة فإنهم من أهل الجنة، لكن منهم من يدخلها ابتداء برحمة الله ومغفرته، بعد شفاعة أو سبب آخر، ومنهم من يدخلها بعد أن يعذب في النار، والله أعلم.

المطلب الثالث: مرتبة المقتصد

المطلب الثالث: مرتبة المقتصد تقدم أن من جاء بأصل الإيمان مطالب بتكميل إيمانه بفعل الفرائض والشرائع والسنن، والانتهاء عن المحرمات والمكروهات. فمن فعل ذلك وعبد الله مخلصاً عن علم وبصيرة كان في مرتبة المقتصد وتسمى: كمال الإيمان الواجب، ويسمى أهلها: المقتصدون، والأبرار، وأصحاب اليمين. قال ابن كثير -رحمه الله-:"ومنهم مقتصد وهو المؤدي للواجبات التارك للمحرمات وقد يترك بعض المستحبات ويفعل بعض المكروهات" 1. فالمقتصد: هو الذي جاء بأصل الإيمان صحيحاً، وتقرب إلى الله بما افترضه الله عليه، وانتهى عما نهاه عنه. وقد يتساهل ببعض المستحبات، ويفعل بعض المكروهات، ويتوسع في المباحات. لكنه يبادر إلى التوبة عند المعاصي والخطيئات. وهي أدنى منازل التقوى المعتبرة في حصول ولاية الله، وذلك أن حقيقة التقوى: أن يجعل العبد بينه وبين غضب الله وقاية، هي فعل الطاعات واجتناب المحرمات2.

_ 1 تفسير القرآن العظيم 3/554، وانظر لهذا المعنى: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص16، ومدارج السالكين 1/122. 2 انظر: جامع البيان لابن جرير 1/100.

وقد بين الله تعالى أعمال البر التي من جاء بها كان من الأبرار المتقين، وهذا البيان يكفينا في معرفة حقيقة التقوى التي تُنال بها ولاية الله، فقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177] . وقد استدل بهذه الآية الإمام البخاري -رحمه الله- في باب أمور الإيمان من كتاب الإيمان1 على أن الإيمان الكامل يستلزم الأعمال الصالحة الظاهرة. وقد بين ابن حجر -رحمه الله- وجه الاستدلال بهذه الآية ومناسبتها لحديث الباب2، ثم قال: "ووجهه أن الآية حصرت التقوى على أصحاب هذه الصفات ... فإذا فعلوا وتركوا فهم المؤمنون الكاملون"3.

_ 1 صحيح البخاري مع فتح الباري 1/50. 2 ونصه: "الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان"، نفس المصدر ص51. 3 فتح الباري 1/50،51.

وبهذا يتبين أن أول منازل التقوى، هي مرتبة كمال الإيمان الواجب، التي يكون أهلها من الأبرار المستحقين لولاية الله. ومن زاد في القربة كان قدمه في الإيمان أرسخ، ونصيبه من الولاية أوفر، فيترقى إلى كمال الإيمان المستحب، ويأتي بكمال التقوى التي فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً لما به بأس "1، أي بعد أدائهم للفرائض، وانتهائهم عن المحرمات يتورعون عن المكروهات والمتشابهات، ويسارعون في النوافل والخيرات، فهم المقربون المحسنون السابقون، وسيأتي الكلام على مرتبتهم إن شاء الله. وعلى هذا فأهل هذه المرتبة -مرتبة المقتصد- جاؤوا بالإيمان والتقوى التي استحقوا بها ولاية الله، التي توجب لأهلها السلامة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:90-91] .

_ 1 رواه الترمذي، وقال: "هذا حديث حسن غريب" تحفة الأحوذي، أبواب صفة القيامة، ح (2568) 7/147. ورواه ابن ماجة في أبواب الزهد، باب الورع والتقوى، سنن ابن ماجة إعداد: مصطفى الأعظمي ح (4268) 2/428. ورواه الحاكم وقال:" هذا حديث صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي. المستدرك 4/319.

وهم من الذين قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} . [فصلت: 30-31] وبين سبحانه أنهم أهل الفلاح، وذكر أوصافهم التي أوجبت لهم ذلك والتي لا يبلغ الإيمان تمامه الواجب بدونها، فقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1-11] . وأهم ما يميز هؤلاء عمن دونهم -من الظالمين لأنفسهم- أن قلوبهم عمرت باعتقاد الأركان الستة الواردة في حديث جبريل -عليه السلام-: " قال فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه ورسله،

واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره ... " 1. فكان لاستشعار قلوبهم لهذه المعتقدات، أكبر الأثر في تعلقها بالله، ومراقبته والإخلاص في عبادته، والإشفاق من يوم القيامة. فحملهم ذلك على الاستقامة على طاعته، والانتهاء عن معصيته، متقين بذلك سخط الله وأهوال يوم القيامة. وقد بين الله ذلك من حالهم في سورة الإنسان بقوله: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} [الإنسان:5-11] . وأهل هذه المرتبة هم من المؤمنين حقاً الذين ابتُلوا فظهر صدقهم قال تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ

_ 1 رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإسلام والإيمان والإحسان ... ح (8) 1/36.

الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1-3] . وقد تقدم أن أهل مرتبة الظالم لنفسه معهم من الإيمان ما لو ماتوا عليه لدخلوا الجنة، لكن عند حصول الفتنة والابتلاء، فمنهم من ينافق، ومنهم من يدفعه الابتلاء إلى السعي إلى تحصيل العلم واليقين والعمل الصالح، فيرتفع بذلك إلى كمال الإيمان، قال تعالى: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت:11] . ولا يقف امتحانهم عند هذا الحد، بل لا يزال الله يحدث لهم من الابتلاء ما يظهر به مدى صدقهم وثباتهم، قال جل ذكره: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّر ِالصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155-157] . وسئل الرسول صلى الله عليه وسلم: أي الناس أشد بلاء. قال:" الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد، حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه

خطيئة" 1. فالابتلاء للمؤمن كالنار للذهب، يزيد في نقائه وصلابته، فلا يزال يدفعه إلى التعلق بالله واللّياذ به، ومحاسبة النفس، وإصلاح دينه، ولا يزال ثوابه يعمل عمله في تكفير سيئاته، وزيادة حسناته، حتى يكون أهلاً لولاية الله التامة، فالاصطفاء بعد الابتلاء. كما قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124] . وأهل هذه المراتب وإن كانوا من المؤمنين المتقين، المستحقين لولاية الله إلا أنهم ليسوا معصومين، فقد يصدر من أحدهم بعض الصغائر أو الكبائر، لكنهم ملازمون للتوبة مبادرون لها، كما وصفهم الله بقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ

_ 1 رواه الإمام أحمد. المسند 1/172، من حديث سعد بن أبي وقاص، والترمذي وقال:" هذا حديث حسن صحيح" تحفة الأحوذي ح (2509) 7/78. وابن ماجة في أبواب الفتن، باب الصبر على البلاء، سنن ابن ماجة إعداد محمد الأعظمي ح (4072) 2/386. وصححه ابن كثير في التفسير ط الشعب 6/273، وله شاهد عند الحاكم من حديث أبي سعيد الخدري، وقال عنه:" صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي، المستدرك 4/307.

يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] . ولا تخرجهم هذه المعاصي، وإن كانت كبائر تابوا منها، من هذه المرتبة. أما ما أعده الله من النعيم لأهل هذه الدرجة، فقد بين الله تعالى أنه مع عظمه، إلا أنه أقل من نعيم المقربين الذين جاؤوا بكمال الإيمان المستحب، فمن ذلك قوله تعالى: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُدْهَامَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:62-78] . وفي سورة الواقعة: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ

أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً لأَصْحَابِ الْيَمِينِ ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة:27-40] . وفي سورة الإنسان: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} [الإنسان:11-22] . ففرق سبحانه بين ما أعده من النعيم لأصحاب اليمين، وما أعده للمقربين المحسنين في سورة الواقعة والرحمن، وأشار إلى شيء من ذلك في سورة المطففين فقال في وصف الأبرار: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ

مَخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:22-28] . ففي قوله: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} ذكر شراب الأبرار، وشراب المقربين، قال ابن جرير -رحمه الله- في المراد بقوله: تسنيم: "وأما سائر أهل التأويل، فقالوا: هو عين يمزج بها الرحيق لأصحاب اليمين، وأما المقربون فيشربونها صرفاً" 1. وسوف يأتي مزيد من البيان لهذا المعنى عند الكلام على مرحلة السابق بالخيرات إن شاء الله. وخلاصة القول أن أهل مرتبة المقتصد هم الذين جاؤوا بكمال الإيمان الواجب، وعبدوا الله على بصيرة، وسلمت قلوبهم من الشرك والريب، وأمراض الشبهات والشهوات، كما سلمت أعمالهم من الإصرار على معاصي الله، فهم ملازمون لطاعته واستغفاره. وهم في الدنيا أهل ولاية الله وعنايته وتسديده ... ولا يمنع ذلك من أن تصيبهم بعض المصائب والمكروهات، تمحيصاً للذنوب، وتحقيقاً للصبر والإيمان، وزيادة في الحسنات، ورفعة في الدرجات، وتكفيراً للسيئات. وفي الآخرة يتولاهم الله أيضاً، فيؤمّنهم من الفزع الأكبر، ويدخلهم

_ 1 جامع البيان لابن جرير 30/108.

الجنة ابتداء قد حرم الله عليهم النار، لكن لا يمنع ذلك من أن ينال بعضهم بعض المكروه عند الموت، أو في القبر، أو في الحشر، تكفيراً لما قد أصاب في الدنيا من المعاصي. وفي الجملة هم أهل السلامة والأمن في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:30-33] .

المطلب الرابع: مرتبة السابق بالخيرات

المطلب الرابع: مرتبة السابق بالخيرات وتسمى كمال الإيمان المستحب، وهي درجة المقربين المحسنين والسابقين والمسارعين في الخيرات من الأنبياء والصديقين. فهم المقربون الذين تقربوا إلى الله "بالنوافل بعد الفرائض، ففعلوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات، فلما تقربوا إليه بجميع ما يقدرون عليه من محبوباته، أحبهم الرب حباً تاماً كما قال تعالى في الحديث القدسي: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه" 1 يعني الحب المطلق ... " 2. وهم المحسنون، الذين كمّلوا مراتب الإسلام والإيمان، وارتفعوا إلى مرتبة الإحسان، فعبدوا الله كأنهم يرونه، فإن لم يكونوا يرونه فقد استشعروا رؤيته لهم، وبذلوا ما استطاعوا من النفع لعباده، فجمعوا بين الإحسان في عبادة الرب، ومعاملة الخلق. وأعظم ما تميزت به هذه الطائفة هو قوة معرفتهم بالله، بشهود وحدانيته، واستحقاقه وحدهُ للألوهية، واستشعار قلوبهم لمعاني صفاته من خلال تفكرهم بآياته الكونية، وتدبرهم لآياته التنزيلية.

_ 1 رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع ح (6502) 11/340. 2 الفرقان بين أولياء الرحن وأولياء الشيطان ص16.

فهم أهل الإيمان الراسخ القائم على العلم بالله، وملائكته وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره من الله تعالى، وعلى الإخلاص في عبادته. فعندهم من قوة التصديق واليقين بذلك ما ارتفعوا به إلى أعلى منازل الإيمان، وتحصلوا به على أوفر الحظ من ولاية الرحمن، وحازوا به أعلى الدرجات في الجنان. قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "ومن منازل إياك نعبد، وإياك نستعين منزلة اليقين وهو من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، وبه تفاضل العارفون وفيه تنافس المتنافسون، وإليه شمر المشمرون"1. وقال أيضاً: "ومتى وصل اليقين إلى القلب، امتلأ نوراً وإشراقاً، وانتفى عنه كل ريب وشك وسخط، وهم وغم، فامتلأ محبة لله وخوفاً منه، ورضىً به، وشكراً له، وتوكلاً عليه، وإنابة إليه ... "2. وهم أهل الإخلاص لله الذين حققوا شهادة أن لا إله إلا الله "فأعمالهم كلها لله، وأقوالهم لله، وعطاؤهم لله، ومنعهم لله، وحبهم لله، وبغضهم لله، فمعاملتهم ظاهراً وباطناً لله وحده ... "3 كما حققوا شهادة أن محمداً رسول الله، بالتمسك بشريعته، واتباعه فيما جاء به عن

_ 1 مدارج السالكين 2/413. 2 نفس المصدر 2/414. 3 نفس المصدر 1/195.

ربه، "أعمالهم كلها وعباداتهم موافقة لأمر الله، ولما يحبه ويرضاه، وهذا هو العمل الذي لا يقبل من عامل سواه"1 فهم كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163] ، وهم عباد الله الذين جاؤوا بالعبودية الحق، فتعلقت قلوبهم بربهم، وكمل خضوعهم وإنابتهم إليه، أحبوه غاية الحب، وقدموا محبته ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم على النفس والأهل والمال والولد، فمحبته بعثت فيهم الرجاء، والمسارعة إلى مرضاته، والشوق إلى لقائه، كما عظموه تعظيماً حرك فيهم جانب الخشية، وعدم الأمن من مكر الله. فكان استشعار قلوبهم لعبودية ربهم، وفقرهم وحاجتهم إليه، ولحقيقة الألوهية وعظمة الخالق، وعمرانها بمحبته، وخشيته وتعظيمه، أعظم باعث لهم على الأنس بالله، وإيثار مرضاته، والاشتغال بما يقربهم منه، ويحببهم إليه عن الاشتغال بفضول حظوظ النفس، فزهدوا فيما لا يحتاجون إليه من المباحات. واطمأنت قلوبهم بطاعة الله، وأنست نفوسهم، وذلت ألسنتهم لذكره، وخضعت جوارحهم لاتباع شرعه، فذاقوا من حلاوة الإيمان ما حملهم على تقديم أرواحهم وأموالهم وقواتهم وأوقاتهم في سبيل الله،

_ 1 نفس المصدر 1/195.

بالجهاد أو المرابطة أو التعليم، أو الدعوة والنصح للمسلمين خاصتهم وعامتهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. أو غير ذلك من الأمور التي فيها مرضاة الرب، ومنفعة الخلق، فهم أولياء الله وخاصته وصفوته من خلقه. وقد وردت صفاتهم في كثير من آيات القرآن الكريم، وحيث أنهم يشتركون مع الأبرار في كل ما تقدم من الصفات والأحوال، إلا أن هؤلاء زادوا عليهم في تلك الصفات كيفا وكما، وزادوا عليها أعمالاً أخرى من المندوبات. ويمكن التمييز بين الآيات التي عمت الفريقين والتي خصت المقربين بأمور منها: أنه يرد في ذكر صفات الفريق الأول تسميتهم: الأبرار، أو أصحاب اليمين، أو المقتصدين أو نحوها، ويصف الفريق الثاني: بالمحسنين، والمقربين، والسابقين، والمسارعين، والسابقين بالخيرات، وعباد الله أو عباد الرحمن ... ونحوها. أو أن يرد في ذكر الفريق الأول وصفهم بالقيام بالعبادات المفروضة، وفي الفريق الثاني وصفهم بملازمة الأعمال المندوبة والمسارعة فيها، إشارة إلى أنهم تجاوزوا المفروض إلى المندوب. وقد يذكر معها بعض الفرائض. ومستند هذا الضابط الأخير هو حديث أبي هريرة المشهور في ذكر الأولياء وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قال: من عادى لي ولياً فقد

آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت، وأنا أكره مَساءته "1. وقال ابن تيمية -رحمه الله-: " ... فالأبرار أصحاب اليمين هم المتقربون إليه بالفرائض، يفعلون ما أوجب عليهم، ويتركون ما حرم عليهم، ولا يكلفون أنفسهم بالمندوبات، ولا الكف عن فضول المباحات، وأما السابقون المقربون فتقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض، ففعلوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات ... " 2. وقال ابن رجب -رحمه الله- تعليقاً على حديث الأولياء المتقدم: "فقسم أولياءه المقربين قسمين: أحدهما: من تقرب بأداء الفرائض، ويشمل ذلك فعل الواجبات، وترك المحرمات، لأن ذلك كله من فرائض الله التي افترضها على عباده. الثاني: من تقرب إليه بعد الفرائض بالنوافل ... " 3. وبهذا الضابط يتيسر -بإذن الله- تمييز ما اختص به هؤلاء من

_ 1 تقدم تخريجه، ص (211) . 2 الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص16. 3 جامع العلوم والحكم ص340.

الأوصاف القرآنية مما يشركهم فيه الأبرار. ففي قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62،63] . يدخل كلا الفريقين، حيث يصدق على كل منهما وصف الإيمان والتقوى. وفي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] . فيه زيادة معية، لمن زاد في التقوى إلى درجة الإحسان. ومن ذلك ما ورد في سورة الذاريات حيث وصفهم ربنا بالتقوى والإحسان بقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات:15،16] . ثم ذكر بعد ذلك أعمالاً هي من المندوبات التي لازموها بعد الفرائض فقال: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:17-19] . ففي قوله: حق للسائل والمحروم لم يقيده بأنه معلوم كما في سورة المعارج حيث قال: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ

وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24-25] . ففي الذاريات: المراد صدقة النفل، أي يجعلون في أموالهم على أنفسهم حقاً للسائل والمحروم تقرباً لله1، ومما يقوي أن المراد هنا الصدقة النفل أنها قد ورد ذكرها في أمور كلها من التطوعات. أما في المعارج: "فالظاهر أنه الزكاة لوصفه بكونه معلوماً، ولجعله قريناً للصلاة"2، ويقوي ذلك: أنه ورد ذكرها مع أمور كلها مفروضة، واجب التزامها فعلاً وتركاً. فتكون أوصاف سورة الذاريات للمتقين المقربين المحسنين. وفي سورة المعارج للمتقين الأبرار. وقد وصفهم الله بأنهم عباد الله وعباد الرحمن إشارة إلى أنهم حققوا العبودية وكمّلوها، والوصف بالعبودية من أجلّ وأحسن الأوصاف، قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "والله تعالى جعل العبودية وصف أكمل خلقه وأقربهم إليه"3. ولعل أشمل ما جاء في ذكر أوصافهم وأعمالهم، وأنهم جمعوا بين الإيمان الواجب والمستحب، ما ورد في سورة الفرقان، قال تعالى:

_ 1 فتح القدير، محمد بن علي الشوكاني 5/84، دار المعرفة، بيروت. 2 نفس المصدر 5/293. 3 مدارج السالكين 1/102.

{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} [الفرقان: 63-77] . وكما ورد تفضيل المقربين في الصفات، ورد تفضيلهم في النعيم

يوم القيامة. ففي سورة الواقعة ذكر سبحانه نعيم المقربين السابقين بقوله: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الأَخِرِينَ عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً} [الواقعة:10-26] . وفي المراد بالتكرار في قوله: والسابقون السابقون قال الإمام ابن القيم رحمه الله: " ... فيكون المعنى السابقون في الدنيا إلى الخيرات هم السابقون يوم القيامة إلى الجنات، والسابقون إلى الإيمان هم السابقون إلى الجنان، وهذا أظهر، والله أعلم" 1. وفي قوله: ثلة من الأولين، وقليل من الآخرين رجح ابن كثير رحمه الله أن المراد بقوله: "ثلة من الأولين أي من صدر هذه الأمة،

_ 1 حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح للإمام ابن قيم الجوزية ص115، القاهرة، مطبعة المدني، 1384هـ.

وقليل من الآخرين أي من هذه الأمة"1. وفي سورة الرحمن ذكر الله نعيم المقربين المحسنين بقول: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ} [الرحمن:46-60] . ويدل قول: هل جزاء الإحسان إلا الإحسان على أن الجزاء من جنس العمل، فحيث إنهم جاؤوا بالإحسان الذي هو أكمل مراتب الإيمان، كمّل الله لهم النعيم يوم القيامة. وقد تقدمت الإشارة إلى شراب أهل الجنة، وأن الله فرّق بين شراب المقربين، وشراب الأبرار بقوله: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي

_ 1 تفسير القرآن العظيم 4/284.

ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:25-28] . وفي هذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فالمقربون يروون بها، فلا يحتاجون معها إلى ما دونها، فلهذا يشربون منها صرفاً، بخلاف أصحاب اليمين، فإنها مزجت لهم مزجاً، وهو كما قال تعالى في سورة الإنسان: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} [الإنسان:5، 6] .فعباد الله هم المقربون المذكورون في تلك السورة"1. فيرى شيخ الإسلام رحمه الله أن عباد الله في قوله تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} في سورة الإنسان، هم المقربون المذكورون في قوله تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} في سورة المطففين. وحول هذا المعنى قال ابن كثير رحمه الله في تفسير آية الإنسان: "أي هذا الذي مزج لهؤلاء الأبرار من الكافور هو عين يشرب بها المقربون من عباد الله صرفاً بلا مزج ويروون بها ... " 2. وكما فاضل بينهم في الشراب، فاضل بينهم في اللباس والحلي،

_ 1 الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص15. 2 تفسير القرآن العظيم 4/454.

فذكر نوعين أعلاهما للمقربين، والآخر لأصحاب اليمين. قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله الله تعالى: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان:21] : "وهذه صفة الأبرار، وأما المقربون فكما قال تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23] "1. وخلاصة القول: أن المقربين هم الذين جاؤوا بكمال الإيمان المستحب، وأخلصوا حياتهم لله اعتقاداً وقولاً وفعلاً وتركاً، على حد قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163] . وهم أهل ولايته التامة، وعنايته الفائقة، والتي ورد بيانها في الحديث القدسي وفيه قال تعالى: " ... وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه"2، فهم في الدنيا عباد الله المخلصون، أعلى العباد علماً وعملاً وخُلقاً، وفي الآخرة هم سكان الفردوس الأعلى، نسأل الله الكريم من فضله.

_ 1 تفسير القرآن العظيم 4/457. 2 رواه البخاري، سبق تخريجه، ص (211) .

المبحث الثاني: أهل ولاية الله

المبحث الثاني: أهل ولاية الله بعد هذا الاستعراض لدرجات المؤمنين وصفات كل منهم وأعمالهم وحكمهم في الدنيا والآخرة، يسهل التعرف على أولياء الله الذي تولاهم بعنايته ونصرته في الدنيا، وكرامته في الآخرة. فقد تبين أن أولياء الله المعنيين بقوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62،63] . على نوعين: النوع الأول: المقتصدون الأبرار أصحاب اليمين، الذين جاؤوا بكمال الإيمان الواجب، الذي هو أول مراتب التقوى الموجبة لولاية الله وعنايته والسلامة والأمن في الدنيا والآخرة. النوع الثاني: المقربون المحسنون السابقون بالخيرات، الذين جاؤوا بكمال الإيمان المستحب الذي هو أعلى مراتب التقوى. وقد بين الله هذين النوعين من أوليائه في حديث أبي هريرة الذي تقدم ذكره، حيث بين النوع الأول بقوله: " وما تقرب إلي عبدي بأحب إلي مما افترضته عليه ". وبين النوع الثاني بقوله: " وما يزال عبدي يتقرب

إلي بالنوافل حتى أحبه "1 ... الحديث.2 وقد تقدم في المبحث السابق بيان أهم صفات كل نوع وأعمالهم، مما يغني عن إعادته هنا. وبذلك يخرج من كان في مرتبة الظالم لنفسه من ولاية الله المطلقة، وإن كان من زمرة المسلمين كما تقدم، وذلك أن أولياء الله لهم السلامة والأمن في الدنيا والآخرة، والظالم لنفسه متوعد على تفريطه، كما في قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] . وبهذا يتضح سر انخذال المسلمين في هذا الزمان وغيره من الأزمنة الماضية، وهو أنهم فقدوا ولاية الله الجالبة لمعونته، ورعايته وتأييده، لظلمهم أنفسهم بالانغماس في الشهوات المحرمة، أو الخوض في الشبهات المضلة، فابتعدوا عن تكميل الإيمان الواجب شيئاًَ فشيئاً، وحجب الله ولايته عنهم، كذلك، حتى أصبحوا غثاء كغثاء السيل، وتداعت عليهم الأمم، إلا من رحمه الله منهم، ممن تمسك بالعهد الأول، وسار على منهج السلف الصالح، ملازمين لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، متجافين عن البدع والمحدثات، فهم الطائفة المنصورة، الذين أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم ببقائهم على

_ 1 رواه البخاري، تقدم تخريجه ص (212) . 2 انظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص15.

الحق ظاهرين حتى يأتي أمر الله -جعلنا الله بمنه وفضله منهم. كما تبين أيضاً من خلال ما تقدم أن الإيمان الذي نبحث في أثره والذي به تستجلب ولاية الله هو الإيمان الكامل، القائم على العلم بالله، والقيام بحق الله، فيعرف المسلم ربه بأسمائه وصفاته، وأفعاله الواردة في الكتاب والسنة، ويعتقد تفرده -سبحانه- بذلك، كما يعتقد تفرده بأنه الإله الحق الذي يجب أن يعبد وحده؛ ثم يقوم بحق الله تعالى الذي بيّنه صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ بقوله: " فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً " 1؛ وأنواع العبادات وكيفياتها التي شرعها الله لعباده وارتضى منهم أن يتقربوا إليه بها، قد جرى بيانها في الكتاب والسنة، وطبقها الرسول صلى الله عليه وسلم عملياً؛ فيجب الالتزام بذلك، وعدم الزيادة عليه؛ والميل عن ذلك خروج عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وميل وانحراف عن طريق الولاية. فطريق الولاية يقوم على ركنين هامين: الأول: الإخلاص في العبادة، فيبتغي المؤمن بجميع أعماله وجه الله، قياماً بحقه وطلباً لرضوانه وثوابه، وخوفاً من سخطه وعقابه، ولا يلتفت القلب إلى غير الله بطلب النفع أو دفع الضر، ولا يقصد بشيء من العبادات غير الله.

_ 1 متفق عليه: البخاري، كتاب الجهاد، باب اسم الفرس والحمار، ح (2856) 6/58. ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً ح (30) 1/58.

الثاني: صدق المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعبد الله بما شرع مقتدياً به، مستمسكاً بسنته، لا يخرج عليها بالغلو والبدع، ولا يتحلل منها بالمعاصي وعدم الالتزام. قال ابن رجب رحمه الله: " ... فظهر بذلك أن دعوى طريق يوصل إلى التقرب إلى الله تعالى، وموالاته ومحبته، سوى طاعته التي شرع على لسان رسوله، ممن ادعى ولاية الله ومحبته بغير هذا الطريق، تبين أنه كاذب في دعواه" 1. وقبل أن أتجاوز هذا المبحث، إلى التعرف على آثار ولاية الله في تحصين المسلم، ضد المخاطر والأفكار الهدامة، يجدر أن أتعرض بمزيد من العناية لأمر مهم وعظيم، هو الأساس والركن الأهم لتحصيل ولاية الله، بل بدونه يتعذر الحصول عليها، ألا وهو التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده، والكفر بالطاغوت، والبراءة من الشرك وأهله.

_ 1 جامع العلوم والحكم ص340.

المبحث الثالث: العناية بأهم سبب لحصول الولاية

المبحث الثالث: العناية بأهم سبب لحصول الولاية تقدمت الإشارة إلى أن إخلاص العبادة لله، أهم دعائم الإيمان والتقوى التي هي الطريق لولاية الله، ومن المناسب أن أذكر بعض النصوص التي تبين أهمية هذا الأمر، وأن الله أولاه عناية خاصة، وأكد على أنه الخطوة الأولى والأساس في السعي لتحصيل ولايته. ومما يزيد الحاجة للتركيز على هذا الأمر حاجة المسلمين اليوم إليه لاستجلاب ولاية الله، وتغافل بعض الدعاة والعاملين لنصرة هذا الدين عنه أو جهلهم بأهميته. فقد بين الله تعالى أنه خلق الجن والإنس لعبادته، أراد هذا منهم إرادة شرعية تعلقت بها حكمته، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] . وأعلمَهم في كتبه، وعلى ألسن رسله، أنه لا يكفي مجرد العبادة، بل يجب أن تكون خالصة، من ذلك قوله تعال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40] . وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ

وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] . وبين ذلك خاتم رسله صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحاديث منها حديث معاذ وفيه قال صلى الله عليه وسلم: " فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً "1. والإخلاص وقصد الله وحده، بالتأله والعبادة، هو تحقيق معنى شهادة أن لا إله إلا الله. وأما أنواع العبادة، وكيفية أدائها، وكيف يكون الإخلاص فيها، وما هي خوارم العبادة ومبطلاتها، فتؤخذ مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي ومن فعله. قال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54] . وقال: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف:3] . وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] . وجاء التحذير الشديد من مخالفة ما جاء به صلى الله عليه وسلم، من ذلك قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ

_ 1 تقدم تخريجه ص180.

سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] . وقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] . وقال صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا ما ليس منا فهو رد "1. وقال: " من رغب عن سنتي فليس مني " 2. والنصوص التي تقرر وجوب الإخلاص في العبادة، ووجوب متابعة النبي صلى الله عليه وسلم وتحذر من الشرك والبدع كثيرة، أكتفي بما ذُكر لأخلص إلى المقصد، وهو التدبر لبعض ما جاء في ذكر أولياء الله، أو طريقهم، والتعرف على مظاهر الولاية، وما ورد فيها من التنبيه على أن التوحيد هو الأساس والسبب الرئيس لحصولها لهم. فمن ذلك ما تقدم من النصوص في ذكر أوصاف أولياء الله -بنوعيهم الأبرار والمقربين- والتي يتجلى فيها التأكيد الشديد على ملازمتهم للتوحيد، وكمال تعلق قلوبهم بربهم، وإخلاصهم في عبادته،

_ 1 متفق عليه: البخاري كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فهو مردود، ح (2697) 5/301. ومسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، ح (1718) 3/1343. 2 متفق عليه: البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح ح (5063) 9/ 104. ومسلم، كتب النكاح، باب استحباب النكاح ... ح (1401) 2/1020.

وخلاصة ما بينته تلك النصوص من أوصافهم هي: 1-التوحيد بإخلاص العبادة لله تعالى. 2-ملازمة طاعة الله واجتناب معاصيه، مع التركيز على الصلاة والصدقة فرضاً ونفلاً. 3-الإيمان باليوم الآخر وأثره على سلوكهم. 4-الصبر على طاعة الله، وعن معصيته، وعلى أقداره. ويظهر ذلك جلياً في سورة الإنسان التي ذكر فيها أوصاف الأبرار وفي سورة الفرقان التي ذكر فيها أوصاف المقربين. وسورة يوسف-عليه السلام- لهذا المراد شاملة، حيث اشتملت على قصة ولي من أولياء الله، ذكر فيها مظاهر ولاية الله له وعنايته به، وأسباب تلك الولاية. وقبل استعراض مظاهر ولاية الله ليوسف -عليه السلام- والتي هي فعل الرب تبارك وتعالى به، وأسباب تلك الولاية والتي هي فعله -عليه السلام- الذي تحصّل به على ولاية الله، قبل استعراض ذلك، أرى من المناسب أن أطرح بين يدي ذلك مقدمات مهمة ... فسورة يوسف -عليه السلام- من السور المكية، والتي تميزت بالإكثار من قصص الأنبياء والأمم السابقة1 ... "ليكون قصصهم عبرة

_ 1 المدخل لدراسة القرآن الكريم، محمد محمد أبو شهبة، ص229، دار الكتب الحديثة للطباعة، القاهرة، ط: الثانية 1973.

وموعظة لأولي الألباب، لبيان أن دعوة الرسل جميعاً واحدة، وأنهم جاؤوا بالتوحيد الخالص، والإيمان بالله وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وأن الأنبياء وأتباعهم لاقوا كل أنواع الإيذاء في سبيل عقيدتهم، ومع ذلك صبروا وثبتوا على عقائدهم، وكان النصر والعاقبة لهم والهزيمة والخذلان لأعدائهم ... "1. والقصص القرآني نزل منجماً، ليعالج واقع المسلمين في الدعوة المحمدية، وخاصة في العهد المكي، مهمته الإيحاء السريع والتأثير القوي بضرب القدوة أو الموعظة البليغة. وبعض القصص يقصد به إنذار الكافرين بذكر ما حل بأسلافهم الأولين من العقاب الأليم في الدنيا، وأن عاقبة الكفر سيئة لا محالة. والبعض الآخر كشأن سورة يوسف -عليه السلام- يقصد بها بشارة المسلمين بحسن العاقبة في الدنيا، وعظيم الأجر في الآخرة، وتسليتهم وتثبيتهم بذكر قصص أسلافهم، وعناية الله بهم، كما يقصد بها أيضاً تجلية الطريق إلى ولاية الله، وبيان أهم دعائمه لكي يلازموه. وسورة يوسف نزلت في ظروف خاصة، ومرحلة متميزة مرّ بها السابقون الأولون في مكة، وقد عالجت هذه القصة القضايا المطروحة في ساحة المواجهة مع الكفار، وفي الخواطر المختلجة في المشاعر والأفكار. فإن كان المسلمون يعذبون ويتآمر عليهم أهلهم وأقاربهم، وإن

_ 1 أبو شهبة المصدر السابق ص229، 230.

كانوا يضطرون إلى الهجرة والغربة عن بلادهم، وإن كان بعضهم يسجن ويحاصر في الشِعب، وفريق منهم يرزح تحت ذل الرق ... وإذا كانت الشياطين توسوس في قلوبهم: كيف تعذبون وتضطهدون وتُستذَلّون وأنتم عباد الله وأوليائه؟ كيف وهو الملك الذي لا يعجزه شيء؟ كيف والذين يعذبونكم هم أعداؤه المستحقون بكفرهم عقابه؟ لماذا يتأخر الانتصار لكم والعقاب عليهم مع وجود الموجب لهما فيكم وفيهم؟ إذا كانوا يلاقون صنوف العذاب، والابتلاء الجسمي والمعنوي، فهذا الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف -عليه السلام- اجتمعت عليه أكثر هذه الأمور ... تآمر عليه أقرب الناس إليه، وتغرّب عن بلده، وذاق مرارة الرق، وآثر السجن على الفتنة في الدين ... وابتُلي وصبر. إذاً فالابتلاء سنة الله الجارية لتمحيص أوليائه، فهو دليل الكرامة لا الإهانة، وهو عنوان الصدق في الإيمان. ومع ما حملته القصة من التسلية والتثبيت، حملت أيضاً البشارة بأن العاقبة سوف تكون لهم، وأنها العزة والتمكين، جاء ذلك تلميحاً من خلال ما آل إليه أمر يوسف، وتصريحاً في قوله: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يوسف:56، 57] .

أما مظاهر الولاية فهي ظاهرة في آيات هذه السورة، بل إن القصة كلها استعراض لعناية الله ورعايته لوليه -يوسف عليه السلام- حيث تولاه صغيراً بحفظه ورعايته، ثم اجتباه وعلّمه من تأويل الأحاديث، وأتم عليه النعمة كما أتمها على أبويه إبراهيم وإسحاق، وآتاه علماً وحكماً، وصرف عنه السوء والفحشاء، وجعله من عباده المخلصين، ثم مكنه في الأرض وآتاه من الملك، وجمع شمله بأهله بعد أن أظهر فضله ومكانته لهم ... أما سبب الولاية فقد ذكره الله بقوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:22] . وقوله: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يوسف:56، 57] . وقوله: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90] . فبين سبحانه سبب ذلك، وأنه الإحسان والصبر، وبين الإحسان بأنه الإيمان والتقوى، اللذان هما شرط الولاية. ثم إنه من أجل حصول التأثير التام من هذه القصة للصحابة الذين

نزلت عليهم أول مرة، والذين يعانون ما يعانون من العذاب والابتلاء أن يذكر السبب بوضوح تام، لكي يلتزموا به ويقتدوا بنبي الله يوسف -عليه السلام-، فيحصل لهم ما حصل له من حسن العاقبة في الدنيا، والأجر العظيم في الآخرة. إذاً من الضروري أن توضح هذه القصة طبيعة الإحسان، الذي جاء به يوسف، بياناً يتناسب مع الاستعراض الموسع لأطوار القصة. فيا ترى ما هي أهم معالم هذا الإحسان، الذي استحق به يوسف -عليه السلام- هذه الولاية التامة؟ هل هو إعراضه عن الفاحشة مع قوة الدافع إليها؟ لا شك أن السياق لا يوحي بذلك، فقد جعل الله إعراضه عن الفاحشة من آثار ولايته له، فهو الذي عصمه وصرف عنه ذلك بسبب إحسانه السابق، قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] . لقد بين الله ذلك الإحسان غاية البيان، في سياق يدل على أنه هو السبب الرئيس والأهم لولايته وعنايته بيوسف ... قال جل ذكره مخبراً عن يوسف -عليه السلام- وهو يبين لصاحبية في السجن بعض مظاهر ولاية الله له: {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف:37] .

ثم ذكر سبب عناية الله به وتعليمه بقوله: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:37-40] . إذاً فسبب الولاية هو التوحيد الخالص، الذي ترتكز عليه الحنيفية ملة إبراهيم -عليه السلام-. فيوسف عليه السلام لازم ملة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فأتم الله نعمته عليه كما أتمها عليهم. وكذلك كل من جاء بعدهم عليهم إذا أرادوا ولاية الله، أن يأتوا أولاً وقبل كل شيء بالحنيفية التي لا يلابسها شائبة من الشرك، بين الله ذلك أتم البيان حيث أخبر أن إبراهيم -عليه السلام- إنما حاز على تلك المرتبة العالية من الولاية بكمال توحيده، ثم أمر النبي محمداً صلى الله عليه وسلم باتباعه في ذلك فقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِراً

لَأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120-123] . فالسبيل لتحصيل ولاية الله واحد، هو: الحنيفية القائمة على التوحيد الخالص والتي كان عليها إبراهيم -عليه السلام- وتبعه يوسف عليه السلام، وأُمر محمد صلى الله عليه وسلم باتباعها، لذلك قال تعالى في آخر السورة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف:108] . أي سبيل يوسف وآبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب هي سبيل جميع أولياء الله من النبيين وأتباعهم من لدن آدم -عليه السلام- وإلى أن يرث الله الدنيا ومن عليها. وبعد هذا الاستعراض لقصة وليّ من أولياء الله، ومعرفة مظاهر ولاية الله له، وسر تلك الولاية، أستعرض قصة مجموعة من الفتيان تولاهم الله وأشاد بهم في كتابه حامداً صنيعهم. بين سبحانه مظاهر ولايته لهم بقوله: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الكهف:13-14] . فتجلت ولايته لهم بأن زادهم إيماناً وربط على قلوبهم ... ثم ذكر سبب هذه الولاية فقال: {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ

نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً} [الكهف:14-16] . إذاً سبب ولاية الله لهم هو تمسكهم بالتوحيد، ولو أدى بهم الحال إلى الفرار من الأهل والوطن في سبيل المحافظة عليه. ولا يخفى ما لهذه القصة من عظيم الأثر على المسلمين في العهد المكي، الذين اضطرهم الوضع القائم إلى الهجرة إلى الحبشة وغيرها، حفاظاً على التوحيد، فقد كانوا يجدون في هذه القصة الأُنس وحسن العزاء، مما يزيد في ثباتهم وتطلعهم إلى فَرَج الله. وإذا كان التوحيد الخالص، ومجانبة الشرك هو الركن الأهم في استجلاب ولاية الله للفتى يوسف -عليه السلام-، ولفتيان الكهف، نجد أن الله تعالى جعله الشرط الأهم لولايته للجماعة المسلمة، بيّن ذلك قولُه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ

الْفَاسِقُونَ} [النور:55] . فقد وعد الله الجماعة المؤمنة بولايته وعنايته، وبين مظاهر الولاية بأنها: الاستخلاف في الأرض، والتمكين فيها، فتكون لهم العزة والغلبة، ويبدل خوفهم أمناً، وبيّن السبب الذي إذا جاؤوا به تحصّلوا على تلك الولاية. هذا السبب هو الإيمان والأعمال الصالحة المذكورة في أول الآية، وبين في آخر الآية أنها يجب أن تكون خالصة. فالإيمان يجب أن يكون خالصاً لا تلابسه أي شائبة من الشرك، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] . والأعمال الصالحة يجب أن تكون خالصة يُبتغى بها وجه الله وحده، كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] . وبعد هذا الاستعراض لبعض نصوص القرآن الواردة في ذكر الأولياء، وسبب حصولهم على ولاية الله، وضرورة التوحيد لهذا السبب، أستعرض بعض الأحاديث التي اعتنت بهذه الأمور. فمن ذلك حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- وفيه قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، فقال لي: " يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله

يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك، ما نفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصحف "1. وفي هذا الحديث أوجز الرسول صلى الله عليه وسلم سبب الولاية بقوله: احفظ الله: ومظاهر الولاية بقوله: يحفظك وتجده تجاهك، فقوله: احفظ الله: "يعني احفظ حدوده وحقوقه، وأوامره ونواهيه، وحفظ ذلك هو الوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده، فلا يتجاوز ما أمر به وأذن فيه إلى ما نهى عنه" 2.فإذا جاء المؤمن بذلك فقد جاء بسبب الولاية. وقوله صلى الله عليه وسلم: يحفظك: "يعني أن مَن حفظ حدود الله، وراعى حقوقه حفظه الله، فإن الجزاء مِن جنس العمل ... وحفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان: أحدهما: حفظه له في مصالح دنياه، كحفظه في بدنه وولده، وأهله

_ 1 رواه الترمذي، وقال:" حديث حسن صحيح" تحفة الأحوذي ح (2635) 7/220. وقال ابن رجب:" وبكل حال فطريق حنش التي خرجها الترمذي حسنة جيدة" جامع العلوم والحكم ص174. وصححه الألباني في ظلال الجنة في تخريج السنة ح (318) 1/138. 2 جامع العلوم والحكم ص174.

وماله ... النوع الثاني من الحفظ، وهو أشرف النوعين: حفظ الله للعبد في دينه وإيمانه، فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة، ومن الشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه عند موته فيتوفاه على الإيمان ... "1. ونوع ثالث من الحفظ، وهو حفظ الله لعبده بعد موته، فيثبّته عند سؤال القبر ويقيه عذابه، ويؤمّنه عند الفزع الأكبر من أهوال يوم القيامة، وكرباتها، ويدخله الجنة وينجيه من النار. وقوله صلى الله عليه وسلم: تجده تجاهك:"معناه أن من حفظ حدود الله، وراعى حقوقه، وجد الله معه في كل أحواله، حيث توجه، يحوطه، وينصره، ويحفظه ويوفقه ويسدده {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] " 2. وبعد أن بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم سبب الولاية، ومظاهرها بكلمات موجزة هي من جوامع الكلم الذي أوتيه، نبه على أمر مهم لا يستقيم للعبد المجيء بسبب الولاية بدونه، خصه بالذكر، وإن كان داخلاً ضمن قوله: احفظ الله لأهميته، وكونه الأساس الذي يقوم عليه ذلك السبب، هذا الأمر هو تحقيق التوحيد، وقصد الله بالعبادة، والالتجاء إليه وحده، بيّن

_ 1 المصدر السابق ص175، 177. 2 نفس المصدر ص177.

ذلك بقوله: " إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله ". وبيّن له أيضاً: أن تحقيق التوحيد لا يحصل إلا بتعلق القلب بالله، وكمال التوكل عليه، وعدم الالتفات إلى غيره، واليأس من جميع الخلق، وقطع الطمع في حصول النفع أو دفع الضر منهم، فقال: " واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك، ما نفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ". والسر في ذلك أن من كمل اعتقاده بأن كل ما يرجوه من خير في الدنيا والآخرة فهو بيد الله وحده، وكل ما يخافه من الشر في الدنيا والآخرة فلا يقع إلا بأمر الله وحده، فإنه عندئذ يكمل تعلُّق قلبه بربه، ويتوكل عليه، ولا يقصد إلا هو بالسؤال والاستعانة وسائر العبادات. ثم بعد ذلك نبهه إلى أمر آخر لا يستقيم الأمر الثاني -تحقيق التوحيد بكمال تعلق القلب بالله والتوكل عليه- إلا به، هذا الأمر هو الإيمان بالقدر. قال ابن رجب -رحمه الله-: "واعلم أن مدار جميع هذه الوصية على هذا الأصل، وما ذكر قبله وبعده فهو متفرع عليه، وراجع إليه، فإن العبد إذا علم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له من خير أو شر، ونفع وضر، وأن اجتهاد الخلق كلهم على خلاف المقدور غير مفيد البتة، عَلِم حينئذٍ أن الله وحده هو الضار النافع، المعطي المانع، فأوجب ذلك للعبد توحيد ربه عز وجل، وإفراده بالطاعة، وحفظ حدوده، ... فمن يعلم أنه

لا ينفع ولا يضر، ولا يعطي ولا يمنع غير الله أوجب له ذلك إفراده بالخوف والرجاء والمحبة والسؤال، والتضرع والدعاء، وتقديم طاعته على طاعة الخلق جميعاً، وأن يتقي سخطه ولو كان فيه سخط الخلق جميعاً ... "1. فالإيمان بالقدر باعث على التوكل، وتعلق القلب بالله، والتوكل على الله، وكمال تعلق القلب به هو أساس التوحيد، والتوحيد بإخلاص العبادة لله، وصدق الالتجاء إليه هو أساس العبودية، والركن الأهم في طريق الولاية. ومن ذلك ما تضمنته قصة أصحاب الغار من أهمية إخلاص العبادة في استجلاب ولاية الله، ومعونته ونصره لعباده عند الشدائد، هذه القصة رواها عبد الله بن عمر2 -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم، حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم:

_ 1 جامع العلوم والحكم ص183. 2 الصحابي الجليل عبد الله بن عمر بن الخطاب الهاشمي، القرشي، أسلم وهو صغير وهاجر مع أبيه، وهو ممن بايع تحت الشجرة، وأحد فقهاء الصحابة توفي سنة 73هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 3/203، وتهذيب التهذيب 5/328.

اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي في طلب شيء يوماً، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاسيقظا فشربا غبوقهما. اللهم إن كنتُ فعلت ذلك ابتغاء وجهك، ففرّجْ عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي، فأردتها عن نفسها، فامتنعت مني، حتى ألمّت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار، على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت، حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرجْ عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها. قال النبي صلى الله عليه وسلم: وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم، غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أدّ إليّ أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر، والغنم والرقيق. فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئاً. اللهم إنْ كنتُ فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرجْ عنا ما نحن فيه.

فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون " 1. ففي هذا الحديث يقص النبي صلى الله عليه وسلم على أمته قصة نفر تولاهم الله، مبيناً مظاهر ولاية الله لهم، وسبب هذه الولاية، مرغباً في الاقتداء بهم. فمظاهر ولاية الله لهم أنه قَبِلَ دعاءهم، وفرّج ما هم فيه من الشدة، فأزاح الصخرة عن فم الغار، فخرجوا يمشون. أما سبب هذه العناية فهو الأعمال الصالحة التي جاء بها كل منهم، من بر الوالدين، والعفة عن الزِّنَى مع قوة الدافع، وتهيُّؤ الأسباب، وحفظ أجرة الأجير وتنميتها ثم أدائها مع ثمرتها دون أن يأخذ مقابلاً على ذلك. لكن الرسول صلى الله عليه وسلم ركز على أمر مهم، وكررّه مع كل فعل من هذه الأفعال، ليبين لهم أنه السبب في صلاحها، ووقوعها ذلك الموقع الحسن عند الله حتى أثمرت لهم تلك العناية الفائقة. هذا الأمر هو الإخلاص وقصد الله وحده، بفعل الجميل وترك القبيح، بيّن ذلك بقول كل واحد منهم: " اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك، فأفرج عنا ما نحن فيه ". مما تقدم يتبين أن التوحيد الخالص هو الأساس والمحور لعلاقة العبد

_ 1 متفق عليه -واللفظ للبخاري، كتاب الإجارة باب من استأجر أجيراً فترك أجره، ح (2272) الصحيح مع الفتح 4/449. ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب قصة أصحاب الغار الثلاثة والتوسل بالأعمال الصالحة، ح (2743) 4/2100.

بربه، وأن قرب العبد من الله، وحصوله على ولايته، إنما يتحقق إذا عرف العبد ربه معرفة صحيحة، ثم تعلق قلبه به محبة وخوفاً ورجاء، ثم قصده وحده بعبادته، ولم يصرف جنس تلك العبادات لغيره، ملتزماً بما شرع سبحانه من العبادات، مقتدياً برسول الله صلى الله عليه وسلم في أدائها، مستقيماً على ذلك. ولا شك أن القرآن الكريم وسنة سيد المرسلين، وواقع دعوته وسيرته صلى الله عليه وسلم كان المحور الذي يدور عليه كل ما تقرر فيها من قضايا أو أحداث هو توحيد الله عز وجل. وقد بين تبارك وتعالى أن التوحيد هو الأساس في العبودية الصحيحة، التي تورث ولاية الله لعبده وقربه منه، وبين ما يقابل ذلك من الشرك، وكيف يبعد صاحبه عن ربه، ويهوي به في متاهات الظلمات والحيرة والشرور. وأوضح النصوص المبينة لبعد المشركين عن ولاية الله وعنايته، قول الله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:30، 31] . قال ابن جرير رحمه الله: " ... فإنه من يشرك بالله شيئاً من دونه، فمثله في بُعده عن الهدى، وإصابة الحق، وهلاكه وذهابه عن ربه، مثل من

خرّ من السماء، فتخطفه الطير فهلك، أو هوت به الريح في مكان سحيق"1. فالمشرك بعيد عن حقيقة الإيمان بالله، بعيد عن ولاية الله، بعد السماء عن ذلك المكان السحيق، قد تخلى الله عنه، ووكله إلى نفسه وشركه، فتردى في مهاوي الهلاك، فإما هوى يتفرق به في شعب الخسار، أو شيطان يطوح به في متاهات الضلال أعاذنا الله من ذلك. وقد بين سبحانه أن الشرك أعظم أسباب الخذلان، فقال: {لاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} [الإسراء:23] . وبهذه الآية بدأ الله جملة وصايا وحِكَم هي مقومات الحياة السعيدة الكريمة للناس، أفراداً وجماعات، حيث قال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} الآيات [الإسراء:23] . وختم تلك الوصايا بقوله: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} [الإسراء:39] . فبدأها بالتحذير من الشرك، وبيان عاقبته في الدنيا، وأنها الذم والخذلان.

_ 1 جامع البيان لابن جرير 9/13.

وختمها كذلك بالتحذير منه، وبيان عاقبته في الآخرة، وأنها دخول صاحبه جهنم ملوماً مدحوراً، وفي ذلك التنبيه على أن التوحيد هو المقصود من جميع التكاليف، فيجب أن يكون ملازماً لكل عمل من أوله وآخره، فالتوحيد هو الأول، والآخر بالنسبة لعمل المؤمن، وهو الأساس الذي يحكم سيره، ويمضي من أجله حياته. ولعل فيما تقدم كفاية في بيان أهمية التوحيد في استجلاب ولاية الله، وأنه الركن الأول والأساس في الإيمان بالله، والذي لا يمكن الحصول على ولاية الله بدونه، وأن الشرك يؤدي إلى خذلان الله للإنسان، وتلاعب شياطين الإنس والجن به، وهلاكه وتخبطه في متاهات الضلال. والمقصود من هذا الفصل بيان أثر ولاية الله في حماية المؤمن من الأفكار الضالة التي تستهدف زعزعة إيمانه وسلوكه. وقد تقدمت الإشارة إلى أن حصول ولاية الله للمؤمن هو أهم وأغلى ثمرات الإيمان، لما ينتج عنها من إمداد الله لعبده بالعون والنصرة، والدفاع عنه وحمايته. ويمكن تقسيم مظاهر ولاية الله لعباده المؤمنين على وجه الإجمال إلى قسمين: الأول: نوع محدد معين جعل الله الإيمان سبباً له، يحصل بحصوله ويرتفع بعدمه. مثل: الطمأنينة، والنور والفرقان، والألفة والمحبة الناتجة عن الأخوة

الإيمانية ... ونحوها. الثاني: قسم غير محدد، وهو أن يحدث الله لعبده من آثار ولايته ما يتناسب مع حاله أو حاجته. ومثال ذلك: أنه تعالى يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويجعل لهم مخرجاً، ويدافع عنهم ويرزقهم من حيث لا يحتسبون ... ونحوها. فالنوع الأول سيجري الكلام عليه -إن شاء الله- في البابين القادمين، كل في موضعه. فالطمأنينة والنور والفرقان -ونحوها- في الباب الثاني الأثر القلبي. والرابطة الإيمانية -الألفة والمحبة- في الباب الثالث الأثر الاجتماعي. أما النوع الثاني فيجري الكلام عليه في هذا الفصل.

الفصل الثاني: أثر ولاية الله في تخليص المؤمنين وتحصينهم من الأفكار الهدامة

الفصل الثاني: أثر ولاية الله في تخليص المؤمنين وتحصينهم من الأفكار الهدامة المبحث الأول: مظاهر ولاية الله لعبده المؤمن * ... المبحث الأول: مظاهر ولاية الله لعبده المؤمن إن مظاهر ولاية الله لعبده المؤمن كثيرة، فهو سبحانه يحوطه بعنايته، ورعايته في كل المجالات، والغرض هنا هو ذكر بعض المظاهر الواردة في النصوص في مجال حفظ الله لعبده من الوقوع في الأفكار الهدامة وأسبابها. وسوف أتكلم على ما تيسر منها في مطالب مستقلة.

المطلب الأول: إخراجه من الظلمات إلي النور

المطلب الأول: إخراجه من الظلمات إلى النور ذكر الله تعالى في كثير من الآيات أنه يهدي المؤمن إلى صراطه المستقيم. والهداية تستلزم الحماية من الضلال وأسبابه، بل إن الإخراج من ظلمات الضلال، مقدّم على الهداية إلى الصراط المستقيم واستمراره لازم لاستمرارها، بين ذلك تبارك وتعالى بقوله: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:15، 16] . فقدم سبحانه {َيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظُّلُمَاتِ ... } على {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وهذا نظير قوله تعالى في فعل العبد: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256] . والضمير في قوله: {َيُخْرِجُهُمْ} و {َيَهْدِيهِمْ} راجع إلى {مَنِ اتَّبَعَ

رِضْوَانَهُ} فدل على أن هذا إخراج وهداية لمن كان عنده أصل ذلك، لأنه لا يتبع رضوان الله أحد إلا ويكون مهتدياً، فيكون المعنى والله أعلم: إن ذلك تثبيت لهم وعناية بهم في مستقبل أمرهم، وترسيخ لقدمهم في الصراط المستقيم، واستمرار لحمايتهم من أسباب الغواية والضلال. وهذا نحو قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [النساء:66-68] . كما دل أيضاً قوله: {َيُخْرِجُهُمْ} و {َيَهْدِيهِمْ} على أن هذا فعله -سبحانه وتعالى –وعنايته وولايته لعبده المؤمن. وقد دل على هذه الفائدة والتي قبلها قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:257] . فهذه الآية ونحوها من أشمل الآيات دلالة على هذا المقصد، حيث دلت على أن من جاء بالإيمان الكامل، فإن الله يتولاه بأن يخرجه من الظلمات بصرفها عنه، أو صرفه عنها، ويوفقه للنور ويثبته عليه.

فالظلمات: هي ظلمات الكفر، والنور: هو نور الإيمان. قال الرازي1: "أجمع المفسرون على أن المراد ههنا من الظلمات والنور: الكفر والإيمان، فتكون الآية صريحة في أن الله تعالى هو الذي أخرج الإنسان من الكفر وأدخله في الإيمان" 2. والظلمات: تشمل كل الأمور التي ممارستها والتلبس بها كفر، سواء كانت اعتقادية أو قولية أو فعلية، كما تشمل الأسباب والوسائل المؤدية إليها كالشبهات ومثيرات الشهوات ... ورد في تفسير المنار: "الظلمات هي الضلالات التي تعرض للإنسان في كل طور من أطوار حياته، كالكفر والشبهات التي تعرض دون الدين، فتصد عن النظر الصحيح فيه، أو تحول دون فهمه والإذعان له، وكالبدع والأهواء التي تحمل على تأويله، وصرفه عن وجهه، وكالشهوات والحظوظ التي تشغل عنه وتستحوذ على النفس حتى تقذفها في الكفر ... "3.

_ 1 محمد بن عمر بن الحسين القرشي الرازي الطبرستاني، الأصولي المفسر المتكلم، ألف التفسير الكبير، والمحصل، والمطالب العالية. توفي سنة 106هـ. انظر: وفيات الأعيان 4/248، وسير أعلام النبلاء 21/500. 2 التفسير الكبير للرازي 7/20 ط الثانية، دار الكتب العلمية، طهران. 3 تفسير القرآن الحكيم، الشهير بتفسير المنار، محمد رشيد رضا، 3/41 دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت ط: 2، ت بدون.

فالكفر الأكبر الذي هو تكذيب الرسل وما جاؤوا به، والشرك الذي هو الإيمان بالله وبوجود شركاء معه، والنفاق الاعتقادي أو العملي، والخروج عن الدين بالغلو، أو البدع أو المعاصي بمختلف أنواعها ... كل ذلك من الظلمات ... وولاية الله لعبده المؤمن تضمن له الحماية من ذلك كله. والنور: يشمل كل الأمور التي ممارستها أو التلبس بها إيمان، سواء كانت اعتقادية أو قولية أو فعلية، كما يشمل الأسباب المؤدية إليها كالعلم الصحيح ... وقد تقدم الكلام على تفصيل هذا عند الكلام على طبيعة الإيمان الذي يجري البحث في آثاره. وحول ما دلت عليه الآية: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} من طبيعة ولاية الله للمؤمنين، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، قال ابن جرير رحمه الله: "يعني تعالى بقوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} نصيرهم وظهيرهم، يتولاهم بعونه وتوفيقه {يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ} يعني بذلك يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وإنما عنى بالظلمات في هذا الموضع الكفر، وإنما جعل الظلمات للكفر مثلاً، لأن الظلمات حاجبة للأبصار عن إدراك حقائق الإيمان، والعلم بصحته وأسبابه، فأخبر تعالى ذكره أنه ولي المؤمنين ومبصرهم حقيقة الإيمان،

وسُبله وشرائعه وحججه، وهاديهم فموفقهم لأدلته المزيلة عنهم الشكوك، بكشفه عنهم دواعي الكفر، وظلم سواتر أبصار القلوب" 1. فدل كلامه رحمه الله على أن مظاهر ولاية الله للمؤمنين في مجال إخراجهم من الظلمات وهدايتهم للنور يكون بأمرين: الأول: العلم المزيل للجهل، ويشمل العلم بحقيقة الإيمان وسبله وشرائعه وحججه. كما يشمل العلم بسبل الضلال الذي يجعل المسلم حذراً منها، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55] فالله –سبحانه- متولي أمور المؤمنين يوفقهم إلى الخروج من الظلمات ويُمدهم في الهداية، بإعانته لهم على استعمال ما أودعه فيهم من الحواس والعقل في التفكر في آيات الله الكونية والتدبر لآياته التنزيلية، فتستنير قلوبهم، ويرسخ إيمانهم لتظافر الأدلة ووضوحها وإدراك القلوب لها، وتزيد معارفهم بتفاصيل الحق، وما يضاده من طرق الضلال، فكلما عرضت لهم شبهة أو شهوة لاح لهم –من عناية الله بهم- أمر مما استقر في قلوبهم من ذلك، أو مما يفتح به عليهم، يتضح لهم به زيف الشبهة،

_ 1 جامع البيان لابن جرير 3/14، 15.

ويطفئ نار الشهوة {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201، 202] . أما الذين كفروا فإن الله يتخلى عنهم ويخذلهم، فتتلقفهم طواغيت الجن والإنس يتلاعبون بعقولهم وقلوبهم، ويركسونهم في الباطل، {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:202] . قال الشيخ محمد رشيد رضا1في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257] . "أي لا سلطان على نفوسهم إلا لتلك المعبودات الباطلة، السائقة إلى الطغيان، فإذا كان الطاغوت من الأحياء الناطقة، ورأى أن عابديه قد لاح لهم شعاع من نور الحق الذي ينبههم إلى فساد ما هم فيه، بادر إلى إطفائه، بل إلى صرفهم عنه بما يلقيه من حُجب الشبهات، وأستار زخارف الأقوال التي تقبل منه لأجل الاعتقاد أو بنفس الاعتقاد2، وإذا

_ 1 محمد رشيد علي رضا القلموني –البغدادي الأصل، الحسيني النسب، صاحب مجلة المنار، نشأ في القلمون من أعمال طرابلس الشام، ثم رحل إلى مصر سنة1315هـ، ألف: الوحي المحمدي، وتفسير القرآن وغيرها، توفي سنة 1354هـ. انظر: الأعلام 6/126، ومعجم المؤلفين 9/310. 2 ليس بين قوله:"لأجل الاعتقاد" أو "بنفس الاعتقاد" فرق كبير، والذي يظهر لي –والله أعلم- أن مراده بقوله:"لأجل الاعتقاد" أي من أجل اعتقادهم بصحة ما يدعيه هذا الطاغوت من استحقاقه للعبادة بأي شكل من أشكالها، وما يتبع ذلك من محبته وتعلق القلب به، فإنهم يقبلون ما يقوله. وقوله:"بنفس الاعتقاد" أي أنهم يعتقدون فيه العصمة، وأنه لا ينطق إلا بالحق-وكثيراً ما يدعي الطواغيت ذلك- فهذا الاعتقاد يجعلهم يقبلون ما يقوله، ويسلمون به.

كان الطاغوت من غير الأحياء، فإن سدنة هيكله وزعماء حزبه، لا يقصرون في تنميق هذه الشبهة، وتزيين تلك الشهوة" 1. الثاني: تطهير القلوب من الشكوك، ودواعي الكفر الساترة لأبصار القلوب: فالقلوب تصح وتمرض. وأساس صحتها وحياتها هو الإيمان الصحيح، القائم على العلم المستمد من الوحي، وعلى الإخلاص، وما ينتج عن ذلك من العمل الصالح. ومرض القلب في مقابل ذلك هو الدافع إلى الكفر والنفاق والمعاصي، وهداية الله للمؤمنين وإخراجهم من الظلمات إلى النور، يلزم منها تطهير قلوبهم من الدوافع الجانحة. وسيأتي تفصيل هذا الأثر عند الحديث عن الأثر القلبي للإيمان في الباب الثاني –إن شاء الله-.

_ 1 تفسير المنار محمد رشيد 3/40، 41.

إلا أن إخراج الله عباده المؤمنين من الظلمات إلى النور لا يقف عند هذين الأمرين اللذين نص عليهما ابن جرير رحمه الله، بل إنه سبحانه يهيئ لهم من لطفه بهم، أسباباً تصرفهم عن كل ظلمة تكون في طريقهم، أو تصرفها عنهم، وبذلك يكون هذا الأثر عاماً في كل سبب يؤدي إلى خلاص المؤمن من أفكار الجاهلية وخصائصها. قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق:2، 3] . ففي هذا السياق المبارك بيّن سبحانه ثلاثة مظاهر لولايته لعبده المتقي، وهي: أولاً: يجعل له مخرجاً، أي فرجاً وخلاصاً مما وقع فيه من الشدائد والمحن1، ومن ذلك الفتن وانتشار الأفكار الهدامة، ودعوات الضلال والفرقة في الدين، فإنها من الشدائد التي كثيراً ما تمر على المسلمين، فييسر الله لعبده طريقاً للسلامة والنجاة. روى ابن جرير عن قتادة2 –رحمهما الله- في قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ

_ 1 انظر: فتح القدير للشوكاني 5/241. 2 الإمام العلامة المفسر قتادة بن دعامة السدوسي البصري، روى عن أنس بن مالك، وسعيد بن المسيب وغيرهما، توفي سنة 117هـ. انظر: وفيات الأعيان 4/85، وسير أعلام النبلاء 6/269.

اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} . قال: "من شبهات الأمور والكربات عند الموت"1. الثاني: يرزقه من حيث لا يحتسب، أي يقدر الله لوليه ما يحتاج إليه وما يصلح شأنه من وجه لا يخطر بباله ولا يكون في حسابه2. ومسألة الرزق وتجاوز الحد في الحرص على المصالح الدنيوية، من أكبر ما يصد الناس عن طريق الله، ويعرضهم للفكر الهدام، ويكون مصيدة ينصبها أعداء الله لعباده المؤمنين، وسيأتي تفصيل ذلك –إن شاء الله- عند بيان أثر الإيمان في تطهير القلوب من الحرص على الدنيا، فإذا كفى الله وليه هذا الجانب فأعطاه وأرضاه، انتفى الدافع، وزال الحرص، وسلم له دينه. الثالث: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} . أي أن: "من وثق بالله فيما نابه كفاه ما أهمه" 3.

_ 1 جامع البيان 28/139. 2 انظر: فتح القدير 5/242. 3 المصدر السابق.

ولا شك أن من أشد ما يهم المسلم هو خوفه من الفتنة في الدين. لذلك كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك "1.ويأتي مزيد إيضاح لهذا المعنى في المطلب التالي.

_ 1 رواه الإمام أحمد، المسند 6/302، 315 من حديث شهر بن حوشب. والترمذي وقال:"هذا حديث حسن"، أبواب الدعوات 5/199. وصححه الألباني في ظلال الجنة في تخريج السنة 1/100.

المطلب الثاني: تثبيت المؤمن عند الشدائد

المطلب الثاني: تثبيت المؤمن عند الشدائد الشدائد هي النوازل والأمور المضرة التي يشتد وقعها على المؤمن، وقد تضعف نفسه عن تحملها ومقاومتها، ويُخشى عليه فيها أن تزل قدمه فتصدر منه أعمال أو أقوال، أو ظنون ترديه في دينه أو دنياه. ولا شك أن من أعظم الشدائد التي عاناها المسلمون في مختلف عصورهم هي جهود أعدائهم من محاولة فتنتهم بمختلف الوسائل {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْل} [البقرة:217] . ومن ذلك الوسائل الفكرية التي تهدف إلى التأثير على السلوك، وزعزعة العقائد بالفكر الخبيث، والتي اشتد وقعها في القرون المتأخرة، حيث عمت المصيبة في الدين، ونجم النفاق، وانتشرت أسباب الفساد، وارتفعت أصوات الناعقين بالكفر، والشبهات والتلبيسات، وتسلط الأعداء على المسلمين وظهروا عليهم. فالله تعالى يتولى عبده المؤمن في مثل هذه الأحوال، فيثبته ويربط على قلبه، ويهديه ويهيئ له من الأسباب ما يعينه على الخلاص منها. قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي

الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] . وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن:11] . وورد في رواية الإمام أحمد -رحمه الله- لحديث ابن عباس –رضي الله عنهما- قوله صلى الله عليه وسلم: " احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرّفْ إلى الله في الرخاء، يعرفك في الشدة " 1. فالمؤمن الذي تعرَّف إلى الله في الرخاء، بتحقيق التقوى، يجد ثمرة تلك المعرفة عناية وحماية من الله له في الشدة، فالله هو الشكور الحميد. فما أحوج المسلمين في هذا العصر إلى الالتزام بالإيمان الصحيح الراسخ، الذي هو السبب في تحصيل ولاية الله، فيهدي قلوبهم ويثبتهم على الصراط المستقيم، ويصلح أحوالهم، ويلهمهم رشدهم، ويبصرهم بما فيه صلاح دينهم ودنياهم.

_ 1 رواه الإمام أحمد، المسند 1/307 من حديث ابن عباس. وصححه الألباني في ظلال الجنة في تخريج السنة ح318 1/139.

المطلب الثالث: الحيلولة بينه وبين ما قد يقوم في قلبه من الإرادات السيئة

المطلب الثالث: الحيلولة بينه وبين ما قد يقوم في قلبه من الإرادات السيئة وكما أن عناية الله لعبده المؤمن تكون بحمايته من الفتن والشرور الخارجية، تكون أيضاً بالحيلولة بينه وما قد يقوم في قلبه من الإرادات الباطلة، في لحظة من لحظات الضعف البشري، كما يدل على ذلك عموم قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24] . قال ابن عباس –رضي الله عنهما-: "يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان. وعنه أيضاً: يحول بين الكافر وبين طاعته، وبين المؤمن وبين معصيته" 1. ومظاهر عناية الله تعالى بالمؤمن في هذا المجال تكون بتثبيطه عن تلك الشرور وصرف همته عنها، أو عدم تمكينه منها. كما قيل: "من العصمة عدم القدرة" كما تكون بتهيئة الأسباب الصارفة للفتنة والشر عنه. وأكتفي بهذه الإشارة لهذا الأثر نظراً لأنه سيأتي له مزيد إيضاح في الباب الثاني الأثر القلبي.

_ 1 جامع البيان لابن جرير 9/216.

المطلب الرابع: مظاهر الولاية الكاملة للكمل من عباد الله

المطلب الرابع: مظاهر الولاية الكاملة للكُمّل من عباد الله إن أعلى مراتب ولاية الله تكون لعباد الله الذين كمّلوا الإيمان وحققوا التقوى، وسارعوا في الخيرات، وكمل توحيدهم وتوكلهم على الله. وقد بين الله سبحانه أنه يتولاهم ولاية خاصة، ويحوطهم بعنايته الفائقة، ويحفظ جوارحهم الناقلة للشبهات أو لمثيرات الشهوات إلى القلب، فلا تنبعث إلا إلى الخير، ولا تتجاوب إلا مع ما يحبه الله ويرضاه. فقد ورد البيان لمظاهر ولاية الله الكاملة في حديث الأولياء المشهور، وفيه قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه " 1. قال ابن رجب–رحمه الله-: "قوله: " فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي

_ 1 تقدم تخريجه.

يمشي بها " ... المراد من هذا الكلام أن من اجتهد بالتقرب إلى الله تعالى بالفرائض، ثم بالنوافل قربه إليه، ورقاه من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان، فيصير يعبد الله على الحضور والمراقبة، كأنه يراه، فيمتلئ قلبه بمعرفة الله تعالى ومحبته وعظمته وخوفه ومهابته وإجلاله والأنس به، والشوق إليه حتى يصير هذا الذي في قلبه من المعرفة، مشاهداً له بعين البصيرة ... فمتى امتلأ القلب بعظمة الله تعالى، محا ذلك من القلب كل ما سواه، ولم يبق للعبد شيء من نفسه وهواه، ولا إرادته إلا لما يريده منه مولاه، فحينئذٍ لا ينطق العبد إلا بذكره ولا يتحرك إلا بأمره، فإن نطق، نطق بالله، وإن سمع، سمع به، وإن نظر، نظر به، وإن بطش، بطش به، فهذا هو المراد بقوله: " كنت سمعه الذي يسمع به....""1. ففي هذا الكلام السديد لابن رجب –رحمه الله- ذكر لما يحدث في قلب المؤمن وفي سلوك جوارحه، نتيجة لولاية الله لعبده، ومحبته له، فقد ذُكر في الحديث عدة أمور بعضها من فعل العبد، وبعضها من فعل الله، وما ينتج عن كل منها. فذكر فعل العبد بقوله: " وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليّ مما

_ 1 جامع العلوم والحكم ص344، 345.

افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل " ثم ذكر أنه ينتج عن ذلك محبة الله لعبده، ثم ذكر ما ينتج عن المحبة بقوله: " فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ... " أي إن الله إذا أحب العبد جعل الإيمان هو السلطان الوحيد على قلبه، وجوارحه فلا تنفعل ولا تنبعث إلا لموجب أمره ونهيه، وهذه أعلى الكرامات وأسمى المقامات، وهو عناية إلهية ومنحة ربانية، ومعية ومعرفة خاصة يكرم بها الله خواص عباده تقتضي محبته لعبده وتقريبه إليه، وإجابة دعائه وإنجاءه من الشدائد. ولا شك أنه إذا كان سلطان الإيمان مسيطراً على السمع والبصر والفؤاد، فإن الطريق يكون مقطوعاً على شياطين الإنس والجن، الذين يدعون الناس إلى الضلال بنشر الشبهات وإثارة الشهوات. وخلاصة هذا المبحث أن الله تعالى يتولى عبده المؤمن فيخرجه من الظلمات إلى النور، ويجعل له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ويثبته عند الشدائد، ويحول بينه وبين ما قد يقوم في قلبه من السوء، ويحوطه بعنايته ورعايته ويوفقه ويسدده، ومن ذلك صرفه عن الأفكار الخبيثة أو صرفها عنه بما يهيئ له من الأسباب. وإذا كان العبد من المقربين المحسنين، فإن الله يزيد في عنايته به، ومعيته له، حتى لا تنبعث جوارحه ولا قلبه، إلا لما يرضي الله، وما فيه خيره في دينه ودنياه، فهو محاط بعناية الله، فإن نطق نطق بالله، وإن سمع

سمع به، وإن نظر نظر به، وإن بطش بطش به، وقلبه عامر بذكره ومراقبته. فهو في حصن حصين من كيد المفسدين، وأنّى لشبهاتهم وضلالاتهم الفكرية أن تجد سبيلاً إلى قلبه، نسأل الله من واسع فضله ورحمته.

المبحث الثاني: مظاهر ولاية الله للجماعة المؤمنة

المبحث الثاني: مظاهر ولاية الله للجماعة المؤمنة الغرض من هذا المبحث بيان أهم مظاهر ولاية الله للجماعة المؤمنة التي التزمت شعائر الإيمان ظاهراً وباطناً. وأكتفي في هذا المبحث بالإشارة المجملة لما ورد في بعض النصوص من ذكر عناية الله بالجماعة المؤمنة، وذلك لأنه سيأتي تفصيل الآثار الإيمانية –التي جعلها الله حصوناً تقي المجتمع من الشرور الفكرية وغيرها- في الباب الثالث الأثر الاجتماعي. إن الجماعة المؤمنة تمر بأطوار مختلفة من حيث القوة والكثرة، أو الضعف والقلة، وعناية الله تلازمها في جميع أطوارها بشرط أن تأتي بشرط الولاية وهو نصرة دين الله، بتحقيق التوحيد والتقوى والعمل من أجل إعلاء كلمة الله في أرضه. ففي بعض الأحوال يكون الضلال منتصراً، يمتلك أهله كثيراً من أسباب القوة والغلبة، وفي مقابل ذلك يكون أهل الإيمان ضعفاء مهزومين، أو أذلاء مقهورين، فقد شاء الله العليم بأحوال خلقه، الحكيم في كل ما قدره وفعله، أن تكون الحياة دولاً بين الناس {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}

[آل عمران:140] ومن ذلك أنه قدر أن يظهر الكفار على أهل الإسلام ويتسلطوا عليهم في فترة من الفترات، أو بقعة من البقاع، كما في العهد المكي، وما شابهه من الحالات في مسيرة الأمة إلى أن يأتي أمر الله. كما قدر في مرات أخرى ظهور أهل الإسلام إذا هم قاموا بشرط ذلك وعملوا ما في وسعهم واستطاعتهم لنصرة دينهم. والمعركة مستمرة بين الخير والشر، والصراع قائم بين قُوى الإيمان وقُوى الطغيان، منذ أن خلق الله آدم وإلى أن يرث الأرض ومن عليها. ومن طبيعة الشر أنه جامح مسلح، يبطش ولا يتحرج، ويضرب ولا يتورع، ويملك من أسباب الفتنة ما يصد به عن الحق، وقد يملك من القوة المادية والمغريات ما قد يزلزل القلوب، ويستهوي النفوس، ويزيغ الفِطَر، وللصبر حدود، وللاحتمال أمد، وللطاقة البشرية منتهى، والله أعلم بقلوب الناس ونفوسهم ... ومن ثم لم يشأ أن يترك المؤمنين للفتنة1. فبين سبحانه أنه سيتولى الدفاع عنهم، إذا جاءوا بشرط الولاية، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38] . وهذه الآية الكريمة وردت في سياق ذكر فيه أولاً: الدفاع عن

_ 1 انظر: في ظلال القرآن مجلد 5 ج17/601.

المؤمنين، ثم الإذن لهم بالقتال، ثم الوعد بنصرهم إذا جاؤوا بشرطه، ثم ذكر التمكين في الأرض، ثم الأعمال التي يتعين على الأمة التي تولاها الله أن تقيمها وتعمل على إقامتها في الأرض. فدل هذا الترتيب على أهمية هذا المظهر العظيم من مظاهر ولاية الله، ألا وهو دفاعه عن المؤمنين، كما دل على أنه يستمر معهم في جميع حالاتهم. ففي حال ضعفهم يثبتهم، ويعينهم على الصبر، ويقوي قلوبهم فلا يرتدون ولا يتشككون. وعند وجود الشوكة، ومنازلة الأعداء، يتجلى دفاعه عنهم نصراً لهم ودفعاً لتسلط الأعداء عليهم. وبعد انتصارهم وتمكينهم في الأرض يستمر دفاعه عنهم بخذلان أعدائهم، وإدخال الرعب في قلوبهم، وتفريق كلمتهم وكشف مخططاتهم السرية، كما يكون بصرف أسباب الضلال عنهم. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ

إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:38-41] . فبين سبحانه أول السياق أنه سيتولى الدفاع عن المؤمنين {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} لأنهم جاؤوا بموجب ذلك، وهو الإيمان. وأشار إلى أن أعداءهم قد جاؤوا بموجب المقت والخذلان، وهو الكفر والخيانة {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} . وأن عليهم أن يطمئنوا إلى دفاعه عنهم وولايته إياهم {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} لذلك شرع لهم قتال الكفار، وأذن لهم به، وهو من الأسباب التي جعلها الله لعباده المؤمنين، لمكافحة الباطل والدفاع عن الحق {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} . ثم زادهم من البيان ما يوجب طمأنينة قلوبهم، إلى ولايته ودفاعه ونصره إذا التزموا أسباب ولايته {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} . ثم ختم السياق بذكر أعمال صالحة هي: الصلاة، والصوم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فدل ختم هذا السياق الذي ذكرت فيه

المدافعة والنصر والتمكين بهذه الأعمال على أهميتها في حصول ذلك واستمراره. وإذا كان الله قد تكفل لعباده المؤمنين الذين جاؤوا بأسباب ولايته، بالمدافعة عنهم ونصرهم في حال قوتهم، ووجود شوكة لهم على العدو الظاهر وكيده السافر، فإنه من باب أولى أن يدافع عنهم في حال ضعفهم، أو في مقابلة الكيد الخفي الماكر، فتكون عنايته بهم في ذلك أشد، بحيث لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً يتمكنون به من إخراج المؤمن من دينه ... قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141] . قال ابن كثير رحمه الله: "يحتمل أن المراد: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} أي في الدنيا، بأن يُسلطوا عليهم استيلاء استئصال، وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان على بعض الناس، فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة"1. وقال ابن القيم رحمه الله: "والتحقيق ... أن انتفاء السبيل عن أهل

_ 1 تفسير القرآن العظيم 1/567.

الإيمان الكامل، فإذا ضعف الإيمان صار لعدوهم عليهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم، فهم جعلوا لهم عليهم السبيل بما تركوا من طاعة الله. فالمؤمن عزيز غالب مؤيد منصور، مكفي عنه بالذات أين كان، ولو اجتمع عليه من بأقطارها، إذا قام بحقيقة الإيمان وواجباته ظاهراً وباطناً"1. وكلا المعنيين اللذين أوردهما ابن كثير وابن القيم –رحمهما الله- صحيح. فانتفاء السبيل بالكلية لأهل الإيمان الكامل، فالإيمان جالب لولاية الله الموجبة حفظه عباده، وتحصينهم من شرور الكافرين، ومن نقص في تحقيق التقوى، كان ذلك ثغرة في الحصن، وسبيلاً للكافرين عليه، بقدر نقصه، كما أن معه من ولاية الله بقدر إيمانه، إلا أن هذا السبيل الذي فتح عليه لا يصل إلى الاستئصال الكامل للجماعة المؤمنة، بل يبقى لهم باقية يُحيون دين الله في أرضه، والعاقبة للمتقين، والله أعلم. والله تبارك وتعالى عندما بين للمؤمنين أنه معهم يدافع عنهم، وينصرهم ويحبط كيد أعدائهم، بيّن لهم بنفس الوضوح ما يريده منهم من الأمور التي جعلها أسباباً لحصول ذلك، فقال: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا

_ 1 إغاثة اللهفان في مصائد الشيطان 2/263.

وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران:120] . قال ابن جرير رحمه الله: "وإن تصبروا أيها المؤمنون على طاعة الله، واتباع أمره فيما أمركم به، واجتناب ما نهاكم عنه ... وتتقوا ربكم ... لا يضركم كيدهم شيئاً: أي كيد هؤلاء الذين وصف صفتهم، ويعني بكيدهم: غوائلهم التي يبتغونها للمسلمين ومكرهم بهم، ليصدوهم عن الهدى وسبيل الحق"1. وخلاصة القول: إن لله بعباده المؤمنين –الذين حققوا الإيمان الذي أراده منهم وبين معالمه لهم- ألطافاً جلية وخفية، فهو يحوطهم بتوفيقه وعنايته ورعايته، ويهديهم إلى ما فيه صلاح دينهم، ويثبتهم على صراطه المستقيم، ويخرجهم من ظلمات الكفر والشرك والنفاق والبدع والعصيان، بما أنزل عليهم من العلم والبيان، وبما يحدثه في قلوبهم من نور الإيمان والبصيرة، وبتهيئة الأسباب التي تصرفهم عن الباطل أو تصرفه عنهم، وهو –سبحانه- دائماً معهم، يدافع عنهم في جميع أحوالهم، أفراداً كانوا أو جماعات. فولاية الله لعباده هي أعلى المصالح التي يستفيدها المؤمنون من تحقيق الإيمان، وهي الخطوة الأولى التي يجب أن يسعى إليها المؤمنون في مجابهة المخططات الفكرية، أو الخلاص منها، وفي مجابهة كل أساليب الأعداء،

_ 1 جامع البيان لابن جرير 4/44.

فهي حصن عظيم يحصن الله به عباده من كل مكروه. لكن شرطها قوي يحتاج من أئمة الدين وقواد المسلمين إلى العمل الجاد المشترك في استخلاص الأسباب الجالبة لولاية الله من الكتاب والسنة، وما كان عليه السلف الصالح، ثم إعداد الخطط المناسبة لحمل الناس على المجيء بها، والصدق في تنفيذ تلك الخطط. وبهذا ينتهي ما يسره الله لي من الحديث عن الأثر الأول والأهم من آثار الإيمان في مجابهة الأفكار الهدامة. والله أعلم.

الباب الثاني: أثر الإيمان في تحصين القلب ضد الأفكار الهدامة " الأثر القلبي "

الباب الثاني: أثر الإيمان في تحصين القلب ضد الأفكار الهدامة " الأثر القلبي " * ... والمقصود بهذا الباب بيان ما يحدثه الإيمان في القلب من الآثار التي يتحصن بها من تسلل الأفكار الخبيثة. فالقلب هو ملك الأعضاء، وسيدها وأشرفها، والمتصرف فيها، فهو مركز الاعتقاد والإرادة، وموجه السلوك، وبصلاحه يكون الإنسان صالحاً، ويفسد بفساده. قال صلى الله عليه وسلم: " ... ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب " 1. فإذا كان القلب بهذه المنزلة من التأثير على السلوك وتوجيهه، فإن جهود شياطين الإنس والجن متوجهة في المقام الأول إلى قلوب العباد، لا لإفسادها بالأفكار المهلكة لها، بقذف الشبهات وتزيين الشهوات. وفي مقابل ذلك جعل الله الإيمان وما يحدثه من الآثار في قلب المؤمن السبب -بعد عناية الله- في سلامته وتحصينه منهم. وإذا كانت ولاية الله هي الأثر الخارجي -الخارج عن إرادة الإنسان وفعله- فإن عمران القلب بالإيمان سبب داخلي، وحصن يحصن الله به المؤمن من غوائل أعداء الله ومكرهم، وهو من آثار عناية الله وولايته لعبده.

_ 1 رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، ح52 الصحيح مع الفتح 1/162.

فوجود الإيمان في القلب وجود حقيقي، يحدث في القلب تغيراً جذرياً يسري إلى كل ما يقوم بالقلب من الوظائف. وقبل أن أتكلم عما يحدثه الإيمان في القلب من الآثار، أرى أن البحث يتطلب الكلام على ما يقوم في قلوب الناس من الوظائف، والعلاقة بينها، والمؤثرات الموجهة لها، وأحوال القلوب، لكي يسهل معرفة أثر الإيمان عليها بإذن الله. وسيجري الكلام -إن شاء الله- على الأثر القلبي في ثلاثة فصول، هي: الفصل الأول: وظائف القلب وأحواله. الفصل الثاني: أثر الإيمان في تطهير القلوب. الفصل الثالث: أثر الإيمان في تزكية القلوب. وإلى الفصل الأول من هذا الباب.

الفصل الأول: وظائف القلب وأحواله.

الفصل الأول: وظائف القلب وأحواله. المبحث الأول: الوظائف القائمة بالقلب. * ... المبحث الأول: الوظائف القائمة بالقلب. القلب مركز لأهم الوظائف الإنسانية، مثل: 1-وظيفة التعقل. 2-الاعتقاد. 3-النيات والإرادات. 4-العواطف. 5-الانفعالات. وسوف أتكلم في هذا المبحث على كل منها في مطلب مستقل بحدود ما أرى أنه يفي بالغرض إن شاء الله، والله المستعان.

المطلب الأول: وظيفة التعقل

المطلب الأول: وظيفة التعقل لقد اختلفت تعاريف الباحثين والمفكرين للعقل، والوظائف التي تناط به، كما اختلفوا في مكان وجوده، وسبب ذلك أن لفظ العقل يطلق على عدة وظائف وصفات تقوم بالإنسان، ويسمى مَنْ قامت به عاقلاً، وسوف أشير إلى أهمها: الأولى: يطلق العقل على مجموع الوظائف النفسية المتعلقة بتحصيل المعرفة كالإدراك، والفهم والتمييز والتذكر والتخيل والحكم والاستدلال ... الخ. ويرادفه على هذا المعنى الفهم والذهن1. وعلى هذا الاعتبار يسمى الإنسان عاقلاً أي ليس بمجنون. ويوصف بأنه متعقل أي يفهم الخطاب، ويرد الجواب، ويميز ويستدل. قال ابن تيمية -رحمه الله-: "وقد يراد بالعقل نفس الغريزة التي في الإنسان، التي بها يعلم ويميز ويقصد المنافع دون المضار، كما قال أحمد بن

_ 1 المعجم الفلسفي د. جميل صليبا 2/88، 89 دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط الأولى، 1973م.

حنبل والحارث المحاسبي1 وغيرهما: أن العقل غريزة"2. وبمقدار هذه الغريزة، تكون نسبة الذكاء قوة وضعفاً. وهذا الأمر يستوي في أصله الناس العقلاء، وهو طريق العلم الذهني. الثانية: يطلق العقل على التفكر والفقه فيما تنقله الحواس للقلب، وأخذ العبرة منها، واستشعار القلب للمعاني والعبر، والتفاعل معها رغبة ورهبة، حباًَ أو كراهية ... وهذا هو طريق العلم الباعث على صلاح السلوك. فالعقل على هذا يطلق على وظيفة التفكر والاعتبار التي هي وظيفة القلب الأساسية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمة الله-: "فصلاح القلب وحقه، والذي خلق من أجله، هو أن يعقل الأشياء، لا أقول يعلمها فقط، فقد يعلم الشيء من لا يكون عاقلاً له، بل غافلاً عنه ملغياً له، والذي يعقل الشيء هو الذي يقيده ويضبطه ويعيه ويثبته في قلبه، فيكون وقت الحاجة إليه غنياً، فيطابق عمله قوله، وظاهره باطنه، وذلك

_ 1 الحارث بن أسد المحاسبي البغدادي، صاحب التصانيف الزهدية، منها: الرعاية وغيرها، توفي سنة 243هـ. انظر: وفيات الأعيان 2/57، وسير أعلام النبلاء 12/110. 2 مجموع الفتاوى 9/287.

هو الذي أوتي الحكمة" 1. وهذا القدر زائد على الإدراك الذي يتحصل عليه الإنسان بذهنه وذكائه، فالعلم قد يكون علماً نظرياً من الحواس إلى الدماغ، فيحفظ العلم، أو يعرف كثيراً من خصائص الأشياء، والسنن التي أودعها هذا الكون وأسرار المخلوقات، وقد يعرف معاني ودلالات الكلام دون أن يصل ذلك العلم إلى القلب، ويستشعر ما دل عليه من الخير، وأدلته وأسبابه وعواقبه، فيرغب فيه ويندفع إليه، ودون أن يستشعر ما دلت عليه من الشر، وأدلة قبحه وأسبابه وعواقبه، فيحدث فيه نفوراً منه وخوفاً من عواقبه. والعاقل بهذا الاعتبار: هو الذي ينتفع بسمعه وبصره ويعمل عقله لاستخلاص التجارب والعبر، ومعرفة الخير والشر، وسنن الله الجارية في عباده، وينعكس أثر ذلك على سلوكه. قال ابن تيمية رحمه الله: "ثم إن الله خلق القلب للإنسان يعلم به الأشياء ... وإذ قد خلق القلب، لأن يعلم به، فتوجهه نحو الأشياء ابتغاء العلم بها، هو الفكر والنظر ... " 2. وقيل لابن عباس -رضي الله عنه- بماذا نلت العلم؟ قال:" بلسان

_ 1 مجموع الفتاوى 9/309. 2 مجموع الفتاوى 9/307، 308.

سؤول، وقلب عقول" 1. وقال الرازي في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج:46] : "فالمقصود منه ذكر ما يتكامل به ذلك الاعتبار لأن الرؤية لها حظ عظيم في الاعتبار، وكذلك استماع الأخبار فيه مدخل، ولكن لا يكمل هذان الأمران إلا بتدبر القلب، لأن من عاين وسمع، ثم لم يتدبر ولم يعتبر، لم ينتفع البتة، ولو تفكر فيما سمع لانتفع" 2. وهذه الوظيفة -التي هي القدرة على التعقل- موجودة لدى سائر العقلاء من الناس، لكن منهم من استفاد منها -بإذن الله- ومنهم من عطلها، أو استخدمها في غير ما ينبغي لها، لذلك لام الله الكفار على عدم التعقل، والانتفاع به، واللوم دليل الإمكان، كما في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] .وقال أيضاً: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ

_ 1 نفس المصدر السابق 9/303. 2 التفسير الكبير 23/44، 45 ط الثانية، دار الكتب العلمية، طهران.

أَأفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] .وقال: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس:62] . ففي هذه الآيات ونحوها لوم من الله للكفار على عدم انتفاعهم بما أعطاهم الله من نعمة التفكر والاعتبار، والنظر في مخلوقاته، وفي أحوالهم وما يجري منهم من التناقض، ونحو ذلك مما لو تفكروا فيه ونظروا نظراً صحيحاً، وتدبروا ما وصلهم من الكتب ومواعظ الأنبياء، لكان كفيلاً بهدايتهم وإخراجهم من الضلال. أما الآيات التي تنفي عنهم التعقل في نحو قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءصُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171] . وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ} [يونس:42] . فهذا النفي ليس للقدرة ووجود وظيفة التعقل، وإنما هو نفي للانتفاع بها، فالواقع أنهم لم يتعقلوا، وإن كانوا قد هُيئوا بأصل الخلقة لذلك. قال ابن جرير رحمه الله في قوله تعالى: {بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً

صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171] . قال: "ومثل الذين كفروا في قلة فهمهم عن الله وعن رسوله، كمثل المنعوق به من البهائم الذي لا يفقه من الأمر والنهي غير الصوت الذي يسمعه ... فكذلك الكافر، مثله في قلة فهمه لما يؤمر به، وينهى عنه بسوء تدبره إيّاه، وقلة نظره وفكره فيه، مثل هذا المنعوق به فيما أمر به ونهي عنه" 1. فقوله رحمه الله: "بسوء تدبره إياه، وقلة نظره وفكره فيه" يدل على وجود القدرة على التدبر والنظر، وإنما هو أساء في ذلك أو أعرض عنه. وسبب ذلك أن ظلمة الكفر والمعاصي، تظلم القلب وتحرف التفكر والتعقل، قال تعالى: {كَلاّ َبَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] . لذلك لا تحصل الهداية إلا إذا شرح الله صدر من علم فيه الخير، فأزال ذلك الران الذي غطى قلبه. قال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر:22] . الثالث: يطلق لفظ العقل صفة يوصف بها العلم المكتسب

_ 1 جامع البيان 2/81.

المهذب للسلوك. فالعقل على هذا الاعتبار، يطلق على:"ما يكتسبه الإنسان بالتجارب والأحكام الكلية، فيكون حده أنه معان مجتمعة في الذهن، تكون مقدمات يستنبط بها الأغراض والمصالح"1. فتصير المعارف والعبر مخزونة عند القوة العاقلة بتكرار الاكتساب فتقوي ملكة العقل، كما يوصف من قام به ذلك بأنه عاقل، إذا أثرت تلك المعارف في عمله وتصرفاته وعَقَلته ووجهته، وكلما كانت كمية العلوم التي عقلها كبيرة، كان عقله أقوى وأرجح، كما أن العقل يكون سليماً بسلامة وصلاح تلك المعقولات المتراكمة. إلا أن العاقل حقيقة هو الذي عقل عن الله مراده في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فوعى العلم واعتقده، وأثر في عمله وأخلاقه وتصرفاته جميعاً. قال ابن تيمية رحمه الله:" والمقصود أن اسم العقل عند المسلمين وجمهور العلماء إنما هو صفة ... وإذا كان كذلك فالعقل لا يسمى به مجرد العلم الذي لم يعمل به صاحبه، ولا العمل بلا علم، بل إنما يسمى به العلم الذي يعمل به، والعمل بالعلم" 2.

_ 1 المعجم الفلسفي 2/84. 2 مجموع الفتاوى 9/286، 287.

فالعاقل على هذا هو الذي يفكر تفكيراً صحيحاً، وعقل بذلك علوماً وتجارب نافعة، تمكنه من الحكم على الأشياء حكماً صادقاً، وتهديه إلى العمل الصالح، والخلق القويم، وتحمله على أن يكبح جماح نفسه، فيعرض عن كل ما يوقعه في المهالك، أو يخرج عن نطاق قدرته أو مسئوليته، وأولئك هم أولو الألباب الذين آمنوا بالله وتعلموا من وحيه. وقد بين الله في سياق مبارك أن الذين يعلمون أن الحق فيما ما نزل من الوحي، هم الذين يتذكرون ويتعقلون تعقلاً صحيحاً، وهم العقلاء حقاً، وبيّن أنهم يعملون بموجب علمهم، وبذلك كله استحقوا الوصف بأنهم أولو الألباب، فقال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:19-22] . أما مقر العقل في بدن الإنسان فيرى كثير من المشتغلين في دراسة النفس البشرية: "أن الجهاز العصبي ومركزه المخ، هو القاعدة الرئيسية

للنشاط العقلي" 1. إلا أن هذا الرأي لا يزال مجرد ظن لم يصلوا فيه إلى يقين. وحول هذا قال الدكتور: حلمي المليجي: "ويعتقد كبار المفكرين في كل العصور، أن نشاط العقل يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمخ، ولا نزال في هذه الأيام نعتبر أن المخ مركزاً للعمليات الشعورية، ولقد أجريت دراسات طويلة في المخ استمرت عدة قرون، أثبتت أن التنقيب الصناعي عن مركز العقل في المخ، كان باطلاً، فلا توجد نقطة واضحة محددة نستطيع أن نبرهن على أنه في هذه النقطة، وفي هذا المكان يرتبط العقل أو النفس بمادة الروح" 2. والذي دل عليه صريح القرآن أن العقل بمعنى التعقل والتدبر والتفقه، إنما مقره القلب، فالقلب هو آلة التفكر. قال الله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] . قال الرازي: "وقوله يعقلون بهاكالدلالة على أن القلب آلة لهذا

_ 1 علم النفس المعاصر د. حلمي المليجي ص65، دار النهضة، بيروت. 2 المصدر السابق ص64.

التعقل، فوجب جعل القلب محلاً للتعقل"1. وقال أيضاً في بيان الحكمة من ذكر الصدور في الآية مع أن القلوب لا تكون إلا في الصدور: "وعندي فيه وجه آخر، وهو أن القلب قد يجعل كناية عن الخاطر والتدبر ... وعند قوم أن محل التفكر هو الدماغ، فالله تعالى بيّن أن محل ذلك هو الصدر" 2. وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] . وقال: {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:3] . فبين سبحانه أن المانع من التدبر هو أقفال القلوب، وأن الطبع عليها ينتج عنه عدم التفقه، مما يدل أنها هي آلة التدبر والتفقه. أما بقية الوظائف الأخرى التي توصف بأنها عقلية -كالوظائف الغريزية المتعلقة بتحصيل المعرفة، والمذكورة في المعنى الأول للعقل، وكذلك حصيلة العلوم والتجارب والمعارف المخزونة في نفس العاقل، المؤثرة في سلوكه، والمذكورة في المعنى الثالث للعقل -فلا يوجد لدينا ما ينص على مركزها في البدن، فليس هناك -في نظري- ما يمنع من القول أن مستقرها في الدماغ.

_ 1 التفسير الكبير 23/45. 2 نفس المصدر 23/45.

فيكون مبدأ الفكر والنظر في الدماغ، ثم التعقل واكتمال النظر في القلب، ثم تخزن المعلومات والعبر المعقولة في الذاكرة في الدماغ. قال شيخ الإسلام رحمه الله: "لكن مبدأ الفكر والنظر في الدماغ"، ثم قال: "فيبتدئ ذلك من الدماغ، وآثاره صاعدة إلى الدماغ، فمنه المبتدأ وإليه الانتهاء" 1. ومن هذا نخرج بنتيجة هي أن القلب محل لأهم وظيفة أمر الله بها الإنسان، وهي التفكر والتعقل، الذي هو طريق العلم والهداية بإذن الله.

_ 1 مجموع الفتاوى 9/304.

المطلب الثاني: الاعتقادات

المطلب الثاني: الاعتقادات الاعتقاد هو حكم الذهن الجازم، أو هو تصديق القلب الجازم، فإذا كان مطابقاً للواقع كان صحيحاً، وإذا كان غير مطابق له كان فاسداً.1 إلا أن الاعتقاد يطلق على العلم تارة، وتارة على اليقين، وتارة على التصديق مطلقاً، فيكون -على الأخير- أعم من أن يكون جازماً أو غير جازم، مطابقاً أو غير مطابق، ثابتاً أو غير ثابت2. والاعتقاد باعتبار ثباته في القلوب ثلاثة أنواع: الأول: اعتقاد تلقاه الإنسان من آبائه أو علماء ملته أو مجتمعه، دون أن يعرف أدلته وبراهينه. وهذا النوع قد يكون صحيحاً أو باطلاً، ولكنه يقبل التشكيك في قلب معتقده لجهله بأدلته3.

_ 1 كشاف اصطلاحات الفنون 2/954، والمعجم الفلسفي 1/104. وقد قرر هذا التعريف الدكتور/ صالح بن عبد الله العبود، رئيس قسم العقيدة، لطلاب السنة الرابعة بكلية الدعوة وأصول الدين عام 1407هـ، وكنت من بينهم. 2 نفس المرجع. 3 وهذا النوع إذا كان صحيحاً، فإنه يكون من الاقتداء الذي يحصل به إيمان مجمل، ينفع صاحبه، لكنه لا يوجب له الرسوخ في الإيمان، أو التحصن من الشبهات المضلة، والشهوات المحرمة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر، أو ولدوا على الإسلام، والتزموا شرائعه، وكانوا من أهل الطاعة لله ولرسوله، فهم مسلمون وعندهم إيمان مجمل ... " إلى أن قال: "هؤلاء إن عوفوا من المحنة، وماتوا دخلوا الجنة، وإن ابتلوا بمن يورد عليهم شبهات توجب ريبهم، فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب، وإلا صاروا مرتابين، وانتقلوا إلى نوع من النفاق" [كتاب الإيمان، لشيخ الإسلام ابن تيمية ص232] .

الثاني: اعتقاد عن اقتناع: "وهو إذعان نفسي لما يجده المرء من أدلة تسمح له بقدر من الرجحان والاحتمال، كاف لتوجيه عمله إلا أنه دون يقين" 1. فهو أمر تبين للمعتقد صحته في النظر في محاسنه وعواقبه وبراهينه على وجه الإجمال، دون التمكن في معرفة براهينه على وجه التفصيل، وهذا أكثر رسوخاً في قلب صاحبه من النوع الأول، وإن كان أقل من اليقين. الثالث: اليقين: وهو اعتقاد الأمر عن بصيرة ومعرفة بأدلته وبراهينه القاطعة، فهو اعتقاد عن اقتناع مستند إلى أسباب وحجج ثابتة قاطعة، وهذا هو الاعتقاد الراسخ الذي لا يقبل التشكيك إلا أن يشاء الله. وقد وردت نصوص تدل على أن العقائد التي يؤمن بها الإنسان

_ 1 المعجم الفلسفي 1/111.

محلها القلب، قال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] . فدلت الآية على أن الإيمان -وهو جملة اعتقادات- يدخل في القلب. وقال: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران:167] . أيْ إنّهم لا يعتقدون الإيمان الذي يتلفظون به، فقولهم ليس عن عقيدة قائمة في قلوبهم. وقال: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ} [المجادلة:22] . فدلت هذه النصوص على أن القلب محل الاعتقاد.

المطلب الثالث: الإرادات

المطلب الثالث الإرادات الإرادة هي: نزوع النفس وميلها إلى الفعل بحيث يحملها عليه1. فهي تتركب من أمرين: رغبة في الفعل أو شعور بالحاجة إليه أو تعلق أمل به، ثم قصده وميل النفس لفعله. ويراد بالإرادة القصد، فتكون بمعنى النية2. وهي نوعان: أحدهما: قصد الفعل المعين، كتوجه الإرادة إلى القتال. والثاني: تمييز المقصود بالفعل، كأن يقصد بالقتال وجه الله. وقد وردت كثير من النصوص تدل على أن الإرادات والنيات محلها القلب، من ذلك: قوله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقر:225] .

_ 1 كشاف اصطلاحات الفنون 1/552. 2 جامع العلوم والحكم ص8.

وقال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب:5] . وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24] ففي هذه الآية بين تعالى تمكنه من قلوب العباد، فيصرفها كيف يشاء، بما لا يقدر عليها صاحبها، فيفسخ عزائمه، ويغير مقاصده، ويلهمه رشده، ويزيغ عن الصراط السوي قلبه ... 1 وعلى هذا فالعزائم والمقاصد والإرادات تقوم بالقلب.

_ 1 روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني 9/191، شهاب الدين محمد الألوسي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

المطلب الرابع: العواطف

المطلب الرابع: العواطف العواطف تتعلق بالمحبوبات والمكروهات، وكل عاطفة عبارة عن مجموعة انفعالات. فمثلاًَ: مجموعة انفعالات سارة نحو شخص ما -كالإعجاب أو الشهوة، أو السرور والراحة أو الامتنان- تكون عاطفة محبة له أو حنواً عليه. ومجموعة انفعالات غير سارة -كمشاعر الضيق، والاشمئزاز والاحتقار أو الحقد- فإنه تكون عاطفة كراهة1. فالعواطف السارة مثل: المحبة والحنو، والاشفاق، والرحمة، والرجاء، ونحوها. والعواطف غير السارة مثل: الكراهية، والابتئاس، والقنوط ونحوها. والعواطف من أعمال القلوب، وتكون مستقرة أو سائدة. فالعاطفة المستقرة هي:"استعداد وجداني مكتسب يجعل صاحبه

_ 1 انظر: معجم المصطلحات النفسية والتربوية، إعداد د. محمد مصطفى زيدان ص188، دار الشروق، جدة ط الثانية 1404هـ. وانظر: علم النفس المعاصر ص167.

قابلاً للانفعال، ولاتخاذ سلوك معين كلما اتصل بالموضوع أو الشخص الذي ركز حوله هذه العاطفة"1. وعرفها بعضهم بأنها: "صفة نفسية ثابتة مكتسبة لها أثر كبير في تكوين الشخصية"2. ويراد بوصفها بالثبات: تمييزاً لها عن الانفعالات الطارئة -كالغضب والفزع- فإنها توجد مع وجود المهيج، وتزول بزواله، أما العاطفة فهي شعور معين يقوم بالنفس نحو شخص معين أو أرض أو فكرة معينة وتكون ثابتة نسبياً. والمراد بوصفها مكتسبة: أي أنها وإن كنت تَمُت بالأصل إلى دوافع فطرية3، إلا أنها تتأثر بالعوامل الاجتماعية، فتنمو وتقوى تحت تأثر التفكر والتأمل، والتجارب الانفعالية وتكرارها وتتوجه نحو موضوع

_ 1 بحوث في علم النفس، د. فائز محمد على الحاج 1/158، المكتب الإسلامي، ط 4، 1402هـ. 2 معجم المصطلحات النفسية والتربوية ص188. 3 الدوافع الفطرية المراد منها: الغرائز التي جُبل الإنسان عليها، كحب الأكل والجماع مثلاً، إلا أن الدافع الفطري يكون عاماً غير متوجه إلى معين، بخلاف العاطفة، فإنها تكون متوجهة إلى معين، فمثلاً: حب الأكل دافع فطري، ولكن حب التفاح يكون عاطفة، والميل إلى النساء دافع، ولكن توجهه إلى الزوجة المعينة يكون عاطفة.

معين، أو شخص أو جهة معينة1. ووصفها بأنَ لها تأثيراً كبيراً في تكوين الشخصية: أي أن العواطف لها تأثير على إرادات الإنسان، ونواياه الدائمة التي تأخذ شكل العادات أو العبادات المتكررة، ومواقفه الثابتة. "فتقوم العواطف بتنظيم الحياة الانفعالية للفرد، وتنظيم السلوك والدوافع الفطرية، وتعدلها وتوجهها وجهة معينة، ونتيجة لذلك يكتسب المرء قسطاً وفيراً من الثبات والاستقرار، مما يساعد على التنبؤ بسلوكه، ويرجع هذا إلى الاتجاه الثابت الذي تكونه العاطفة لدى الفرد تجاه موضوعات معينة أو أشخاص وأفكار ... " 2. وقد أشار ابن القيم رحمه الله إلى العاطفة المستقرة بقوله: "حتى تصير الطاعات أو المعاصي هيئات راسخة، وصفات لازمة، وملكات ثابتة" 3. أما العاطفة السائدة: فهي عاطفة من عواطف الإنسان إلا أنها تزيد على غيرها من العواطف، وتستحكم حتى تسيطر على جميع عواطفه

_ 1 انظر: بحوث في علم النفس العام 1/157، 158، وعلم النفس المعاصر ص166. 2 علم النفس المعاصر ص168. 3 الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، للإمام ابن قيم الجوزية ص57، 58 المطبعة السلفية، ط الأولى، 1394هـ.

وتصبغها بصبغتها، وتعمل على توحيدها وتتحكم في تعلقاتها1. وعرفها بعضهم بقوله: "هي الاستعدادات النفسية للتأثر والتفكير والانفعال بموضوع معين، يصبح محور الحياة، وتسخر الدوافع النفسية لإرواء هذه العاطفة بزيادة التضحية والانفعال، والعمل من هذا الموضوع في كل موقف من مواقف الحياة"2. وقد أشار ابن القيم -رحمه الله- إلى هذه العاطفة بقوله: "إنما نعنى بالمحبة الخاصة، وهي التي تشغل قلب المحب، وفكره وذكره لمحبوبه" 3. وقال أيضاً: "وكذلك غمرات الحب، وهي ما يغطي قلب المحب فيغمره" 4. ومن أمثلة العاطفة السائدة: حب الله في قلب المؤمن، عاطفة سائدة توجه جميع عواطفه وانفعالاته وإراداته، فيحدد موقفه وسلوكه في مختلف نواحي الحياة، بناء عليه، وكذلك حب شهوة معينة كالمال أو النساء ونحوها، قد تكون سائدة في قلب الإنسان فتسير وظائف القلب الأخرى وتوجهها لوجهتها، كحب العجل الذي أشربته قلوب بعض بني إسرائيل،

_ 1 انظر: علم النفس المعاصر ص170. 2 بحوث في علم النفس العام 1/158. 3 الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي 178. 4 روضة المحبين ونزهة المشتاقين للعلامة محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية ص34 دار الباز للطباعة والنشر، مكة المكرمة، ط بدون 1397هـ.

ومن أمثلتها أيضاً الحقد، فقد يصبح في وقت من الأوقات عاطفة سائدة، كحقد ابن المقتول -مثلاً- على قاتل والده، قد يستغرق فكره وجهده، ويسخر جميع إمكانياته في طلب ثأره. أما مكان العواطف، فقد وردت نصوص تدل على أن مقرها في القلب، من ذلك: قول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد:27] . وقال تعالى: {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:93] . أي أشربوا حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم واستقر بها1.فهذه عاطفة سائدة حملتهم على عصيان التكليف الإلهي. والخوف والوجل قد يكون عاطفة، وقد يكون انفعالاً، فباعتباره حالة مستقرة ملازمة للقلب، كالخوف من الله في قلوب المؤمنين فهو عاطفة، وباعتباره حالة مؤقتة كالفزع والخوف من مكروه طارئ فهو انفعال. وقد ورد في القرآن ما يدل على أن الخوف يقوم بالقلب، من ذلك قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] .

_ 1 انظر: جامع البيان لابن جرير 1/442، 423.

وقال: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [آل عمران:151] . ولكل عاطفة انفعال معين، إلا أنه انفعال هادئ مستقر لاستقرار العاطفة -كما تقدم-. هذا الانفعال ينشط القلب، ويحرك الإرادة إلى السعي لما يوافق العاطفة أي لإرواء العاطفة، وهذه الانفعالات المنبعثة من العواطف، ضرورية لحركة الإنسان ونشاطه، فلها تأثير كبير على سلوكه المعتاد بخلاف الانفعالات الحادة التي سيأتي الكلام عليها في المطلب التالي.

المطلب الخامس: الانفعالات

المطلب الخامس: الانفعالات الانفعالات منها ما يكون هادئاً ومنها ما يكون حاداً، وهي تغير وثورة داخلية طارئة، توجد لوجود مهيج ما، وتزول لزواله1. والانفعالات كثيرة منها: الغضب، والخوف، والفرح، والحزن، والاندهاش التعجبي ... ونحوها. فهي إذاً حالات اضطراب وتغير في الكائن الحي، استجابة لمؤثر معين تميز بمشاعر قوية، واندفاع نحو سلوك ذا شكل معين2. ويصاحب هذه الانفعالات، ثلاثة أنواع من التغيرات: 1- مشاعر داخلية وجدانية لا يدركها إلا الشخص نفسه، كشعور الغضبان بالضيق، وانتقاص الذات أو الإهانة. 2- تغير في أجهزة الجسم الداخلية، كما يبدو على الغضبان من اضطراب في الجهاز التنفسي، وسرعة خفقان القلب، وازدياد إفرازات الغدد الصماء، وارتفاع ضغط الدم ... الخ.

_ 1 علم النفس المعاصر ص158، 159. 2 نفس المصدر ص154.

3- تغيرات جسمية خارجية، فالمغضب مثلاً يقطب جبينه، وتتقلص عضلات وجهه، وتظهر عليه حركات وإيماآت غير طبيعية1. والانفعالات بحسب قوة هيجانها، ثلاثة أنواع: 1- انفعال خفيف يحمل النفس على طلب ما يلائمها، ويروي عواطفها المختلفة، أو ما تعتقد فيه النفع، كما يحملها على ترك المنافر، أو ما تعتقد فيه الضرر، وهذه انفعالات لازمة لقيام الإنسان بنشاطاته المعتادة، وتصاحب العواطف، كما تقدم في المطلب السابق. 2- انفعال طارئ مصحوب بشيء من الهيجان، لكنه ليس بحاد، كما أنه يزيد عن الانفعال الخفيف الناتج عن العواطف، كما يتميز عنه بأنه طارئ وذاك مستقر. وهذا الانفعال الطارئ الهادئ لازم للإنسان، ليتخذ موقفاً مناسباً من الأحداث الطارئة، طلباً أو هرباً أو غير ذلك2، فالخوف من خطر داهم انفعال مهم للهرب منه أو مقاومته، ورؤية الوالد ولده مع قرناء السوء -مثلاًَ- يولد عنده انفعالاً يحمله على توجيه النصح والعمل على عزله عنهم ... وهكذا. 3- الانفعالات الشديدة الهيجان وهي غالباً غير بنّاءة، ولها أثر سيئ

_ 1 نفس المصدر ص155 و156 مع التصرف. 2 انظر: علم النفس المعاصر ص159، 163، 164.

على السلوك خاصة إذا أخرجت الإنسان عن حدود النشاط المعتدل السوي، ويبدو الأثر السيئ لتلك الثورة العارمة على الوظائف العقلية، حيث يشل التفكير، ويشوه الإدراك، وتضعف الذاكرة، ويقل مستوى الذكاء ... وبالتالي يسوء فهم الفرد للموقف ويفتقد القدرة على حل المشكلات، وتصبح أحكامه فاسدة، حيث يعمى عن رؤية الكثير من الحقائق1. وقد يدفعه إلى أعمال سيئة ضارة به وبغيره. وقد وردت نصوص كثيرة تبين أنّ الانفعالات عموماً محلها القلب، من ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45] . فذكر تعالى في هذه الآية انفعالين: الأول: انفعال الانقباض والنفور الذي يقوم في قلوب المنكرين للبعث والمعاد من توحيد الله. والثاني: انفعال الفرح والسرور والاستبشار، إذا أشيد بالآلهة التي يعبدونها من دون الله. وقال تعالى: {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} [النازعات:8] .

_ 1 انظر: المصدر السابق ص160، 161.

واجفة: أي خائفة، وهو انفعال يحصل لها في ذلك اليوم، مما عاينته من عظيم الهول النازل1. {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاء} [التوبة: 14، 15] . أي يشف صدور المؤمنين مما يجدونه من الموجدة والغيظ على الكافرين، بسبب ما كانوا ينالونه من الأذى على أيديهم، وغدرهم بهم ونقضهم لعهودهم، فهو انفعال طارئ، وُجِد مع وجود المهيج ويزول بالتشفي من العدو، وهو غير عاطفة الكراهة والبغضاء للكفار الملازمة لقلوب المؤمنين. فدلت هذه الآيات على أن انفعال النفور والاشمئزاز، وانفعال الفرح والاستبشار، وانفعال الخوف والفزع، وانفعال الغيط والغضب، إنما تكون في القلوب، فدل ذلك على أن القلوب هي محل الانفعالات، والله أعلم.

_ 1 انظر: جامع البيان لابن جرير 10/91.

المبحث الثاني: العلاقة بين الوظائف القلبية

المبحث الثاني: العلاقة بين الوظائف القلبية تبين مما تقدم أنه يقوم بالقلب أهم الوظائف الإنسانية -المؤثرة في الهداية أو الضلال- وهي: التعقل والاعتقادات، والإرادات الموجهة، والعواطف والانفعالات. وبينها ترابط وثيق، وتلازم دقيق، مع أن لكل منها دوره في التلقي من الحواس، أو التأثير في نشاط الإنسان. ومعلوم أن سلوك الإنسان وعمله الظاهر يبدأ بالإرادة، ويشترط له القدرة وتهيؤ الأسباب، إلا أن الإرادة قبل أن تحدث وتتبلور تمر بمراحل، وتخضع لمؤثرات قلبية، حتى تخرج في صورتها النهائية قاصدة فعلاً معيناً، وهدفاً محدداً. فالإرادة تتأثر بأربعة وظائف، هي: الدوافع الفطرية، والعواطف، والعقائد، والانفعالات وكل منها له أثره في حصول إرادات الإنسان المختلفة، كما قد تشترك وظيفتان أو أكثر في حصول إرادة معينة. والمقصود بيان أثر كل وظيفة منها على الإرادة من حيث وجودها أو توجيهها، ثم بيان أثر هذه الوظائف في بعضها البعض، ليسهل بعد ذلك -بعون الله تعالى- بيان أثر الإيمان في تكون هذه الوظائف وتوجيهها

الوجهة السليمة الصالحة، وتحصن القلب به وبآثاره من الأفكار الهدامة، وما يتفرع منها. فالدوافع الفطرية هي: استعدادات يولد الفرد مزوداً بها، وهي حاجات تتصل بأعضاء الجسم الداخلية، كالجوع والعطش، والإخراج والتعب، والحاجة الجنسية1. فيقوم بالقلب إرادة مع كل دافع من هذه الدوافع. أما العواطف فهي انفعالات قلبية ثابتة مكتسبة كما تقدم نحو أمر معين، تدفع القلب إلى إرادة سلوك معين نحو من توجهت له العاطفة إما سلباً أو إيجاباً. فالعواطف هي هوى القلب ورغباته. فعاطفة الحب تدفع إلى الاتصال بالمحبوب، والتعلق به، وفعل ما يرضيه. وعاطفة الكراهية تدفع القلب إلى النفور من المكروه، والتخلص منه، وفعل كل ما يبعد عنه. أما العقائد فلها تأثير عظيم على الإرادة، حتى أن البعض فسر الإرادة بالميل الناتج عن عقيدة، فقال:

_ 1 الإنسان في الإسلام والإنسان المعاصر، عبد الغني عبود ص48، 49 دار الفكر العربي، ط الأولى 1978م.

"هي ميل يتبع اعتقاد النفع أو ظنه، فإنّا نجد من أنفسنا بعد اعتقاد أن الفعل الفلاني فيه جلب نفع أو دفع ضر، ميلاً إليه مترتب على ذلك الاعتقاد، وهذا الميل مغاير للعلم بالنفع ودفع الضرر ضرورة ... " 1. وهذا التعريف لا يصلح تعريفاً للإرادة البشرية مطلقاً، وذلك أن الإرادة قد تكون منبعثة من الاعتقادات، أو من العواطف والهوى، أو من الانفعال، وعليه فهو تعريف لنوع من الإرادات. كما أني أرى أنه يصلح لتعريف إرادة نوع من الناس، وهم المؤمنون كاملو الإيمان، الذي اتفقت عواطفهم وانفعالاتهم مع عقائدهم. أما الانفعالات فأثرها على الإرادة واضح، وذلك أن الانفعال تهيؤ في النفس يدفع إلى سلوك معين يتناسب مع مهيجات الانفعال. فالانفعال الذي يقوم بالقلب -مثلاً- عند رؤية من يفعل المنكر أو الضار، أو من يترك المعروف أو النافع، يوجه الإرادة نحو سلوك مناسب تقتضيه طبيعة الإصلاح. ورؤية الأسد -مثلاً ينتج عنها انفعال خوف يتولد عنه إرادة الهروب، ورؤية المنقطع قافلة مارة ينتج عنها انفعال فرح واستبشار يتولد عنه إرادة طلبها واللحاق بها.

_ 1 كشاف اصطلاحات الفنون، المولوي محمد علي التهانوي 1/553، دار قهرمان للنشر والتوزيع، استانبول ط:2، 1404هـ.

والانفعال الحاد الشديد ينتج عنه -في الغالب- إرادة فعل سيئ ضار. فالذي يغضب غضباً شديداً قد تتوجه إرادته إلى قتل نفسه، أو أحد أقاربه، أو الذي أغضبه، كما قد يطلق زوجته، أو يتلفظ بأقوال تعود عليه بالشر في دينه أو دنياه. وكما أن الوظائف القلبية تؤثر في الإرادة، فإنها أيضاً يؤثر بعضها في بعض، فتوجه بعض الوظائف وظائف أخرى إلى وجهات تتفق معها. وحال القلب في النهاية من حيث الصلاح أو ضده، متوقف على صلاح تلك الوظائف أو فسادها. وذلك أن وظائف القلب خلقت متقلبة غير مجبرة على حال واحدة، بل هي قابلة للتوجه مع ما يتناسب مع الموجهات الواردة لها والمؤثرة فيها. فإذا كانت تلك الموجهات صحيحة، وتجاوب القلب معها صلحت وظائفه وإراداته، فأصبح صالحاً، وإذا صلح صلح سائر عمله وأحواله, وإذا كانت الموجهات فاسدة، وتأثرت الوظائف القلبية بها وتغذت منها، فسد القلب، ففسد سلوك الإنسان وأحواله. فالعلوم الواردة إلى القلب، أو جملة المشاهدات والمسموعات التي ينقلها السمع والبصر، هي السبب الأهم الذي جعله الله لتغذية وتوجيه وظائف القلب المختلفة. والجسر الذي ينقلها إلى القلب هي وظيفة التعقل. فالتعقل -الذي هو إعمال الفكر بما يورده السمع والبصر- تنتج

عنه العلوم والحكم والمعارف، وهذه إذا صدقها القلب وركن إليها أصبحت عقائد يتولد عنها عواطف. فمثلاً: يعمل الإنسان فكره في تفهم كلام الله عز وجل، فيفيده ذلك علماً بأن الله لا إله إلا هو، فإذا صدق القلب بذلك وركن إليه أصبح عقيدة، يتولد منها عاطفه هي حب الله، ويتولد من ذلك كله إرادة التقرب إلى الله بطاعته. فيكون الفكر والتعقل وما ينتج عنه من العلوم هو الخطوة الأولى والأساس لما يقوم بالقلب من التصورات والعقائد، والعواطف، والإرادات، والانفعالات، وما يكون في القلب هو الأساس لما يقوم بالجوارح من الأعمال الاختيارية. قال ابن القيم رحمه الله مشيراً إلى تأثير الوظائف القلبية بعضها في بعض: "مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري، هو الخواطر والأفكار، فإنها توجب التصورات، والتصورات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوع الفعل وكثرة تكراره تعطي العادة، فصلاح هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار، وفسادها بفسادها"1. وقال أيضاً رحمه الله: "أصل الخير والشر من قبل التفكر، فإن الفكر

_ 1 كتاب الفوائد لابن القيم ص225.

مبدأ الإرادة والطلب في الزهد، والترك والحب والبغض" 1. ويستخلص من ذلك: إن العلوم الواردة من التفكر هي البانية للعقائد والتصورات، وبما يتفق معها تكون العواطف من المحبوبات والمكروهات. وإن العقائد والعواطف هي الموجهة للإرادات. فالأصل أن الإنسان يحب ما يعتقد فيه النفع، ويكره ما فيه الضرر. لكن قد يقترن بالنافع مكروه كالمشقة أو توقع الأذى، فيكره النافع لكراهية ما اقترن به، أو تتخلف الإرادة عنه، وكذلك قد يقترن بالضار محبوب، كراحة أو لذة، فيحبه وتتعلق إرادته به. وقد بين الله هذا المعنى بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} البقرة:216] . وقال صلى الله عليه وسلم: " حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات " 2.

_ 1 المصدر السابق ص255. 2 رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيم أهلها، ح2823 4/2174، ورواه البخاري بلفظ: "حجبت" كتاب الرقاق، باب حجب النار بالشهوات ح6487 الصحيح مع الفتح 11/320.

وكما أن العقائد مؤثرة في الإرادة فهي أيضاً موجهة للانفعال، فالمؤمن -مثلاً- ينفعل منكراً محذراً إذا رأى من يخالف ما يعتقده معروفاً، أو رأى من يفعل ما يعتقد أنه منكر. وكذلك العواطف موجهة للانفعال، فينفعل الإنسان مع من يحب شوقاً ومودة، كما ينفعل غضباً له إذا اعتدى عليه أو على حق من حقوقه. كما أن الانفعال تختلف صفته بحسب العقيدة والعاطفة، فإذا نال الولد -مثلاً- مكروهاً من والده الذي يحبه ويحسن الظن به، ويعتقد أنه لا يريد به إلا الخير، كان انفعاله مختلفاً عن لو أصابه ذلك المكروه من شخص آخر لا يشعر نحوه بتلك العاطفة، ولا يعتقد فيه ذلك الاعتقاد. وبهذا يتبين أثر العلم في تكون وتوجه العقائد والعواطف، وأثر العواطف والعقائد على الإرادات والانفعالات. ومما يحسن التنبيه عليه أن العكس صحيح، أي أن العواطف والعقائد إذا استحكمت كان لها تأثير عظيم في توجيه الفكر والتعقل. فالعقائد الباطلة إذا استحكمت في قلوب معتنقيها وألفوها صدفتهم عن تفهم ما يخالفها عموماً، وعن الحق خصوصاً، ولو فهموه وعرفوه أعرضوا عنه ولم يقبلوه. وهذه خاصية نفسية للعقائد والعواطف الباطلة المستحكمة تشل القلب والفكر، فالباطل عقيم يميت القلب.

أما عقائد الحق وما يتبعها من عواطف طيبة، فإنها تحيي القلب وتخصبه وتكسبه ملكة وخاصية نفسية أخرى، وهي محبة الخير والبحث عنه وتقبله، كما أنها تحصنه من الباطل وتنفره منه. وقد بين الله أثر العقائد والعواطف الباطلة في صرف أهلها عن العلم بالحق والعمل به، فقال: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} الجاثية:7-9] . فبين تعالى أن هذا الأفاك الأثيم لا ينتفع بسماع آيات الله البينات، بل يصر على باطله، ويستكبر عن تفهم الحق والانقياد له، ولا يبالي به كحال الذي لا يسمع1. وقد بين سبحانه -في موضع آخر- سبب هذا الموقف، وأنه استحكام العقائد الفاسدة، والأعمال السيئة في قلبه، حتى غطته وحجبته عن معرفة الحق والانقياد له، فقال تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} المطففين: 13، 14] .

_ 1 انظر: التفسير الكبير للرازي 27/260، 261 بتصرف.

فبين تعالى أن ما كسبوه من العقائد الباطلة، والأفعال القبيحة ومداومتهم عليها، قد رانت على قلوبهم، أي رسخت فيها وغطتها حتى حجبت عنها الحق، وحالت بينها وبين رؤيته1. ومن أمثلة ذلك ما قصه الله من حال بني إسرائيل الذي استحكمت فيهم عقيدة ألوهية العجل، ومحبتهم له فصرفتهم عن تدبر الحق والعمل به: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:93] . ومن آفات قلوبهم أيضاً الحسد، وهو عاطفة سائدة، تسيطر على القلب والعمل، فقال تعالى مبيناً اتصافهم به: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} البقرة: 109] . من ذلك استحكام الوثنية في قلوب المشركين من كفار العرب، وتقليدهم لآبائهم فيها حملهم على عدم الرضوخ للحق علماً وعملاً:

_ 1 انظر التفسبر الكبير للرازي 31/94 بتصرف.

قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170] . فكل ذلك يجمعه تكون العواطف -كحب الآلهة، أو حب الآباء، والإعجاب بهم، أو حب العادة والإلف- من العقائد، وقوة تلك العواطف بكثرة الاكتساب، حتى تصبح عواطف راسخة متمكنة من القلوب. ومن العواطف السائدة التي تحجب القلوب عن العلم: الهوى. قال الله تبارك وتعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23] . فبين الله تعالى في هذه الآية حال فريق من الناس، وما فعله بهم جزاء لتلك الحال: بين حالهم بقوله: {اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} أي سيطر عليه الهوى حتى صار معبوداً له. "فيعبد ما هوي من شيء دون الإله الحق الذي له الألوهية من كل شيء" 1.

_ 1 جامع البيان لابن جرير 25/150.

وبين عقابه لهم على ذلك بقوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ ... } . "أي خذله عن محجة الطريق، وسبيل الرشاد في سابق علمه، علم منه بأنه لا يهتدي ولو جاءته كل آية" 1. وعاقبهم أيضاً بأن منعهم من الانتفاع بموارد العلم التي هي السمع والبصر والقلب. فدل على أن استحكام الهوى وهي العواطف الفاسدة سبب الضلال ومانع من التعقل، والمعرفة السليمة. وبهذا يتبين المقصود، وهو تأثير العواطف والعقائد على التعقل وتحصيل العلوم. وخلاصة ما تقدم: أن العلم الوارد إلى القلب، هو الموجه الأول والمؤثر الأساس الباني -بإذن الله- للعقائد والعواطف، وللعقائد تأثير على العواطف، ولهما تأثير على الانفعالات. كما تبين الأثر العكسي وهو تأثير العواطف والعقائد المستحكمة على التعقل واكتساب العلوم، والله أعلم. وإذا تبين ذلك فإن الغرض هو معرفة أثر الإيمان على هذه الوظائف القلبية، وبحيث يقطع الصلة بينها وبين الأفكار المخالفة الضالة، وذلك ما سيجري الكلام عليه في الفصل الثاني والثالث، من هذا الباب -إن شاء الله تعالى.

_ 1 المصدر السابق 25/150.

المبحث الثالث: أحوال القلوب

المبحث الثالث: أحوال القلوب إن الكلام على تأثير الإيمان في مجال تحصينه من الأفكار الهدامة، يتطلب معرفة أحوال القلوب، وذلك لكي يتبين أي القلوب التي يجري البحث في أثر الإيمان في تحصينها. فالقلوب عامة لا تخلو من ثلاث حالات، فإما أن يكون القلب حياً صحيحاً، وإما أن يكون مريضاً، وإما أن يكون ميتاً، وهذه الأحوال قد يمر بها قلب واحد، فيتقلب من حال إلى حال، وقد تلازم حال منها بعض القلوب دائماً. والكلام على أحوال القلوب وأنواعها قد ورد بيانه في الوحي المطهر، ولذا سوف يكون الكلام في هذا المبحث من خلال استعراض بعض النصوص التي تكلمت عن القلوب. فالحال الأولى: هي حال القلب السليم. قال -تبارك وتعالى- عن خليله إبراهيم عليه السلام أنه قال في دعائه: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 87، 89] ، وقال: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} الصافات:83، 84] .

والقلب السليم هو الذي عمر بالعلم والإيمان، والعقائد والعواطف المستمدة منها، وسلم من ضد ذلك. قال ابن القيم رحمه الله: "وقد اختلفت عبارات الناس في معنى القلب السليم، والأمر الجامع لذلك: إنه الذي قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره ... هو الذي سلم من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه ما، بل قد خلصت عبوديته لله تعالى: إرادة ومحبة وتوكلاً، وإنابة وإخباتاً وخشية، وخلص عمله لله، فإن أحب، أحب في الله، وإن أبغض، أبغض في الله، وإن أعطى، أعطى لله، وإن منع، منع لله، ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكيم لكل من عدا رسوله صلى الله عليه وسلم فيعتقد قلبه معه عقداً محكماً على الائتمام والاقتداء به وحده، دون كل أحد ... " 1. والقلب السليم هو الذي لا يشوب اعتقاده شيء من رجس الشرك أو الشك، ولا تميل عواطفه إلى محبة غير الله، أو محبة ما يمقته ولا تتوجه إراداته إلى الأعمال القبيحة، فهو طاهر من الشبهات الموجبة للشك في العلم والاعتقاد، ومن الشهوات الموجبة للميل إلى الفواحش والقبائح. ومن أوصافه أنه منيب، قال تعالى: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ

_ 1 إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان لابن القيم 1/12، تحقيق: محمد عفيفي.

بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:33] . والقلب المنيب هو التائب من ذنوبه، الراجع مما يكرهه الله إلى ما يرضيه1. ومن أوصافه أنه مطمئن. قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] . وقال: {أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] . فالقلب المطمئن هو الذي انشرح للإيمان، وركن إليه، وارتاح واستأنس به، قد أدرك من الأدلة المشاهدة والمتلوة -على ما يتطلب الإيمانُ التصديقَ به- ما أكسبه اليقين، وهو الذي يأنس ويرتاح لذكر الله. ومن أوصافه أنه طاهر. قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] ومن أوصافه أنه قلب لين. قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23] .

_ 1 انظر: جامع البيان لابن جرير 26/173.

ولين القلوب ضد قساوتها الذي وصفت به قلوب الكفار، فالقلب اللين هو الذي ينتفع بالذكر والمواعظ، فيرق للحق ويقبله ويذعن له، وينقاد. الحالة الثانية: القلب الميت: وهو القلب الخالي من الإيمان، قد أقفر من الخير، وأصيح مرتعاً للشر. قال ابن القيم رحمه الله: "وهو القلب الميت الذي لا حياة به، فهو لا يعرف ربه، ولا يعبده بأمره وما يحبه ويرضاه، بل هو واقف مع شهواته ولذاذاته، ولو كان فيها سخط ربه وغضبه ... " 1. ومن صفاته أنه قد غلفه الران فخُتم وطُبع عليه، فهو مقفل عن كل خير أعمى لا يبصر الهدى. قال تعالى: {كَلاَّبَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] . وقال: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:7] . وقال: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} [الأعراف:101] .

_ 1 إغاثة اللهفان لابن القيم 1/13.

وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:3] . وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] . قال مجاهد رحمه الله: "الران أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الأقفال، والأقفال أشد ذلك كله"1. وقال ابن جرير في تفسير قوله تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} الآية: "يقول تعالى ذكره: إذا قرئ عليه حججنا وأدلتنا التي بيناها في كتابنا الذي أنزلناه إلى محمد صلى الله عليه وسلم قال أساطير الأولين يقول هذا ما سطره الأولون من الأحاديث والأخبار. وقوله: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم} يقول تعالى ذكره مكذباً لهم قولهم ذلك: كلا، ما ذلك كذلك، ولكنه ران على قلوبهم، يقول غلب على قلوبهم وغمرها، وأحاطت بها الذنوب فغطتها" 2. ومعنى ذلك -والله أعلم- أن إصرارهم على الكفر والمعاصي سبّب لهم إلفها واستحكام معتقداتهم الباطلة وعواطفهم المائلة، فإنّ العواطف تقوى مع تكرار الممارسة، فتصبح عواطف مستحكمة، والعواطف

_ 1 جامع البيان لابن جرير 1/112 ط 3. 2 المصدر السابق 30/97.

المستحكمة تستولي على القلب، وتغمره وتسيطر عليه، وتتحكم في تعقله وإراداته وانفعالاته، فلا ينبعث بشيء من ذلك إلا لما يلائمها، واستحكام العقائد الفاسدة هو عمي القلب. قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] . وقال ابن جرير رحمه الله مبيناً العلاقة بين الران وبين الطبع والختم: "والحق في ذلك ما صح بنظيره الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت له نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، فإن زاد زادت حتى يغلف قلبه، فذلك الران الذي قال جل ثناؤه: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} "1، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلفتها، وإذا أغلفتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله عز وجل والطبع، فلا يكون للإيمان إليها مسلك، ولا للكفر منها مخلص، فذلك هو الطبع والختم الذي ذكره الله تبارك وتعالى ... لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه

_ 1 رواه أحمد، المسند 2/297، والترمذي وقال:" حديث حسن صحيح"، تحفة الأحوذي 9/254، والحاكم وقال:" صحيح على شرط مسلم" المستدرك 2/517، ووافقه الذهبي.

ختم على قلوبهم، إلا بعد فضه خاتمه وحله رباطه عنها" 1. وقلب كهذا عليه أقفال كثيرة تحول بينه وبين تدبر كلام الله، فالعقائد والعواطف المستحكمة أقفال، والران الحاجب للبصيرة قفل، والختم والطبع الذي عاقب الله ذلك القلب به لِمَا قام به من السوء قفل. قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] . قال ابن كثير رحمه الله: "أي بل على قلوب أقفالها، فهي مطبقة لا يخلص إليها شيء من معانيه"2. ومن أوصاف القلب الميت أنه لاه غافل، قد أشرب حب اللهو فاشتغل به. قال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ* مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ* لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء:1-3] . وقال: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] .

_ 1 جامع البيان 3/112، 113. 2 تفسير القرآن العظيم 6/302.

قال ابن جرير رحمه الله: "يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: ولا تطع يا محمد من شغلنا قلبه من الكفار ... ، بالكفر وغلبة الشقاء، واتبع هواه، وترك اتباع أمر الله ونهيه، وآثر هوى نفسه على طاعة ربه" 1. ومن أوصافه أنه قاسٍ: قال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22] . والقسوة هي غلظ القلب وجفافه، وأصله من حجر قاس2. قال الشوكاني رحمه الله: "والقسوة: الصلابة واليبس، وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان لآيات الله ... " 3. فالمادة القاسية مثل للقلب القاسي، والأشياء القاسية تنقسم إلى قسمين: قسم صلب لا يحتوي على الماء، ولا يلين بنزول الماء عليه كالحجارة، وقسم لا يحتوي على الماء حال شدته ويبوسته، لكن يؤثر عليه الماء فيلينه، كالطين اليابس. وكذلك القلوب، منها قلوب قاسية كالحجارة، لا يوجد فيها إيمان ولا تنتفع بالذكر والمواعظ والآيات فتلين، وهذه قلوب نوع من الكفار،

_ 1 جامع البيان لابن جرير 15/236. 2 انظر المفردات للراغب الأصفهاني ص404، وجامع البيان 23/209. 3 فتح القدير 1/100.

أشار الله إلى هذا النوع بقوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] . وحيث إنّ الحجارة لا تحتوي على الماء، ولا يلينها الماء إذا نزل عليها، ولكن قد يوجد فيها فجوات يستقر فيها فيخرج من الشقوق التي في الصخور، أو يجري على شكل أنهار فينتفع منه الناس، إلا أن هذه الصفة النافعة الموجودة في الحجارة ليست عندهم، فهم ليسوا بمهتدين، ولا يذعنون للهدى، وليس عندهم خير ينتفع منه الناس. كما أن الحجارة أفضل منهم من وجه آخر، حيث إنها تخشع وتسقط من خشية الله. كما قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّه} [الحشر:21] . بين الله هذه الفروق التي تدل على أن قساوة قلوب هؤلاء أشد من الحجارة بقوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74] . ومن القلوب قلوب قاسية، لكنها تنتفع بالعلم والخير والمواعظ إذا

جاءتها، كما يلين الماء الطين اليابس فتزول شدته، ويمكن الانتفاع به، وهذه قلوب المؤمنين الذين تقسو قلوبهم أحياناً بالغفلة والمعاصي. والحال الثالثة: هي حال القلب المريض. قال ابن القيم رحمه الله في وصف هذا القلب: "قلب له حياة وبه علة، فله مادتان، تمده هذه مرة، وهذه أخرى، وهو لما غلب عليه منهما، ففيه محبة الله تعالى والإيمان به والإخلاص له، والتوكل عليه ما هو مادة حياته، وفيه من محبة الشهوات وإيثارها والحرص على تحصيلها والحسد والكبر والعجب، وحب العلو والفساد في الأرض بالرياسة، ما هو مادة هلاكه وعطبه، وهو ممتحن بين داعيين: داع يدعوه إلى الله ورسوله والدار الآخرة، وداع يدعوه إلى العاجلة، وهو إنما يجيب أقربهما منه باباً، وأدانهما إليه جواراً. فالقلب الأول، حي مخبت لين واع، والثاني يابس ميت، والثالث مريض، فإما إلى السلامة أدنى، وإما إلى العطب أدنى. وقد جمع الله سبحانه بين هذه القلوب الثلاثة في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ وَلِيَعْلَمَ الَّذِين

أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج:52-54] . فجعل سبحانه وتعالى القلوب في هذه الآية ثلاثة: قلبين مفتونين، وقلباً ناجياً، فالمفتونان: القلب الذي فيه مرض، والقلب القاسي. والناجي: القلب المؤمن المخبت إلى ربه، وهو المطمئن إليه الخاضع له، المستسلم المنقاد"1. وأمراض القلوب نوعان: مرض شك وريب، يصيب المعتقدات، ويتولد من الخوض في الشبهات، ومنه يكون الكفر والنفاق. ومرض الشهوات، يصيب العواطف والرغبات، ومنه تكون المعاصي وبعض البدع. وقد أشار الله تعالى إلى أن هذين الأمرين هما أساس فساد الدين بقوله: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ

_ 1 إغاثة للهفان لابن القيم 1/14.

الْخَاسِرُونَ} [التوبة:69] . قال ابن تيمية رحمه الله: "وجمع سبحانه بين الاستمتاع بالخلاق، وبين الخوض: لأن فساد الدين إما أن يقع بالاعتقاد الباطل والتكلم به، أو يقع في العمل بخلاف الاعتقاد الحق ... والأول: من جهة الشبهات. والثاني: من جهة الشهوات"1. فبين رحمه الله إنّ الفساد في القول والعمل أصله شبهة، أو شهوة قائمة في القلب. وقد ذكر الله نوعي مرض القلب في كثير من الآيات: فقال في مرض الشك والريب: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10] . وقال: {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} [المدثر: 31] فهذا مرض النفاق2.ومن صفات هذا القلب المريض بمرض النفاق أنه زائغ.

_ 1 اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة اصحاب الجحيم تحقيق د. ناصر العقل 1/102، 103. 2 انظر: جامع البيان لابن جرير 29/3.

قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] . أي: لما عدلوا وجاروا عن قصد السبيل أزاغ الله قلوبهم فأمالها عنه1، عقوبة منه بهم موافقة لفعلهم. فالقلب الزائغ هو الذي عرف الحق، ثم مال عنه بسبب الشهوات، كحال أهل الأهواء والبدع، لذلك شرع الله للمهتدين سؤال التثبيت بقوله: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8] . ومن صفاته أنه مرتاب. قال تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة 45] . فالريب والشك الحاصل في هذا القلب بسبب الجهل والخوض في الشبهات، هو الداء الحقيقي الذي ترتب عليه الزيغ والنفاق، والسلوك السيئ. والنوع الثاني من أمراض القلوب: هو مرض الشهوة. قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] .

_ 1 انظر: جامع البيان 28/86.

والمراد والله أعلم، مرض شهوة الزنَى1. والقلب المريض هو الذي تمكن حب الشهوة المنحرفة في عواطفه، فينبعث عند ورود دوافعها، فهو مريض يصيب العواطف، كما أنّ مرض الشك والريب يكون في العقائد. ومن الأمراض التي تصيب العواطف: عاطفة حب المال، الباعث على الحرص عليه، والتعلق به، وحب الرئاسة الباعثة على إرادة العلو والاستكبار، والكبر والعجب، وهي ترجع إلى عاطفة حب الذات. ويشتد خطر هذه الأمراض عندما يتمكن حب شيء من ذلك في القلب، حتى يصبح عاطفة سائدة ولا يكون متوجهاً إلى الله، فإنه والحالة هذه يكون شركاً، وذلك أن القلب لا ينبعث لشيء إلا وفق هذه العاطفة المستحكمة، وبذلك يكون هوى القلب وميله موافقاً لها، فيسري أثرها على كافة وظائف القلب، وهذا داء خطير يميت القلب. قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية:23] . والقلب المريض بشبهة أو شهوة محرمة فيه من صفات القلب الميت بحسب ما فيه من المرض، ففيه من الران والقلق والقسوة والغفلة واللهو ما

_ 1 انظر: جامع البيان 22/3.

يتناسب مع قوة المرض، إلا أنه لم يصل إلى درجة الختم والقفل والطبع، فهو قلب مريض ينفع فيه العلاج بإذن الله، كما أنه في طريقه إلى الموت إن أهمل علاجه، واستمر به داؤه. مما تقدم تبين أن للقلوب على وجه الإجمال، ثلاث حالات: القلب السليم وهو الذي عمر بالعلم النافع والمعتقد الصحيح، والإيمان الخالص، والعواطف السليمة، فهو طاهر بذلك سالم من ضده، مطمئن للحق راكن إليه، لين ينتفع بالذكر المواعظ ويتفاعل معها. وقلب ميت خراب من الإيمان والخير، عقائده باطلة، وظنونه سيئة وعواطفه مائلة، قد استحكم عليه الران فغطّاه، فهو أعمى عن الهدى، غافل عما فيه سعادته وهداه، مشتغل فيما يهواه، قلب غليظ قاس لا يلين للمواعظ والذكر فينتفع بها. وقلب مريض فيه إيمان وبه داء من جهة الشبهات أو الشهوات أو منهما معاً، ففيه من الشك والريب والزيغ، أو الغفلة والقسوة والران والقلق بقدر تلك الشبهات أو الشهوات الناخرة فيه، فهو قابل للسلامة إن تعاهده صاحبه بالعلاج بإذن الله، وإلا فهو في طريقه إلى الهلاك، أعاذنا الله من ذلك. والقلب الذي يجري البحث في أثر الإيمان في تحصينه ضد الأفكار الهدامة، هو القلب السليم الذي عمر بالإيمان، ويخشى عليه من تسلل الشبهات أو الشهوات إليه، فجعل الله الإيمان سبباً في تحصينه، ودفع تلك

الأخطار عنه، كما سيأتي إن شاء الله. أما القلب المريض فليس البحث في تحصينه، حيث إنه قد دخل بعض الداء فيه، وإنما للإيمان أثر عظيم في شفائه وتطهيره إذا سلك صاحبه أسباب ذلك. أما القلب الميت فإن كان لم يختم عليه، فحياته بالإيمان ممكنة. قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] . وأما إن كان قد ختم وطبع عليه فلا سبيل للإيمان إليه، وذلك أن الله لا يختم على قلب إلا عن علم بأنه لن يؤمن أبداً، وأنه سيلازم الغي والضلال، ولو رأى كل آية، بل وعلم الله أنه من الذين لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، بين ذلك سبحانه، وأنه الختم عن علم بقوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23] .

المبحث الرابع: أثر الإيمان في القلوب دائر بين التطهير والتزكية

المبحث الرابع: أثر الإيمان في القلوب دائر بين التطهير والتزكية الهداية إلى صراط الله المستقيم تتم بإرادته وخلقه سبحانه، فحياة القلب تبدأ بفعل يفعله الله به، وبين ذلك سبحانه بقوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 125] . فبين سبحانه أنه من أراد هدايته فإنه يقذف نور الإيمان في قلبه، فينشرح له القلب بالقبول والإذعان1. وفعل الله هذا جار على مقتضى علمه وحكمته سبحانه، فهو يعلم ما العباد عاملون، وإلى أي حال صائرون، كما اقتضت حكمته أنْ يجازي كلا منهم بما يتناسب مع عمله، وما جاء به من السبب، فمن اهتدى وسلك أسباب الهداية هداه. كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ

_ 1 انظر: جامع البيان لابن جرير 8/26، 27، وتفسير القرآن العظيم ط الشعب 3/326، 327.

الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] . ومن ضل وسلك أسباب الغواية أضله الله وأرداه، كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5] . {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِم} [النساء:155] . وعلى هذا فإن الله بين أنه يشرح صدر من أراد هدايته وبين في مواضع أخرى من هو الذي اقتضت حكمته أن يُهْدى، وأنه الذي أناب إلى ربه، وانتفع بما أعطاه الله من العقل، وما جاءه من العلم وركب فيه من القوى، وهُيّأ له من الأسباب في معرفة الحق ومحبته وطلبه، فمن جاء بذلك هداه الله، وشرح صدره للإسلام. قال تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد:27] . وقال: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى:13] . فقد بين سبحانه في هاتين الآيتين أنه يهدي من اتصف بالإنابة، والإنابة صفة يوصف بها من أقبل على الحق ورجع عن الباطل. وقد حصر ابن جرير رحمه الله ما ورد في تعريف الإنابة في: الرجوع والإقبال1.

_ 1 انظر: جامع البيان 12/80، 103 و25/16.

فمن كان بهذه الصفة مقبلاً على الحق إذا تبين له، راجعاً تائباً عن ضده من الباطل، فإن الله يهديه حيث اقتضت حكمته أن يهدي من طلب الهداية وسعى لها. أما الذي ليس له همة في معرفة الحق، أو عرفه ولم يقم به شوق ولا طلب له، ولم يرفع به رأساً، فهبة الله أغلى من أن تعطى لمن لا يقدرها، ولم ينبعث لطلبها. ونور الهداية الذي يقذفه الله في قلب المؤمن يحدث أثراُ عظيماً على وظائف القلب، أهمها توجيه وظيفة التعقل الوجهة الصحيحة، حيث يركن إلى الوحي وحده، يستقي منه العقائد والشرائع، فلا يزال القلب يتعقل المعارف والحكم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فتبنى عقائده على أساس ثابت، وتُغذى عواطفه بمعين الخير الصافي، ويخرج ما يضاد ذلك من ظلمات الجاهلية، ويزداد ذلك بازدياد العلم الوارد إلى القلب، فلا يزال الخير إليه واصل، والشر منه نازل، حتى يصلح القلب ويستنير، فتنبعث الجوارح بالعبودية لله عن علم به وبحقه سبحانه. فالقلب الذي رسخت عقائده بالدلائل البينات، وتوجهت عواطفه إلى الله بالحب والرغبات ميلاً إليه، وإعراضاً عمن سواه، وأصبحت إراداته وانفعالاته طوعاً لمراد الله وشرعه، هذا القلب هو المحصن بإذن الله من الشبهات التي يزخرفها شياطين الإنس والجن أو الشهوات التي يزينونها. وحصانة القلب وعمرانه بالخير لا بد لها من أن يكون طاهراً زكياً،

فصلاح القلب قائم على التطهير والتزكية. قال ابن القيم رحمه الله: "والمقصود: أن زكاة القلب موقوفة على طهارته، كما أن زكاة البدن موقوفة على استفراغه من أخلاطه الرديئة الفاسدة" 1. وقال أيضاً:" ... فكذلك القلب إذا تخلص من الذنوب بالتوبة، فقد استفرغ من تخليطه، فتخلصت قوة القلب وإرادته للخير، فاستراح من تلك الجواذب الفاسدة، والمواد الردية، فزكا ونما وقوي واشتد، وجلس على سرير ملكه، ونفذ حكمه في رعيته، فسمعت له وأطاعت، فلا سبيل إلى زكاته إلا بعد طهارته ... " 2. فأثر الإيمان على القلوب دائربين تطهيرها وتزكيتها، وكلا هذين الأمرين من التطهير والتزكية لهما دور هام في تحصين القلب من الأفكار الفاسدة. والتطهير مقدم على التزكية من باب: التخلية قبل التحلية فالتطهير هو إخراج دغل القلب وفساده، فيكون مهيأ لاستقبال الخير والترقي فيه. وقد وردت الإشارة إلى تقديم التطهير على التزكية في كثير من

_ 1 إغاثة اللهفان 1/81. 2 نفس المرجع ص77.

النصوص منها: قول الله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:156] . وقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] . وإذا تبين هذا فإن أهم وأول أثر للإيمان هو تطهير القلب، ثم تزكيته، وسوف أتكلم على كل منهما في فصل مستقل، أبين فيه الآثار التي يحدثها الإيمان من خلال كل منهما، والله المستعان.

الفصل الثاني: أثر الإيمان في تطهير القلوب.

الفصل الثاني: أثر الإيمان في تطهير القلوب. * ... والمقصود هو الكلام على أثر الإيمان في تطهير نفس المؤمن، وبيان أن ذلك جزء هام من الحصن المتين الذي يُحصن به القلب ضد الأفكار الخبيثة. والتطهير: اسم للفعل الذي تحصل به الطهارة. وطهارة النفس: تشمل تنقية القلب من العقائد الباطلة، والظنون السيئة، والعواطف المنحرفة، والإرادات الفاسدة، وتنقيته من أدران الذنوب والران الجاثم عليه. كما تشمل تنقية السلوك من الأعمال القبيحة والعادات الرديئة. وهذا الفصل يدور حول الأمر الأول تنقية القلوب وهو الأصل والأساس لصلاح السلوك. هذا وسوف أتكلم على آثار الإيمان في تطهير القلب -مع الإشارة إلى علاقة كل أثر بتحصين القلب- في عدة مباحث على النحو التالي: المبحث الأول: أثره في تطهير القلب من العقائد الباطلة والظنون السيئة. المبحث الثاني: أثره في تطهير القلب من الران ودرن المعاصي. المبحث الثالث: أثره في تطهير القلب من العواطف الفاسدة. وإلى المبحث الأول من هذا الفصل، وبالله التوفيق ...

المبحث الأول: أثر الإيمان في تطهير القلوب من العقائد الباطلة والظنون السيئة

المبحث الأول: أثر الإيمان في تطهير القلوب من العقائد الباطلة والظنون السيئة كل إنسان يحمل في قلبه عقائد ومفاهيم تخصه عن مختلف القضايا التي يتوجه إليها اهتمام الناس، استقى هذه المعلومات من مصادر مختلفة أهمها: كتب ورجال ملته، وعن طريق والديه ومجتمعه، كما أن للقصص والأساطير التي غالباً ما تنتشر بين الناس أثراً في تكوين ذلك، وفي وقتنا الحاضر تحتل وسائل الإعلام مكانة عظيمة كموجه ومؤثر على الفكر، وتكوين العقائد والمفاهيم. وعلى هذا فالخطوة الأولى التي يعتني بها الإسلام هي تنقية وتطهير قلوب معتنقيه، من العقائد والظنون السيئة الموروثة لديهم. ويتم ذلك بتعليمهم الحق، وبيان الباطل ودحضه في جميع المطالب الأساسية التي تشتاق قلوب العباد لمعرفتها، والتي لا بد منها لحصول الهداية للبشر، كمعرفة الخالق تبارك وتعالى، وأصل الإنسان، ودوره في الحياة، والحكمة من خلقه، ومصيره وما يكون بعد الموت، وحق خالقه عليه، وغير ذلك من الأمور الغيبية: كالملائكة، والكتب المنزلة، ورسل

الله إلى البشر، واليوم الآخر، والقدر. ومن أجل ترسيخ هذه المفاهيم المصلحة للقلب، لا بد من تطهيره من ضدها، قال ابن القيم رحمه الله:"قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده، وهذا كما أنه في الذوات والأعيان، فكذلك في الاعتقادات والإرادات، فإذا كان موضع القلب ممتلئاً بالباطل اعتقاداً ومحبة، لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع" 1. وقد أكد سبحانه هذا المعنى بقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256] . فقدم سبحانه الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله تنبيهاً إلى وجوب تخلية القلب من الضد، فلا يصح إيمان بالله وإيمان بشيء من الطواغيت، كما لا يكفي براءة من الطاغوت بدون إيمان بالله، فلا بد من تطهير تصاحبه تزكية. قال ابن جرير رحمه الله في تفسير الآية: "فتأويل الكلام إذاً: فمن يجحد ربوبية كل معبود من دون الله فيكفر به ويؤمن بالله، يقول: ويصدق بالله أنه إله وربه ومعبوده، فقد استمسك بالعروة الوثقى، يقول: فقد تمسك بأوثق ما يتمسك به من طلب الخلاص لنفسه من عذاب الله

_ 1 الفوائد لابن القيم ص43، دار النفائس، بيروت ط السابعة 1406هـ.

وعقابه" 1. وهكذا في جميع المطالب الإلهية فإنه يجب على المسلم أن يتبرأ من الباطل فور انكشافه له، ويلتزم الحق. والمؤثر الأهم في تحقيق هذا المطلب هو العلم المستقى من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم أن العلم هو المؤسس والمغذي -بإذن الله- للعقائد والعواطف، وعلى هذا فلا يتصور إيمان بلا علم، ذلك أن الإيمان هو علم صدقه القلب وقبله وانقاد لموجبه، إلا أنه قد يوجد علم بلا إيمان. وقد بين الله تعالى في كتابه الكريم أثر العلم في إخراج الناس من ظلمات الضلال وتطهيرهم منها في مواضع عديدة، منها: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] . فدلت الآية على أن خروجهم من الضلال المبين، كان ببعثه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي يعلمهم الكتاب والحكمة، وبقدر حظهم من الكتاب والسنة يكون انفصالهم عن الضلال، والعكس صحيح، أي أنهم كلما ابتعدوا عن الكتاب والحكمة رجعوا إلى الضلال المبين بقدر ذلك الابتعاد. ومن ذلك قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى

_ 1 تفسير ابن جرير 3/19.

النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم:1] . فإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الكتاب العظيم المشتمل على العلم الصحيح والطريق القويم، إنما هو لإخراجهم من الكفر ودواعيه، وإدخالهم في الإيمان وشرائعه، وأعظم ظلمات الكفر هي عقائده الباطلة النجسة، والظنون السيئة القائمة في قلوب أهله. وقد أحكم الله آياته وبينها بياناً واضحاً بالأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة، والخطاب الواضح، لجلاء الحق وكشف زيف الباطل. قال تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحديد:9] . وقال تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:16] . فدلت هذه الآية على أمور هامة في مجال التطهير منها: 1- أن الذين ينتفعون بالعلم الذي جاء في كتاب الله وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فيحصل لهم أثره في التطهير والتزكية، هم المؤمنون الذين اتبعوا رضوان الله، فهم الذين تحقق لهم نفعه، كما قال تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1-2] .

أما سائر الناس، فإن الوحي هو سبيل هدايتهم، كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185] . لكن تحقق الهداية يتم للمتقين الذين اتبعوا رضوان الله. 2- دلت الآية على أن العلم المستقى من الوحي المطهر، هو السبب الأهم في هداية المؤمنين، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، دل على ذلك قوله: {يَهْدِي بِهِ اللهُ ... } الآية، فبالقرآن يهدي الله عباده المؤمنين، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى صراطه المستقيم. 3- أن تأثير العلم فيمن اتبع رضوان الله شامل لتطهيرهم بإخراجهم من الظلمات، وإبعادهم عن الضلالات، كما هو شامل لإدخالهم في النور بتزكيتهم وهدايتهم إلى سبل السلام، والصراط المستقيم. فالنور والكتاب مؤثر في التطهير والتزكية، فالله تعالى عندما يذكر إخراجهم من الظلمات يقرن به إدخالهم في النور، مما يدل على أن التطهير من الظلمات لا يكفي بدون الدخول في النور، كما أن التزكية لا تتم بدون التطهير، كما دلت الآية على أن الطريق إليهما يكون بالعلم المستمد من الكتاب والسنة والعمل به. وبهذا يتبين أن بداية الاهتداء تكون بتطهير القلب من العقائد الفاسدة، والظنون السيئة، وما يتبع ذلك من النيّات والعواطف، وتبين أن

العلم هو المؤثر الأهم لتحقيق هذا الغرض. والعلم الذي يتم به حصول المراد، هو علم التوحيد المتعلق بمعرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله وحقه على عباده، والذي يتحصل عليه المسلم بدراسة ما ورد في القرآن الكريم وأحاديث خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم، وفق منهج السلف الصالح، بعيداً عن مناهج المتكلمين، أو الفلاسفة الضالين، أو المتصوفة المبتدعين. وبالرجوع إلى القرآن العظيم، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وواقع دعوته، نجد أنها تولي أهمية بالغة وعناية خاصة بإزالة ما علق في قلوب الناس من مفاهيم وعقائد وظنون خاطئة، وذلك بالتركيز على تجلية أسماء الله وصفاته وأفعاله، وحكمته وقدره وحقه على عباده، والرد على من أثبت خلاف الحق في ذلك، وبهذه التجلية والبيان الواضح والرد الحاسم ينفك المسلم عن الطاغوت وكل ما يمت إليه بصلة، ويستمسك بالإيمان وكل ما يتصل به. والخلل في معرفة الخالق تبارك وتعالى، أو حكمته وقدره، أو حقه على عباده، يُوجِد سوء ظن بالله يتناسب مع هذا الخلل، سواء كان بجهل تلك الأسماء وما تدل عليه من الصفات، أو جهل بعض تفاصيل القدر وتوحيد الألوهية، أو كان بفهمها فهماً يخالف الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة. والظن السيئ دافع إلى الفعل السيئ، فقطع ذلك الظن قطع لإرادات

الشر وخواطره من القلب، والتي ينفذ من خلالها الشيطان لإضلال الإنسان. وكل جهل أو ضلال في معرفة اسم من أسماء الله، وما يتضمن من الصفة، يتولد عنه ظن سيئ ينعكس أثره على سلوك الفرد، ومن أمثلة ذلك ما قصه الله علينا من حال فريق من الناس حصل في قلوبهم خلل في إثبات صفة العلم لله تعالى، تولد عنه ظن سيئ وعمل خبيث. قال تعالى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:22، 23] . قال ابن جرير رحمه الله في تأويل هذه الآية: "يقول تعالى ذكره: وهذا الذي كان منكم في الدنيا من ظنكم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعلمون من قبائح أعمالكم ومساويها، وهو ظنكم الذي ظننتم بربكم في الدنيا أرداكم، يعني أهلككم" 1. فدلت الآية على أن الظن السيء ناتج عن خلل في معرفة توحيد الأسماء والصفات، وأثر ذلك على السلوك. كما دلت على أمر آخر له صلة وثيقة بهذا البحث، هو أن الظن

_ 1 جامع البيان لابن جرير 24/109.

السيء يتسبب في هلاك صاحبه، فهو ثغرة في قلبه يتسلل منها الشياطين لإفساد عبوديته وتوحيده، وتطهير القلب من هذه الظنون الفاسدة المردية لازم لبقاء حصن القلب منيعاً صامداً. وقال تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران:154] . قال ابن القيم رحمه الله حول هذه الآية: " ... وأخبر أنّ من لم يصبه ذلك النعاس، فهو ممن أهمته نفسه لا دينه ولا نبيه ولا أصحابه، وإنهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية. وقد فُسِّر هذا الظن الذي لا يليق بالله، بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وأنه يسلمه للقتل، وقد فسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقضائه وقدره، ولا حكمة له فيه، ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله ويظهر على الدين كله، وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون به سبحانه وتعالى في سورة الفتح حيث يقول: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ

وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [الفتح:6] " 1. ثم بين -رحمه الله- علاقة الظن السيء بالضلال في توحيد الأسماء والصفات، فقال: "وإنما كان هذا ظن السوء، وظن الجاهلية المنسوب إلى أهل الجهل وظن غير الحق، لأنه ظن غير ما يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وذاته المبرأة من كل عيب وسوء، وخلاف ما يليق بحكمته وحمده، وتفرده بالربوبية والألوهية، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه ... "2، ثم قال: "وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وعرف أسماءه وصفاته، وعرف موجب حمده وحكمته ... "3. وإذا كان الانحراف في توحيد الأسماء والصفات متولداً عن ظن سيء برب العالمين، فكذلك الانحراف في توحيد الألوهية متولد عن ظن

_ 1 زاد المعاد في هدي خير العباد لابن قيم الجوزية 3/228، مؤسسة الرسالة، بيروت ط: 8، 1405هـ. 2 المصدر السابق ص229. 3 نفس المصدر 229، 230. وقد بسط ابن القيم رحمه الكلام على هذا الموضوع من ص228-237 وذكر فوائد جليلة وجملة من الظنون الفاسدة الناتجة عن المعتقدات الباطلة والجهل والضلال في معرفة أسماء الله وصفاته، وقدره وحكمته، تركت إيراد ذلك لأن الغرض من هذا البحث هو معرفة الأثر والمؤثر، والله الموفق.

سيء قائم في قلوب المنحرفين. أشار إلى ذلك ربنا -تبارك وتعالى- في معرض ذكره مجادلة إبراهيم لقومه حيث قال: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لأَبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 83-87] . قال ابن القيم رحمه الله مبيناً العلاقة بين الظن السيء الناتج عن تعطيل أسماء الله، وبين الشرك في عبادة الله: "فالشرك والتعطيل مبنيان على سوء الظن بالله، ولهذا قال إمام الحنفاء لخصمائه المشركين: {أَإِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وإن كان المعنى: ما ظنكم به أن يعاملكم ويجازيكم به، وقد عبدتم معه غيره، وجعلتم له أنداداً1؟ فأنت تجد تحت هذا التهديد: ما ظننتم بربكم من السوء حتى عبدتم معه غيره2 ... "3.

_ 1 هذا التفسير هو المشهور الذي عليه معظم المفسرين. انظر: جامع البيان لابن جرير 23/70. 2 ذكر هذا التفسير أيضاً: القرطبي في الجامع لأحكام القرآن 15/92، وأبو السعود في إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم 4/514.والشيخ عبد الرحمن السعدي في تيسير العزيز الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 6/386. 3 إغاثة اللهفان 1/101.

فالله سبحانه في هذا السياق قابل بين سلامة قلب إمام الموحدين-الذي كان به موحداً- وبين ظن قومه المشركين برب العالمين الذي أوقعهم في الشرك، مما يدل على أهمية تطهير القلب وسلامته من العقائد الباطلة والظنون الفاسدة، ليتزكى بعد ذلك بالتوحيد. وعلى هذا فالضلال في معرفة توحيد الأسماء والصفات، هو السبب في تولد الظنون السيئة الباعثة على الوقوع في الشرك والسلوك المنحرف. وإذا تبين أهمية التطهير ووجوب البدء به، وأنّّ ذلك مطلوب في كل زمان ومن كل إنسان لشدة الضلال وتنوعه وانتشاره في كافة أجناس البشر، وقت البعثة النبوية وبعدها، تبين بوضوح الحكمةُ من العناية العظيمة بمسائل الإيمان، وتكرارها في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، فمعرفة الله هي أساس الهداية، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله1. والهداية بمعناها الأشمل الذي يعني الرشد والسداد في كل نشاط إنساني، فمرجع ذلك كله إلى معرفة الله معرفة صحيحة، والعمل بموجب تلك المعرفة، وكلما كان في معرفة الله خلل عند الفرد أو الجماعة، كان في سلوكها وهدايتها خلل بقدره، فهناك تلازم وثيق بين الاعتقاد وبين السلوك البشري، فصلاح وهداية النشاط البشري عائد إلى صلاح

_ 1 انظر: الفتوى الحموية الكبرى ص5.

الاعتقاد وفساده راجع إلى فساده. والحقيقة المرة التي يجب على كل مخلص يهتم بأمر المسلمين أن يدركها ويعترف بها، هي أن المنتسبين إلى الإسلام اليوم بأشد الحاجة إلى عملية التطهير، وذلك أن عقائد كثير من المسلمين وعباداتهم قد شابتها الأكدار واستحكمت فيها الانحرافات، وابتعدوا على مستويات مختلفة عما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، في جميع قضايا الدين، وأشد ذلك خطراً الانحراف فيما يتعلق بتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الألوهية والقدر، وسائر مباحث العقيدة الإسلامية. فقد أهملت أهم قضية قررها القرآن ودعا إليها النبي صلى الله عليه وسلم ألا وهي تطهير الاعتقاد، وتأسيس التوحيد في قلوب العباد على أساس معرفة الله بأسمائه وصفاته، وإخراج ما يضاد ذلك من العقائد الباطلة والظنون السيئة، ثم عبادته تعالى وحده عن علم به وبحقه، فلا يصرف شيء مما تفرد به سبحانه من الأفعال والصفات لغيره، ولا يُحرف شيء مما وصف به نفسه تبارك وتعالى إلى غير مراده، كما لا يُقصد بشيء مما يجب إفراده به من الطاعات أي مخلوق كان. فقلّ أن يوجد في مناهج الدعاة والجماعات المعاصرة الدعوة إلى تصفية الفكر الإسلامي من المناهج المبتدعة، والعلوم الزائفة الدخيلة، وإلى تنقية القلوب من العقائد الباطلة والظنون السيئة، وإلى ترك العبادات المبتدعة الناتجة عن تلك المناهج، وإلى إزالة مظاهر الانحراف والشرك من

المساجد والمشاهد التي كثرت في بلاد المسلمين. إلا أنّ الساحة الإسلامية لم تخل -والحمد لله- من القائمين بدين الله الداعين إلى ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، وسلف الأمة الصالح، مبتدئين بالدعوة إلى تطهير الاعتقاد، وتطهير الفكر والسلوك، وكل ما أدى إليه أو نتج عنه، ملتزمين بأخذ العلوم من منابعها الصافية، من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفهم السلف الصالح مقتفين أثرهم في العبادات والسلوك ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. وقد بارك الله في جهودهم -وله الحمد والمنة- فلهم علماؤهم وكتبهم المنشورة، ومجلاتهم السائرة، ودعاتهم الظاهرون، ومدارسهم وجامعاتهم المعروفة، ومحافلهم العامرة، وهم بخير وإلى خير -إن شاء الله. وخلاصة هذا المبحث: إنّ الأثر الأول للإيمان هو تطهير القلوب من الاعتقادات الباطلة، وما ينتج عنها من الظنون الرديّة المُرْدِية. وإنّ ذلك يكون بالعلم بالله وبحقه ودراسة ذلك من خلال البيان الوارد في الكتاب والسنة، وفق منهج السلف الصالح. وإنّ المسلمين اليوم بأشد الحاجة إلى هذا الأثر، وإنّه يكون بتبني العلماء العاملين والدعاة على مستوى الأفراد والجماعات المنهج السليم وتقديم هذا الأمر والعناية به، ونبذ ما خالف الحق من المبتدعات في كل مجال، وعلى كل مستوى1، والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل.

_ 1 سيأتي المزيد من البيان لهذه النقطة في مبحث "الوحدة الفكرية" في الفصل الأول من الباب الثالث.

المبحث الثاني: أثر الإيمان في تطهير القلب من الران ودرن المعاصي

المبحث الثاني: أثر الإيمان في تطهير القلب من الران ودَرَن المعاصي ويكون ذلك بتكفير الذنوب، فقد جعل الله الإيمان سبباً لتكفير الذنوب. وذلك أن الذنوب يغطي رانها القلب، وينتج عن ذلك ثلاثة أمور لها أثر بالغ في إضعاف أو فقدان حصانة القلب ضد الأفكار الهدامة ومسبباتها، وهي: 1- تقطع الصلة بالله: وقد تقدم أن أول وأهم أثر للإيمان هو كونه السبب الوحيد في حصول ولاية الله ومعونته وتأييده للعبد، وما ينتج عن ذلك من تحصينه ضد الضلالات بصرفه عنها، أو صرفها عنه. ومعلوم أن العبد في ولاية الله ما دام قائماً بالسبب الذي يحصل به عليها، وهو الإيمان والتقوى، فإذا قارف المعاصي واستمر على ذلك، بَعُد بذلك عن الله، وحجب عنه ولايته، ووكله إلى نفسه بقدر فسقه، فكان بذلك غرضاً لشياطين الإنس والجن. قال ابن القيم -رحمه الله- في معرض تعداد عقوبات المعاصي: "ومن أعظم عقوبتها أنها توجب القطيعة بين العبد وبين ربه تبارك وتعالى، وإذا وقعت القطيعة بين العبد وبين ربه -تبارك وتعالى- انقطعت عنه

أسباب الخير، واتصلت به أسباب الشر، فأي فلاح وأي رجاء، وأي عيش لمن انقطعت عنه أسباب الخير، وقطع ما بينه وبين وليه ومولاه الذي لا غنى له عنه، واتصلت به أسباب الشر ووصل ما بينه وبين أعدى عدوّ له، فتولاه عدوه وتخلى عنه وليه ... " 1. وقال أيضاً: "وأصل هذا كله، أن القلب كلما كان أبعد من الله، كانت الآفات إليه أسرع، وكلما كان أقرب من الله بعدت عنه الآفات، والبعد من الله مراتب بعضها أشد من بعض، فالغفلة تبعد العبد عن الله، وبعد المعصية أعظم من بعد الغفلة، وبعد البدعة أعظم من بعد المعصية، وبعد النفاق والشرك أعظم من ذلك كله" 2. 2- تظلم القلب: وذلك أن الران إذا زاد في القلب حجب بصيرته، وأضعف وظيفة التعقل، فيظلم قلبه ويسير في الحياة بلا نور يتخبط في الظلمات، ومنها الأفكار الهدامة التي تحيط به من كل الاتجاهات، ويروج لها كل شيطان. قال ابن القيم -رحمه الله- في بيان بعض آثار المعاصي على قلب العاصي: "يجد ظلمة في قلبه حقيقية يحس بها، كما يحس بظلمة الليل، فتصير ظلمة المعصية لقلبه كالظلمة الحسية لبصره، فإن الطاعة نور

_ 1 الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ص87. 2 المصدر السابق ص83.

والمعصية ظلمة، وكلما قويت ازدادت حيرته حتى يقع في البدع والضلالات والأمور المهلكة، وهو لا يشعر ... " 1. وقال ابن عباس -رضي الله عنه-: "إن للحسنة ضياء في الوجه، ونوراًُ في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمة في القلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق" 2. وكما أن المعصية تضعف البصيرة، فهي أيضاً تضعف التعقل، وقد تقدم أن الإيمان له تأثير في وظيفة التعقل، وكلما كان الإيمان قوياً، كان العقل أقوى وأرشد، وإذا ضعف الإيمان باقتراف المعاصي، وزاد الران أضعف هذه القوة. قال ابن القيم رحمه الله: "إن المعاصي تفسد العقل، فإن للعقل نوراً، والمعصية تطفئ نور العقل ولا بد، وإذا طفئ نوره ضعف ونقص" 3. 3- تغذي مادة الشر في القلب: إن المعاصي تصرف القلب عن صحته واستقامته إلى مرضه وانحرافه، فلا يزال مريضاً معلولاً لا ينتفع بالأغذية التي بها حياته وصلاحه، فتأثير الذنوب في القلوب كتأثير الأمراض في الأبدان، بل الذنوب أمراض القلوب

_ 1 المصدر نفسه ص55. 2 المصدر نفسه ص55. 3 المصدر السابق ص61.

ولا دواء لها إلا بتركها.1 فالمعاصي تقسي القلب، وتقوي العواطف الفاسدة التي هي من موجهات الإرادة، فيكون القلب مهيأ بما فيه من الدوافع للتفاعل مع المغريات الخارجية التي تزين له الشهوات، وتلبس عليه بالشبهات، وتكون استجابته لها بقدر ما في قلبه من الران والفساد. وتكرار المعاصي تكرار الممارسة لمعصية ما يسبب إلفها، أو ما يسمى "العاطفة المستقرة"2 التي تجعل الإنسان يمارسها إشباعاً لهذه العاطفة، حتى ولو لم يلتذ بها، وكذلك الطاعات مع تكرار الممارسة تكون عواطف مستقرة. أشار إلى ذلك العلامة ابن القيم -رحمه الله- بقوله: "ومنها أن المعاصي تزرع أمثالها، وتولد بعضها بعضاً حتى يعز على العبد مفارقتها والخروج منها، كما قال بعض السلف: إن من عقوبة السيئة، السيئة بعدها، وإن من ثواب الحسنة، الحسنة بعدها، فالعبد إذا عمل حسنة قالت أخرى إلى جنبها اعملني أيضاً، فإذا عملت قالت الثالثة كذلك وهلم جرا، فيتضاعف الربح وتزايدت الحسنات، وكذلك كانت السيئات أيضاً حتى تصير الطاعات والمعاصي هيئات راسخة، وصفات لازمة وملكات ثابتة، فلو عطل المحسن الطاعة لضاقت عليه نفسه، وضاقت عليه الأرض بما

_ 1 انظر: المصدر السابق ص80. 2 تقدم الكلام على العواطف المستقرة ص245.

رحبت ... حتى يعاودها فتسكن نفسه وتقر عينه، ولو عطل المجرم المعصية، وأقبل على الطاعة، لضاقت عليه نفسه وضاق صدره وأعيت عليه مذاهبه حتى يعادوها، حتى إن كثيراً من الفساق ليواقع المعصية من غير لذة يجدها ... " 1. والعواطف المستقرة المتوجهة إلى حب المعاصي مخالفة للفطرة، وبذلك ينتج عنها قلق وخوف يلازم القلب، يقوى بقوة تلك العواطف ويضعف بضعفها. والقلق والخوف من أقوى الموجهات القلبية إلى الجنوح إلى العديد من العادات والأعمال التي يصطاد بها المروجون للأفكار الهدامة، وإذا كان القلق ناتجاًَ عن شبهة -ثارت في القلب لضعف اليقين- كان دافعاً إلى الخوض في المناهج المخالفة للحق، طالباً اليقين، وسيأتي تفصيل ذلك عند الكلام على أثر الإيمان في طمأنينة القلب في الفصل القادم إن شاء الله. وخلاصة ما تقدم: أن المعاصي تحدث أثراً عظيماً في القلب، ينتج عنه بعد العاصي عن الله، ويغطي الران القلب فيظلم، وتضعف بصيرته وتعقله كما تزداد فيه مادة الشر، وتتوجه الإرادات إليه، وبذلك تنهدّ الأسوار المنيعة التي كانت تحوط القلب وتحصنه من مخططات ووساوس

_ 1 المصدر السابق ص57، 58.

شياطين الإنس والجن، بل يكون مقبلاً عليها طالباً لها بقدر ما فيه من الشر والظلمة. وحيث إن كل بني آدم خطاؤون، ونظراً لخطورة المعاصي على القلوب -كما تقدم - فقد أوجد الله المخرج من ذلك ويسره، حيث أوجد أسباباً لتكفير الذنوب وتطهير القلوب من آثارها، وهذا من عظيم رحمته بعباده وله الحمد والمنة. تكفير الذنوب وأثره في تطهير القلوب: بين الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الأثر للذنوب في تدنيس القلوب، وكيف يتم تطهيرها منه بقول: " إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة سوادء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب، سُقل1 قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] " 2. فبين صلى الله عليه وسلم أن المعاصي سبب لحصول الظلمة والران في القلب، والتوبة والاستغفار وعدم الاستمرار على الذنب سبب لجلائها وزوالها، وتطهير

_ 1 سُقِل على البناء للمفعول، وفي رواية الإمام أحمد صقل، المسند 2/297، قال في القاموس: السقل والصقل، وقال: صقله أي جلاه، القاموس المحيط ط مؤسسة الحلبي وشركاه 3/396 و4/2. 2 الحديث تقدم تخريجه، ص328.

القلب من آثارها. ومكفرات الذنوب -من فضل الله- كثيرة جداً، بل إن كل الأعمال الصالحة مكفرات للذنوب، إلا أن أثر بعضها أقوى وأشمل من بعض. وسوف أذكر باختصار أهم تلك المكفرات. فمن أعظم أسباب تكفير الذنوب وتطهير القلوب من آثارها: التوحيد: قال ابن رجب رحمه الله: "من أسباب المغفرة التوحيد، وهو السبب الأعظم، فمن فقده فقد المغفرة، ومن جاء به فقد أتى بأعظم أسباب المغفرة ... فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه لله فيه، وقام بشروطه كلها بقلبه ولسانه وجوارحه، أو بقلبه ولسانه عند الموت، أوجب ذلك مغفرة ما سلف من الذنوب كلها، ومنعه من دخول النار بالكلية، فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه أخرجت منه كل ما سوى الله، محبة وتعظيماً وإجلالاً ومهابة وخشية ورجاء وتوكلاً، وحينئذ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها ولو كانت مثل زبد البحر، وربما قلبتها حسنات ... فإن هذا التوحيد هو الإكسير الأعظم، فلو وضع ذرة منه على جبال الذنوب والخطايا لقلبها حسنات"1.

_ 1 جامع العلوم الوحكم ص374.

قوله -رحمه الله- في حق التوحيد: "فمن فقده فقد المغفرة، ومن جاء به فقد أتى بأعظم أسباب المغفرة"، مفاده أن لا حظّ لغير الموحد في رحمة الله الموجبة لمغفرة الذنوب، والنجاة من العذاب ودخول الجنة، وذلك أن الشرك يعمل عملاً يضاد عمل التوحيد. فالتوحيد يكفر السيئات، والشرك يحبط الحسنات. كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] . فالتوحيد هو الشرط الأساسي لانتفاع العبد بأعماله الصالحة في مجال تكفير الذنوب وغيره، والتوسل به هو أبرك التوسلات النافعة في حصول المغفرة واستجابة الدعاء، لذلك توسل به ذو النون -عليه السلام- وهو في تلك الشدة الرهيبة، كما أخبرنا الله عنه بقوله: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87، 88] . ومن أجل ذلك كانت أفضل صيغ الاستغفار تشتمل على الإقرار بالتوحيد بالنطق بالشهادة، كما في دعاء سيد الاستغفار الذي علمناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "سيد الاستغفار أن يقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت،

خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، اغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت " 1. ومن المكفرات: التوبة والاستغفار. قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان: 70] . وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] . ومن المكفرات: الصلوات الخمس والجمعة وصوم رمضان والحج. قال الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] . وقال صلى الله عليه وسلم: " أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء،

_ 1 رواه البخاري، كتاب الدعوات، باب أفضل الاستغفار، ح6306 الصحيح مع الفتح 11/97.

قال: فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا " 1. وقال عليه الصلاة والسلام: " من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " 2. وقال صلى الله عليه وسلم: " الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر" 3. وقال صلى الله عليه وسلم في الحج: "من حج لله فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه "4.

_ 1 متفق عليه: البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب الصلوات الخمس كفارة، رقم528 الصحيح مع الفتح 2/11. ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا ... رقم 667 1/462. 2 متفق عليه: البخاري، كتاب الإيمان، باب قيام ليلة القدر احتساباً من الإيمان وباب صوم رمضان احتساباً من الإيمان، رقم35، 38 الصحيح مع الفتح /91، 92. ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في قيام رمضان رقم 760 1/524 -واللفظ له. 3 رواه مسلم، كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة مكفرات ما بينهن رقم 233 1/209. 4 متفق عليه: البخاري، الحج، باب فضل الحج المبرور، رقم 1521 الصحيح مع الفتح 3/382. ومسلم، كتاب الحج، باب فضل الحج والعمرة رقم 1350 2/984.

ولا يقتصر تكفير الذنوب على الفرائض بل يشمل النوافل أيضاً. قال صلى الله عليه وسلم: " ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط "1. ومن ذلك: الذكر: قال صلى الله عليه وسلم: " من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك، ومن قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة، حطت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر "2. والنصوص الدالة على فضائل الأعمال، وتكفيرها للذنوب كثيرة جداً، وليس الغرض الحصر، وإنما الإشارة إلى عناية الله بهذا الأمر الذي

_ 1 رواه مسلم في كتاب الطهارة، باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره، رقم 251 1/219. 2 متفق عليه: البخاري، كتاب الدعوات، باب فضل التهليل، الصحيح مع الفتح11/201، ح6403. ومسلم، كتاب الذكر، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء رقم 2691 4/2071 -واللفظ له

فيه جلاء القلوب وتطهيرها من أدران الذنوب، لتبقى قوية حصينة من كل فكر خبيث، متوجهة بإراداتها إلى الخير. وهذه الأعمال المكفرة منها ما يكون تكفيره عام لجميع الذنوب، ومنها ما يقتصر على الصغائر، فالكبائر لا بد لها من توبة نصوح. كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان: 68-70] . فاشتراط التوبة مع الأعمال الصالحة يدل على لزومها لتكفير الكبائر، وأكد ذلك سبحانه في الآية التي تليها، فقال: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً} [الفرقان:71] . أما الصغائر فإنها تكفر بالأعمال الصالحة فرائض ونوافل، كما قال صلى الله عليه وسلم: " الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر "1. ومما يجدر التنبيه عليه أن هذه الأعمال جميعها لا يحصل منها

_ 1 رواه مسلم، تقدم تخريجه ص372.

المقصود، وهو تكفير الذنوب وتطهير القلب من نكدها، إلا إذا كانت صادرة من موحد عالم بربه، مخلص بأعماله لله وحده، وعملها عن علم وموافقة لشريعة النبي صلى الله عليه وسلم. وخلاصة هذا المبحث: أن تطهير القلب من الران ودرن المعاصي، أثر هام من آثار الإيمان، يجعل القلب محافظاً على سلامته ونوره، ويُقوّي فيه مادة الخير، ويقلل نوازع الشر، ويزيد من صلته بربه، حيث يُزَال ما يجثم عليه من الران وكدر المعاصي أولاً بأول بفعل المكفرات، وبذلك يحافظ القلب على درجة عالية من حب الإيمان، وكره الكفر والفسوق والعصيان، فلا يميل إلى الأفكار الهدامة ولا تستهويه، ولو تولد في قلبه شيء منها -مما يلقيه الشيطان- أو عرضها عليه شياطين الإنس، لكان فيه من النور ودواعي الخير ما يكشفها ويحرقها وينفر القلب منها. والله أعلم.

المبحث الثالث: أثر الإيمان في تطهير القلب من العواطف الفاسدة

المبحث الثالث: أثر الإيمان في تطهير القلب من العواطف الفاسدة تقدم بيان أن العواطف تتعلق بالمحبوبات والمكروهات1، وعواطف المحبة أو الكراهة تكون صحيحة إذا توجهت وجهة صحيحة كمحبة الله تعالى، وكراهية الطاغوت، وتكون فاسدة إذا اتجهت وجهة فاسدة، كمحبة الباطل، وكراهية الحق. وقد يكون أصل هذه العواطف صحيحاً، لكن تتجاوز الحد، فتخرج عن صحتها إلى مرضها، مثل: حب المال إذا زاد أصبح حرصاً مذموماً يسيطر على القلب، وكراهية الموت عاطفة جبلت عليها النفوس، لكن إذا زاد الحد إلى الخور والجبن، أصبحت عاطفة فاسدة. ويمكن حصر أهم العواطف الفاسدة التي تقوم في قلوب الناس فتحرف سلوكهم عن الصراط المستقيم فيما يلي: 1- حب التأله العبادة المتوجه لغير الله. 2- حب الشهوات المحرمة. 3- الحقد والحسد. وهما مرضان نابعان من عاطفة الكراهة للمحقود عليه والمحسود، وشهوة التشفي منه.

_ 1 انظر: مبحث الوظائف القلبية العواطف ص300.

ووجود أحد هذه الأمراض أو أكثر يكون خللاً في القلب يتسلل منه شياطين الإنس والجن، وهو ثغرة في حصن القلب، ومقتل عظيم قد يؤدي إلى هلاكه. وسيجري الكلام في هذا المبحث إن شاء الله حول هذه الأمراض العاطفية والتي يعود إليها كل مرض، وينبعث منها كل سلوك سيء مع بيان أثر الإيمان في تطهير القلب منها، مما يؤدي إلى حصانته، وقد أفردت لكل منها مطلباً مستقلاً.

المطلب الأول: أثر الإيمان في تطهير القلب من محبة غير الله

المطلب الأول: أثر الإيمان في تطهير القلب من محبة غير الله والمراد محبة العبادة، التي تجمع بين الحب مع الذل1. وهذه العاطفة متعلقة بالاعتقاد كما تقدم، فإن من اعتقد في ذات أنها تنفعه، وتجلب له الخير أو تدفع عنه الشر، أحبها، كما أنه يكره الشر والباطل وأهله. وعلى هذا فالطريق إلى تطهير القلب منها هو تطهيره من العقائد الفاسدة، والظنون السيئة، ويكون ذلك بالعلم المستقى من الوحي، كما سبق تقريره في المبحث الأول من هذا الباب. وقد أشار الله تعالى إلى العلاقة بين الحب والاعتقاد في سورة البقرة فبين سبحانه أولاً أنه المتفرد بالذات المقدسة، التي لا تساميها ذات أخرى لتفرده بصفات الكمال، والأفعال الحميدة التي لا نقص فيها، كما بين أنه المتفرد وحده بأنه الإله الحق المستحق للعبادة، فقال: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163] . فحقه سبحانه لهذا أن يُحَب ويُعبد ولا يشرَك به، ومع ذلك أقام

_ 1 مجموع الفتاوى 10/70.

الأدلة القاطعة المؤيدة لما تقدم، والمبينة لنعمه وأفضاله على عباده التي سخرها لهم على الأرض، والتي هي دافع آخر لمحبته وحده، فهو محبوب لذاته الكريمة المقدسة، ومحبوب لأنه المنعم المتفضل، فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:164] . ومع أن هذا العلم الواصل لهم عن طريق رسله بأنه ربهم وإلههم، لا رب لهم سواه، وهذه الآيات البينات الشاهدات على ذلك، مما يستدعي محبته وحده، مع ذلك كله يوجَد من يحب غيره لعدم قيام موجب ذلك العلم بقلبه، أما المؤمنون الذين شربت قلوبهم موجب هذا العلم، فإنهم أشد حباً لله، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] . وقد ذكّر الله عباده في كثير من الآيات بنعمه وآلائه عليهم، وكرر ذلك في كثير من السور، مع بيان الأدلة والبراهين على تفرده بذلك، وعجز غيره عن إحداث شيء من تلك النعم لو حبسها الله عن عباده.

والحكمة من ذلك -والله أعلم- أن يستثير عواطفهم لمحبته والتعلق به سبحانه، وتوحيده والانقياد لطاعته. فإذا آمن العبد بالله واستشعر قلبه معاني أسماء الله وصفاته وتفرده بالربوبية، وعلم أن ما به من نعمة فمن الله وحده وما يرجو من خير أو دفع شر فبيده وحده، وفقه قلبه تلك العلوم التي تغرسها الآيات البينات في قلوب العباد، عندها يذعن القلب لله بالحب والخوف، فيتوجه لطاعته يدفعه الحب والأمل والرجاء، ويحجم عن معصيته يردعه الخوف. وبما أن محبة الله هي أساس التوحيد والعبودية، فكذلك محبة غير الله حب العبادة، هي أساس الضلال والكفر، وعلى ذلك فالتزام الإيمان قولاً وعملاً واعتقاداً كفيل بتطهير القلب من محبة غير الله، أو ما يمتّ إليه بصلة في أي ناحية من النواحي. قال الله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات:7، 8] . ومحبة معبود غير الله تابعة للاعتقادات الفاسدة، وزوالها يكون بزوالها، وقد تقدم أن زوال العقائد الباطلة إنما يكون بالعلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الذي كشف الباطل وأهله على مختلف أحوالهم، واستبان

بذلك سبيل المجرمين، فإذا نسفت العقائد الفاسدة، زال ما يترتب عليها من العواطف، وقد جرى الكلام حول ذلك بما فيه الكفاية -إن شاء الله- فلا داعي لتكراره1.

_ 1 انظر: مبحث: أثر الإيمان في تطهير القلب من العقائد الباطلة والظنون السيئة.

المطلب الثاني: أثر الإيمان في تطهير القلب من الشهوات المحرمة

المطلب الثاني: أثر الإيمان في تطهير القلب من الشهوات المحرمة الشهوة المحرمة هي عاطفة مستقرة تقوم في القلب نحو أمر ضار مخالف للفطرة، جاءت الشريعة بتحريمه، يحن القلب المريض لذلك الأمر وينبعث إليه ويرتاح لمزاولته وملابسته، ويزيد مرضه بتلك المزاولة والممارسة، ويقوى تعلقه به. وقد تقوى العاطفة حتى تصبح عاطفة سائدة تستولي على القلب، وتتحكم فيه فتميته. وهذه العواطف الجانحة المتوجهة إلى أمور مذمومة هي ما غلب عليه اسم الهوى. وإذا سيطر الهوى على القلب أمرضه أو أماته، وينافسه ويضاده العقل الذي هو ما عقله القلب من العلوم النافعة والعقائد الصحيحة من معرفة الحق والخير، وما يضاده من الباطل والشر، فإذا كانت السيطرة للعقل على العواطف والإرادات، كان ذلك سبب صلاح القلب ومادة حياته. وإذا سيطر أحدهما أضعف الآخر، وقلل انبعاث القلب لموجبه، فهما يتجاذبان القلب المريض الذي فيه إيمان ومرض، أما القلب الميت فقد استحكم فيه الهوى، والقلب السليم قد سيطر فيه الإيمان والعقل.

فلا يوجد الإيمان ويثمر إلا إذا جاهد نفسه في تطهيرها من هواها وزجرها عنه، قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40، 41] . "وهذا ثمرة العقل الذي به عُرف الله سبحانه وتعالى وأسماؤه وصفات كماله ونعوت جلاله، وبه آمن المؤمنون بكتبه ورسله ولقائه وملائكته، وبه عرفت آيات ربوبيته وأدلة وحدانيته ومعجزات رسله، وبه امتثلت أوامره واجتنبت نواهيه، وهو الذي تلمح العواقب فراقبها، وعمل بمقتضى مصالحها، وقاوم الهوى، فرد جيشه مغلولاً، وساعد الصبر حتى ظفر به بعد أن كان بسهامه مقتولاً، وحث الفضائل ونهى عن الرذائل ... "1. وإذا قوي الهوى واستحكم، فإن العاطفة عندئذ تكون سائدة فيكون لها السلطان الأقوى على إرادات القلب وعواطفه، بل وتعقله، فيصبح هذا الهوى موجهاً لقلبه، له يوالي وعليه يعادي، وله ينفعل ويثور، ولأمره يأتمر، ولنهيه ينتهي، فيكون ذلك المحبوب الذي توجهت له تلك العاطفة ندّاً لله، يحبه الحب الذي لا ينبغي إلا لله، فقد اتخذه إلهاً من دون الله.

_ 1 روضة المحبين ونزهة المشتاقين، لابن قيم الجوزية ص7، دار الباز للطباعة والنشر، مكة المكرمة.

قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} [الفرقان:43] . والشهوة ركبها الله في طبيعة الناس، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14] . وجعل الله العقل للإنسان، وأنزل إليه العلم لتنظيم الشهوات ووضعها في مكانها المناسب، واستخدامها بالقدر المناسب، فقد أحل الله له ما يناسبه ويحصل له به السكن والطمأنينة، ويعود عليه بالخير والصلاح في نفسه ومجتمعه، وحرّم عليه الضار المفسد الذي يقلقه، ويسبب له التعاسة في نفسه أو مجتمعه. قال ابن القيم رحمه الله: "وإذا كانت الدولة للعقل سالمة الهوى، وكان من خدمه وأتباعه، كما أن الدولة إذا كانت للهوى، صار العقل في يديه، محكوماً عليه، ولما كان العبد لا ينفك عن الهوى ما دام حياً -فإن هواه لازم له- كان الأمر بخروجه عن الهوى بالكلية كالممتنع، ولكن المقدور له والمأمور به أن يصرف هواه عن مراتع الهلكة إلى مواطن الأمن والسلامة، فما حرم الله على عباده شيئاً إلا عوضهم خيراً منه، كما حرم عليهم الاستقسام بالأزلام، وعوضهم عنه دعاء الاستخارة، وحرم

عليهم الربا، وعوضهم منه التجارة الرابحة، وحرم عليهم القمار، وأعاضهم منه أكل المال بالمسابقة النافعة في الدين بالخيل والإبل والسهام، وحرم عليهم الحرير وأعاضهم منه أنواع الملابس الفاخرة من الصوف والكتان والقطن، وحرم عليهم الزنى واللواط، وأعاضهم منهما بالنكاح والتسري بصنوف النساء الحسان، وحرم عليهم شرب المسكر، وأعاضهم عنه بالأشربة اللذيذة النافعة للروح والبدن، وحرم عليهم سماع آلات اللهو والمثاني1، وأعاضهم عنها بسماع القرآن والسبع المثاني، وحرم عليهم الخبائث من المطعومات، وأعاضهم منها بالمطاعم الطيبة. ومن تلمح هذا وتأمله هان عليه ترك الهوى المردي، واعتاض عنه بالنافع المجدي، وعرف حكمة الله ورحمته، وتمام نعمته على عباده فيما أمرهم به، ونهاهم عنه، وفيما أباحه لهم، وأنه لم يأمرهم بما أمرهم به حاجة منه لهم، ولا نهاهم عنه بخلاً منه تعالى عليهم، بل أمرهم بما أمرهم إحساناً منه ورحمة، ونهاهم عنه صيانة لهم وحمية ... "2. العواطف الفاسدة ثغرة في القلب: وقبل أن أتكلم عن أثر الإيمان في تطهير القلب من سلطان الهوى والعواطف الرديئة الكامنة فيه، أذكر بعض النصوص التي تدل على أن

_ 1 المثاني: جمع مثنى وهو اسم للوتر من أوتار آلة اللهو التي تسمى العود. انظر: لسان العرب لابن منظور 14/120، مادة ثنى. 2 روضة المحبين ونزهة المشتاقين ص12.

العواطف الفاسدة والشهوات المحرمة ثغرة في حصن القلب تردي صاحبها، ويتسلل من خلالها الشيطان لإهلاك الإنسان، وقد يقع الإنسان في المهالك بسبب جريانه لإشباع شهوة من هذه الشهوات، حيث إن الشهوات هي أصول المعاصي والدافع إليها، وهي تختلف عن الران الناتج عن المعاصي، فإن الشهوة تسبق الفعل، وهي صفة لازمة، أما الران فهو أثر المعصية، وناتج عنها. فمن هذه النصوص قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ} [الأعراف:175-177] . فهذا نبأ عظيم أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتلوه على أمته ويقصه عليهم رجاء أن يتفكروا فيه وينتفعوا به. فهذه قصة رجل آتاه الله العلم والآيات البينات، وكان حقه أن يتولاه الله ويزيده هدى لو عمل بموجب ذلك العلم، كما قال: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} [المائدة:16] .

لكنه انسلخ من العمل بموجب تلك الآيات، وأخلد إلى الأرض، واتبع هواه، فتخلى الله عنه، وتسلط عليه الشيطان فكان من الغاوين، ففيه أكبر الدلالة على أن اتباع الهوى ثغرة في القلب يتسلل منها المفسدون. وهو مثل مضروب لكل من تعلم العلم ووعاه، لكنه لم ينتفع به، ولم يعمل بموجبه، بل أخلد إلى متاع من متاع الدنيا، وسار خلف شهواته، وما تهواه نفسه، دون ما يرضي ربه، فهو ملازم لغيه وضلاله حال جهله، وحال تعلمه، لم ينتفع بالعلم فيترك الغي، فهو في ذلك أشبه بالكلب الذي لا ينتفع بالراحة، فيترك اللهث، فهو ملازم للهث حال راحته وحال تعبه، أعاذنا الله من الخذلان، وأسباب الضلال والحرمان. ومن أخطر العواطف الفاسدة المهلكة الحرص على المال، والشهوة إلى الفاحشة، وقد جمعهما الرسول صلى الله عليه وسلم محذراً عنهما بقوله: " إن الدنيا حلوة خَضِرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل في النساء "1. والمطلوب اتقاؤه من الدنيا هو التعلق بها والركون إليها، فإنه يقود إلى الحرص والشح، وهو داء قلبي عضال خطير، ينتج عنه ويتفرع منه كثير من المعاصي، وقد يؤدي بصاحبه إلى النفاق أو الردة.

_ 1 رواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والاستغفار، باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء ح2742 4/2098.

قال صلى الله عليه وسلم: " ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه "1. والحرص على المال والشرف مرضان قلبيان يجمعهما حب الدنيا، والقوة والعلو فيها، قال ابن رجب رحمه الله: "وقد تبين ... ذكرنا أن حب المال والرياسة والحرص عليهما يفسد دين المرء، حتى لا يبقى منه إلا ما شاء الله، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. وأصل محبة المال والشرف حب الدنيا، وأصل حب الدنيا اتباع الهوى، قال وهب2 بن منبه: "من اتباع الهوى الرغبة في الدنيا، ومن الرغبة فيها حب المال والشرف، ومن حب المال والشرف استحلال المحارم."وهذا كلام حسن، فإن حب المال والشرف يحمل على الرغبة في الدنيا، وإنما تحصل الرغبة في الدنيا من اتباع الهوى، لأن الهوى داع إلى

_ 1 رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما، المسند 3/456، 460 مسند كعب بن مالك. ورواه الترمذي، كتاب الزهد، ح2376 4/588، وقال:"هذا حديث حسن صحيح"، وللحديث شواهد ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد وحكم على كل منها 10/250.وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/290. 2 الإمام العلامة وهب بن منبه بن كامل بن سيج بن ذي كبار الصنعاني، أحد التابعين أخذ عن ابن عباس، وأبي سعيد بن بشير وغيرهم توفي سنة عشر ومائة. انظر: سير أعلام النبلاء 4/544، والبداية والنهاية 9/288.

الرغبة في الدنيا وحب المال والشرف فيها، والتقوى تمنع من اتباع الهوى وتردع عن حب الدنيا. قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37-41] "1. وفي هذا الكلام البديع بيّن الإمام ابن رجب ضرر عاطفة حب المال والشرف على الدين، كما بين أثر الإيمان في تطهير القلب منها، بقوله: "والتقوى تمنع من اتباع الهوى، وتردع من حب الدنيا". والحرص على المال هو شدة محبته الدافعة إلى شدة طلبه، ولا شك أنه لو سلم صاحبه من الحرام، فإنه سيؤدي به إلى بعض المخالفات والتجاوزات والمراهنات التي تستدرجه شيئاً فشيئاً فتبعده عن التقوى، مع ما في ذلك من الغفلة عن طلب العلم، والعمل الصالح، وتضييع العمر في جمع حطام زائل، وحرص لا يغير من قدر الله شيئاً. أما إذا تجاوز به الحرص إلى الشح الذي يطلب به المال من كل طريق حتى ولو كان محرماً، ويمنع حق المال، فإن هذه قاصمة الظهر.

_ 1 شرح حديث "ما ذئبان جائعان ... " للحافظ عبد الرحمن بن رجب الحنبلي، تحقيق بدر البدر، ص57، الدار السلفية، الكويت، ط الثانية 1404هـ.

قال صلى الله عليه وسلم: " ... واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمه م" 1. فالشح الذي هو شدة الحرص على المال، يكون عاطفة سائدة إذا استولى على القلب وسيطر عليه، فيقدم الهم له والعمل من أجله على كل شيء، فيصبح الإنسان عبداً للمال، لا يتوجه إلا حيث رجا زيادته، ولا يحجم إلا إذا توقع نقصانه، لا مؤثر في قصده وطلبه إلا ذلك، وهذه عبودية المال، قال صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار والدرهم، والقطيفة والخميصة2، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض "3. قوله صلى الله عليه وسلم: " إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض " دليل على استحكام هذه العاطفة، حيث أثرت على انفعالاته القلبية الأخرى وسلوكه، ولذلك سمي عبداً لما توجهت إليه تلك العاطفة من متاع الدنيا. والحاصل أن الحرص على المال والشرف الدافع إليه عاطفة فاسدة تقوم في القلب، وهي ثغرة في حصنه يتسلل منها شياطين الإنس والجن لإفساد الإنسان، بترويج الأفكار الهدامة وغيرها من ضروب الفساد عليه،

_ 1 رواه مسلم، كتاب البر والصلة والأدب، باب تحريم الظلم، ح2578 4/1966. 2 القطيفة: هي الثوب الذي له خمل، والخميصة هي الكساء المربع. انظر: فتح الباري لابن حجر 11/254. 3 رواه البخاري، كتاب الجهاد، باب الحراسة في الغزو في سبيل الله، ح2886 6/81 وفي كتاب الرقاق، باب ما يتقى من فتنة الدنيا ح6435 11/253.

فكثيراً ما استخدم أئمة الضلال ودعاته المال والمناصب في ترويج باطلهم، فإذا وجد الدافع القلبي وعرضت المغريات، فإن انقياده عندئذِ يكون سهلاً، والمعصوم من عصمه الله وعافاه. قال ابن رجب رحمه الله في معرض شرحه لحديث ما ذئبان جائعان: "فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن حرص المرء على المال والشرف، إفساد لدينه ليس بأقل من إفساد الذئبين لهذه الغنم، بل إما أن يكون مساوياً، وإما أكثر يشير إلى أنه لا يسلم من دين المسلم مع حرصه على المال والشرف في الدنيا إلا القليل، كما أنه لا يسلم من الغنم مع إفساد الذئبين إلا القليل، فهذا المثل العظيم يتضمن غاية التحذير من شر الحرص على المال والشرف في الدنيا"1. ومن العواطف الفاسدة المهلكة: محبة الفاحشة، وهي ميل القلب إلى إشباع غريزة النكاح في غير ما أحل الله، وهي مرض قلبي. وقد تكون العاطفة مستقرة، فتدفعه إلى هذا العمل، ويزاوله كلما تيسر له، وقد تتوجه العاطفة إلى ذات وصورة معينة، ويحب ذلك الشخص كأشد ما يكون الحب، وهذه عاطفة سائدة تستولي على القلب وتعميه، وتصبغ حياة ذلك الإنسان بصبغتها فإراداته وانفعالاته وحركاته وسكناته خاضعة لها، وبذلك تصبح عبودية لغير الله تميل بالقلب عن التوحيد.

_ 1 شرح حديث ما ذئبان جائعان ص11.

قال صلى الله عليه وسلم: " ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء "1. ضرر الفاحشة المحرمة على القلوب: إن العواطف الفاسدة المتوجهة نحو الفواحش محبةً وتعلقاً، تضعف الإيمان، وقد تزيله إذا أُشربها القلب، وفي كلا الحالين يفقد العبد ولاية الله التي اختصها للمتقين، كما يفقد حصانته، ولا يزال يتردى حتى يهلك، فالفواحش سبيل مظلم نكد. قال الله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] . وقال صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " 2. قال ابن القيم رحمه الله مبيناً المفاسد التي تنتج عن هذه العواطف الفاسدة: "والزنى يجمع خلال الشر كلها، من قلة الدين، وذهاب الورع، وفساد المروءة، وقلة الغيرة. ومنها أن الزنى يُجرِّؤُه على قطيعة الرحم، وعقوق الوالدين،

_ 1 متفق عليه: البخاري، كتاب النكاح، باب ما يتقى من شؤم المرأة، ح5096 الصحيح مع الفتح 12/81. ومسلم، كتاب الرقاق، باب أكثر أهل الجنة الفقراء ... ح2741 4/2098. 2 متفق عليه: البخاري، كتاب الحدود، باب السارق حين يسرق، ح6782 الصحيح مع الفتح 12/81. ومسلم، كتاب الإيمان، باب نقصان الإيمان بالمعاصي ... ح100 1/76.

وكسب الحرام، وظلم الخلق، وإضاعة أهله وعياله، وربما قاده قسراً إلى سفك الدم الحرام، وربما استعان بالسحر وبالشرك وهو يدري أو لا يدري، فهذه المعصية لا تتم إلا بأنواع من المعاصي قبلها ومعها، ويتولد عنها أنواع أخر من المعاصي بعدها" 1. أما محبة فاحشة اللواط فهي أشد خطراً وأعظم قبحاً، لما ينتج عنها من عُقم من ابتلي بها من كل خير، وقربه من كل شر، ولا يقال إن اللواط طريق للأفكار الخبيثة إلى قلب متعاطيه فحسب، بل إن غاية الأفكار الهدامة هي أن يكون المسلم بهذا المنحدر، فأهل هذا الفعل مجمع لكل فساد فكري وخلقي وسلوكي، قد جردوا من الخلق والحياء، وجندوا أنفسهم لنشر بذور الفساد، لذلك كانت عقوبتهم القتل، وتخليص البلاد والعباد من شرهم. قال الله تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف:80،81] . وقال: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:82،83] .

_ 1 روضة المحبين.. ص360.

وقال صلى الله عليه وسلم: " إن أخوف ما أخاف على أمتي، عمل قوم لوط " 1. وما خاف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته من هذا الداء الخبيث، إلا لأنه مجمع للشر والفساد، ولا يستمر عليه ويستمرئه إلا من فسد قلبه بالشرك أو الكفر والنفاق، لذلك كانت صلة أهل الفاحشة بالشرك، وقربهم منه أمراً ظاهراً يدركه كل من اطلع على أحوالهم، ونظر في أقوالهم وأشعارهم. قال ابن القيم رحمه الله مبيناً العلاقة بين محبة الفاحشة والشرك: "ولكن الزنى واللواطة أغلظ من غيرها من النجاسات، من جهة أنها تفسد القلب، وتضعف توحيده جداً، ولهذا أحظى الناس بهذه النجاسة أكثرهم شركاً، فكلما كان الشرك في العبد أغلب، كانت هذه النجاسة والخبائث فيه أكثر. وكلما كان أعظم إخلاصاً، كان منها أبعد، كما قال تعالى عن يوسف الصديق: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] . فإن عشق الصور المحرمة نوع تعبد لها، بل هو من أعلى أنواع

_ 1 رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما، المسند 3/382، مسند جابر بن عبد الله، سنن الترمذي في كتاب الحدود، باب ما جاء في اللوطي ح1482 3/9، ورواه الحاكم وقال:"صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي، المستدرك 4/357. وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير 28/44.

التعبد، ولا سيما إذا استولى على القلب، وتمكن منه صار تتيماً، والتتيم: التعبد، فيصير العاشق عابداً للمعشوق، وكثيراً ما يغلب حبه وذكره والشوق إليه، والسعي في مرضاته، وإيثار محابه على حب الله، وذكره والسعي في مرضاته بل كثيراً ما يذهب ذلك من قلب العاشق بالكلية، فيصير معلقاً بمعشوقه من الصور، كما هو مشاهد، فيصير المعشوق هو إله من دون الله. ولهذا كان العشق والشرك متلازمين، وإنما حكى الله سبحانه العشق عن المشركين من قوم لوط، وعن امرأة العزيز، وكانت إذ ذاك مشركة، فكلما قوي شرك العبد بُلي بعشق الصور، وكلما قوي توحيده صرف ذلك عنه ... فليس في الذنوب أفسد للقلب والدين من هاتين الفاحشتين، ولهما خاصية في تبعيد القلب من الله، فإنهما من أعظم الخبائث، فإذا انصبغ القلب بهما بعد ممن هو طيب، لا يصعد إليه إلا طيب، وكلما ازداد خبثاً ازداد من الله بعداً ... ولما كانت هذه حال الزنى كان قريناً للشرك في كتاب الله تعالى، قال الله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3] "1.

_ 1 إغاثة اللهفان.. لابن القيم 106، 107.

فهذه العاطفة الفاسدة -حب الشهوات- إذا قامت في القلب، فإن صاحبها يتهاوى في نوادي الفساد، ويقوده شياطين الإنس والجن كيفما أرادوا، ويلبسون عليه دينه.. وقد يستخدمونه لأغراضهم في نشر الأفكار المنحرفة، والمبادئ الملحدة، فكم استخدموا النساء الساقطات ومن تشبه بهن في هذا الغرض، وما ذاك إلا لأنهن حبائل الشيطان، ومعاقل الفساد، فهن أعظم طعم استعمله المفسدون وأقدمه. فإذا وجدت الفتنة وتيسرت أسبابها ودُعي إليها، ووافقت فتنة في القلب، كان التجاوب إليها سريعاً، بين ذلك ربنا بقوله: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32] . ولا سبيل إلى استئصال هذا الداء إلا بالإيمان بالله، والعمل الصالح الذي يوجب ولاية الله ورحمته، فيخلص برحمته القلب من دائه، كما سيأتي إن شاء الله. ومن العواطف الفاسدة: شهوة شرب الخمر والمسكرات والمخدرات. إن شرب الخمر والمخدر كغيره من المعاصي، قد يزاولها الإنسان دون تعلق القلب، بل حتى دون أي شهوة في أول الأمر، كأن يشرب مجاملة لرفاقه، أو بدافع الاستطلاع، لكن سرعان ما يألف القلب هذه القاذورات مع تكرار التعاطي حتى يحبها ويتعلق بها، فتقوم في قلبه عاطفة

المحبة المتوجهة نحوها، وبذلك تصبح زماماً يقاد به إلى المهالك. وأضرار الخمر والمخدرات الصحية والدينية والاجتماعية كثيرة جداً، إلا أن الذي يهمنا في هذا البحث هو الأثر الديني، المتمثل في إسهام هذا الداء بتسلل الفكر الخبيث إلى صاحبه حتى يصبح أُلعُوبة بأيدي أعدائه. قال الدكتور أحمد بن عطية الغامدي مبيناً أضرار المسكرات والمخدرات الدينية: "وإذا تأملنا النص القرآني الذي حرم الخمر، وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:90، 91] لعرفنا هدف الشيطان وغاية كيده من إيقاع العدواة والبغضاء في صفوف المسلمين بكل الوسائل وكافة الطرق، إلا أن أشدها تأثيراً وتحقيقاً لهذا الهدف إغراؤهم بإدمان الخمر والميسر، الذي لا يقف تأثيره عند ذلك، بل يتعدى إلى ما هو أخطر وأنكى، هو صدهم عن ذكر الله وعن الصلاة، ولا ريب أن للمخدر التأثر ذاته، لأنه إذا كانت الخمر أم الخبائث، فإن المخدرات أخبث الخبائث، ولها من التأثير ما للخمر وزيادة، كما قال عنها الإمام ابن تيمية رحمه الله: "والخمر توجب الحركة والخصومة، وهذه توجب الفتور والذلة، وفيها مع ذلك من فساد المزاج

والعقل، وفتح باب الشهوة وما توجبه من الدياثة، مما هي من شر الشراب المسكر" 1 فأي مكيدة أعظم من هذه، وأي وسيلة لإبعاد الإنسان عن الخير وإيقاعه في حبائل الشر أبلغ من هذه الوسيلة؟ ومكائد الشيطان بين المسلمين ملموسة مشاهدة، وإغراء المسلمين بتعاطي الخمور وما شابهها من المخدرات -التي هي أبشع آثاراً في هذا المجال منها- كان له أثره السيئ في تفريق كلمة المسلمين وإبعادهم عن دينهم، وفساد عقولهم، وذهاب هيبتهم، وضعف كيانهم وتفكك مجتمعاتهم"2. وبعد الإشارة إلى أهم العواطف الفاسدة التي تعود إلى مرض الشهوة والتنبيه على أثرها في دفع صاحبها إلى الأفكار الخبيثة، وإضعاف حصن القلب عن التصدي لها، بعد ذلك، أصل بعون الله تعالى إلى المقصود وهو بيان أثر الإيمان في تخليص القلب منها، واقتلاعها من جذورها، وأبدأ بذكر أثره في تطهير القلب من الشح والحرص على المال. أثر الإيمان في تطهير القلب من الشح والحرص على المال: تقدم أن الشح والبخل سلوك مشين ينتج عن داء قلبي هو شدة المحبة

_ 1 مجموع الفتاوى 34/211. 2 أثر المخدرات على الأمة وسبل الوقاية منها، د. أحمد عطية الغامدي، مجموعة بحوث في المخدرات، البحث الثالث، ص19، 20 الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ط الأولى، 1410هـ.

للمال، وتعلق القلب به، والحرص الشديد على جمعه، والمحافظة عليه، فيصبح القلب عابداً للمال متوكلاً عليه، فلا يهون عليه إنفاقه. وقد جعل الله أسباباً لإزالة هذا الداء من القلب، هذه الأسباب تتمثل في بعض شعب الإيمان التي لها أثر عظيم في تطهير القلب من هذا المرض المفسد. وأول هذه الأسباب هو التوحيد، فإذا كان الحرص والشح والبخل ناتجاً عن سوء الظن بالله، وضعف التوكل عليه، وعدم الثقة بوعده بالخلف للمنفقين، وقلة إيمانه بالقدر وأن الرزق مقسوم لكل حي، إذا كان كذلك فإن تقوية الإيمان بدراسة التوحيد وانقياد القلب له كفيلة باجتثاث هذا الداء من أصوله. وسوء الظن بالله -كما تقدم- ناتج عن جهل أو ضلال في معاني صفات الله التي تدل عليها أسماؤه تبارك وتعالى، وطرد هذا الظن يكون بدراسة توحيد الأسماء والصفات وفق نهج السلف الصالح واستشعار القلب لها. وفي هذا المجال إذا استشعر القلب معاني أسماء الله: الرزاق، والكريم، والمنعم، ونحوها، وإدراك القلب معاني الآيات التي تدل على أن الرزق بيد الله وحده لا يزيده حرص حريص، ولا يؤخره حقد حاسد. كقوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22] .

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58] . ونحوها، فهذه المعرفة بأسماء الله، ومدلول آياته، مع ما يشاهده من آثار رحمته من نزول المطر، وحياة الأرض بمختلف الأصناف من الثمار، وأنواع الحيوان الذي سخره الله لأهل الأرض رزقاً لهم، وكيف هيأ للمخلوقات الضعيفة أرزاقها ... ، كل ذلك يوجب للقلب محبة الله، وحسن الظن وتعلق القلب به، والركون إليه. وكذلك إذا وقر في القلب ثقة وتصديق بوعد الله للمتصدقين بالخلف والنماء كقوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] . فإن ذلك كله يكسر حدة الحرص على المال، ويصرف القلب عن التعلق به، كما يجلب للقلب حسن الظن بالله والثقة بما عنده. ومن جهة أخرى فإن نمو التوكل على الله يصرف القلب عن التوكل والتعلق بالمال، وذلك أن الإنسان إنما يحرص على المال رجاء نفعه واتقاء الشر به، وإذا قوي يقينه على ربه باستشعار آيات التوحيد التي أفاضت في تقرير هذا المعنى، وأن الإيمان هو السلم والعروة الوثقى للحصول على ولاية الله، ومعيته في الدنيا والآخرة، وأن كل خير يأمله في الدنيا والآخرة، وكل شر يحاذره إنما هو بيد الله، والسبب إلى ذلك هو قوة الصلة به والتوكل عليه.

بين ذلك بقوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:2، 3] . وقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5-7] . وكذلك الإيمان بالقدر بمعرفة ما جاء في بيانه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أن الرزق مقسوم بين العباد، وأن إرادة العباد له وحرصهم عليه لا تغير من أرزاقهم شيئاً، وإنما عليهم طلب الرزق بالأسباب المشروعة، والتعلق بالله لا على السبب في حصوله، دون الحرص الشديد على جمعه. قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً} [الإسراء:18] . وقال: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} [الإسراء:29-30] . وقال صلى الله عليه وسلم: " إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً، ثم علقة مثل

ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر بأربع: برزقه وأجله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح ... " الحديث 1. وفي رواية لمسلم: " ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه، ثم تطوى الصحف، فلا يزاد فيها ولا ينقص "2. فالإيمان بالقدر وأن ما يجري عليه من الأرزاق وسائر الأحوال بيد الله عز وجل، وأنه سبحانه المانع المعطي، الضار النافع، وأن اجتهاد الخلق جميعاً على خلاف أقدار الله غير مجد البتة، يوجب للعبد توكلاً على الله، وتعلقاً به، فبضعف تعلقه بالأسباب، وبذلك يستقيم توحيده وعبوديته ويسلم قلبه من الآفات الفاسدة، وبهذا يتجلى أثر التوحيد في تطهير القلب من هذا الداء. أما شعب الإيمان الأخرى كالصلاة، والزكاة، ونحوها، فلها أثر مهم في تخليص القلب من مرض الشح والحرص. أشار إليه ربنا بقوله: {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلاَّ الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي

_ 1 متفق عليه: واللفظ للبخاري، البخاري، كتاب القدر، الباب الأول ح6594 الصحيح مع الفتح 11/477. ومسلم، كتاب القدر، الباب الأول، ح2643 4/2036. 2 رواه مسلم، كتاب القدر، الباب الأول، 02644 4/2037.

أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج:19-35] . الهلع: هو شدة الحرص وقلة الصبر1. وقد فسره الله تعالى بقوله: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} . قال بعض العلماء: "قد فسره الله، ولا تفسير أبين من تفسيره، هو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع، وإذا ناله خير بخل به ومنع الناس"2.والمراد بالإنسان في هذا السياق فيه قولان: قال الرازي: "قال بعضهم المراد بالإنسان ههنا الكافر، وقال

_ 1 انظر: جامع البيان لابن جرير 29/78، والتفسير الكبير للرازي 30/128. 2 التفسير الكبير للرازي 30/128.

آخرون بل هو على عمومه بدليل أنه استثنى منه المصلين"1. والذي أراه والله أعلم أنه لا تعارض بين القولين، فالذي قال المراد به الكافر، يعني الذي تحقق في هذا الوصف بكماله، والذي قال بعمومه لجميع أفراد الجنس، لاحظ أصل الخلقة وهي قابلية الناس جميعاً بطبيعة خلقهم لقبول هذه الصفة، ولا يتخلصون منها إلى بأسباب تزكيتهم، فمن التزم الأسباب المذكورة في الآيات، تخلص من الهلع وإلا فحاله صائرة إليه لا محالة. ونظير ذلك كثير في القرآن، نحو قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3] . فالمراد بالإنسان هنا عموم الناس، فهم واقعون في الخسران، واستثنى منهم من جاء بهذه الأمور الأربعة، ومن قال أن المراد به الكافر فهو صحيح، حيث أنه هو الذي تحقق فيه الخسران. وبهذا يتضح أن الله جعل الإيمان مؤثراً في إخراج هذه الصفة الذميمة من القلب، متمثلاً في هذه الشعب المذكورة في الآيات من قوله: {إِلاَّ الْمُصَلِّينَ} إلى قوله: {أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} .

_ 1 المصدر نفسه.

فقد وصف المتخلصين من الهلع بالمصلين، ثم ذكر صفاتهم على وجه التفصيل، فذكر منها في بداية السياق وختامه مداومتهم ومحافظتهم على الصلاة، ومنها إيتاؤهم الزكاة، وتصديقهم بيوم الدين، ثم استرسل السياق في بيان صفاتهم المباركة الخيرة. والعناية بأمر الصلاة في هذا السياق دليل على شدة أثرها في التطهير من هذا الداء، إلا أن أثرها في التطهير عام لجميع أدواء القلب، بين ذلك ربنا بقوله: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] . ولا شك أن الشح من أعظم منكرات القلوب، وما ينتج عنه من العمل من أقبح منكرات الأعمال، والمداومة على الصلاة، والمحافظة عليها شرط لحصول هذا الأثر الهام في تطهير القلب من أدرانه، وسيأتي مزيد إيضاح لهذا الأمر إن شاء الله عند الكلام على تطهير القلب من محبة الفواحش. أما الزكاة، فأثرها في التطهير من هذا الداء بارز ظاهر. قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] . فقد أشار تعالى في هذه الآية إلى أثر الزكاة في التطهير والتزكية. وفي المراد بالتطهير أورد ابن جرير رحمه الله فيما نقله عن بعض

السلف رضوان الله عليهم1، ما يدل على أن أثر الصدقة يكون في ثلاثة مجالات هي: الأول: أنها تطهير للمال: فالمال الحلال الذي يكتسبه صاحبه من طرق مشروعة، فيه حق معلوم لله يصرف في مصارفة، ومنع هذا الحق شؤم يدنس المال، ويعرضه للعقوبات والآفات، ولا يطهر المال إلا بإخراجه. كما أن الإنسان في معاملاته قد يبدر منه بعض التقصير أو المخالفات التي هي من باب المتشابهات، أو المكروهات التي قد تلوث المال دون أن تصل إلى درجة تحريم التكسب، وفي إخراج الزكاة والصدقة تطهير له من ذلك. والمال الذي يتطهر بالزكاة هو المال الحلال، أما المال الحرام الذي جاء عن طريق غير مشروع من نهب وسلب وسرقة واختلاس ورشوة وربا وقمار، فإنه لا تطهره الزكاة ولا تباركه. الثاني: تطهيرها لهم من دنس الذنوب وران العصيان: قال ابن جرير رحمه الله: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد خذ من أموال هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم فتابوا منها صدقة تطهرهم من

_ 1 انظر: جامع البيان 11/16، 17.

دنس ذنوبهم ... "1. فالزكاة كغيرها من شعب الإيمان لها أثر في تكفير الخطايا ومحو آثارها من القلب، وقد تقدم الكلام على هذا الموضوع في المبحث الثاني من هذا الفصل. الثالث: تطهيرهم من صفات المنافقين: قال ابن جرير في الإشارة لهذا: " ... وتزكيهم بها، يقول: وتنميهم وترفعهم عن خسيس منازل أهل النفاق"2. وخاصة خُلُق الحرص على المال والشح الذي يتصف به المنافقون حيث أشار الله إلى ذلك من حالهم، بقوله: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:67] . فالمزكي الذي يبذل من ماله الذي جبل على محبته والذي صرف كثيراً من الوقت والجهد في جمعه، وقد أدرك منفعته له في قضاء حاجاته وتيسير أموره، إنما يجود به امتثالاً لأمر الله، وحسن ظن به وثقة بوعده، فهذه المعاني من أقوى الأسباب في تخليص القلب من دائه، بل إن مرض

_ 1 جامع البيان لابن جرير 11/16. 2 جامع البيان 11/16.

الحرص والنفاق لا يقوم له قائمة في قلب استشعر هذه المعاني، والزكاة والصدقة بالإنفاق من المحبوب جالبة للبر الذي هو مادة صلاح القلب. قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177] . ولا شك أن عمران القلب بهذه العقائد القيمة، وانبعاث الجوارح للعمل بموجبها، لا يكون إلا من قلب قد تخلص من دائه، وتمكن منه حب الله وحب ما يحبه، والفرح بفعل ما يرضيه، فقد ذكر الله أن من أعمال أهل البر أنهم يؤتون المال على حبه، وهذا الفعل ضد الشح الذي يحمل على منع حق المال، فدل على أن الإيمان قد هذب وكسر حدة حبهم للمال إلى بذله لاستجلاب محبوب أهم منه، وهو القرب من الله، والترقي في منازل الإيمان. وخلاصة ما تقدم: أن أثر الإيمان في تطهير القلب من هذا الداء يتجلى في دراسة التوحيد، وتقوية الاعتقاد بمعرفة أسماء الله وأفعاله، والتوكل عليه، والإيمان بالقدر وفق ما دل عليه كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم،

كما يتجلى ذلك الأثر في إقامة الصلاة والمداومة والمحافظة عليها ضمن أثرها العام في النهي عن الفحشاء والمنكر، وفي أثر الزكاة التي يتخلص من أدَّاها من خلُق الحرص والشح. أما سائر شعائر الإسلام الأخرى فهي مؤثرة في هذا الجانب من جهة أنها تزيد الإيمان الذي هو مادة الخير في القلب، والذي إذا تمكن أخرج ما يضاده من خصال الكفر والنفاق. أثر الإيمان في تطهير القلب من محبة الفاحشة: تقدمت الإشارة إلى أن من ابتلي بحب الفواحش، لا يخلو إما من ضعف توحيده وإيمانه، أو ميله إلى الشرك؛ وبهذا يتبين أن أهم مؤثر في سلامة القلب من هذا الداء -إذا أراد الله له السلامة- هو قوة الإيمان ورسوخ التوحيد. قال ابن القيم رحمه الله: "ومحبة الصور المحرمة وعشقها من موجبات الشرك، وكلما كان العبد أقرب إلى الشرك، وأبعد من الإخلاص، كانت محبته لعشق الصور أشد، وكلما كان أكثر إخلاصاً وأشد توحيداً، كان أبعد من عشق الصور، ولهذا أصاب امرأة العزيز ما أصابها من العشق لشركها، ونجا منه يوسف الصديق بإخلاصه، قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] "1.

_ 1 إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان 2/197، 198.

وقد بين رحمه الله سر ذلك بقوله: "فمحبة الله عز وجل أصل المحاب المحمودة، وأصل الإيمان والتوحيد، والمحبة مع الله أصل الشرك، والمحاب المذمومة ... "1. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " ... وذلك أن القلب إذا ذاق حلاوة عبودية الله ومحبته له، لم يكن شيء أحب إليه من ذلك، حتى يقدمه عليه، وبذلك يصرف عن أهل الإخلاص لله السوء والفحشاء، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} . فإن المخلص لله ذاق من حلاوة عبوديته لله ما يمنعه من عبوديته لغيره، ومن حلاوة محبته لله ما يمنعه من محبة غيره، إذ ليس عند القلب لا أحلى ولا ألذ ولا أطيب ولا ألين ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته لله، ومحبته له، وإخلاصه الدين له، وذلك يقتضي انجذاب القلب منيباً خائفاً راغباً راهباً، كما قال تعالى: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:33] . فلا يكون عبد الله ومُحِبُّهُ إلا بين خوف ورجاء، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ

_ 1 المصدر السابق.

إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء:57] . وإذا كان العبد مخلصاً له اجتباه ربه فيحيى قلبه، واجتذبه إليه فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء"1. ومما تقدم من أقوال أهل العلم يتحصل أن عمران القلب بالإيمان والإخلاص لله القائم على قوة المحبة لله، والخوف منه ورجائه، ينتج عنه حياة القلب وانجذابه إلى الله، وما يقرب إليه من العمل الصالح، وانصرافه عما يضاد ذلك من السوء والفحشاء. فقيام هذه الثلاثة في القلب موجب صلاحه واستقامته، فالمحبة تدفعه إلى فعل ما يرضي الحبيب، والخوف يمنعه من تعاطي الأسباب التي تغضبه وتحجب عنه، والرجاء يقوي الأمل في إقالة العثرات وحصول البركات والمسرات. وقيام المحبة لله في القلب مع الخوف والرجاء، لا يكون إلا بمعرفة الله، وذلك لا يكون إلا بالتفكر والتعلم لما دلت عليه أسماء الله الحسنى من المعاني واستشعار القلب لذلك. قال ابن القيم رحمه الله في بيان ذلك: "القرآن كلام الله وقد تجلى الله فيه لعباده بصفاته، فتارة يتجلى في جلباب الهيبة والعظمة والجلال، فتخضع الأعناق، وتنكسر النفوس، وتخشع الأصوات، ويذوب الكبر كما

_ 1 مجموع الفتاوى 1/215، 216.

يذوب الملح في الماء، وتارة يتجلى في صفات الجمال والكمال، وهو كمال الأسماء وجمال الصفات، وجمال الأفعال الدال على كمال الذات فيستنفذ حبه من قلب العبد قوة الحب كلها، بحسب ما عرفه من صفات جماله ونعوت كماله، فيصبح فؤاد عبده فارغاً إلا من محبته؛ وإذا تجلى بصفات الرحمة والبر واللطف والإحسان، انبعث قوة الرجاء من العبد، وانبسط أمله وقوي طمعه، وسار إلى ربه، وحادي الرجاء يحدو ركاب سيره. وكلما قوي الرجاء جد في العمل ... وإذا تجلى بصفات العدل والانتقام والغضب والسخط والعقوبة، انقمعت النفس الأمارة، وبطلت أو ضعفت قواها من الشهوة والغضب، واللهو واللعب والحرص على المحرمات، وانقبضت أعنة رعونتها، فأحضرت المطية حظها من الخوف والخشية والحذر"1. ومما تقدم تبين أن المؤثر الأول في تخليص القلب من هذه العواطف الفاسدة من حب الفواحش هو عمران القلب بالتوحيد والإيمان، حيث تقوى محبته لربه وخوفه منه ورجاؤه له، وأن الطريق إلى ذلك هو معرفة الله بأسمائه وأفعاله، واستشعار القلب لذلك، ثم عبادته تعالى بهذه المعرفة، وأهم العبادات تأثيراً في قطع هذا الداء -بإذن الله تعالى- بعد التوحيد،

_ 1 الفوائد لابن القيم ص91، 92.

الصلاة التي آن أوان الكلام على أثرها في ذلك. أثر الصلاة في تخليص القلب من حب الفاحشة: للصلاة أثر عظيم في صلة العبد بربه، لما فيها من إظهار العبودية، والخضوع، والافتقار، والذكر، والدعاء، والاستغفار الذي هو أعظم الأسباب مع التوحيد لنيل ولاية الله تعالى، كما أن للصلاة أثراً في تطهير القلب من ران الذنوب ودرنها -كما تقدم ذكره1- مما يجلب للمصلي طمأنينة قلبه، وسكون نفسه وراحتها. وقد أخبر سبحانه أن لها أثراً في تطهير العبد من محبة الفاحشة والمنكر، تلك المحبة الدافعة إلى طلبها وسلوك طريقها، فالصلاة سبب لتقوية وازع الخير، وإضعاف الدافع إلى الشر والفواحش، قال تعالى مشيراً إلى هذا الأثر: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45] . قال ابن كثير رحمه الله حول هذه الآية: "يعني أن الصلاة تشتمل على شيئين، على ترك الفواحش، أي مواظبتها تحمل على ترك ذلك ... وتشتمل الصلاة أيضاً على ذكر الله تعالى وهو المطلوب الأكبر، ولذلك

_ 1 تقدم في المبحث الثاني من هذا الفصل.

قال: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} أي أعظم من الأول"1. وروى ابن جرير عن قتادة والحسن2 رضي الله عنهم: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، فإنه لا يزداد من الله إلا بعداً"3. وبين ذلك أبو العالية رحمه الله بقوله: "إن الصلاة فيها ثلاث خصال، فكل صلاة لا يكون فيها شيء من هذه الخلال فليست بصلاة: الإخلاص والخشية، وذكر الله، فإخلاص يأمره بالمعروف، والخشية تنهاه عن المنكر، وذكر الله القرآن يأمره وينهاه"4. وكثيراً ما استخدم شياطين الإنس والجن النساء في تحقيق أغراضهم الخسيسة في نشر الفساد، وإغواء العباد والترويج للأفكار الهدامة. ومعلوم أنه لا تحصل الفتنة بهن إلا بعد إغوائهن وإفساد قلوبهن ففساد القلب دافع إلى قبول الشر والرذيلة. لذلك اهتم الإسلام بصلاح قلوب النساء وسلامتها من محبة الفاحشة، وأرشدهن إلى ما له أثر في قطع ذلك.

_ 1 تفسير القرآن العظيم ط الشعب 6/289، 291. 2 الإمام الفقيه الحسن بن أبي الحسن يسار البصري، روى عن عمران بن حصين والمغيرة بن شعبة، وابن عباس وغيرهم، توفي سنة 120هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 4/563، والبداية والنهاية 9/278. 3 جامع اليبان 20/155. 4 تفسير القرآن العظيم 6/291.

فعندما نهى الله سبحانه عن بعض الأسباب المؤدية للفاحشة، أرشد في نفس السياق إلى العلاج المعين على ترك ذلك، فقال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب:30-33] . فبعد أن نهاهن عن الخضوع بالقول عند مخاطبة الرجال الأجانب، وأمرهن بملازمة البيوت، ونهاهن عن التبرج عند الخروج من البيوت لحاجة تستدعي ذلك -وهي تعليمات تؤدي مخالفتها إلى فتنتهن أو الفتنة بهن، وما خالفتها النساء في مجتمع إلا فشت فيه الفاحشة- أرشدهن بعد ذلك إلى ملازمة القول المعروف عند مخاطبة الرجال الأجانب، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبين سبحانه أن ذلك الترك لما نهى عنه، والفعل لما أمر به، سبب لذهاب الرجس عنهن

وطهارتهن، فقد شرع سبحانه هذه الأعمال، وأراد أن يحصل لمن التزم بها ما رتبه عليها، وجعلها سبباً له من الطهارة وذهاب الرجس. وقد ذكر منها سبحانه الصلاة، فدل على أن لها أثراً عظيماً في شفاء القلوب من داء محبة الفاحشة، واقتلاع دوافعها. وعلى هذا فإن النتيجة الحتمية لإضاعة الصلاة هي اتباع الشهوات، من شهوة الفاحشة، أو شهوة الظلم، والبغي والتكبر في الأرض. قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] . فللصلاة أثر عظيم في سلامة القلوب وصلاحها وانبعاثها للخير وبُعدها عن الشر، وما ذلك إلا لأنها اشتملت على معان وأفعال عظيمة أشير إلى أهمها: فمن جهة هي تحقيق للتوحيد، فالمصلي يظهر ذله وخضوعه وافتقاره لربه، يدعوه ويستغفره، يفزع إلى الصلاة، يرجو الخير والسلامة، ويعوذ بربه من الشر والهلاك. فهو يتصل بالله معلناً فقره وحاجته، ومعلناً شكره وامتنانه، عالماً مستشعراً أن ذلك بيد الله وحده، فلا يقصد غيره في ذلك؛ ومن جهة أخرى هي جامعة لأركان الإيمان الثلاثة: القول والعمل والاعتقاد.

فالاعتقاد والتصديق لا يفارق المسلم في جميع أوقاته، ما دام العقل باقياً، فهو ملازم له حال صلاته، والعمل يتمثل بالقيام والركوع والسجود والقعود ونحوها. والقول يتمثل بقراءة القرآن، والذكر والتشهد ونحوها، لذلك سمى الله الصلاة إيماناً في قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] . أي صلاتكم تجاه بيت المقدس قبل أن تحول القبلة، كما ورد في صحيح البخاري1. ومن جهة ثالثة، هي جامعة لأنواع الذكر، فالذكر بالعمل حاصل بأداء الفرض، وفي القلب حاصل حيث أن قلب المصلي الخاشع موصول متعلق بمن يقف بين يديه ويناجيه، وبالقول فجميع الأذكار القولية تقريباً تشتمل عليها الصلاة، فقراءة القرآن في القيام والتكبير والتحميد والتسبيح والتشهد في أركانها، والدعاء في قراءة الفاتحة والسجود وبين السجدتين، والتشهد الأخير، والاستغفار بين السجدتين، وبعد الصلاة مباشرة، وغير ذلك من الأذكار العظيمة التي اشتملت عليها. قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] . وقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14، 15] . فبالله أي خير جمعت؟! وأي بركة تعود على من حافظ عليها

_ 1 انظر: صحيح البخاري مع الفتح 1/95، كتاب الإيمان، باب الصلاة من الإيمان.

واستشعر أهميتها وحاجته إليها؟! ومن أعظم بركتها أن صاحبها -بإذن الله- يكون في حصن حصين من الشياطين وكيدهم، وذلك لاشتمالها على الذكر، كما تقدم، فقد ورد أن الذكر سبب لتحصين العبد من الشياطين، ومن ذلك ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أن الله أوحى إلى يحيى بن زكريا صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات أن يعمل بهن ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فذكر منهن الذكر، ومثله فقال: " ... وآمركم أن تذكروا الله، فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعاً حتى إذا أتى حصناً حصيناً فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله ... "1. "فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة لكان حقيقاً بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله تعالى، وأن لا يزال لهجاً بذكره، فإنه لا يحرز نفسه من عدوه إلا بالذكر، ولا يدخل عليه العدو إلا من باب الغفلة، فهو يرصده فإذا غفل وثب عليه وافترسه، وإذا ذكر الله تعالى انخنس عدو الله تعالى وتصاغر وانقطع ... "2.

_ 1 رواه الإمام أحمد المسند 4/202 مسند الحارث الأشعري، ورواه الترمذي وقال:"حديث حسن صحيح غريب" سنن الترمذي، أبواب الأمثال، ج225. وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير 2/100. 2 الوابل الصيب من الكلم الطيب، لابن قيم الجوزية، ضمن مجموعة الحديث ص 659، مكتبة الرياض الحديثة، ط الخامسة، ت بدون.

فملازمة ذكر الله تعالى تجعل العبد في حصن حصين من الشياطين ووساوسهم وتلبيساتهم. ومردّ ذلك إلى أن الذكر -كغيره من الحسنات- يذهب السيئات، ويكفرها ويجلو القلب، فيبقى منيراً يقظاً يكشف لصاحبه الضلال وينفره منه. كما أن الذاكر موصول بالله يجازيه بما يناسب عمله، فيذكره سبحانه كما قال {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] ذكراً خاصاً يوجب معيته وتوفيقه، وحفظه وتسديده، فيصرفه عن المهالك، ويوفقه لما فيه هدايته وصلاحه. ومن ذلك حفظه من الأفكار الخبيثة إذا طرأت على قلبه أو عُرضت عليه. أثر الصيام في تخليص القلب من الميل للفواحش: الأصل في هذا الأثر هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: " يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء "1.

_ 1 متفق عليه: واللفظ لمسلم، البخاري، كتاب النكاح، باب من لم يستطع الباءة فليصم، ح5066 9/133. مسلم، كتاب النكاح، الباب الأول ح1400 2/1018 تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.

قال النووي رحمه الله: "واختلف العلماء في المراد بالباءة هنا على قولين يرجعان إلى معنى واحد أصحهما أن المراد معناها اللغوي، وهو الجماع فتقديره: من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤنه وهي مؤن النكاح فليتزوج، ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤنه فعليه بالصوم ليدفع شهوته ويقطع شر منيه، كما يقطعه الوجاء1.وعلى هذا القول وقع الخطاب مع الشبان الذين هم مظنة شهوة النساء، لا ينفكون عنها غالباً ... "2. فالرسول أرشد إلى عبادة عظيمة تؤدي إلى تحصين المسلم من ثوران شهوته وجريانه خلفها إذا لم يكن له زوج. هذه العبادة تؤدي إلى ترك الطعام والشراب الذي يضعف الشهوة ويكسر حدتها لكنه لم يرشد إلى مجرد ترك الطعام والشراب، وإنما أرشد إلى العبادة التي تتضمن ذلك. قال ابن حجر رحمه الله: "عدل عن قوله فعليه بالجوع وقلة ما يثير الشهوة ويستدعي طغيان الماء من الطعام والشراب إلى ذكر الصوم، إذ ما جاء لتحصيل عبادة هي برأسها مطلوبة ... "3.

_ 1 قال النووي:"الوجاء: هو رض الخصيتين، والمراد هنا أن الصوم يقطع الشهوة، ويقطع شر المني، كما يفعله الوجاء". شرح النووي على صحيح مسلم 9/173. 2 المصدر نفسه. 3 فتح الباري شرح صحيح البخاري 9/110.

فالأثر المتمثل في كسر الشهوة وإضعافها ليس ناتجاً عن الجوع والعطش فحسب، بل هو ناتج مع ذلك عن الإيمان والتقوى في الصيام، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] . فالصيام يشتمل على أمور هامة تعمل مجتمعة في أحداث هذا الأثر منها: أنه علة لحصول تقوى الله عز وجل، وزيادة الإيمان، وهو من الصبر على طاعة الله، ويشتمل على ذكره سبحانه؛ وبهذه الأمور تستجلب ولاية الله وعنايته ومعيته الخاصة لأوليائه قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] . وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] . وبذلك يقوى القلب وينصرف فكره عن الشهوة ودواعيها، ويسهل عليه الصبر عن معصية الله، فمن صبر على طاعة الله، أعانه الله على الصبر عن معصيته، والصوم أيضاً يؤدي من جهة أخرى إلى ضعف الشهوة وسكونها، لانقطاع مادة هيجانها وهو الشراب والطعام. وللصيام خاصية عظيمة في ردع القلب عن التهور والعجلة والاندفاع، فهو فعال في تهذيب السلوك، وتعويد من لازمه على التأني والصبر مما يعينه على الروية

والتبصر في أمره، وذلك يقود صاحبه إلى الخير. قال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] . ومن أجل ذلك والله أعلم نجد أن الكفارات المغلظة ككفارة القتل والظهار، والجماع في نهار رمضان، التي كثيراً ما يكون الدافع إليها العجلة وعدم ضبط النفس، والضعف عن كبح الانفعال، شرع فيها الصوم شهرين متتابعين، وما ذلك إلا لتربية من حصل منه شيء من ذلك بالصوم ليحصل على هذا الأثر الهام. فملازمة الصوم تجعل الإنسان في حصون منيعة تحول دون عدوه والتسلل من خلال شهوة الجماع إلى استدراجه إلى مراتع الرذيلة التي يتوصل بها إلى إفساد دينه ودنياه؛ كما أنه يقوي قلبه على الصبر وكبح جماح النفس عند الانفعال، وذلك من آثار عناية الله بعبده، حيث أن الصوم من التقوى التي تستجلب بها ولاية الله. ومما تقدم يتبين: أن أثر الإيمان في تطهير القلب من محبة الفواحش يتجلى في أثر التوحيد الذي يعمر القلب بمحبة الله والخشية منه، وأن ذلك يتحقق بدراسة ومعرفة أسماء الله الموجبة لحبه وخشيته، واستشعار القلب لذلك؛ كما يتجلى في أثر الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وفي الذكر الذي يحصن العبد من عدوه ويوجب ذكر الله له، وفي الصيام الذي يزيد في تقواه وقربه من مولاه، ويضعف الشهوة، ويكسر من حدتها،

وفي غير ذلك من الأعمال الصالحة التي تزيد في الإيمان، وتقرب العبد من الرحمن، وتحبب إليه الخير والإحسان، وتنفره من الشر والفحش والطغيان. وأختتم هذا المطلب بأبيات تعبر عن معان ثارت في نفسي عند كتابة ما يختص بأثر الإيمان في تحصين القلوب من حب الفاحشة. الحمد لله العلي المنجد ... لعباده من كل فِكْر ملحد للشر مكر بالنساء الخُرد ... صبراً جميلاً صاح لا تتمرد فيما أحل الله غُنية عاقل ... ولذيذ عيش المرء في أن يهتدي وإذا نظرت إلى الحرام وجدته ... متعاً تزول ووحشة تتلبد لله در المؤمن المتجلد ... في دربه يسعى بغير تردد علم الفتى بالله أصل حياته ... وربيع قلب العبد حب الأوحد وبذكره تكسى القلوب حلاوة ... فهو الشفاء وللهموم يبدد والعلم نور للفتى في سعيه ... والعقل يحكم سيره ويسدد والقلب يأنس للموافق فطرة ... والنفس إن تجهل تميل وتعتدي لا يلتقي في القلب حب إلهه ... ومحبة الفحش المقيت الأنكد المخلصون مخلصون من الردى ... في أمر يوسف عبرة للمقتدي

المطلب الثالث: أثر الإيمان في تحصين القلب من الحقد والحسد

المطلب الثالث: أثر الإيمان في تحصين القلب من الحقد والحسد تقدم أن أهم العواطف الفاسدة التي تقوم في قلوب الناس هي: حب العبادة المتوجهة لغير الله، وحب الشهوات المحرمة، والحقد والحسد، وتم بعون الله تعالى الكلام على القسمين الأولين، ويجري الكلام هنا على مَرَضَيِ الحقد والحسد، وأثر الإيمان في تطهير القلب منهما. الحقد والحسد وأثر الإيمان في تطهير القلب منهما: الحقد والحسد مرضان مصدرهما عاطفتا الكراهية والبغضاء للمحسود والمحقود عليه1، وقد يكون الدافع للحسد حب الذات، وكراهية أن يفوقه أحد من جنسه في شيء من الفضائل2. والحسد هو تمني زوال نعمة عند غيره، وقد يتمنى أن تؤول إليه، وقد لا يتمنى، كما أنه قد يعمل بموجب حسده فيسعى لإزالة نعمة المحسود بالبغي عليه بالفعل أو بالقول، وقد لا يعمل. وأشده فتكاً وأعظمه خطراً وحرمة الحسد الذي يعمل صاحبه في

_ 1 مجموع الفتاوى 10/11. 2 انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب ص308.

إلحاق الضرر بالمحسود1. الحقد والحسد ثغرتان في القلب: لا يوجد مرض يكون سبباً لرد الحق من أول وهلة بعد معرفته أشد من الحسد، فهو داء عضال إذا استحكم في القلب مال به عن القصد وأوقعه في المهالك. قال ابن تيمية رحمه الله: "فالبخل والحسد مرض يوجب بغض النفس لما ينفعها، بل وحبها لما يضرها، ولهذا يقرن الحسد بالحقد والغضب"2. والحسد هو الدافع لأول ذنب عُصي الله به، حيث رفض إبليس السجود لآدم حسداً له على ما أولاه الله من الكرامة بإسجاد الملائكة له، وكِبْراً أن يسجد لمن يرى نفسه أفضل منه. وقد كانت أمهات المعاصي الكبار الدافع إليها الحسد، فقد قص الله علينا ما كان من إبليس، وما كان من بني إسرائيل وتكذيبهم لنبيهم عليه الصلاة والسلام، بل وعداوته وعداوة أتباعه، وأن الدافع لذلك هو الحسد. قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً

_ 1 انظر: مجموع الفتاوى 10/112، 121، وجامع العلوم والحكم ص308، 309. 2 مجموع الفتاوى 10/129.

حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109] . كما قص علينا أول حادث قتل بين بني آدم، وقد كان الدافع إليه الحسد، "ولهذا قيل أول ذنب عصي الله به ثلاثة: الحرص، والكبر، والحسد، فالحرص من آدم، والكبر من إبليس، والحسد من قابيل حيث قتل هابيل" 1. فأصول المعاصي ترجع إلى: شهوة، أو كبر، أو حسد. والحسد كما أنه مضر بدين الحاسد، فهو أيضاً مرض اجتماعي يورث البغضاء بين أفراد المجتمع المسلم، ويحمل على البغي، أشار إلى أثره الاجتماعي الرسولصلى الله عليه وسلم بقوله: " لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث " 2، وفي رواية: " وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم الله " 3. قوله: " وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم الله " دليل على أنهم إن سرت فيهم هذه الأدواء، لم يكونوا إخواناً كما أمرهم الله، مما يدل على

_ 1 مجموع الفتاوى 10/126. 2 متفق عليه:-واللفظ لمسلم- البخاري، كتاب الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر، ح6065 10/481. ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم التحاسد والتباغض والتدابر ح2559 4/1983. 3 رواه مسلم، الكتاب والباب ورقم الحديث كسابقه 4/1984.

أثرها في هدم أو إضعاف الأخوة الإيمانية. فالظلم والبغي الناتج عن الحقد والحسد عند الفقراء وخاصة الأقوياء منهم، هو مرض يقابل الشح والحرص على المال الذي يقوم في قلوب الأغنياء، فيحملهم على إمساك حقوق المال والظلم في تحصيله وإنفاقه، لذلك جمع الرسول صلى الله عليه وسلم بينهما فقال: " اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم "1. وينتج عن هذين الأمرين -حقد وحسد الفقير، وشح الغني- داء اجتماعي خبيث هو بمثابة السرطان الذي يفتك بالأبدان، ألا وهو تغير القلوب وتنافرها وتباغضها، مما يؤدي إلى تسلط وتآمر بعض المسلمين على بعض. وقد استغل الحاقدون على الإسلام المتربصون بأهله، وجود هذا الداء بين أفراد المجتمع المسلم -قديماً وحديثاً- أسوأ استغلال لنشر المبادئ الهدامة والأفكار الخبيثة، والتفريق بين المسلمين، ولعل آخرها الفكر الشيوعي الذي يقوم على تسليط الفقراء على الأغنياء مستثيراً كوامن الحسد والبغضاء المنتشرة بين المسلمين، بسبب البعد عن منهج الله، وضعف الإيمان وانتشار الجهل، وشح الأغنياء، وإمساك الزكاة ...

_ 1 رواه مسلم: تقدم تخريجه.

ونحو ذلك. وبهذا يتضح أن الحسد وما يتفرع عنه من أدواء هي ثغرات في حصن القلب تتسلل منها دعوات الشياطين لإفساد الدنيا والدين، كما ينتج عنها أيضاً أمراض اجتماعية كالحقد والتباغض والتنازع والبغي، وهي انهيارات في حصون المجتمع المسلم تكشف ظهورهم لعدوهم، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46] . وليس الغرض التوسع في عرض هذه الأدواء، وما ترتب عليها من المفاسد، وإنما القصد بيان أن هذه العواطف الفاسدة إذا قامت في القلوب كانت أقوى الدوافع لتقبل أو طلب الأفكار الهدامة، ثم بيان أثر الإيمان في تطهير القلب منها. الإيمان مخلّص من الحقد والحسد: إن الحقد والحسد -كغيرها من أمراض القلوب- انحرافات في صحة القلب نتيجة لتغذيه من شرور الجاهلية، وعلاجها بكون بقطع مادة الشر التي تغذيه، وإمداده بضدها من مادة الخير والصلاح. قال ابن تيمية رحمه الله: " ... فهكذا أمراض القلب يحتاج فيها إلى حفظ الصحة ابتداء وإلى إعادتها -إن عرض له المرض- دوماً، والصحة تحفظ بالمثل، والمرض يزول بالضد. فصحة القلب تحفظ باستعمال أمثال

ما فيها، أو هو ما يقوي العلم والإيمان من الذكر والتفكر والعبادات المشروعة، وتزول بالضد، فتزال الشبهات بالبينات، وتزال محبة الباطل ببغضه ومحبة الحق"1. وهذه قاعدة جامعة نافعة للعلماء والدعاة والمربين، تدور حول معرفة سبب الداء ثم علاجه بالحمية منه وتعاطي ضده. ولأجل معرفة أثر الإيمان في تطهير القلوب من أدواء الحسد والحقد ونحوها، يجدر أن نتعرف على أسبابها ثم العلاج المضاد لكل سبب والذي يزول -بإذن الله- ذلك السبب ومن ثم المسبَّب. وأسباب هذه الأمراض بعضها يعود إلى نفس الحاسد، وبعضها يعود إلى المجتمع، وفي الإيمان علاج لجميعها. فأما الأسباب التي مردها إلى نفس الحاسد أو الحاقد فهي ضعف إيمانه، وقلة استشعاره لمعاني أسماء الله التي تدل على تفرده بالملك والتدبير، وأن ما يصيب الناس من خير أو ضده فهو من الله، وكذلك ضعف إيمانه بقدَر الله، وعدم الرضى بالمقدور. وعلاج هذا إنما يكون بالعلم بالتوحيد والقدَر واستشعار ذلك، وبالمحافظة على الصلوات، والتوجه إلى الله بالدعاء والضراعة، وحسن الظن به، والرضى بفعله وقدره.

_ 1 مجموع الفتاوى 10/145.

فهذا جانب من الإيمان إذا علمه الإنسان واستشعره، وقام بموجبه، فإنه يؤثر تأثيراً قوياً في صلاح القلب وتخليصه من غله وحسده وحقده. أما العوامل الاجتماعية فهي رئيسية، حيث تمثل الدافع لقيام الحسد والحقد والكراهية في قلوب ضعاف الإيمان من المسلمين من الفقراء ضد الأغنياء. وأخبث هذه الأسباب هو الشح والبخل من الأغنياء بمنع حق المال من الزكاة والصدقة والبر والإحسان، أو بالسعي إلى جمع المال بالظلم والحرام، أو بصرف المال في الترف والإسراف في المعاصي. فهذه الأمور التي تقع من الأغنياء بمرأى ومسمع من الفقراء من أعظم الأسباب إثارة للحقد والحسد. وقد شرع الله الزكاة والصدقة ورغب فيها، لما لها من الأثر العظيم في اقتلاع هذه الأدواء وإحلال المحبة وسلامة الصدر محلها، وحول هذا الأثر العظيم قال الدكتور يوسف القرضاوي: "فالإنسان إذا عضته أنياب الفقر، ودهته الحاجة، ورأى حوله من ينعمون بالخير، ويعيشون في الرغد، ولا يمدون له يد العون، بل يتركونه لمخالب الفقر وأنيابه ... هذا الإنسان لا يسلم قلبه من البغضاء والضغينة على مجتمع يهمله، ولا يعنى بأمره، وتربة الشح والأنانية لا تنبت إلا الحقد والحسد لكل ذي نعمة ... ولم يحارب الإسلام هذه الآفات النفسية الاجتماعية الخطيرة بالوعظ المجرد، والإرشاد النظري فحسب، ولكنه عمل على اقتلاع أسبابها من الحياة،

واستئصال جذورها من المجتمع، فليس يكفي الجائع والمحروم أو العريان أن تلقي عليه درساً بليغاً في خطر الحقد والحسد، وكل لحظة في حياته ... البائسة، وحياة الطاعمين الناعمين المترفين من حوله تلقنه دروساً عملية أخرى: كيف يحسد؟ وكيف يحقد؟ وكيف يبغض؟ وكيف يغلي قلبه كراهية وغيظاً ونقمة؟ ومن أجل ذلك فرض الإسلام الزكاة لييسر للعاطل العمل1،

_ 1 ليس من مصارف الزكاة وضعها في إنشاء مشاريع ينتج عنها فرص العمل، وذلك أن مصارف الزكاة محددة بنص القرآن الكريم، في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة:60] . وليس من بين هؤلاء الثمانية ما ذكره الشيخ د. القرضاوي، كما أن استثمار الزكاة في المشاريع يؤدي إلى جعلها علاجاً طويل الأجل، قد لا يستفيد منها الفقير العاطل وقت إخراجها، وهي في الأصل علاج عاجل لسد عوز المحتاجين، وتحقيق المصالح المذكورة في الآية. ولكن يمكن توجيه كلام الذكتور القرضاوي بأن يقال: إنه يترتب على نظام الزكاة إيجاد كثير من فرص العمل، حيث تستحدث أجهزة في الدولة والمؤسسات والشركات الكبيرة للإشراف على الزكاة، فتخصص وظائف للعاملين على جمعها وتوزيعها، وسائقين وحرس، وكما أن وجود المال بيد الفقير يمكنه من الانتفاع به كرأس مال لعمل ولو بسيط في زراعة أو صناعة أو تجارة، وعلى هذا ترتب وجود فرص كثيرة للعمل ببركة الزكاة.

ويضمن للعاجز العيش، ويقضي عن الغارم الدين، ويحمل ابن السبيل إلى أهله ووطنه، فيشعر الناس أنهم أخوة بعضهم أولياء بعض ... وفي هذا الجو النقي يمتد ظل الإيمان بما يتبعه من حب وإيثار ... "1. وبهذا يتبين أن للزكاة أثراً عظيماً في شيوع المحبة بين المسلمين، فهي تجلب المحبة والشفقة لقلب المزكي نفسه، ويشعر بالفرحة والسرور لشعوره أنه في طاعة الله وأن الله راض عنه، ولمساهمته في تفريج كرب إخوانه المؤمنين وإدخال السرور على قلوبهم، وإحساسه بأداء واجب التعاون والتكافل والإخوة الإيمانية. كما أن أثرها على الآخذ أشد وأعظم، فالقلوب قد جبلت على محبة المحسن، "فإن الناس إذا علموا في الإنسان رغبة في نفعهم، وسعيه في جلب الخير لهم، ودفع الضر عنهم، أحبوه بالطبع، ومالت نفوسهم إليه لا محالة" 2. ومن أخطر جرائم الأغنياء التي تسبب الحقد والحسد والكراهية

_ 1 فقه الزكاة، د. يوسف القرضاوي 2/876، مؤسسة الرسالة بيروت، ط الرابعة، 1400هـ. 2 المصدر السابق 2/867.

التعامل بالربا، وما ينتج عنه من أضرار اقتصادية واجتماعية مدمرة. وحقيقة الربا هي أخذ زيادة وفائدة دون مقابل حقيقي صحيح مشروع، ومن ذلك المتاجرة بالمال بإقراضه إلى أجل معين وأخذ زيادة على ذلك، فيزيد المال ويتضاعف لصاحبه دون أن يقدم فائدة حقيقية للمجتمع. فالمرابي لا يجلب بضاعة إلى الأسواق تساهم في نماء التجارة واتساعها، ولا يستثمر ماله في مشاريع زراعية أو صناعية أو مضاربات تعود على البلاد والعباد بالخير، وتؤمن فرصاً للعمل، وبضائع تتداول يستفيد منها المسلمون ويستغنون بها عن غيرهم. فالربا عقيم ممحوق، فنتيجته النظرية والواقعية هي تراكم المبالغ الدائنة لصالح الأغنياء على الفقراء، مما يزيد في فقرهم، وكثيراً ما تؤول منجزات الفقراء من مصانع ومزارع وعمارات ونحوها -والتي أنشؤوها من الربا إلى الأغنياء نتيجة لتراكم الديون على أصحابها وعجزهم عن سدادها فيتسلمونها في مقابل الدين الذي على أصحابها، فيذهب كدح الفقراء لسنين طويلة إلى المرابين الذين لم يبذلوا فيه أدنى تعب. وعلى هذا فحصيلة الربا النهائية، هي ازدياد الحرص والجشع والاحتكار والاستغلال من جانب الأغنياء، والحقد والحسد والبغضاء من جانب الفقراء، مما يزيد في اتساع الهوة بينهم ويؤدي إلى العداوة والبغي والظلم.

وأثر الإيمان في إزالة هذا الداء العضال يكمن في تحريمه للربا، والتحذير الشديد منه، وجعل المصر على الربا محارباً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:275-279] . وبجانب تحريم الربا، شرع الله لعباده الأسباب المثمرة التي تكفل للعباد العيش المستقر الكريم، فشرع البيع، واستثمار المال في الزراعة والصناعة والعقار، والتي إذا أقيمت على النظام المشروع كفلت للأمة ازدهاراً اقتصادياً واجتماعياً، وتوفرت البضائع وفرص العمل، وسار كل في مجال عمله قرير العين مغتبطاً لا يشعر بتسلط ولا حرمان. كما أن قيام المجتمع بالتكافل الاجتماعي في إيجاد صناديق للإقراض

الحسن، ومساعدة المحتاج للزواج أو سداد الدين أو بناء مسكن، وقيام الشركات والمؤسسات بالبيع بالتقسيط، كل ذلك يقلل من المحتاجين إلى الاقتراض بالربا، مما يقطع مصدر الشر ويساهم في إيجاد التعاون على البر والتقوى، الباعث على الحب والخير. قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] . وقال: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:280] . وقال صلى الله عليه وسلم: " مَن نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومَن يسَّر على معسر، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد، ما كان العبد في عون أخيه ... " الحديث 1. وهذه النصوص وغيرها تمثل أساساً في التعاون والتكافل الاجتماعي، سواء كان على مستوى فردي، أو عمل جماعي، وهذا الباب مفتوح لكل من يسهم فيه بفكرة جيدة أو مشروع مفيد، فكل من سن سنة حسنة في

_ 1 رواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء ... باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن ... ، ح2699 4/2074.

إيصال النفع ومساعدة المسلمين، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى قيام الساعة، وفي ذلك قال صلى الله عليه وسلم: " من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء "1. وعلى هذه القاعدة النبوية، فمن الأمثلة على السنن السيئة في هذا الزمان: البنوك الربوية، ومن الحسنة الصناديق الخيرية، والجمعيات التعاونية، ومن السنن السيئة أيضاً المحلات التي تبيع أشرطة الغناء والأفلام المفسدة، ومن الحسنة محلات بيع أشرطة القرآن والمحاضرات المفيدة. فالسنة الحسنة المراد بها أن يعمل الإنسان بعمل صالح عند أناس لا يعملون به، أو يجهلونه فيكون أول من عمل به فيقتدون به. والسنة السيئة أن يعمل بمعصية أو بدعة عند من لا يعملونها أو يجهلونها، فيقتدون به فيها. وفي هذا المعنى قال صلى الله عليه وسلم: " لا تقتل نفس ظلماً، إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه كان أول من سن القتل "2.

_ 1 رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، ح1017 2/705، وفي كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ... 4/2059. 2 متفق عليه: البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم وذريته، ح3335، الصحيح مع الفتح 6/364. ومسلم، كتاب القسامة، باب بيان إثم من سن القتل، ح1677 3/1304 واللفظ لمسلم.

وليس من الحسنة الابتداع في الدين بإحداث فعل على وجه التعبد، وذكر بهيئة مخصوصة أو عدد معين، أو جعل فضل لعملٍ، لم يأذن بها ولم يأت لها أصل في شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، فالعبادة مبناها على الاتباع ويحرم فيها الابتداع. قال تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس:32] . وقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] . وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] . وقال صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد "1. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب يقول: " ... أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة ... "2. والنصوص في ذم البدعة في الدين كثيرة، وفيما ذكر وفاء بالمقصود، إن شاء الله.

_ 1 متفق عليه: البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على جور فالصلح مردود، ح2697 5/301. ومسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ح1718 3/1343. 2 رواه مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة ح867 2/592.

وبعد الكلام على الربا وما يسببه من أمراض قلبية وكوارث اقتصادية، وأضرار في العلاقات الاجتماعية، أذكر أمراً آخر له أثر في تغير القلوب وتنافرها، وذهاب ودها ومحبتها، ألا وهو التكبر من القوي على الضعيف، والغني على الفقير، والكبر مرض قلبي من أهم دلائله الظاهرة، ترك السلام تكبراً. وأثر الإيمان في تطهير القلب من هذا المرض يكمن في الإيمان القلبي القائم على معرفة الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، وأفعاله العظيمة الحكيمة. فإذا استشعر العبد عظمة الله وكبريائه وجلاله، وبالمقابل استشعر ضعفه وذله وفقره وحاجته إلى ربه، فإن ذلك من أعظم البواعث على ابتعاده عن التكبر وجنوحه إلى التواضع. وأيضاً إذا كمل توكله على الله واستشعر أن النعمة التي هو بها -وغيرها من الخير الذي يأمله والشر الذي يحاذره- بيد الله وحده، حمله هذا العلم على ترك الاعتداد بنفسه أو قوته أو جاهه أو غناه وغير ذلك. وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمل له أثر كبير في نشر السلام والمحبة والوئام بين أفراد المسلمين، لما يحمله من رسالة من الأخ لأخيه بأنه يحترمه ويجله، ويعترف بمساواته في الحقوق بموجب رباط الإيمان هذا الأمر الجليل، هو إفشاء السلام. قال صلى الله عليه وسلم: " لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أو لا

أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم "1. مما تقدم تبين: أن الحقد والحسد والكراهية والبغضاء ثغور في حصن القلب والمجتمع المسلم إذا انتشرت بين الأفراد، وهي منفذ خطير للأفكار المنحرفة، وأن أثر الإيمان يتجلى في إزالة الدوافع لها بتقوية الإيمان بتعليم الناس بأسماء الله وصفاته وأفعاله، وغيرها من حقائق التوحيد، وبفرض الزكاة والحث على الإنفاق، وتحريم الربا، والتحريض على التعاون والتكافل بين المسلمين، والأمر بإفشاء السلام وحسن الخلق. وبهذا ينتهي ما يسره الله من الكلام على هذا الفصل أثر الإيمان في تطهير القلب وأنتقل -بعون الله- إلى الفصل الذي يليه أثر الإيمان في تزكية القلب، والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.

_ 1 رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمن، ح54 1/74.

المجلد الثاني

المجلد الثاني الباب الثاني: أثر الإيمان في تحصين القلب ضد الأفكار الهدامة الفصل الثالث: أثرالإيمان في تزكية القلوب * ... إن صلاح القلب بسلامته من الشر وعمرانه بالخير يجعله في حصن حصين من دعاة الضلال وأسبابه، وقد تقدم الكلام في الفصل السابق عن أثر الإيمان في تطهير القلب، وهو أثر هادم للوظائف الذميمة القائمة بالقلب، والتي تمثل ثغرات ومداخل في حصنه للأفكار والوساوس الشيطانية المفسدة. وفي هذا الفصل يجري الكلام بعون الله تعالى على أثر الإيمان في تزكية القلب، وهو الأثر الباني للخصال الحميدة فيه، والتي يتحصن بها ضد أعدائه ومخططاتهم الرامية إلى التسلل إليه وإفساده. والزكاة في اللغة: النماء والزيادة في الصلاح، يقال: زكا الشيء إذا نما في الصلاح، فالقلب يحتاج أن يتربى فينمو ويزيد حتى يكمل ويصلح ... 1. وسميت الزكاة بذلك: "لما يكون فيها من رجاء البركة أو تزكية النفس -أي: تنميتها بالخيرات والبركات- أو لهما جميعاً، فإن الخيرين موجودان فيها"2. والمقصود بهذا الفصل هو زكاة القلب، ومعرفة أثر الإيمان في ذلك، ثم الإشارة إلى تحصنه بهذه التزكية من موارد الأفكار الهدامة ودوافعها.

_ 1 مجموع الفتاوى 10/96. 2 المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص213، مادة "زكا".

وزكاة القلب أمر زائد على طهارته، فالتزكية وإن كان أصلها النماء والبركة وزيادة الخير، فإنما تحصل بإزالة الشر، فلهذا صار التزكي يشمل هذا وهذا1. فطهارة القلب لازمة لتزكيته متقدمة عليها، قال ابن تيمية رحمه الله: "ولن ينمو الخير إلا بترك الشر، والزرع لا يزكو حتى يزال عنه الدغل، فكذلك النفس والأعمال لا تزكو حتى يزال عنها ما يناقضها، ولا يكون الرجل متزكياً إلا مع ترك الشر ... "2. وتزكية القلب المتضمنة لتطهيره من المحرمات، وتغذيته بالصالحات هي طريق الفلاح والسعادة والأمن والهداية في الدنيا والآخرة. قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7-10] . وتزكية القلب تكون بالتوحيد والأعمال الصالحة، وتدسيته تكون بالشرك والمعاصي3. وقد تقدم4 أن العقائد والعواطف هي المؤثرة على الإرادات، وأن

_ 1 مجموع الفتاوى 1/96، 97. 2 مجموع الفتاوى 10/629. 3 مجموع الفتاوى 10/632. 4 تقدم ص 316.

العلم هو المؤثر بإذن الله في بناء العقائد والعواطف، وتزكيتها أو تدسيتها. وعلى هذا فإن العلم هو العامل الأهم في تزكية القلب وصلاحه لما له من تأثير على العقائد والعواطف. وتقدم أيضاً1 الإشارة إلى أثر العلم في تزكية القلب، وأن كلا من التطهير والتزكية إنما يكون بتعلم الوحي المطهر واتباعه اعتقاداً وفعلاً وتركاً. وحيث إن البحث يجري في دراسة أثر الإيمان الكامل القائم على العلم المستقى من الوحي، والعمل الخالص الصواب، ذلك الإيمان الذي يثمر العقائد الحق، والعواطف الصالحة، والإرادات الطيبة، فإن القصد والحالة هذه هو بيان الآثار التي تنتج عن هذا الإيمان الذي زكا به القلب، والتي لها دور في تحصينه من الأفكار الخبيثة المفسدة. ويمكن حصر أهم هذه الآثار فيما يأتي: 1- حصول الطمأنينة في القلب. 2- النور والبصيرة والفرقان. وسوف أتكلم -بحول الله تعالى- عن كل منها في مبحث مستقل، وبالله التوفيق.

_ 1 تقدم ص353.

المبحث الأول: أثر التزكية في طمأنينة القلب.

المبحث الأول: أثر التزكية في طمأنينة القلب. طمأنينة القلب هي من أعظم نعم الله على المؤمن، وذلك أن سكون النفس واستقرارها هو الدافع للخير والشعور بالغبطة والسعادة، وبقيمة الحياة وهدفها، والثقة بالله ووعده. ولذا كانت طمأنينة القلب هي حصنه الحصين الذي يستعصي على الشياطين، وذلك أن النفس المطمئنة والقلب الثابت لا سبيل إلى زعزعته بإذن الله. ولكي يتبين أثر الطمأنينة في تحصين القلب، ينبغي أن أشير إلى ما يحدثه ضدها، وهو القلق من ثغور في القلب تتسرب من خلالها القاذورات من مستنقعات الجاهلية. فالقلق: هو انزعاج القلب وانفعاله، وخروجه من استقراره وطمأنينته وراحته، فهو شعور بالضيق وعدم الرضى1.

_ 1 انظر: المعجم الفلسفي د. جميل صليبا 2/199، دار الكتاب اللبناني، بيروت ط: الأولى 1973م، والموسوعة الطبية الحديثة 11/1579، تأليف نخبة من علماء مجمع "قلودن برس بأمريكا"، ترجمة لجنة تحت إشراف الإدارة العامة للثقافة بوزارة التعليم العالي بمصر، الناشر مؤسسة سجل العرب، القاهرة 1969.

والدوافع للقلق كثيرة، أهمها الخوف من حصول مكروه أو فوات محبوب، ومنها الشوق فإذا اشتاق العبد لشيء قلق من أجله واهتم له، ومن هذا النوع الشوق إلى المعرفة. وهناك نوع من القلق لم يجد له علماء النفس سبباً معروفاً، وهو عبارة عن انزعاج واضطراب القلب يصحبه حزن وكآبة وضيق صدر، وقد انتشر هذا النوع انتشاراً واسعاً في السنوات الأخيرة، كشفت ذلك بعض الدراسات المتخصصة1، وهذا النوع من القلق معروف سببه لدى أهل الإيمان، فمرجعه إلى مخالفة الفطرة، وذلك أن الإنسان مجبول على الركون إلى الخير والحق والاطمئنان له، والقلق من الشر والضيق به. فهذا النوع إذاً مرده إلى قيام الكفر أو الشرك أو النفاق أو المعاصي بالإنسان، واستمراره عليها. وسوف أتكلم عن نوعين من أنواع القلق لما لهما من أثر في جنوح الفرد إلى الأفكار الخبيثة المخالفة للحق. النوع الأول: القلق الناتج عن الشوق للمعرفة. النوع الثاني: القلق الناتج عن مخالفة الفطرة بالشرك أو المعاصي.

_ 1 انظر: علم الصحة النفسية، د، مصطفى خليل الشرقاوي، ص273، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، ط: الأولى 1983م. وانظر: دراسة حول ذلك في جريدة الشرق الأوسط، ص22 العدد 4124، الأربعاء 14/3/1990م.

النوع الأول: القلق الناتج عن الشوق للمعرفة. هذا النوع من القلق أصله فطري قد جبل عليه أكثر الخلق، فكل إنسان عاقل لديه رغبة في المعرفة، وإذا أحس بجهله بأمر انفعل طلباً لمعرفته. وقد ذكر الله لنا مثلاً على هذا القلق الذي يصيب الإنسان طلباً للعلم، فإذا حصل ما تشوق إليه القلب من العلم سكن واطمئن، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:260] . أورد المفسرون أن هذا القلق والشوق لهذا النوع من العلم إنما وجد عند إبراهيم عليه السلام بعد محاجته للنمرود1 في قضية أن الله هو الذي يحيي ويميت. فقد ذكر ابن جرير رحمه الله عن بعض السلف أن سبب مسألة

_ 1 نمرود هو ملك بابل زمن نبي الله إبراهيم عليه السلام، قيل إنه ملك الدنيا وأنه استمر في ملكه أربعمائة سنة، كان من الطغاة المتجبرين، ادعى لنفسه الربوبية فأبطل الخليل عليه السلام دليله وألجمه الحجة. انظر: البداية والنهاية 1/148.

إبراهيم ربه ذلك المناظرة والمحاجة التي جرت بينه وبين نمرود في ذلك، من غير شك في الله تعالى ذكره، ولا في قدرته، ولكنه أحب أن يعلم ذلك وتاق إليه قلبه، فقال: ليطمئن قلبي، أي: ما تاق إليه إذا هو علمه1. وهذا الشوق للمعرفة عند المؤمن إنما يرويه ما نزل من الحق في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم خاصة في الأمور الغيبية والمطالب الإلهية، والشرائع التعبدية. إلا أن هذا الشوق يتحول إلى مرض إذا صاحبه عدم الرضى أو عدم الثقة بالنصوص الناقلة للعلم نتيجة لاستحكام الشبهات فيجنح عند ذلك إلى طلب الحق من مصادر أخرى. يقول عبد الرحمن البدوي: "فإن أمثال هؤلاء المفكرين الذين يشعرون بالتوتر العظيم، بين النقل والعقل، أو بين الدين والعلم، لا يجدون خيراً من هؤلاء الفلاسفة ... لكي يشبعوا هذه الرغبة"2. فجنوح المنتسبين إلى الإيمان إلى كتب الفلاسفة، أو الأديان الباطلة كالهندية والفارسية ونحوها، مرده إلى عدم الطمأنينة إلى مصدر الحق، وهو الوحي المطهر وقلة الثقة به، كمصدر كاف لمعرفة الحقائق، أو عدم الثقة بنقلته الذين بلغوه.

_ 1 انظر: جامع البيان 3/48. 2 كتاب أرسطو، لعبد الرحمن البدوي ص275، مكتبة النهضة المصرية القاهرة، ط: الثانية، 1944م.

أما زعم من قال إن الفلسفة تشبع هذه الرغبة، فهذا ادعاء كاذب مردود بشهادة المختصين في دراسة الفلسفة قديماً وحديثاً، وخاصة في هذا العصر الذي بلغت فيه الفلسفة أوجها، وقمة مجدها، حيث تبنتها الحضارة الغربية، وأقامت نظمها الاجتماعية عليها، وإليك بعض هذه الشهادات: ورد في كتاب مدخل إلى الفلسفة: "ومن الطبيعي أن يصبح الباحث حين يواجه هذه الحالة مرتبكاً مشدوهاً فاتر الهمة، فبينما كان يرجو أن يجد الحقيقة الواحدة، وجد نفسه بدلاً من ذلك مسوقاً إلى أن يسأل: ما هو الحق؟ لقد رجا أن يمسح على شكوكه بيد اليقين، لكنه بدلاً من ذلك وجد أن التفلسف يثير شكوكاً وارتباكات أكثر مما يطمئن، وأنه يثير أسئلة هي أعسر بكثير من أن يقدر على الإجابة عنها، والحاصل غالباً هو انتفاء الرجاء في الفلسفة ... فما الفائدة؟ إن الفلسفة لا تقدر أن تبرهن على شيء ... والفلاسفة لا يتفقون أبداً، كلها استراق وتحايل على كل حال، وهكذا يقع المتشكك فريسة سائغة لمعتقد يبشر به أهله تبشيراً تعسفياً"1. وورد في الموسوعة الفلسفية المختصرة كلمة المحرر قوله: " ومن

_ 1 مدخل إلى الفلسفة، تأليف جون هرمان راندال، وجوستاس يولخر ص30 ترجمة د. ملحم قربان، دار العلم للملايين، بيروت 1963م.

هناك كانت أي مجموعة من الإجابات التي توضع لمشكلات الفلسفة الرئيسية ... إما أن تمثل وجهة نظر واحدة من بين ما لا يحصى من وجهات النظر، وأن تكون بمثابة بيان حزبي، وإما أن يظل يناقض بعضها بعضاً، ويترتب على هذا أن لا يمكن لأية موسوعة فلسفية أن تضطلع بتقديم إجابات قاطعة لمشكلات الفلسفة دون أحد أمرين: فإما أن تخدع قراءها بأن تصور لهم ما هو في حقيقة الأمر أحد الآراء المتخاصمة على أنه الإجابة المتفق عليها. وإما أن تربكهم بسلسلة من الإجابات المتعارضة، ولما كان الأمر كذلك، فقد آثرنا ألا نجيب عن هذه الأسئلة إطلاقاً"1. وهذا الكلام الذي يقوله الذين يشرحون الفلسفة للقراء ويبسطونها لهم، هو بمثابة إعلان بالإفلاس، وإشعار القارئ أنه لن يجني خيراً منها، فما أقربه من تحذير الملكين الذي ذكره الله بقوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102] . وبهذا الدافع جنح كثير من المنتسبين إلى العلم إلى الفلسفة وعلم الكلام، طلباً للحق في المطالب الغيبية بزعمهم، فلم يجنوا لأنفسهم إلا

_ 1 الموسوعة الفلسفية المختصرة، يشرف على تحريرها: جي يورمسون، تصدر باللغة الانجليزية، ترجمة نخبة من المترجمين المقدمة ص1، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1963.

الحيرة والضلال والخلاف، والانقسام لأمة الإسلام، فضلوا وأضلوا. والغرض هو بيان أن قلق القلب، وتشوفه للعلم المصحوب بأي نوع من أنواع عدم الثقة أو القناعة بالوحي، يكون دافعاً للوقوع في الأفكار المنحرفة المخالفة، وبهذا يتبين أثر الإيمان في طمأنينة القلب وثقته فيما جاء من عند الله من الهدى والنور. النوع الثاني: القلق الناتج عن مخالفة الفطرة بالعصيان. لقد خلق الله عباده على فطرة سوية، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس:7] . قال ابن كثير رحمه الله: "أي خلقها سوية مستقيمة على الفطرة القويمة"1. وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30] . وقال صلى الله عليه وسلم: " ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه "2.

_ 1 تفسير القرآن العظيم 4/516. 2 متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات ... ح1538 الصحيح مع الفتح 3/219. ومسلم، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة ... ح2568 4/2047.

قال ابن رجب رحمه الله: "وهذا يدل على أن الله فطر عباده على معرفة الحق والسكون إليه وقبوله، وركز في الطباع محبة ذلك، والنفور من ضده"1، ثم استدل ببعض النصوص المتقدمة. وإذا تبين هذا فإن الاعتقاد الصحيح، والعواطف الرشيدة من محبة الإيمان وما يتصل به، وكراهية الكفر وما ينتسب له أو يؤدي إليه، كل ذلك يوجب للقلب والنفس طمأنينة وراحة وسكينة. وخلاف ذلك من الشرك أو الكفر والنفاق والعصيان يوجب للقلب الخوف والوحشة والقلق والانزعاج. قال ابن القيم رحمه الله في معرض بيانه لعقوبة المعاصي: "ومن عقوبتها ما يلقيه الله سبحانه من الرعب والخوف في قلب العاصي، فلا تراه إلا خائفاً مرعوباً، فإن الطاعة حصن الله الأعظم، من دخله كان من الآمنين من عقوبات الدنيا والآخرة، ومن خرج منه أحاطت به المخاوف من كل جانب"2. وقال: "وهل العذاب إلا عذاب القلب، وأي عذاب أشد من

_ 1 جامع العلوم والحكم ص239. 2 الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ص50، 51.

الخوف والهم والحزن وضيق الصدر"1. وقال أيضاً: "ومن عقوباتها أنها توقع الوحشة العظيمة في القلب، فيجد المذنب نفسه مستوحشاً قد وقعت الوحشة بينه وبين ربه، وبينه وبين الخلق، وبينه وبين نفسه، وكلما كثرت الذنوب اشتدت الوحشة"2. وقال في سر ذلك: "وسر المسألة أن الطاعة توجب القرب من الرب سبحانه، وكلما اشتد القرب قوي الأنس، والمعصية توجب البعد من الرب، وكلما زاد البعد قويت الوحشة"3. ولا شك أن هذه الأدواء المزمنة المتمثلة في الخوف والقلق والوحشة والضيق، سوف تؤدي بصاحبها إلى طلب الخلاص منها، وإذا أضيف إلى ذلك ضعف البصيرة وقسوة القلب الناتجة عن المعاصي، وكون المعاصي تطلب ما يلائمها، فإن الغالب على من قامت به أن يطلب الخلاص منها في أمور محرمة أخرى تزيد في مرضه وبعده عن الطمأنينة، فالمعاصي يجر بعضها بعضاً. والكثير المشاهد أن هذه القلوب التي أحرقها لهيب الوحشة والقلق والضيق، تهرع إلى وسائل الترفيه والمرح التي لا يخلو بعضها من محرم

_ 1 الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ص50، 51. 2 نفس المصدر والصفحة. 3 نفس المصدر والصفحة.

وفتنة، وبعضها ينطوي على جملة من المحرمات، كممارسة الغناء والرقص أو سماعه ومشاهدته، ومشاهدة مواد التلفزيون وأشرطة الفيديو الفاسدة، والتردد على المسارح والسينما التي تُبث من خلالها الأفكار الهدامة على نطاق واسع، وأساليب مختلفة، ومن ذلك كثرة النزهات والتردد على الملاهي التي لا يخلو الكثير منها من الفتنة واختلاط الرجال بالنساء وبعض المحرمات، والإفراط في الاشتغال بالأدب والرياضة والفنون، وقراءة الروايات والمجلات التي تصد عن ذكر الله وتوقد الغرائز وتحرف الأفكار، وقد تزيد الوحشة والقلق فيلجأ إلى تعاطي المسكرات والمخدرات، أو يجنح إلى الفواحش والجريمة، أو الانتحار أو يصاب بالجنون. وقد بين بعض الباحثين في أحوال الأمم الكافرة -المولعة باللهو واللعب والترفيه- أن الناس يلجؤون إلى هذه الوسائل للتخلص من القلق1، ويقول الكاتب "بسكال"2: "إن الناس قد اخترعوا شتى ضروب اللهو أو التسلية، حتى يتجنبوا الخوف من الوحدة أو العزلة"3.

_ 1 انظر: الموسوعة الطبية الحديثة 11/1580، وجريدة الشرق الأوسط، ص22، العدد 4124، الأربعاء 14/3/1990م، زاوية "دراسات". 2 "باسكال" مؤلف فرنسي ولد عام 1923م، وتوفي 1963م. انظر: دائرة المعارف، بطري البستاني 5/418، مطبعة المعارف، بيروت، 1881م. 3 نقلاً عن كتاب: في سبيل موسوعة نفسية، تغلب على الخوف، لمجموعة من علماء النفس الغربيين، عرض وتقديم د. مصطفى غالب، ص13، دار مكتبة الهلال، بيروت 1985م.

وكثيراً ما استخدم شياطين الإنس والجن هذه الوسائل كطعم لصيد الناس وإيقاعهم في الفواحش والأفكار الهدامة المفسدة للعقائد والأخلاق. قال الشيخ محمد قطب مبيناً استغلال أعداء الإسلام لهذه الوسائل في هدم الإسلام: "كان من المفاسد الجديدة التي جاء بها الاستعمار: التعالن بالفاحشة باسم "التحرر" و"الانطلاق" و"المدنية" والدعوة إلى السفور والدعوة إلى الاختلاط، وكان منها توسيع دائرة "اللهو" باسم "الفن" و "الرقي" و"الحضارة" فمرة مسرح، ومرة سينما، ومرة إذاعة ماجنة تقدم الغناء الفاحش، والتأوهات المريضة والألفاظ العاتية، ومرة يكتب عليه صراحة اسم "ملهى" ومرة.. ومرة.. ومرة"1. وقال أيضاً: "وجدت بعد أيام الاستعمار الأولى وسائل أخرى كلها للإفساد، من أبرزها التلفزيون والفيديو ... واتخاذ الصحافة النسوية ثم السينما والتلفزيون لإغراء المرأة بمزيد من التبذل والفساد"2. ولخص بعد ذلك أهم أهدافهم من وراء نشر ذلك بأنها صرف

_ 1 الجهاد الأفغاني ودلالاته، محمد قطب، ص52 مؤسسة المدينة للصحافة والطباعة والنشر، جدة ط الأولى، 1410?. 2 نفس المصدر، والصفحة.

الناس عن الصلاة بعدما صرفوهم عن تحكيم شريعة الله، والقضاء على روح الجد في الأمة، والقضاء على ما بقي من روح الجهاد فيها1. ولا شك أن زعزعة اعتقاد المسلمين وإفقادهم الثقة والعزة بدينهم من أهم أهدافهم. والحق أن هذه الأمور التي يلجأ إليها الناس للتخلص من القلق لا تحقق لهم هذا المطلب، بل تزيدهم قلقاً ووحشة، فهي تصرف فكر الإنسان وتشغله عمّا يعانيه من القلق مؤقتاً ما دام في لهوه، ثم يعود بعد ذلك أسوأ حالاً مما كان عليه. ورد في الموسوعة الطبية الحديثة: "أما الإقبال على المشروبات الكحولية، والترويح السلبي من أمثال مشاهدة التلفزيون والسينما، فلا يخفف القلق، بل على العكس يزيد من سوئه"2. "فاللهو حمض أكّال، يرهّل النفس، ويقتل الوقت، ويمنع التوجه لمعالي الأمور، وهو في الوقت ذاته مغر بالمزيد، ولا تشبع منه النفس إذا وجهت همها إليه، وإنما تسعى للاستزادة منه مع "التفنن" الدائم في التغيير! " 3. فالنفس لا تشبع من اللهو لأنه ليس علاجاً صحيحاً، لما فيها من

_ 1 المصدر السابق، ص52، 53. 2 الموسوعة الطبية الحديثة 11/1580. 3 الجهاد الأفغاني ودلالاته محمد قطب ص53.

القلق والضيق، إذ لو كان علاجاً مناسباً لقطع القليل منه دابر الداء أو خففه. كما يحدث للمؤمن عند فعل الطاعات، لكن اللهو مسكن؛ تماماً كالحبوب المسكنة للآلام البدنية، يشعر المريض بالراحة ويسكن الألم إذا تعاطاها، والمرض في الحقيقة يزيد إذا لم يعالج بعلاجه المناسب. وسعي النفس للاستزادة -حيث إنها كلما جربت نوعاً من اللهو بحثت عن غيره- دليل على زيادة الدافع للهو ألا وهو القلق والضيق والكآبة. وبهذا يتبين أن القلق وعدم سكون القلب دافع لطلب الأفكار الهدامة، أو تعاطي الأمور التي تستخدم لنشرها، فهو إذاً ثغرة في القلب خطيرة، قد تؤدي بصاحبها إلى الوقوع فريسة للأفكار الهدامة المفسدة للدين. وبهذا تتبين الأهمية الكبرى للإيمان في جلب الطمأنينة للقلب، وتحصنه بذلك من الجنوح إلى شيء من أباطيل الجاهلية أو أفعالها القبيحة. وقد جاء المجال للكلام على الطمأنينة كأثر فعال في تحصين قلب المؤمن، والله المستعان. الطمأنينة حصن للقلب: إذا تقرر أن قلق القلب إنما هو فقر وحاجة تدفعه إلى طلب ما يرويها ويلائمها من الشهوات المحرمة أو وسائلها من اللهو واللعب ونحوه،

أو إلى تطلب الحق في غير محله، ومن غير أهله، وفي ذلك وقوع في الأفكار الفاسدة، أو في مصائد المفسدين التي يستدرجون بها أهل الخير إلى مهاوي الرذيلة والضلال ... إذا تقرر ذلك، فإن طمأنينة القلب وسكونه تعني غناه وركونه إلى الإيمان وعقائده وشرائعه، فلم يعد فيه قلق أو حيرة في أي مطلب علمي تدفعه إلى طلب الحق فيه من غير الوحي المبارك، وليس في قلبه مرض يميل به إلى الفاحشة أو مواردها حيث حبب الله إليه الإيمان وزينه في قلبه، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، فهو مطمئن سليم. فالطمأنينة إذاً هي غنى القلب الذي يتحصن به المؤمن من كل شر فكري يؤثر في عقائده، أو عاطفي يخل بعواطفه وإرادته. سبب طمأنينة القلب: طمأنينة القلب وسكون النفس قضية تهم البشر جميعاً، فكل إنسان يبحث عن هذا الأمر، لذا كثر كلام المفكرين قديماً وحديثاً عن أسباب الطمأنينة وكيفية حصولها، واختلفوا في ذلك اختلافاً واسعاً، كعادتهم في كل القضايا الرئيسية الهامة. والقرآن الكريم أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم هادياً للبشرية إلى الحق في جميع نواحي الحياة {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] . {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى

وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185] . ونظراً لأهمية هذه القضية وخطورتها، فلا بد أن يأتي البيان لها فيما نزل من الوحي بوضوح يتفق مع أهميتها. وقد جاء البيان للسبب الذي به تطمئن القلوب في كثير من النصوص، من ذلك قوله الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] . ففي قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّه} علامة على المؤمنين الذي صدقوا في إيمانهم وتمكن من قلوبهم، وهي اطمئنان قلوبهم لذكر الله، أي: "تسكن قلوبهم وتستأنس بذكر الله"1. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: "ثم ذكر تعالى علامة المؤمنين، فقال: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ} أي يزول قلقها واضطرابها وتحضرها أفراحها ولذاتها"2. وهذه العلامة ينبغي أن يتحقق وجودها في نفسه كل من ينتسب

_ 1 جامع البيان لابن جرير 13/145. 2 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 4/108، طبع ونشر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض 1404هـ.

للإيمان، فإن كان من الذين تنشرح صدورهم عند قراءة القرآن أو سماعه، وفي حلق العلم وسماع الدروس، ويتلذذون ويرتاحون في الصلاة، ومجالسة الصالحين، وفي كل ما يذكرون الله به أو يذكرهم به، فهو من {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ} فليحمد الله وليلزم. أما إن كان يجد ثقلاً وانقباضاً عند ذلك، وفي المقابل ينشرح صدره ويرتاح عند سماع الغناء واللهو، وأمام الملهيات وفي مجالس القيل والقال، والغفلة أو في المعاصي، فهو ليس من {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ} بل إيمانه ضعيف، وفي قلبه مرض، وهو على خطر عظيم فليستفد من هذه العلامة وليتدارك نفسه. أما قوله: {أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} فلها مدلول أعمق. فهي مع تأكيدها لما تقدم من طمأنينة قلوب المؤمنين بذكر الله حيث إنه هو الحقيق بأن يطمئن له ويسكن إليه1، فهي مع ذلك تشير إلى حقيقة هامة، يحتاج إلى إدراكها كل إنسان، وعلى إدراكها أو عدمه يتحدد سلوكه في الحياة. هذه الحقيقة هي أنه لا طريق إلى طمأنينة القلوب وسعادتها وأنسها

_ 1 تفسير القرآن العظيم 2/512.

وبهجتها، إلا بذكر الله {أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} لا بغيره، فالسبب الوحيد لطمأنينة القلوب وشفائها من أمراضها، وزال قلقها ووحشتها هو ذكر الله، ذكر الله بمدلوله الواسع الشامل لكل ما يذكّر بالله، أو يُذكر الله به، ما يُذكر بالله من العلوم النافعة والأدلة القاطعة في الآيات البينات الناطقات أو المشاهدات، وما يذكر به الله من سائر الأذكار والعبادات، وإقامة الأحكام والمعاملات على شرع الله. ويجمع ذلك العلم بما نزل من الوحي والعمل به. فذلك هو الطريق إلى طمأنينة القلوب وسعادتها في الدنيا والآخرة، قال تعالى مشيراً إلى هذه الحقيقة: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:123-126] قال سيد قطب -رحمه الله-: في تعليقه على قول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} "تطمئن بإحساسها بالصلة بالله، والأنس بجواره والأمن في جانبه وفي حماه تطمئن من قلق الوحدة، وحيرة الطريق، وبإدراك الحكمة في الخلق والمبدأ والمصير، وتطمئن بالشعور بالحماية من

كل اعتداء، ومن كل ضرر ومن كل شر إلا بما شاء مع الرضى بالابتلاء والصبر على البلاء، وتطمئن برحمته في الهداية والرزق والستر في الدنيا والآخرة: {أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} وذلك الاطمئنان في قلوب المؤمنين حقيقة عميقة يعرفها الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، فاتصلت بالله، يعرفونها، ولا يملكون بالكلمات أن ينقلوها إلى الآخرين الذين لم يعرفوها، لأنها لا تنقل بالكلمات، إنما تسري في القلب فيستروحها ويهش لها ويندى بها ويستريح إليها، ويستشعر الطمأنينة والسلام" 1. وقد يقال: إذا كانت القلوب لا تطمئن إلا بذكر الله، فكيف نجد من يطمئن بغير ذلك من اللهو والمعاصي، وغير ذلك مما هو مخالف لذكر الله؟! فالجواب: إن طمأنينة من يتعاطى ذلك غير صحيّة، فهي راحة كاذبة لموافقتها ما قام في قلوبهم من الشر والمرض، فيشعر بنشوة وراحة لذلك، لكنها راحة مؤقتة لا تلبث أن تنقشع عن نار محرقة في القلب، لذلك يغلب على هؤلاء إدمان اللهو واللعب والمرح، أو المسكرات والمخدرات هرباً من مجابهة ما يثور في قلوبهم من النكد والضيق إذا فتر اللهو. وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى هذا النوع من الراحة

_ 1 في ظلال القرآن 5/94.

التي يجدها مرضى القلوب، وأنها ليست ناتجة عن منفعة حقيقية، وصلاح في القلب وزوال لمرضه، وإنما هي راحة مؤقتة مع بقاء أصل المرض الذي كدر القلب، فالقلب في الحقيقة قلق مضطرب منكود، فقال: "والتحقيق أن الحسد هو البغض والكراهة لما يراه من حسن حال المحسود وهو نوعان: أحدهما: كراهة للنعمة عليه مطلقاً، فهذا هو الحسد المذموم، وإذا أبغض ذلك فإنه يتألم ويتأذى بوجود ما يبغضه، فيكون ذلك مرضاً في قلبه، ويلتذ بزوال النعمة عنه، وإن لم يحصل له نفع بزوالها، لكن نفعه زوال الألم الذي كان في نفسه ... وهو راحة، وأشده كالمريض الذي عولج بما يسكن وجعه والمرض باق" 1. وقد بين الله في كتابه حال بعض من يطمئنون بغير ذكر الله، وأن سبب ذلك مرض في قلوبهم، نتج عنه ذلك الاطمئنان المنحرف، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس:7، 8] فبين سبحانه أن رضوانهم بالحياة الدنيا واطمئنانهم بها ناتج عن مرض الكفر بالله وبلقائه سبحانه، وأن ذلك كله مترتب على مرض الجهل الحاصل من

_ 1 مجموع الفتاوى 10/111، 112.

الغفلة عن آيات الله. وبهذا يتبين أن الطمأنينة الحق هي طمأنينة القلب السليم، الذي عمر بالإيمان وتغذى من الوحي المطهر، وانصبغت عقائده وعواطفه وانفعالاته وإراداته بالعلوم المستقاة منه، وكلما زاد الإيمان، زادت الطمأنينة واستغنى القلب وعظم انفكاكه وابتعاده عن أفكار الجاهلية وأعمالها. الإيمان ... والطمأنينة: والمقصود بهذا العنوان بيان أن الإيمان بمختلف شعبه يحقق للقلب ما يصبو إليه ويتشوق لتحصيله من المعلومات والمحبوبات، والتي تُوجِد به الخير والصلاح، وتعمل على ثباته وقوته واستقراره. ومن أجل بيان هذا المطلب المهم ينبغي معرفة ما يحتاج إليه الإنسان السوي، ويتطلع إلى حصوله من الأمور التي فطر على الحاجة إليها، أو التي يوحي له عقله بالبحث عنها لتحقيق السعادة والأمن، ثم معرفة دور الإيمان في تلبية تلك الحاجات، وسكون النفس وطمأنينة القلب بذلك، فالإنسان مفطور على أن له خالقاً أوجده ويملكه ويدبره، فهو بأشد الشوق إلى معرفة: خالقة، ومبدأ خلقه، والغرض الذي من أجله أوجده، ودوره ووظيفته التي يقوم بها، ثم مصيره ومنتهاه، وهو بحاجة إلى ركن شديد يعتمد عليه، ويركن إليه في حصول الخير الذي يصبو إليه، ويطمئن تحت حمايته من الأخطار الكثيرة التي تحيط به أو التي يتوقعها، ويستعينه

على كشف ما نزل منها، وكلما زادت معرفته بالأخطار كان قلقه وحاجته إلى الحماية والإعانة أشد، كما أنه محتاج إلى أن يعرف الاستجابة المناسبة الصحيحة لما يجري عليه أو حوله من أقدار الله. فإذا تحققت هذه المطالب سكن القلب واطمأن، وإلا كان مضطرباً قلقاً بقدر ما نقص منها. فأين يجد الإنسان ما يسد حاجة قلبه وقلق نفسه؟ لا شك أن هذه الأمور -لأهميتها وكثرة تخبط البشر في تحديدها- جاء بيانها في الوحي المطهر بياناً كشف جميع جوانبها وطرق تحصيلها، والعلم الذي يحصل به الإيمان بالله والعمل بموجبه كفيل بإشباع القلب وإرواء النفس لما ترنو إليه. "إن في فطرة الإنسان فراغاً لا يملؤه علم، ولا ثقافة، ولا فلسفة، إنما يملؤه الإيمان بالله جل وعلا. وستظل الفطرة السليمة تحس بالتوتر والجوع والظمأ حتى تجد الله وتؤمن به، وتتوجه إليه، هناك تستريح من تعب، وترتوي من ظمأ، وتأمن من خوف، هناك تحس بالهداية بعد الحيرة، والاستقرار بعد التخبط، والاطمئنان بعد القلق، ووجدان المنزل والأهل بعد طول الغربة والضرب في أرض التيه"1.

_ 1 الإيمان والحياة، د. يوسف القرضاوي ص96، مؤسسة الرسالة، بيروت ط 9، 1403هـ.

وقد بين الإمام ابن القيم -رحمه الله- حاجات القلب الفطرية وأثر الإيمان في إشباعها بقوله: "ففي القلب شعث: لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة، لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته. وفيه حزن: لا يذهبه إلا السرور بمعرفته، وصدق معاملته. فيه قلق: لا يسكنه إلا الاجتماع عليه1، والفرار منه إليه. وفيه نيران حسرات: لا يطفئها إلا الرضى بأمره ونهيه، وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه. وفيه طلب شديد: لا يقف دون أن يكون هو وحده مطلوبه. وفيه فاقة: لا يسدها إلا محبته، والإنابة إليه، ودوام ذكره، وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة منه أبداً"2. أثر معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله في طمأنينة القلب: إن معرفة الله بأسمائه وأفعاله وصفاته تخصب القلب بالخير في عقائده، وعواطفه وإراداته، كما أنها عامل في توازن القلب واستقراره، وكلما كانت معرفته أكمل، كان حظه من ذلك أكبر.

_ 1 يقصد رحمه الله بالاجتماع على الله: "جمع الهمة على الله سبحانه، محبة وإنابة وتوكلاً وخوفاً ورجاء ومراقبة، وجمع الهمة على تنفيذ أوامر الله في الخلق دعوة وجهاداً، فهما جمعان: جمع القلب على المعبود وحده، وجمع الهم له على محض عبوديته". مدارج السالكين 3/459. 2 مدارج السالكين 3/172.

وذلك أن لكل اسم من أسماء الله تعالى عبودية خاصة، وأثراً معيناً في القلب والفكر والسلوك. أما العبودية، فتكون بإثبات الاسم لله تعالى، واعتقاد أن الله متصف بما دل عليه من الصفة، وقيام العواطف المناسبة في القلب، ثم دعاؤه والثناء عليه به، بالحال التي تتناسب مع ما دل عليه من المعاني، فإذا كانت حال الداعي طلب مغفرة ورحمة، دعاه باسمه "الغفور الرحيم"، وإذا كانت حالة استشعار الرحمة وفيض النعمة أثنى عليه بالجواد الكريم المعطي المنعم ... وهكذا. أما أثر الأسماء -وهو المقصد الأهم في هذا المجال- فكل اسم له أثر خاص يتناسب مع ما يدل عليه من المعنى والصفة، فإن إثبات الاسم لله تعالى واعتقاد أنه متصف بالصفة التي دل عليها يحدث أثراً في القلب، فالقلب باستشعاره لمعنى الصفة يتفاعل ويتجاوب مع ذلك المعنى ويتأثر به، وينبعث لموجبه، محبة أو خوفاً، رغبة أو رهبة، أو تعظيماً وإجلالاً، أو توكلاً ورجاء. ذلك الانفعال في القلب الناتج عن الاعتقاد، له تأثير على العواطف والإرادات والتفكير، وبالتالي على السلوك؛ ولكل اسم من أسماء الله معنى خاص وتأثير خاص، ولا تزال معاني الأسماء والصفات تتوارد على القلب وتحدث فيه تأثيراً مناسباً لكل منها، حتى تصبح فيه معرفة متكاملة لربه سبحانه وتعالى، وأثراً متكاملاً يخصب فيه نوازع الخير في عواطفه وأعماله

الصالحة، كما يصبح فه توازن مستفاد من استشعار جميع أو أغلب الصفات التي وردت في الكتاب والسنة، دون أن يستشعر معاني بعض الصفات ويتأثر بها وينفعل لموجبها، ويغفل عن استشعار ما يقابلها، فيصبح عنده خلل في أعمال القلب والتفكير والسلوك؛ فكل جهل أو ضلال بمعنى اسم من أسماء الله ينتج عنه خلل في القلب والفكر وانحراف في السلوك، ويفقد من الطمأنينة والاتزان بقدر جهله أو ضلاله. قال ابن القيم رحمه الله: " ... والتعرفات إلى عباده بأسمائه وصفاته، واستدعاء محبتهم له، وذكرهم له، وشكرهم له، وتعبدهم له بأسمائه الحسنى، إذ كل اسم فله تعبد خاص به، علماً ومعرفة وحالاً، وأكمل الناس عبودية: المتعبد بجميع الأسماء والصفات التي يطلع عليها البشر، فلا تحجبه عبودية اسم عن عبودية اسم آخر، كمن يحجبه التعبد باسمه "القدير" عن التعبد باسمه "الحليم الرحيم" أو يحجبه اسمه "المعطي" عن عبودية اسمه "المانع" أو التعبد بأسماء "التودد، والبر واللطف، والإحسان" عن أسماء العدل، والجبروت، والعظمة والكبرياء، ونحو ذلك"1. أمثلة على أثر بعض الأسماء في طمأنينة القلب: من ذلك أن إدراك العبد لمعاني أسماء الله "العليم، الخبير، الحكيم" يوجب له ثقة واطمئناناًَ إلى أن أمره ومصيره وما يجري عليه بيد ملك

_ 1 مدارج السالكين 1/452.

مدبر عليم حكيم خبير، فيزول عنه كابوس الخوف والقلق من المستقبل والمجهول الذي ينخر قلوب الكافرين الجاهلين بربهم، ومثال ذلك، {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل:60] . لو أن ركاباً في سفينة تجري في البحر علموا أن قائد السفينة عاقل حليم ماهر عالم بأحوال البحار وأمواجه، له خبرة في معرفة الطريق والجهات، فإن هذا العلم يوجب لهم أمناً واطمئناناً وثقة به، بخلاف ما لو أدركوا أنه طائش أو جاهل بالقيادة أو بأحوال البحر، فإن ذلك يوجب لهم خوفاً وقلقاً يزيد كلما زاد علمهم بالأخطار. ومن ذلك أن استشعار القلب لصفات معينة كالتي تدل عليها أسماء الله "الرحمن، الرحيم، المنعم، اللطيف، المنان، الودود، الكريم، الجواد، الغفور، العفو، التواب"، ونحوها. وبعض الأخبار الواردة عن الله من أن الله واسع المغفرة، وأن يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء، وأن رحمة الله قريب من المحسنين، وأن رحمته وسعت كل شيء، وشهود القلب لآثار هذه الصفات في الكون: كنزول المطر، وتجدد النعم وحصول البركات، والهداية، والأمن ... ونحوها، كل ذلك يوجب للقلب أثراً معيناً يتمثل في محبة المنعم ورجائه سبحانه، وتعلق القلب به، وتوكله عليه؛ وذلك يوجد فيه قدراً عظيماً من الطمأنينة؛ كما أن فقه القلب لمدلول تلك الصفات يجعله يحبها، ويتخلق بتلك المعاني

الحسنة التي يحبها، فيحرص أن يكون كريماً رحيماً عفواً ... الخ. كما أن إدراك القلب لمعاني صفات أخرى كالتي تدل عليها أسماء الله "العزيز الجبار، المتكبر، القهار ... ونحوها"، والأخبار والواردة عنه سبحانه من أن أخذه أليم شديد، وأنه سريع العقاب، وفعال لما يريد، وأن بطشه شديد.. ونحوها، ومشاهدة آثار ذلك في الكون من حصول المصائب والكوارث والحروب، وذهاب الأمن ووقوع الفتن، والزلازل والبراكين.. ونحوها، فإن ذلك يحدث في القلب أثراً آخر من الخوف والخشية والتعظيم والمهابة. وهذه الأعمال التي قامت بالقلب تؤثر في العواطف والإرادات نفوراً من الظلم والشر والمعاصي التي يمقتها الله، وتوجب سخطه وعقوبته، فيقوم في القلب نتيجة لذلك محبة ورجاء مستفادة من إدراك القلب لمعاني بعض الأسماء، وخوف ورهبة وتعظيم مستفاد من معرفة القلب لمجموعة أخرى من الأسماء، محبة تدفعه وخوف يمنعه، محبة تبعث فيه الرجاء وتدفعه إلى فعل الطاعات والمسارعة إلى الخيرات طلباً لرضوان المحبوب والقرب منه، وخوف يمنعه من كل ما يغضب الله خوفاً من بعده عن محبوبه والتعرض لسخطه وعقوبته. ولذلك جمع الله بين الخوف والرجاء في سياق واحد في معرض مدحه لعباده المؤمنين، فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ

أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء:57] . وقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] . وفي الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه: " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت، فقال: كيف تجدك؟ قال: أرجو الله يا رسول الله وأخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن، إلا أعطاه الله ما يرجوه وآمنه مما يخاف "1. والقلب ليس له صلاح بدونهما -الخوف والرجاء- ولا بانفراد أحدهما بالسيطرة على القلب، فإن ذلك يخرجه عن طمأنينته واستقراره، ويجنح في عواطفه وسلوكه، وتضطرب عبوديته. فلو غلب جانب الرجاء بأن استشعر الأسماء والأخبار وما يفيده الاعتبار مما يدل على عفو الله ورحمته وكرمه ولطفه ونحوها، وحجب قلبه عما يقابلها مما يدل على مكر الله بالظالمين واستدرجه لهم وانتقامه منهم،

_ 1 رواه الترمذي، أبواب الجنائز، الباب العاشر، ح988 2/227، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له، ح4261 2/1423 واللفظ له، وأورده الألباني في السلسة الصحيحة 3/41، وحسنة بالمتابعة.

وعقوبته لمن خالف أمره، فإنه ينتج عن ذلك الأمن من مكر الله، وذلك يؤدي بصاحبه إلى أن يضرب بالمعاصي ولا يبالي، فيتوزع القلب في محبة الشهوات، وسيِّئ الإرادات فيتنازعه الهم والقلق، وفي أقل أحواله يخلد إلى الدعة والراحة وترك العمل فيما يعود عليه بالنفع في الدين والدنيا، إذ إن الطمأنينة الناتجة عن الأمن والرجاء المطلق الذي بدون خوف، هي عامل فساد وخمول وعقم في القصد والطلب، وهي ناتجة عن جهل بالله ولا يسلم من كان كذلك من مرض في عقائده أو عواطفه وسوء ظن بربه. وقد حذر الله تعالى من الأمن من مكره وبين أنه من أحوال الخاسرين، فقال تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] . أما إذا كان العكس بأن أدرك قلبه من معاني الأسماء والصفات ما يدل على عظمة الله وجبروته وسرعة عقابه وشدة انتقامه، وحجب قلبه عن الأسماء الدالة على الرحمة واللطف والتوبة والمغفرة ... الخ، فيسيطر على القلب الخوف فيسلمه ذلك إلى اليأس من روح الله والقنوط من رحمته؛ مما يؤدي به إلى ترك العمل، إذ لا فائدة منه بزعمه، وهذه طامة من الطوام وكبيرة من كبائر الذنوب، تُخرج القلب عن سكينته وأنسه إلى انزعاجه وقلقه وهمه.

وقد حذر الله من القنوط من رحمته واليأس من روحه، فقال: {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} [الحجر:55، 56] . وقال حاكياً عن نبيه يعقوب عليه السلام: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] . وهكذا سائر أسماء الله وصفاته، فإن لمعرفتها أثراً كبيراً في سلامة القلب واتزانه، وبالتالي سلامة واتزان التفكير والسلوك، كما أن لها أثراً مهماً في طمأنينة القلب وتوكله وركونه إلى ربه، وتسليمه لشرعه، راضياً بقدره، واثقاً بعدله وحكمته، مطمئناً إلى عفوه ومغفرته عند زلته وتوبته. قال ابن القيم رحمه الله كاشفاً هذا الأثر العظيم لمعرفة العبد بأسماء الله وصفاته، وكيف أنها تعمل في إصلاح القلب واطمئنانه واستقراره: "القرآن كلام الله وقد تجلى الله فيه لعباده بصفاته، فتارة يتجلى في جلباب الهيبة والعظمة والجلال، فتخضع الأعناق، وتنكسر النفوس، وتخشع الأصوات، ويذوب الكبر كما يذوب الملح في الماء، وتارة يتجلى في صفات الجمال والكمال، وهو كمال الأسماء وجمال الصفات، وجمال الأفعال الدال على كمال الذات فيستنفد حبه من قلب العبد قوة الحب

كلها، بحسب ما عرفه من صفات جماله ونعوت كماله، فيصبح فؤاد عبده فارغاً إلا من محبته ... وإذا تجلى بصفات الرحمة والبر واللطف والإحسان انبعثت قوة الرجاء من العبد، وانبسط أمله وقوي طمعه وسار إلى ربه وحادي الرجاء يحدو ركاب سيره، وكلما قوي الرجاء جد في العمل ... وإذا تجلى بصفات العدل والانتقام والغضب والسخط والعقوبة، انقمعت النفس الأمارة، وبطلت أو ضعفت قواها من الشهوة والغضب واللهو واللعب والحرص على المحرمات، وانقبضت أعنة رعونتها، فأحضرت المطية حظها من الخوف والخشية والحذر ... وإذا تجلى بصفات السمع والبصر والعلم، انبعثت من القلب قوة الحياء فيستحيي من ربه أن يراه على ما يكره، أو يسمع منه ما يكره، أو يخفي في سريرته ما يمقته عليه، فتبقى حركاته وأقواله وخواطره موزونة بميزان الشرع غير مهملة ولا مرسلة تحت حكم الطبيعة والهوى. وإذا تجلى بصفات الكفاية والحسب والقيام بمصالح العباد وسوق أرزاقهم إليهم، ودافع المصائب عنهم ونصره لأوليائه وحمايته لهم، ومعيته الخاصة لهم، انبعثت من العبد قوة التوكل عليه والتفويض إليه، والرضى به وبكل ما يجريه على عبده ويقيمه فيه مما يرضى به هو سبحانه، والتوكل معنى يلتئم من علم العبد بكفاية الله وحسن اختياره لعبده، وثقته به ورضاه بما يفعله ويختاره له. وإذا تجلى بصفات العز والكبرياء أعطت نفسه المطمئنة ما وصلت

إليه من الذل لعظمته والانكسار بعزته والخضوع لكبريائه، وخشوع القلب والجوارح له، فتعلوه السكينة والوقار في قلبه ولسانه وجوارحه وسمته، ويذهب طيشه وقوته وحدته"111 [40] . ومما تقدم يتجلى أثر معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله تبارك وتعالى في طمأنينة القلب، وكلما زادت المعرفة زادت الطمأنينة والشعور بالثقة والأمن. أثر معرفة المبدأ والغاية والمصير في طمأنينة القلب: إن الشوق إلى معرفة المبدأ والغاية والمصير، فطري قائم في أعماق كل إنسان يسأل عنها بإلحاح، منتظراً الجواب الذي يزيل قلقه وتطمئن به نفسه. والإسلام يقدم إجابة متميزة عن إجابة غيره، تميزاً أمدها قوة وثباتاً يبعث على الثقة والاطمئنان، والسر في ذلك أنها قائمة على مرتكزات اختصت بها أهمها: 1- شعور المتلقي أنه يتعلم من خالقه الذي هو أعلم به وبما يصلحه. 2- قيام الدلائل على إعجاز القرآن، وعلى صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما زاد علمه بهذه الدلائل والمعجزات كانت ثقته واطمئنانه بالعلم المستقى منها أعظم.

3- موافقة تلك الأجوبة للفطرة. فالعلم الذي قرره الإسلام يروي المطالب الفطرية، والتكاليف والشرائع تراعي الغرائز الفطرية، فالانسجام والتوافق في أعلى قممه بين الإسلام والفطرة الإنسانية، ولا عجب، فالإسلام هو الدين الذي شرعه خالق الإنسان. قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30] . 4- انسجام تلك الأجوبة مع العقل السليم. فليس في شيء من تلك الأجوبة وتفاصيلها ما تستحيله العقول السليمة، بل إن التفكير السديد يدل على أنها متناسقة مع واقع الإنسان وما فُضل به من العقل والخلق، ويتجلى ذلك في ظهور التكريم للإنسان وتفضيله وتكليفه، ومؤاخذته في تفاصيل هذه المطالب، فالحكمة ظاهرة متناسقة. فالعقل يدرك أن ما حصل من تكريم الله للإنسان من خلقه له بيده، وإسجاد الملائكة له، أنه يتناسب مع مكانة الإنسان ووظيفته التي كلفه بالقيام بها من الخلافة في الأرض وتحقيق العبودية. كما أن العقل يقرر أن عبودية المخلوق لخالقه، والمتفضل عليه والذي يملكه ويدبره هي الحق المتعين، والخلافة في الأرض على منهجه هو

الغرض المتحتم، كما يحكم بأن الإنسان بما أُعطي من عقل وقدرات نفسية وبدنية هو المهيأ وحده للقيام بهذه الوظيفة على الأرض. والعقل يرى أن العدل أن يبعث الناس للحساب، فيقتص للمظلوم من الظالم، ويجازي المحسن بالإحسان، والمسيء بالعقاب والحرمان. فإذا تحققت هذه الخصائص في أجوبة الأسئلة الفطرية الموجودة في قلوب الناس وغيرها من العلوم، كان تقبلها لها عظيماً وركونها إليها قوياً، وأحدثت فيها سكينة واطمئناناً، وثقة في مصدر التلقي ينسحب على العلوم المستفادة منه، ويستغني به عن غيره. وقد بين الشيخ د. يوسف القرضاوي التوافق العظيم بين الفطرة والعقل، وبين ما جاء به الوحي المطهر، فقال: "تقول الفطرة والعقل: إن الناس لم يُخلقوا من غير شيء، ولم يخلقوا هم أنفسهم، ولم يخلقوا مما حولهم ذرة في الأرض أو في السماء. ويقول القرآن: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} [الطور:35-36] . وتقول الفطرة والعقل: لا بد إذن من خالق لهذا الإنسان العجيب، ولهذا الكون العريض، ولا بد أن يكون هذا الخالق واسع العلم، بالغ الحكمة، نافذ المشيئة، عظيم القدرة، ويقول القرآن: {كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ

كَانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر:63-64] . وتقول الفطرة والعقل: إن هذا الخالق الحكيم لا بد أن يكون وراء تنظيمه لهذا الكون، ووضع الإنسان فيه غاية وحكمة، وتعالت حكمته أن يكون خلق هذا كله عبثاً، ويقول القرآن: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاّ َبِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الدخان: 38-39] . وهذا الحق الذي به خلقت السموات والأرض هو ما يستشفه العقل وتحس به الفطرة -وإن يكن إحساساً غامضاً- أن لهذا الإنسان في الوجود رسالة وأن وراء هذه الحياة -حياة الابتلاء والفناء- حياة أخرى، هي الغاية وإليها المنتهى يُجزى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، حتى لا يستوي الخبيث والطيب، والبر والفاجر، وهذا ما تقتضيه الحكمة. ويقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:27، 28] .

{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] . وتشعر الفطرة والعقل أن لهذا الخالق العظيم -بحكم خلقه لعباده، وإمدادهم بنعم لا تحصى- حقاً عليهم: أن يُعرَف فلا يُجحد، ويُشكر فلا يُكفر، ويُطاع فلا يُعصى، ويُفرد بالعبادة فلا يُشرك به، وينادي القرآن الناس جميعاً: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21، 22] . ويبين القرآن الغاية من خلق السموات والأرض عامة، ومن خلق الجن والإنس خاصة، فيقول: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق:12] . {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 56، 57] . وبهذه الأجوبة القرآنية اهتدى المؤمن إلى سر وجوده ووجود العالم كله، لقد عرف الله فعرف به كل شيء، وحل به كل لغز، واهتدى به

إلى كل خير، فالعالم مملكة الله، وكل ما فيه من آثار رحمة الله، والإنسان خليفة الله، خٌلِق لعبادة الله، وتحمل أمانة الله، والحياة هبة من الله، والموت قدر من الله، والدنيا مزرعة لطاعة الله، والآخرة موعد الحصاد، والجزاء من الله، والسعيد من اهتدى بهدى الله، والشقي من أعرض عن ذكر الله. والإنسان مبتلى ومسئول في هذه الدار الفانية، ليصقل ويعد للخلود في تلك الدار الباقية، والموت هو القنطرة التي تصل بين الدارين"1. وحيث إن خلق الإنسان ليس للإنسان أثر فيه، وبما أن المصير والمنتهى ثمرة ونتيجة لسعي الإنسان في الدنيا متوقف على مدى تحقيقه للغاية التي من أجلها خلق، فلذلك كانت معرفة الغاية والحكمة من خلق الإنسان مطلباً أساسياً في سلوك المسلم واستقراره النفسي. والإسلام يجعل غاية الإنسان وهدفه الأساسي هو حسن الصلة بالله تبارك وتعالى، والحصول على مرضاته بالقيام بالعبودية الخالصة، فهذه غايته ومنتهى سعيه وأمله، {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] . والكدح المجدي الذي ينتهي بصاحبه نهاية سعيدة هو القيام بحق الله، وهو عبادته وحده لا شريك له.

_ 1 الإيمان والحياة ص103-105.

وعلى هذا فمن المهم هنا بيان أثر توحيد الأُلوهية في حصول الاستقرار والطمأنينة في نفس المؤمن. أثر توحيد الألوهية في طمأنينة القلب: إن شعور المسلم أن لسعيه وكدحه وجهة وغاية واحدة، هي وجه الله وابتغاء مرضاته وحده، وأن السعي والكدح يتم وفق شريعة محددة شاملة واضحة، جاءت من معبوده الذي أسلم له وجهه، وتعلقت به غايته، إن لذلك كله آثاراً عظيمة على نفسه من أهمها: أولاً: إحساسه أن لحياته معنى وقيمة، ولعيشه طعماً، وأنه لم يخلق عبثاً، ولن يترك سدى، فهو لا يعيش في ظلام، ولا يخبط خبط عشواء، بل يسير على هدى من ربه وبينة من أمره، واستبانة لمصيره، بعد أن عرف الله وأقر بالوحدانية1 فالله الذي خلقه ويدبر أمره، منه وحده يستمد منهجه، وهو الذي يميته ويبعثه، ويغفر ذنوبه ويرحمه، وبيده وحده مصيره يوم القيامة. {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ

_ 1 انظر: سلسلة دراسات إسلامية، النفس المطمئنة، د. عبد الرحمن مرسي ص20 مطتبة وهبة، القاهرة، ط: الأولى، 1403هـ.

أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء:77-82] . وله وحده سعيه وكدحه، ومنه وحده يرجو الجزاء عليه. {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163] . {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:112] . فلله كم يشعر الإنسان بالبهجة والغبطة والرضى، وهو يشعر أن لوجوده معنى سامياً وغرضاً نبيلاً، ويطمع في ثمرة طيبة لهذا السعي في الدنيا والآخرة! ثانياً: سلامة النفس من التمزق والصراع الداخلي، والتوزع والانقسام بين مختلف الغايات وشتى الاتجاهات1. "ولقد اختصر الإسلام غايات الإنسان في غاية واحدة، هي إرضاء الله تعالى، وركز همومه في هم واحد هو العمل على ما يرضيه سبحانه، ولا يريح النفس الإنسانية شيء كما يريحها وحدة غايتها ووجهتها في

_ 1 انظر: النفس المطمئنة د. عبد الحميد مرسي ص21.

الحياة ... فتعرف من أين تبدأ؟ إلى أين تسير؟ وفي أي اتجاه تمضي؟ ولا يُشقِي الإنسان شيء مثل تناقض غاياته، وتباين اتجاهاته، وتضارب نزعاته ... فهو حيناً يشرق وحيناً يغرب، وتارة يتجه يميناً، وطوراً يتجه يساراً، ومرة يرضي هذا، فيغضب ذلك، وهو في كلا الحالين حائر بين رضى هذا، وغضب ذاك"1. وقد أشار الله إلى هذا الأثر الذي يحدثه التوحيد في نفس الموحد من الاستقرار والطمأنينة، وضده من الشرك وما ينتج عنه من تشتت النفس واضطرابها. فقال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:29] . ففي هذه الآية ضرب الله مثلاً للكافر الذي يعبد آلهة شتى، ويطيع جماعة من الشياطين، والمؤمن الذي لا يعبد إلا الله الواحد2. وحول هذه الآية قال سيد قطب رحمه الله: "يضرب الله المثل للعبد الموحد والعبد المشرك بعبد يملكه شركاء يخاصم بعضهم بعضاً فيه، وهو بينهم موزع، ولكل منهم فيه توجيه، ولكل منهم عليه تكليف، وهو بينهم حائر لا يستقر على نهج، ولا يستقيم على طريق، ولا يملك أن

_ 1 د. عبد الحميد مرسى، المصدر السابق ص21. 2 انظر: جامع البيان لابن جرير 23/213.

يرضي أهواءهم المتنازعة المتشاكسة المتعارضة التي تمزق اتجاهاته وقواه! وعبد يملكه سيد واحد، وهو يعلم ما يطلبه، ويكلفه به، فهو مستريح مستقر على منهج واحد صريح ... {هَلْ يَسْتَوِيَان ِ مَثَلاً} إنهما لا يستويان، فالذي يخضع لسيد واحد ينعم براحة الاستقامة والمعرفة واليقين، وتجمع الطاقة ووحدة الاتجاه، ووضوح الطريق، والذي يخضع لسادة متشاكسين معذب مقلقل، لا يستقل على حال، ولا يرضي واحداً منهم، فضلاً على أن يرضي الجميع!.وهذا المثل يصور حقيقة التوحيد، وحقيقة الشرك في جميع الأحوال. فالقلب المؤمن بحقيقة التوحيد هو القلب الذي يقطع الرحلة على هذه الأرض على هدى ... ولأنه يعرف مصدراً واحداً للحياة والقوة والرزق، ومصدراً واحداً للنفع والضر، ومصدراً واحداً للمنح والمنع، فتستقيم خطاه على هذا المصدر الواحد، يستمد منه وحده، ويعلق يديه بحبل واحد يشد عروته ويطمئن اتجاهه إلى هدف واحد لا يزوغ عنه بصره، ويخدم سيداً واحداً يعرف ماذا يرضيه فيفعل، وماذا يغضبه فيتقيه..وبذلك تتجمع طاقاته كذلك وتتوحد، فينتج بكل طاقته وجهده وهو ثابت القدمين على الأرض متطلع إلى إله واحد في السماء ... ويعقب على المثل الناطق الموحي بالحمد لله الذي اختار لعباده الراحة والأمن والطمأنينة والاستقامة والاستقرار، وهم مع ذلك ينحرفون

وأكثرهم لا يعلمون"1. إن عقيدة التوحيد التي منحت المسلم الرضى بالله رباً ومعبوداً عليه يتوكل وإليه ينيب، وفي فضله يطمع، ومن قوته يستمد، وله يتودد وإليه يحتكم، جعلت منه معتصماً بالله مهتدياً إلى صراطه المستقيم. قال تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:101] . والاعتصام بالله بأفراده سبحانه بالعبودية والتوكل والدعاء والاستعانة، كما أنه يجلب للقلب الاستقرار الطمأنينة -كما تقدم- فهو أيضاً حصن منيع يحمي الله به العبد من الأخطار جميعاً الخارجية والداخلية، المادية والفكرية التي تستهدف إفساد دينه. قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78] . قال ابن القيم رحمه الله مبيناً ثمرة الاعتصام بالله: "هو الدافع عن العبد -والله يدافع عن الذين آمنوا- فيدفع عنه الشبهات والشهوات وكيد عدوه الظاهر والباطن، وشر نفسه ويدفع موجب أسباب الشر بعد

_ 1 في ظلال القرآن 7/138، 139.

انعقادها، بحسب قوة الاعتصام به وتمكنه"1. وخلاصة ما تقدم: أن لمعرفة المبدأ والغاية والمصير أثراً هاماً حصول الطمأنينة في القلب من جهة تلبية الرغبة الفطرية لمعرفة ذلك على وجه يلائم الفطرة ولا يتعارض مع العقل. كما أن سعي الإنسان وفق هذه المعرفة بتحقيق توحيد الألوهية بإخلاص العبودية لله، والاستسلام له في كل شؤون الحياة، من المقاصد والوسائل والغايات، عامل مؤثر في حصول السكينة وسلامة النفس من الصراع والتشتت والقلق. وكل ذلك يجعل القلب غنياً بدينه مطمئناً به وإليه، بعيداً كل البعد عما يضاده من الأفكار والمبادئ الهدامة. أثر التوكل على الله في طمأنينة القلب: تقدمت الإشارة2 إلى أن الإنسان مفطور على الحاجة إلى ركن شديد يعتمد عليه، ويركن إليه، في حصول الخير الذي يصبو إليه، ويطمئن تحت حمايته من الأخطار الكثيرة التي تحيط به الظاهرة والباطنة. وإلى هذه الحاجة يعود تدين جميع البشر على اختلاف شعوبهم وأديانهم، فكل طائفة اتخذت معبوداً تعتقد أنه مصدر للنفع لها ودافع الضر

_ 1 مدارج السالكين 1/497. 2 انظر ص 470 وما بعدها.

عنها، تستنصره إذا خافت وتفزع إليه في الشدائد، وأكثر الأمم قد ضلوا في تعيين المعبود الحق، أو أشركوا معه غيره. ويرى فريق من علماء النفس أن مصدر الخوف ليس وجود المخاطر والمكروهات المحدقة بالإنسان، وإنما سببه هو الشعور بأنه ليس هناك وسيلة تضمن له عدم التعرض لأي خطر من الأخطار، أو ملاذ آمن يلوذ به الإنسان ويحتمي به من ضربات القدر المفاجئة1. وعلل هؤلاء رأيهم بأن الطفل يتعلق بأمه لإشباع حاجته إلى الحماية حيث إنها تمثل -في نظر الطفل- الملجأ الحصين الذي يلبي حاجته إلى الطمأنينة والأمن والسلام2. وإذا كبر ونما عقله وأدرك عجز والديه عن تلبية حاجاته إلى ذلك، انتابه الخوف والقلق لعدم ركونه إلى من يلبي ذلك. وهذه حقيقة تصور حال الكافر الخائف الحيران الذي لا يرى في الوجود وسيلة تضمن له الأمن، ولا ملاذاً يحتمي به من المخاطر والشرور. وبها تتبين أهمية التوكل على الله للمؤمن، ومدى أثرها البالغ في حصول الطمأنينة والسكينة في نفسه. فالمسلم هداه الله إلى وسيلة تضمن له الأمن والهداية، هي الإيمان

_ 1 في سبيل موسوعة نفسية، تغلب على الخوف ص11. 2 نفس المصدر ص11.

الخالص وعبادة الله وحده لا شريك له. {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] . وهو يعرف ركناً شديداً يعتمد عليه ويلوذ به، ويحتمي بحماه، هو رب العالمين الذي بيده ملكوت السموات والأرض، وبأمره يقوم كل شيء. {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] . {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78] . {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64] . وإذا انتابه هم، أو نزلت به مصيبة، أو أصابه فزع، فهو موصول بمولاه وإلهه الملك المدبر الرؤوف الرحيم، يدعوه ويضرع إليه، واثقاً بوعده مستشعراً قربه ومعيته، يترقب نصره وتأييده وفرجه وحفظه والدفاع عنه. {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3] . {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]

{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38] {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] . وهو في ذلك كله مغتبط بما شرع الله منقاد إليه، راضٍ بما قدر الله محتسب للأجر، صابر يترقب الفَرَج وحسن العاقبة. أمره كله خير، ونفسه مطمئنة واثقة بالله وبثوابه. فيا له من شعور عظيم بالغبطة والأمن والثقة والطمأنينة ينتاب من استشعر هذه المعاني! قال ابن القيم -رحمه الله- مبيناً أثر التوكل في طمأنينة القلب: "فالتوكل: محض الاعتماد والثقة، والسكون إلى من له الأمر كله، وعلم العبد بتفرد الحق تعالى وحده بملك الأشياء كلها، وأنه ليس له مشارك في ذرة من ذرات الكون: من أقوى أسباب التوكل، وأعظم دواعيه. فإذا تحقق ذلك علماً ومعرفة، باشر قلبه حالاً: لم يجد بداً من اعتماد قلبه على الحق وحده وثقته به، وسكونه إليه وحده، وطمأنينته به وحده، لعلمه أن حاجاته وفاقاته وضروراته، وجميع مصالحه كلها: بيده وحده، لا بيد غيره. فأين يجد قلبه مناصاً من التوكل بعد هذا؟ "1.

_ 1 مدارج السالكين 2/142.

فالتوكل على الله ثمرة من ثمرات معرفة الله، وتعلق القلب بموجب أسمائه وصفاته تبارك وتعالى. فيتوكل على الله في مغفرة الذنوب وصرف شؤمها وعقوباتها عنه استشعاراً لأسمائه: "الغفار، والتواب، والعفو، والرؤوف، والرحيم". وفي حصول الرزق والإحسان يتعلق قلبه بأسمائه: "الفتاح، والوهاب، والرزاق، والمعطي، والمحسن". ويتعلق بأسمائه: "المعز، المذل، الحافظ، الرافع، المانع" في حفظه ونصره على عدوه، وفي إذلال أعداء دينه وخفضهم، ومنع أسباب النصر عنهم. وللتوكل تعلق عام بجميع الأسماء الحسنى، وكلما كان بالله أعرف، كان توكله عليه أقوى1. وإذا تبين أن التوكل على الله وثقة العبد واطمئنانه إلى ربه ومليكه ومدبره يمثل حصناً يحمي الله به العبد، فيكون راسخ الإيمان قوياً ثابتاً عند الابتلاء وفي مجابهة الفتن والمغريات التي تستهدف زعزعة دينه ... إذا تبين ذلك، فإن القلق الناتج عن عدم التوكل على الله عند من قام في قلبه مرض الريب والنفاق، يكون دافعاً إلى موالاة غير المسلمين والركون إليهم والتعاون معهم على نشر الفكر الخبيث والتخطيط والمكر

_ 1 انظر: مدارج السالكين 2/230 بتصرف.

لأهل الإسلام. قال تعالى مبيناً هذا الأثر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:51، 52] . قوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} يدل على أن الدافع لهم للتوكل على غير الله وموالاة اليهود والنصارى هو مرض القلوب بالشك والريب والنفاق، وعلى العكس من ذلك، فالإيمان الصحيح الراسخ دافع للتوكل على الله وحده. قوله: {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} أي يسرعون في موالاتهم ومصانعتهم ومناصحتهم ومساعدتهم في غش المؤمنين1. قوله: {يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} : بيان لغاية موالاتهم للكافرين من اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار، وأنه بغية الحماية منهم إن

_ 1 جامع البيان لابن جرير 6/279.

دارت على المنافقين الدوائر، أو الظفر لديهم إن كانت الدائرة للكفار. فهم إذاً سارعوا إلى موالاتهم، بعد أن توكلوا عليهم. ولا يقف الأمر عند محبتهم وموالاتهم، وإنما يتعدى ذلك إلى الدخول مع الكفار في مخططاتهم الشريرة لحرب الإسلام، من سماع الإشاعات، وترويج الكذب والأباطيل والشبهات، والتجسس لصالح أعداء الإسلام. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:41] . قال ابن كثير رحمه الله: "نزلت هذه الآيات الكريمة في المسارعين في الكفر الخارجين عن طاعة الله ورسوله، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله عز وجل {قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} أي أظهروا الإيمان بألسنتهم وقلوبهم خراب خاوية منه، وهؤلاء هم المنافقون {وَمِنَ الَّذِينَ

هَادُواْ} أعداء الإسلام وأهله وهؤلاء كلهم {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} أي مستجيبون له منفعلون عنه {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوك} أي يستجيبون لقوم آخرين لا يأتون مجلسك يا محمد، وقيل المراد أنهم يستمعون الكلام وينهونه إلى قوم آخرين ممن لا يحضر عندك من أعدائك"1. وكلام ابن كثير هذا يدل على أن علاقة المنافقين بأعداء الدين تقوم على التعاون في الكيد بجماعة المؤمنين في جانبين: الأول: استماعهم للقوم الآخرين من رؤوس الكفر والشر، وتصديقهم لكذبهم واستجابتهم لما يأمرونهم به من الشر والباطل. الثاني: تجسس المنافقين على المؤمنين لحساب أعداء الدين، فينقلون ما يسمعون ويشاهدون إليهم ويدلونهم على عورات المؤمنين. وقال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:14، 15] . فهذه الآية تؤكد استماع المنافقين وتعلمهم الشر، واستجابتهم للأوامر الشريرة التي تصدر من أعداء الإسلام من اليهود والنصارى

_ 1 تفسير القرآن العظيم 2/58.

وغيرهم، يدل على ذلك قوله "شياطينهم" فَوَصْفُ أعداء الله ورسوله ودينه بأنهم شياطين وإضافتهم إليهم، يدل على أن العلاقة علاقة شر وإفساد في الأرض، وتآمر على الإسلام وأهله، وذلك من فعل الشياطين وأتباعهم. قال ابن جرير رحمه الله: "وكذلك أخبر عنهم في هذه الآية أنهم يقولون للمؤمنين المصدقين بالله وكتابه ورسله بألسنتهم: آمنا وصدقنا بمحمد وبما جاء به من عند الله، خداعاً عن دمائهم وأموالهم وذراريهم، ودرءاً لهم عنها، وأنهم إذا دخلوا إلى مردتهم وأهل العتو والشر والخبث منهم ومن سائر أهل الشرك الذين هم على مثل الذي هم عليه من الكفر بالله وبكتابه ورسوله وهم شياطينهم -وقد دللنا فيما مضى من كتابنا على أن شياطين كل شيء مردته- قالوا لهم {قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ} أي إنا معكم على دينكم وظهراؤكم على من خالفكم فيه، وأولياؤكم دون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، إنما نحن مستهزئون بالله وبكتابه ورسوله وأصحابه"1. فالمنافقون الذين ركنوا إلى أعداء الله، وتوكلوا عليهم، وأحسنوا الظن بهم وأحبوهم وأعجبوا بحالهم، هم الجسر والمنفذ الذي يتسلل منه الفكر الجاهلي ويشاد برجاله، وتحسن أحواله، وتثبت نظرياته وفلسفاته

_ 1 جامع البيان 1/129.

وسائر شروره من خلاله بين المسلمين. قال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين مبيناً بعض علامات النفاق: "ومنها محبة أعداء الإسلام وأئمة الكفر ومدحهم ونشر آرائهم المخالفة للإسلام، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة:14] "1. وخلاصة القول: أن التوكل على الله باعث في طمأنينة القلب وثقته بربه، وتعلقه به وحده، مما يمثل حصناً يحميه من الركون إلى أعداء الله والثقة بهم، والتأثر بأفكارهم وشبهاتهم، كما أن عدم التوكل على الله أو ضعفه الناتج عن النفاق أو ضعف الإيمان، ثغرة في القلب تميل به إلى الركون إلى أعداء الله وموالاتهم ومحبتهم، والإعجاب وحسن الظن بهم، والتأثر بجاهليتهم وباطلهم وفكرهم الخبيث وسلوكهم المنحرف، ثم التعاون على نشره والترويج له في المجتمعات الإسلامية. أثر زكاة القلب بالعلم والإيمان بالقدر في طمأنينته: إذا عرف العبد ربه وخالقه ومدبره، وعرف الحكمة من خلقه، وأنها تنحصر في تحقيق العبودية لله، والخلافة في أرضه بشرعه، وعرف مصيره ومنتهاه، فإن ذلك سيحقق له قدراً عظيماً من الطمأنينة والسكون،

_ 1 مجالس شهر رمضان، الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين ص130 الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ط الثانية 1406هـ.

ويصرف عنه القلق الناتج عن الجهل أو الضلال في معرفة هذه المطالب. إلا أنه سيبقى في القلب قلق كامن وشوق مستمر يثور ويشتد أحياناً إذا وجد ما يثيره ويبعثه، ألا وهو حاجته لمعرفة الكيفية التي ينبغي أن تكون عليها استجابته لأوامر الله المتوجهة إليه بمختلف أنواعها. وأمر الله: هو كلامه الذي يأمر به1، وهو ينقسم إلى قسمين: أمر شرعي متوجه إلى المكلفين من الإنس والجن بالأمر والنهي والتكليف، وهو كلام الله الذي يأمر به المكلفين طلباً للفعل، كقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] . وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21] ، أو طلباً للترك، كقوله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] . 2- أمر قدري كوني: وهو كلامه الذي يأمر به الشيء الذي أراد خلقه وإيجاده، فيقول له: "كن" فيكون كما أراد وقدر.

_ 1 ويأتي "أمر الله" بمعنى مأموره، أي الشيء الذي وجد أو سيوجد بأمره، كقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1] وقوله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] ونحوها، وقد جمع الله بين الأمر بمعنى المأمور، والأمر بمعنى كلامه الذي يأمر به في أول سورة النحل بقوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} .

كما قال تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} [الأحزاب:38] . وقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] . ومن ذلك قوله: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] . والأمر الشرعي ينقسم إلى أمر بالفعل أو أمر بالترك. والأمر الكوني له متعلقات كثيرة، ومنها ما يتعلق بالإنسان مما يقدر له في طبيعة خلقه: كالحسن أو القبح، والطول والقصر ... ونحوها، أو حاله: كالغنى والفقر، وما يجري عليه من المصائب والنعم، وما يصدر منه من الطاعات والمعاصي، ومنها ما يجري على مجتمعه ومحيطه من النوازل الضار منه أو السار ... إلى غير ذلك. ولا شك أن التفريق بينها ومعرفة الاستجابة المناسبة لكل منها أساس عظيم في صلاح القلب وسلامته وطمأنينته، وبالتالي صلاح العبودية واستقرارها على الصراط المستقيم. وهذا أمر عظيم زل فيه كثير ممن ينتسب إلى الزهد والعبادة والعلم فضلاً عن غيرهم ممن قل حظهم من العلم والعبادة، لذلك نجد شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتابه الجليل "العبودية" بعد أن بين معنى العبودية وحقيقتها، وما تستلزمه، وشمولها لجميع الدين، والفرق بين العبودية الكونية والشرعية، بعد ذلك ناقش حال فريق من الناس لم يفرقوا

بين الأمر الكوني القدري، والأمر الشرعي، واستغرق ذلك معظم الكتاب، وقال في بداية مناقشتهم: "وبالفرق بين هذين النوعين1 يعرف الفرق بين الحقائق الدينية الداخلة في عبادة الله ودينه وأمره الشرعي التي يحبها ويرضاها ويوالي أهلها ويكرمهم بجنته، وبين الحقائق الكونية التي يشترك فيها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والتي من اكتفى بها ولم يتبع الحقائق الدينية كان من أتباع إبليس اللعين، والكافرين برب العالمين، ومن اكتفى فيها ببعض الأمور دون بعض، أو في مقام دون مقام أو حال دون حال نقص من إيمانه وولايته لله حسب ما نقص من الحقائق الدينية، وهذا مقام عظيم غلط فيه الغالطون، وكثر فيه الاشتباه على السالكين، حتى لزق فيه من أكابر الشيوخ المدعين للتحقيق والتوحيد والعرفان ما لا يحصيه إلا الذي يعرف السر والإعلان"2.

_ 1 بين -رحمه الله- هذين النوعين فيما سبق من كلامه في الكتاب المذكور وخلاصته: النوع الأول: هي العبودية التي يمتثل فيها أمر ربه الشرعي الذي كلفه به، ويكون العبد بمعنى: العابد. النوع الثاني: العبودية العامة التي يخضع لها جميع الخلق، والمتعلقة بأمر الله القدري الكوني الذي يجري على المؤمن والكافر والبر والفاجر، ويكون العابد بمعنى المُعبَّد انظرص50، 51 بتصرف. 2 العبودية، لشيخ الإسلام ابن تيمية ص50، 51 المكتب الإسلامي، بيروت ط: الخامسة، 1399هـ.

وبين ابن القيم -رحمه الله- أهمية هذا الفرق بين الأمر القدري الكوني الذي يرضى به العبد، وبين الأمر الشرعي الذي يجب عليه فيه فعل ما أمر به وعدم الرضى بفعله الذي يخالف الشرع، كما أشار إلى اضطراب كثير من الناس في ذلك، فقال: "وهذا هو التفصيل الواجب في الرضى بالقضاء. وقد اضطرب الناس في ذلك اضطراباً عظيماً، ونجا منه أصحاب الفرق والتفصيل"1. وبعد هذه الإشارة إلى أهمية التفريق بين الأمر القدري، والأمر الشرعي، واستجابة العبيد لكل منها، وقبل بيان أثر هذه المعرفة المتزنة، وأثر الرضى بالقدر في حصول الطمأنينة للقلب، أذكر قبل ذلك باختصار أنواع الأوامر الشرعية والقدرية، والاستجابة المناسبة لكل منها، لتتم الفائدة بإذن الله. أولاً: الأمر الشرعي. التكليف الإلهي للإنسان ينحصر في أمرين: عبادة الله، والخلافة في الأرض وعمارتها. ففي مجال العبادة: هو مأمور بفعل الطاعات، واجتناب المعاصي والمحرمات.

_ 1 مدراج السالكين 2/197.

قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] . والاستجابة المناسبة لذلك تتم بأصلين: الأول: الاجتهاد في فعل أسباب الهداية والنجاة، علماً وعملاً بقدر استطاعته واجتناب أسباب الضلال والهلاك. قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر:7] . وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24] . الثاني: التوكل على الله والاستعانة به في التوفيق لذلك وتيسيره، والثبات عليه، والإحسان فيه وإتمامه، وقد جمع الله بين هذين الأصلين بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] . وقوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123] . وفي مجال الاستخلاف في الأرض: فالإنسان مأمور أن يسعى في الأرض لإصلاحها وإقامة الحق والعدل فيها، ويسعى في مصالح نفسه ومجتمعه، كل ذلك وفق شريعة الله. قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] .

وقال: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26] . والاستجابة لذلك تكون بالأصلين السابقين، وهما: فعل الأسباب المناسبة، والتوكل على الله والاستعانة به في التوفيق إليها وتيسيرها وإنجاحها والمباركة فيها وحصول الخير منها. ففي الحكم بين الناس يطبق شرع الله وأحكامه وحدوده، وهي الأسباب التي شرعها الله لتسير عليها حياة الناس سيراً صحيحاً آمناًَ. وفي جوانب الحياة الأخرى -التي يحتاج إليها المسلمون لصلاح حياتهم كالتجارة، والصناعة، والزراعة.. ونحوها، أو لحمايتهم وجهادهم كإعداد السلاح وتصنيعه- يأخذون بكافة الأسباب المتاحة المشروعة، ويجتهدون في ذلك علماً وعملاً، مع التوكل على الله في تيسيرها وتسهيلها وإنجاحها، والمباركة فيها. قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10] . وقال: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [الأنبياء:80] . وقال: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:64، 65] .

وقال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60] . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز ... "1. ثانياً: الأمر القدري الكوني. ونقصد هنا ما كان له علاقة أو أثر على الإنسان، وهو في الجملة ينقسم إلى أربعة أقسام رئيسية هي: 1- النعم والمسرات، من حصول الأمن ورغد العيش، وتيسر أسباب الحياة. واستجابة العبد لذلك، تكون بالثناء على المنعم، والإحسان في عبادته وإلى خلقه، وتقدير النعمة بصيانتها عن الترف والإسراف والطغيان، وبذلك يكون شكرها. قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] . 2- نعمة الهداية والتوفيق، وما يتصل بها من البركات العامة

_ 1 رواه مسلم، كتاب القدر، باب الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله، ح2664 4/2052.

لجماعة المؤمنين، أو الخاصة لأفرادهم. والاستجابة لذلك تكون بالفرح بها، والثناء على الله وذكره وشكره عليها، ويتم ذلك بالعناية بها والمحافظة عليها علماً وعملاً، والتواصي بإقامة دين الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله والجهاد في سبيله. قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] . وقال: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْ كُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:151، 152] . 3- المصائب التي تقع على عامة الناس، أو تخص بعضهم. والاستجابة المناسبة لهذا النوع تكون بالصبر والرضى وحسن الظن بالله، قال تعالى في آية البر في معرض بيان صفات الأبرار. {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة:177] . وقال جل ذكره: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ

وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155-157] . 4- المعايب والمعاصي التي يقع فيها الإنسان. والاستجابة المناسبة لذلك، أن يتوب ويستغفر ولا يرضى بفعله الذي خالف به شرع ربه. قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] . وبعد هذه الإشارة الموجزة إلى أهم أنواع الأوامر الإلهية المتوجهة للعباد، وما ينبغي أن تكون عليه استجابتهم إزاء كل نوع منها، أصل بعون الله إلى المقصود، وهو بيان أثر هذه المعرفة، وأثر الرضى بالقدر-وفق التفصيل المتقدم- في تزكية القلب وطمأنينته. فأقول وبالله التوفيق: لا شك أن استقرار القلب على يقين في هذه المطالب الهامة، وبهذا الوضوح، يجلب للقلب الثبات والثقة، ويرفع عن كاهله الحيرة والشك والمخاوف، ويسهل عليه الطريق، وسر هذا الأثر القلبي هي الواقعية في التكليف المتوجه إلى العباد، والمتمثلة في التفريق بين الاستجابات بما يتناسب في كل أمر مع استعدادات الإنسان وطاقاته.

ففي جانب الأمر الشرعي يراعي تمتع الإنسان بالعقل والقدرة، فالعقل يفهم به الخطاب، ويميز به، والقدرة يزاول بها الأسباب التي كلف بها. فالمؤمن يؤدي ما كلف به عن رضى بالله وبشرعه، حيث يدرك انه بمقدوره وليس شاقاً عليه. {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286] فهو يدرك أنه مسئول مطلوب منه بذل الجهد المستطاع في امتثال الأمر. ومن جهة أخرى يشعر بالغبطة والرضى، حين يشعر أنه في طاعة ملك الملوك مدبر السموات والأرض، وأنه يرضى عنه مادام قائماً بطاعته، ويكون معه يحوطه بعنايته وتوفيقه في الدنيا، ويجزيه خير الجزاء في الآخرة، مما يجعله يؤدي الواجبات ويتجافى عن المحرمات متلذذاً بذلك مرتاحاً إليه. ومن جهة ثالثة يشعر بالأمل والثقة لمعرفته أن باب التوبة مفتوح فيما لو زل وخالف شرع ربه، وأن بإمكانه التوبة والرجوع والإقلاع عن ذنبه، وسوف يجد الله تواباً رحيماً، وفي هذا عظيم الأثر في طرد اليأس والقنوط، ومنع انغلاق النفس، وغلبة الوساوس. وهذه الأسس المتمثلة في: الشعور بالمسئولية والتكليف، والرضى والغبطة بالقيام بذلك، واستشعار محبة الله مع الأمل والثقة بحسن العاقبة، هي العوامل الرئيسية في طمأنينة النفس وعطائها المثمر الخير، وفي إحساسها بالسعادة والرضى. وفي جانب الأمر القدري يراعى فيه ضعف الإنسان وأن عقله

صغير، وعلمه قاصر، وقدرته محدودة محكومة بإرادة الله النافذة، فما عليه إلا أن يصبر على ما يجري عليه من الشدائد والمصائب التي لا قدرة له على ردها ويرضى محسناً الظن بربه الحكيم الخبير، محتسباً الأجر وحسن العاقبة. والباعث على الرضى على المقادير أمور: منها علمه أنه لم يخلق ليدوم، وإنما خلق ليكدح ويعمل ثم ينقطع أثره من هذه الدنيا، والخلود إنما هو في الدار الآخرة، ويعلم أن الدنيا دار ابتلاء وامتحان واختبار، وأن كل ما يجري عليه إنما هو نوع من ذلك، أما السلامة والأمن التامان فهما في دار السلام. كما يبعث على الرضى حسن ظنه بالله واستشعاره لأسمائه وصفاته الحسنى، وأنه رحيم بعباده، عليم بما هو خير لهم، فالرضى بالله وعن الله1 هما ركنا الهداية ومفاتح

_ 1 الرضى بالله: أي الرضى به رباً وإلهاً، قال ابن القيم:"فالرضى به رباً متعلق بذاته وأسمائه وصفاته، وربوبيته، وحكماً ووكيلاً وولياً، وناصراً ومعيناً وكافياً وحسيباً ورقيباً، ومبتلياً ومعافياً، وقابضاً وباسطاً إلى غير ذلك من صفات ربوبيته ... فالرضى بالله يتضمن توحيده وعبادته والإنابة إليه، والتوكل عليه، وخوفه ورجاءه ومحبته، والصبر له وبه، والشكر على نعمه ... " مدارج السالكين 2/192، 193. والرضى عن الله: أي الرضى عنه فيما أولى وأعطى، قال ابن القيم:"وأما الرضى عنه: فهو رضى العبد بما يفعله به، ويعطيه إياه، ولهذا لم يجئ إلا في الثواب والجزاء". نفس المصدر 2/192.

السعادة في الدنيا والآخرة. وقد بين الله تعالى أثر الإيمان بالقدر في تخليص القلب من القلق الناتج عن الحزن على فوات محبوب، أو الخوف من حصول مكروه، فقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:22، 23] . ففي هذه الآية بين سبحانه عموم قدره، وأنه شامل لعموم المصائب التي تصيب الخلق من خير وشر، فكلها قد كتب في اللوح المحفوظ. وحيث إن الناس ليس في مقدورهم دفع المقادير ولا تغييرها، فما هي الحكمة إذاً من إخبارهم بالقدر السابق؟ إن الحكمة من ذلك بينها ربنا بقوله: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} . قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: "وأخبر الله عباده بذلك، لأجل أن تتقرر هذه القاعدة عندهم، ويبنوا عليها ما أصابهم من الخير والشر، فلا ييأسوا ويحزنوا، على ما فاتهم، مما طمحت له أنفسهم، وتشوفوا إليه لعلمهم أن ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ، لا بد من نفوذه

ووقوعه، فلا سبيل إلى دفعه، ولا يفرحوا بما آتاهم الله، فرح بطر وأشر، لعلمهم أنهم ما أدركوه بحولهم ولا قوتهم، وإنما أدركوه بفضل الله ومنّه، فيشتغلوا بشكر مَن أولى النعم ودفع النقم"1. فالله تعالى أخبر أنه قدّر المقادير، وجعل ذلك جزءاً من اعتقاد المسلم كي يحدث ذلك الاعتقاد أثره في نفسه، فلا يحزن حزناً شديداً-عند المصيبة- يخرجه إلى الجزع والسخط واليأس، ولا يفرح فرحاً شديداً -عند النعمة- يحمله على البطر والبغي، وهذا أثر عظيم يُكسبه توازناً في مشاعره وسلوكه، واستقراراً وطمأنينة في حياته، ورضى وتسليماً لربه العليم الحكيم. إلا أن هناك نوعاً من المصائب تكون شديدة الوطأة، تحدث في النفس انفعالاً حاداً، يخرج الإنسان بسببه من سلطان عقله، وتصبح تصرفاته طائشة غير منضبطة، مما قد يدفعه إلى بعض الأفعال التي تعود عليه بالضرر في دينه أو دنياه. وإزاء هذا النوع من المصائب نجد أن للإيمان أثراً معيناً يتناسب مع طبيعة ما تحدثه من الأثر، فالإنسان في مثل هذه المواقف –التي يضعف فيها تأثير العقل- بأشد الحاجة إلى مؤثر خارجي يكبح جماحه ويسدد تصرفاته.

_ 1 تيسير العزيز الرحمن في تفسير كلام المنان 7/299، 300.

وهذا هو الذي يحدث تماماً للمؤمن، فقد بين الله تعالى أن الإيمان سبب لحصول ولاية الله وعنايته بعبده عند المصيبة، فيهدي قلبه ويربط عليه ويثبته، فلا يتصرف تصرفاً أحمقَ يعود عليه بالضرر في دينه أو دنياه. قال تعالى مبيناً هذا الأثر: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن:11] . قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: "أي ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله هدى الله قلبه، وعوضه عما فاته من الدنيا هدى في قلبه ويقيناً صادقاً، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه أو خيراً منه"1. فالمراد بقوله: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ} : أي يعلم ويؤمن بقدر الله ويطمئن إلى أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. وقوله: {يَهْدِ قَلْبَهُ} : أي يزيده إيماناً وتصديقاً وصلاحاً وثباتاً، وتكون الهداية متناسبة مع شدة المصاب، وحاجة العبد وهو في هذه الحالة في أشد الحاجة إلى أن يربط على قلبه ويسدد انفعالاته وإراداته، فالله يثبت عبدهُ بما شاء، وكيف شاء. وعلى هذا فالعلم والإيمان بالقدر، والرضى به، من أهم أسباب

_ 1 تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/375.

طمأنينة القلب. وقد ذكر ابن القيم رحمه الله ثنتين وستين فائدة للرضى1، أذكر منها ما له علاقة في أثر الرضى في حصول الطمأنينة والسكينة لقلب المؤمن، قال رحمه الله: "إن السخط باب الهم والغم والحزن، وشتات القلب، وكسف البال وسوء الحال، والظن بالله خلاف ما هو أهله، والرضى يخلصه من ذلك كله، ويفتح له باب جنة الدنيا قبل جنة الآخرة"2. وقال أيضاً: "إن الرضى يوجب له الطمأنينة، وبرد القلب، وسكونه وقراره، والسخط يوجب اضطراب قلبه، وريبته وانزعاجه، وعدم قراره"3. كما قال: "إن الرضى ينزل عليه السكينة التي لا أنفع له منها، ومتى نزلت عليه السكينة، استقام، وصلحت أحواله، وصلح باله، والسخط يبعده منها بحسب قلته وكثرته، وإذا ترحلت عنه السكينة ترحل عنه السرور والأمن والدعة والراحة، وطيب العيش، فمن أعظم نعم الله على عبده: تنزل السكينة عليه، ومن أعظم أسبابها: الرضى عنه في جميع الحالات"4.

_ 1 انظر: مدارج السالكين 2/214-239. 2 نفس المصدر 2/216. 3 نفس المصدر 2/216. 4 نفس المصدر 2/216.

وبهذا يتبين أن زكاة القلب بالعلم والإيمان بالقدر وفق ما دل عليه الكتاب والسنة، وقرره السلف الصالح يجلب للقلب الاتزان والطمأنينة والسكينة. وفي مقابل ذلك فإن اضطراب تلك المعرفة بالجهل أو الضلال في هذا الباب يجلب للقلب قلقاً وحيرة، وسوء ظن بالله، وعدم رضى عن الله؛ يزيد ذلك وينقص بقدر الجهل والضلال الحاصل في العلم الإيمان بتفاصيل القدر. وهذا القلق وعدم الرضى يدفع صاحبه إلى البدع والأهواء والمعاصي، وقد أشار ابن القيم رحمه الله إلى هذه الثغرة الخطيرة في حصن القلب بقوله: "إن عدم الرضى يفتح باب البدعة، والرضى يغلق عنه ذلك"1. وقال أيضاً: "إن أول معصية عصي الله بها في العالم إنما أنشأت من عدم الرضى، فإبليس لم يرض بحكم الله الذي حكم به كوناً، من تفضيل آدم وتكريمه، ولا بحكمه الديني، من أمره بالسجود لآدم، وآدم لم يرض بما أبيح له من الجنة، حتى ضم إليه الأكل من شجرة الحمى، ثم ترتبت معاصي الذرية على عدم الصبر وعدم الرضى"2.

_ 1 المصدر السابق 2/220. 2 نفس المصدر 2/223.

وعلى هذا يتبين بجلاء أثر تزكية القلب بالعلم والإيمان بالقدر في طمأنينة القلب واستقراره، ورضاه عن ربه وزوال القلق الدافع إلى الأفكار الهدامة أو مواردها. وخلاصة هذا المبحث: أن طمأنينة القلب تنتج عن: تزكيته بالإيمان الصحيح القوي، القائم على معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، واعتقاد تفرده بذلك وإخلاص العبادة له وحده، واستشعار القلب بأن الله خالقه ومدبره وإليه مرجعه، وأن سعيه سوف يرى ويجازى عليه، وتوكل العبد على ربه وحده والإيمان بالقدر القائم على التمييز بين الأمر الشرعي المكلف به العبد، والأمر الكوني الجاري على العبيد وفق القدر السابق، ومعرفة الاستجابة الصحيحة المناسبة لكل منها. وإذا اطمأن القلب استغنى بالإيمان والعلم المُتلّقى من الوحي، وسكن واستأنس بربه، واشتغل بما يرضيه. وفتح له بابُ الرضى عن ربه، الأملَ بمعونته وتوفيقه له في الدنيا، والرضى عليه وإكرامه في الآخرة. كما أن القلب إذا اطمأن زال قلقه ومرضه الذي يدفعه إلى الأفكار الهدامة المخالفة، أو ممارسة أساليب اللهو والترفيه ونحوها التي كثيراً ما تكون ستاراً لترويجها.

المبحث الثاني: أثر التزكية في حصول النور والفرقان

المبحث الثاني: أثر التزكية في حصول النور والفرقان إن القلب إذا تزكى بالعلم المستمد من الكتاب والسنة، وما يتولد عن ذلك من العقائد الصحيحة، والعواطف السليمة، والإرادات الخيرة، فإنه يشرق بالنور ويصبح لديه -بفعل هذه الأمور- ملكة يعرف بها الحق، ويميز بها الخير والشر، والهدى والضلال، ويتجافى بها عن الأفكار الهدامة وسائر الأخطار. وهذا الأثر من أهم آثار الإيمان التي يكرم الله بها المؤمن. فمن المعلوم أن اجتناب الطاغوت شرط لصحة الإيمان، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256] . وقال: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر:17] . فالمسلم الذي اجتنب الطاغوت، وتبرأ من الكفر والشرك وأهله وتجافى عن كل خصائص الجاهلية، يلزمه الاستمرار على ذلك، لاستمرار إيمانه وصحته.

وحيث إن أمور الجاهلية -ومنها الأفكار الهدامة- كثيرة متشعبة، يروج لها دعاة الضلال، ويزخرفونها بالشبهات، كما أخبر الله بذلك بقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:112] ، فقد جعل الله للمؤمن حصناً يحتمي به من ذلك، ألا وهو النور والفرقان في قلبه، يفرق بهما بين الهدى والضلال، فيستمر في اجتنابه للطاغوت وموارد الهلكة التي تحيط به. قال تبارك وتعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:122] . قال ابن جرير رحمه الله: " {فَأَحْيَيْنَاهُ} ، يقول: فهديناه للإسلام فأنعشناه، فصار يعرف مضار نفسه ومنافعها، ويعمل في خلاصها من سخط الله وعقابه في معاده، فجعل إبصاره الحق تعالى ذكره بعد عماه عنه، ومعرفته بوحدانيته وشرائع دينه بعد جهله بذلك حياة وضياء يستضيء به، فيمشي على قصد السبيل، ومنهج الطريق في الناس {كَمَن

مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} لا يدري كيف يتوجه، وأي طريق يأخذ لشدة ظلمة الليل وإضلالة الطريق، فكذلك هذا الكافر الضال في ظلمات الكفر، لا يبصر رشداً، ولا يعرف حقاً، يعني في ظلمات الكفر"1. فالله تبارك وتعالى يجعل للمؤمن نوراً في قلبه يستنير به، يهتدي به إلى سبل السلام، ويكشف له الظلمات وموارد العطب ومنها الأفكار المضلة، فيحيد عنها، هذا النور حصن يحصن الله به عباده المؤمنين المتقين المتبعين للرسول صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد:28] . فدلت هذه الآية على أن من اتقى الله وأطاعه مؤمناً مقتدياً بالرسول صلى الله عليه وسلم، فسوف يجعل له نوراً يمشي به؛ ذلك النور هو نور الإيمان والعلم المستمد من الكتاب والسنة، قال ابن جرير -رحمه الله- في المراد بقوله: {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} : "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره، وعد هؤلاء القوم أن يجعل لهم نوراً يمشون به، والقرآن مع اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم نور -لمن آمن بهما وصدقهما- وهُدَى،

_ 1 جامع البيان 8/22، ط: 3.

من آمن بذلك فقد اهتدى"1. قوله: " ... نور -لمن آمن بهما وصدقهما- وهدى": يدل على أن نور القرآن والسنة لا يهتدي به إلا المؤمن الذي يتعلمهما، ليعمل بهما. كما في قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:15، 16] . وقول الله تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1، 2] . دلت هذه الآيات أن الله يجعل في قلب عبده المؤمن نوراً، وأن سبب ذلك هو الإيمان والتقوى، فالنور إذاً أثر من آثار تزكي القلب بالإيمان والعلم المستقى من الوحي، وليس هناك طريق آخر لحصول النور للعبد بدون هذا الطريق، قال سبحانه في تأكيد هذا المعنى: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35] .

_ 1 جامع البيان 27/245.

{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] . وقد بين سبحانه -كما في الآيات المتقدمة- أن الذين يهديهم لنوره ويجعل لهم نوراً يمشون به هم الذين آمنوا واتقوا واتبعوا رسوله صلى الله عليه وسلم. ووجود النور في قلب المؤمن وجود حقيقي -كما قال تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} [النور:35] . أورد ابن جرير رحمه الله في المعنى بالهاء في قوله: {مَثَلُ نُورِهِ} عن بعض السلف قولهم: "مثل نور المؤمن الذي في قلبه من الإيمان والقرآن مثل مشكاة"1. وقال ابن القيم رحمه الله: "والمراد نور الإيمان الذي جعله له خلقاً وتكويناً، كما قال تعالى {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} فهذا النور إذا تمكن من القلب وأشرق فيه: فاض على الجوارح، فيرى أثره في الوجه والعين، ويظهر في القول والعمل"2. وبوجود هذا النور في قلب المؤمن يصبح القلب مبصراً حقيقة، يرى مواقع السلامة ومواقع الهلكة، كما تبصر العين الحسن والقبيح، قال تعالى

_ 1 جامع البيان 18/136. 2 مدارج السالكين 3/240.

مبيناً هذه الحقيقة: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] . وكما أن الإيمان جالب للنور وحياة القلب وبصيرته، فكذلك الكفر هو سبب موت القلب وعماه كما قال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} [الرعد:19] . {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] . والنور الذي يجعله الله في قلب المؤمن هو نور زائد على النور الذي يحصل له من العلم الذي قام به، والمستمد من الوحي المطهر. قال تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35] . وقد اختلفت عبارات المفسرين حول المراد بالنورين في الآية. ففسر بعضهم النور الأول، بالحجج والبراهين الكونية التي نصبها الله لعباه والتي تكاد من بيانها ووضوحها تضيء لمن فكر فيها ونظر، والنور الثاني: هو القرآن الذي أنزله منبهاً على توحيده، ومنبهاً ومذكراً بآياته، فزادهم إلى حججه عليهم قبل ذلك1.

_ 1 انظر: جامع البيان لابن جرير 18/143.

وفسر بعضهم النور الأول بالفطرة السليمة والنور الثاني بالقرآن. قال ابن كثير رحمه الله: "فشبه قلب المؤمن وما هو مفطور عليه من الهدى، وما يتلقاه من القرآن المطابق لما هو مفطور عليه، كما قال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} [هود:17] . فشبه قلب المؤمن في صفائه في نفسه بالقنديل من الزجاج الشفاف الجوهري، وما يستهدي به من القرآن والشرع بالزيت الجيد الصافي المشرق المعتدل الذي لا كدر فيه ولا انحراف"1. وفسر بعض العلماء النورين بالإيمان والقرآن. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حول قوله تعالى: {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} : "نور الإيمان الذي في قلبه يطابق نور القرآن، كما أن الميزان العقلي يطابق الكتاب المنزل، فإن الله أنزل الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط"2. وقد استدل لهذا المعنى بأدلة من القرآن والسنة وأقوال السلف الصالح3.

_ 1 تفسير القرآن العظيم، ط: الشعب، 6/16. 2 مجموع الفتاوى 10/475. 3 انظر: نفس المصدر من 474-477.

وسوف أذكر من ذلك دليلاً واحداً لكونه مع دلالته على ما ذهب إليه شيخ الإسلام، يدل أيضاً على أثر هذين النورين في تحصين المسلم ضد الأفكار الهدامة وأسبابها -التي هي موضوع الدراسة. قال صلى الله عليه وسلم: "ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً وعلى جنبتي الصراط سوران، فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تنفرجوا، وداع يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه، والصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله تعالى، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله عز وجل، والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم " 1. وخلاصة هذه الأقوال الثلاثة أنها متفقة على أن أحد النورين هو القرآن وما يدل عليه من العلم، أما النور الثاني فهو في قول: الفطرة السليمة، وفي آخر: الحجج والبراهين العقلية، وفي الثالث: الإيمان.

_ 1 أخرجه الإمام أحمد في المسند واللفظ له 4/182، 183 من حديث النواس بن سمعان، والحاكم وقال:"صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي، المستدرك 1/73 ووافقهما الألباني، انظر: ظلال الجنة في تخريج السنة مع كتاب السنة لابن أبي عاصم 1/41، وقال ابن كثير:" هو إسناد حسن صحيح" تفسير القرآن العظيم 1/43 ط: الشعب.

وفي نظري أن القول الثالث ينتظم تلك الأقوال، وذلك أن قلب المؤمن على الفطرة القويمة، وهو القلب الذي ينتفع بالحجج والبراهين فيتعقلها. وعلى هذا فمبدأ هذا النور هو الفطرة، ويزيده النظر والإيمان والقرآن قوة وحدة واستقامة، وقد أشار ابن تيمية إلى هذا المعنى، فقال: "وأيضاً فالله سبحانه وتعالى فطر عباده على الحنيفية: وهو حب المعروف وبغض المنكر، فإذا لم تستحل الفطرة، فالقلوب مفطورة على الحق، فإذا كانت الفطرة مقومة بحقيقة الإيمان، منورة بنور القرآن ... "1. فالنور في القلب يقوى بقوة الإيمان والعلم المستقى من الكتاب والسنة الذي يغذي الفطرة القويمة، الموافقة للتوحيد، القابلة لدلائله المطمئنة لها. قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30] . وقد أشار الله تعالى إلى أن المستحقين لهذا النور هم الموحدون المخلصون كما في سورة "الزمر" التي تميزت بالكلام على الإخلاص وعامة قضايا التوحيد، وصفة أهله وجزائهم، ثم مقارنة ذلك كله بما يقابله

_ 1 مجموع الفتاوى 10/474.

من أحوال المشركين، حيث قال تعالى مبيناً أهم ركائز العبودية التي كلف الله بها عباده، والتي حققها الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو إمام الموحدين وقدوتهم: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} [الزمر:11-14] . ثم بين سبحانه في نفس السياق أهم أساس يقوم عليه الإخلاص، وأنه اجتناب الطاغوت والإنابة إلى الله وحده، فقال: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر:17] . وفي نفس السياق أيضاً وبعد أن ذكر بعض صفاتهم التي استحقوا بها هداية الله وبين مصيرهم ومصير أعدائهم، وبعض دلائل التوحيد، أتبع ذلك ببيان أن هؤلاء الذي شرح صدورهم للإسلام فكانوا على نور من ربهم، فقال: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22] . فدل هذا السياق على أن النور عطيّة الله للموحدين المخلصين، وكلما رسخ التوحيد والعلم والعمل بموجبهما، تم النور وقوي حتى يصبح العبد يرى بنور الله، ويتكلم بالحق ويعمل به، فالنور الذي في قلب المؤمن

مظهر من مظاهر عناية الله به؛ وقد تكلمت فيما سبق عن أهم سبب لحصول ولاية الله لعبده، وأنه التوحيد الخالص، بما يغني عن إعادته1. والذي يستفيده المسلم من هذه المعرفة -وهي اختصاص أهل الإخلاص بالنور وزيادته برسوخهم في العلم والعبادة- هو الحرص على تعلم التوحيد والتزامه، ومعرفة الشرك وخصائص الجاهلية والطاغوت واجتنابها، ثم تعلم ما ورد في الكتاب والسنة من الشريعة والعمل بها، وغير ذلك من الحكم والوصايا والمواعظ والعبر والاهتداء بها في جميع نواحي الحياة. كما يستفيد المسلم من هذه المعرفة أن يلازم الذين هذه صفتهم فيواليهم، ويأخذ بفتواهم، فهم أهل الذكر والنور والبصيرة، وخاصة عند حصول الفتن التي تذهل فيها عقول الرجال، وتختلف الأقوال، فإن الملاذ من ذلك هو الفرار إلى الله، والاستنارة بأقوال وأحوال عباد الله الموحدين، فإن الله قد ضمن أن يوجد أمثال هؤلاء الذين يقولون بالحق وبه يعدلون في كل زمان حجة على العباد وقدوة لطالب الرشاد -كما في الحديث: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك "2.

_ 1 راجع ص 227 وما بعدها. 2 رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب لا تزال طائفة من أمتي ... ، 3/1523.

ومن ثمرات هذا النور في قلب المؤمن الفرقان، الذي يفرق به بين الحق والباطل، وبذلك يصبح مشيه في الحياة وبين الناس سليماً آمناً. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال:29] . أورد ابن جرير عن بعض السلف في قوله {يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} أنه فسره بفرقان يفرق في قلوبهم بين الحق والباطل حتى يعرفوه، ويهتدوا بذلك الفرقان1. قال ابن القيم -رحمه الله-: "ومن الفرقان ما يعطيهم من النور الذي يفرقون به بين الحق والباطل ... "2. ومن خصائص هذا النور الذي أشرق به القلب أنه يعطي ملكة يتذوق بها ما يناسبه وما لا يناسبه، فالمؤمن قلبه سليم عامر بالخير، يرتاح ويطمئن له، وينفر من الشر، فإذا عرض له أمر من الأمور لا يجد فيه نصاً من الكتاب والسنة، ولم يبلغه كلام أهل العلم فيه، فإن القلب -المنور بالإيمان والعلم بذوقه السليم وتفرسه- يقبل ذلك الأمر أو ينفر منه. والذوق كما عرفه ابن القيم -رحمه الله-: هو:"مباشرة الحاسة

_ 1 انظر: جامع البيان لابن جرير، ط: الثالثة، 9/5229. 2 الفوائد لابن القيم ص170.

الظاهرة والباطنة للملائم والمنافر"1. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ولفظ "الذوق" وإن كان قد يظن أنه في الأصل مختص بذوق اللسان فاستعماله في الكتاب والسنة يدل على أنه أعم من ذلك مستعمل في الإحساس بالملائم والمنافر"2. وقال أيضاً ذاكراً قول بعض السلف في قوله تعالى {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} : "قال بعض السلف في الآية: هو المؤمن ينطق بالحكمة وإن لم يسمع فيها بأثر، فإذا سمع بالأثر كان نوراً على نور، نور الإيمان الذي في قلبه يطابق نور القرآن، كما أن الميزان العقلي يطابق الكتاب المنزل، فإن الله أنزل الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط"3. وقد بين شيخ الإسلام -رحمه الله- أن الذوق الصحيح هو ذوق قلوب أهل التوحيد التي عمرت بالإخلاص لله، وبالعلم المستمد من الكتاب والسنة، وأن كلا من المؤمنين الموحدين معه من هذا الذوق بقدر إيمانه وعلمه4. فالمؤمن قد ذاق حلاوة الإيمان وأشربه قلبه وتلذذ به، وإذا ذاق

_ 1 مدارج السالكين 3/90. 2 مجموع الفتاوى 10/334. 3 نفس المصدر 10/475. 4 نفس المصدر 10/335.

القلب طعم الإيمان عرف عند ذلك ما يناسبه وما يخالفه، كما إذا تذوق الإنسان بلسانه طعم العسل والحنظل، ثم أتى بثالث لم يذكر له نوعه، فإنه إذا تذوقه عرف إلى أيهما أقرب. قال صلى الله عليه وسلم: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً "1. وقال: " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار "2. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معلقاً على هذين الحديثين: "فبين صلى الله عليه وسلم أن ذوق طعم الإيمان لمن رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وأن وجْد حلاوة الإيمان حاصل لمن كان حبه لله ورسوله أشد من حبه لغيرهما، ومن كان يحب شخصاً لله لا لغيره، ومن كان يكره ضد الإيمان، كما يكره أن يلقى في النار، فهذا الحب للإيمان والكراهية للكفر حلاوة الإيمان، كما استلزم الرضى المتقدم ذوق طعم الإيمان، وهذا هو اللذة، وليس هو نفس التصديق والمعرفة الحاصلة في القلب، ولا نفس الحب الحاصل في القلب، بل هذا نتيجة ذاك وثمرته ولازم له، وهي أمور

_ 1 رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن ... ح56 1/62. 2 متفق عليه-واللفظ للبخاري-: البخاري، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان، ح 16 1/60. ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال ... 1/66 ح67.

متلازمة، فلا توجد اللذة إلا بحب وذوق"1. قوله رحمه الله: "بل هذا نتيجة ذلك وثمرته": فيه إشارة إلى أن ذوق القلب ووجده لحلاوة الإيمان لا يقوم إلا إذا تمكن الإيمان منه. وهذا الذوق هو بمثابة ميزان حساس يستشعر ما يناسبه من الخير والإيمان فيرتاح له ويأنس به، كما يستشعر ما لا يناسبه فينفر ويشمئز منه، وهذا الميزان الإيماني بجانب النور العلمي هما -والله أعلم- الفرقان الذي يفرق به القلب بين الحق والباطل والملائم والمنافر. قال صلى الله عليه وسلم: " البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النفس، ولا يطمئن إليه القلب، وإن أفتاك المفتون "2. والمقصود هنا نفس المؤمن وقلبه العامر بالإيمان والعلم، إذ هو الذي يطمئن ويأنس بالخير ويرتاح إليه، وينفر من الشر. "فالقلب الذي دخله نور الإيمان وانشرح به وانفسح، سكن للحق واطمأن به ويقبله وينفر عن الباطل ويكرهه ولا يقبله"3.

_ 1 مجموع الفتاوى 10/327. 2 رواه الإمام أحمد من حديث أبي ثعلبة الخشني، المسند 4/194، وقال ابن رجب عن سنده "وهذا إسناد جيد" جامع العلوم والحكم 237، وقال عنه الهيثمي في مجمع الزوائد:"ورجاله ثقات" 1/176، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير 3/25، 26. 3 جامع العلوم والحكم لابن رجب ص239.

ومما تقدم من النصوص وكلام أهل العلم نخرج بضوابط مهمة لهذا الأثر القلبي الذي يحدثه الإيمان في قلوب العباد فتتحصن به من كيد شياطين الإنس والجن. هذه الضوابط تتلخص فيما يلي: 1- أن معرفة العقائد والشرائع والخير والشر والحلال والحرام والحسن والقبح إنما طريقه الكتاب والسنة. 2- أن الله فطر القلوب السليمة العامرة بالعلم والإيمان على الراحة والأنس للخير والنفرة من الشر، وهذه علامة خص الله بها قلوب المؤمنين بالإضافة إلى النور المستفاد من العلم، وأنها تزيد كلما زاد العلم ورسخ الإيمان. 3- أنه متى استبان الحكم من الدليل الشرعي فيجب المصير إليه، وإن لم ينشرح به الصدر، ولا عبرة بالإحساس المخالف، كما يتحرج بعض المسلمين من الفطر في السفر، وكما كره بعض الصحابة التحلل من الحج إلى العمرة، وبعض ما ورد في مفاوضته لقريش في الحديبية1. 4- أن فائدة هذه العلامة -وهي التذوق والإحساس الذي يفرق به المؤمن بين الحق والباطل - إنما تكون عند المتشابهات، واختلاف الفتيا أو في الأمور الحادثة التي لم يتبين حكمها.

_ 1 انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب ص240.

قال ابن رجب رحمه الله: "فإن ما شرعه الله ورسوله يجب الإيمان والرضى به والتسليم له، كما قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] . أما ما ليس فيه نص من الله ولا عمن يُقتدى بقوله من الصحابة وسلف الأمة، فإذا وقع في نفس المؤمن -المطمئن قلبه بالإيمان المنشرح صدره بنور المعرفة واليقين- منه شيء وحاك في صدره بشبهة موجودة، ولم يجد من يفتي فيه بالرخصة إلا من يخبر عن رأيه، وهو ممن لا يوثق بعلمه وبدينه، بل هو معروف باتباع الهوى، فهنا يرجع المؤمن إلى ما حاك في صدره وإن أفتاه هؤلاء المفتون"1. وبهذه الضوابط تخرج المفاهيم الضالة التي أحدثها المبتدعون المبطلون، وجعلوها أساساً لمعرفة الحقيقة، وعارضوا بها ما دل عليه الوحي المطهر كفكرة الكشف والفيض والوجد ونحوها من الأوهام والظنون. قال ابن رجب رحمه الله: "وإنما ذم أحمد وغيره المتكلمين على الوساوس والخطرات من الصوفية حيث كان كلامهم في ذلك لا يستند إلى دليل شرعي بل إلى مجرد رأي وذوق، كما كان ينكر الكلام في

_ 1 جامع العلوم ص240.

مسائل الحلال والحرام بمجرد الرأي من غير دليل، فأما الرجوع في الأمور المشتبهة إلى حواز القلوب فقد دلت عليه النصوص النبوية وفتاوى الصحابة"1. وخلاصة هذا المبحث: أن الإيمان القائم على الإخلاص والعلم المستمد من الوحي المطهر يوجد في القلب نوراً وفرقاناً يهدي صاحبه إلى مواطن الخير ويكشف له عن مواطن الهلكة والضلال، كما يصبح في القلب ملكة وحساسية يتذوق بها ما يلائمه من الخير فيميل إليه ويسكن، وما ينافره من الشر فيشمئز منه وينفر، وواعظاً يذكره؛ وبهذا يكون القلب محصناً بالعلم والنور، والفطرة السليمة، وواعظ الإيمان والحساسية المرهفة ضد أي فكر خبيث يستهدف زعزعة عقائده أو حرف عواطفه والميل بإراداته. وإذا ضعف الإيمان وقل العلم ضعفت هذه الحصون، وخفت نور القلب، وقلت حساسيته، فيكون عرضة للانخداع ببعض الأفكار الضالة، وخاصة ما كان منها مزخرفاً بالشبهات الموهمة ولبس في الحق بالباطل.

_ 1 نفس المصدر ص241.

الباب الثالث: أثر الإيمان في تحصين المجتمع المسلم ضد الأفكار الهدامة " الأثر الإجتماعي "

الباب الثالث: أثر الإيمان في تحصين المجتمع المسلم ضد الأفكار الهدامة " الأثر الإجتماعي " * ... لقد خلق الله الإنسان لعبادته، فالعبودية هي المقصد الأهم، والمحور الذي يجب أن تدور حوله وتنطلق منه جميع أعماله ومعاملاته واهتماماته ومقاصده. والإسلام عندما بيّن جميع نواحي العبادة، وما يتصل بها، لم يتجاهل كون الإنسان اجتماعياً بطبعه، وما للمجتمع الذي يعيش فيه من تأثير على نفسه وتفكيره وسلوكه. ومن أجل ذلك جاء الإسلام بالأسس المتكاملة، وهي النّظام الذي يقوم عليه المجتمع المسلم، وهو نظام يمتاز بالشمول والواقعيّة، ويضمن سير الحياة فيه على وجه يحقق العدل والأمن والحياة الكريمة لكافّة أفراده، كما يمنحهم الفرصة بالمشاركة في التنمية الحضارية، مما يدفع المجتمع إلى مستوى رفيع من الإنتاج الاقتصاديّ والزراعيّ والتجاريّ والصناعيّ، وفي كافة المجالات. وبهذا يحصل التّوازن في سعي النّاس في المجتمع المسلم بين قيامهم بمتطلبات العبودية التي من أجلها خلقوا، وبين كدحهم في استثمار واستغلال ما سخّره الله لهم على الأرض طلباً للرزق ومتطلبات الحياة. وهم في سيرهم في كلا الأمرين يُحكمون بمنهج ونظام رباني يسترشدون به في كل ما يأتون أو يذرون، فيأخذ بأيديهم إلى الصراط المستقيم، ويباعدهم عن سبل الضلال وظلمات الجاهلية. والحق أن المجتمع المسلم بتعاليمه وشرائعه، وقيمه وأنظمته،

وضوابطه، وكوابحه حصن متين يتحصن به المسلمون من خصائص الجاهلية، وأفكارها الضالة وشرائع الطاغوت، وهذا الحصن مكوّن من دعامات وسدود يقوم كل منها بسد ثغرة يحتمل تسلل الفساد من خلالها إلى قلب المجتمع المسلم. وبقدر صلابة وتماسك هذه الدعامات، تكون قوة وتماسك الحصن الاجتماعي، وإذا ضعفت فتحت فيه ثغرات يتسلل منها الضلال الفكري والسلوكي إلى جسد الأمة، فيضعف المجتمع وتنخر فيه عوامل الفساد. وهذا الأثر العظيم للمجتمع المؤمن -وهو كونه حصناً لأفراده- يفسر بعض جوانب الحكمة في عناية الشارع بإقامة المجتمع المسلم، وتنظيمه، والتأكيد على وجوب لزوم جماعة المسلمين، وإيجاب الهجرة إلى بلاد الإسلام، والنهي عن مساكنة المشركين والإقامة بينهم، والسفر إلى بلادهم بغير حاجة شرعية. فالإسلام يحتّم على أتباعه الانضمام إلى المجتمع المسلم ليصطبغوا بصبغته ويسايروا تعاليمه، ويوالوا أهله، ويحكموا بنظامه، ويحتموا بحماه من شرور الجاهليات والأفكار المضللات. قال سيد قطب -رحمه الله- مبيناً أهم الأسس التي يقوم عليها المجتمع المسلم: "والحضارة الإسلامية يمكن أن تتخذ أشكالاً متنوعة في تركيبها العادي والتشكيلي، ولكن الأصول والقيم التي تقوم عليها ثابتة، لأنها هي مقومات هذه الحضارة: العبودية لله وحده، والتجمّع على

آصرة العقيدة فيه، واستعلاء إنسانية الإنسان على المادة، وسيادة القيم الإنسانية التي تنمّي إنسانية الإنسان لا حيوانيته.. وحرمة الأسرة، والخلافة في الأرض على عهد الله وشرطه ... وتحكيم منهج الله وشريعته وحدها في شؤون هذه الخلافة "1. فالإسلام بإقراره هذه الأسس يقدم للناس المجتمع المتحضر حقاً، الذي يشعر فيه الإنسان بإنسانيته وتكريم الله له، ويحس بسموّ هدفه، وإثمار سعيه في عبوديته: ولاية الله في الدنيا، والفوز بالجنة في الآخرة، ويرى ثمرة كدحه في شؤون دنياه: تقدماً علمياً وصناعياً وزراعياً وتجارياً واجتماعياً. ويولي الإسلام هذه الأسس عناية خاصة لما لها من الأهمية في استقرار المجتمع المسلم، وتحصينه وسلامته من المؤثرات الجاهلية، وتتجلى هذه العناية بدقّة البيان لتفاصيل كلّ منها، وبالتشديد على إقامتها والتحذير من الإخلال بشيء منها. وبقدر اهتمام الإسلام بتوطيد هذه الأسس، يعمل أعداء الإسلام جاهدين على زعزعتها وإضعافها، ليسهل عليهم التوغل في المجتمع المسلم والإفساد فيه. قال سيد قطب -رحمه الله- في معرض كلامه عن جانب من

_ 1 معالم في الطريق ص132.

جوانب الفكر الهدام وأثره على أسس المجتمع المسلم: "وإذا تقرر أن مناهج الفكر الغربي، ونتائج هذا الفكر في كل حقول المعرفة، يقوم على أساس تلك الرواسب المسممة بالعداء لأصل التطور الديني جملة، فإن تلك المناهج، وهذا النتاج أشد عداء للتصور الإسلامي خاصة، لأنه يتعمد هذا العداء بصفة خاصة، ويتحرى في حالات كثيرة -في خطة متعمدة- تمييع العقيدة والتصور والمفهومات الإسلامية، ثم تحطيم الأسس التي يقوم عليها تميّز المجتمع المسلم في كل مقوماته"1. وهذه الأسس -كما تقدم- تشكل حصناً منيعاً للمجتمع إذا طبقت على الوجه الصحيح. فالمؤمنون في مجتمعهم يحاطون بأسوار إيمانية تحميهم من الأخطار الداخلية والخارجية، وهذه الأسوار يؤثر بعضها في بعض، فإذا انهدم سور منها أو اختل انهدم أو اختل سور آخر قائم عليه أو متأثر به. ويمكن حصر هذه الأسوار الإيمانية في ثلاث مجموعات: المجموعة الأولى: ما يتعلق بالرابطة الإيمانية التي تشد أفراد المجتمع بعضهم إلى بعض، بالشعور المشترك بالعبودية لله وحده، والتجمع على آصرة الأخوة فيه، وعلى العمل لنشره والدفاع عنه، وما يتصل بذلك من الأخلاق الفاضلة الجالبة للمحبة والتراحم والتلاحم،

_ 1 المصدر السابق ص148.

والتعاون على البر والتقوى، وما يلزم لاستمرارها وازديادها من وجود نظام متكامل يتمثل بتعاليم الإسلام وشرائعه وحدوده وضوابطه التي تنظم العلاقات والمعاملات وسائر جوانب الحياة على وضع يحقق العدالة، ويعمق المودة، ويُعرِّف كلاً بما له من حق وما عليه من واجب. ويتصل بذلك نظام الردع المتمثل بالحدود والعقوبات الأخرى المانعة من ظهور الفساد في المجتمع المسلم وانتشاره، ونظام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي بقيامه يضمن المجتمع المسلم سير جميع أموره سيراً صحيحاً على منهج الله ويكون واعياً متيقظاً لكل طارئ غريب فكريّ أو سلوكيّ يحاول التسلل إلى المجتمع. المجموعة الثانية: ما يتعلق بقيام الدولة وعلى رأسها ولي الأمر وأعوانه من الوزراء والأمراء والقضاة بما عليهم من واجب تنفيذ الدين والدفاع عنه. المجموعة الثالثة: ما يتعلق بوضع الدولة المتمكن في الأرض ومنزلتها المهيبة بين الأمم، وما له من الأثر في استقرارها الداخلي وحصانتها الفكرية وذلك يرجع إلى أخذها بأسباب القوة والإعداد للجهاد وإقامته. هذا وسوف أفرد لكل منها فصلاً مستقلاً أبيّن فيه -إن شاء الله- أثرها في تحصين المجتمع المسلم ضد الشرور عامة والفكرية منها خاصة. والله المستعان.

الفصل الأول: أثر الرابطة الإيمانية والأخلاق والنظم الإسلامية في صيانة المجتمع المسلم من الانحراف الفكري

الفصل الأول: أثر الرابطة الإيمانية والأخلاق والنظم الإسلامية في صيانة المجتمع المسلم من الانحراف الفكري * ... إن المجتمع الإسلامي -كغيره من المجتمعات- يتكون من السلطان ورجال دولته، ومن أفراد المجتمع. وصلاح المجتمع يكون بصلاح كلا الفريقين وقيام كل منهما بدوره في نصرة الإسلام تنفيذاً ودفاعاً. وسوف يجري الكلام على دور الإمام في حصانة المجتمع في الفصل القادم، إن شاء الله. أما في هذا الفصل فيجري الكلام -بعون الله تعالى- على أهم الأمور التي تكفل قيام أفراد المجتمع بدورهم في حصانة المجتمع وقوة جبهته الداخلية والعوامل التي تضمن تلاحمهم وتراحمهم وتعاونهم، وقد أجملتها في أمرين: الأول: المحافظة على الرابطة الإيمانية والعمل على تنميتها. ويتم تحقيق ذلك بما يلي: 1- الالتزام بالأخلاق الفاضلة. 2- أداء الحقوق المفروضة لبعضهم على بعض. 3- الالتزام بالنظام الاجتماعي والاقتصادي الإسلامي. 4- المحافظة على الوحدة الفكرية. الثاني: العمل على سلامة مقومات المجتمع المسلم. ويتحقق ذلك بالتواصي بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على ذلك. وسوف أفرد لكل منهما مبحثاً مستقلاً أبين فيه أثره في حصانة المجتمع المسلم من الشرور الفكرية وغيرها، والله المستعان.

المبحث الأول: أثر المحافظة على الرابطة الإيمانية في الحصانة الفكرية

المبحث الأول: أثر المحافظة على الرابطة الإيمانية في الحصانة الفكرية إن لكل مجتمع إنساني خصائص تميزه عن غيره، وروابط تشد بين أفراده، ومقومات تحكم تعاملهم مع بعضهم ومع غيرهم في المجتمعات الأخرى. ويتوقف على حظ المقومات والروابط من الصلاح والتناسق، قوة المجتمع وصلاحه من عدمها. وقد وردت تعاريف كثيرة لمصطلح المجتمع الإنساني، وكل من هذه التعاريف يتناول جانباً من جوانب المجتمع وخواصه الرئيسية كالعلاقات الاجتماعية، أو النظم والضوابط السلوكية، أو التجمع والتفاعل الإنساني، أو البقعة الجغرافية التي يعيش عليها الأفراد والجماعات، أو اللغة والتاريخ أو العادات والتقاليد والأهداف المشتركة التي يؤمن بها أبناؤه وهكذا1. ورابطة الدم والعقيدة هي أقوى الروابط التي يجتمع عليها أفراد المجتمعات الإنسانية، أما الوطن فهو البقعة الجغرافية التي تقيم عليها تلك الجماعة ويشكل الحنين والولاء له رابطة تشد أبناء الوطن بعضهم إلى

_ 1 انظر: دراسات في المجتمع العربي، تأليف نخبة من أساتذة الجامعات، الفصل الأول بعنوان: المجتمع الإنساني طبيعته ومقوماته، د. حسان محمد الحسن ص17.

بعض، كما أن المصالح المشتركة تكون في كثير من الأحيان رابطة يجتمع عليها الناس. ويعتبر المجتمع متماسكاً قوياً إذا كانت الرابطة بين أفراده قوية والتزامهم بها شعوراً وولاء قوياً. لكن تماسك المجتمع وقوته لا تعني أنه يسير على الحق والهدى والصراط المستقيم، ذلك أن القوة غير الهداية وإنما تمام الأمر أن تقترن القوة بالهداية، فتكون القوة مجندة لنشر الحق والدفاع عنه، والحق موجهاً للقوة. وعلى هذا فالمجتمع السليم المهتدي هو الذي يسير على الهدى الذي جاء به الوحي المطهر النازل على أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم. ذلك المجتمع هو: الذي ربط بين أعضائه رباط الإيمان وشدهم التوحيد والشعور بالانتماء إليه، وبمسئولية نشره والدفاع عنه، وقَوِيَ ولاؤهم جميعاً له، واتّحدت أهدافهم التي يؤمّلونها في الدنيا والآخرة، وحُكِموا جميعاً بنظامه وشرعه، وتعاملوا بأخلاقه والحقوق التي أوجبها لكل منهم. ولذلك فإن الرابطة الإيمانية هي أهم الأسس التي يقوم عليها المجتمع المسلم، وبالتالي فهي أهم وأقوى الحصون التي تحصن المجتمع من كيد أعدائه وأفكارهم المسمومة، وتخطيطاتهم الخبيثة.

وبهذا يكون الإسلام قد أبطل جميع الاعتبارات -غير رابطة الأخوة الإيمانية- أن تتخذ رابطة ولاء كرابطة ولاء وأخوة وتناصر، وأبقاها روابط تعارف وتراحم، تعتبر في الأنساب وبعض الأحكام الشرعية كالدية التي تكون على العاقلة، وولايات التزويج، والميراث ونحو ذلك. قال الدكتور مصطفى عبد الواحد: "الأساس الأول الذي يشيد عليه الإسلام بناءه الاجتماعي هو الأخوة بين أفراده جميعاً ... فمن الطبيعي وهو مجتمع يقوم على عقيدة تجمع بين أبنائه أن يجعل منها رابطة قوية تشد كل المسلمين وتؤلف بين قلوبهم. إنه يجعل تلك الأخوة علاقة حقيقية تزيد على علاقة الدم والنسب، وتفضلها، وقد كان الإسلام بذلك أول من أقام مجتمعاً على أساس رابطة روحية يجعل لها الاعتبار الأول، ويعتمد عليها في تقرير الحقوق والواجبات. إن بين المؤمنين رباطاً روحياً يتمثل في إيمانهم بإله واحد، واعتقداهم بغاية واحدة للحياة ومصير واحد، ومن أجل ذلك فهم أخوة ... هكذا يقرر القرآن الكريم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} [الحجرات:10] . وهذا الرباط من القوة والأصالة بحيث جُعل أساساً يتجمع حوله المسلمون دون اعتبار لما تواضع عليه البشر أزماناً طويلة، فلا اعتبار -في المجتمع الإسلامي- للنسب وشرفه، فقد وضع الإسلام عن الناس وزر التفاخر بالأنساب والتعصب لها ...

ولا اعتبار للجنس، فالإسلام يرفض أن يفترق الناس أجناساً مختلفة، وأن تفصل بينهم فواصل من صنع أيديهم. ولهذا فقد احتضن المجتمع الإسلامي أول المسلمين من كل جنس، ولم يجد الحبشي أو الفارسي أو الرومي حائلاً يمنعهم من الانتساب لهذا المجتمع، بل والتصدر فيه. وقد كانت الأخوة نوعاً جديداً من العلاقات لم يعهده المجتمع العربي قبل الإسلام، إذ كان ذلك المجتمع يقوم على رباط النسب والجنس، فجاء الإسلام ليجعل الترابط في مجتمعه على ذلك الأساس الروحي والفكري من وحدة العقيدة ووحدة الغاية، متخطياً في ذلك الروابط التي تحمل في طيّاتها عوامل التفكك وبذور الانهيار ... "1. وقد قرر الله هذه الرابطة والأخوة الإيمانية بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] . قال ابن كثير رحمه الله: "أي الجميع إخوة في الدين"2. والأخوة من مدلولها معنى التقارب والمحبة والتراحم، والتعاون

_ 1 المجتمع الإسلامي، أهدافه ودعائمه أوضاعه وخصائصه، في ضوء الكتاب والسنة، د. مصطفى عبد الواحد ص44، 45 مطبعة دار التأليف، مصر، ط: الأولى 1389هـ. 2 تفسير القرآن العظيم، ط: الشعب، 8/355.

والمناصرة، وهذه الأمور ثمرات الإيمان، نابعة منه ودالة عليه ولا يمكن أن يوجد بدونها، قال صلى الله عليه وسلم مبيناً الترابط الوثيق بين الحب والإيمان: " والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم "1. ولا يجوز أن يبقى بين المسلمين ما يعكر صفو هذه الأخوة، لذلك قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُم} . وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1] . وقال صلى الله عليه وسلم محذراً من بعض الأمور التي تعكر صفو الأخوة الإيمانية، وتضعف الرابطة: " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه "2 كما بيّن الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم ما ينبغي أن يكون عليه المؤمنون فيما بينهم لتقوى الرابطة، وتتحقق الأخوة، فمن ذلك قول الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] .

_ 1 رواه مسلم، كتب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، ح54 1/74 تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. 2 متفق عليه: البخاري، كتاب المظالم، باب لا يظلم المسلم المسلم، الصحيح مع الفتح 5/97. ومسلم، كتاب البر ... ، باب تحريم الظلم، 4/1996.

وقال صلى الله عليه وسلم: " والله في عون العبد، ما كان العبد في عون أخيه "1. وقال: " ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم، كمثل الجسد إذا اشتكى عضواً، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى "2. وهذا الحديث مع بيانه لما يجب أن يكون عليه المؤمنون من التّوادّ والتراحم والتعاطف والتواصل، مع ذلك بيّن أمراً هاماً، ألا وهو أثر هذه الأخوة القائمة على الرابطة والتعاون الإيماني في حصانة المجتمع وتماسكه وقوته، حيث شبّه مجتمع المؤمنين بالجسد الواحد الذي يهتم سائر أفراده لما يحصل لبعضهم أو يحدث في مجتمعهم من خلل أو خطر، ويتكاتفون لصده. ويؤيد هذا المعنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إن المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضاً"، وشبك بين أصابعه 3.

_ 1 أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء ... ، باب فضل الاجتماع على الذكر 4/2074. 2 متفق عليه -واللفظ للبخاري-: البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم الصحيح مع الفتح 10/438. ومسلم في كتاب البر، باب تراحم المؤمنين ... ، صحيح مسلم تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 4/1999. 3 متفق عليه -واللفظ للبخاري-: البخاري، كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، الصحيح مع الفتح 1/565. ومسلم، كتاب البر، باب تراحم المؤمنين ... ، صحيح مسلم 4/1999.

وتشبيه المجتمع المسلم بالبنيان من أبلغ التشبيهات، وذلك أن البنيان يتكون من لبنات، ومن مادة تشدّ بينها، وكذلك المجتمع المؤمن يتكون من أفراد، ومن رابطة تشد بينهم. ففي البناء كلّما كانت اللبنات متقاربة مرصوصة، والمادة اللاصقة قوية، كان البناء أشد قوة وتماسكاً. وكذلك الحال في المجتمع المسلم، كلما كانت الرابطة الإيمانية قوية، كانت القلوب متقاربة متحدة، وبذلك يكون المجتمع قوياً متماسكاً. فأول أساس لوحدة المسلمين هي الرابطة العقدية والأخوّة الإيمانية. وهذه الرابطة لا تستحكم إلا إذا كان اعتقاد الجميع مستمداً من نصوص الكتاب الكريم والسنة الشريفة، وكانت العقيدة نقية من شوائب الشرك والبدع والعقائد المستمدة من المناهج المحدثة المخالفة لما كان عليه السلف في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، والأئمة المهديين، الذين شهدت لهم الأمة بالخير والإمامة في العصور الثلاثة المفضلة، ومن سار على طريقهم في سائر العصور. وعلى هذا فأول خطوة في الطريق إلى وحدة المسلمين اليوم هي العمل على تنقية العقائد وتصحيحها، ونشر الإيمان المبيّن في الكتاب والسنة والدعوة إلى نبذ ما خالفه. وما لم تجتمع كلمة علماء الإسلام ودعاته على هذا، وينطلقون منه، سيبقى المسلمون في شتات وذلة وحيرة، وسيبقى العمل لا يثمر إلا مزيداً

من الفرقة والتحزب، وإعجاب كل فريق برأيه، {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:32] ، فلا اجتماع إلا إذا اجتمعت القلوب، ولا اجتماع لها إلا بالتوحيد. فإن التوحيد يجمع أهله، ويفرّق بينهم وبين من خالفهم، قال ربنا تبارك وتعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] . وإذا كانت الرابطة الإيمانية هي الأساس للوحدة الإسلامية، وكانت الوحدة حصناً قوياً للمجتمع من كل فكر دخيل هدام، وسلوك منحرف، فإن الفرقة والنزاع الناتج عن ضعف أو انعكاس الرابطة الإيمانية بين أفراد المجتمع المسلم يمثل ثغرة خطيرة تسهم وبسرعة في تفككه وضعفه، ومن ثم حصول الشر بين أفراده. قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] . ومردّ التنازع بالدرجة الأولى إلى الفرقة في الدين الناتجة عن الانحراف في العقيدة، أو الابتداع في الشريعة. وكم خطط أعداء الإسلام للتفريق بين المسلمين، ولم يجدوا أنجح في تحقيق ذلك من نشر الأفكار المخالفة.1

_ 1 انظر تفصيل ذلك فيما تقدم تحت عنوان: الصراع الفكري بين الحق والباطل.. من ص79-141.

فكلما وجدوا ثغرة في المجتمع الإسلامي أطلقوا فكرة ضالة جللوها بتلبيسات مزخرفة، فاستهوت بعض أفراد المجتمع ومالت بهم عن الجادة. وهكذا حتى تفرق المسلمون شيعاً وأحزاباً وطرقاً. ولم يقف الحد عند ذلك، بل أوجدوا أفكاراً تهدف إلى إزالة الرابطة الإيمانية والأخوة الدينية من أساسها، وتدعو إلى الاجتماع والاتحاد على رابطة أخرى كالشعوبية الداعية إلى التعصب للدم والعرق، ومثلها القومية، والوطنية، والوجودية، والإنسانية أو الدعوة إلى التآخي على الرياضة والفنون أو غير ذلك من الروابط. وبذلك يقل الولاء للدين، ويخفّ الحماس لنشره والدفاع عنه، وهذا انتصار للكفر بحرب باردة يذوب فيها شباب المجتمع ورجاله الذين هم جيش الإسلام وعدته تحت ألوان من الأفكار والدعوات المضللة، والولاآت المختلفة. وبعد البيان لأهمية الرابطة الإيمانية لقوة المجتمع المسلم ووحدته وحصانته من الأفكار الهدامة، وأثر ضعف تلك الرابطة في تفككه وحدوث الثغرات التي يتسلل منها كل فكر خبيث ومبدأ هدام، بعد ذلك يأتي المجال لذكر أهم العوامل التي تنمي الرابطة الإيمانية وتشد منها. وكل عامل من هذه العوامل هو شعيرة من شعائر الإسلام، بمعنى أن الإسلام أمر بها ونظمها، وهي في نفس الوقت لبنة في حصن المجتمع بقيامها يتماسك، وتقوى رابطته، وبضعفها أو زوالها يهتز بناء المجتمع،

وتضعف رابطته ويدب فيه الفساد. وأهم العوامل التي تنمي الرابطة الإيمانية هي: أولاً: التزام الأخلاق الفاضلة. ثانياً: القيام بالحقوق المفروضة لبعض المسلمين على بعض. ثالثاً: الالتزام بالنظام الاجتماعي والاقتصادي الإسلامي. رابعاً: المحافظة على الوحدة الفكرية. وسأتكلم بإذن الله على كل منها في مطلب مستقل.

المطلب الأول: أثر الالتزام بالأخلاق الفاضلة في تقوية الرابطة الإيمانية

المطلب الأول: أثر الالتزام بالأخلاق الفاضلة في تقوية الرابطة الإيمانية لقد تقدم أن الله تعالى جعل الرابطة بين أفراد المجتمع الإسلامي الأخوة الإيمانية، لذلك حث على الابتعاد عن كل ما يضعفها، والحرص على التخلص من كل طارئ يحدث الخلل بها، وبالمقابل شرع للمسلمين أخلاقاً وآداباً ونظماً في المعاملات إذا التزموا بها ساد بينهم الحب والإخاء وانقطعت موارد الكره والشحناء. وأهمية الأخلاق في المجتمع المسلم تعود إلى عظم أثرها في تقوية الرابطة بين أفراد المجتمع المسلم، لذلك ورد الإيضاح والتفصيل لها في كثير من آيات الكتاب، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم. قال عبد الكريم زيدان: "كثرة الآيات القرآنية المتعلقة بموضوع الأخلاق، أمراً بالجيد منها ومدحاً للمتصفين به، ومع المدح الثواب، ونهياً عن الرديء منها، وذم المتصفين به، ومع الذم العقاب. ولا شك أن كثرة الآيات في موضوع الأخلاق أمر مهم جداً لا يستغني عنه المسلم وأن مراعاة الأخلاق تلزم المسلم في جميع الأحوال، فهي تشبه أمور العقيدة من جهة عناية القرآن بها في سوره المكيّة والمدنية على حد سواء"1.

_ 1 أصول الدعوة ص78 د. عبد الكريم زيدان، دار عمر بن الخطاب للطباعة والنشر، الإسكندرية، ط: الثالثة، 1396هـ.

وهذا التشابه بين أمور العقيدة والأخلاق من حيث التركيز عليها من جهة الأمر بالتزامها، والإيضاح والتفصيل لجميع جوانبها، يدل على التلازم بينهما، فالأخلاق لازمة لقوة العقيدة وانتشارها، كما أن العقيدة الصحيحة باعثة على الخلق الكريم. فإذا كانت الأعمال الصالحة وقوة الصلة بالله من أسباب زيادة الإيمان في قلب المؤمن ورسوخه، فإن الأخلاق الفاضلة والتعامل بها بين أفراد المؤمنين سبب لتلاحمهم وترابطهم على أساس العقيدة، فتكون الأخلاق الفاضلة سبباً في قوة عقيدة المجتمع ورسوخ إيمانه. كما أن التزام المؤمن بالأخلاق الفاضلة يجذب الناس إلى الإيمان، ويحببهم فيه فيدخلون في الإسلام، وقد أشار الله إلى هذا الأثر بقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] . وبهذا يتبين الأثر الوثيق بين المعتقد والأخلاق في المجتمع المسلم، وأن الرابطة العقدية والأخوة الإيمانية تزيد كلما التزم أفراد المجتمع بالخلق الفاضل، وكذلك تأثير المجتمع وجاذبيته تزيد إذا سادت الأخلاق، والعكس صحيح، فإن هذين الأثرين يضعفان ويكادان ينحسران إذا ساءت الأخلاق. ونظام الأخلاق في الإسلام يشمل أموراً حثّ الشارع على فعلها والتحلي بها، لما لها من الأثر في صلاح المجتمع والأفراد، وقربهم من الله،

فبالتزامها تسود المحبة وتتقارب القلوب، ويتعامل الناس بالمودة والتراحم والتعاون، وتوجد الثقة بين أفراده، ويشعر الجميع بالرضى والأمن. ومن هذه الآداب: الصدق في الحديث والمعاملة، والعدل في الحكم والعلاقات، والأمانة في جميع الأمور، والوفاء بالعهد والعقود، والحياء، والحلم، والأناة والرفق، والتعاون على البر والتقوى، والتوادّ والتراحم والتعاطف، والصبر والكرم، والشجاعة. كما يشمل أموراً من الخلق القبيح نهى الإسلام عنها وحذر منها، لما لها من أثر في بعد المسلمين عن ربهم، وتنافرهم وضعف الرابطة فيما بينهم، وانبعاث بذور الفرقة والشر بينهم، ومن هذه الصفات الذميمة: الكذب، والظلم، ونقض العهد، وتضييع الأمانة، والنفاق الملي، والتكبر والفخر والبخل، والنميمة والغيبة، والغش والخداع، والتحاسد، والخيانة، واللعن والسباب، والفحش، وشهادة الزور وقذف المحصن، ... إلى غير ذلك من الأخلاق الرذيلة التي توغر الصدور، وتبعث الشرور وتفرق بين المسلمين، فتضعف الرابطة الإيمانية، ويتهدم هذا السور المنيع، وتصبح فيه ثغرات وممرات يدخل منها الشر الفكري، والمكر الخفي والجلي، ويصبح المجتمع ميداناً لخيل المنافقين، والحاقدين المتربصين، قد أقيمت فيه سوق الضلالات، وصدع فيه بأنواع الجهالات، وليس للمسلمين وحدة يقمعون بها ذلك، بل صار حولهم بينهم وكيدهم على بعضهم، يثبّط

بعضهم بعضاً، وينقض الأخ غزل أخيه، وربما تآمر عليه وفرح بالمكروه يصيبه. وخلاصة هذا المبحث: أن للأخلاق الفاضلة التي حثّ الإسلام عليهاً أثراً عظيماً في قوة الرابطة الإيمانية بين أفرد المجتمع المسلم، كما أنها من أبرز الأسباب التي تحمل على الدخول في الإسلام.

المطلب الثاني: أثر قيام أفراد المجتمع بالحقوق المفروضة لبعضهم على بعض في قوة الرابطة الإيمانية

المطلب الثاني: أثر قيام أفراد المجتمع بالحقوق المفروضة لبعضهم على بعض في قوة الرابطة الإيمانية المجتمع المؤمن مجتمع إنساني تميّز برابطة الإيمان والأخوة في الله، هذه الرابطة التي تصله بخالقه، وتربط بين أفراده. والمجتمع الإنساني أيّا كان نوعه، تتم فيه مصالح متبادلة بين أفراده ومعاملات تنظم تلك المصالح، وعلاقات وصلات وحقوق. ولا بد من نظام صالح يحكم هذه الأمور ويسددها لتسير الحياة بين أفراد المجتمع سيراً حسناً يحقق العدل ويبعث على الرضى، ويزيد في رباط الأخوة. والإسلام الذي يقيم الرابطة على أساس الإيمان، نجده ينظم العلاقات والروابط والمعاملات منطلقاً من ذلك الأساس نفسه، فجميع النظم الإسلامية منطلقة من العقيدة الإسلامية. فالله وحده هو المشرع المعبود المطاع، وله وحده يخضع ويستجيب المؤمنون، فكل سعيهم لربهم وعلى منهاجه. يقول الدكتور عبد الله الخريجي: "ويشكل القرآن -بسوره المكية والمدنية- كلاً متكاملاً في بدايته إرساء قواعد العقيدة، ويتدرج منها

وعلى أساسها إلى تحديد الإطار الذي على الإنسان أن يلتزم به في علاقته بنفسه وبالآخرين من خلال تنظيم محكم دقيق لحياة الإنسان في جماعته"1. والحديث النبوي وحي من عند الله، بيّن فيه النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً من جوانب العقيدة والشريعة، فاكتمل بيان الدين بالقرآن والسنة المطهرة. وقد رتب الإمام البخاري كتابه الجامع الصحيح على هيئة تشعر بالترابط الوثيق بين الشرائع الإسلامية والعقيدة، فبدأ بكتاب بدء الوحي، ثم كتاب الإيمان، ثم كتاب العلم، ثم ساق الأبواب مرتبة على أبواب الفقه، وفي ذلك إشارة إلى أن ما يورده في صحيحه من حديث النبي صلى الله عليه وسلم وحي من الله، وتعلمه والعمل به إيمان، وطريقة العلم، فنبه على الترابط بين العقيدة والشريعة، والعمل والإيمان. والحقوق المفروضة بين المؤمنين أداؤها إيمان، ويزيد في الرابطة الإيمانية ويوثقها، كما أن الإخلال بها يضعف تلك الرابطة ويهلهلها، وقد أشار الله إلى هذا الترابط بين عدم الالتزام بما أوجبه من الإيمان، وبين تضييع تلك الحقوق، وأن الإخلال بأحدهما دليل ومؤد إلى اختلال الآخر بقوله: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22] .

_ 1 نظم المجتمع الإسلامي مع التطبيق على المجتمع السعودي، د. عبد الله الخريجي ص30 توزيع رامتان، جدة، ط: الأولى 1403.

ولا شك أن من قطع ما بينه وبين رحمه، كان قطعه لحقوق من هم دونهم أحرى. وقد امتدح الله المؤدين للحقوق المفروضة عليهم الواصلين لما أمر الله به أن يوصل مبيناً أن ذلك من صفات المؤمنين، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد:21] . وليس الغرض هو ذكر تفاصيل الحقوق، وإنما بيان علاقتها بالإيمان، وأثر تأديتها في قوة الرابطة الإيمانية، مما يحصن المجتمع ويعمل على قوته وتماسك جبهته الداخلية، وما للتفريط فيها من الأثر في ضعف الرابطة وانهيار حصنها المنيع. ومجمل هذه الحقوق فيما يلي: حق ولي الأمر على رعيته، وحق الرعية عليه، وحق الوالد على أولاده، والأولاد عليه، وحق الزوج على زوجته، وحقها عليه، وحق الأرحام والأقارب والجيران والضيف، والخدم والأرقاء، وابن السبيل، وحقوق الفقراء والمساكين والعجزة على الأغنياء والأقوياء، وحق المسلم على أخيه المسلم عامة في غير ما ذكر ... إلى غير ذلك من الحقوق1.

_ 1 انظر تفاصيل ذلك: كتب السنة، أبواب الآداب والبر والصلة، ورياض الصالحين، ومنهاج المسلم، لأبي بكر الجزائري ونحوها.

وخلاصة هذا المطلب: أنه إذا قام كل فرد بما عليه من الحقوق أثمر ذلك قوة في صلة أفراد المجتمع بربهم، وفي الرابطة القائمة بينهم فأصبح المجتمع قوياً متماسكاً صعباً على المفسدين. وإذا ضيعت الحقوق حصل التذمر والخصام والعداوة، فتضعف الرابطة، ويسهل على الخصوم اقتحام حصون المجتمع والتحريش بين المسلمين، وإثارة الأحقاد وبذر بذور الشر. كما أن واقع المجتمع المسلم الناتج عن ذلك يضعف ثقة بعض أفراده -ممن قل حظهم من العلم- بنظام الإسلام وتعاليمه، فيحمله ذلك على تطلب البدائل في مستنقعات الشرق أو الغرب وأفكارهم الفلسفية العفنة.

المطلب الثالث: الالتزام بالنظام الاجتماعي والاقتصادي الإسلامي وأثره في قوة الرابطة الإيمانية

المطلب الثالث: الالتزام بالنظام الاجتماعي والاقتصادي الإسلامي وأثره في قوة الرابطة الإيمانية إن الدارس لتعاليم الإسلام يلاحظ أنها لا تخلو من أمرين: الأول: ما شرع منها أصلاً لتقوية الرابطة الإيمانية بين المؤمنين وخالقهم، وبين بعضهم البعض، كالعبادات والأخلاق والآداب، وكثير من الحقوق، وبالقيام بها يكون المجتمع متصلاً بربه موصولاً ببعضه. الثاني: ما شرع منها لتسير عليها العلاقات والمعاملات التي يحتاجها الناس في تحقيق مصالحهم فنظمها الشارع على حال تحقق ذلك وتضمن استمرار الرابطة وقوتها، والبعد عن أسباب الفرقة والتنازع. وقد تقدم الكلام على الأمر الأول المتعلق بجانب الأخلاق والآداب والحقوق في المطلب السابق، ويجري الكلام في هذا المطلب على الأمر الثاني، وهو ما يتعلق بالالتزام بالنظم الإسلامية. فالنظام الاجتماعي -ويعرف بنظام الضبط الاجتماعي- يقصد به جملة الأحكام والشرائع التي تنظم حياة الناس وعلاقاتهم فيما بينهم في المجتمع المسلم، وعلاقاتهم مع غيرهم من الكفار، والحدود التي تقي المجتمع من عوامل الفساد والضرر والاعتداء من بعضهم على بعض.

والنظم الإسلامية كثيرة، منها: نظام الأسرة كالزواج والطلاق، ودور الرجل والمرأة ونحوها، ونظام القضاء وما يتعلق به من الصلح والحكم في المنازعات، والجنايات والحدود والتعزير، ونظام الرق، ونظام العقود والشركات، والنظام الاقتصادي وما يتصل به كالزكاة والصدقات والنفقات والفروض، والبيع والشراء والإجارة، ونظام الإرث، وغير ذلك من الأنظمة الشاملة لجميع نواحي النشاط الإنساني. ووجود هذه الأنظمة ودقة الالتزام بها ضروري لاستقرار حياة الناس، وإقامة العدل بينهم، وحفظ حقوقهم، وانتشار الأمن والأمل في نفوسهم، فينطلقون في ميادين الحياة بثقة وجد للعمل على إصلاح دينهم ودنياهم، وبذلك يترسخ رباط الأخوة ويستحكم، ويتعاونون في سعيهم وكدحهم وهم في أمن من بواعث الشر والنزاع بفضل صلاحية النظام وشموله، ومراعاته لمبادئ الأخلاق والعدل. والإخلال بشيء من النظم الإسلامية تحصل من جرائه الفوضى والقلاقل والظلم والعدوان، وينجم النفاق والبلبلة الفكرية، والخلاف السياسي، فتتقطع الأرحام وتضيع الحقوق. كما قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22] . وإذا زاد التحلل من النظام الإسلامي اختل المجتمع، وشغل الناس

بأنفسهم وأهوائهم، وذهلوا عن العبادة والعلم، فيضعف الإيمان وتقل رابطته ويفشلوا وتذهب ريحهم، فتُزيغ كثيراً منهم الأهواء، وتتخطفهم الفتن القائمة على الأفكار الهدامة، وبعضهم يقتل في القلاقل والهرج، أعاذنا الله من الإعراض عن الدين، وما يترتب عليه من الشر والفساد. وبعد هذا الإجمال في الكلام على النظم الاجتماعية في الإسلام وأثرها في صيانة المجتمع المسلم من عوامل الفساد، أخص بمزيد الإيضاح نظامين هامين لهما أثر بالغ وخطير في تحصين المجتمع ضد الأفكار الهدامة خاصة، وسائر الشرور، ألا وهما: الأول: نظام الجزاء والعقاب. الثاني: النظام الاقتصادي. أولاً: نظام الجزاء والعقاب: ويشتمل على الحدود المقدرة على جرائم معينة بضوابط شرعية معتبرة، وعلى عقوبة التعزير في المعاصي التي لم يرد في الشرع تقدير لعقوبتها. وإقامة الحدود حصن هام في حفظ المجتمع من سائر الشرور، وخاصة الأفكار الهدامة، فلا بد من الصرامة والحزم في تطبيقها على من استحقها وفق الضوابط الشرعية. فحد الزنى واللواط والخمر قامع لهذه الشرور التي طالما امتطاها المفسدون، واستغلوها كطعم لإيقاع شباب المسلمين في شرورهم

الفكرية، لما لها من الأثر في طمس معالم الإيمان في القلوب، فتحل الظلمة مكان البصيرة، وبذلك ينقاد من وقع في ذلك إلى الأفكار الخبيثة بسهولة، وقد ينسلخ من الإسلام ويعاديه لتحريمه لها، فيصبح عضواً فاسداًَ ينشر الفساد في المجتمع. أما حد الحرابة والإفساد في الأرض فهو فعال جداً في قمع الشرور الفكرية خاصة، قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:33] . فالحرابة توجد وضعاً قلقاً يسوده الخوف والفزع، وذلك أنسب الظروف لانتشار الشرور، وظهور المنكرات، ونشر الإشاعات، والتحريض على التمرد والخلاف، والترويج للحركات الملحدةوالأفكار المفسدة.وأعظم الإفساد في الأرض وأخطره نشر الشرك في البلاد التي أكرمها الله بالإيمان. قال الله تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56] . قال ابن القيم -رحمه الله-: "وبالجملة فالشرك والدعوة إلى غير الله،

وإقامة معبود غيره، ومطاع متبع غير رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعظم الفساد، ولا صلاح لها ولا لأهلها، إلا أن يكون الله وحده هو المعبود، والدعوة له لا لغيره، والطاعة والاتباع لرسوله ليس إلاّ، وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول، فإذا أمر بمعصيته وخلاف شريعته، فلا سمع ولا طاعة، فإن الله أصلح الأرض برسوله ودينه، وبالأمر بتوحيده، ونهى عن إفسادها بالشرك به وبمخالفة رسوله"1. وعلى هذا فأساس صلاح الأرض هو عبودية الناس لربهم، وسيرهم في جميع جوانب حياتهم على منهج الله، وفساد الأرض يكون بتعبيدهم لغير خالقهم وتسييرهم على غير منهج الله. والطريق إلى فساد الأرض بعد إصلاحها إنما يكون بعمل شياطين الإنس والجن في الصد عن دين الله بنشر الشبهات ووضع العوائق النفسية والحسية في الطريق إلى الله وسعيهم في الأرض فساداً بنشر الأفكار المزخرفة المخالفة لما قرره الإسلام في كل جوانب الحياة. وقد كان الهجوم الأشد الذي جابه الإسلام من وقت البعثة إلى اليوم إنما هو حرب فكرية تهدف إلى معارضة الإسلام بمبادئ الأديان الوثنية، وبنظريات وتصورات الفلاسفة المجللة بزخرف القول غروراً.

_ 1 التفسير القيم، للإمام ابن القيم، جمعه: محمد أويس الندوي، حققه محمد حامد الفقي، ص255 لجنة التراث العربي، بيروت.

وهذه اللوثات الفكرية هي التي جابهت الدعوات السابقة لدعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لذلك حذر الله أهل الإيمان منها، وهو تحذير قائم ما بقي الكفر والإيمان، وقام لكل منهما أعوان. قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77] . وبيّن الله تعالى وسيلتهم في الإضلال، وأنها قائمة على ترويج زخرف القول المتمثل بالشبهات والأفكار الخبيثة التي غرت أصحابها، ويغرون بها الناس، فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:112] . وكان حظ دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على مدى عصورها المتعاقبة من كيد هذه الدعوات الفكرية المسعورة أكبر من غيرها. وقد اشتدت في هذا القرن حيث تنوعت وتطورت الوسائل الناقلة لها، وفرضت المبادئ الإلحادية على كثير من الشعوب الإسلامية، ووضعت أسس العلوم الإنسانية والمادية على أيدي غير المسلمين فأقيمت على قواعد إلحادية في معظمها، ونظريات جاهلية، تهدف إلى حرف العقائد والسلوك، وتسير بمن يتعلمها -إلا من رحم الله- ليلتقي من حيث

لا يشعر مع طريق اليهود والنصارى أو الملحدين في فكره ومنهج حياته، وتصوراته في الكون والحياة. وإذا كان الأمر كذلك، فإن المروجين للأفكار الهدامة، والشبهات المضللة من أعظم المفسدين في الأرض، وإفسادهم المؤدي إلى الفتنة عن الدين أعظم من إفساد المحاربين الذين يتلفون الأموال أو يزهقون الأرواح، حيث تقرر ذلك بقوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:191] . لذلك كان إيقاع العقاب المناسب عليهم من أعظم الحصون الاجتماعية، الحافظة للمجتمع من الفكر الخبيث. وعقاب المفسدين في الأرض بترويج الفساد الفكري واجب إيقاعه والصرامة في تنفيذه، سواء كان حداً يشمله عموم المحاربة لله ولرسوله، وعموم الإفساد في الأرض، في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... } الآية، أو كان ذلك من باب قياس الأولى، لأن إفسادهم أشد وخطرهم أعظم، فكان إنزال العقاب بهم أوجب، أو كان ذلك من باب التعزير، فقد نص طائفة من أهل العلم على قتل الداعي إلى البدع1. وليس المقصد تحقيق هذه المسألة من الناحية الفقهية، وإنما الإشارة

_ 1 انظر: مجموع الفتاوى 28/108، 109.

إلى أهمية إقامة هذه العقوبة، والجد في قمع المضللين، وأثر ذلك في حماية المجتمع من شرهم، وتحصنه بهذه الشعيرة الإيمانية من الشرور الفكرية. أما حد الردة القاضي بقتل المرتد عن دينه لقوله صلى الله عليه وسلم: " من بدل دينه فاقتلوه "1، فهو حصن من حصون المجتمع المسلم يسد ثغرة يتسلل منها المفسدون لإضلال الناس وحملهم على المجاهرة بالردة، والمجادلة بالباطل، والمعارضة بالشبهات، فيتجرأ على التمرد على الدين من لم يتمكن الإيمان من قلوبهم، وينقاد إليهم ويتابعهم بعض المغرورين الجاهلين، فيبدأ بنيان المجتمع بالانحلال، وتسري فيه عدوى الضلال. قال عبد الكريم زيدان: "إن المرتد مع إخلاله بالتزامه يقوم بجريمة أخرى، هي الاستهزاء بدين الدولة، والاستخفاف بعقيدة سكانها المسلمين، وتجريء لغيره من المنافقين ليظهروا نفاقهم، وتشكيك لضعاف العقيدة في عقيدتهم، وهذه كلها جرائم خطيرة يستحق معها المرتد استئصال روحه وتخليص الناس من شره، وإنما قلنا: إن المرتد من يرتكب هذه الأمور، لأنه لا يعرف ارتداده إلا بالتصريح، وإلا لو أخفى ردته لما عرف"2. وهذا الأسلوب بعينه قد استخدم في مجابهة هذا الدين في عصر النبوة

_ 1 أخرجه البخاري، كتاب الجهاد، باب لا يعذب بعذاب الله، الصحيح مع الفتح 6/149، ح3017) . 2 أصول الدعوة ص286.

في محاولة إخراج أهله منه، وخاصة من لم يتمكن الإيمان من قلوبهم، ولم تشرب العلم نفوسهم، فيدخل فرد أو جماعة في الدين، وقد يكونون من الذين وصفهم الله بقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] ، ممن يعجب بهم كثير من السذج والرعاع ويعظمونهم، فإذا دخلوا فيه لم يلبثوا أن يرجعوا عنه، فيظن من يعجب بهم أنهم إنما رجعوا لما تبين لهم من عدم صلاحه، أو لأنهم لم يجدوا فيه شيئاً مهماً، فتضعف الثقة في نفوسهم بدينهم، ويسري إليهم الشك، وقد يتابعهم بعض من أحبهم وأعجب بهم. قال تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:72] . ولذلك كانت إقامة هذا الحد حصناً يقي المجتمع المسلم من هذا المكر الخبيث، بالغ التأثير في الإفساد لو أتيح له المجال، وهذا من محاسن الإسلام ودقة تشريعاته وشمولها لكل ما فيه سلامة المجتمع وحمايته. ثانياً: النظام الاقتصادي: النظام الاقتصادي الإسلامي كغيره من النظم الإسلامية يقوم على أساس العقيدة الإسلامية، فالملك لله، والأمور والمعاملات يجب أن تجري على أمره سبحانه.

وقد اعتنى الإسلام بتنظيم نشاط الناس الاقتصادي عناية كبيرة، بما وضعه من أحكام وقواعد دقيقة شاملة. وهذه العناية تتناسب مع أهمية النشاط الاقتصادي الذي يحتاج إليه الناس لتبادل منافعهم الدنيوية ومصالحهم الحيوية. والنظام الاقتصادي الإسلامي يتجاوب مع الفطرة بإقراره حق التملك وحرية التصرف بضوابط تضمن حصول المنفعة للفرد والمجتمع وتمنع الضرر. وهو يراعي الأخلاق الفاضلة، حيث يقوم على مبدأ التعامل النظيف الذي ينمي الحب، ويشد رابطة الأخوة الإيمانية بين أفراده، على حد قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] . وبهذا يقطع الإسلام جذور المعاملات الباعثة على الحسد والحقد والبغضاء والفساد الخلقي والاجتماعي، فيمنع الكذب والغش والخداع، والغدر والغرر، ويحرم الاتجار بالفاحشة والرذيلة والمتع السيئة، والمسكرات والمخدرات، ويشدد في تحريم الربا لما ينتج عنه من الغبن واستغلال الفقراء والاحتكار والكساد الاقتصادي. وفي الجملة فهو يمنع المتاجرة والتعامل بكل شيء يجر شراً أو فساداً خلقياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً أو فكرياً. كما أن النظام الاقتصادي الإسلامي يعتني بسد حاجات الناس اللازمة للعيش. فالمجتمع المسلم متكامل متكافل متعاون على المستوى

الشعبي والحكومي، فكل قد سن له في هذا النظام دور يحقق هدف التكافل الاجتماعي؛ فحث الإسلام على العمل ورغب فيه، وأمر الأقارب بكفالة المحتاج والكبير والمريض، وشرع الصدقة والزكاة لسد حاجات الفقراء، وتحقيق بعض المصالح، وحمّل ولاة الأمر رعاية من لم يجدوا من يرعاهم من أقاربهم أو عجزوا عن رعايتهم. ومما تقدم تبين أن الإسلام يقيم النظام الاقتصادي على أسس متينة تتمثل في استمداده من العقيدة الإسلامية، ومراعاة الفطرة الإنسانية، وقيامه على الأخلاق الفاضلة، والتزامه بسد حاجات الناس المعيشية1. وإذا التزم المسلمون دولة وأفراداً بالنظام الاقتصادي، استقامت حياتهم، وانتظم تعاملهم، وانقطعت بوادر الشر والحقد والحسد والضغينة والبغضاء، وأمن الناس على أرزاقهم ومصالحهم، فتتماسك جبهتهم الداخلية. والإخلال بالمعاملات الاقتصادية، وتعدي حدود الله فيها يؤدي إلى اختلال المجتمع، وتغير القلوب، ويعتِب بعضهم على بعض، ثم يحقد ويحسد. فباختلال هذا النظام تختل الأسوار الواقية للمجتمع والعاملة على تماسكه وسلامته، فيضطرب النظام الاجتماعي، وتضعف الرابطة الإيمانية،

_ 1 انظر: لهذا وما قبله، أصول الدعوة، عبد الكريم زيدان ص332، 337.

ويحصل الشر بين المسلمين، ويصبح المناخ مهيأً لشياطين الإنس والجن للعمل على الإيقاع بينهم مستغلين ما بينهم من الضغائن. واختلال النظام الاقتصادي مرده إلى شح الأغنياء، وما يقابله من ظلم واعتداء الأقوياء من الفقراء، وتفريط السلطة بالمحافظة عليه، والصرامة في تطبيقه. ومما يمهد لانتشار الأفكار الضالة التهاون في منع المتاجرة بالمتع المحرمة والمخدرات والمسكرات، أو وسائل التأثير الفكري كالأفلام المنحرفة، فذلك يؤدي إلى ظهور الفواحش في المجتمع، وكثرة الخاملين الساقطين، وانحراف الأفكار وتغير مفاهيم المجتمع والتشكك في العقائد، بفعل ما تحدثه المعاصي من الظلمة في القلوب، وما تحدثه الأفلام والقصص والمجلات الزائفة من آثار فكرية هدامة. أما أثر المعاملات المالية على العلاقات القريبة فظاهر جداً، فكم من عداوة نشأت بين الأقارب بسبب الظلم في المسائل المالية، وأصدق شاهد على ذلك حصول كثير من المنازعات بسبب الجور في قسمة الميراث بين الأقارب، مما يدل على أهمية الالتزام بأحكام الإسلام في تنظيم المال ومعاملاته، وضرورة الرضى بذلك حفاظاً على تلاحم أفراد المجتمع. ويمكن القول أن النظام الاقتصادي الإسلامي يمثل أقوى دعامة -بعد رباط العقيدة- يتحصن بها المجتمع ويجابه بها مخططات أعدائه،

وخاصة في هذا العصر الذي قامت فيه حضارات الأمم الكافرة على مذاهب اقتصادية، وأصبحت مسألة الاقتصاد هي المحور الذي تدور عليه السياسات والعلاقات بين الدول، فقضايا المال وما يتصل بأرزاق الناس قضايا حساسة تقتضي من المجتمع العناية بها وإيجاد الوعي الكافي بأهميتها وخطورة التهاون بها. كما تستلزم من ولاة الأمر العمل على تحسين أوضاع الناس المالية، ورفع الظلم عنهم، وإيجاد المجالات المشروعة للعمل والاستثمار، والصرامة في تطبيق أحكام الشريعة. فالناس مجبولون على الشح بالمال ومحبته وإمساكه، كما بيّن ربنا بقوله: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} [الفجر:20] . وقوله: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8] . وقوله: {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلاَّ الْمُصَلِّينَ} [المعارج:19-22] . وبين سبحانه أن الإنسان تخرج ضغينته إذا أخذ ماله، فقال: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:36-37] . قال ابن جرير -رحمه الله-: "قد علم الله أن في مسألته المال خروج

الأضغان"1، ومثل أخذ المال منع الحق كلاهما يخرج الضغينة. فكم استغل أعداء الإسلام في الداخل والخارج الأوضاع الاقتصادية المضطربة، والضغائن الناتجة عنها في المجتمع المسلم لإثارة الرعية على الراعي، أو الدعوة إلى مذاهب اقتصادية قائمة على أفكار إلحادية كالشيوعية أو الاشتراكية أو الرأسمالية، وأعظم ثغرة يتسللون منها هي وجود الشحناء والبغضاء والحسد بين طبقات المجتمع نتيجة للإخلال بالنظام الاقتصادي، والتهاون في إيصال الحقوق إلى أهلها، وعدم العدل بين الناس فيها، فيَعِدُون الفقراء الكادحين بالعدل الذي فقدوه، أو الحق الذي سلب منهم، فينخدعون بهم، ويناصرونهم على ذلك، مع جهلهم بحقيقة ما يدعون إليه من الإلحاد، فتسير الشعوب خلف شعارات براقة، ودعاوى منسقة، وبذلك سقطت كثير من الشعوب الإسلامية تحت الحكم الشيوعي أو الاشتراكي القومي أو العلماني أو غير ذلك من الحكومات الفاسدة، وبذلك فرضت أفكار إلحادية ومبادئ كفرية خبيثة على الشعوب الإسلامية، وحُرفوا عن دينهم وصدوا عن طريق ربهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وبهذا يتبين أن التزام النظام الاقتصادي الإسلامي حصن يحصن المجتمع من عوامل الفساد والفرقة والخلاف والعداوة والبغضاء، والتي هي

_ 1 جامع البيان لابن جرير 26/65.

جسر يمتطيه أعداء الإسلام المتربصون به في الداخل والخارج لزعزعة المجتمع وبث بذور الشر فيه، من خلال الأفكار الخبيثة والمبادئ الفاسدة، والشبهات المزخرفة.

المطلب الرابع: المحافظة على الوحدة الفكرية

المطلب الرابع: المحافظة على الوحدة الفكرية تقدم أن الرابطة في المجتمع الإسلامي هي رابطة عقدية، وأخوة إيمانية، وعلى هذا فكلما رسخ الاعتقاد وقوي الإيمان عند أفراد المجتمع، قويت الأخوة والرابطة التي تشد بينهم. وعلى هذا فالمحافظة على سلامة المعتقد ووحدته يتطلب المحافظة على الناحية الفكرية المؤثرة فيه، من أجل استدامة تلك الأخوة القائمة عليه وسلامتها من النزعات المخالفة وما ينتج عنها من فرقة وشتات. وقبل الكلام في هذا الموضوع المهم يجدر أن أقدم ببيان المراد بالفكر الإسلامي، والوحدة الفكرية لكي يتبين المراد بالمحافظة عليها. فالفكر هو اسم جنس يطلق على الأفكار الحاصلة من وظيفة التفكر والتعقل التي أودعها الله في قلوب الناس. فالتفكر إذاً وظيفة بشرية، وقد أشار الله لهذا في نحو قوله: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} [المدثر:18] . والفكر عموماً هو محصول الاجتهاد البشري1.

_ 1 انظر: ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر المنعقدة بالبحرين في 3/6/1405هـ ص96، 97، 177، الناشر مكتب التربية العربي لدول الخليج ط: الأولى، 1407هـ.

وعلى هذا فالعقيدة الإسلامية ليست فكراً، وإنما هي وحي من عند الله، وهي غذاء الفكر الإسلامي وقاعدته. وقد بيّن الله أن التفكر في الآيات الكونية، والآيات التنزيلية وما فيها من دلائل التوحيد، والآيات والقصص المشتملة على العبر والمواعظ، بين أن ذلك من صفات المؤمنين. قال تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] . وقال: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس:24] . وقال: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176] . وقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد:3، الزمر:42، الجاثية:13] . ونحوها. وعلى هذا فالتفكير السديد وظيفة أمر الله بها عباده المسلمين، وهم الجديرون بها، وما ينتج عنه من فكر هو فكر إسلامي قام به المسلم وفق ضوابط الشرع، ومن منطلق العقيدة. قال الأستاذ محمد عبد الله السمان: "إن العقيدة الإسلامية هي قاعدة الفكر الإسلامية ... ليكون في إطار العقيدة، وفي خدمتها، فإذا

خرج عن إطارها، أو تجاوز حدودها، أو تحول ليكون في خدمة غيرها، فلن يكون فكراً إسلامياً، ولو زعم هذا ألف مرة ومرة"1. فالفكر الإسلامي هو الذي يستند إلى العقيدة الإسلامية وينطلق من نصوص الوحي في بحثه واجتهاده في مختلف مجالات الحياة، والحضارة القويمة هي الحضارة الإسلامية التي تقوم على ثمرات الفكر الإسلامي الشامل لجميع الميادين. ويمكن حصر أهم ميادين الفكر الإسلامي فيما يلي: 1- فهم نصوص الكتاب والسنة، واستنباط الأحكام والعبر والمواعظ. 2- استنباط براهين الحق ودلائل التوحيد ومعجزات النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من العقائد بالتدبر لآيات الله التنزيلية والتفكر في آيات الله الكونية. 3- بيان محاسن الإسلامي وسلامة نظمه وتشريعاته من النقائص، وأنها هي المصلحة لحياة الناس. 4- الدفاع عن الإسلام وتفنيذ الشبهات المثارة حوله، وبيان بطلان الأفكار المنحرفة والأديان الضالة. 5- استكشاف الأسرار التي وضعها الله في خلقه، وسخرها

_ 1 ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر، المصدر السابق ص47.

للإنسان، والانتفاع من ذلك في تسهيل حياة الناس والرقي بها، وفي الإعداد لقوة المسلمين في كافة المجالات. ويدخل في ذلك العلوم المادية كالفيزياء، والكيمياء، والرياضيات، والطب، والإحياء، والصناعات المختلفة، والزراعة، والعلوم الاقتصادية والتجارية. والفكر الإسلامي معني بتطهير هذه العلوم مما أدرج فيها من الضلالات بالإضافة إلى نقل المفيد منها، واستخدامه وتطويره. 6- البحث والدراسة للنفس البشرية، والنشاط الإنساني وإقامته على مبادئ الإسلام ومسلماته، ويشمل ذلك: علم النفس، وعلم الاجتماع وفروعهما، والدراسات التاريخية، ونحوها. 7- التفكر في الأمور الغيبية التي أخبر الله بها، كالموت وأحوال القبر، وما يجري يوم القيامة من أهوال، وصفات الجنة والنار، مما يفيد في إصلاح القلوب واندفاعها للخير وارتداعها عن الشر، وعدم تماديها في الحرص على الدنيا. وعلى العموم فالنشاط الفكري الإسلامي يشمل كل المجالات التي يحتاج إليها الناس في دينهم ودنياهم. الوحدة الفكرية: تقدم أن الفكر لا يبدأ من فراغ، بل لا بد من أسس يقوم عليها، ومنابع يستقي منها، وأصول يرجع إليها في بحثه ودراسته ومقارنته واستنتاجه.

والأسس والمنابع والأصول في الفكر الإسلامي، هي أصول الإسلام وقواعده العقدية والتشريعية. فالوحدة الفكرية المطلوب المحافظة عليها في المجتمع المسلم هي: نشر وترسيخ العقائد والمبادئ والمعارف التي جاء بها الإسلام لدى أكبر عدد من أفراد المجتمع، وجعلها أساس التربية والتعليم في مختلف مراحله، والإعلام في جميع مجالاته، لكي تكون قاسماً مشتركاً يؤمن به ويخضع له الجميع، فينطلقون منه ويرتكزون عليه في نشاطهم الفكري، ويصبح هذا الغذاء الفكري المشترك ميزاناً موحداً يحتكم إليه الناس ويرجعون إليه عند النزاع، ويوحد مشاعرهم وعواطفهم وأهدافهم ويوجه سلوكهم، فيتلاحم الأفراد، ويصبح المجتمع كالجسد الواحد، وتقل فيه نوازع الفرقة. أثر الوحدة الفكرية في قوة الرابطة الإيمانية: إن وجود الوحدة الفكرية -المتمثلة بملئ قلوب الناس وإنارتها بالعقائد الحق، والمفاهيم الصحيحة، واستئثار الوحي بذلك، وما ينتج عنه من تقارب وانسجام في تفكير أفرادها- ضرورة اجتماعية لازمة لاتحاد المسلمين وقوة رباطهم الإيماني. وتخلّف الوحدة الفكرية ينتج عنه أحد حالين: الأولى: الفراغ الفكري الناتج عن انتشار الجهل وانصراف الناس عن العلم، وفي هذه الحال يسود المجتمع خليط من الأفكار الفاسدة،

والخرافات والتصورات والعادات الجاهلية، ويصبح المجتمع مهيأً لكل فكر ضال، كما أنه في بعض الأحيان يكون صالحاً لدعوات الإصلاح إذا لم تكن فيه بدع مستحكمة، ومفاهيم منحرفة مقدسة. قال الدكتور عبد الحليم عويس: "ولئن كانت عوامل التجزؤ عديدة ورهيبة، فإن هذه العوامل لا تتسلل إلى الأمة إلا حيث تعاني من فراغ فكري، وفقر إلى مجموعة القيم التي تغنيها بدراية سليمة مطمئنة عن حقيقة كل من الكون والإنسان والحياة، إذ أن من شأن أي جماعة تعاني من مثل هذا الفراغ أن تغدو هدفاً لمطامع أولى الدعوات الهدامة، التي تصطنع المبادئ والقيم لبلوغ أمانيها وأغراضها"1. والحالة الثانية: الفرقة الفكرية ومردها إلى الفوضى الفكرية، حيث تنتشر المعارف وتقوى حركة التعليم، مع اختلاف مشارب الأفراد الفكرية. فيجهر المبطلون بالضلال ويتفننون في عرضه على الناس، وعندها يتوزع أبناء المجتمع الواحد إلى طوائف كل طائفة تسير خلف فكرة ومبدأ، ويزخرف كل فريق مبدأه، إما بتقريبه إلى الإسلام بالاستدلال الفاسد، أو بتقديمه على أنه الجديد المفيد المتجاوب مع مستجدات العصر، مع دعوى أنه لا يتعارض مع أصول الإسلام.

_ 1 ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر، ص188.

وقد يتمادى الأمر فيتجرأ المفسدون على مدح الكفر والإلحاد والتشكيك والاستهزاء بمسلمات الدين بلا خوف ولا حياء. وفي هذه الحال يتفكك المجتمع ويعادي بعضه بعضاً، وتزول رابطة الإيمان كرباط مشترك لجميع أفراده، وإنما تبقى رابطة بين أفراد طائفة من طوائفه، هي التي التزمت به وأخذت على عاتقها مسئولية تنفيذه والدفاع عنه. وسيجد كل فكر خبيث خارجي فئة في المجتمع تسير على مبدئه، فيعمل من خلالها داخل المجتمع. عندها يصبح من المتعذر اجتماع أفراد المجتمع على تحكيم نظم الإسلام، فتستبدل به الفكرة بالفكر المدمرة لكيان المجتمعات الإسلامية، ألا وهي الديمقراطية التي يحكم الناس بها الأهواء والقوانين الوضعية. ويصبح بذلك أهل الإيمان المستمسكون به -في أحسن أحوالهم- طائفة من طوائف المجتمع ليس لهم إلا المجادلة عن أنفسهم بدل أن يكون الإسلام هو المهيمن على الجميع وكلمة الله هي العليا. هذا مع أن اجتماع الناس في المجتمع الذي مزقته الفوضى الفكرية على الديمقراطية أو غيرها لا يكون في الغالب -كما يشاهد من الواقع- إلا بعد حروب أهلية طاحنة يتجرع فيها الناس أصنافاً من العذاب، ويذيق بعضهم بأس بعض.

السبيل إلى المحافظة على الوحدة الفكرية: إن العمل للمحافظة على الجانب الفكري في المجتمع الإسلامي -بغرض إخلاصه للتلقي عن الوحي المطهر في جانب العقيدة والعبادات والأخلاق والآداب- يجب أن يكون في اتجاهين هامين: الاتجاه الأول: التطهير. والمراد به تطهير الجانب الفكري في المجتمع الإسلامي من الفكر الدخيل، وذلك يشمل تحصين المجتمع من تسلل الأفكار الغازية ومحاربة وسائل اتصالها بالمجتمع، كما يشمل مراجعة ما ينسب إلى الإسلام من العلوم والمعارف، وعرضه على ميزان الشرع، وبذلك يبقى الوحي الإلهي وحده هو المغذي للقلوب والأفهام والموجه للسلوك والإرادات. والاستغناء بالوحي أصل قرره الإسلام واعتنى به لما له من الأهمية في خلوص قلوب العباد وأعمالهم لله وحده، ثم اتحادهم على تقوى الله والولاء لدينه، وعلى هذا دلت نصوص كثيرة منها: قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72] . تشمل تفاسير السلف للزور كل ما كان من خصائص الجاهلية، وشرائع الطاغوت، ففسر بالشرك وعبادة الأصنام وبالكذب والفسق، واللغو والباطل، والغناء وأعياد المشركين، ومجالس السوء والخنَى، كما

فسر بالشهادة الكذب1. ورجح ابن كثير أن المراد بقوله: {لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ} . أي: لا يحضرونه حيث قال: "والأظهر من السياق أن المراد لا يشهدون الزور، أي لا يحضرونه، ولهذا قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} . أي لا يحضرون الزور، وإذا اتفق مرورهم به مروا، ولم يتدنسوا منه بشيء، ولهذا قال: {مَرُّوا كِرَامًا} "2. وهذه حالة المؤمن الحق مع الزور والباطل وأهله لا يشهده، فلا يشاهده، ولا يستمع إليه، ولا يقوله من باب أولى ولا يخالط أهله، وكيف يتفق له ذلك وقد حبب الله إليه الإيمان، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان؟ فالدافع إلى شهود الزور غير موجود عنده، فهو لا يحبه وليس من أعماله، وقد بيّن الله هذا المعنى بقوله: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55] .

_ 1 انظر: جامع البيان لابن جرير 19/48، 49، وتفسير القرآن العظيم 6/2410. 2 تفسير القرآن العظيم، ط الشعب 6/140.

وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان:6] . فسر لهو الحديث في هذه الآية بالغناء، وهو الأشهر، كما فسر بأخبار الأعاجم وملوك الروم والشرك1. واختار ابن جرير رحمه الله أنها عامة في كل كلام يصد عن آيات الله واتباع سبيله2. وقال ابن القيم رحمه الله: "ولا تعارض بين تفسير لهو الحديث بالغناء وتفسيره بأخبار الأعاجم وملوكها وملوك الروم، ونحو ذلك مما كان النضر بن الحارث3 يحدث به أهل مكة ليشغلهم به عن القرآن فكلاهما لهو الحديث"4. وإذا تبيّن عموم الآية لكل ما يمت للجاهليين بصلة، من أغانيهم

_ 1 انظر: جامع البيان لابن جرير 21/62، وإغاثة اللهفان لابن القيم 1/258. 2 انظر: جامع البيان لابن جرير 21/63. 3 النضر بن الحارث بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي القرشي، أحد أعداء الله الذين كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة وعادوه، أخذ أسيراً يوم بدر، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله وهو راجع إلى المدينة. انظر: جمهرة أنساب العرب لابن حزم 126، والبداية والنهاية 3/306. 4 إغاثة اللهفان 1/258.

ولغوهم وباطلهم وفحشهم وقصصهم وآدابهم، وتبين أن الذين كانوا يشترونها وينشرونها هم الكفار ليصدوا بها الناس عن سبيل الله، إذا تبين هذا، فانظر إلى حال وسائل الإعلام المسموعة والمرئية في البلاد الإسلامية، كيف أنها جمعت ذلك كله، وزادت أن عرضت لهو الحديث من قصص الكفار والمشركين والفاسقين وأخبارهم وأغانيهم وآدابهم في أفلام ومجلات ونحوها، قد اعتنى بزخرفتها وحُشِد فيها كل ما قدر عليه من وسائل التأثير والإقناع والإغراء. والذين يشترونها ويبثونها بين المسلمين هم من المنتسبين إلى الإسلام الذين حملهم الله مسئولية تعليم الناس وإرشادهم والمحافظة على دينهم وأخلاقهم، فهم يساهمون في صد المسلمين عن دينهم وإشغالهم بما يهدم الدين والخلق، يفعلون ذلك بأيديهم وأيدي الكافرين، فالمسلم يشتري بماله، والكافر ينتج ويصدر، فما أقرب من هذه حاله ممن قال الله فيهم: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2] . فالاعتبار اليوم بحال المسلمين الذي يخربون عقائدهم وأخلاقهم-التي هي أعظم من البيوت- بأيديهم وأيدي الكافرين، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فالواجب على المسلمين الاكتفاء بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالخير كل الخير في الاهتداء بهما.

قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} [الإسراء:9] . وقال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23] . فوصف الله كتابه بأنه أحسن الحديث لما يشتمل عليه من العلوم الحسنة، والأخلاق والآداب الفاضلة، والعبر القيمة، فهو حسن لما يشتمل عليه من الدلائل والمعاني، كما أنه حسن لفصاحته وبلاغته بإعجازه، ثم بيّن تعالى أثر كلامه على عباده المؤمنين، وأنّه هو الطريق إلى هدايتهم لا طريق غيره، حيث قال: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} ومن تركه إلى غيره ضل. وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسلام دِيناً} [المائدة:3] . والكامل غني بنفسه عن غيره. وقال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا

الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف:3] . قال ابن كثير -رحمه الله-: "وبما يناسب ذكره عند هذه الآية الكريمة المشتملة على مدح القرآن، وأنه كاف عن كلّ ما سواه من الكتب ... "1 ثم ساق عدة نصوص تدل على هذا الأصل وهو الاكتفاء بالكتاب والسنة. وقبله الإمام البخاري رحمه الله أفرد لتقرير هذا الأصل كتاباً في "الجامع الصحيح" هو كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" جعل من ضمن أبوابه باباًَ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء " ثم أتبعه بباب "كراهية الاختلاف". وهو بذلك يشير إلى أن من لوازم الاعتصام بالكتاب والسنة الاكتفاء بالوحي، وعدم سؤال أهل الكتاب عن شيء، وغيرهم من باب أولى لكونهم ليسوا بأهل كتاب، ثم في تعقيبه بباب "كراهية الخلاف" إشارة إلى أن في الأخذ من الأمم الأخرى، فتح لباب الخلاف حيث تختلف المشارب الفكرية، فتختلف القلوب، والله أعلم. وعلى هذا الأصل سار سلف هذه الأمة من أئمة التابعين ومن تبعهم مقتدين بمن قبلهم من الصحابة، فكانوا ينكرون على كل من عدل عن الكتاب والسنة، وتطلب العلم في غيرهما.

_ 1 تفسير القرآن العظيم، ط الشعب 4/295.

قال ابن حجر رحمه الله: "وقد توسع من تأخر من القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم، ولم يقتنعوا بذلك حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان، وجعلوا كلام الفلاسفة أصلاً يردون إليه ما خالفه من الآثار بالتأويل ولو كان مستكرهاً، ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي رتبوه هو أشرف العلوم وأولاها بالتحصيل، وأن من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه فهو عاميّ جاهل، فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف، واجتنب ما أحدثه الخلف"1. ومن الأئمة الذين كانت لهم مواقف بارزة في تقرير هذا الأصل والدفاع عنه: الإمام أحمد -رحمه الله- حيث وقف في وجه الشاربين من مستنقعات الفلاسفة مدافعاً عن الكتاب والسنة، مبيناً أن ما دلاّ عليه هو الحق الذي لا يجوز العدول عنه، ولا معارضته. ومنهم شيخ الإسلام أحمد بن تيمية -رحمه الله- فقد كان جهاده دعوة عامة للمسلمين لإعادة جميع أحوالهم وشئون حياتهم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ونبذ ما خالفهما من المناهج والأحوال، وبيّن ضلال من حاد عنهما من الفِرق والأفراد. وعلى هذا الطريق سار العلماء والدعاة المصلحون الذي اقتفوا نهج السلف الصالح، حتى أخذ الراية الشيخ الموفق والعالم المسدد محمد بن عبد

_ 1 فتح الباري 13/253.

الوهاب، فركز على هذا الأصل مبيناً أن التفريط في المحافظة عليه هو أساس الداء والعودة إليه هو رأس الدواء، وأقام على هذا الأصل دعوته وجهاده، وألف كتابه المبارك المشهور: "كتاب التوحيد" لتقريره، كما أفرد باباً في كتابه "فضل السلام" ترجم له بقوله: "وجوب الاستغناء بمتابعة الكتاب والسنة عن كل ما سواه" 1. وإذا تبيّنت أهمية هذا الأصل، وأن على الأمة -في سبيل تحقيق الوحدة الفكرية- أن تعتني بالوحي وتستغني به، وتحارب كل فكر دخيل، وتقطع منافذه، إذا تبيّن هذا فإن تطهير المجتمع المسلم من ذلك يتم في نظري بثلاث خطوات هامة: الخطوة الأولى: هي عزل المجتمع عن أفكار وثقافات وآداب المجتمعات الجاهلية. فكما أن الأمم تقوم بمكافحة الأمراض الحسية، ومقاومة أسباب انتشارها، فكذلك الأمراض الفكرية لا بد من منع أسباب انتشارها، ومقاومة الوسائل الناقلة لها، وتطهير الوسائل التي بأيدينا في جميع المجالات الثقافية والإعلامية والتعليمية والتربوية من شوائبها. فهذه الخطوة لا بد منها لتحصين المجتمع ضد الأفكار المخالفة.

_ 1 مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، القسم الأول، العقيدة والآداب الإسلامية ص211، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط: الأولى.

وهي خطوة قد فرط فيها المسلمون اليوم، فوسائل الإعلام والاتصال الثقافي والتعليمي والتربوي القائم في البلاد الإسلامية تنشر أفكار وآداب وفلسفة الأمم الجاهلية على أوسع نطاق من خلال الأفلام والمسرحيات والأغاني والمجلات والمقابلات. والمكتبات يوضع فيها ما هبّ ودبّ من المطبوعات الوافدة من كل مكان، وتفتح أما المسلم أيا كان مستوى وعيه وتعليمه، ليطلع على ما شاء دون موجه أو رقيب، وقد تبنت كثير من الدول الإسلامية دعوى الحرية الفكرية، وأقامت مؤسساتها الفكرية على أساسها. ولا شك أن هذه الفوضى الفكرية ستولد قناعات واتجاهات تخالف النهج الإسلامي القويم، وذلك سيوجد خلافاً فكرياً يعمل على تمزق المجتمع وتنافره، كما أن التفريط في هذه الخطوة يعتبر من أعظم الثغرات التي يتسلل منها الحاقدون على الإسلام، فينشرون المبادئ الهدامة، والأفكار الخبيثة التي تولد الشك والارتياب والكفر والزندقة. الخطوة الثانية: تأتي بعد العزل الفكري، وهي عملية التطعيم لأفراد المجتمع ضد تلك الأفكار الخبيثة التي يخشى من تسللها إلى المجتمع أو تعرض الأفراد لها عند سفرهم أو احتكاكهم ببعض الجاهليين. ويتم ذلك بنقد وتفنيذ الأسس والمبادئ التي تقوم عليها تلك الأفكار ودحض حججها وبيان بطلانها، وبالمقابل التركيز على بيان

محاسن الإسلام ومزاياه العظام. ثم تكوين القدرة العلمية لدى المسلم للدفاع عن عقيدته وقيمه عند المواجهة، وتبصيره بوسائل الأعداء المباشرة وغير المباشرة للغزو الفكري والثقافي والحضاري. وهذه الخطوة قد قام بها علماء الإسلام ومفكروه ودعاته إلى حد كبير، حيث نقدوا مقومات المجتمعات الجاهلية القديمة والحديثة، وبينوا ما فيها من التناقض والمخالفة للمنقول والمعقول، وما ينتج منها من أضرار محسوسة. إلا أن هذا العطاء القيم ظل محصوراً عند العلماء والدعاة وطلاب العلم وعلى رفوف المكتبات، وفي الجامعات التي تُعنَى بالدعوة والدراسات الإسلامية، وذلك أن الإعلام في معظم الدول الإسلامية لم يحمل رسالة تبليغه إلى جمهور الأمة ولم ينتفع منه، بل هو في كثير من الأحيان يضاده. وكذلك الحال في التعليم العام وغيره من المجالات التي لها دور في التأثير على الناحية الفكرية لا يزال بعيداً كل البعد عن مسايرة ذلك العطاء، بل هو يسير في اتجاه نشر وتأييد بعض الأفكار الجاهلية، إن لم يكن قد أسس عليها وانطلق منها. الخطوة الثالثة: تنقية الفكر المنسوب للإسلام في جميع ميادينه من الفكر الدخيل الزائف.

وهذه الخطوة من خطوات التطهير لازمة لتحقيق الوحدة الفكرية، ذلك أن الفكر الدخيل كان من أهم أسباب تفرق المسلمين في القديم والحديث. ويتم ذلك -بإذن الله تعالى- إذا اتحدت همم العلماء والدعاة المخلصين، وجميع العاملين في خدمة الإسلام، والساعين من أجل عزته، على إرجاع أحوال المسلمين ومناهجهم وأوضاعهم إلى الكتاب والسنة، والاتفاق على التلقي من الوحي المطهر، ونبذ ما استمد من غيره. قال الشيخ محمد قطب: "وأول ما نبدأ به من هذا الجهد، هو تصحيح منهج التلقي ... من أين نتلقى فهمنا لهذا الدين؟ من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف الصالح رضوان الله عليهم؟ أم مما دخل على هذا الفهم الواضح المستقيم من أفكار دخيلة ومنحرفة، بتأثير عوامل متعددة في أثناء المسيرة الطويلة للأمة الإسلامية، واحتكاكها الدائم بأخلاط من المذاهب، وأخلاط من الأفكار؟ ‍. فإذا صححنا منهج التلقي، وصححنا بناء على ذلك ما انحرف في حس المسلمين المتأخرين من مفاهيم الإسلام الرئيسية، بقيت علينا مهمة أخرى لا تقل خطراً، هي مهمة التربية على المفاهيم الصحيحة لهذا الدين. والتربية هي الجهد الحقيقي الذي ترجى معه الثمرة، ولكنه لن يؤت ثمرته حتى يقوم على أساسه الصحيح"1.

_ 1 مفاهيم ينبغي أن تصحح، محمد قطب، ص13، 14 دار الشرق القاهرة، ط: الثالثة، 1408.

فتوحيد منهج التلقي وتطهيره وإخلاصه للوحي، قضية هامة لها أثرها البارز في وحدة المسلمين الفكرية والسلوكية، كما أن التفريط فيها من أعظم أسباب فرقتهم وشتاتهم. وهذه الخطوة تعتبر بحق طرف الخيط وبدايته بالنسبة للمهتمين بالدعوة الإسلامية، فإن قدر الله لهم الإمساك بها وجمع الجهود عليها، كانت البداية صحيحة، والنتائج بإذن الله طيبة فعّالة في سبيل تصحيح المفاهيم الخاطئة التي طالماً كانت عائقاً أمام توحيد المسلمين، وإقامة العبودية الحق الجالبة لولاية رب العالمين، فيدخل المسلمون مضمار الكفاح بجهود موحدة وولاية من الله مؤيدة، فيتحقق بهم بذلك ما وعدهم الله من النصر والتمكين. الاتجاه الثاني: التزكية. والمراد أن العمل من أجل تحقيق الوحدة الفكرية بين المسلمين في سبيل توحيدهم وتقوية الرابطة الإيمانية بينهم، كما أنه يستلزم التطهير-كما تقدم بيانه- فهو يستلزم أيضاً تزكية الأفراد بنشر العلم بينهم وتلقينهم العقائد الإسلامية بأدلتها، كما دل على ذلك كتاب ربنا، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وسار عليه سلفنا الصالح رضوان الله عليهم. ومن ثم تربيتهم على الأخلاق الفاضلة، والآداب الحميدة، وإعطاء كل فرد ما يحتاج إليه من أحكام الشريعة، لكي يُعبد الحق ويعامل الخلق على بصيرة.

وفي سبيل تحقيق ذلك تسخر جميع طاقات الأمة الفكرية ووسائل الاتصال العامة والتعليم والتربية والتثقيف، في خدمة هذا الهدف العام. ومن ذلك الاهتمام بالأسرة التي هي الوحدة الاجتماعية الأولى في المجتمع، وهي أول مدرسة يتلقى منها الطفل مبادئه ومفاهيمه. فلا بد من تأسيسها على الارتباط الوثيق بالمعتقدات والشرائع والأخلاق والآداب الإسلامية، وتاريخ الأمة وهمومها وأهدافها وتحدياتها، وأن يسودها الاعتزاز بالإسلام، والشعور بالمسئولية عن إقامته، والدعوة إليه، والدفاع عنه، والحماس لقضاياه. وتطهير الأسرة من الثغرات التي تتسلل منها أفكار الجاهلية وخصائصها مهم وضروري. وأهم هذه الثغرات: أجهزة التلفاز والفيديو والإذاعات والجرائد والكتب ما كان منها ينشر الفكر والأدب الجاهلي، وكذلك الاختلاط بالكفار والمشركين والمنافقين، كاتخاذهم خدماً أو سائقين، أو مصادقة الأسر الكافرة، أو سفر الأسرة أو بعض أفرادها إلى بلاد الكفر والفسوق. ومن أهم مقومات تزكية الأسرة إدراك كل من الزوجين مسئوليته ودوره، وتعلمه أمر دينه، والحقوق المناطة به، وتخصيص وقت كاف لتعلم ذلك. كما أن العناية بالمرأة مهم جداً في صلاح المجتمع وسلامة وحدته

الفكرية. فصلاح المرأة سبب في صلاح الجيل -بإذن الله-، حيث إنها المدرسة والمربية الأولى لأطفالها، كما أن فسادها فساد للجيل الذي تتولى تربيته. ولذلك يوجه الأعداء مخططات محمومة مسعورة، وبوسائل مختلفة لإفساد النساء لعلمهم أنهن أمهات الجيل القادم، وكسبهن يعني كسب ذلك الجيل، ولما لهن من الأثر -عند فسادهن- في إفساد الرجال وتخريب البيوت، وشتات الأسر. وقد اهتم الإسلام بتنظيم وبيان جميع ما يخص المرأة، فما على الزوجين إلا تعلم ذلك والعمل به، كما أهتم علماء الإسلام ومفكروه بهذا الجانب، ومؤلفاتهم تزخر بها المكتبات الخاصة والعامة. وليست هذه مسئولية الزوجين فقط، بل المجتمع يجب عليه أن يتخذ الأسباب التي تضمن تعلم كل منهما ما يهمه ويحتاج إليه من أمور الدين، ويتم ذلك بالعناية بالجوانب التالية: 1- الاهتمام بالتعليم والتربية في جميع مراحله، وإقامة أنظمتها واستمداد مناهجها وسياساتها من الكتاب والسنة، والعناية بالمدرسين والمُربين ليكونوا من المتحمسين للإسلام، الهادفين لإخراج جيل يحمل رسالة الإسلام. 2- تسخير وسائل الإعلام في الدعوة والتعليم والتوجيه السليم المنبثق من تعاليم الإسلام، وضبط قضية الترفيه بالضوابط الشرعية، لكي

لا تتحول إلى إشغال وصد عن سبيل الله. 3- العناية بالمسجد والعمل على أن يؤديَ دوره التعليمي التربوي لكافة أفراد المجتمع. فهذه الوسائل مع أنها مؤثرة جداً في سلامة الأسرة وتزكيتها إذا استغلت استغلالاً حسناً، فهي أيضاً قنوات فكرية هامة مؤثرة في الوضع الفكري العام للمجتمع، فلا بد من تطهير وتزكية وتوحيد لما يبث فيها، لتساهم في تحقيق الوحدة الفكرية المنشودة للمجتمع المسلم. فينبغي أن تكون هذه الوسائل جميعاً تخدم هدفاً واحداً هو التوجيه والتعليم والتربية والتثقيف والترويح في المجتمع المسلم من منطلق تعاليم الإسلام وفي اتجاه تحقيق أهدافه. فرسالتها واحدة، ويكمل بعضها بعضاً، في سبيل تحقيق وحدة فكرية وسلوكية في مجتمع يحافظ على قيمه الدينية مع أخذه بمعطيات العصر الحضارية، وينتفع بها في مصالح دينه ودنياه. وخلاصة هذا المطلب: أن الوحدة الفكرية -القائمة على المفهوم الصحيح للإيمان بالله كما قرره الكتاب والسنة وسلف الأمة الصالح- أساس هام لوجود الرابطة الإيمانية بين أفراد المجتمع المسلم، كما أن المحافظة عليها لازمة لاستدامة تلك الرابطة وتلاحم الأفراد واتفاقهم، وعدم اختلافهم. وأهم العوامل اللازمة للمحافظة على الوحدة الفكرية أمران

أساسيان: الأول: تطهير الفكر الإسلامي من الفكر الدخيل، وعزل المجتمع المسلم عن أفكار المجتمعات الجاهلية، وجميع خصائصها، ومحاربة الوسائل الناقلة لها، وتطعيم أفراد المجتمع ضد الأفكار المحتمل تسللها ببيان بطلانها وتناقضهما وما تجره من الشر والدمار وسوء العاقبة. الثاني: تزكية أفراد المجتمع بالتوسع في نشر عقائد الإسلام وتعاليمه المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على فهم السلف الصالح وأصولهم، والعناية بالأسرة، وتسخير كافة الجهود والوسائل لتحقيق هذا الغرض، وأن تكون رسالة التعليم والتربية والإعلام والمسجد واحدة هي رسالة الإسلام ووظيفتها هي الدعوة إلى الله، والدفاع عنه، وإعداد أجيال تطبق الإسلام تطبيقاً سليماً، وتتحمس له، وتنهض به، عالمة عاملة مؤيدة.

المبحث الثاني: العمل على سلامة مقومات المجتمع المسلم

المبحث الثاني: العمل على سلامة مقومات المجتمع المسلم والمقصود أنه إذا تقرر أن الربطة بين أفراد المجتمع المسلم منوطة بسلامة وعمق الإيمان، وإقامة العبادات والأخلاق والنظم المنبثقة منه، وأن استدامة الرابطة الإيمانية مرهونة بسلامة واستدامة ذلك، كان من الواجب على المجتمع العمل على سلامة مقوماته الإيمانية. ويكون ذلك بالتواصي بالحق والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على ذلك، والصبر والمثابرة في سبيل تحقيقه. فإقامة هذه الشعائر الإيمانية، كما أنها لازمة لقوة ومتانة الرابطة الإيمانية، هي أيضاً حصن يقي المجتمع من الفكر الخبيث وسائر الشرور. وليس الغرض ذكر تفاصيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما بيان أثر هذه الشعيرة الإيمانية الاجتماعية في تحصين المجتمع من الأفكار الخبيثة، الذي هو موضوع هذا البحث. وسوف أتكلم في هذا الأمر من خلال مطلبين: المطلب الأول: أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكونه واجباً اجتماعياً. المطلب الثاني: أثر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في تحصين المجتمع من الأفكار الهدامة.

المطلب الأول: أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكونه واجبا اجتماعيا

المطلب الأول:أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكونه واجباً اجتماعياً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح للخلق من شعائر الإيمان التي تميز بها أهل الحق من الأنبياء والرسل وأتباعهم، فقد كانت مهمتهم الأمر بالمعروف من إقامة التوحيد وعبادة الله، وإقامة العدل والتزام الأخلاق الفاضلة، والنهي عن المنكر من الشرك والعصيان والظلم والإفساد في الأرض. قال تعالى قاصاً ما قاله لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17] . وقال تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود:116] . وكان حض نبينا صلى الله عليه وسلم من هذه الوظيفة أكبر من غيره، حيث أمر أمته بكل معروف، ونهاهم عن كل منكر.

قال ابن تيمية -رحمه الله-:"قوله تعالى في صفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَر} [الأعراف:157] .هو بيان لكمال رسالته، فإنه صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر الله على لسانه بكل معروف، ونهى عن كل منكر، وأحل كل طيب، وحرم كل خبيث"1. فهو صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل عليهم الصلاة والسلام وأعظمهم بركة على الناس، حيث دعا إلى كل معروف، ونهى عن كل منكر. وهذا الأمر بعينه هو سر أفضلية أمته الذين ساروا على هداه، وتأسوا به في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] . والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة اجتماعية، يقوم بها كافة المؤمنين رجالاً ونساء، كل بحسب قدرته. قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] .

_ 1 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق د. صالح المنجد، ص10، دار الكتاب الجديد، بيروت، ط: الأولى 1396هـ.

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم محملاً الأفراد مسئولية المجتمع: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان "1، فهو من أهم وظائف مجتمع المؤمنين إذ مكنهم الله في الأرض، وإقامته لازمة لاستمرار التمكين. قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41] وعلى المجتمع أن يجند طائفة من أفراده للقيام بهذا الأمر والعناية به: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] . وقد أشار شيخ الإسلام إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة اجتماعية بقوله: "وبنو آدم لا يعيشون إلا باجتماع بعضهم مع بعض، وإذا اجتمع اثنان فصاعداً فلا بد أن يكون بينهما ائتمار بأمر، وتناه عن أمر ... وإذا كان الأمر والنهي من لوازم وجود بني آدم، فمن لم يأمر بالمعروف الذي أمر به الله ورسوله، وينهى عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله، وإلا فلا بد أن يأمر وينهى، ويؤمر وينهى إما بما يضاد

_ 1 رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، رقم الحديث 49 1/69.

ذلك، وإما بما يشترك فيه الحق الذي أنزله الله بالباطل الذي لم ينزله الله، وإذا اتخذ ذلك ديناً كان ديناً مبتدعاً باطلاً"1. وقال الدكتور عبد الكريم زيدان: "ومن خصائص النظام الاجتماعي في الإسلام تحميل الفرد مسؤولية إصلاح المجتمع بمعنى أن كل فرد فيه مطالب بالعمل على إصلاح المجتمع، وإزالة الفساد منه على قدر طاقته ووسعه، والتعاون مع غيره لتحقيق هذا المطلب. قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] . ومن أعظم التعاون، التعاون على إصلاح المجتمع، وإذا كان الفرد مطالباً بإصلاح المجتمع، فمن البديهي أنه مطالب بعدم إفساده، قال تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف:56] "2. فالمجتمع المسلم يتكاتف أفراده رجالاً ونساء ويتعاونون في مجال الإصلاح، ونشر الخير ومنع الفساد في الأرض، في مقابل المنافقين الذين يسعون إلى عكس ذلك. قال تعالى واصفاً المؤمنين: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ

_ 1 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص66، 67. 2 أصول الدعوة ص122.

يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] . وقال واصفاً المنافقين: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة:67] . وعلى هذا فإقامة هذه الوظيفة من أهم الحصون التي يحافظ بها المؤمنون على سلامة مجتمعهم من فكر المفسدين، وترويج انحرافهم الفكري والسلوكي. والمؤمنون بحكم ما جعل الله بينهم من الولاية، والتعاون على البر والتقوى، عليهم أن يقوموا بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خير قيام، "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض"، وذلك في مجابهة المنافقين الذين يعيثون في المجتمع فساداً، ويأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف. وهذه المجابهة بين الفئتين مستمرة في كل زمان ومكان وجد فيه مجتمع مسلم، وأي الفئتين ظهرت كان لها التأثير الفعال في توجيه المجتمع. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة هامة، يترتب عليها سلامة المجتمع من عوامل الفساد، وكيد المفسدين، وينتج عنها استمرار النهج القويم للمجتمع، والمحافظة على مقوماته. ولا أدل على أهمية هذه الشعيرة المباركة في مجابهة العاملين على إفساد المجتمع الإسلامي، وفي العمل على سلامته ونجاته من ذلك المثل

الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم، حيث شبه المجتمع المسلم بالسفينة، فقال: " مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعاً "1. قال الشيخ محمد الشوكاني -رحمه الله- مبيناً الأثر الاجتماعي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضرورة التعاون والتكاتف في سبيل إقامته، والأثر العكسي للتفريط في ذلك: "فاعلم أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر هما من أعظم عُمُد الدين، لأن بهما حصول مصالح الحياة الأولى والأخرى، فإن كانا قائمين قام بقيامها سائر الأعمدة الدينية، والمصالح الدنيوية، وإن كانا غير قائمين لم يكثر الانتفاع بقيام غيرهما من الأمور الدينية والدنيوية. وبيان ذلك: أن أهل الإسلام إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهم ثابت الأساس، والقيام به هو شأن الكل والأكثر من الناس، والمعروف بينهم معروف، وهم يد واحدة على إقامة من زاغ عنه، ورد

_ 1 رواه البخاري، كتاب الشركة، باب هل يقرع في القسمة ... رقم 2493 5/132، وفي كتاب الشهادات، باب القرعة في المشكلات رقم 2686 5/292.

غواية من فارقه، والمنكر لديهم منكر، وجماعتهم متعاضدة عليه متداعية إليه، متناصرة على الأخذ على يد فاعله وإرجاعه إلى الحق، والحيلولة بينه وبين ما قارفه من الأمر المنكر، فعند ذلك لا يبقى أحد من العباد في ظاهر الأمر تاركاً لما هو معروف، ولا فاعلاً لما هو منكر، لا في عبادة، ولا في معاملة فتظهر أنوار الشرع، وتطلع شموس العدل، وتهب رياح الدين، وتعلن كلمة الله في عباده، وترتفع أوامره ونواهيه، وتقوم دواعي الحق، وتسقط دواعي الباطل، وتكون كلمة الله هي العليا، ودينه هو المرجوع إليه، والمعول عليه، وكتابه الكريم وسنة رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم هما المعيار الذي توزن به أعمال العباد، وترجع إليهما في دقيق الأمور وجليلها، وبذلك تنجلي ظلمات البدع، وتنقصم ظهور أهل الظلم، وتنكسر نفوس أهل معاصي الله، وتخفق رايات الشرع في أقطار الأرض، ويضمحل جولان الباطل في جميع بلاد الله عز وجل. وأما إذا كان هذان الركنان العظيمان غير قائمين، أو كانا قائمين قياماً صورياً لا حقيقياً، فهناك كم من بدع تظهر، وكم من منكرات تستبين، وكم من معروف يخفى، وكم من جولات للعصاة وأهل البدع تقوى وترتفع، ومن ظلمات بعضها فوق بعض تتراكم، فتعمى الطريق السوي على الناس، ومن هرج يمرج في العباد، ويبرز للعيان، وتقر به عين الشيطان، وعند ذلك يكون المؤمن كالشاة، والعاصي كالذئب المفترس.

وهذا بلا شك ولا ريب يقضي بمحو رسوم الدين، وذهاب نور الهدى وانطماس معالم الطريق"1. وبهذا يتبين أثر إقامة هذه الشعيرة الإيمانية الاجتماعية -الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- في تحصين المجتمع المسلم ضد تسلل الأفكار المخالفة والشرور المفسدة، وأنه دعامة يحفظ الله بإقامته مقومات المجتمع المسلم.

_ 1 رسالة: شرح الصدور بتحريم رفع القبور، لمحمد بن علي الشوكاني، ص33، 34، ضمن مجموعة رسائل، نشر الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ط السادسة 1411.

المطلب الثاني: أثر القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في تحصين المجتمع من الأفكار الهدامة

المطلب الثاني: أثر القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في تحصين المجتمع من الأفكار الهدامة تقدم الكلام على أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للمجتمع المسلم، وأن ذلك الأمر من صفات أهل الحق من النبيين وأتباعهم، وأنه من أخص وظائف هذه الأمة وسر أفضليتها، وهو الوسيلة التي يجابهون بها كيد المفسدين ويتحصنون به من تسلل الشرور إلى مجتمعاتهم. وحيث إن هذا البحث يدور حول آثار الإيمان وشعائره في وقاية المؤمنين من الأفكار الهدامة، فسوف أشير في هذا المطلب إلى أثر هذه الشعيرة في هذه الناحية خاصة. إن المنافقين والحاقدين على هذا الدين يدركون أن دعوة المسلمين مباشرة إلى ترك الدين، أو المجاهرة بما يخالفه أمر ينفر منه المؤمن، ويتحفزون لمجابهة الداعين إليه، لذلك فهو يلجؤون إلى أساليب غير مباشرة تنطوي على الخبث والتدرج، ووسيلتهم في ذلك نشر الأفكار الضالة المستوردة من الجاهليات القديمة والحديثة، وإلباسها لباس الإسلام بزخرف القول وصنوف من التلبيسات والشبهات بقصد حرف المفاهيم لدى المسلمين.

وهذا الأسلوب لا ينجح إلا إذا جاهر أولئك المبطلون بدعواتهم وهُيئت لهم الفرصة لمخاطبة أفراد المجتمع، وذلك لا يتسنى لهم إلا بغياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الواعي الحازم، لذلك يجب أن تكون الأمة يقظة مهتمة بذلك، محافظة على وسائل الاتصال العامة من أن يتطرق إليها خلل يسمح للمفسدين بمخاطبة المجتمع ونشر تلبيساتهم. "إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمانة للبيئة من التلوث الفكري والأخلاقي، وهذا النوع من التلوث لا يقل خطورة وفتكاً عن التلوث الحسي الذي ينجم -مثلاً- عن الحرب الجرثومية التي تفزع الناس، وتقض مضاجعهم، أو غيرها من وسائل التلوث. فإتاحة الفرصة مثلاً لأهل الرذيلة ليمارسوا الفساد من خلال الأغنية والمجلة والكتاب، والأجهزة المرئية، وبيوت الدعارة، وغيرها، هذا يلوث البيئة العامة وينشر الوباء الأخلاقي الفاتك في المجتمع، مما يعسر مهمة المصلحين ويجعلهم يقفون أحياناً عاجزين عن مقاومة تيار الانحلال. وقل مثل ذلك في نشر الشبهات الفكرية التي تشكك الناس في دينهم من خلال الكتاب، والمجلة والجريدة، والشريط، والقصيدة ونحوها، فإن في ذلك أيضاً تلويثاً للبيئة من الناحية الفكرية، مما يجعل كثيراً من الناس يتخبط في بحر الشبهات التي تتجاذبه من هنا وهناك ... والمجتمع الذي تظهر فيه المنكرات -فكرية أو أخلاقية- يتعرض لهزات عظيمة لا يعلم مداها إلا الله، ولهذا قيل: إن المنكر إذا خفي، لم

يضر إلا صاحبه، أما إذا أعلن، فإنه يضر الخاصة والعامة ... وكم هو محزن أن ينشأ بعض أطفال المسلمين في بيئات ملوثة بالسموم الفكرية أو الأخلاقية أو غيرها من سموم الفساد، فيرضعون الرذيلة مع حليب الأم، ويستنشقون الهواء الملوث بالجراثيم المعنوية الفاتكة، فينشأ أحدهم ضحل الثقافة، بعيداً عن الدين، منحرف الفكر والسلوك، غاية علمه خليط من قمامات الأغاني، والتصورات التائهة، والاهتمامات التافهة لا يكاد يقيم آية من القرآن الكريم، يستنكر المظاهر الإسلامية إذا رآها لأنه لم يعتدها ولم يألفها، فيستوحش مثلاً من منظر المرأة المحجبة العفيفة، ويستغرب من صنيعها، لأنه ترعرع في بيئة ملوثة بضروب الجراثيم السلوكية والفكرية"1. ومحصلة هذا الوضع التمزق الفكري، والاختلاف في القناعات والمفاهيم، ثم التبيان في السلوك والمناهج، ثم التحزب والتكتل على تلك المناهج، ونهاية المطاف التناحر والخصام. فالبداية كانت في التفريط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو سوء استخدامه، كالإنكار عن جهل أو الغلو في الإنكار. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مبيناً العلاقة بين الاختلاف

_ 1 حتى لا تغرق السفينة ص22-24.

والتفريط بهذه الوظيفة: "وإذا كان الكفر والفسوق والعصيان سبب الشر والعدوان، فقد يذنب الرجل والطائفة، ويسكت آخرون عن الأمر والنهي، فيكون ذلك من ذنوبهم، وينكر آخرون إنكاراُ منهياً عنه، فيكون ذلك من ذنوبهم، فيحصل التفرق والاختلاف والشر، وهذا من أعظم الفتن والشرور قديماً وحديثاً، إذ الإنسان ظلوم جهول، والظلم والجهل أنواع، فيكون ظلم الأول وجهله من نوع، وظلم كل من الثاني والثالث وجهلهما من آخر وآخر. ومن تدبر الفتن الواقعة رأى سببها ذلك، ورأى أن ما وقع بين أمراء الأمة وعلمائها، ومن تبعهم من العامة في الفتن هذا أصلها"1. فحصول الفتن والتفرق وضع حاصل من ظلم مركب من بغْي وانحراف بعض أفراد المجتمع، والسكوت أو الإنكار غير السديد من البعض الآخر. قال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين مبيناً أثر الإخلال بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حصول الاختلاف والتفرق: "فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعامتان قويتان لبقاء الأمة وعزتها ووحدتها، حتى لا تتفرق بهم الأهواء وتتشتت بها المسالك، ولذلك كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فرائض الدين على كل مسلم ومسلمة مع

_ 1 رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص76، 37.

القدرة، {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:104، 105] . فلولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتفرق الناس شيعاً، وتمزقوا كل ممزق كل حزب بما لديهم فرحون ... "1. فالفرقة والاختلاف كما أنها النتيجة الحتمية للفوضى الفكرية السائدة في المجتمع بسبب غياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي أيضاً أنسب الظروف لاستعار الأفكار الهدامة، ونشاط المروجين لها، وانقسام المجتمع وتحزبه عليها. فبهذا يتبين أثر الإيمان من خلال شعبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في تحصين المجتمع وصيانته من الأفكار الهدامة، وأنه دعامة قوية وهامة يجب المحافظة عليها، والحزم في إقامتها للمحافظة على الأسس التي يقوم عليها المجتمع المسلم.

_ 1 مجالس شهر رمضان 97.

الفصل الثاني: دور ولاية الأمر في حماية المجتمع من الأفكار الهدامة

الفصل الثاني: دور ولاية الأمر في حماية المجتمع من الأفكار الهدامة * ... إقامة ولي الأمر -ويسمى إمام المسلمين أو الخليفة- واجب من واجبات الدين، ومن أهمها، لما يترتب عليه من صلاح الدين والدنيا في المجتمع المسلم. قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين لا قيام إلا بها"1. وإذا كان واجباً من واجبات الدين فهو شعيرة من شعائر الإيمان التي كلفت بها الجماعة، وعلى ذلك كان دور الإمام وأعوانه في صيانة المجتمع المسلم من الأفكار المنحرفة وسائر الفساد أثراً من آثار الإيمان. وقد دل على وجوب تنصيب الإمام نصوص من الكتاب والسنة والإجماع، منها: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] . وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ... ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية "2. وقال صلى الله عليه وسلم: " لا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة إلا أمروا عليهم

_ 1 السياسة الشرعية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص217. 2 رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن ... ح1851 3/8.

أحدهم "1. وفي رواية: " إذا خرج ثلاثة في سفر، فليؤموا أحدهم "2. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- تعليقاً على هذا الحديث: "فإذا كان قد أوجب في أقل الجماعات، وأقصر الاجتماعات أن يولى أحدهم، كان هذا تنبيهاً على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك"3. وليس الغرض الكلام على التفاصيل المتعلقة بالإمامة، وإنما بيان أمرين هامين لهما صلة بموضوع البحث:

_ 1 رواه الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو، المسند بتحقيق أحمد شاكر، رقم الحديث 6647 10/134. وفي سنده عبد الله بن لهيعة: صدوق خلط بعد احتراق كتبه، ولم يتبين أسماع حسن ابن الأشيب منه قبل الاختلاط أم بعده؟ انظر: الكواكب النيرات ص481. فالإسناد فيه ضعف لكن يتقوى بالطرق الأخرى المذكورة بعده إلى حسن لغيره. 2 أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد رقم 2608 3/81، وفي الإسناد حاتم بن إسماعيل وهو:"صحيح الكتاب صدوق يهم". انظر: تقريب التهذيب ص144. ولم يرد في روايات الحديث أنه حدث من كتاب، بل وردت بلفظ حدثني حدثنا حاتم، ولذا ففي الإسناد ضعف، ولكن يتقوى بالطرق الأخرى المتقدمة إلى حسن لغيره، والله أعلم. 3 السياسة الشرعية، في إصلاح الراعي والرعية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، حققه أبو عبد الله علي بن محمد المغربي، ص217، 218، دار الأرقم، الكويت ط بدون، 1406هـ.

الأول: أهم الضوابط التي تعمل على بقاء هذا الحصن متيناً منيعاً: كالعلم بمهام ومقاصد الحكم في الدولة المسلمة، والعزم والحماس لتحقيقها واستعمال الأصلح، والالتزام بالمشاورة. الثاني: وظائف الإمامة ومقاصد الحكم، ومن أهمها واجب الدفاع عن الدين، ومن ذلك مقاومة الأفكار الهدامة والداعين إليها. وسوف أفرد لكل منها مبحثاً مستقلاً، والله المستعان.

المبحث الأول: ضوابط الإمامة في المجتمع المسلم

المبحث الأول:ضوابط الإمامة في المجتمع المسلم والمراد بهذا المبحث بيان الأمور التي بمراعاتها ينضبط أمر الإمامة وتصبح حصناً فعالاً قوياً. إن قيام ولي الأمر ودولته بالدور الأكمل في حماية المجتمع وسلامته لا يتم إلا إذا توفرت فيه مقومات الحكم والاستخلاف. فمع كونه رجلاً مسلماً حازماً قوياً، عدلاً عادلاً، عارفاً بأمور السياسة وشؤون الحكم، جريئاً على إقامة حدود الله لا تأخذه في الله لومة لائم، شجاعاً ذا دراية بمصالح الأمة وسبل تحقيقها، مع حرصه عليها وتقديمه لها1، مع ذلك كله لا بد من مراعاة أمور تعتبر أساسية في صلاح ولي الأمر وقيامه بمهام الحكم من أهمها: أولاً: العلم. يشترط للإمام أن يكون عالماً بالأحكام الشرعية، لأنه مكلف بتنفيذها، والعلم مقدم على العمل2.

_ 1 القاضي أبو يعلى الفراء، وكتابه الأحكام السلطانية، د. محمد عبد القادر أبو فارس ص4، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط الأولى 1400هـ. 2 نفس المصدر ص359، 360.

ويتأكد على السلطان أن يعرف المقصود بالولاية وأنه: "إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسراناً مبيناً، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم"1. فوظيفة الإمام نوع من أنواع الجهاد، بل لا يقوم الجهاد إلا بها، فهو الذي يعقد الألوية، ويسيّر الجيوش، فإذا كان كذلك فغاية الإمام هي غاية المجاهدين وهي: أن تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين لله. فمنصب الإمامة عبادة يتقرب بها إلى الله، يلزم فيها إصلاح النية، وبذل المستطاع في القيام بها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فالواجب اتخاذ الإمارة ديناً وقربة يتقرب بها إلى الله، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات"2. ومع علم ولي الأمر بمقصد الولاية وغايتها، ومعرفة الأحكام الشرعية، والأساليب الوسائل التي تحققها لا بد من معرفة أعداء الأمة، وما ذكر الله من عداوتهم وأساليبهم في الكيد للإسلام وأهله، ومعرفة الفرق والحركات المنحرفة التي ظهرت في عصور الإسلام، والأساليب التي سهلت عملها، بقصد أخذ العبرة والحيطة والحذر من تكرارها، ومعرفة

_ 1 السياسة الشرعية لابن تيمية ص39. 2 ابن تيمية، المصدر السسابق، ص219.

الأساليب التي تسلل من خلالها المنافقون والمبتدعون إلى الحكام حتى تمكنوا من تمرير بعض شرهم من خلال سلطانه، ومعرفة الأخطار والتحديات المعاصرة، والاستعداد لمجابهتها بالخطط المضادة التي تحصن المجتمع وتحاربها وتقمعها. وفي الجملة فإن على الإمام أن يكون عالماً بأهداف المجتمع المسلم، وسبل تحقيقها، عازماً متحمساً للعمل من أجل ذلك، كما يكون عالماً بالأخطار التي تهدده، وسبل مقاومتها والخلاص منها، مندفعاً إلى الأخذ بهذه السبل بكل ما أوتي من حيلة وقوة. وحيث إن الإحاطة بهذه العلوم وتنفيذها، يحتاج إلى جهد عظيم يصعب تحققه في شخص واحد، فقد نص أهل العلم على أن تقريب العلماء وأهل الاختصاص يكمل قصوره في ذلك1. ثانياً: استعمال الأصلح. ولاية أمر الناس أمانة عظيمة، وحيث إنه لا يستطيع شخص واحد -مهما أوتي من قوة وعلم- أن يقوم بجميع مهامّها، لذلك وجب عليه أن يسند أمورها إلى ولاة يعينونه على القيام بها، وبذلك يتحملون هذه الأمانة معه كل فيما أسند إليه، وعليه في ذلك أن يولّي الأصلح الذي هو أهل لحمل تلك الأمانة.

_ 1 أبو يعلى وكتابه الأحكام السلطانية ص360.

والأصل في ذلك قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:58،59] . فالآية الأولى: بيّنت ما يجب على الحكام والأمراء ومن في حكمهم على وجه الإجمال، وهو أداء الأمانات والحكم بالعدل. والثانية: بينت ما على الرعية من السمع والطاعة لله ولرسوله ولأولي الأمر، وأمر ثالث يشترك فيه الطرفان، وهو ردّ الأمر عند النزاع إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "قال العلماء: نزلت الآية الأولى في ولاة الأمور، عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، ونزلت الثانية في الرعية من الجيوش وغيرهم، عليهم أن يطيعوا أولي الأمر الفاعلين لذلك، في قسمهم وحكمهم ومغازيهم، وغير ذلك، إلا أن يأمروا بمعصية الله تعالى، فإذا أمروا بمعصية الله تعالى، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فإن تنازعوا في شيء ردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.. وإذا كانت الآية قد

أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بالعدل، فهذان جماع السياسة العادلة والولاية الصالحة"1. وأداء الأمانات عام لجميعها، قال ابن كثير -رحمه الله-: "وهذا يعم جميع الأمانات الواجبة على الإنسان، ومن حقوق الله عز وجل على عباده ... وغير ذلك مما هو مؤتمن عليه لا يطلع عليه العباد، ومن حقوق العباد بعضهم على بعض"2. وإسناد الأمر إلى أهله وتولية الأصلح، وعدم اعتبار القرابة، أو الصداقة أو أي اعتبار آخر في الولاية أمر داخل ضمن عموم الأمانات التي أمرت الآية بأدائها؛ إلا أنه متأكد من جهة انه من أعمال الحكام الذين خاطبتهم الآية في المقام الأول. قال ابن تيمية رحمه الله: "أما أداء الأمانات ففيه نوعان: أحدهما الولايات، وهو كان سبب نزول الآية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وتسلم مفاتيح الكعبة من بني شيبه3،طلبها منه

_ 1 السياسة الشرعية ص13. 2 تفسير القرآن العظيم، ط: الشعب 2/298. 3 بنو شيبة من نسل شيبة بن عثمان بن أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار، أسلم شيبة بعد الفتح، ودفع النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة إليه وإلى عثمان بن طلحة يوم الفتح، وقال: "خذوها يا بني أبي طلحة خالدة تالدة." انظر: جمهرة أنساب العرب لابن حزم 127، وتهذيب التهذيب 4/376.

العباس1 ليجمع له بين سقاية الحاج، وسدانة البيت، فأنزل الله هذه الآية2 فأعاد مفاتيح الكعبة إلى بني شيبه، فيجب على ولي الأمر أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين، أصلح من يجده لذلك العمل"3. وعلى ذلك عليه أن يجتهد في البحث عن المستحقين للولايات، من نوابه على الأمصار والوزراء والقضاة ومدراء المصالح العامة، ورؤساء العشائر، وأمراء الجند الصغار منهم والكبار، وعلى كل واحد من هؤلاء أن يستنيب ويستعمل أصلح من يجده4. والميزان الذي يوزن به العمال هو: القوة والأمانة، والعلم والتقوى. قال تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26] . وقال: {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] .

_ 1 العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، هاجر قبل الفتح، وكان وهو في مكة مشفقاً على النبي صلى الله عليه وسلممحباً له، متعاوناً معه في تثبيت أمره، توفي سنة 32هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 2/78، والبداية والنهاية 7/168. 2 هي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ... } . 3 السياسة الشرعية ص17. 4 انظر نفس المصدر 18، 19.

ويختار الأمثل فالأمثل، ويستعان بأهل العلم والرأي والفضل في التعرف عليهم. ولا يجوز أن يكون المعيار هو القرابة أو الصداقة أو غير ذلك. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره لأجل قرابة بينهما، أو ولاء عتاقة أو صداقة، أو موافقة في بلد أو مذهب أو طريقة، أو جنس كالعربية والفارسية والتركية والرومية، أو لرشوة يأخذها منه من مال أو منفعة، أو غير ذلك من الأسباب، أو لضغن في قلبه على الأحق، أو عداوة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين، ودخل فيما نهى عنه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27] "1. ومن المعايير التي جدت في زماننا بالإضافة إلى ما ذكره شيخ الإسلام تولية المناصب الوزارية أو الإدارية وغيرها من الولايات الهامة بالشهادات أو بسبق الطلب، والتقدم للوظيفة، دون التمييز بالصلاح والكفاءة من جهة القوة والأمانة. فالشهادة تدل على العلم المهني أو الشرعي، ولكن لا تدل على الأمانة والقوة والتقوى، وهي أمور مقدمة، لذلك كان الواجب اختيار

_ 1 السياسة الشرعية ص20.

من توفرت فيه هذه الأمور مجتمعة: فيكون حائزاً على الشهادة في التخصص الذي يسند إليه، مع معرفة الأحكام الشرعية المتعلقة به، وثبت بالتزكيات من الثقات أمانته وتقواه، ويبتلى لمعرفة قوته وحزمه في القيام بما يسند إليه. وإذا لم تتوفر مجتمعة قدّم أهل الأمانة والقوة والتقوى بشرط علمهم بما يسند إليهم ولو دون شهادة، أو يعلمون ما يحتاجون إليه بعد الاختيار، مع تزويدهم بالأعوان والمساعدين المهرة المتخصصين، فيكملون نقصهم. وهذا الواجب على ولاة الأمر -وهو تولية الأصلح- حصن ودعامة يقوم عليها سلامة المجتمع بانتشار العدل، ووصول الحقوق إلى أهلها، واستقامة أمور الناس العامة والخاصة على الهدى، وبذلك يقطع الطريق أمام كل فكر خبيث، أو تخطيط ماكر يستهدف تقويض أركان المجتمع المسلم، حيث إن كل صاحب ولاية على ثغرة من ثغرات المجتمع الإسلامي، عالم بدوره، مخلص صادق في تنفيذه والدفاع عنه، قوي على ذلك، فأنى يجد الشر إلى المجتمع سبيلاً؟. وإذا اختل هذا الأمر وضيعت هذه الأمانة، وأسندت الأمور إلى غير أهلها، حصل خلل عظيم في المجتمع المسلم، وفتحت ثغرات خطيرة تمهد السبيل لأعداء الأمة للتسلل إليه للفساد والإفساد، وترويج الأفكار الهدامة، والسلوك المنحرف.

قال صلى الله عليه وسلم: "إذا ضيعت الأمانة، فانتظر الساعة " قال1: كيف إضاعتها يا رسول الله. قال: " إذا أسند الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة "2. فقد بين صلى الله عليه وسلم أن من علامات قرب الساعة تضييع الأمانة بإسناد الأمر إلى غير أهله، ومعلوم أن الساعة لا تقوم إلى على شرار الخلق، الذين انتشر الجهل بينهم والفساد، وبذلك يكون إسناد الأمر إلى غير أهله من أسباب فساد الناس في آخر الزمان. وسر ذلك أن الأمور إذا لم تسند إلى أهلها فإنها تسند إلى الجهال أو السفهاء أو الضعفاء أو إلى الخونة والمنافقين. فالجهال والسفهاء يخبطون في أعمالهم بلا هدى، ويضعون الأمور في غير مواضعها، وقد يفسدون وهم لا يشعرون، وكثيراً ما يغرر بهم ويخدعون من طائفة المنافقين والحاقدين. أما الضعفاء فإنهم عاجزون عن تنفيذ ما يرونه صالحاً، ويغلبون على

_ 1 القائل هو الأعرابي الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة، كما في الراوية الأخرى:"بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم جاءه أعرابي، فقال: متى الساعة؟ .. الحديث رواه البخاري، كتاب العلم، باب من سئل علماً وهو مشتغل في حديثه ... ، صحيح البخاري مع الفتح 1/‍41 ح59. 2 رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب رفع الأمانة، الصحيح مع الفتح 11/333،ح6496.

أمرهم فيبقى الحق الذي أمروا به بعيداً عن التنفيذ، ويظهر الفساد والمنكر في أعمالهم ويضعفون عن إزالته، وهذه ثغرة اجتماعية خطيرة ليس لها إلا أهل الحزم والقوة والعلم والديانة. أمّا المنافقون فهم الشر المستطير، ومنهم الضرر الكبير، وشرهم حاصل للجماعة المسلمة دون أن يتولوا من أمورها شيئاً، فكيف إذا أسندت بعض الأمور الهامة إليهم. فتلك قاصمة الظهر، وسوسة النخر. قال تعالى محذراً من طاعتهم ومشاورتهم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [الأحزاب:1-3] . قال ابن كثير رحمه الله: "قوله تعالى: {وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} أي لا تسمع منهم ولا تستشرهم {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} أي فهو أحق أن تتبع أوامره وتطيعه، فإنه عليم بعواقب الأمور، حكيم في أقواله وأفعاله، ولهذا قال: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} أي من قرآن وسنة {إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} أي فلا تخفى عليه خافية {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} أي في جميع أمورك وأحوالك {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} أي وكفى به وكيلاً لمن

توكل عليه وأناب إليه"1. فبعد أن نهاه الله عن طاعة الكافرين والمنافقين، أمره باتباع الوحي النازل من العليم الحكيم الخبير، ففيه النور والهداية والرشاد. وأرشده للتوكل عليه وحده، وتفويض الأمور إليه، وتعلق القلب به في التسديد والتوفيق لما فيه صلاح الدين والدنيا، وفي ذلك إشارة إلى عدم تعلق القلب أو رجاء الهداية من أعداء الله مهما كان عندهم من العلم، أو أظهروا من النصح فلا يولون ولا يستشارون، بل يحذرون ويجتنبون. وقد بيّن الله العلة من النهي عن طاعة الكافرين والمنافقين، وهي كونهم يضمرون الشر لأهل الإسلام ويخططون لإخراجهم من دينهم. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران:100] . وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران:149] . وقال: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ

_ 1 تفسير القرآن العظيم ط الشعب 6/376.

اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:109] . فإذا كان هذا هو حال الكفار عموماً، واليهود والنصارى خصوصاً يعملون جاهدين لصدّ المسلمين عن دينهم، فالمنافقون هم الجسر الذي يتوصلون من خلاله إلى المجتمع المسلم، وينفذون بواسطتهم أفكارهم الخبيثة ومخططاتهم الشريرة. قال تعالى في معرض بيان حال المنافقين: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:14، 15] . قولهم: {إِنَّا مَعَكُمْ} أي: "على مثل ما أنتم عليه"1، فهم مع الكفار مشاركين لهم في الكفر وعداوة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وفي الكيد للإسلام وأهله. وقال تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52] .

_ 1 تفسير القرآن العظيم، ط: الشعب 1/77.

قال ابن كثير رحمه الله: "وقوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي شك وريب ونفاق {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} أي يبادرون إلى موالاتهم في الباطن والظاهر {يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} أي يتأولون في مودتهم وموالاتهم أنهم يخشون أن يقع من ظفر الكافرين بالمسلمين، فتكون لهم أياد عند اليهود والنصارى فينفعهم ذلك"1. فالمنافقون يتخذون عند اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار أيادٍ يرضونهم ويتحببون بها إليهم، فيُسدون لهم الخدمات، ومن أعظمها مساعدتهم في التجسس على المسلمين، وتمرير خططهم وكيدهم إلى جسد الأمة الإسلامية، والذي يعتبر ضرباً فعّالاً في حرب الكافرين للمسلمين، يستهدف زعزعة الجبهة الداخلية، وانحلال أسباب قوتها وتماسكها، فيسهل الظفر بها، فيخرجوا من قدروا عليه من المسلمين من دينه، كما هو حالهم في كثير من البلاد التي احتلوها. قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] . والحق أن الكفار لا يريدون من المنافقين أكثر من هذا، وفي المقابل يقدمون للمنافقين الكثير من المال، ومتاع الدنيا.

_ 1 تفسير القرآن العظيم 3/124.

والمنافقون مع كونهم ثغرة في حصن المجتمع المسلم تنفذ من خلالها الشرور الخارجية، فهم في حد ذاتهم منبع شر وضرر وفساد للمجتمع لما اتصفوا به من إشاعة الشبهات، ومحبة ظهور الفاحشة في الذين آمنوا، وأمرهم بالمنكر ونهيهم عن المعروف. قال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:67] . لذلك كانت تولية الكفار أو المنافقين المناصب الهامة- كالوزارات أو الإدارات أو وظائف التخطيط، أو التعليم، أو اتخاذهم مستشارين لولي الأمر، أو عُمّاله أو تقريبهم بأي شكل من الأشكال، كالمنادمة أو المصاهرة -يعتبر من الخيانة للأمانة، وهو خرق عظيم في حصن المجتمع المسلم، وسوف يناله به فساد ذريع، ومن أخطر نتائجه الترويج للأفكار الهدامة وزخرفتها بدعم من المنافقين الذين اشتدت شوكتهم بتقريب ولاة الأمر لهم. وكم حرص الكفار والمنافقون على التقرب لولاة الأمر وأعوانهم بشتى الوسائل، فتعلموا المهن النادرة: كالطب والصناعة ونحوها، وانتحلوا الشعر والظرافة للمؤانسة والمنادمة، وتسللوا إلى بيوتهم بإهداء الجواري الحسان، والخادمات الماهرات، أو عن طريق المصاهرة وهو أخطرها.

وإذا فتح لهم المجال إلى الولاة، ولو قليل استغلوه أسوأ استغلال، وكانت خطوتهم الأولى هي التقليل من شأن العلماء بأساليب متنوعة، وإيحاءات ماكرة، فيصفونهم بالانزواء وعدم الانفتاح، والتشدد والبعد عن حياة الناس، والجهل بأمور السياسة، وأنه لا ينبغي استشارتهم إلا في أمور العبادات فقط. وفي المقابل يشيرون عليهم بتولية أشخاص مشبوهين يعرفون عنهم النفاق، ويطمعون في ظل ولايتهم في الانطلاق في أهوائهم ومخططاتهم المعادية للإسلام. وهكذا شيئاً فشيئاً حتى يكثر عددهم ويتفاقم شرهم، فيستحوذون على السلطان، ويصيب الإسلام منهم أعظم الرزايا، كما حصل في عهد هارون الرشيد1 عندما استولى أبناء فارس من البرامكة2 وغيرهم على

_ 1 الخليفة العباسي أبو جعفر هارون بن المهدي محمد بن المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، ولي الخلافة بعد أخيه الهادي سنة 170هـ وكان من أنبل الخلفاء وأحشم الملوك ذا حج وجهاد وغزو وشجاعة ورأي، توفي سنة 193هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 9/286، والبداية والنهاية 10/222. 2 البرامكة: أسرة يرجع أصلها إلى فارس، تنسب إلى برمك بن جاماس، تولى الوزارة عدد من أفرادها لبعض خلفاء بني العباس، ولما آلت الخلافة إلى الرشيد، تقدموا عنده وارتفعت مكانتهم لديه، ثم نقم عليهم فقتل جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي وسجن الباقين من أسرته. انظر: وفيات الأعيان 1/328، والبداية والنهاية 10/196.

الوزارات وقيادة الجيوش، وكثرت نساؤهم في بيوت الخليفة وأبنائه وأقاربه: من زوجات، وأمهات أولاد، وخادمات ومربيات، وولد لهارون ابنه المأمون من جارية فارسية، وتربى في كنف أخواله من أبناء وبنات الفرس، ثم آلت الخلافة إليه فحصل للأمة بسببه فتنة عظيمة، فقمع أهل السنة وعزلهم عن مناصب القضاء والفتيا، ومنعهم من التدريس، وحملهم على القول بخلق القرآن، وتعطيل صفات الباري عز وجل، وما نجم عن ذلك من تعذيب وسجن وقتل عدد من علماء الأمة وفضلائها، وعلى رأسهم إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله الذي سجن بأمر المأمون، وجلد في عهد المعتصم، ولا حول ولا قوة إلا بالله1. وفي مقابل ذلك مكن المأمون أهل البدعة من المعتزلة والشيعة والفلاسفة، وشجع ترجمة كتبهم، فكانت أعظم فتنة فكرية جابهت الإسلام من داخله، ودُعِمت من خليفة المسلمين، بفعل تخطيط أعداء الإسلام الطويل الأمد2.

_ 1 2 انظر: تاريخ الطبري، تاريخ الرسل والملوك، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري 8/631-645، والبداية والنهاية لابن كثير 1/272-275 ومن 331-335، الخمينية وريثة الحركات الحاقدة والأفكار الفاسدة لوليد الأعظمي ص136-140.

ثالثاً: المشاورة. والمقصود أن مشاورة ولي الأمر لأهل العلم والعقل والتجربة والاختصاص في النوازل والأمور الهامة، أمر لا غنى عنه، وهو حصن تتحصن به الأمة من عواقب الاستبداد بالحكم والقرار الذي يفتح عليها ثغرات خطيرة، قد لا يدركها ولي الأمر، وإنما بالمشاورة ينبه إليها. "فمبدأ الشورى من أهم مقومات الحكم في الإسلام، به نطق القرآن وجاءت به السنة، وأجمع عليه الفقهاء، وهو حق للأمة وواجب على الخليفة"1. قال ابن تيمية -رحمه الله-: "لا غنى لولي الأمر عن المشاورة، فإن الله أمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159] "2. ويروى عن أبي هريرة رضي الله عنه: "ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله"3.

_ 1 أصول الدعوة، لعبد الكريم زيدان ص207، دار عمر بن الخطاب الإسكندرية، ط3، 1396هـ. 2 السياسة الشرعية 213. 3 رواه الترمذي هكذا بصيغة التمريص، أبواب الجهاد، باب ما جاء في المشاورة 3/129. واستشهد به شيخ الإسلام ابن تيمية في السياسة الشرعية ص213، وذكره ابن حجر في الفتح، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، وقال:"ورجاله ثقات، إلاأنه منقطع" 13/340. ولمعناه شواهد كثيرة من سيرة النبيصلى الله عليه وسلمذكر طرفاً منها: ابن كثير في التفسير 1/420، وابن حجر في الفتح 13/340، 341.

وامتدح الله جماعة المؤمنين بالتزامهم بهذا المبدأ الهام، فقال: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] . وأولى الناس بالمشورة العلماء أهل الذكر، الذين عرفوا أحكام الشريعة وحدود الله، ودرسوا ما في الكتاب والسنة من الحكم والعبر والسنن، واستناروا بنورهما. قال البخاري -رحمه الله-: "وكان الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة، ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب والسنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم"1. وقال أيضاً: "وكان القراء أصحاب مشورة عمر كهولاً وشباناً، وكان وقافاً عند كتاب الله عز وجل"2. فواجب على الإمام تقريب العلماء واستشارتهم في الأمور المهمة من أمور الدين والدنيا. وإذا استشارهم في أمور الدين، فإن بين له بعضهم ما يجب اتباعه

_ 1، 2 صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة 13/339.

من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو إجماع المسلمين، فعليه اتباعه ولا طاعة لأحد خلاف ذلك1. فإن من أهداف المشورة اتضاح الحكم إذا كان خافياً على الإمام. قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: "إنما يؤمر الحاكم بالمشورة، لكون المشير ينبهه على ما يغفل عنه، ويدله على ما لا يستحضره من الدليل"2. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وأولو الأمر صنفان: الأمراء والعلماء، وهم الذين إذا صلحوا صلح الناس، فعلى كل منهم أن يتحرى فيما يقوله وما يفعله، طاعة الله ورسوله واتباع كتاب الله. ومتى أمكن في الحوادث المشكلة معرفة ما دل عليه الكتاب والسنة، كان هو الواجب، وإن لم يمكن ذلك لضيق الوقت، أو عجز الطالب، أو تكافؤ الأدلة عنده أو غير ذلك، فله أن يقلد من يرتضي علمه ودينه، هذا أقوى الأقوال"3. أما استشارتهم في أمور الدنيا، فتكون في شؤون الدولة المهمة مثل: تسيير الجيوش، وإعلان الحرب، وعقد المعاهدات، وإسناد المناصب المهمة في الدولة إلى مستحقيها4.

_ 1 انظر: السياسة الشرعية لابن تيمية 214. 2 فتح الباري شرح صحيح الباخري لابن حجر 13/342. 3 السياسة الشرعية ص214. 4 انظر: أصول الدعوة ص209.

وكذلك السياسات الداخلية والخارجية، كسياسة التربية والتعليم، والسياسة المالية والصناعية، والتجارية، والطبية، وكذا خطط الدولة التنموية، وعلاقاتها الخارجية. فكل ناحية منها لها جانبان: جانب يتعلق بالمهنة، وجانب يتعلق بالتعامل، وكل منهما له ضوابط شرعية يجب مراعاتها، ويلزم عرضها على أهل الشريعة بعد أهل الصنعة للتأكد من سلامة الخطة والسياسة من مخالفات شرعية أو ثغرات تؤدي إلى مفاسد خلقية أو اجتماعية أو نحوها. فنظر العلماء لا يقل أهمية عن نظر المختصين والخبراء. وليس هناك مجال من مجالات الحياة ليس للعلماء نظر فيه. ودور العلماء لا يقتصر على المشاورة في الخطوط العريضة للأمور بل يتعدى ذلك إلى التفاصيل الدقيقة المنظمة لذلك الأمر. ونظراً لتشعب نواحي الحياة ودقتها في الوقت الحاضر، فيقتضي الأمر تشكيل هيئة استشارية لها لجان متعددة مختصة بدراسة جميع أوضاع الدولة من الناحية الشرعية. يكلف بعض هذه اللجان بالنظر في الأوضاع القائمة، ودراسة البحوث المقدمة فيها، واقتراح الإصلاحات. ولجان أخرى تنظر في المشاريع المقترحة والنوازل الطارئة، والتأكد من ملائمة ما يقترح لها من جميع نواحيه لأحكام الشريعة الإسلامية. واقتراح التعديلات المناسبة. ويقوم على هذه اللجان نخبة من العلماء الأمناء، ويستعينون عند

الحاجة بالعلماء الآخرين الذين ليسوا أعضاء فيها. ولا يقتصر في المشاورة في أمور الدنيا على العلماء، بل يشترك معهم أهل النظر والاختصاص والتجربة من سائر المسلمين، ويشترط فيهم الأمانة وسلامة الديانة والنصح للأمة. والتزام ولي الأمر بمبدأ المشاروة -وخاصة مشاروة أهل العلم- يمثل حصناً سلطانياً اجتماعياً تتكاتف فيه العقول المستنيرة على انتهاج أفضل السبل وأكثرها نقاء وصفاء وبعداً عن شوائب الجاهلية وأفكارها وأنظمتها الفاسدة. وبذلك يقطع الطريق على المفسدين من المنافقين والكافرين والفاسقين الذين يحاولون جاهدين أن يمرروا باطلهم عن طريق السلطان. لذلك شدد الله النهي لرسوله صلى الله عليه وسلم في أكثر موضع عن طاعتهم أو مشاروتهم. كما في قوله تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان:24] . وقوله: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [الأحزاب:48] . واختلال هذا المبدأ -إما بالاستبداد من ولي الأمر والمشاركين له في الحكم، أو بترك مشاورة أهل العلم، والجنوح إلى مشاورة أهل الفسق والخيانة والنفاق- ينتج عنه خطر عظيم، فهو ثغرة تمرر من خلالها أفكار

الجاهلية ونظرياتها، ونظمها تحت أغلفة براقة، وشبه منمقة، كادعاء الحاجة أو الضرورة، وعدم وجود البديل، وغير ذلك من المبررات التي قد يستحسنها الولاة، ويعملون بها عند تعطيل الشورى. وخلاصة هذا المبحث: أن ولي الأمر يمثل دعامة من دعائم المجتمع المسلم، فإذا كان صادق الإيمان، مراقباً لله في كل ما يأتي ويقرر، قائماً بما عليه خير قيام، كانت الثغرة التي من قبله مسدودة آمنة، وأهم عوامل سلامة هذه الدعامة أن يكون ولي الأمر عالماً بالأحكام الإسلامية، وبمهام الحكم ومقاصد الولاية، غيوراً على الإسلام متحمساً لتنفيذه، والدفاع عنه ونشره، وان يستعمل الأصلح في أعماله، ويحذر من توليه الكافرين والمنافقين، أو غير الأمناء، أو الضعفاء، وأن يستشير أهل العلم والصلاح والرأي والخبرة. وبذلك يكون المجتمع قوياً من الداخل ضد أي شر يتربص به الدوائر، وخاصة الأفكار الهدامة التي تستهدف القضاء على مقوماته الدينية والاجتماعية.

المبحث الثاني: وظائف الإمامة، ومقاصد الحكم

المبحث الثاني: وظائف الإمامة، ومقاصد الحكم والمقصود بهذا المبحث بيان أن على الإمام واجباً عظيماً في حماية دين الأمة وصيانته، وأن ذلك من أهم مقاصد الحكم، ومن ذلك مكافحة الأفكار الهدامة وقمع مروجيها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فالمقصود الواجب في الولايات: إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسراناً مبيناً، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم"1. وقال الماوردي2: "الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا"3. وعلى ما تقدم يتبين أن وظائف الخلافة، ومقاصد الحكم تجمل في

_ 1 السياسة الشرعية ص39. 2 القاضي أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري الماوردي الشافعي، صنف الحاوي، والأحكام السلطانية، والنكت، وأدب الدنيا والدين، توفي سنة 450هـ في بغداد. انظر: وفيات الأعيان 3/282، وسير أعلام النبلاء 18/64. 3 الأحكام السلطانية، لأبي الحسن علي بن محمد الماوردي، ص5، مطبعة مصطفى الحلبي، القاهرة، ط: الأولى 1386هـ.

مقصدين هامين: الأول: تنفيذ الدين بإقامة فرائضه وشرائعه، وبسط أحكامه وحدوده في كافة المجالات وسياسة الدنيا به. الثاني: الدفاع عنه وحراسته، من الأفكار المخالفة، والأهواء الجامحة والبدع المحدثة التي هي أساس الفساد، وبواعث التنازع والفرقة. ولكل منهما دور في حصانة المسلم وحمايته من الأفكار الهدامة وسائر الشرور، ففي جانب تنفيذ الدين تقع المسئولية الأولى على ولي الأمر، فلا يجوز له أن يعدل عن شيء من الشريعة في أي أمر من الأمور، وعليه أن يشرف بنفسه على تنفيذ النظم الإسلامية، ويجتهد في اختيار القضاة ونحوهم، وينشئ من الوزارات والدوائر ما يراه ضرورياً لتسيير مصالح الناس، ويولي عليها الثقات الأقوياء الأمناء، ويحرص على إقامة العدل ورفع الظلم، وأن يكون الناس سواسية في الحقوق، وبذلك يكون المجتمع قد أسس على تقوى من الله، وقاعدته قوية متينة. حراسة الدين والدفاع عنه: لا شك أن إقامة المجتمع على شريعة الإسلام وأسس التقوى هي الخطوة الأولى في بناء الدولة الإسلامية، وهي خطوة هامة لسلامتها والمحافظة عليها، إلا أن الأهم من ذلك هو استدامته والاستقامة عليه، وذلك يتجلى في واجب حراسة الدين والدفاع عنه. والمقصود بحفظ الدين والدفاع عنه، بينه الماوردي بقوله: "حفظ

الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة، فإن نجم مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه أوضح له الحجة، وبين له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود، ليكون الدين محروساً من خلل، وأمة ممنوعة من زلل"1. وبين هذا الأمر الدكتور عبد الكريم زيدان فقال: "وحفظ الإسلام يعني إبقاء حقائقه ومعانيه، ونشرها بين الناس، كما بلغها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسار عليها صحابته الكرام، ونقلوها إلى الناس بعده، وعلى هذا لا يجوز أي تبديل أو تحريف في هذه الحقائق والمعاني، لأن التحريف والتبديل يدخلان في نطاق الابتداع المذموم في دين الله، ولا يجوز التردد أبداً في منع التبديل والتحريف بحجة حق الفرد في إبداء الرأي وحرية الفكر والاجتهاد ... لأن الفرد إن كان مسلماً فليس من حقه أن يبدل دين الله، وإذا اختار لنفسه الضلالة ولعقيدته الفساد، فليس من حقه أبداً أن يضل الآخرين أو يفسد عقائدهم، وإن كان الفرد غير مسلم فليس من حقه أبداً أن يخرج على نظام دار الإسلام، ويشوه حقائق الإسلام، وإلا كان ناقضاً لعقد الذمة، ومع هذا فقد يقع المسلم في زيغ أو شبهة أو خطأ نتيجة فهم سقيم أو تضليل خبيث، فيجب على ولي الأمر -الخليفة، أو نائبه- أن يعمل على كشف الشبهة وإظهار الصواب بالدليل والبرهان، حتى يظهر الحق وتقوم الحجة، فإن أصر المبطل على باطله، وسعى إلى

_ 1 الماوردي الأحكام السلطانية ص15.

نشره في الناس، منع من ذلك وأقيم عليه ما يوجبه الشرع"1. وقال أيضاً: "ومنها إزالة المفاسد والمنكرات من المجتمع، كما يقضي به الإسلام، إذ لا يمكن الادعاء بحفظ الدين مع ترك المفاسد والمنكرات بلا إنكار ولا إزالة، مع توفر القدرة على ذلك"2. فواجب الإمام إذاً أن يشرف على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعين في كل بلاد من خيار أهله الأمناء الأقوياء الأتقياء من يقوم بهذه المهمة، ويكون لهم خير معين ونصير، فإن ذلك من أهم وظائف الأمة وأئمتها إذا مكنوا في الأرض. قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41] . ومن أهم الركائز التي تتحتم على ولي الأمر لتحقيق هذا المقصد -وهو حراسة الدين وحفظه- قطع صلة المجتمع المسلم بالمجتمعات الكافرة والفاسقة، ومنع بث أفكارهم وعاداتهم وما يمت إليهم بصلة بين المسلمين. والحق أن الإسلام يواجه في هذا العصر أعظم خطر فكري، ليس بكثر الضلال وتنوع مشاربه، ولكن بوجود الوسائل الناقلة له التي تبث في

_ 1 أصول الدعوة ص222. 2 نفس المصدر ص223.

وقت واحد، المادة الواحدة في ملايين البيوت. لذلك كان العزل الفكري وتحصين الأمة الإسلامية من موارد الضلال، وعفونات الجاهلية الفكرية، من أهم الواجبات المناطة بولاة الأمر من السلاطين والعلماء وغيرهم، وخاصة في هذا الوقت الذي اشتدت فيه الهجمة وأثرت أثراً خطيراً في أفكار المسلمين وسلوكهم، فواجب ترشيد وسائل الإعلام، وقطع المواد المفسدة ومحاربة الوسائل الباثة لها. ومن ذلك أيضاً منع اختلاط الكفار بالمسلمين من خلال تسهيل سفر المسلم إلى بلاد الكفر والفسوق بلا حاجة شرعية، أو استقدامهم إلى بلاد المسلمين دون قيود تضمن التزام غير المسلم بما جاء من أجله، وعدم بث باطله، واحترام شعائر الإسلام، وعدم المجاهرة بالفسق. وفي الجملة فإن واجب ولاة الأمر والمحتسبين مكافحة كل منكر يطرأ في المجتمع، سواء كان سلوكياً أو فكرياً. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فأما الغش والتدليس في الديانات، فمثل البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة من الأقوال والأفعال: مثل إظهار المكاء والتصدية1 في مساجد المسلمين، ومثل سب جمهور الصحابة وجمهور المسلمين، أو سب أئمة المسلمين

_ 1 المكاء: هو الصفير، والتصدية: التصفيق. جامع البيان لابن جرير الطبري 9/240.

ومشايخهم، وولاة أمورهم: المشهورين عند عموم الأمة بالخير: ومثل التكذيب بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي تلقاها أهل العلم بالقبول، ومثل رواية الأحاديث الموضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثل الغلو في الدين بأن ينزل البشر منزلة الإله، ومثل تجويز الخروج عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل الإلحاد في أسماء الله وآياته، وتحريف الكلم عن مواضعه والتكذيب بقدر الله، ومعارضة أمره ونهيه بقضائه وقدره، ومثل إظهار الخزعبلات1 السحرية والشعبذية2 الطبيعية وغيرها، التي يضاهي بها ما للأنبياء والأولياء من المعجزات والكرامات، ليصد بها عن سبيل الله، أو يظن بها الخير فيمن ليس من أهله، وهذا باب واسع يطول وصفه. فمن ظهر منه شيء من هذه المنكرات وجب منعه من ذلك، وعقوبته عليها إذا لم يتب حتى قدر عليه، بحسب ما جاءت به الشريعة من قتل أو جلد أو غير ذلك، أما المحتسب فعليه أن يُعزر من أظهر ذلك قولاً أو فعلاً، ويمنع الاجتماع في مظان التهم"3.

_ 1 الخزعبلات: الأفعال والأحاديث الباطلة. انظر: معجم متن اللغة، الشيخ أحمد رضا 2/268 دار مكتبة الحياة، بيروت 1378هـ. 2 الشعبذة أو الشعوذة: خفة اليد ومخاريق وأخذ كالسحر يرى الشيء بغير ما هو عليه في رأي العين، المصدر السابق 3/329. 3 مجموع الفتاوى 28/ 106.

فالواجب الأول على أئمة الأمة من الأمراء والحكام والعلماء، هو حفظ أصول الدين، وهو المقصود الأعظم من السلطان، فيجب القيام على المبتدع في الدين بما يكفه عن ضلال بدعته من ناحية الولاة وغيرهم1. والقيام على المبتدعة ودعاة الضلال يختلف باختلاف حال كل منهم. قال الإمام الشاطبي2 رحمه الله: "إن القيام عليهم بالتثريب أو التنكيل أو الطرد أو الإبعاد أو الإنكار، هو بحسب حال البدعة في نفسها من كونها عظيمة المفسدة في الدين أم لا، وكون صاحبها مشتهراً بها أوْ لا، وداعياً إليها أوْ لا، ومستظهراً بالاتباع وخارجاً عن الناس أوْ لا، وكونه عاملاً بها على جهة الجهل أوْ لا. وكل من هذه الأقسام له حكم اجتهادي يخصه، إذ لم يأت في الشرع في البدعة حد لا يزاد عليه ولا ينقص منه، كما جاء في كثير من

_ 1 انظر: بدائع السلك في طبائع الملك، لأبي عبد الله بن الأزرق 2/127، تحقيق: علي سامي النشار، وزارة الثقافة العراقية ط 1، 1978. 2 إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي أبو إسحاق من مؤلفاته: الموافقات في أصول الأحكام، والاعتصام، وعنوان التعريف بأسرار التكليف، وغيرها، توفي سنة 790هـ. انظر: معجم المؤلفين عمر كحاله 1/118، ومعجم الأعلام لبسام عبد الوهاب ص24.

المعاصي، كالسرقة والحرابة والقتل والقذف والجراح والخمر وغير ذلك، لا جرم أن المجتهدين من الأمة نظروا فيها بحسب النوازل"1. ثم ذكر بعد ذلك أنواع العقوبات2 التي ذكرها العلماء لأهل البدع كل حسب بدعته كما تقدم تفصيله، وسوف أذكر هذه العقوبات بشيء من التصرف، وأقسمها إلى ثلاثة مجموعات: ما يتعلق بالإمام، وما يتعلق بالعلماء والقضاة، وما يتعلق بالمجتمع. أولاً: العقوبات التي يتولى الإمام إنزالها بأهل البدع. 1- القتال: إذا ناصبوا المسلمين وخرجوا عليهم. 2- القتل: لمن أظهر بدعته واستتيب ولم يرجع. 3- الضرب. 4- التغريب. 5- السجن. 6- عدم استعمالهم ولاة أو قضاة، أو أئمة وخطباء في المساجد، أو في مجال التدريس ونحوها. ثانياً: العقوبات التي يتولى القيام عليها القضاة والعلماء. 1- تكفير من دل الدليل على كفره.

_ 1 الاعتصام للإمام أبي إسحاق، إبراهيم بن موسى الشاطبي 1/175 دار المعرفة، لبنان، ط: بدون. 2 نفس المصدر 175-177.

2- الحكم بأنه لا يرثهم أقاربهم من المسلمين، ولا يرثون أحداً منهم، ولا يغسلون إذا ماتوا ولا يصلى عليهم، ولا يدفنون في مقابر المسلمين. 3- الأمر بأن لا يناكحوا. 4- تجريحهم على الجملة، فلا تقبل شهادتهم ولا روايتهم. ثالثاً: العقوبات الاجتماعية. 1-الهجران وترك الكلام والسلام. 2- ترك عيادة مرضاهم. 3- ترك شهود جنائزهم. 4- عدم مناكحتهم أو مشاركتهم في البيوع ونحو ذلك. ويسبق هذه العقوبات جميعاً الإنكار عليه باللسان ومجادلته وإقامة الحجة عليه، فإن رجع وإلا عوقب بما يتناسب مع مخالفته. ولا شك أن هذه العقوبات إذا أنزلت بمن يستحقها فسوف تجعل صاحب البدعة منبوذاً معزولاً عن المجتمع، وبذلك ينحسر شره وتخمد ناره. وإذا أُخل بذلك، فتقاعس الولاة عن إيقاع العقوبات بالمبتدعين والمفسدين وخاصة أهل الأهواء والأفكار المنحرفة، وتغاضوا عنهم أو قربوهم واستعملوهم في بعض الأعمال، كذلك إذا أخل العلماء والقضاة بواجبهم في مجابهة أولئك، وبيان حالهم ومواصاة ولاة الأمر بتأديبهم،

ومثله إذا أخل أفراد المجتمع بما عليهم، ولم يهجروا المبتدعين والفساق، وخالطوهم واحترموهم، واختل الميزان الذي يقاس به الناس، فأصبح الدنيا ومتعها بدل التقوى والسنة، إذا حصل ذلك انهدم السور القريب، والمعقل الأخير، وأصبح أفراد المجتمع -إلا من عصم الله- عرضة للشبهات المشككة، والشهوات المهلكة، فينجم فيه النفاق، ويصول ويجول فيه أهل الضلال، والعصمة في ذلك -بعد الله تعالى- قيام السلطان بما عليه، فإنه إن استقام أقام من دونه، وإن مال كان من دونه أسرع وأقرب إلى الميلان. وخلاصة هذا المبحث: أن قيام ولاة الأمر بتنفيذ الدين وإقامة نظامه وشرائعه وأحكامه وحدوده والصرامة في ذلك، وبالمقابل الدفاع عن الدين وحراسته من كيد المفسدين في الداخل والخارج، والضرب على أيدي المبتدعين والمفسدين، فإن ذلك حصن قوي يحمي به الله المجتمع المسلم من الأفكار المنحرفة، وسائر الشرور.

الفصل الثالث: أثر وضع الدولة المتمكن في الأرض في تحصين المجتمع ضد الأفكار الهدامة

الفصل الثالث: أثر وضع الدولة المتمكن في الأرض في تحصين المجتمع ضد الأفكار الهدامة يحيط بالدولة الإسلامية من جميع الجهات أمم كافرة، والكفر ملة واحدة، وهم جميعاً جند الشيطان وحزبه، والدولة الإسلامية مأوى جند الرحمن وحزبه. والحق في صراع دائم مع الباطل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وعليه فإن الدولة الإسلامية إذا كانت قوية عسكرياً ومتحدة، آخذة بأسباب القوة وعدتها، كان لها هيبة عند الكفار، فلا يجرؤون على حربها والتعرض لها، وبذلك يسلم أفراد المجتمع من شرهم وعقائدهم الخبيثة. وتمكن الدولة الإسلامية له وضعان: الوضع الأول: أن تكون هي القوة الظاهرة، قد دحرت دول الباطل وكسرتها، وأعلت كلمة الله، وهذه هي قمة التمكن، وبذلك تكون الدعوة الإسلامية مؤثرة، والمسلمون يُعجب ويقتدى بهم، ولهم هيبة القوي المنتصر. والوضع الثاني: أن يكون لديها قوة وشوكة تقاتل بها قوى الباطل وتدافع عن نفسها، ولكنها ليست بالقوة الظاهرة المسيطرة، وإن كانت محافظة على وجودها وتماسكها، ولها ثقلها في النظام الدولي، وهذا الوضع يحتمي به المسلمون ويحسب له الكفر حسابه، وإن لم يكونوا بتلك المكانة من حيث إعجاب الناس وشدة تأثرهم بهم، وهم مع الكفار في حالة من الحرب العسكرية والفكرية، والحرب بينهم سجال.

أما الوضع غير المتمكن الذي تكون فيه دولة الإسلام ضعيفة قد ظهر عليها الكفار وفاقوها عدداً وعدة، وأصبح وضعهم السياسي والعسكري والاقتصادي أقوى من وضعها، وهي في داخلها لم تأخذ بعد بأسباب التمكين من سلامة العقيدة وإخلاص العبادة، واتحاد الكلمة وإعداد العدة. فهذا الوضع للجماعة المسلمة يجعلها مكشوفة مهدمة الأسوار أمام الكفار، فإما أن يأخذوها لقمة سائغة، كما فعلت دول الاستعمار الصليبية في احتلالها معظم العالم الإسلامي في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري، وبذلك يعملون مباشرة على فرض الفكر المخالف على الناس، بتأسيس المدارس والعلاقات الاجتماعية، والنظم الاقتصادية على مبادئ إلحادية -كما يوجد في بلاد الكفر- وذلك هدم للمجتمع من أساسه، وإما أن تبقى دولة الإسلام، ولكن توجه إليها ضغوط مختلفة؛ فَتُكْرَه على انتهاج سياسات اجتماعية وإعلامية تسمح بنشر الأفكار الضالة، والعلاقات المنحرفة التي يريدها الكفار ويخططون لها. كما تجبر على سياسات اقتصادية وزراعية وصناعية تضمن عدم نهوض المجتمع المسلم في ميادين الصناعة والقوة والتجارة، فيبقى بعيداً عن أسباب النصر، ومستهلكاً دائماً لصناعة الكفار. وهذا الأسلوب الأخير أخطر من الأول، لأن الناس فيه يظنون أنهم يحكمون بالإسلام لكون الحكام من أبناء المسلمين، كما أنهم في هذه

الحالة يجرون إلى الانحلال والكفر برضاهم دون إكراه، أما النوع الأول فإن الناس يأنفون ويقاومون المستعمر، ويعادون ما جاء منه في الغالب. وهذا السور -أعني بقاء الأمة في وضع التمكن في الأرض- لا يتحقق إلا بإقامة الجهاد في سبيل الله، والعمل المستمر في الإعداد والأخذ بأسباب القوة، بعد إقامة دين الله في أرضه وبين عباده. وقد جاء المجال للكلام على أثر الجهاد في حماية المجتمع المسلم، والله المستعان: أثر الجهاد في تحصين المجتمع المسلم ضد الأفكار الخبيثة: الجهاد شعيرة هامة من شعائر الإيمان، أمر الله به المؤمنين وجعله من أسباب فلاحهم. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:35] . وقد جاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاهد صحابته معه وبعده، وورثهم من تبعهم في إقامته حتى أعلى الله به كلمته، وبسط سلطان الإسلام في أنحاء الأرض. ولذلك فأثر الجهاد أثر من آثار الإيمان وشعائره المباركة. وسوف أستعرض بعض النصوص التي تبين أثر الجهاد في تحصين المجتمع المسلم.

فمن تلك النصوص، قول الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:39-40] . ففي هذه الآيات بيان لأثرين هامين من آثار الجهاد المباركة، والتي من أجلها شرع: الأثر الأول: أن القتال وسيلة لرفع الذل والظلم عن المستضعفين من أهل الإيمان، فالله قد أذن لهم بهذا السبب، وفتح لهم باب الأمل بالنصر بقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} بعدما ابتلاهم ومحصهم، واقتضت حكمته أن ينقلهم إلى مرحلة المجابهة العسكرية، وهي خطوة تقودهم إلى وضع العزة والتمكين، بعد الخطوة الأولى وهي إقامة الدين. فالمسلمون في مكة كانوا مستضعفين يعذبون ويُستهزَأ بهم ويضطرون إلى الهجرة عن بلادهم، ولما أراد الله لهم عزاً وتمكيناً في الأرض، ورفعاً للظلم عنهم، هيأ لهم أسباب الجهاد بوجود الجماعة، والمكان الذي ينحازون إليه ويحتمون به، والعدة، وأذن لهم بالقتال ووعدهم بالنصر إذا استقاموا على نصر دينه، وقد فعلوا ما أمرهم به،

وأنجز لهم ما وعدهم، فدل ذلك على أن الله أعزهم ومكنهم ورفع الظلم عنهم بالجهاد، فهو السبب الشرعي لعزة الأمة وتمكينها في الأرض، بعد نصر الله بالتزام دينه. وإذا ترك المسلمون الجهاد الذي هو سبب عزهم وظهورهم رجع عليهم الذل، وظهر عليهم عدوهم. وقد بين هذا المعنى نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: " إذا تبايعتم بالعينة1وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم "2. قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني مبيناً المراد بهذا الحديث: " ... إن تسليط الذل ليس هو لمجرد الزرع والحرث، بل لما يقترن به من الإخلاد إليه والانشغال به عن الجهاد في سبيل الله، فهذا هو المراد بالحديث، وأما الزرع الذي لم يقترن به شيء من ذلك، فهو المراد

_ 1 العينة: لها صور متعددة من أشهرها: أن يبيع الرجل للرجل شيئاً بثمن مؤجل ثم يشتريه منه نقداً بثمن أقل، ومنها عكس الصورة المتقدمة، وهي أن يبيع الرجل سلعة بثمن معلوم نقداً، ثم يشتريها بثمن أكبر منه مؤجل. انظر: مشارق الأنوار على صحاح الآثار، للقاضي عياض بن موسى السبتي 1/107 ط: دار التراث. 2 رواه أبو داود في سننه رقم الحديث 3462 3/740، وقال الألباني"هو حديث صحيح لمجموع طرقه" السلسلة الصحيحة 1/1/15.

بالأحاديث المرغبة في الحرث، فلا تعارض بينها، ولا إشكال"1. فمن فوائد هذا الحديث أن الإخلاد إلى الدنيا وترك الجهاد والإعداد موجب لعقوبة الله لجماعة المسلمين، بتسليط الذل عليهم، وذهاب ريحهم، وزوال الهيبة من قلوب أعدائهم. وفائدة أخرى هامة دل عليها الحديث، هي بيان الطريق إلى رفع الذل عنهم، وأنه يكون برجوعهم إلى دينهم، ومعلوم أن الرجوع إلى الدين يستلزم من الأمة جهاداً داخلياً يتم داخل المجتمع المسلم وبين أفراده، بالدعوة إلى الله والتواصي بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم، والغرض من ذلك مراجعة الدين وإزالة ما حصل فيه من انحرافات ومخالفات في العقائد والعبادات والمعاملات، ويشهد لذلك الرواية الأخرى في مسند الإمام أحمد وفيها: " أنزل الله بهم بلاء فلم يرفعه عنهم، حتى يراجعوا دينهم "2. ومراجعة الدين خطوة تسبق الرجوع إليه وتؤدي إليه، ومن ذلك إقامة الجهاد والعمل على الإعداد بعد إصلاح العقائد والأعمال، والتخلص مما لم يأذن به الله منها، وبذلك تدخل الأمة الميدان متسلحة أولاً بالإيمان الصحيح الذي تستوجب به ولاية الله وتوفيقه وتسديده

_ 1 السلسلة الصحيحة 1/1/17. 2 رواه الإمام أحمد في مسنده، تحقيق أحمد شاكر، رقم الحديث 4825 8/27.

وعونه ورعايته ونصره. أما الدعوة أو العمل على إقامة الجهاد كخطوة أولى دون أن تتقدمها الخطوة التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي مراجعة الدين والرجوع إليه، فإن ذلك مُؤداه الدخول إلى ميدان الصراع بدون ولاية الله التي لا يتحصل عليها إلا من كان على ما أراده الله وشرعه من الاعتقاد والعمل، وهي محاولة لرفع الذل والظلم عن المسلمين دون العمل على إزالة السبب الأول والرئيس في حصوله، وهو الانحراف عن الدين، والبعد عما كان عليه السلف الصالح، وانتشار المخالفات والبدع العقدية والفعلية والقولية بين المسلمين، تلك المخالفات التي حجبت عن الأمة ولاية الله. الأثر الثاني: دلت الآية {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْض} على أثر آخر هام حيث بينت أن القتال شرع لدفع الكفار بالمسلمين، ويترتب على ذلك انحسار أذاهم وشرهم عن عباد الله، وترك الجهاد سبب لتسلط الكفار على المسلمين، وصدهم عن دينهم، وتخريب أماكن العبادة إما بهدمها وإزالة بنيانها، أو بصد الناس عنها بفتح أبواب الشر والفساد واللهو واللعب، فينصرفوا إليها وتبقى دور العبادة خراباً من أهلها. قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة:193] .

وقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال:39] . ففي هاتين الآيتين الكريمتين بيان لأثر من آثار قتال الكفار: الأول: أن قتال الكفار قاطع للفتنة. وذلك أن تعطيل الجهاد يؤدي إلى قوة الكفار وظهورهم على المسلمين، فتحصل الفتنة بهم ومنهم، فيرتد بعض المسلمين عن دينهم، أو يفتنوا حتى يتركوه، وهذه مفسدة أعظم من مفسدة إزهاق روحه. قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْل} [البقرة:191] . قال ابن جرير -رحمه الله-: "وقد بينت فيما مضى أن أصل الفتنة الابتلاء والاختبار، فتأويل الكلام: وابتلاء المؤمن في دينه حتى يرجع عنه، فيصير مشركاً بالله، من بعد إسلامه، أشد عليه وأضر من أن يقتل مقيماً على دينه متمسكاً عليه محقاً فيه"1. وقال سيد قطب -رحمه الله-: "إن الفتنة عن الدين اعتداء على أقدس ما في الحياة الإنسانية، ومن ثم فهي أشد من القتل، أشد من قتل النفس وإزهاق الروح وإعدام الحياة، ويستوي إن تكون هذه الفتنة بالتهديد والأذى الفعلي، أو بإقامة أوضاع فاسدة من شأنها أن تضل

_ 1 جامع البيان لابن جرير 2/191.

الناس وتفسدهم وتبعدهم عن منهج الله، وتزين لهم الكفر به والإعراض عنه"1. الأثر الثاني: أنه بإقامة الجهاد يكون الدين لله. والمراد بالدين هنا العبادة والانقياد والطاعة لله في أمره ونهيه2. {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} : إذا كان دين الله هو الظاهر على سائر الأديان3. قال سيد قطب -رحمه الله-: "وغاية القتال هي ضمانة ألا يفتن الناس عن دين الله، وألا يصرفوا عنه بالقوة أو ما يشبهها، كقوة الوضع الذي يعيشون فيه بوجه عام، وتسلط عليهم في المغريات والمضلات والمفسدات، وذلك بأن يعز دين الله ويقوى جانبه ويهابه أعداؤه، فلا يجرؤوا على التعرض للناس بالأذى والفتنة ... والجماعة المسلمة مكلفة إذن أن تظل تقاتل حتى تقضي على هذه القوى المعتدية الظالمة، وحتى تصبح الغلبة لدين الله والمنعة"4. وإعداد العدة والأخذ بأسباب القوة له أثر فعال في إرهاب الأعداء القريبين والبعيدين، فمع أخذ الدولة المسلمة بأسباب القوة نجد أن الكفار

_ 1 في ظلال القرآن 2/272. 2 جامع البيان 2/194. 3 تفسير القرآن العظيم ط: الشعب 1/329. 4 في ظلال القرآن 2/273.

يشتغلون في الدفاع عن أنفسهم وتحصين ديارهم، فيستريح المسلمون من شرهم وتآمرهم. أما في حالة ضعف الدولة المسلمة، فإن الكفار يتجرؤون عليها، ويعملون في إضعافها وزعزعة أسس قوتها بالمكر والتآمر مع طائفة المنافقين والعملاء، أو الاعتداء المباشر على بعض تجمعات المسلمين، أو بالضغوظ المختلفة التي سبقت الإشارة إليها. قال تعالى مبيناً هذا الأثر: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [الأنفال:60] . ففي هذه الآية الكريمة ذكر الله تعالى ثلاثة أسباب هامة، تحصل بها الغاية الفعالة وهي إرهاب العدو، فهذه الأمور هي: أولاً: إعداد المستطاع من القوة، ويختلف هذا باختلاف الزمان والمكان، فالواجب على المسلمين في هذا العصر: صنع المدافع والطائرات والصواريخ، والقنابل والدبابات، وإنشاء السفن الحربية والغواصات ونحو ذلك، كما يجب عليهم تعلم الفنون والصناعات التي يتوقف عليها صنع هذه الأشياء وغيره من قوى الحرب1.

_ 1 انظر: تفسير المراغي، أحمد مصطفى المراغي 10/24، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، ط: الرابعة، 1390هـ.

ثانياً: مرابطة الجند في ثغور البلاد وحدودها، والحكمة من ذلك أن يكون للأمة جند مستعد دائم للدفاع عنها، إذا فاجأها العدو. وهذا الأمر الهام -الذي أرشد إليه القرآن- نجد أن الأمم الكافرة التي تعمل على بسط هيبتها ونفوذها في العالم، تعمل به وتوليه عناية فائقة، من خلال تدريب جيش للتدخل أو الانتشار السريع، وأنظمة للطوارئ والإنذار المبكر، وقواعد متطورة قريبة من أماكن الخطر المتوقعة، وكان الأجدر بالمؤمنين أن يعملوا بموجبه، ويستنيروا بهدى القرآن، ويأخذوا بتوجيهاته، فيعدوا العدة، ويأخذوا بزمام المبادرة، ويحصنوا ثغورهم ويوحدوا كلمتهم، بعد أن يقيموا توحيد ربهم وشريعته، ليدخلوا الميدان حائزين على ولايته، مؤهلين لتأييده ونصره. الثالث: الترغيب في النفقة في سبيل الله، وفي ذلك إشارة إلى أن أعداد العدة وتهيئة الجيوش المرابطة تحتاج إلى بذل المال الكثير، وقد رغبهم الله في النفقة في هذا المجال، ووعدهم عليه بالأجر الجزيل في الآخرة، مع ما يتحصلون عليه في الدنيا، من عزتهم وخوف عدوهم منهم، وسلامة دينهم ودنياهم من شره وكيده. فإذا تحققت هذه الأسباب حصل ما رتب عليها من عزة الإسلام وأهله، ورهبة الكفار منهم، وبذلك يصبح المجتمع المسلم آمناً من شرهم مطمئناً، وتصبح حصونه الداخلية قوية منيعة تحت ظل حكومة قوية، كما ينقمع المنافقون والحاقدون الذين يكيدون له من داخله، لأنهم يستندون

على أعداء الإسلام ويتقوون بهم. فإذا ضعف مستندهم كبتوا وتواروا، كما أخبر الله عنهم بقوله: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] . وقال: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81] . وهذا الأثر الهام -أثر وضع الدولة المتمكن- في تحصين المجتمع المسلم، قد فطن له علماء الإسلام، وبينوا أهميته: قال الماوردي وهو يعدد واجبات الإمام: "الخامس: تحصين الثغور بالعدة المانعة، والقوة الدافعة حتى لا تظفر الأعداء بغرة ينتهكون فيها محرماً أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دماً. السادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم، أو يدخل في الذمة ليقام بحق الله تعالى في إظهاره على الدين كله"1. وقال عبد الكريم زيدان، معلقاً على كلام الماوردي: "والحقيقة أن دفع الأعداء عن دار الإسلام ضروري لحفظ الدين وبقائه، لأن اسيتلاء الكفرة على دار الإسلام ضياع للإسلام وطمس لحقائقه، وفتنة عظيمة للمسلمين، وزعزعة لعقائدهم بسبب حكم الكفرة له، وما يبذلونه

_ 1 الماوردي الأحكام السلطانية ص16.

لصرف المسلمين عن دينهم الحق، بالوعد والوعيد والتلبيس والخداع أو التضليل، بل نستطيع القول أن من لوازم وتمام حفظ الدين إعلاءه وإظهاره على جميع أنظمة الكفر حتى لا يبقى للباطل حكم قائم ولا راية مرفوعة"1. وقال محمد بن ناصر الجعوان: "القتال في الإسلام عبادة عظيمة من أفضل القربات إلى الله وأكثرها أجراً وثواباً كيف لا؟ ‍ وهو الذي بسببه تقوى ركائز الدعوة الإسلامية، وينشط أهلها، وتتعمق في الأرض جذورها، وهو الذي يجعل أعداء الحق يخضعون لسلطان الله، فيتركون المسلمين يؤدون عباداتهم ويقيمون دولتهم، وينشطون في دعوة الآخرين إلى الله ورسوله، ونحن نعلم جميعاً بأن دولة الإسلام في عهد مؤسسها الأول محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لم تقم ولم يخضع لها الكفر وأهله، إلا بعدما ارتفعت راية الجهاد عندما فرضه الله عليهم"2. وخلاصة ما تقدم: أن إقامة الجهاد في سبيل الله، وتكاتف الأمة في الإعداد له والإنفاق بسخاء على ذلك يمكن للأمة في الأرض، ويعلي من شأنها، وتكسر شوكة أعدائها ويأخذهم الرعب والرهبة منها، وبذلك تبقى حصون الدولة الداخلية آمنة من مكرهم، قوية بقوة الأمة، عزيزة بعزتها.

_ 1 أصول الدعوة ص222. 2 القتال في الإسلام وأحكامة وتشريعاته، ص45، مطابع المدينة، الرياض ط: 2/ 1403?.

الخاتمة في ختام هذا البحث عن آثار الإيمان في تحصين الأمة الإسلامية ضد الأفكار الهدامة، والذي تم الكلام فيه -بحمد الله- في تمهيد وثلاثة أبواب، أجمل أهم النتائج التي احتواها فيما يلي: 1- أن الإيمان المؤثر الذي يثمر لصاحبه ولاية الله، ويتحصن به ضد الشرور عامة والفكرية خاصة، هو ما بينه الله في كتابة وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكان عليه سلف الأمة، وهو الذي يشمل الاعتقاد والقول والعمل. 2- وأنه يقوم على أسس هامة هي: أولاً: الكفر بالطاغوت والبراءة من الشرك وأهله. ثانياً: الإيمان بالغيب. ثالثاً: القيام بمقتضى التكليف بامتثال الأوامر واجتناب النواهي. رابعاً: الإخلاص لله في العبادة. خامساً: صدق المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم. سادساً: العلم والبصيرة في كل ما تقدم. 3- إن الصراع بين الحق والباطل من سنن الله الجارية إلى يوم القيامة، وأنه قائم بين المؤمنين والكافرين بشتى ومختلف الميادين، وأنه يأخذ أشكالاً ثلاثة على وجه الإجمال: الأول: الصراع بالمجادلة والمحاجة. الثاني: الصراع بالمراوغة والكيد والتآمر وبث الشبهات ونحوها، من

جند الشيطان ضد المؤمنين (الصراع أو الغزو الفكري) . الثالث: الصراع المسلح. 4- أن أعظم أنواع الصراع تأثيراً على سلامة الأمة الإسلامية هو الصراع والغزو الفكري الذي استهدف زعزعة الإيمان، وحرف السلوك بنشر الفكر الهدام. 5- أن الجهود القديمة لأعداء الإسلام من اليهود والنصارى والحاقدين من أبناء الفرس أثمرت الفرقة بين صفوف المسلمين، ونتج عنها ظهور الفرق المنتسبة للإسلام التي تتبنى كل منها جملة من الأفكار الجاهلية. 6- أن الجهود الحديثة المنظمة المدعومة من الدول القوية الصليبية والشيوعية، ومن اليهود أثرت تأثيراً جذرياً في حرف كثير من المسلمين أفراداً وجماعات عن الالتزام بالدين وتطبيقه، وتفننوا بوسائل التضليل وأجادوها، ونشروا الفكر الخبيث بأساليب متقدمة، ولا تزال تزداد مكراُ وخبثاً في هذا المجال. 7- أن على المؤمنين التصدي لهذا الهجوم الفكري الخبيث بمقاومته والتخلص من آثاره والعمل على وقاية المجتمع منه، وأن يكون ذلك وفق خطة مدروسة يجتمع عليها كافة أفراد المجتمع من ولاة وعلماء ودعاة وعامة، ويجند لها كل الوسائل المشروعة المناسبة. 8- أن على الأمة أن يدخلوا ميدان الصراع والمقاومة وهم مؤيدون

بولاية الله، وهذا لا يتسنى لهم إلا بالتزام الإيمان الصحيح الذي يوجب لهم ولاية الله ونصره وتأييده وتوفيقه، فالتزام الإيمان الصحيح والدعوة إليه وتعليمه للناس، وتنشئة الناشئة عليه من أهم الأسباب لمقاومة الفكر الخبيث، وهو الخطوة الأولى في العمل لمجابهته. 9- أن الآثار الإيمانية التي تثمر الحصانة من الشرور الفكرية تنقسم على وجه الإجمال إلى ثلاثة أقسام: الأول: ولاية الله لعباده المؤمنين. الثاني: الأثر القلبي المتمثل في دور الإيمان وعمله في تحصين القلوب من الاغترار بالفكر الجاهلي، وسائر الشرور. الثالث: الأثر الاجتماعي، المتمثل بإيتاء الشعائر الإيمانية الاجتماعية ثمرتها في تقوية الجبهة الداخلية، وتماسك المجتمع وتطهيره وحمايته من الضلالات عامة والفكرية خاصة. 10- أن أهم الآثار التي يستفيدها المسلم من تحقيق الإيمان، والتي لها دور بالغ في تحصينه من الفكر الهدام هي ولاية الله عز وجل له. 11- أهل ولاية الله هم المؤمنون المتقون، وهم على وجه الإجمال طائفتان: المقربون المحسنون، والأبرار أصحاب اليمين، وأهم سبب لتحصيل الولاية والذي هو الأساس الأهم الذي يقوم عليه الإيمان والتقوى، هو تحقيق التوحيد وإخلاص العبادة لله، والخلوص من الشرك وأهله.

12- أن مظاهر ولاية الله لعبده المؤمن في مجال تحصينه من الفكر الضال تتجلى في: إخراجه من الظلمات إلى النور، وأن يجعل له من كل ضيق مخرجاً، ويثبته عند الشدائد، ويحول بينه وبين ما قد يقوم بقلبه من السوء، ويحوطه بعنايته ورعايته، ومن ذلك أنه يصرفه عن الأفكار الخبيثة، أو يصرفها عنه لما يهيء له من الأسباب، وإذا كان العبد من المقربين المحسنين، فإن الله يزيد في عنايته له، ومعيته له، فلا تنبعث جوارحه وقلبه إلا لما يرضي الله، فيكون في حصن حصين من كيد المفسدين وضلالاتهم الفكرية. 13- أن لله بجماعة المؤمنين -الذين حققوا الإيمان في أنفسهم وفي مجتمعهم والتزموه ظاهراً وباطناً عقيدة وسلوكاً ودعوة وجهاداً- ألطافاً خفية وجلية، يحصنهم بها من الفكر الهدام، فيحوطهم بعنايته ورعايته، ويهديهم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويصرف عنهم كيد عدوهم، وهو معهم دائماً يدافع عنهم في جميع أحوالهم وأطوارهم، ويهيئ لهم الأسباب التي تصرفهم عن الباطل أو تصرفه عنهم. 14- أن من أعظم الآثار الإيمانية تحصينه لقلوب المؤمنين عن الأفكار المنحرفة. وذلك أنه يقوم بالقلب أهم الوظائف الإنسانية المؤثرة في سلوك الإنسان، مثل: التعقل، والاعتقادات، والإرادات والنيات، والعواطف والانفعالات. 15- أن التعقل هي الوظيفة الهامة في التأثير على بقية الوظائف

القلبية، وإذا كان العلم المتعقل الواصل إلى القلب صحيحاً انصبغت بقية الوظائف به، ومالت إلى موجبه، والعكس بالعكس، وبذلك تتبين أهمية شعيرة العلم في التأثير في صلاح القلب وعمرانه بالخير واستغنائه بالوحي عن أفكار الجاهلية. 16- أن حياة القلوب أو مرضها أو موتها موقوف على صلاح أو فساد ما فيها، وهي باعتبار ذلك ثلاثة أنواع: قلب ميت، وقلب مريض، وقلب حي. 17- أن القلب المحصن ضد الأفكار الهدامة والميل إلى الباطل، هو القلب الحي العامر بالإيمان. 18- أن أثر الإيمان على القلوب دائر بين تطهيرها وتزكيتها، ولكل منها دور في حصانة القلب وسلامته وتجافيه عن السوء والفكر الخبيث. 19- أن التطهير مقدم على التزكية، وهو شرط لها. 20- أن أثر الإيمان في تطهير القلب يتجلى في ثلاثة أمور: الأول: تطهيره من العقائد الباطلة، والظنون السيئة. والثاني: تطهيره من الران ودرن المعاصي. والثالث: تطهيره من العواطف الفاسدة. 21- أن تعقل القلب للعلم المستقى من الوحي المطهر، وقبوله له، هو العامل الأهم في تطهير القلب من العقائد الباطلة والظنون السيئة الناتجة عنها، ويتجلى ذلك بوضوح بالعلم بالله بمعرفة أسمائه وصفاته وحقه على

عباده، وتحقيق التوحيد. 22- أن العقائد الباطلة والظنون السيئة ثغرة في القلب، تميل به إلى ما يشاكلها من الفكر الجاهلي. 23- أن هذه الأهمية لمباحث التوحيد في تخليص القلب من المعتقدات والظنون الباطلة، تبين الحكمة من العناية العظيمة بتقرير مباحث التوحيد في الكتاب والسنة، وأهمية دراستها ووجوب البدء بها علماً عملاً. 24- أن كثيراً من المسلمين اليوم بحاجة إلى تطهير القلوب والمناهج، مما شابها من المعتقدات الباطلة والظنون السيئة النابعة منها. 25- أن ران الذنوب يغطي القلب وينتج عنه قطع الصلة بالله، وظلمة القلب ويغذي مادة الشر فيه، وبذلك تضعف ولاية الله له، ويسير بلا نور وهدى، ويقوى ميله إلى الباطل ويسهل تقبله للفكر الهادم، وتصبح أسوار القلب مهدمة أمام شياطين الإنس والجن الذين يزينون ويقذفون به الباطل والشبهات. 26- أن تطهير القلب من الران ودرن المعاصي، أثر هام من آثار الإيمان، وأن ذلك يتم بفعل المكفرات، وهي الأعمال الصالحة، التي جعلها الله من رحمته تكفر الذنوب وتُمحا بها الخطايا، وبذلك يحافظ القلب على سلامته ونوره، وتقوى فيه مادة الخير، وتقل نوازع الشر، وتقوى صلته بالله، حيث يُزال ما يجثم على القلب من الران ونكد المعاصي أولاً بأول بفعل المكفرات، فيبقى القلب على درجة عالية من حب الإيمان، وكره

الكفر والفسوق والعصيان، فلا يميل إلى الأفكار الهدامة، ولا تستهويه، ولو تولد في قلبه شيء منها -مما يلقيه الشيطان- أو عرضها عليه شياطين الإنس لكان فيه من النور وداوعي الخير ما يكشفها ويحرقها، وينفر القلب منها. 27- أن العواطف الفاسدة المتمثلة في حب التأله المتوجه إلى غير الله، وحب الشهوات المحرمة كالحرص على المال، وحب الفواحش من الزنى واللواط، وحب المسكرات والمخدرات، والحقد والحسد النابعان من عاطفة الكراهة، هذه العواطف الفاسدة تمثل ثغرة في القلب يتسلل منها الفكر الهدام، أو تميل بصاحبها إلى أسبابه، ويستغلها أعداء المؤمنين للنيل منهم. 28- أن أثر الإيمان في تطهير القلب من داء الحرص على المال والدنيا، يتجلى في دراسة التوحيد وتقوية الاعتقاد بمعرفة أسماء الله، وما تدل عليه من الصفات والأفعال، والتوكل على الله والإيمان بالقدر، كما يتجلى بإقامة الصلاة والمداومة والمحافظة عليها، وأداء الزكاة والنفقات. 29- أن أثر الإيمان في تطهير القلب من محبة الفواحش يتجلى في اعتقاد التوحيد الذي يعمر القلب بمحبة الله والخشية منه، نتيجة لمعرفته بأسمائه وصفاته وأفعاله، كما يتجلى بأثر الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وفي الذكر الذي يحصن العبد من عدوه الشيطان، ويوجب ذكر الله له، وفي الصيام الذي يزيد في تقواه وقربه من مولاه، ويضعف الشهوة ويكسر حدتها.

30- أن الحسد مرض قلبي يضر بصاحبه فيحمله على رد الحق، وفعل الشر والعدوان، فقد كان الدافع إلى فعل أمهات المعاصي الكبيرة، كما أنه مرض اجتماعي يورث العداوة والبغضاء ويعمل على البغي والعدوان، فهو بذلك ثغرة يتسلل منها شياطين الإنس والجن لتفريق المسلمين وإفساد دينهم ودنياهم، وبث الأفكار الخبيثة بينهم. 31- أن أثر الإيمان في تخليص القلوب من داء الحقد والحسد يكمن في إزالة الدوافع لها، بتقوية الإيمان بتعليم الناس أسماء الله وصفاته وأفعاله، وغيرها من حقائق التوحيد، وبفرض الزكاة والحث على الإنفاق، وتحريم الربا، والتحريض على التعاون والتكافل بين المسلمين والأمر بإفشاء السلام وحسن الخلق. 32- أن أثر الإيمان في تطهير القلب هو أثر هادم للوظائف الذميمة القائمة بالقلب، والتي تمثل ثغرات ومداخل في حصنه يتسلط عليه من خلالها الشياطين بوساوسهم وأفكارهم المفسدة. كما أن أثر الإيمان في تزكية القلوب هو أثر بَانٍ -بإذن الله- للخصال الحميدة في القلب، والتي يتحصن بها ضد أعدائه ومخططاتهم الرامية إلى التسلل إليه وإفساده. 33- أن أثر تزكية القلب بالإيمان في تحصينه ضد الفكر الهدام إنما يكون بما يحصل فيه من الطمأنينة والنور والبصيرة. 34- أن القلق المرضي الذي يقوم بالقلب، له عدة أشكال: منها

قلق القلب وتشوقه للعلم المصحوب بأي نوع من عدم الثقة أو القناعة بالوحي، ومنها القلق الناتج عن مخالفة الفطرة بالعصيان. وهي تمثل ثغرات تدفع القلب إلى الفكر الهدام. فالنوع الأول: يدفع الإنسان إلى البحث عن العلم والمعرفة في كتب الفلاسفة أو غيرهم، التي هي مستنقعات للأفكار الضالة. والنوع الثاني: يدفع صاحبه إلى التخلص منه بوسائل الترفيه التي تحتوي غالباً على الفكر الهدام، أو تكون مصائد لإيقاع الناس فيه. 35- أن الطمأنينة هي غنى القلب وركونه إلى الإيمان الذي يتحصن به من كل شر فكري يؤثر في عقائده أو عاطفي يخل بمشاعره وإراداته. 36- أن السبب الوحيد لطمأنينة القلوب وشفائها من أمراضها وزوال قلقها ووحشتها هو ذكر الله، وذكر الله بمدلوله الواسع الشامل لكل ما يُذكر بالله، أو يذكر الله به. ويجمع ذلك تحقيق الإيمان بالعلم بما نزل من الوحي والعمل به، فالإيمان بمختلف شعبه يجلب للقلب الطمأنينة، فإذا تغذى القلب من العلم المستقى من الكتاب والسنة وانصبغت عقائده وعواطفه وانفعالاته وإراداته بذلك اطمأن وسكن، وكلما زاد الإيمان زادت الطمأنينة واستغنى القلب وعظم انفكاكه وابتعاده عن أفكار الجاهلية وأعمالها. 37- أن شعب الإيمان المؤثر في حصول الطمأنينة هي تلك التي

تحقق للقلب ما يصبو إليه ويتطلع لتحصيله من المعلومات والمحبوبات، التي توجد به الخير والصلاح، وتعمل على قوته وثباته واستقراره. فهو يعرف بالعلم ما يتطلع إليه من معرفة خالقه ومالكه ومدبره باستشعاره لأسماء الله وما تدل عليه من الصفات والأفعال، ويعرف دوره في الحياة والأمر الذي خلق من أجله، ومبدأه وغايته ومصيره، ويتجلى ذلك بمعرفة وتحقيق توحيد الألوهية الذي يحمي النفس من الصراع والتشتت، ويجلب للقلب السكينة، وبالإيمان باليوم الآخر الذي يجعل للحياة معنى وغاية. 38- أن التوكل على الله يلبي للقلب حاجة جُبل عليها، وهي تطلعه إلى ركن شديد يعتمد عليه، ويركن إليه في حصول الخير ودفع الشر، والتوكل حصن يحمي العبد من الفزع أو الاعتماد والركون إلى أعداء الله، فيؤثرون عليه ويجرونه إلى فكرهم الخبيث، أو يستخدمونه لتحقيق هذا الغرض كما يفعلون بالمنافقين الذين قل اعتمادهم على الله، وركنوا إلى أعدائه من اليهود والنصارى وغيرهم. 39- أن العلم والإيمان بالقدر وإدراك العبد للفرق بين الأمر الكوني القدري والأمر الشرعي التكليفي، ومعرفة الاستجابة المناسبة لكل منهما، له أثر عظيم في سكون النفس وطمأنينة القلب واستقراره ورضاه بالله وعن الله، وزوال القلق الدافع إلى الأفكار الهدامة أو مورادها. 40- أن تزكي القلب بالإيمان القائم على الإخلاص والعلم المستمد

من الوحي المطهر يوجد في القلب نوراً وفرقاناً يهدي صاحبه إلى مواطن الخير، ويكشف له عن مواطن الهلكة والضلال، كما يصبح في القلب ملكة وحساسية يتذوق بها ما يلائمه من الخير، فيميل ويسكن إليه، وما ينافره من الشر فيشمئز منه، وينفر عنه وواعظ يذكره بالله، وهذه حصون يتحصن بها القلب ضد أي فكر يستهدف زعزعة عقائده أو حرف عواطفه والميل بإراداته، تقوى هذه الحصون كلما قوي العلم والإيمان، وتضعف بضعفهما. 41- بيان الآثار الاجتماعية التي يتحصن بها المجتمع المؤمن الذي التزم شعائر الإيمان وطبقها، وهي: تقوية الرابطة الإيمانية، والتزام الأخلاق الفاضلة، وتطبيق النظم الإسلامية في البيع والشراء، وسائر العلاقات، وإقامة الحدود ووظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... ونحوها. وقيام ولي الأمر بدوره في تنفيذ الدين وسياسة الدنيا به وحمايته والدفاع عنه، وإقامة شعيرة الجهاد التي يعز الله بها عباده المؤمنين، ويمكن لهم في الأرض، هذه الأمور جميعاً تمثل أسواراً وحصوناً يحمي الله بها المجتمع من شرور الجاهلية عموماً، وفكرها النجس خصوصاً، وإذا اختل أحدها كان ثغرة ينفذ منها شر الجاهلية، وفكرها الخبيث. 42- أن الرابطة الإيمانية هي أهم الأسس التي يقوم عليها المجتمع المسلم، وبالتالي فهي أهم وأقوى الحصون التي تحصن المجتمع من كيد أعدائه وأفكارهم المسمومة وتخطيطاتهم الخبيثة.

43- أن أهم العوامل التي تنمي الرابطة الإيمانية هي: 1- التزام الأخلاق الفاضلة. 2- أداء المسلمين للحقوق المفروضة لبعضهم على بعض. 3- التزام النظام الاجتماعي والاقتصادي الإسلامي. 4- المحافظة على الوحدة الفكرية. 44- أن كلا من هذه العوامل يمثل لبنة في حصن المجتمع، بقيامها يتماسك وتقوى رابطته، وبضعفها أو زوالها يهتز بناء المجتمع ويدب فيه الفساد، ويصبح فيه منافذ للشرور الفكرية وغيرها. 45- أن التزام الأخلاق الفاضلة له أثر في تقارب المؤمنين وصلاحهم وقربهم من الله، فتسود المحبة والألفة ويتعاملون بالمودة والتراحم والتعاون، وتوجد الثقة بينهم، ويحب كل منهم لأخيه ما يحبه لنفسه، فيسود بينهم الرضى والأمن، وتصبح جبهتهم الداخلية قوية متحدة يصعب على العدو اختراقها. أما التفريط في الأخلاق الفاضلة فله أثر في بعد المسلمين عن ربهم، وتنافر قلوبهم، وضعف الرابطة التي تشدهم، وتنبعث بذور الفرقة والشر بينهم، وبذلك يصبح الجو مهيأً لأعدائهم لنشر الأفكار الخبيثة التي تفرق بينهم وتجرهم إلى المهالك. 46- أن لقيام أفراد المجتمع بالحقوق المفروضة لبعضهم على بعض، أثراً هاماً في قوة الرابطة الإيمانية التي تربط بينهم، كما تقوي صلة المجتمع

بالله، فيصبح المجتمع قوياً متماسكاً صعباً على المفسدين. وإذا ضيعت الحقوق حصل التذمر والخصام والعداوة، وتضعف الرابطة، وتقل ولاية الله لهم، فيصبح حصن المجتمع ضعيفاً يسهل اقتحامه. كما أن الخلل الناتج عن تضييع تلك الحقوق يضعف ثقة بعض أفراده -ممن قل حظهم من العلم والإيمان- بنظام الإسلام وتعاليمه، فيحملهم ذلك على تطلب البدائل في مستنقعات الشرق أو الغرب، وأفكارهم الفلسفية العفنة. 47- أن الالتزام الدقيق بالنظم الإسلامية ضروري لاستقرار حياة الناس، وإقامة العدل بينهم، وحفظ حقوقهم، وانتشار الأمن والأمل في نفوسهم، فينطلقون في ميادين الحياة بثقة وجد للعمل على إصلاح دينهم ودنياهم، وبذلك يترسخ رباط الأخوة ويستحكم ويتعاونون في سعيهم وكدحهم وهم في أمن من بواعث الشر والنزاع بفضل صلاحية النظام وشموله، ومراعاته لمبادئ الأخلاق والعدل. 48- أن الإخلال بشيء من النظم الإسلامية تحصل من جرائه الفوضى والقلاقل والظلم والعدوان، وينجم النفاق والبلبلة الفكرية، والخلاف السياسي، فتتقطع الأرحام، وتضيع الحقوق. وإذا زاد التحلل من النظام الإسلامي اختل المجتمع، وشغل الناس بأنفسهم وأهوائهم، وذهلوا عن العبادة والعلم، فيضعف الإيمان وتقل رابطته، ويفشل المسلمون، وتذهب ريحهم، وتُزيغ كثيراً منهم الأهواء،

وتتخطفهم الفتن القائمة على الأفكار الهدامة. 49- أن النظم الإسلامية كثيرة، وكلها لها أثر في تقوية الرابطة بين المؤمنين وتحصين المجتمع من الشرور الفكرية، إلا أن نظام الجزاء والعقاب، والنظام الاقتصادي الإسلامي لهما أثر بارز هام وخطير في تحقيق ذلك. 50- أن إقامة الحدود والتعزيرات حصن هام يقي المجتمع سائر الشرور وخاصة الأفكار الهدامة، فلا بد من الصرامة والحزم في تطبيقها على من استحقها وفق الضوابط الشرعية. 51- أن عقاب المفسدين في الأرض بترويج الفساد الفكري واجب إيقاعه، والصرامة في تنفيذه، سواء كان حداً يشمله عموم المحاربة لله ولرسوله، وعموم الإفساد في الأرض، أو كان ذلك من باب قياس الأولى؛ لأن إفسادهم أشد وخطرهم أعظم، فكان إنزال العقاب بهم أوجب، أو كان ذلك من باب التعزير، وهذا العقاب يمثل حصناً مهماً يحمي به الله المجتمع من الشرور الفكرية ودواعيها. 52- أن النظام الاقتصادي الإسلامي يقوم على أسس متينة تتمثل في استمداده من العقيدة الإسلامية، ومراعاة الفطرة الإنسانية، وقيامه على الأخلاق الفاضلة، ويسد حاجات الناس المعيشية. وإذا التزم المسلمون به استقامت حياتهم، وانتظم تعاملهم، وانقطعت بوادر الشر والحقد الحسد والضغينة والبغضاء، وأمن الناس على أرزاقهم ومصالحهم فتتماسك جبهتهم الداخلية.

53- أن الإخلال بالمعاملات الاقتصادية الشرعية، وتعدي حدود الله فيها يؤدي إلى اختلال المجتمع وتغير القلوب، ويعتب بعضهم على بعض، ثم يحقد ويحسد، فتختل الأسوار الواقية للمجتمع والعاملة على تماسكه وسلامته، فيضطرب النظام الاجتماعي، وتضعف الرابطة الإيمانية، ويقع الشر بين المسلمين، ويصبح المناخ مهيأً لشياطين الإنس والجن للعمل على الإيقاع بينهم، وبث المبادئ الفاسدة والشبهات المزخرفة والمذاهب الاقتصادية المتخبطة. 54- أن المحافظة على الوحدة الفكرية المتمثلة بملء قلوب الناس وإنارتها بالعقائد الحق، والمفاهيم الصحيحة، واستئثار الوحي المطهر بذلك، ينتج عنه تقارب وانسجام في تفكير أفرادها، فهو ضرورة اجتماعية لازمة لاتحاد المسلمين وقوة رباطهم الإيماني. 55- أن تخلف الوحدة الفكرية والتفريط بالمحافظة عليها ينتج عنه أمران خطيران: الأول: الفراغ الفكري الناتج عن انتشار الجهل وانصراف الناس عن العلم. الثاني: الفرقة الفكرية أو الفوضى الفكرية، حيث تنتشر المعارف وتقوى حركة التعلم مع اختلاف المشارب الفكرية. 56- أن النتيجة النهائية للفراغ الفكري: هي أن يسود المجتمع خليط من الأفكار الفاسدة، والخرافات والتصورات والعادات الجاهلية،

ويصبح المجتمع مفتوح الثغور لكل فكر ضال. ونتيجة الفوضى الفكرية أشد وأنكى حيث يتوزع أبناء المجتمع المسلم إلى طوائف، كل طائفة خلف فكرة ومبدأ، ويزخرف كل فريق مبدأه، والمجال مفتوح لكل منهم بحجة الحرية الفكرية، ويجد كل فكر خبيث خارجي فئة من المجتمع تسير على مبدئه، فيعمل من خلالها؛ وقد يتمادى الحال تحت هذه الظروف فيتجرأ المفسدون على مدح الكفر والإلحاد والتشكيك والاستهزاء بمسلمات الدين بلا خوف ولا حياء. وبذلك يتفكك المجتمع ويعادي بعضه بعضاً، وتزول رابطة الإيمان كرباط مشترك لجميع أفراده، ويتعذر مع ذلك الاجتماع على تحكيم نظم الإسلام، فتتعالى الأصوات للاجتماع على العلمانية والديمقراطية، وبذلك يُطعن الإسلام في الصميم، ويُقصى عن حكم الناس، ويحشر في دائرة ضيقة لا تتعدى الحرية الشخصية. 57- أن المحافظة على الجانب الفكري أمر مهم جداً، وإنما يتم بإخلاص التلقي والتعليم من الوحي الكريم، والاستغناء به في سائر الجوانب العقدية والعبادات والأخلاق والآداب، وذلك أصل قرره الكتاب والسنة وسار عليه السلف الصالح، وكثير من العلماء العاملين، ويتحقق ذلك بإذن الله بالعمل في اتجاهين هامين: الأول: التطهير. والثاني: التزكية.

58- أن تطهير الجانب الفكري في المجتمع الإسلامي من الفكر الدخيل، يتم بخطوات أهمها: أولاً: عزل المجتمع المسلم عن أفكار وثقافات المجتمعات الجاهلية. ثانياً: تطعيم أفراد المجتمع المسلم ضد الأفكار الجاهلية التي يخشى من تسللها إليهم، ويكون ذلك بنقد وتفنيد الأسس والمبادئ التي تقوم عليها تلك الأفكار ودحض حججها وبيان بطلانها، وبالمقابل التركيز على بيان محاسن الإسلام ومزاياه العظام، وتقوية الاعتزاز به. ثالثاً: تنقية الفكر المنسوب للإسلام في جميع ميادينه من الفكر الدخيل الزائف. 59- أن المحافظة على الوحدة الفكرية تستلزم تزكية أفراد المجتمع بالتوسع في نشر عقائد الإسلام وتعاليمه المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على فهم السلف الصالح. 60- أن العمل في جانب التزكية الفكرية إنما يتم بالعناية بالأسرة -وخاصة المرأة- تعليماً وتربية على العقيدة السليمة والخلق الفاضل، والاعتزاز بالإسلام والحماس به، وتسخير كافة الجهود والوسائل لتحقيق هذا الغرض، وأن تكون رسالة التعليم والتربية والإعلام والمسجد واحدة هي رسالة الإسلام، ووظيفتها هي الدعوة إليه، والدفاع عنه، وإعداد أجيال تطبق الإسلام تطبيقاً سليماً وتتحمس له، وتنهض به، عالمة عاملة مؤيدة.

61- أن العمل على المحافظة على مقومات المجتمع إنما يكون بالتواصي بالحق، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على ذلك، والصبر والمثابرة في سبيل تحقيقه. 62- أن هذه الشعائر الإيمانية كما أنها لازمة لقوة ومتانة الرابطة الإيمانية، فهي أيضاً حصن يقي المجتمع من الفكر الخبيث، وسائر الشرور. 63- أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قضية مصيرية، يترتب عليها احتفاظ الأمة بمسارها الإسلامي، وهي وظيفة اجتماعية يجب أن تحظى بعناية المسلمين أجمعين، ولهذه الشعيرة المباركة أهمية بالغة في مجابهة العاملين على إفساد المجتمع الإسلامي. 64- أن أساليب الأعداء في نشر الأفكار الضالة والشبهات المزخرفة لا يتسنى لها النجاح إلا بغياب أو ضعف وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وإقامة هذه الشعيرة ضمانة للمجتمع من التلوث الفكري والأخلاقي، لذلك يجب أن تكون الأمة يقظة مهتمة بإقامته، ومن ذلك الحسبة على وسائل الاتصال العامة من أن يتطرق إليها خلل يسمح للمفسدين بمخاطبة المجتمع أو نشر تلبيساتهم. 65- أن إقامة ولي الأمر -إمام المسلمين- من أهم واجبات الدين، لما يترتب عليه من صلاح الدين والدنيا في المجتمع المسلم. 66- أن الإمام إذا كان عالماً بمهام ومقاصد الحكم، عازماً متحمساً

لتنفيذها، والتزم بتولية الأصلح، والمشاورة لأهل العلم وغيرهم من أهل الرأي والاختصاص، قائماً على واجب الدفاع عن الدين، ومن ذلك مقاومة الأفكار الهدامة والداعين إليها، فإن ذلك كله يمثل حصناً يقي الله به المجتمع الإسلامي من شرور الجاهلية الفكرية وغيرها. 67- أن وضع الدولة الإسلامية غير المتمكن الذي تكون فيه دولة الإسلام ضعيفة، قد ظهر عليها الكفار وفاقوها عدداً وعدة، وأصبح وضعهم السياسي والعسكري والاقتصادي أقوى من وضعها ... وهي في داخلها لم تأخذ بعد بأسباب التمكين من سلامة العقيدة، وإخلاص العبادة واتحاد الكلمة، وإعداد العدة، هذا الوضع يجعلها مكشوفة مهدمة الأسوار أمام الكفار، فإما أن يأخذوها لقمة سائغة فتقع تحت حكم الأعداء مباشرة، فيفرضون عليها الفكر الهدام ويؤسسون له في كل المجالات. وإما أن تبقى دولة الإسلام مستقلة، ولكن توجه إليها ضغوط مختلفة، فتُكره على انتهاج سياسات اجتماعية، وإعلامية تسمح بنشر الأفكار الضالة والعلاقات المنحرفة ... وتُكره على سياسات اقتصادية وزراعية وصناعية تضمن عدم نهوض المجتمع المسلم في ميادين الصناعة والقوة والتجارة، فيبقى بعيداً عن أسباب النصر والتمكين، ومستهلكاً دائماً لصناعة الكفار. 68- أن الجهاد شعيرة هامة من شعائر الإيمان، أمر الله به المؤمنين وجلعه من أسباب فلاحهم، له آثار هامة في مجال قوة المجتمع المسلم

وتحصينه ضد الشرور عامة والفكرية خاصة فمن هذه الآثار: أولاً: أن القتال وسيلة لرفع الذل عن المستضعفين من أهل الإيمان. ثانياً: أنه به يدفع شر الكفار الذي يعملون على فتنة الناس عن الحق، والإفساد في الأرض، ومن ذلك نشر الفكر الخبيث. ثالثاً: أنه بإقامة الجهاد يكون الدين كله لله. 69- أن إقامة الجهاد يتطلب الإعداد الجيد المسبق لكي يؤتي ثماره، وهذا الإعداد يتمثل فيما يأتي: أولاً: الجهاد الداخلي الذي يتم داخل المجتمع المسلم وبين أفراده، بالدعوة إلى الله، والتواصي بالحق، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والنصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم؛ والغرض من ذلك مراجعة الدين وإزالة ما حصل فيه من انحرافات ومخالفات في العقائد والعبادات والمعاملات. ثانياً: إعداد المستطاع من القوة. ثالثاً: إعداد الجنود وتدريبهم ومرابطتهم في ثغور البلاد وحدودها. رابعاً: الإنفاق في سبيل الله على إعداد القوة وتهيئة الجيوش، وما يلزم لذلك. 70- أن إقامة الجهاد في سبيل الله، وتكاتف الأمة في الإعداد له والإنفاق بسخاء على ذلك، يمكن لها في الأرض، ويعلي شأنها، وتكسر شوكة أعدائها، ويأخذهم الرعب والرهبة منها، وبذلك تبقى حصون

الدولة الداخلية آمنة من مكرهم، قوية بقوة الأمة عزيزة بعزتها. 71- أن الثمرة الجامعة لهذا البحث هي القناعة بأن العناية بتطبيق الإيمان الصحيح وفق معالمه المبينة في الكتاب والسنة، والتي التزم بها وبينها سلف الأمة الصالح، والتركيز على هذا الأمر، وإعطائه الأولوية في كل السياسات، وفي جميع المجالات، والتزام العلماء والدعاة والقادة على المستوى الفردي، وعلى مستوى الجماعات والدول به، بجعله المحور الذي تبنى عليه المناهج، وتنبثق منه جميع النشاطات، إن العناية بذلك وظهور أثره في المجتمع متمثلاً بسلامة العقيدة، والاستجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، سوف يحدث تغييراً جذرياً في حياة الأمة، وفي ولاية الله لها، وفي علاقتها مع بعضها، ووضعها بين الدول. فتسود الألفة والوحدة على التوحيد بدلاً من الفرقة، وتكون الأمة بعين الله يكلؤها ويسددها ويهديها لأسباب عزتها، ويهيئ لها من كل ضيق مخرجاً، ويصبح لها وزن وثقل وقوة، لا يستهان بها بين الأمم ويمكّن الله لها في الأرض، يقوى ذلك ويزيد كلما زادت العناية بالإيمان علماً وعملاً، ويضعف بضعفه. وفي الختام أحمد الله عوداً على بدء، فالحمد لله أولاً وآخراً، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

مصادر ومراجع

مصادر ومراجع ... فهرس المصادر والمراجع: القرآن الكريم. الإبانة عن أصول الديانة، لأبي الحسن الأشعري، تحقيق د. فوقيه حسين محمود، دار الأنصار، ط الأولى، 1397. الإتجاهات الفكرية المعاصرة وموقف الإسلام منها، د. جمعه الخولي، والناشر الجامعة الإسلامية المدينة، ط الأولى، 1407. أثر المخدرات على الأمة وسبل الوقاية منها، د. أحمد عطية الغامدي، ضمن مجموع بحوث في المخدرات، البحث الثالث، الجامعة الإسلامية. الأحكام السلطانية، لأبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي، مطبعة مصطفى الحلبي، القاهرة، ط الأولى1386?. أديان الهند الكبرى، د. أحمد شلبي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة ط الرابعة، 1976م. أرسطو، عبد الرحمن بدوي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط الثانية، 1944م. إراوء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، محمد ناصر الدين الألباني، إشراف: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، دمشق،

ط الأولى، 1399?. أساليب الغزو الفكري، د. علي جريشه ومحمد شريق الزيبق، دار الاعتصام القاهرة، ط الأولى، 1978. الإسلام والدعوات الهدامة، أنور الجندي، دار الكتاب اللبناني، بيروت ط الأولى 1974. الإصابة في تمييز الصحابة، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط الأولى 1328?. الأصول الثلاثة وأدلتها، للشيخ محمد بن عبد الوهاب، مكتبة الشباب مكة المكرمة، ط الأولى 1387?. أصول الدعوة، د. عبد الكريم زيدان، دار عمر بن الخطاب للطباعة والنشر، الإسكندرية ط الثالثة، 1396?. الاعتصام للإمام أبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، دار المعرفة، لبنان، ط بدون، ت بدون. الأعلام –قاموس تراجم، لخير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، ط السادسة، 1984. الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية، للحافظ عمر بن علي البزار، تحقيق زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، ط الثانية،

1396? إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، العلامة محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، تحقيق محمد عفيفي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط الأولى 1407?. اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق د. ناصر العقل، شركة العبيكان للطباعة والنشر، الرياض، ط الأولى، 1404?. الإمامة والرد على الرافضة، لأبي نعيم الأصفهاني، تحقيق د. علي ناصر فقيهي، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط الأولى، 1407?. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، شيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق د. صالح المنجد، دار الكتاب الجديد، بيروت، ط الأولى، 1396?. الإنسان في الإسلام والإنسان المعاصر، عبد الغني عبود، دار الفكر العربي، ط الأولى 1978. أوربا العصور الوسطى، التاريخ السياسي، د. سعيد عبد الفتاح عاشور، مكتبة الأنجلو المصرية، مصر ط السادسة، 1975م.

الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية، دار الكتب العليمة، بيروت ط الأولى 1403?. الإيمان والحياة، د. يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط التاسعة، 1403?. البث المباشر حقائق وأرقام، د. ناصر سليمان العمر، دار الوطن، الرياض، ط الأولى 1412?. بحوث في علم النفس العام، د. فائز محمد علي الحاج، المكتب الإسلامي، ط 4، 1403?. بدائع السلك في طبائع الملك، لأبي عبد الله بن الأزرق، تحقيق علي سامي النشار، وزارة الثقافة العراقية، ط الأولى، 1978م. البداية والنهاية، للحافظ ابن كثير، تحقيق د. أحمد أبو طحم وجماعة، دار الكتب العليمة، بيروت، ط الرابعة 1408?. البداية والنهاية لابن كثير، دار الفكر العربي، ط بدون، ت بدون. البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، لمحمد بن علي الشوكاني، مطبعة السعادة، القاهرة، ط الأولى، 1348?. البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان، لعباس بن منصور

السكسكي الحنبلي، تحقيق د. علي سلامة العموش، مكتبة المنار، الأردن، ط الأولى 1408?. بروتوكولات حكماء صهيون، الاتحاد الإسلامي العالمي لمنظمات الطلابية، ط الأولى، 1403?. تاريخ الطبري، الرسل والملوك، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف القاهرة، 1960م. التبشير والاستعمار في البلاد العربية، د. مصطفى خالدي، ود. عمر فروخ المكتبة العصرية، بيروت ط الثانية، ت بدون. تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، لأبي العلى محمد المباركفوري، المكتبة السلفية، المدينة المنورة، ط الثانية، 1387?. التصوف، المنشأ والمصادر، إحسان إلهي ظهير، إدارة ترجمان السنة، لاهور، الباكستان، ط الأولى، 1406?. التعريفات تأليف علي بن محمد الجرجاني، دار الكتب العلمية، ط الأولى 1403?. تفسير القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار، محمد رشيد رضا،

دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، ط بدون، ت بدون. تفسير القرآن العظيم، للحافظ ابن كثير، تحقيق عبد العزيز غنيم ومحمد أحمد عاشور ومحمد إبراهيم البنا، ط الشعب، ط بدون، ت بدون. التفسير القيم للإمام ابن القيم، جمعه محمد أويس الندوي، تحقيق: محمد حامد الفقي، لجنة التراث العربي، بيروت، ط بدون، ت بدون. التفسير الكبير، محمد بن عمر الرازي، دار الكتب العلمية، طهران، ط الثانية، ت بدون. تفسير المراغي، أحمد مصطفى المراغي، مطبعة مصطفي البابي الحلبي، القاهرة، ط الرابعة، 1390?. تقريب التهذيب، للحافظ ابن حجر العسقلاني، حققه وقدم له محمد عوامه، دار الرشيد، سوريا ط الأولى، 1406?. تلبيس إبليس، لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، مؤسسة علوم القرآن، دمشق، ط الأولى، 1396?. التلمود تاريخه وتعاليمه، ظفر الإسلام خان، دار النفائس، بيروت، ط السابعة، 1405?.

تناسخ الأرواح، مصطفى الكيك، منشأة المعارف، الإسكندرية، ط بدون، ت بدون. تهذيب التهذيب، للحافظ ابن حجر العسقلاني، مصور عن طبعة دائرة المعارف النظامية، حيدر أباد بالهند، ط الأولى، ت بدون. تيسيير العزيز الحميد، لسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، المكتب الإسلامي، دمشق، ط الثالثة، 1397?. تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، طبع ونشر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض، 1404? ط بدون. جامع البيان عن تأويل القرآن، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وشركاه، مصر، ط الثالثة، 1388?. الجامع الصحيح للإمام أبي محمد بن إسماعيل البخاري، مع شرحه فتح الباري للإمام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، تحقيق: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الطبعة السلفية، الناشر: رئاسة إدارة البحوث العلمية

والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض، ت، ط بدون. جامع العلوم الحكم، لابن رجب الحنبلي، مكتبة الرسالة الحديثة، عمان الأردن، ط بدون، ت بدون. جريدة الشرق الأوسط، العدد 4124، الأربعاء14/3/1990. جمهرة أنساب العرب، لابن حزم، تحقيق وتعليق عبد السلام بن محمد هارون، دار المعارف، ط الخامسة، ت بدون. الجهاد الأفغاني ودلالاته، محمد قطب، مؤسسة المدينة للصحافة والطباعة والنشر، جدة، ط الأولى، 1410?. الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، للإمام ابن القيم، المطبعة السلفية، ط الأولى 1394?. الجوهر المنضد في طبقات متأخري أصحاب أحمد، يوسف بن الحسن عبد الهادي، تحقيق. عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط الأولى، 1407?. حتى لا تغرق السفينة، سلمان بن فهد العودة، دار الوطن للنشر، الرياض، ط الأولى، 1412?. حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، للإمام ابن قيم الجوزية، مطبعة المدني القاهرة، 1384، ط بدون.

حاضر العالم الإسلامي وقضاياه المعاصرة، د. جميل عبد الله المصري، مطابع الجامعة الإسلامية، المدينة ط الأولى، 1407هـ. خصائص التصور الإسلامي، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط العاشرة، عام 1408. الخمينية وريثة الحركات الحاقدة والأفكار الفاسدة، لوليد الأعظمي، الناشر، دار عمار، عمان، ط الأولى، 1408?. دائرة المعارف، بطرس البستاني، مطبعة المعارف، بيروت 1881م ط بدون. دائرة المعارف الإسلامية، ترجمة محمد ثابت الفندي وآخرون، دار المعرفة، بيروت، ط بدون، 1352?. دائرة معارف القرن العشرين، محمد فريد وجدي، دار المعرفة، بيروت، ط الثالثة، 1971م. درء تعارض العقل والنقل، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق د. محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، ط الأولى، 1401?. دراسات في المجتمع العربي، لنخبة من أساتذة الجامعات، الناشر اتحاد الجامعات العربية، الأمانة العامة، بيروت، ط الأولى،

1406?. ديوان حسان بن ثابت الأنصاري، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، ط الأولى 1398?. الذيل على طبقات الحنابلة، عبد الرحمن بن أحمد بن رجب، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، ط الأولى 1372?. رسائل في العقيدة، تأليف الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين، دار طيبة الرياض، ط الثانية، 1406?. رسالة شرح الصدور بتحريم رفع القبور، محمد بن علي الشوكاني، ضمن مجموعة رسائل، نشر الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ط السادسة، 1411?. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، شهاب الدين محمد الألوسي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ت، ط بدون. روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات أهل الإسلام، حسين بن غنام، المطبعة المصطفوية، بمباي، 1332?. روضة المحبين ونزهة المشتاقين، للعلامة محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، دار الباز للطباعة والنشر، مكة المكرمة، 1397?

رقم الطبعة بدون. زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن قيم الجوزية، تحقيق شعيب وعبد القادر الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، ط الثامنة، 1405?. سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب، لأبي الفوز محمد أمين السويدي، دار الكتب العليمة، بيروت، ط بدون 1409?. سلسلة الأحاديث الصحيحة، للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، الجزء الأول، المكتب الإسلامي، دمشق، ط الأولى 1378?. سلسلة الأحاديث الصحيحة، للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، الجزء الثالث، مكتبة المعارف، الرياض، ط الثانية، 1407?. سنن ابن ماجه، أبي عبد الله محمد يزيد القزويني، ت: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط بدون،1395?. سنن ابن ماجه أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني، تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي، شركة الطباعة العربية السعودية، الرياض، ط الأولى 1403?. سنن أبي داود، سليمان بن الأشعث بن إسحاق السجستاني، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، ط الأولى، 1371?.

سنن الترمذي أو الجامع الصحيح، للحافظ أبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، ط بدون، 1400?. سيد قطب حياته وأدبه، عبد الباقي محمد حسين، دار الوفاء المنصورة، ط الأولى، 1406?. السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق أبي عيد الله علي بن محمد المغربي، دار الأرقم، الكويت، ط بدون، 1406?. سير أعلام النبلاء، للحافظ الذهبي، إشراف: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط الثانية، 1402?. شذرات الذهب في أخبار من ذهب، عبد الحي بن العماد الحنبلي، دار المسيرة، بيروت، ط الثانية، 1399?. شرح الأصول الخمسة، لعبد الجبار بن أحمد، تحقيق د. عبد الكريم عثمان، مكتبة وهبة، مصر، ط الأولى، 1384?. شرح العقيدة الطحاوية، لعلي بن علي ابن أبي العز الحنفي، تحقيق جماعة من العلماء، المكتب الإسلامي، بيروت، ط الثامنة، 1404?.

شرح النووي على صحيح مسلم، للإمام محيى الدين يحيى بن شرف النووي، المطبعة المصرية ومكتبتها، ط بدون، ت بدون. شرح حديث (ما ذئبان جائعان) للحافظ عبد الرحمن بن رجب الحنبلي، تحقيق بدر البدر، الدار السلفية، الكويت، ط الثانية، 1404?. شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي، تحقيق د. محمد سعيد خطيب، دار إحياء السنة النبوية، أنقرة، ط الأولى، 1971م. شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، لابن قيم الجوزية، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط الثانية، ت بدون. الشعوبية، د. عبد الله سلوم السامرائي، المؤسسة العراقية للطباعة والنشر، بغداد، ط بدون، 1984م. صحيح الجامع الصغير للسيوطي، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، دمشق، ط الأولى، 1388?. صحيح سنن الترمذي، محمد ناصر الدين الألباني، إشراف: زهير الشاويش، مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض، ط الأولى، 1408?.

صحيح مسلم للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر: رئاسة البحوث العليمة والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض، 1400?. الصواعق المنزلة على الطائفة الجهمية والمعطلة، لابن القيم، تحقيق د. أحمد عطية الغامدي، الجامعة الإسلامية، ط الأولى، 1410?. الضوء اللامع للقرن التاسع، لمحمد بن عبد الرحمن السخاوي، دار مكتبة الحياة، بيروت، ط الأولى، ت بدون. ظلال الجنة في تخريج أحاديث السنة، لمحمد ناصر الدين الألباني، بذيل كتاب السنة لابن أبي عاصم، المكتب الإسلامي، بيروت، ط الأولى، 1400?. العبر في خبر من غبر، للحافظ الذهبي، تحقيق: فؤاد سيد، الناشر التراث العربي، الكويت، ط الأولى 1961م. العبودية، شيخ الإسلام ابن تيمية، المكتب الإسلامي، بيروت، ط الخامسة، 1399?. علماء نجد خلال ستة قرون، عبد الله بن عبد الرحمن البسام، مكتبة ومطبعة النهضة الحديثة، مكة المكرمة، ط الأولى، 1398?. علم الصحة النفسية، د. مصطفى خليل الشرقاوي، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، ط الأولى،

1983م. علم النفس المعاصر، د. حلمي المليجي، دار النهضة، بيروت، ت، ط بدون. الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام، د. عبد الستار فتح الله سعيد، دار الأنصار، القاهرة، ط الأولى، ت بدون. فتح الباري شرح صحيح البخاري، للحافظ ابن حجر العسقلاني، ط السلفية. فتح القدير، لمحمد بن علي الشوكاني، دار المعرفة، بيروت، ط بدون، ت بدون. الفتوى الحموية الكبرى، لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية، القاهرة، ط الثالثة، 1398?. فجر الإسلام، لأحمد أمين، مكتبة النهضة، القاهرة، ط الحادية عشر، 1975م. الفرق الكلامية الإسلامية، د. علي عبد الفتاح المغربي، مكتبة وهبة، مصر، ط الأولى، 1407?.

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، لتقي الدين أحمد بن تيمية، دار الكتب العلمية، بيروت، ط بدون، 1402?. الفرق بين الفرق، لعبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي، حققه محمد محي الدين عبد الحميد، دار المعرفة، بيروت، ط بدون، ت بدون. فقه الزكاة، د. يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط الرابعة، 1400?. فكرة القومية العربية على ضوء الإسلام، د. صالح بن عبد الله العبود، دار طيبة، الرياض، ط الأولى، 1401?. الفوائد لابن قيم الجوزية، دار النفائس، بيروت، ط السابعة، 1986?. فوائد قرآنية، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، بيروت، ط الأولى، 1389?. في سبيل موسوعة نفيسة، تغلب على الخوف، لمجموعة من علماء النفس الغربيين، عرض وتقديم، د. مصطفى غالب، دار مكتب الهلال، بيروت، 1985، ط بدون. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار إحياء التراث العربي، بيروت،

ط السابعة، 1391?. القاضي أبو يعلى الفراء وكتابه الأحكام السلطانية، د. محمد عبد القادر أبو فارس، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط الأولى، 1400?. القاموس المحيط، لمحمد بن يعقوب الفيروزابادي، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، ط الثانية، 1371?. القتال في الإسلام وأحكامه وتشريعاته، محمد بن ناصر الجعوان، مطابع المدينة، الرياض، ط الثانية، 1403?. قصة الحضارة، ول ديورانت، ترجمة نجيب محمود وآخرين، الناشر: لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، ط الثالثة، 1986م. كشاف اصطلاحات الفنون، محمد علي الفاروقي التهانوي، تحقيق لطفي عبد البديع، المؤسسة المصرية للتأليف والنشر، القاهرة، ط بدون، ت بدون. كلمة الإخلاص وتحقيق معناها للحافظ ابن رجب الحنبلي، المكتب الإسلامي، دمشق، ط الخامسة، 1399?. الكواكب النيرات في معرفة من اختلط من الرواة الثقات، لمحمد

ابن أحمد الكيال، تحقيق: عبد القيوم عبد رب النبي، مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى، مكة المكرمة، ط الأولى، 1401?. لسان العرب، لأبي الفضل جمال الدين محمد بن كرم بن منظور، (دار صادر، ودار بيروت) للطباعة والنشر، بيروت، ط بدون، 1375?. لسان الميزان، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، ط الثانية، 1390? المؤامرة على الإسلام، أنور الجندي، دار الاعتصام، القاهرة، ط الأولى، 1977م. الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات، رسالة ماجستير مقدمة من الطالب شمس الدين الأفغاني لنيل درجة الماجستير، من شعبة العقيدة في قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية. مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، القسم الأول العقيدة، والآداب الإسلامية، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط الأولى، ت بدون.

مجالس شهر رمضان، محمد بن صالح بن عثيمين، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ط الثانية، 1406?. المجتمع المسلم، أهدافه ودعائمه، أوضاعه وخصائصه في ضوء الكتاب والسنة، د. مصطفى عبد الواحد، مطبعة دار التأليف، مصر، ط الأولى، 1389?. مجلة البيان، المنتدى الإسلامي بلندن، العدد الخامس عشر، ربيع الثاني، 1409?. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، مكتبة القدسي، القاهرة، 1352?. مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، الناشر، رئاسة الحرمين الشريفين، طبع بإدارة المساحة العسكرية، القاهرة، 1404?. مجموعة التوحيد، مجموعة رسائل لنخبة من علماء المسلمين. مختصر منهاج السنة لابن تيمية، اختصار الشيخ عبد الله الغنيمان، ط الأولى، 1410?. المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام، محمد محمود الصواف، دار الإصلاح، الدمام ط الثالثة، 1399?.

مدارج السالكين، لابن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى، 1983م. مدخل إلى الفلسفة، جون هرمان راندال، وجسوستاس يوخلر، ترجمة: ملحم قربان، دار العلم للملايين، بيروت، 1963، ط بدون. المدخل لدراسة القرآن الكريم، محمد محمد أبو شهبة، دار الكتب الحديثة للطباعة، القاهرة، ط الثانية، 1973م. المستدرك على الصحيحين، للحافظ أبي عبد الله الحاكم النيسابوري، دار الفكر، بيروت، ط بدون، 1398?. المسند للإمام أحمد بن حنبل، تحقيق أحمد شاكر، دار المعارف للطباعة والنشر القاهرة، 1368? المسند للإمام أحمد بن حنبل، المكتب الإسلامي، بيروت، ط الأولى، 1389?. المسيحية د. أحمد شلبي، مكتبة النهضة، القاهرة، ط الخامسة، 1977م. مشارق الأنوار على صحاح الآثار، للقاضي عياض بن موسى السبتي، دار التراث، ط بدون، ت بدون.

مشاهير علماء نجد وغيرهم، عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ، دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر، الرياض، ط الثانية، 1394?. مصرع التصوف أو تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي، لبرهان الدين البقاهي، تحقيق عبد الرحمن الوكيل، دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى، 1400?. معالم في الطريق، سيد قطب، دار الشروق، بيروت، ط العاشرة، 1403?. معجم الأعلام، لبسام عبد الوهاب، الناشر الجفان والجابي للطباعة والنشر، قبرص، ط الأولى، 1407?. المعجم الفلسفي، تأليف جمال صليبا، دار الكتاب العربي، بيروت، ط الأولى، 1979م. معجم المؤلفين، عمر رضاله كحالة، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط الأولى، 1376?. معجم متن اللغة، الشيخ أحمد رضا، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1378? ط بدون. معجم المصطلحات النفسية والتربوية، إعداد د. محمد مصطفى

زيدان، دار الشروق، جدة، ط الثانية، 1404?. مفاهيم ينبغي أن تصحح، محمد قطب، دار الشرق، القاهرة، ط الثالثة، 1408?. المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني أبي القاسم الحسين بن محمد، تحقيق محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، د بدون، ت بدون. مقالات الإسلاميين، لأبي الحسن الأشعري، تصحيح هلموت ريتر، دار إحياء التراث العربي، ط الثالثة، ت بدون. الملل والنحل، لمحمد بن عبد الكريم الشهرستاني، تحقيق محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، 1400?، ط بدون. منهج القرآن في الدعوة إلى الإيمان، تأليف د. علي بن ناصر فقيهي، ط الأولى، 1405?. الموسوعة الثقافية، د. حسين سعيد، مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، القاهرة، 1972، ط بدون. الموسوعة الطبية الحديثة، تأليف نخبة من علماء مجمع ((قولدن برس بأمريكا)) ترجمة لجنة تحت إشراف الإدارة العامة للثقافة بوزارة التعليم العالي بمصر، الناشر مؤسسة سجل العرب،

القاهرة، 1969م. الموسوعة العربية الميسرة، إشراف محمد شفيق غربال، مؤسسة فرنكلين القاهرة، ط الأولى، 1965م. الموسوعة الفلسفية المختصرة، يشرف على تحريرها: جي. يورمسون، ترجمة نخبة من المترجمين، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1963م. الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الرياض، ط الثانية، 1409?. ميزان الاعتدال في نقد الرجال، لمحمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، تحقيق علي محمد البجاوي، بيروت، دار المعرفة، ط بدون، 1382?. ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر، المنعقدة بالبحرين في 3/6/1405?، الناشر مكتب التربية العربي لدول الخليج، ط الأولى، 1407?. نظم المجتمع الإسلامي مع التطبيق على المجتمع السعودي، د. عبد الله الخريجي، توزيع رامتان، جدة، ط الأولى، 1403?. النفس المطمئنة، سلسلة دراسات إسلامية، د. عبد الحميد

مرسي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط الأولى، 1403?. النفوذ اليهودي في الأجهزة الإعلامية والمؤسسات الدولية، فؤاد سيد عبد الرحمن الرفاعي، دار السياسة، الكويت، ط الأولى، 1407?. الوابل الصيب من الكلم الطيب، لابن قيم الجوزية، ضمن مجموعة الحديث، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، ط الخامسة، ت بدون. وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، لأبي العباس أحمد بن محمد بن خلكان، حققه د. إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1397?، ط بدون. اليهودية، د. أحمد شلبي، مكتبة النهضة، القاهرة، ط السابعة، 1984م.

§1/1