أبو بكر الصديق أول الخلفاء الراشدين ت شيحا

محمد رضا

مقدمة

مقدمة المؤلف أحمد الله على نعمائه الجمة وآلائه التي لا تعد ولا تحصى، وأستغفره من كبائر الذنوب وصغائرها، وأسأله الهداية والتوفيق، وأصلي وأسلم على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما بعد فقد كنت شديد الرغبة في تأليف سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لنشرها على العالم الإسلامي فقضيت الأيام والليالي الطوال في الإطلاع والبحث في السير فجمعت شتاتها وشرحت الغامض منها وحققت الروايات وأثبت تواريخ الوقائع ورددت على الاعتراضات والترهات ردودا مدعمة بالبراهين الساطعة والحجج القاطعة، فجاء الكتاب وافيا بغرضي من حيث إيصال المعلومات الصحيحة إلى العالم الإسلامي. ولما فرغ طبعه، تلقاه الناس بالقبول والاستحسان وأقبلوا على مطالعته بشوق وشغف ونال بحمد الله وفضله رضا العامة والخاصة وتواردت علي رسائل التفريط والتشجيع من الكبراء والعلماء والأدباء حتى عجزت عن شكرهم على ثقتهم بشخصي العاجز الضعيف، وشعرت بقوة تدفعني إلى مواصلة البحث والتأليف بالرغم من كثرة المشاغل الدنيوية. وقد سألني كثير من الأصدقاء الأعزاء أن أتبع سيرة رسول الله بسير الخلفاء بالطريقة نفسها التي انتهجتها، فسرتني فكرتهم ولم يسعني إلا إجابة طلبهم واستخرت الله تعالى أن أكتب سيرة أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإنه أول الخلفاء الذين أمرنا رسول الله بالاقتداء بهم والاهتداء بهديهم. لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم ارتجت العرب واختلف المسلمون ولا سيما الأنصار والمهاجرون في الخلافة فتدارك الأمر أبو بكر بحكمته وسرعة بديهته وتمت له البيعة بالإجماع. وقد برهن رضي الله عنه أنه أكفأ رجل وأنه رجل الساعة وقتئذ لأن العرب عندما سمعوا بوفاة رسول الله ارتد كثير منهم واستفحل أمر المرتدين في جزيرة العرب وظهر المتنبئون وجمعوا جيوشهم وثاروا على المسلمين. فمنهم من خرج عن الإسلام ومنهم من منع الزكاة ووضع الصلاة وأباح المحرمات وطرد كثيرا من الولاة، ولولا شدة تمسك أبي بكر بسنة رسول الله وقوة عزيمته وشجاعته لتغلب المرتدون وقضوا على الإسلام قضاء مبرما. ولقد هال أمر المرتدين في بادئ الأمر كبراء الصحابة، ولكن أبا بكر ثبت ولم يتزعزع وظهرت كفايته في إرسال الجيوش واختيار القواد والولاة إلى جميع أنحاء العرب، فكبح جماح المرتدين وهزمهم شر هزيمة واستتب الأمن في البلاد في أقل من سنة. ولم يقتصر على ذلك بل بعث الجيوش إلى العراق والشام فانهزمت الفرس والروم ومن والاهما من العرب وتعدى المسلمون في

فتوحهم شبة جزيرة العرب. وقد تم ذلك كله في مدة خلافته وهي سنتان وأشهر، ولا شك أن هذه مدة قصيرة بالنسبة إلى ما تم في خلالها من جلائل الأعمال، وقد مهد بذلك طريق الفتوحات الإسلامية لمن جاء بعد من الخلفاء واتضحت بذلك حكمة رسول الله في اختيار أبي بكر بعده. وقد كان رضي الله عنه مع ذلك لطيفا وديعا متواضعا زاهدا في الدنيا متقشفا عادلا غير طامع في ملك أو غنى، بل كان كل همه نشر الإسلام وتوطيد أركانه واتباع سنة رسول الله. وقد كان مؤلفا لقلوب المسلمين. وعلى العموم كان خير قدوة لهم في دينهم ودنياهم. وقد اختار لهم خير من يصلح للخلافة بعده وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كان وزيره وقاضيه وملازما له طول مدة خلافته وذلك حفظا لكيان الإسلام. هذا هو أبي بكر الصديق خليفة رسول الله الذي عنيت بترجمة حياته وشرح خلافته ومآثره في كتابي هذا. وإني لأرجو الله سبحانه وتعالى أن أكون قد وفقت في عملي، كما أرجو أن ينتفع به المسلمون ويتدبروا في سير سلفهم الصالح بعد أن سهلت لهم ما يتعسر فهمه من حيث شرح المواقع وسير الرجال وضبط التواريخ وتفسير الألفاظ الغامضة تسهيلا للبحث والمراجعة وتوفيرا للوقت. وإني في الختام أقدم مزيد شكري لجميع الذين أبدوا اهتمامهم وإعجابهم بمؤلفي " محمد رسول الله " ولا شك أني مدين لهم بهذا العطف والتشجيع.

ترجمة حياة أبو بكر الصديق1 رضي الله عنه

ترجمة حياة أبو بكر الصديق1 رضي الله عنه هو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب ابن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي التيمي، يلتقي مع رسول الله في مرة بن كعب. أبو بكر الصديق بن أبي قحافة. واسم أبي قحافة عثمان، وأمه أم الخير سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، وهي ابنة عم أبي قحافة. أسلم أبو بكر ثم أسلمت أمه بعده، وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال العلماء: لا يعرف أربعة متناسلون بعضهم من بعض صحبوا رسول الله، إلا آل أبي بكر الصديق وهم: عبد الله بن الزبير، أمه أسماء بنت أبي بكر بن أبي قحافة، فهؤلاء الأربعة صحابة متناسلون، وأيضا أبو عتيق بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي قحافة رضي الله عنهم. ولقب عتيقا لعتقه من النار وقيل: لحسن وجهه، وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أبو بكر عتيق الله من النار "2 فمن يومئذ سمي عتيقا. وقيل: سمي عتيقا لأنه لم يكن في نسبه شيء يعاب به. وأجمعت الأمة على تسميته صديقا، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن الله تعالى هو الذي سمى أبا بكر على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم صديقا وسبب تسميته أنه بادر إلى تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم ولازم الصدق فلم تقع منه هنات3 ولا كذبة في حال من الأحوال، وعن عائشة أنها قالت: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح يحدث الناس بذلك فارتد ناس ممن كان آمن وصدق به وفتنوا به، فقال أبو بكر: إني لأصدقه في ما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء غدوة أو روحة، فلذلك سمي أبا بكر الصديق. وقال أبو محجن الثقفي: وسميت صديقا وكل مهاجر ... سواك يسمى باسمه غير منكر سبقت إلى الإسلام والله شاهد ... وكنت جليسا في العريش المشهر ولد أبو بكر سنة 573 م بعد الفيل بثلاث سنين تقريبا وكان رضي الله عنه صديقا لرسول الله قبل البعث وهو أصغر منه سنا بثلاث سنوات وكان يكثر غشيانه في منزله ومحادثته. وقيل: كنى بأبي

_ 1- سير أعلام النبلاء: 2/629، معرفة الثقات: 2/387، الثقات: 1/52، تهذيب التهذيب: 12/45، تقريب التهذيب: 1/381، تهذيب الكمال: 15/282، الاستيعاب: 3/963، الإصابة: 4/169. 2- أخرجه الحاكم في مستدركة "2/450" 3- هنات: شر وفساد

بكر لابتكاره الخصال الحميدة، فلما أسلم آزر النبي صلى الله عليه وسلم في نصر دين الله تعالى بنفسه وماله، وكان له لما أسلم 40. 000 درهم أنفقها في سبيل الله مع ما كسب من التجارة. قال تعالى {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} . [الليل 17 - 19] وقد أجمع المفسرون على أن المراد به أبو بكر. وقد رد الفخر الرازي على من قال إنها نزلت في حق علي رضي الله عنه. كان أبو بكر رضي الله عنه من رؤساء قريش في الجاهلية محببا فيهم مؤلفا لهم، وكان إليه الأشناق1 في الجاهلية، كان إذا عمل شيئا صدقته قريش، وأمضوا حمالته وحمالة من قام معه، وإن احتملها غيره خذلوه ولم يصدقوه، فلما جاء الإسلام سبق إليه، وأسلم من الصحابة بدعائه خمسة من العشرة المبشرين بالجنة وهم: عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وأسلم أبواه وولداه وولد ولده من الصحابة فجاء بالخمسة الذين أسلموا بدعائه إلى رسول الله فأسلموا وصلوا. وقد ذهب جماعة إلى أنه أول من أسلم، قال الشعبي: سألت ابن عباس من أول من أسلم؟ قال: أبو بكر، أما سمعت قول حسان: إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا خير البرية أتقاها وأعدلها ... بعد النبي وأوفاها بما حملا والثاني التالي المحمود مشهده ... وأول الناس قدما صدق الرسلا وكان أعلم العرب بأنساب قريش وما كان فيها من خير وشر، وكان تاجرا ذو ثروة طائلة، حسن المجالسة، عالما بتعبير الرؤيا، وقد حرم الخمر على نفسه في الجاهلية هو وعثمان بن عفان، ولما أسلم جعل يدعو الناس إلى الإسلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة2 ونظر وتردد إلا ما كان من أبي بكر رضي الله عنه ما علم عنه حين ذكرته له" 3 أي: أنه بادر به، ونزل فيه وفي عمر {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر} [آل عمران: 159] فكان أبو بكر بمنزلة الوزير من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يشاوره في أموره كلها. وقد أصاب أبا بكر من إيذاء قريش شئ كثير. فمن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل دار الأرقم ليعبد الله ومن معه من أصحابه سرا ألح أبو بكر رضي الله عنه في الظهور فقال النبي صلى الله عليه وسلم "يا أبا بكر

_ 1- الأشناق: جمع شنق أن تزيد الإبل على المائة خمسا أو ستا في الحمالة، وقيل: كان الرجل من العرب إذا حمل حمالة زاد أصحابها ليقطع ألسنتهم ولينسب إلى الوفاء. ويراد بها هنا الديات 2- كبوة: عثرة وتردد 3- ذكره الطبري في الرياض النضرة: ص415، وذكره المعافري في السيرة النبوية: 2/91

إنا قليل"، فلم يزل به حتى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الصحابة رضي الله عنهم وقام أبو بكر في الناس خطيبا ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ودعا إلى رسول الله، فهو أول خطيب دعا إلى الله تعالى فثار المشركون على أبي بكر رضي الله عنه وعلى المسلمين يضربونهم فضربوهم ضربا شديدا، ووطئ أبو بكر بالأرجل وضرب ضربا شديدا، وصار عتبة بن ربيعة يضرب أبا بكر بنعلين مخصوفتين ويحرفهما إلى وجهه حتى صار لا يعرف أنفه من وجهه، فجاءت بنو تيم يتعادون فأجلت المشركين عن أبي بكر إلى أن أدخلوه منزله ولا يشكون في موته، ثم رجعوا فدخلوا المسجد فقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة، ثم رجعوا إلى أبي بكر وصار والده أبو قحافة وبنو تيم يكلمونه فلا يجيب حتى آخر النهار، ثم تكلم وقال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فعذلوه فصار يكرر ذلك فقالت أمه: والله ما لي علم بصاحبك، فقال: اذهبي إلى أم جميل فاسأليها عنه. وخرجت إليها وسألتها عن محمد بن عبد الله، فقالت: لا أعرف محمدا ولا أبا بكر ثم قالت: تريدين أن أخرج معك؟ قالت: نعم، فخرجت معها إلى أن جاءت أبا بكر فوجدته صريعا فصاحت وقالت: إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق وإني لأرجو أن ينتقم الله منهم فقال لها أبو بكر رضي الله عنه: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: هذه أمك، قال: لا عين منها؛ أي أنها لا تفشي سرك، قالت: سالم هو في دار الأرقم، فقال: والله لا أذوق طعاما ولا أشرب شرابا أو آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت أمه: فأمهلناه حتى إذا هدأت الرجال وسكن الناس خرجنا به يتكئ علي حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق له رقة شديدة وأكب عليه يقبله وأكب عليه المسلمون كذلك فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما بي من بأس إلا ما نال الناس من وجهي وهذه أمي برة بولدها فعسى الله أن يستنقذها من النار، فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاها إلى الإسلام فأسلمت. ولما اشتد أذى كفار قريش لم يهاجر أبو بكر إلى الحبشة مع المهاجرين بل بقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تاركا عياله وأولاده وأقام معه في الغار ثلاثة أيام قال الله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 41] ولما كانت الهجرة جاء رسول الله صلى الله عليه إلى أبي بكر وهو نائم فأيقظه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أذن لي في الخروج" 1. قالت عائشة: فلقد رأيت أبا بكر يبكي من الفرح ثم خرجا حتى دخلا الغار فأقاما فيه ثلاثة أيام، وأن رسول الله لولا ثقته التامة بأبي بكر لما صاحبه في هجرته فاستخلصه لنفسه. وكل من سوى أبي بكر فارق رسول الله وإن الله تعالى سماه {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} . قال رسول صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: "هل قلت في أبي بكر شيئا؟ " فقال: نعم. فقال: "قل وأنا أسمع". فقال: وثاني اثنين في الغار المنيف2 وقد ... طاف العدو به إذ صعد الجبلا وكان حب رسول الله قد علموا ... من البرية لم يعدل به رجلا

_ 1- أخرجه ابن خزيمة في صحيحه "4/132" 2- المنيف: العالي المشرف

فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه، ثم قال: "صدقت يا حسان هو كما قلت" 1 وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكرمه ويجله ويثني عليه في وجهه واستخلفه في الصلاة، وشهد مع رسول الله بدرا وأحدا والخندق وبيعة الرضوان بالحديبية وخيبر وفتح مكة وحنينا والطائف وتبوك وحجة الوداع، ودفع رسول الله رايته العظمى يوم تبوك إلى أبي بكر وكانت سوداء وكان فيمن ثبت معه يوم أحدا وحين ولى الناس يوم حنين، وهو من كبار الصحابة الذين حفظوا القرآن كله. ودفع أبو بكر عقبة بن معيط، عن رسول الله لما خنق رسول الله وهو يصلي عند الكعبة خنقا شديدا، وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر: 28] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا" 2، رواه البخاري ومسلم. وأعتق أبو بكر سبعة ممن كانوا يعذبون في الله وهم: بلال وعامر بن فهيرة وزنيرة والنهدية وابنتها، وجارية بني مؤمل، وأم عبيس. وكان أبو بكر إذا مدح قال: اللهم أنت أعلم بي من نفسي وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيرا مما يظنون واغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون. قال عمر رضي الله عنه: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق ووافق ذلك مالا عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته فجئت بنصف مالي، فقال: "ما أبقيت لأهلك؟ " قلت: مثله، وجاء أبو بكر بكل ما عنده، فقال: "يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟ " قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسبقه إلى شئ أبدا3. روي لأبي بكر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم 142 حديثا اتفق البخاري ومسلم منها على ستة، وانفرد البخاري بأحد عشر، ومسلم بحديث واحد، وسبب قلة رواياته مع تقدم صحبته وملازمته النبي صلى الله عليه وسلم أنه تقدمت وفاته قبل انتشار الأحاديث واعتناء التابعين بسماعها، وتحصيلها، وحفظها.

_ 1- أخرجه الحاكم في مستدركة "3/82" 2- أخرجه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليم وسلم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لو كنت متخذا خليلا" " الحديث: 3656"، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه " الحديث: 2382". 3- أخرجه الحاكم في المستدرك "1/574"

بعض الأحاديث المصرحة بفضل أبي بكر

بعض الأحاديث المصرحة بفضل أبي بكر عن عمرو بن العاص: أن النبي عليه السلام بعثه على جيش ذات السلاسل قال: فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ فقال: "عائشة"، فقلت: من الرجال؟ فقال: "أبوها"، فقلت ثم من؟ قال: "عمر بن الخطاب"1، فعد رجالا، رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" فقال أبو بكر: إن أحد شقي ثوبي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنك لست تصنع ذلك خيلاء" 2 رواه البخاري. وعن أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أصبح منكم اليوم صائما؟ " قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ " قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن أطعم منكم اليوم مسكينا؟ " قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن عاد منكم اليوم مريضا؟ " قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما اجتمعن في امرئ إلا ودخل الجنة" 3 رواه مسلم. وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على حراء هو وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، فتحركت الصخرة، فقال النبي عليه السلام: "اهدأ فما عليك إلا نبي وصديق وشهيد" 4 رواه مسلم. وعن حذيفة قا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" 5 رواه الترمذي. وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: "أنت صاحبي على الحوض وصاحبي في الغار" 6 رواه الترمذي. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه وسلم: "ما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر" 7 فبكى أبو بكر وقال: وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله.

_ -1 أخرجه البخاري في كتاب: المناقب، باب: قول النبي: "لو كنت متخذا خليلا" " الحديث: 3662"، وأخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق " الحديث: 2384" -2 أخرجه البخاري في كتاب: المناقب، باب: قول النبي: " لو كنت متخذا خليلا" " الحديث: 3665" 3- أخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: من جمع الصدقة وأعمال البر " الحديث: 1208" -4 أخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل طلحة والزبير " الحديث: 2417" -5 أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب عن رسول الله، باب: في مناقب أبي بكر وعمر كليهما " الحديث: 3595 " -6 أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب عن رسول الله، باب: في مناقب أبي بكر وعمر كليهما " الحديث: 3603 " 7 -أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب عن رسول الله، باب: في مناقب أبي بكر الصديق " الحديث: 3594 "

ومن فضائله رضي الله عنه: أن عمر بن الخطاب كان يتعاهد عجوزا كبيرة عمياء في بعض حواشي المدينة من الليل فيستقي لها ويقوم بأمرها، فكان إذا جاء وجد غيره قد سبقه إليها فأصلح ما أرادت، فجاءها غير مرة كيلا يسبق إليها فرصده عمر فإذا الذي يأتيها هو أبو بكر الصديق وهو خليفة، فقال عمر: أنت هو لعمري1 وهو أول خليفة في الإسلام وأول أمير أرسل على الحج، حج بالناس سنة تسع هجرية، وأول من جمع القرآن، وأول من سمى مصحف القرآن مصحفا، وكان يفتي الناس في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر. توفي أبو بكر يوم الاثنين 22 جمادى الآخرة سنة 13هـ - 23 أب - أغسطس سنة 634 وتوفي أبوه بعده بنحو ستة أشهر وله 63 سنة كرسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب. صفته رضي الله عنه كان أبو بكر رجلا أبيض خفيف العارضين لا يتمسك إزاره، معروق الوجه ناتئ الجبهة عاري الأشاجع2 أقنى3 غائر العينين حمش4 الساقين ممحوص5 الفخذين يخضب بالحناء والكتم. زوجاته وأولاده تزوج أبو بكر في الجاهلية قتيلة بنت سعد فولدت له عبد الله وأسماء، أما عبد الله فإنه شهد يوم الطائف مع النبي صلى الله عليه وسلم وبقي إلى خلافة أبيه ومات في خلافته وترك سبعة دنانير فاستكثرها أبو بكر، وولد لعبد الله اسماعيل فمات ولا عقب له، وأما أسماء فهي ذات النطاقين، وهي التي قطعت قطعة من نطاقها فربطت به على فم السفرة في الجراب التي صنعت لرسول الله وأبي بكر عند قيامها بالهجرة وبذلك سميت ذات النطاقين وهي أسن من عائشة وكانت أسماء أشجع نساء الإسلام وأثبتهن جأشا وأعظمهن تربية للولد على الشهامة، وعزة النفس، تزوجها الزبير بمكة فولدت له عدة أولاد ثم طلقها فكانت مع ابنها عبد الله بن الزبير حتى قتل بمكة وعاشت مائة سنة حتى عميت، وماتت. وتزوج أبو بكر أيضا في الجاهلية أم رومان6 فولدت له عبد الرحمن، وعائشة زوجة رسول الله، توفيت في حياة رسول الله في سنة ست من الهجرة، فنزل رسول الله قبرها واستغفر لها وكانت حية وقت حديث الإفك، وحديث الإفك في سنة ست في شعبان، فعبد الرحمن شقيق عائشة، شهد بدرا وأحدا مع الكفار ودعا إلى البراز فقام إليه أبو بكر ليبارزه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "متعنا

_ 1- تاريخ الخلفاء: ص80. 2- الأشاجع: مفاصل الأصابع. 3- أقنى: طول بالأنف ودقة أرنبة مع حدب في وسطه من غير قبح. 4- حمش: دقيق. 5- محموص: أي شديد. 6- تاريخ الطبري: 2/351، والمنتظم: 4/56.

بنفسك" 1 وكان شجاعا راميا أسلم في هدنة الحديبية وحسن إسلامه، شهد اليمامة مع خالد بن الوليد فقتل وهو من أكابرهم، وهو الذي قتل محكم اليمامة بن الطفيل الذي كان من قواد بني حنيفة المشهورين، رماه بسهم في نحره فقتله، كما سيأتي ذكر ذلك في موقعة اليمامة، وكان عبد الرحمن أسن ولد أبي بكر وكان فيه دعابة، توفي فجأة بمكان اسمه حبش على نحو عشرة أميال من مكة وحمل إلى مكة، ودفن فيها وكان موته سنة 53 هـ. وتزوج أبو بكر في الإسلام - أسماء بنت عميس2- وكانت قبله عند جعفر بن أبي طالب، فلما قتل جعفر تزوجها أبو بكر الصديق فولدت له محمد بن أبي بكر ثم مات عنها فتزوجها علي بن أبي طالب فولدت له يحي، وأما محم بن أبي بكر، فكان يكنى أبا القاسم، وكان من نسابة قريش، ولاه علي بن ابي طالب رضي الله عنه مصر فقاتله صاحب معاوية وظفر به فقتله، وولد له القاسم. وتزوج أيضا في الإسلام -حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير الخزرجي3- فولدت له جارية سمتها عائشة أم كلثوم تزوجها طلحة بن عبيد الله فولدت له زكريا، وعائشة، ثم قتل عنها فتزوجها عبد الرحمن بن عبيد الله بن أبي ربيعة المخزومي. قال الأستاذ واشنجتون إيرفنج في كتاب "محمد وخلفاؤه": كان أبو بكر رجلا عاقلا سديد الرأي وقد كان في بعض الأحيان شديد الحذر والحيطة في إدارته لكنه كان شريف الأغراض غير محب للذات، ساعيا للخير لا لمصلحته الذاتية فلم يبتغ من وراء حكمه مطامح دنيوية بل كان لا يهمه الغنى، زاهدا في الفخر، راغبا عن اللذات ولم يقبل أجرا على خدماته غير مبلغ زهيد يكفي لمعاش رجل عربي عادي ولم يكن له سوى جمل وعبد، وكان يوزع ما كان يرد إليه في كل يوم جمعة إلى المحتاجين، والفقراء، ويساعد المعوزين بماله الخاص.

_ 1- أخرجه الحاكم في مستدركة "3/539". 2- تاريخ الطبري: 2/351 والمنتظم: 4/56. 3 تاريخ الطبري: 2/351، والمنتظم: 4/56.

حديث السقيفة1 وبيعة أبي بكر الصديق

حديث السقيفة1 وبيعة أبي بكر الصديق توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين 12 ربيع الأول من السنة الحادية عشرة من الهجرة "9 حزيران يونيه سنة 632 م " فهب الأنصار يطالبون بالخلافة قبل أن يدفن رسول الله مع أم المهاجرين لم يكونوا قد فكروا في الخلافة، بل كان كبار الصحابة مشغولين بتجهيز رسول الله ودفنه، وطمع سعد بن أبي عبادة في أن يكون خليفة ويكنى أبا ثابت وكان نقيب بني ساعدة2 والسيد المطاع في الخزرج. اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة وجاؤوا بسعد بن عبادة وهو مريض بالحمى ليبايعوه وطلبوا إليه أن يخطب، فقال لابنه أو بعض بني عمه: إني لا أقدر لشكواي أن أسمع القوم كلهم كلامي، ولكن تلق مني قولي فأسمعهم، فكان يتكلم ويحفظ الرجل قوله فيرفع صوته فيسمع أصحابه. خطبة سعد بن عبادة3 قال سعد بعد أن حمد الله وأثنى عليه: يا معشر الأنصار، لكم سابقة في الدين، وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب، إن محمدا عليه السلام لبث بضع عشرة سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن، وخلع الأنداد والأوثان، فما آمن به من قومه إلا رجال قليل، ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسول الله، ولا أن يعزوا دينه، ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيما4 عموا به، حتى إذا أراد [الله] بكم الفضيلة، ساق إليكم الكرامة وخصكم بالنعمة، فرزقكم الإيمان به وبرسوله، والمنع له ولأصحابه، والإعزاز له ولدينه، والجهاد لأعدائه، فكنتم أشد الناس على عدوه حتى استقامة العرب لأمر الله طوعا وكرها، وأعطى البعيد المقادة صاغرا داخرا حتى أثخن الله عز وجل لرسوله بكم الأرض، ودانت بأسيافكم له العرب، وتوفاه الله وهو عنكم راض وبكم قرير عين استبدوا بالأمر دون الناس، فإنه لكم دون الناس. هذه خطبة سعد بن عبادة، فقد كان يرى أن المهاجرين استبدوا بالأمر، وأن الأنصار أحق بالولاية للأسباب التي ذكرها، مع أن المهاجرين لم يكونوا قد اجتمعوا، ولم يتشاوروا في أمر الخلافة، ولم يقرروا شيئا، ولا شك أن هذه الخطبة حازت استحسان الأنصار، ولا سيما الخزرج، فأجابوا بأجمعهم أن قد وفقت في الرأي، وأصبت في القول، ولن نعدو ما رأيت، نوليك هذا الأمر فإنك فينا مقنع، ولصالح المؤمنين رضا. وطبيعي أن يحتج المهاجرون على هذا الكلام فقالوا: نحن المهاجرون وأصحاب رسول الله

_ 1- البداية والنهاية: 4/692، والرياض النضره: 2/199. 2- في الأصل: سعادة، وهو تحريف. 3- تاريخ الطبري: 2/241 4- الضيم: الظلم

الأولون وعشيرته وأولياؤه، فقال الأنصار: منا أمير ومنكم أمير ولن نرضى بدون هذا أبدا، فقال سعد: "هذا أول الوهن". بلغ عمر بن الخطاب ما كان من خطبة سعد وما وقع من خلاف بين الأنصار الذين أثاروا هذا الموضوع وبين المهاجرين، فجاء إلى منزل رسول الله، وأرسل إلى أبي بكر أن أخرج إلي فأرسل إليه أني مشتغل فأرسل إليه أنه قد حدث أمر لا بد لك من حضوره، فخرج فأعلمه الخبر فمضيا مسرعين إلى السقيفة ومعهما أبو عبيدة بن الجراح، وأراد عمر رضي الله عنه أن يبدأ بالكلام فأسكته أبو بكر قائلا: رويدا حتى أتكلم، ثم تكلم بكل ما أراد أن يقول عمر. خطبة أبي بكر الصديق1 بدأ أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله بعث محمدا رسولا إلى خلقه، وشهيدا، على أمته ليعبدوا الله ويوحدوه، وهم يعبدون من دونه آلهة شتى، ويزعمون أنها لهم عنده شافعة، ولهم نافعة وإنما هي من حجر منحوت، وخشب منجور، ثم قرأ: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] وقالوا: {َا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ، فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم، فخص الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه، والإيمان به، والمواساة له، والصبر معه على شدة أذى قومهم لهم، وتكذيبهم إياهم، وكل الناس لهم مخالف، زار عليهم، فلم يستوحشوا لقلة عددهم، وشنف الناس لهم وإجماع قومهم عليهم، فهم أول من عبد الله في الأرض، وآمن بالله والرسول وهم أولياؤه وعشيرته وأحق الناس بهذا الأمر من عبده، ولا ينازعهم ذلك إلا ظالم، أنتم يا معشر الأنصار من لا ينكر فضلهم في الدين، ولا سابقتهم العظيمة في الإسلام، رضيكم الله أنصارا لدينه ولرسوله، وجعل إليكم هجرته وفيكم جلة2 أزواجه وأصحابه فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تفتانون بمشورة، ولا تقضى دونكم الأمور. خطبة الحباب بن المنذر3 فقام الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري الخزرجي السلمي، ويكنى أبا عمر وكان يقال له ذو الرأي، فقال: يا معشر الأنصار املكوا عليكم أمركم فإن الناس في فيئكم وفي ظلكم ولن يجتري مجترئ على خلافكم، ولن يصدر الناس إلا عن رأيكم، أنتم أهل العز والثروة، وأولو العدة والمنعة والتجربة، ذوو البأس والنجدة وإنما ينظر الناس إلى ما تصنعون، ولا تختلفوا فيفسد رأيكم، وينتقض عليكم أمركم أبى هؤلاء إلا ما سمعتم فمنا أمير ومنهم أمير.

_ 1- تاريخ الطبري: 2/242، تاريخ اليعقوبي: 2/125. 2- الجلة: العظماء والسادة. 3- تاريخ الطبري: 2/243.

ورد عمر بن الخطاب على الحباب فقال: هيهات لا يجتمع اثنان في قرن والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم وولي أمرهم فيهم، ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين، من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته، ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل1 بباطل أو متجانف2 لإثم أو متورط في هلكة، فقام الحباب بن المنذر فقال: يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه، فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر فإن أبوا علكم ما سألتموه فأجلوهم عن هذه البلاد، وتولوا عليهم هذه الأمور، فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم فإنه بأسيافكم دان لهذا الدين من دان ممن لم يكن يدين، أنا جذيلها المحكك3 وعذيقها4 المرجب5، أما والله لو شئتم لنعيدنها جذعة. لقد لج الحباب في الخصومة، واستعمل في خطبته ألفاظا شديدة وحرض الأنصار على إجلاء المهاجرين من المدينة إذا لم يولوهم الخلافة وتوعدهم بالشر لذلك قال له عمر محتدا: إذن يقتلك الله، قال: بل إياك يقتل. قال أبو عبيدة: يا معشر الأنصار إنكم أول من نصر وآزر فلا تكونوا أول من غير وبدل. وعندئذ قام بشير بن سعد بن ثعلبة بن الجلاس الخزرجي الأنصاري، ويكنى أبا النعمان فقال: يا معشر الأنصار إنا والله كنا أولى فضيلة في جهاد المشركين وسابقة في هذا الدين، ما أردنا به إلا رضا ربنا، وطاعة نبينا والكدح لأنفسنا، فما ينبغي لنا أن نستطيل على الناس بذلك، ألا إن محمدا صلى الله عليه وسلم من قريش وقومه أحق به وأولى، وايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر، أبدا فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم. فأراد أبو بكر بحكمته أن يضع حدا لهذا الخلاف خشية استحكامه فرشح للخلافة اثنين من المهاجرين قائلا: هذا عمر وهذا أبو عبيدة فأيهما شئتم فبايعوا. فقالا: لا والله لا نتولى هذا الأمر عليك، فإنك أفضل المهاجرين وثاني اثنين إذ هما في الغار وخليفة رسول الله على الصلاة والصلاة أفضل دين المسلمين فمن ذا ينبغي له أن يتقدمك، أو يتولى هذا الأمر عليك أبسط يدك نبايعك، فلما ذهبا ليبايعاه سبقهما إليه بشير بن سعد فبايعه، فهو على ذلك أول من بايع أبا بكر الصديق،

_ 1- مدل الباطل: أي فيه جراءة وعلامة على الباطل. 2- متجانف: أي متمايل متعمد. 3- الجذل المحكك: الذي بنصب في العطن لتحتك به الإبل الجربى 4- عذيقها: كل غصن له شعب 5- المرجب: وهو تصغير " تعظيم"، وأراد بالترجيب التعظيم. وقوله: أنا جذيها المحكك وعذيقها المرجب، مثل يضرب لمن يستشفى برأيه ويعتمد عليه.

ولما رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد، وما تدعو إليه قريش وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة، قال بعضهم لبعض وفيهم أسيد بن حضير "الذي كان رئيس الأوس يوم بعاث ومن أحسن الناس صوتا بالقرآن، وكان أحد المشهود لهم بالعقل وأحد النقباء": والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة، ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيبا أبدا فقوموا فبايعوا أبا بكر. فقاموا إليه فبايعوه، فأنكر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا أجمعوا له من أمرهم1. ولم يلق الرأي الذي قاله الأنصار "منا أمير ومنكم أمير" قبولا حتى سعد نفسه فإنه لما سمع به قال: هذا أول الوهن. لأن انقسام القوة موهن لها، وكذا رفضه عمر حيث قال: هيهات لا يجتمع اثنان في قرن. وأسرع عمر في مبايعة أبي بكر علما منه بمكانته واعترافا بفضله. أقبل الناس يبايعون أبا بكر من كل جانب، وأقبلت أسلم بجماعاتها حتى تضايقت بهم السكك فبايعوا فكان عمر يقول: ما هو إلا أن رأيت أسلم فأيقنت بالنصر وكاد الناس من شدة الزحام يطأون سعد بن عبادة الذي كان يومئذ مريضا ولا يستطيع النهوض، وحدثت بينه وبين عمر مشادة، وأخيرا حمل سعد وأدخل في داره وترك أياما ثم بعث إليه أن أقبل فبايع فقد بايع الناس وبايع قومك فقال: أما والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبل، وأخضب سنان رمحي وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي فلا أفعل، وايم الله لو أن الجن اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي وأعلم ما حسابي. 2 هذا ما أجاب به سعد من دعوه إلى مبايعة أبي بكر بعد أن علم أن البيعة قد تمت ولكن ماذا يفيد امتناعه عن البيعة، وليس له أنصار ولا أغلبية! لقد طمع في الخلافة، وظن أن قومه سيقاومون ويتمسكون به إلى آخر رمق3 من حياتهم، إنه توعد وهدد بمفرده لذلك لم يكترث به أحد فتركوه وشأنه. فلما علم أبو بكر بما قال سعد، قال له عمر: لا تدعه حتى يبايع، فقال له بشير بن سعد: إنه قد لج وأبى، وليس بمبايعتكم حتى يقتل، وليس بمقتول حتى يقتل معه ولده، وأهل بيته، وطائفة من عشيرته، فاتركوه فليس تركه بضاركم إنما هو رجل واحد، فتركوه عملا برأي بشير.

_ 1- تاريخ الطبري: 2/243. 2- تاريخ الطبري: 2/244 3- الرمق: بقية الحياة.

تخلف علي1 رضي الله عنه عن البيعة

تخلف علي1 رضي الله عنه عن البيعة قال الزهري: بقي علي وبنو هاشم والزبير ستة أشهر لم يبايعوا أبا بكر حتى ماتت فاطمة رضي الله عنها فبايعوه وكانت فاطمة أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر فأبى أبو بكر أن يدفع إليها شيئا؛ لأن رسول الله قال: "لا نورث ما تركناه صدقة" فوجدت فاطمة على أبي بكر الصديق في ذلك ولم تكلمه حتى توفيت2. وقد كان علي رضي الله عنه يرى أنه أحق بالخلافة من أبي بكر لقرابته من رسول الله، لذلك فقد تخلف عن البيعة مع أن رسول الله لما مرض وتعذر عليه الخروج إلى الصلاة، قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" فقالت له عائشة: يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق إذا قام مقامك لا يسمع الناس من البكاء. قال: " مروا أبا بكر فليصل بالناس" فعاودته مثل مقالتها، فقال: "إنكن صواحبات يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس" 3. وفي تقديمه أبا بكر للصلاة إشارة إلى أنه الخليفة بعده. قال الزبير: لا أغمد سيفا حتى يبايع علي، فقال عمر: خذوا سيفه واضربوا به الحجر، ثم أتاهم عمر فأخذهم للبيعة، وقيل لما سمع علي ببيعة أبي بكر خرج في قميصه ما عليه إزار، ولا رداء عجلا حتى يبايعه ثم استدعى إزاره ورداءه فتجلله، قال ابن الأثير: والصحيح أن أمير المؤمنين ما بايع إلا بعد ستة أشهر4. وممن تخلف عن بيعة أبي بكر عتبة بن أبي لهب، وخالد بن سعيد والمقداد بن عمرو، وسلمان الفارسي، وأبو ذر، وعمار بن ياسر، والبراء بن عازب وأبي بن كعب ومالوا مع علي، وتخلف أيضا أبو سفيان من بني أمية.

_ 1- الطبقات الكبرى: 2/315، الرياض النضرة: 2/199. 2- تاريخ الطبري: 2/236. 3- أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، حد المريض أن يشهد الجماعة " الحديث: 664". 4- تاريخ اليعقوبي: 2/126، وسير أعلام النبلاء: 14/451.

أفضل الناس بعد رسول الله

أفضل الناس بعد رسول الله أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه، وقالت الشيعة وكثير من المعتزلة: هو علي وهؤلاء جوزوا إمامة المفضول مع وجود الفاضل، وحجتهم أن قيام علي بالجهاد كان أكثر من قيام أبي بكر فوجب أن يكون علي أفضل منه لقوله تعالى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 59] . وأجاب أهل السنة عنه بأن الجهاد على قسمين: جهاد بالدعوة إلى الدين وجهاد بالسيف، ومعلوم أن أبا بكر رضي الله عنه جاهد في الدين في أول الإسلام بدعوة الناس إلى الإسلام، بدعوته أسلم عثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم أجمعين، وعلي رضي الله عنه إنما جاهد بالسيف عند قوة الإسلام، فكان الأول أولى، وحجة القائلين بفضل أبي بكر رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم: "ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر" 1 تجهيز رسول الله ودفنه2 بعد أن بويع أبو بكر جهز رسول الله ودفن ليلة الأربعاء وقد غسل في قميصه وغسله العباس، والفضل وقثم ابنا العباس، وأسامة بن زيد، وشقران مولى رسول الله، وحضرهم أوس بن خولى الأنصاري من بئر يقال لها الغرس لسعد بن خثيمة بقباء، وكان العباس وابناه يقلبونه، وأسامة وشقران يصبان الماء، وعلي يغسله وعليه قميصه، وهو يقول: بأبي أنت وأمي ما أطيبك حيا وميتا3، وكفن في ثلاثة أثواب يمانية بيض من كرسف – قطن- ليس في كفنه قميص ولا عمامة ولا عروة. وبعد أن غسل رسول الله وكفن، وضع على سرير وأدخل عليه المسلمون أفواجا يقومون ويصلون عليه، ثم يخرجون ويدخل آخرون ولم يؤمهم في الصلاة عليه إمام حتى إذا فرغت الرجال دخلت النساء ثم دخل الصبيان. وكان أول من دخل أبو بكر وعمر، فقالا: _ السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته_ ومعهما نفر من المهاجرين والأنصار قدر ما يسع البيت، فسلموا كما سلم أبو بكر، وعمر، وصفوا صفوفا لا يؤمهم عليه أحد، فقال أبو بكر وعمر وهما في الصف الأول حيال رسول الله: اللهم إنا نشهد أن قد بلغ ما أنزل عليه ونصح لأمته، وجاهد في سبيل الله حتى أعز الله دينه،

_ 1- أخرجه الحاكم في مستدركه "3/96" 2- تاريخ الطبري: 2/233، الرياض النظرة: 2/42، تاريخ الخلفاء: ص 70. 3- تاريخ الطبري: 2/238، والمنتظم: 4/54.

وتمت كلماته فآمن به وحده لا شريك له، فاجعلنا يا إلهنا ممن يتبع القول الذي أنزل معه، واجمع بيننا وبينه حتى يعرفنا ونعرفه، فإنه كان بالمؤمنين رؤوفا رحيما، لا نبتغي بالإيمان بدلا، ولا نشتري به ثمنا أبدا 1. فيقول الناس آمين آمين، ثم يخرجون ويدخل غيرهم، ولما فرغوا نادى عمر خلوا الجنازة وأهلها. ولما اختلفوا في موضع دفنه قال أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما مات نبي قط إلا يدفن حيث تقبض روحه" 2 قال علي: وأنا أيضا سمعته. فرفع فراشه ودفن، ولما أرادوا أن يحفروا لرسول الله، كان بالمدينة رجلان أبو عبيدة بن الجراح يضرح لأهل مكة، وكان أبو طلحة الأنصاري هو الذي يلحد لأهل المدينة، فجاء أبو طلحة وألحد لرسول الله، وجعل في قبره قطيفة حمراء كان يلبسها فبسطت تحته، وكانت الأرض ندية، ورش قبره صلى الله عليه وسلم بلال بتربة بدا من قبل رأسه وجعل عليه من حصباء العرصة3 حمرا وبيضا، ورفع قبره عن الأرض قدر شبر، ونزل قبره علي، والفضل وقثم ابنا العباس، وشقران، وأوس بن خولى الأنصاري. خطبة أبي بكر بعد البيعة4 بعد أن تمت بيعة أبي بكر بيعة عامة، صعد المنبر وقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس قد وليت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ منه الحق إن شاء الله تعالى، لا يدع أحد منكم الجهاد، فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم رحمكم الله. فيا لها من كلمات جامعة حوت الصراحة والعدل، مع التواضع والفضل، والحث على الجهاد لنصرة الدين، وإعلاء شأن المسلمين.

_ 1- البداية والنهاية: 5/265، الطبقات الكبرى: 2/290. 2- أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه "7/228". 3- العرصة: كل بقعة بين الدور الواسعة لسي فيها بناء. 4- الرياض النضرة: 2/213، تاريخ الخلفاء: ص69، تاريخ الطبري: 2/238، البداية والنهاية: 5/248.

إرسال جيش أسامة بن زيد1 يوم الأربعاء 14 ربيع الأول سنة 11هـ "11 حزيران - يونيه 6م"

إرسال جيش أسامة بن زيد1 يوم الأربعاء 14 ربيع الأول سنة 11هـ "11 حزيران - يونيه 6م" كان رسول الله قد استعمل أسامة بن زيد، وأمره بالتوجه إلى حدود الشام للأخذ بثأر من قتل في

_ 1- البداية والنهاية: 4/695.

غزوة مؤتة، وقد كان رسول الله قد ضرب البعث على أهل المدينة ومن حولها، وفيهم عمر بن الخطاب وعسكر جيش أسامة بالجرف فاشتكى رسول الله ثم وجد من نفسه راحة فخرج رسول الله عاصبا رأسه فقال: "أيها الناس أنفذوا جيش أسامة" ثلاث مرات، وقال: "إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبله، وايم الله إنه كان خليقا للإمارة، وايم الله إنه لمن أحب الناس إلي من بعده " 1 وذلك لأن الناس طعنوا في إمارة أسامة، لأنه كان شابا لم يتم العشرين من عمره. توفي رسول الله ولم يسر الجيش، وارتد كثير من العرب ونجم النفاق، واشرأبت2 أعناق اليهود والنصارى وبقي المسلمون لا يدرون ماذا يصنعون لوفاة نبيهم، وقلة عددهم، وكثرة عدوهم، فقال الناس لأبي بكر: إن جيش أسامة جند المسلمين، والعرب قد انتقضت بك فلا ينبغي أن تفرق عنك جماعة المسلمين. فماذا يصنع أبو بكر؟ إنهم يعترضون على إمارة أسامة لصغر سنه، ويعترضون على إرسال جيش المسلمين إلى الشام لارتداد العرب، وقلة عدد المسلمين، وخزفهم على مركزهم بالمدينة، غير أن رسول الله كان يشدد في إرسال جيش أسامة، وقد أخذ أبو بكر عهدا على نفسه بأن لا يعصي الله ورسوله، فهل يخالف أمر رسول الله؟ كلا، فإن ذلك ليس من طبيعته ولا من خلقه، وإنما خلقه الثبات إلى آخر لحظة وتنفيذ أوامر رسول الله بكل دقة في كل كبيرة وصغيرة مهما كلفه ذلك لقوة إيمانه، وثبات يقينه وعملا بواجب الصداقة، لهذا كانت إجابته للمعترضين في غاية القوة حيث قال: والذي نفس أبي بكر بيده لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته 3. وقال لعمر لما أرسله أسامة يستأذنه في الرجوع وطلب إليه الأنصار إن أبى أن يولي عليه من هو أقدم سنا من أسامة: لو خطفتني الكلاب والذئاب لم أرد قضاء قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم 4. فقال عمر: إن الأنصار أمروني أن أبلغك وأنهم يطلبون إليك أن تولي أمرهم رجلا أقدم سنا من أسامة. فوثب أبو بكر وكان جالسا يأخذ بلحية عمر فقال له: ثكلتك أمك وعدمتك يا ابن الخطاب، استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أنزعه.

_ 1- أخرجه البخاري في كتاب: المغازي، باب: غزوة زيد بن حارثة " الحديث: 4250". 2- اشرأبت: ارتفعت وعلت. 3- تاريخ الطبري: 2/245، البداية والنهاية: 6/304. 4- تاريخ الطبري: 2/246.

فخرج عمر إلى الناس بعد أم سمع ورأى من أبي بكر ما رأى، فقالوا له: ما صنعت؟ فقال: امضوا ثكلتكم أمهاتكم ما لقيت في سببكم من خليفة رسول الله. وإجابة أبي بكر بهذه القوة تذكرنا بما قاله رسول الله لعمه أبي طالب حين ظن أنه قد خذله وضعف عن نصرته: "يا عماه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه فيه ما تركته" 1. خرج أبو بكر حتى أتى الجيش وأشخصهم وشيعهم وهو ماش وأسامة راكب وعبد الرحمن بن عوف يقود دابة أبي بكر فقال له أسامة: يا خليفة رسول الله، والله لتركبن أو لأنزلن، فقال: والله لا تنزل والله لا أركب وما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة، فإن للغازي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تكتب له وسبعمائة درجة ترفع له وترفع عنه سبعمائة خطيئة. حتى إذا انتهى قال: إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل، ومعنى ذلك أنه يستأذن أسامة - قائد الجيش - أن يترك له عمر لأنه كان في الجيش فأذن له وكان إرسال الجيش بعد بيعة أبي بكر بيوم أعني يوم الأربعاء 14 من ربيع الأول.

_ 1- الكامل: 1/587، والمنتظم: 2/368

وصية أبي بكر الجيش

وصية أبي بكر الجيش1 أوصى أبو بكر جيش أسامة فقال: يا أيها الناس قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلا صغيرا أو شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تعقروا نحلا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام فإذا أكلتم منها شيئا فاذكروا اسم الله عليها، وتلقون أقواما قد فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فأخفقوهم بالسيف خفقا، اندفعوا باسم الله. وقال لأسامة: إصنع ما أمرك به نبي الله صلى الله عليه وسلم2، ابدأ ببلاد قضاعة ثم ائت آبل ولا تقصرن من شئ من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تعجلن لما خلفت عن عهده. فسار أسامة وأوقع بقبائل من قضاعة التي ارتدت وغنم وعاد وكانت غيبته أربعين يوما سوى مقامه ومنقلبه راجعا من غير أن يفقد أحدا من رجاله. وكان إنفاذ جيش أسامة أعظم الأمور نفعا للمسلمين فإن العرب قالوا لو لم يكن بالمسلمين قوة لما أرسلوا هذا الجيش فكفوا عن كثير مما كانوا يريدون أن يفعلوه. ولم نعثر في المراجع التاريخية عن عدد جيش أسامة ولا على قوة جيش العدو وخسائره، ولم نعلم ما هي الغنائم التي غنمها المسلمون.

_ 1- الطبري: 2/246 2- تاريخ اليعقوبي: 2/127

إمارة باذان على اليمن1 في عهد رسول الله

إمارة باذان على اليمن1 في عهد رسول الله باذان رجل من الفرس بعثه كسرى أبرويز إلى اليمن نائبا عليها فبقي إلى بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخر من قدم من اليمن من ولاة العجم. ولما كاتب النبي كسرى بما كاتبه مزق كسرى الكتاب وبعث إلى باذان أن أرسل إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين وكتب مهما إلى النبي يأمره بالمسير معهما إلى كسرى فقال لهم رسول الله: "إرجعا وقولا لباذان أسلم فإن أسلم أؤمره على ما تحت يده وأملكه على قومه" 2 فأتيا إلى باذان وكان كسرى قد مات، فقال باذان: إني لأراه نبيا ولننظرن فإن كان ما قال حقا فهو فإنه لنبي مرسل، وإن لم يكن فنرى فيه رأينا، فلم يلبث أن قدم عليه كتاب شيرويه بن كسرى بقتل كسرى ويأمره بأخذ الطاعة له باليمن، فأسلم باذان وأسلم معه جماعة من العجم وبعث بذلك إلى النبي وكان سنة 10 هجرية، فجمع له النبي عمل اليمن وأمره على جميع مخاليفه فلم يزل عاملا عليها حتى مات. فلما مات باذان فرق رسول الله أمراءه في اليمن بالكيفية الآتية: 1- عمرو بن حزم على نجران. 2- خالد بن سعيد بن العاص على ما بين نجران وزبيد. 3- عامر بن شهر الهمداني على همدان. 4- شهر بن باذان على صنعاء. 5- الطاهر بن أبي هالة على عك والأشعريين. 6- أبو مسى الأشعري على مأرب. 7- يعلي بن أمية على الجند. 8- زياد بن لبيد الأنصاري على أعمال حضرموت. 9- عكاشة بن ثور على السكاسك والسكون. 10- عبد الله بن قيس أبو موسى الأشعري على بني معاوية بن كندة. وكان معاذ بن جبل معلما يتنقل في عمالة كل عامل باليمن وحضرموت.

_ 1- تاريخ الطبري: 2/134، البداية والنهاية: 4/270، المنتظم: 3/283. 2- البداية والنهاية: 4/269. وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرهما بأن الله سلط على كسرى ابنه شيرويه فقتله في شهر كذا وكذا في ليلة كذا وكذا من الليل سلط عليه ابنه شيرويه فقتله.

ظهور المتنبئين في بلاد العرب ادعى النبوة بعض العرب في الجهات النائية عن المدينة ومكة مثل اليمامة واليمن توصلا إلى الملك والرياسة والتغلب على القبائل المجاورة لهم، فمنهم من حاول محاكاة القرآن تغريرا بعقول السذج من العرب فجاء كلامه سخيفا مضحكا لا معنى له، ومنهم من لم يقتصر على ذلك بل أتى بالأعاجيب، وما هي إلا شعبذة وكهانة وسحر مبين، لكنهم افتضحوا وظهر كذبهم ونفاقهم، وعدا ذلك فإنهم أحلوا المحرمات وارتكبوا الفواحش فكان مصيرهم الخذلان والفشل، وقد خضعت جميع هذه القبائل إلى الإسلام بفضل حزم أبي بكر الصديق ومحاربته أهل الردة كما سيأتي ذكر ذلك مفصلا، والآن نبدأ بأخبار الأسود العنسي المتنبئ الكذاب1:

_ 1- في الأصل: النبي الكذاب؛ ويقال: تنبى الكذاب إذا ادعى النبوة، فهو متنبئ، لا اقتضى التصويب.

الأسود العنسي المتنبئ1 الكذاب

الأسود العنسي المتنبئ1 الكذاب2 الأسود العنسي يلقب بذي الخمار لأنه كان معتما متخمرا دائما واسمه عيهلة بن كعب بن عوف العنسي، وعنس بطن من مذحج وكان كاهنا مشعبذا3 يري قومه الأعاجيب ويجلبهم بحلاوة منطقة، ادعى النبوة حين مرض النبي واتبعه مذحج عامة وكانت ردته أول ردة في الإسلام على عهد رسول الله، وقد سمى نفسه رحمن اليمن أي أنه يتكلم باسم الرحمن، كما سمى مسيلمة [نفسه] رحمن اليمامة، ويقال: كان له شيطان يخبره بكل شيء. فغزا نجران وكان عليها عمرو بن حزم وخالد بن سعيد فأخرجهما ومعه 700 فارس إلى صنعاء وعليها شهر بن باذان فخرج إليه شهر فقتله الأسود، كان قواده قيس بن عبد يغوث المرادي ومعاوية بن قيس الجنبي ويزيد بن محرم ويزيد بن حصين الحارثي ويزيد بن الأفكل الأزدي، استولى الأسود على صنعاء وغلب على حضرموت إلى أعمال الطائف إلى البحرين والأحساء إلى عدن، وقد استولى على جنوب غربي بلاد العرب في أقل من شهر وأسند أمر جنده إلى قيس بن عبد يغوث وأسند أمر الأبناء إلى فيروز وداذويه فلما أثخن4 في الأرض استخف بقيس وبفيروز الديلمي وداذويه. خاف من بحضرموت من المسلمين أن يحاربهم الأسود أو يظهر كذاب آخر مثله فأتى من باليمن كتاب من رسول الله يأمرهم بقتال الأسود فقام معاذ يتنقل في القبائل يعلمهم الإسلام فقويت نفوس المسلمين، وكان الذي قدم بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم وبر بن يحنس الأزدي. قتل الأسود العنسي5 من سخافة عقل الأسود استخفافه بقائد جيشه وبفيروز وداذويه وهم الذين أعانوه على إخضاع اليمن له في مدة قصيرة، ثم إنه بعد أن قتل شهر بن باذان تزوج امرأته آزاد وهي ابنة عم فيروز، فلما علم المسلمون تغيره على رئيس جنده دعوه وأنبأوه بكتاب رسول الله بقتل الأسود ففرح فيروز لذلك النبأ وكلموا آزاد زوجته في قتله وكانت تبغضه لأنه قتل زوجها ولأنه كان سيء الخلق فاسقا. تمكن فيروز، وداذويه، وقيس من دخول القصر بالرغم من وجود الحراس وذلك بواسطة نقب نقبوه بإشارة آزاد ثم انقضوا عليه وقتلوه وحزوا رأسه، ولما طلع الفجر نادوا بشعار المسلمين وهو الأذان، ولما اجتمع المسلمون والكفار ألقوا إليهم الرأس، وبذلك خلصت صنعاء والجند من هذا الشر المستطير، واتفق الناس على تولية معاذ بن جبل فكان يصلي بالناس، وعاد عمال رسول الله إلى أعمالهم وكتبوا إليه صلى الله عليه وسلم بالخبر، فوصل الرسول المدينة صبيحة اليوم الذي توفي فيه رسول الله، وكان

_ 1- انظر الحاشية السابقة. 2- البداية النهاية: 4/697. 3- مشعبذا: مشعوذا. 4- أثخن: إذا غلب وقهر. 5- شذرات الذهب: 1/150، البداية والنهاية: 5/50، البدء والتاريخ: 5/153.

بين خروج الأسود ومقتله نحو أربعة أشهر1 وقد جاء في أسد الغابة عند ترجمة باذان: أن باذان كان له أثر كبير في قتل الأسود مع أنه لم يكن له أي أثر في ذلك لأن باذان مات في عهد رسول الله وفرق صلى الله عليه وسلم أمراءه على اليمن فكان شهر بن باذان على صنعاء ثم استولى عليها الأسود الذي قتل غيلة2 كما تقدم.

_ 1- البداية والنهاية: 4/207، الكامل في التاريخ: 2/231 2- غيلة: أي اغتيالا وخديعة.

قتال أهل الردة

قتال أهل الردة1 لما توفي رسول الله اشتد الأمر على المسلمين لارتداد العرب وخافوا الإغارة على المدينة بعد أن سير أبو بكر جيش أسامة إذ قد استفحل أمر مسيلمة وطليحة واجتمع على طليحة عوام طيء وأسد، وارتدت غطفان تبعا لعيينة بن حصن فإنه قال لنبي من الحليفين - يعني أسدا وغطفان - أحب إلينا من نبي من قريش، وقد مات محمد وطليحة حي فاتبعه وتبعته غطفان وكان عيينة من المؤلفة قلوبهم، ومن الأعراب الجفاة. وقدمت رسل النبي صلى الله عليه وسلم من اليمامة وأسد وغيرهما ودفعوا كتبهم لأبي بكر، وأخبروه الخبر عن مسيلمة، وطليحة، فعزم أبو بكر على قتالهم واستعد لصد هجمات المغيرين إلى أن يأتي جيش أسامة، والآن نذكر ما كان من أمر طليحة الذي ادعى النبوة. طليحة الأسدي2 طليحة بن خويلد الأسدي من بني أسد بن خزيمة كان كاهنا فأسلم ثم ارتد وادعى النبوة في حياة رسول الله، وظهر في بني أسد واتبعه أفاريق من العرب ونزل سميراء بطريق مكة، فوجه إليه النبي صلة الله عليه وسلم ضرار ابن الأزور عاملا على بني أسد، وأمرهم بالقيام على من ارتد فضعف أمر طليحة حتى لم يبق إلا أخذه فضربه به بسيف فلم يصنع شيئا، فاعتقد الناس أن السلاح لا يؤثر فيه فكثر جمعه، ومات النبي صلى الله عليه وسلم وهم على ذلك، وأكثر من تبعه من أسد، وغطفان، وطيء، وفزارة وغيرهم، وفر ضرار ومن معه إلى المدينة، وكان طليحة يدعي أن جبرائيل كان يأتيه، وكان يسجع للناس الأكاذيب، وكان يأمرهم بترك السجود في الصلاة يقول: إن الله لا يصنع بتعفير وجوهكم، وتقبيح أدباركم شيئا فاذكروا الله قياما فإن الرغوة فوق الصريح، وأنفذ طليحة وفوده إلى أبي بكر في الموادعة على الصلاة وترك الزكاة، فأبى أبو بكر ذلك وكان لطليحة أخ يدعى حبال جعله على فريق من أتباعه، ولما عرض الوفد على أبي بكر ترك الزكاة قال: والله لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه3.

_ 1- تاريخ الطبري: 2/249، الطبقات الكبرى: 5/534. 2- البداية والنهاية: 6/311، الطبقات الكبرى: 3/467. 3- الرياض النضرة: 2/44، تاريخ الخلفاء: 1/74، البداية والنهاية: 6/311، البدء والتاريخ: 5/153، المنتظم: 4/76.

الإغارة على المدينة توقع أبو بكر الإغارة على المدينة فجعل بعد سير الوفد على أنقاب1 المدينة عليا وطلحة، والزبير، وابن مسعود، وألزم أهل المدينة بحضور المسجد خوف الإغارة من العدو لقربهم، فما لبثوا إلا ثلاثا حتى طرقوا المدينة ليلا، وخلفوا بعضهم بذي حسى ليكونوا لهم رداء فوافوا ليلا الأنقاب، وعليها المقاتلة فمنعوهم خارج المدينة وأرسلوا إلى أبي بكر بالخبر فخرج إليهم جيش المدينة واتبعوهم حتى إذا كانوا بذي حسى خرج إليهم أصحاب طليحة بقرب قد نفخوها وفيها الحبال فدهدهوها على الأرض فنفرت إبل المسلمين وهم عليها ورجعت بهم إلى المدينة، ولم يصرع مسلم، وظن الكفار بالمسلمين الوهن ثم انضم إلى رجال طليحة غيرهم من أصحابه، وبات أبو بكر بالمدينة يعبئ الجيش ثم خرج ليلا يمشي وعلى ميمنته النعمان بن مقرن وعلى ميسرته عبد الله بن مقرن وعلى الساقة سويد بن مقرن، فما طلع الفجر إلا وهم والعدو على صعيد واحد، فقاتلهم المسلمون حتى ولوا مدبرين، واقتفى أثرهم أبو بكر حتى نزل بذي القصة. وكان ذلك أول فتح فوضع بها الحامية وعليها النعمان بن مقرن، وحلف أبو بكر ليقتلن من المشركين بمن قتلوا من المسلمين وزيادة وازداد المسلمون قوة وثباتا2. كانت هذه الموقعة صغيرة ولكن كان للنصر الذي أحرزه أبو بكر شأن كبير، ووقع عظيم في النفوس، وقد كان المرتدون يتحدثون فيما بينهم بقلة عدد المسلمين فلو أنهم انهزموا لكان الخطب فادحا، وعلى أثر هذا الانتصار طرقت المدينة الصدقات فانتعش المسلمون وقويت عزيمتهم وكان أول من جاء بالصدقات إلى الخليفة وفود بني تميم وبني طيء.

_ 1- الأنقاب: جمع نقب وهو الطريق الضيق في الجبل 2- تاريخ الطبري: 2/253، البداية والنهاية: 6/313، بدء التاريخ: 5/157، المنتظم: 4/75.

عودة أسامة سنة 11هـ "سبتمبر سنة 632م"

عودة أسامة سنة 11هـ "سبتمبر سنة 632م" وأخيرا عاد أسامة من غزوته، وأصبحت المدينة في مأمن من الخطر، ووزع أبو بكر الغنائم على الناس، وقد نال أبو بكر ما أراد من إرسال أسامة واعتقد العرب بقوة المسلمين، ثم إن أبا بكر استفاد من الفرصة التي سنحت له بطرد المرتدين من ذي القصة إلى الربذة واستخلف أسامة على المدينة وقال له ولجنده استريحوا وأريحوا ظهوركم ثم خرج في الذين خرج معهم إلى ذي القصة وهم قوة صغيرة، فقال له المسلمون: ننشدك الله يا خليفة رسول الله ألا تعرض نفسك فإنك إن تصب لم يكن للناس نظام، ومقامك أشد على العدو فابعث رجلا فإن أصيب أمرت آخر، فقال: لا والله لا أفعل ولأواسينكم بنفسي3.

_ 3- تاريخ الطبري: 2/256.

سار أبو بكر إلى ذي حسى، وذي القصة حتى نزل بالأبرق فاقتتلوا فهزم الحارث، وعوف، وأخذ الحطيئة أسيرا، فطارت عبس، وبنو بكر وأقام أبو بكر على الأبرق أياما، وغلب على بني ذبيان وبلادهم وحماها لدواب المسلمين وصدقاتهم، ولما انهزمت عبس وذبيان رجعوا إلى طليحة وهو ببزاخة وكان رحل من سميراء إليها، فأقام عليها، وعاد أبو بكر إلى المدينة1.

_ 1- تاريخ الطبري: 2/256، البداية والنهاية: 6/314.

إرسال البعوث إلى المرتدين1 شعبان سنة 11هـ "تشرين الأول أكتوبر سنة 632 م"

إرسال البعوث إلى المرتدين1 شعبان سنة 11هـ "تشرين الأول أكتوبر سنة 632 م" لما استراح أسامة وجنده وكان قد جاءتهم صدقات كثيرة تفضل عنهم نظم أبو بكر البعوث، وعقد الألوية فعقد أحد عشر لواء، وفيما يلي أسماء القواد ووجهتهم: 1- خالد بن الوليد: سار إلى طليحة بن خويلد الأسدي فإذا فرغ منه سار إلى مالك بن نويرة بالبطاح إن أقام له. 2- عكرمة بن أبي جهل: إلى مسيلمة. 3- المهاجر بن أبي أمية: إلى جنود العنسي ومعونة الأبناء على قيس بن المكشوح ثم يمضي إلى كندة بحضرموت. 4- خالد بن سعيد: إلأى مشارف الشام. 5- عمرو بن العاص: إلى قضاعة ووديعة. 6- حذيفة بن محصن الغلفاني: إلى أهل جبا. 7- عرفجة بن هرثمة: إلى مهرة. 8- شرحبيل بن حسنة: في أثر عكرمة بن أبي جهل فإذا فرغ من اليمامة لحق بخيله إلى قضاعة. 9- معن بن حاجز: إلى بني سليم ومن معهم من هوازن 10- سويد بن مقرن: إلى تهامة باليمن 11- العلاء بن الحضرمي: إلى البحرين. هؤلاء هم القواد الذي اختارهم أبو بكر لقتال أهل الردة، وعقد لكل واحد منهم لواء ومن هذا يتبين أنهم أرسلوا إلى جميع العرب الذين كانوا قد ارتدوا، فما أصعب مهمة أبي بكر ومهمة قواده الذين كلفوا بإخضاع المرتدين وإعادتهم إلى لواء الإسلام، ولم يبق بالمدينة غير قوة صغيرة، وبقي أبو بكر في المدينة ولم يبعث عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، والزبير مع كفايتهم الحربية، بل أبقاهم معه لاستشارتهم. فصلت الأمراء من ذي القصة ونزلوا على قصدهم فلحق بكل أمير جنده وقد عهد إليهم عهده

_ 1- تاريخ الطبري: 2/257، البداية والنهاية: 6/315.

وكتب إلى من بعث إليه من جميع المرتدين. وهذا نص الكتاب الذي أرسله أبو بكر إلى المرتدين من العرب وأعطى كل أمير نسخة منه: بسم الله الرحمن الرحيم من أبي بكر حليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بلغه كتابي هذا من عامة وخاصة، أقام على إسلامه أو رجع عنه، سلام على من اتبع الهدى ولم يرجع بعد الهدى إلى الضلالة والعمى، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، نقر بما جاء به ونكفر من أبى ونجاهده1. أما بعد، فإن الله أرسل محمدا بالحق من عنده إلى خلقه بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، فهدى الله بالحق من أجاب إليه وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذنه من أدبر عنه حتى صار إلى الإسلام طوعا أو كرها، ثم توفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم وقد نفذ أمر الله ونصح لأمته وقضى الذي عليه، وكان الله قد بين له ذلك ولأهل الإسلام في الكتاب الذي أنزل، فقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] ، وقال: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34] ، وقال للمؤمنين: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 114] ، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله وحده لا شريك له فإن الله له بالمرصاد، حي قيوم لا يموت ولا تأخذه سنة ولا نوم، حافظ لأمره، منتقم من عدوه يجزيه، وإني أوصيكم بتقوى الله، وحظكم ونصيبكم من الله، وما جاءكم به نبيكم صلى الله عليه وسلم وأن تهتدوا بهداه، وأن تعتصموا بدين الله فإن كل من لم يهده الله ضال وكل من لم يعافه مبتلى، وكل من لم يعنه الله مخذول، فمن هداه الله كان مهتديا ومن أضله كان ضالا، قال الله تعالى: {نْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} [الكهف: 17] ، ولم يقبل منه في الآخرة صرف ولا عدل، وقد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقر بالإسلام وعمل به اغترارا بالله وجهالة بأمره وإجابة للشيطان، قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف: 51] ، وقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6] ، وإني بعثت إليكم - فلانا - في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان وأمرته أن لا يقاتل أحدا ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله فمن استجاب له وأقر وكف وعمل صالحا قبل منه وأعانه عليه، ومن أبى أمرته أن يقاتله على ذلك ثم لا يبقى على أحد منهم قدر عليه وأن يحرقهم بالنار ويقتلهم كل قتلة، وأن يسبي النساء والذراري ولا يقبل من أحد إلا الإسلام، فمن اتبعه فهو خير له ومن تركه فلن يعجز الله، وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل مجمع لكم، والداعية الأذان، فإذا أذن المسلمون فأذنوا

_ 1- تاريخ الطبري: 2 / 257، البداية والنهاية: 6/315.

كفوا عنهم وإن لم يؤذنوا عاجلوهم وإن أذنوا اسألوهم ما عليهم فإن أبوا عاجلوهم وإن أقروا اقبلوا منهم واحملوهم على ما ينبغي لهم 1. هذا إعلان عام للمرتدين وقد أمرهم بالخضوع والعودة إلى الإسلام حالا بمجرد الدعوة وإلا كان كل أمير في حل من قتل من أبى وحرقه واستعمال الشدة معه وسبي الذراري2 والنساء. وأعطى لكل قائد عهدا بوصية بما يجب عليه أن يتبعه ويسلكه للقيام بالمهمة التي عهد إليه بها، وهذا نص العهد: بسم الله الرحمن الرحيم هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم - لفلان - حين بعثه لقتال من رجع عن الإسلام وعهد إليه أن يتقي الله ما استطاع في أمره كله، سره وعلانيته، وأمره بالجد في أمر الله ومجاهدة من تولى عنه ورجع عن الإسلام إلى أماني الشيطان بعد أن يعذر إليهم فيدعوهم بداعية الإسلام، فإن أجابوه أمسك عنهم وإن لم يجيبوه شن غارته عليهم حتى يقروا له ثم ينبئهم بالذي عليهم والذي لهم فيأخذ ما عليهم ويعطيهم الذي لهم لا ينظرهم ولا يرد المسلمين عن قتال عدوهم، فمن أجاب إلى أمر الله عز وجل قبل ذلك منه وأعانه عليه بالمعروف، إنما يقاتل بالمعروف وإنما يقاتل من كفر بالله على الإقرار بما جاء من عند الله فإذا أجاب الدعوة لم يكن عليه سبيل وكان الله حسيبه بعد فما استيسر به، ومن لم يجب داعية الله قتل وقوتل حيث كان وحيث بلغ مرغمه لا يقبل من أحد شيئا أعطاه إلا الإسلام، فمن أجابه وأقر قبل منه وعلمه، ومن أبى قاتله، فإن أظهره الله عليه قتل منهم كل قتلة بالسلاح والنيران، ثم قسم ما أفاء الله عليه إلا الخمس فإنه يبلغناه، وأن يمنع أصحابه العجلة والفساد، وأن لا يدخل فيهم حشوا حتى يعرفهم ويعلم ما هم لئلا يكونوا عيونا ولئلا يؤتى المسلمون من قبلهم، وأن يقتصد بالمسلمين ويرفق بهم في السير والمنزل ويتفقدهم ولا يعجل بعضهم عن بعض ويستوصي بالمسلمين في حسن الصحبة ولين القول 3.

_ 1- الرياض النضرة: ص353، تاريخ الطبري: 2/258. 2- الذراري: جمع ذرية وهم ولد الرجل. 3- تاريخ الطبري: 2/258، والاستقصا: ص75.

موقعة بزاخة1 وفرار طليحة إلى الشام

موقعة بزاخة1 وفرار طليحة إلى الشام وجه أبو بكر خالد بن الوليد لمحاربة طليحة فإذا فرغ من قتاله سار إلى مالك بن نويرة بالبطاح. وكان أبو بكر بعث عدي بن حاتم قبل خالد بن الوليد إلى طيء وأتبعه خالدا وأمره أن يبدأ بطيء ومنهم يسير إلى بزاخة ثم إلى البطاح ولا يبرح إذا فرغ من قوم حتى يأذن له وأظهر للناس أنه خارج بجيش إلى خيبر حتى يلاقي خالدا وذلك بقصد إرهاب العدو. قدم عدي بن حاتم إلى طيء كما أمره أبو بكر ليدعوهم إلى الإسلام قبل أن يحاربهم خالد، فلما دعاهم وخوفهم طلبوا إليه أن يتوسط في تأخير الجيش عنهم ثلاثة أيام حتى يتمكنوا من سحب من انضم منهم إلى طليحة بن خويلد الأسدي لئلا يقتلهم، فعاد عدي وأخبر خالدا بالخبر فتأخر وأرسلت طيء إلى إخوانهم عند طليحة فلحقوا بهم فعادت طيء إلى خالد بإسلامهم. بعد ذلك هم خالد بالرحيل إلى جديلة فاستمهله عدي أيضا ريثما يكلمهم، فذهب إليهم يدعوهم إلى الإسلام فلم يزل بهم حتى أجابوه، فعاد إلى خالد بإسلامهم ولحق بالمسلمين ألف راكب منهم وكان خير مولود في أرض طيء وأعظمه بركة عليهم لأنه كفاهم شر القتال بدخولهم في الإسلام وأفاد جيش المسلمين وأراحهم من قتالهم وأفادهم بما انضم إليهم منهم، وفي الحقيقة فإن الخدمة التي أداها عدي بن حاتم للطرفين جليلة لا تقدر. وكان خالد قد أرسل عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم طليعة فلقيهما حبال أخو طليحة فقتلاه فبلغ خبره طليحة فخرج هو وأخوه سلمة فقتل سلمة فقتل طليحة عكاشة وقتل أخوه ثابتا ورجعا، فلما أقبل خالد بجيشه رأوا عكاشة وثابتا عكاشة قتيلين فتحرج المسلمون لذلك وقالوا قتل سيدان من سادات المسلمين وفارسان من فرسانهم. سار خالد بجيشه إلى بزاخة والتقى بجيش طليحة فتقاتلوا قتالا شديدا وطليحة ملتفف في كسائه يتنبأ لهم، وكان عيينة بن حصن يقاتل مع طليحة في 700 من بين فزارة قتالا شديدا. ولما اشتدت الحرب كر عيينة بن محصن على طليحة وقال له: هل جاءك جبريل؟ قال لا، فرجع فقاتل ثم عاد إلى طليحة فقال له: لا أبالك هل جاءك جبريل؟ قال لا، فقال عيينة حتى متى؟ قد والله بلغ منا، ثم رجع فقاتل قتالا شديدا، ثم كر على طليحة، فقال هل جاءك جبريل؟ فقال نعم، قال: فماذا قال لك؟ قال: قال لي: إن لك رحى كرحاه، وحديثا لا تنساه، فقال عيينا قد علم الله أنه سيكون حديث لا تنساه، انصرفوا بني فزارة فإنه كذاب فانصرفوا، وانهزم الناس2.

_ 1- البداية والنهاية: 6/316. 2- البداية والنهاية: 4/711، سير أعلام النبلاء: 1/317، تاريخ الطبري: 2/260.

وكان طليحة قد أعد فرسه وراحلة لامرأته النوار فلما غشوه ركب فرسه وحمل امرأته ثم نجا بها وقال: يا معشر فزارة من استطاع أن يفعل هكذا وينجو بامرأته فليفعل ثم انهزم فلحق بالشام ثم نزل على كلب وأسلم حين بلغه أن أسدا وغطفان قد أسلموا ولم يزل مقيما في كلب حتى مات أبو بكر وكان قد خرج معتمرا، ومر بجنبات المدينة، فقيل لأبي بكر: هذا طليحة فقال: ماذا أصنع به قد أسلم1؟. ولما أوقع الله بطليحة وفزارة ما أوقع أقبل أولئك يقولون: ندخل فيما خرجنا منه ونؤمن بالله ورسوله، ونسلم لحكمه في أموالنا وأنفسنا، وقد بايع خالد من خضع وأسلم من القبائل وهذا نص البيعة: عليكم عهد الله وميثاقه، لتؤمنن بالله ورسوله، ولتقيمن الصلاة ولتؤتن الزكاة وتبايعون على ذلك أبناءكم ونساءكم. ولم يقبل من أحد من أسد، وغطفان، وطيء، وعامر إلا أن يأتوه بالذين حرقوا ومثلوا وعدوا على الإسلام في حال ردتهم فأتوا بهم فمثل بهم وحرقهم ورضخهم2 بالحجارة ورمى بهم من الجبال ونكسهم في الآبار وأرسل إلى أبي بكر يعلمه ما فعل وأرسل إليه قرة بن هبيرة ونفرا معه وزهيرا موثقين. أما أم زمل بنت مالك بن حذيفة بن بدر فكانت قد سبيت أيام أمها أم قرفة، فوقعت لعائشة فأعتقتها ورجعت إلى قومها وارتدت، واجتمع إليها الفل3 فإمرتهم بالقتال، وكثف جمعها، وعظمت شوكتها، فلما بلغ خالدا أمرها سار إليها فاقتتلوا قتالا شديدا أول يوم وهي واقفة على جمل كان لأمها وهي في مثل عزها فاجتمع على الجمل فوارس فعقروه وقتلوها، وقتل حول الجمل مائة رجل، وبعث خالد بالفتح إلى أبي بكر4. أسر عيينة بن حصن5 كان خالد بن الوليد أسر عيينة بن حصن فقدم به إلى أبي بكر فكان صبيان المدينة يقولون له وهو مكتوف: يا عدو الله أكفرت بعد إيمانك!؟ فيقول: ما آمنت بالله طرفة عين فتجاوز عنه أبو بكر وحقن دمه. مثال من كلام طليحة وأخذ من أصحاب طليحة رجلا كان عالما به فسأله خالد عما كان يقول فقال: إن مما أتي به:

_ 1- تاريخ الطبري: 2/261، البداية والنهاية: 6/318، المنتظم: 4/77. 2- الرضخ: كسر الرأس. 3- الفل: المنهزمون. 4- تاريخ الطبري: 2/265، والبداية والنهاية: 6/319. 5- تاريخ الطبري: 2/264.

والحمام واليمام، والصرد والصوام، قد صمن قبلكم بأعوام ليبلغن ملكنا العراق والشام ولم يبلغ ملك طليحة لا العراق ولا الشام بل هو الذي فر إلى الشام1. ويغلب على ظني أن خالدا لما سمع هذا السجع السخيف لم يتمالك من الضحك مع أن طليحة كان شاعرا.

_ 1- البداية والنهاية: 4/714

هزيمة بني تميم وقصة مالك بن نويرة

هزيمة بني تميم وقصة مالك بن نويرة1 بعد أن أخضع خالد بن الوليد القبائل التي تقطن التلال الواقعة شمالي المدينة سار لقتال بني تميم بهضبة عند الخليج الفارسي وهم قسمان: نصارى وعباد أصنام منتشرون في المراعي الواسعة بين اليمامة ومصب الفرات، وكانوا قد أسلموا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كسائر القبائل العربية وفرق فيهم عماله، فكان الزبرقان منهم وسهيل بن منجاب وقيس بن عاصم وصفوان بن صفوان وسبرة بن عمرو ووكيع بن مالك ومالك بن نويرة، ثم ارتدوا ومنعوا الزكاة بعد وفاة رسول الله ولما تولى أبو بكر الخلافة وانتصر في أول موقعة له سار صفوان بن صفوان إلى أبي بكر بصدقات بني عمرو إلا أنه في هذه الأثناء تشاغلت تميم بعضها ببعض، وبينما هم كذلك جاءتهم سجاح بنت الحارث بن سويد بن عقفان التميمية قد أقبلت من الجزيرة وادعت النبوة وكانت ورهطها في أخوالها من تغلب تقود ربيعة ومعها الهذيل بن عمران في بني تغلب وكان نصرانيا فترك دينه وتبعها، كما أن سجاح كانت قد اعتنقت الديانة المسيحية قبل أن تتنبأ ومعها عقة بن هلال في النمر وزياد بن فلان في إياد والسليل بن قيس في شيبان، فأتاهم أمر أعظم مما هم فيه لاختلافهم2. وكانت سجاح تريد غزو المدينة فأرسلت إلى مالك بن نويرة تطلب الموادعة فأجابها إلا أن قبائل تميم الأخرى أبوا اتباعها، وحاربوها في عدة مواقع فانهزمت هي ومالك، وبعد أن صالحتهم وبادلتهم الأسرى سارت في جنود الجزيرة قاصدة اليمامة وقالت: عليكم باليمامة ودفوا دفيف الحمامة، فإنها غزوة صرامة لا يلحقكم بعدها ملامة 3. وكانت سجاح تريد مهاجمة مسيلمة، فقصدت بني حنيفة، فبلغ ذلك مسيلمة فخاف إن هو شغل بها أن يغلب ثمامة وشرحبيل بن حسنة والقبائل التي حولهم على حجر وهي اليمامة فأهدى لهم ثم أرسل يستأمنها على نفسه حتى يأتيها فجاءها في أربعين من بني حنيفة، فقال مسيلمة: لنا نصف الأرض وكان لقريش نصفها لو عدلت وقد رد الله عليك النصف الذي ردت قريش. واجتمع مسيلمة بسجاح وضرب لها قبة وتزوجها وصالحها على غلات اليمامة سنة تأخذ النصف وتترك النصف، فأخذت النصف وانصرفت إلى الجزيرة وخلفت الهذيل وعقبة وزيادا لأخذ النصف الباقي فلم يفاجئهم إلا دنو خالد إليهم فانفضوا، ويلاحظ أن سجاح لم تقم مع زوجها مسيلمة الذي آمنت به، بل تركته وعادت إلى الجزيرة.

_ 1- تاريخ الطبري: 2/265، البداية والنهاية: 6/319. 2- تاريخ الطبري: 2/264، المنتظم: 4/24. 3- تاريخ الطبري: 2/269، البداية والنهاية: 6/320.

أما مالك بن نويرة فإنه ندم على ما فعل لاتباعه سجاح وتحير في أمره وسار خالد بن الوليد بعد أن فرغ من فزارة وغطفان وأسد وطيء يريد البطاح، وبها مالك بن نويرة قد تردد عليه أمره، وتخلفت الأنصار عن خالد وقالوا ما هذا بعهد الخليفة إلينا إن نحن فرغنا من بزاخة أن نقيم حتى يكتب إلينا فتركهم خالد ومضى، وندمت الأنصار ولحقوه ثم سار حتى قدم البطاح فلم يجد فيها أحدا، وكان مالك بن نويرة قد فرقهم ونهاهم عن الاجتماع فلما قدم خالد البطاح بث السرايا وأمرهم بداعية الإسلام وأن يأتوه بكل من لم يجب، وإن امتنع أن يقتلوه، فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر من بني ثعلبة بن يربوع، وكان فيهم أبو قتادة، فشهد أنهم قد أذنوا وأقاموا وصلوا، وقال قوم إنهم لم يفعلوا ذلك، فلما اختلفوا في أمرهم أمر خالد بن الوليد بحبسهم فحبسوا في ليلة باردة وأمر مناديا فنادى أدفئوا أسراكم، وهي في لغة كنانة القتل فظن القوم أنه أراد القتل ولم يرد إلا الدفء فقتلوهم فقتل ضرار بن الأزور مالكا، وسمع خالد الداعية فخرج وقد فرغوا منهم فقال: إذا أراد الله أمرا أصابه1. زواج خالد2 تزوج خالد أم تميم امرأة مالك بن نويرة، ولما وصل الخبر إلى المدينة قال عمر لأبي بكر: إن سيف خالد فيه رهق3 وأكثر عليه في ذلك، فقال يا عم: تأول فأخطأ فارفع لسانك عن خالد فإني لا أشيم4 سيفا سله الله على الكافرين وودى مالكا، وكتب إلى خالد أن يقدم عليه ففعل ودخل المسجد وعليه قباء وقد غرز في عمامته أسهما فقام عمر فنزعها وحطمها، وقال له: قتلت امرأ مسلما ثم نزوت على امرأته والله لأرجمنك بأحجارك وخالد لا يكلمه يظن أن رأي أبي بكر مثله، ودخل على أبي بكر فأخبره الخبر واعتذر إليه فعذره، وتجاوز عنه وعنفه في التزويج الذي كانت عليه العرب من كراهته أيام الحرب فخرج خالد وعمر جالس، فقال: هلم إلي يا ابن أم شملة فعرف عمر أن أبا بكر قد رضي عنه فلم يكلمه، وقدم أخوه متمم بن نويرة على أبي بكر يطالب بدم أخيه ويسأله أن يرد عليهم سبيهم فأمر أبو بكر برد السبي وودى مالكا من بيت المال، غير أن سير ويليام موير يقول في كتابه "الخلافة " طبعة 1924 صفحة 26 إن أبا بكر أمر برد الأسرى لكنه رفض أن يدي مالكا من غير أن يشير إلى المصدر الذي استند إليه في الرفض، وهذا يخالف ما جاء في تاريخ الطبري والكامل لابن الأثير وأسد الغابة، فقد ورد في هذه المراجع أن أبا بكر أمر برد السبي وودى مالكا، وقد كانت زوجة مالك بن نويرة غاية الجمال، وكان خالد بن الوليد يحبها فقتل زوجها مالكا ليتزوجها مع أنه أقر بالإسلام، وقال مالك عندما أمر خالد بقتله: إن هذه التي قتلتني يريد زوجته، وهذا الذي استوجب غضب عمر على خالد، وكان يريد أن يرجمه باعتباره زانيا.

_ 1- تاريخ الطبري: 2/270. 2- تاريخ الطبري: 2/273، البداية والنهاية: 6/322. 3- الرهق: الكذب، الحدة 4- أشيم: أغمد

وفي زواج خالد بزوجة مالك بن نويرة يقول أبو نمير السعدي: ألا أقل لحي أوطئوا بالسنابك1 ... تطاول هذا الليل من بعد مالك قضى خالد بغيا عليه بعرسه ... وكان هوى فيها قبل ذلك فأمضى هواه خالد غير عاطف ... عنان الهوى عنها ولا متمالك فأصبح ذا أهل وأصبح مالك ... إلى غير أهل هالكا في الهوالك كان ممن شهد لمالك بالإسلام أبو قتادة الحارث بن ربعي أخو بني سلمة وقد كان عاهد الله أن لا يشهد مع خالد بن الوليد حربا أبدا بعدها وكان يحدث أنهم لما غشوا القوم راعوهم تحت الليل فأخذ القوم السلاح قال: فقلنا: إنا المسلمون، فقالوا: ونحن المسلمون، قلنا: فما بال السلاح معكم؟ قالوا: فما بال السلاح معكم؟ قلنا: فإن كنتم كما تقولون فضعوا السلاح، قال فوضعوها ثم صلينا وصلوا، وكان خالد يعتذر في قتله أنه قال وهو يراجعه: ما إخال2 صاحبكم إلا وقد كان يقول كذا وكذا، قال أو ما تعده لك صاحبا؟ ثم قدمه وضرب عنقه وعنق أصحابه.

_ 1- السنابك: الحوافر 2- إخال: أظن

موقعة اليمامة1 آخر سنة 11هـ وبدء سنة 633 م

موقعة اليمامة1 آخر سنة 11هـ وبدء سنة 633 م كان خالد بن الوليد يحارب المرتدين في اليمامة من أتباع مسيلمة، واليمامة موطن بني حنيفة في وسط شبه جزيرة العرب وفي اتجاه الشرق قليلا، الشرق منها يوالي البحرين وبني تميم، والغرب يوالي أطراف اليمن والحجاز والجنوب نجران، والشمال أرض نجد، وطول اليمامة عشرون مرحلة وهي على أربعة أيام من مكة، بلاد نخل وزرع. بلغ عدد جيوش مسيلمة 40. 0000 مقاتل وهؤلاء هم الذين سار خالد لمحاربتهم. كان مسيلمة رجلا صغير الجسم دميم الوجه له كفاءة تؤهله للزعامة، وكان قد قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في وفد بني حنيفة واجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى قومه وادعى أنه شريك رسول الله في النبوة، فاتبعه بنو حنيفة، وكتب مسيلمة إلى رسول الله يذكر أنه شريكه في النبوة وأرسل كتابا مع رسولين فسألهما رسول الله عنه فصدقاه، فقال لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما، وكان كتاب مسيلمة: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد فإني أشركت معك في الأمر وإن لنا نصف الأرض، ولقريش نصفها ولكن قريش قوم يعتدون. 2 فكتب إليه رسول الله: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب أما بعد فالسلام على من اتبع الهدى فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين" 3 فلما مات رسول الله وبعث أبو بكر السرايا إلى المرتدين أرسل عكرمة بن أبي جهل في عسكر إلى مسيلمة، وأتبعه شرحبيل بن حسنة فاستعجل وانهزم وأقام شرحبيل بالطريق حين أدركه الخبر وكتب عكرمة إلى أبي بكر بالخبر، فكتب إليه أبو بكر: لا أرينك ولا تراني، لا ترجعن فتوهن الناس، امض إلى حذيفة وعرجفة فقاتل أهل عمان ومهرة ثم تسير أنت وجندك لا تستبرئون الناس حتى تلقى بها مهاجر بن أبي أمية باليمن وحضرموت4. وكتب إلى شرحبيل بالمقام إلى أن يأتي خالد فإذا فرغوا من مسيلمة تلحق بعمرو بن العاص تعينه على قضاعة. فلما رجع خالد من البطاح إلى أبي بكر واعتذر إليه فقبل عذره وأوعب معه المهاجرين

_ 1- البداية والنهاية: 4/716، الكامل في التاريخ: 2/246. 2- تاريخ الطبري: 2/203، البداية والنهاية: 5/51، البدء والتاريخ: 5/161، المنتظم: 4/22. 3- البداية والنهاية: 5/51، البدء والتاريخ: 5/161، تاريخ الطبري: 2/204، تاريخ اليعقوبي: 2/130. 4- تاريخ الطبري: 2/275.

والأنصار، وعلى الأنصار - ثابت بن قيس بن شماس - وعلى المهاجرين - أبو حذيفة وزيد بن الخطاب - وأقام خالد بالبطاح ينتظر وصول البعث إليه، فلما وصلوا إليه سار إلى اليمامة بجيشه لملاقاة العدو. ولما بلغ مسيلمة دنو خالد ضرب عسكره بعقرباء، وخرج إليه الناس وخرج مجاعة بن مرارة في سرية يطلب ثأرا لهم في بني عامر - فلم يكن يقصد قتال المسلمين - فأخذه المسلمون وأصحابه وقتلهم خالد واستبقاه لشرفه في بني حنيفة وكانوا ما بين أربعين إلى ستين وترك مسيلمة الأموال وراء ظهره. وفي صباح اليوم التالي التقى الجيشان بسهل عقرباء وقال شرحبيل بن مسيلمة: يا بني حنيفة قاتلوا فإن اليوم يوم الغيرة فإن انهزمتم تستردف النساء سبيات وينكحن غير خطيبات، فقاتلوا عن أحسابكم وامنعوا نساءكم فاقتتلوا بعقرباء1. وكانت راية المهاجرين مع سالم مولى أبي حنيفة، وكانت مع عبد الله بن حفص بن غانم فقتل فقالوا لسالم: نخشى عليك من نفسك فقال: بئس حامل القرآن أنا إذا2. وكانت راية الأنصار مع ثابت بن قيس بن شماس وكان أول من لقي المسلمين نهار الرجال بن عنفوة، فقتله زيد بن الخطاب واشتد القتال ولم يلق المسلمون حربا مثلها قط وانهزم المسلمون وخلص بنو حنيفة إلى مجاعة وإلى خالد فزال خالد عن الفسطاط ودخلوا إلى مجاعة وهو عند زوجة خالد يحرسها فأرادوا قتلها فنهاهم مجاعة عن قتلها وقال أنا لها جار فتركوها وقال لهم: عليكم بالرجال فقطعوا الفسطاط وحاق3 الخطر بالمسلمين في هذه الساعة وأخذ بعضهم يحث على القتال ويستفز الهمم، فقال ثابت بن قيس: بئس ما عودتم أنفسكم يا معشر المسلمين، اللهم إني أبرأ إليك مما يصنع هؤلاء - يعني أهل اليمامة - وأعتذر إليك مما يصنع هؤلاء - يعني المسلمين - ثم قاتل حتى قتل. وقال زيد بن الخطاب: لا تحوز بعد الرجال، والله لا أتكلم اليوم حتى نهزمهم، أو أقتل فأكلمه بحجتي، غضوا أبصاركم، وعضوا على أضراسكم أيها الناس واضربوا في عدوكم وامضوا قدما. وقال أبو حذيفة: يا أهل القرآن زينوا القرآن بالفعال. وقد كانت لهذه الكلمات الحماسية أثرها في النفوس فحمل خالد في الناس حتى ردهم إلى أبعد مما كانوا واشتد القتال وقاتل العدو قتال المستميت، وكانت الحرب يومئذ تارة للمسلمين، وتارة لبني حنيفة، وقتل سالم وأبو حذيفة وزيد بن الخطاب وغيرهم من كبار المسلمين.

_ 1- تاريخ الطبري: 2/278، البداية والنهاية: 6/324. 2- البداية والنهاية: 6/237، الطبقات الكبرى: 3/377، الإصابة: 3/15. 3- حاق: أحاط، وعاد.

ولما رأى خالد ما الناس فيه واختلاط جيشه، أراد أن يميزهم لتدب فيهم روح الغيرة فقال: امتازوا أيها الناس لنعلم بلاء كل حي ولنعلم من أين نؤتى 1. وكان أهل البوادي قد جنبوا المهاجرين والأنصار، وجنبهم المهاجرين والأنصار، فلما امتازوا قال بعضهم لبعض: اليوم يستحى من الفرار فما رئي يوم أعظم نكاية، غير أن القتل كان في المهاجرين والأنصار وأهل القرى أكثر منه في البوادي. وثبت مسيلمة فدارت رحاهم عليه، وأدرك خالد أن الحالة لا تهدأ إلا إذا قتل مسيلمة فحمل عليهم ودعا إلى البراز ونادى بشعار المسلمين يومئذ وكان يا محمداه فلم يبرز إليه أحد إلا قتله، وحمل على مسيلمة ففر وفر أصحابه، وصاح خالد في الناس فهجموا عليهم فكانت الهزيمة، ونادى المحكم بن الطفيل وهو أحد قواد بني حنيفة المشهورين: يا بني حنيفة الحديقة، الحديقة ثم رماه عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق بسهم فوضعه في نحره فقتله، وكان ممن دخل الحديقة مسيلمة، وقال البراء بن مالك: يا معشر المسلمين ألقوني عليهم في الحديقة، فتردد المسلمون خوفا عليه، ثم احتملوه فألقوه، فلما أشرف على الحديقة من الجدار اقتحم فقاتلهم عن باب الحديقة التي كانت مغلقة حتى فتحها للمسلمين فاندفع المسلمون إليها كالسيل الجارف، فأغلق الباب عليهم بعد دخولهم جميعا، ورمى بالمفتاح من وراء الجدار حتى لا يتمكن أحد من الخروج فاقتتلوا قتالا شديدا وقتل مسيلمة، قتله وحشي مولى جبير بن مطعم ورجل من الأنصار كلاهما قد أصابه، ووحشي هذا هو قاتل حمزة كما تقدم في السيرة النبوية، فولت بنو حنيفة عند قتله منهزمة وأخذهم السيف من كل جانب حتى قتلوا عن آخرهم وأخبر خالد بقتل مسيلمة فخرج بمجاعة يرسف في الحديد ليدله على مسيلمة وأخذ يكشف له عن جثث القتلى حتى عثر عليه، فقال مجاعة لخالد: ما جاءك إلا سرعان الناس وإن جماهير الناس لفي الحصون، فقال ويلك ما تقول؟ قال: هو والله الحق فهلم لأصالحك عن قومي، وكان خالد نهكته الحرب وأصيب معه من أشراف الناس من أصيب فقد رق وأحب الدعة والصلح، ثم قال مجاعة: أنطلق إليهم فأشاورهم وننظر في هذا الأمر فأرجع إليك فانطلق ودخل الحصون، وليس فيها إلا النساء والصبيان، ومشيخة فانية ورجال ضعفى فظاهر الحديد على النساء وأمرهن أن ينشرن شعورهن وأن يشرفن على رؤوس الحصون حتى يرجع إليهم ثم رجع فأتى فقال: قد أبوا ما صالحتك عليه وقد أشرف لك بعضهم نقضا علي وهم مني براء - فنظر خالد إلى رؤوس الحصون وقد اسودت - ولكن إن شئت صنعت شيئا فعزمت على القوم، قال: ما هو؟ قال: تأخذ مني ربع السبي وتدع ربعا، فقال قد فعلت، قال: قد صالحتك2. فلما فرغ فتحت الحصون فإذا ليس فبها إلا النساء والصبيان والشيوخ فقال خالد لمجاعة: ويحك خدعتني. قال: قومي ولم أستطع إلا ما صنعت.

_ 1- تاريخ الطبري: 2/281، تاريخ خليفة بن خياط: ص108 2- تاريخ الطبري: 2/283، تاريخ خليفة بن خياط: ص108

وقيل: صالحه خالد على الذهب والفضة والسلاح ونصف السبي ولما عرض هذا الصلح عارض قوم من بني حنيفة، ومنهم سلمة بن عمير الحنفي فإنه أبى إلا الحرب وتجنيد أهل القرى والعبيد غير أن مجاعة أصر على الصلح وكتب خالد كتاب الصلح وهذا نصه: هذا ما قاضى عليه خالد بن الوليد مجاعة بن مرارة وسلمة بن عمير وفلانا وفلانا: قاضاهم على الصفراء، والبيضاء، ونصف السبي والحلقة والكراع وحائط من كل قرية ومزرعة على أن يسلموا ثم أنتم آمنون بأمان الله ولكم ذمة خالد بن الوليد، وذمة أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذمم المسلمين على الوفاء1. ثم وصل كتاب أبي بكر إلى خالد أن يقتل كل محتلم لكنه وصل متأخرا لأن خالدا كان قد صالحهم فوفى لهم ولم يغدر، والذي أوصل كتاب أبي بكر هو سلمة بن سلامة بن وقش. وحشرت بنو حنيفة إلى البيعة والبراءة مما كانوا عليه إلى خالد، وخالد في عسكره. محاولة اغتيال خالد لما اجتمعت بنو حنيفة للبيعة، قال سلمة بن عمير لمجاعة استأذن لي على خالد أكلمه في حاجة له عندي ونصيحة، وقد أراد أن يفتك به فأذن له، فأقبل سلمة بن عمير مشتملا على السيف يريد ما يريد، فقال خالد: من هذا المقبل؟ قال مجاعة: هذا الذي كلمتك فيه وقد أذنت له، قال: أخرجوه عني، فأخرجوه عنه ففتشوه فوجدوا معه السيف فلعنوه وشتموه وأوثقوه وقالوا: لقد أردت أن تهلك قومك، وايم الله ما أردت إلا تستأصل بنو حنيفة، وتسبى الذرية والنساء، وايم الله لو أن خالدا علم أنك حملت السلاح لقتلك وما نأمنه إن بلغه أن يقتل الرجال ويسبي النساء بما فعلت فأوثقوه وجعلوه في الحصن وتتابع بنو حنيفة على البراء مما كانوا عليه وعلى الإسلام. وعاهدهم سلمة على أن لا يحدث حدثا ويتركوه فأبوا ولم يثقوا بحمقه أن يقبلوا منه عهدا، فأفلت ليلا فعمد إلى عسكر خالد فصاح به الحرس وفزعت بنو حنيفة فأتبعوه فأدركوه في بعض الحوائط، فشد عليهم بالسيف، فاكتنفوه بالحجارة وأجال السيف على حلقه فقطع أوداجه2.

_ 1- تاريخ الطبري: 2/284. 2- تاريخ الطبري: 2/284.

زواج خالد للمرة الثانية1 تقدم عند ذكر قصة مالك بن نويرة أن خالد بن الوليد تزوج أم تميم امرأة مالك بعد قتله، وأن أبا بكر لما استدعاه إليه عنفه على ذلك لكنه في هذه المرة أراد أن يتزوج أيضا بابنة مجاعة فعرض عليه ذلك، فقال له مجاعة: مهلا إنك قاطع ظهري، وظهرك معي عند صاحبك قال: أيها الرجل زوجني فزوجه، فبلغ ذلك أبا بكر، فكتب إليه كتابا شديد اللهجة وهذا ما جاء فيه: لعمري يا ابن أم خال إنك لفارغ تنكح النساء وبفناء بيتك دم ألف ومائتي رجل من المسلمين لم يجف بعد. فلما نظر خالد في الكتاب جعل يقول: هذا عمل الأعيسر يعني عمر بن الخطاب. ثم ذهب وفد من بني حنيفة إلى أبي بكر وقص عليه ما كان من أمر مسيلمة، وسألهم عن بعض أسجاع مسيلمة فقالوا له شيئا منها فقال: ويحكم إن هذا الكلام ما خرج إلا من إل ولا بر فأين يذهب بكم؟ خسائر بني حنيفة: قتل بعقرباء 7000، وبالحديقة نحو 7000، وفي الطلب نحو منها، وكانت موقعة عقرباء أعظم مواقع أهل الردة. خسائر المسلمين: قتل من المهاجرين والأنصار من المدينة 360 ومن المهاجرين من غير المدينة 300 أو يزيدون عدا الجرحى.

_ 1- تاريخ الطبري: 2/284- 285.

أسماء من قتل باليمامة من مشهوري الصحابة

أسماء من قتل باليمامة من مشهوري الصحابة أبو حبة بن غزية الأنصاري. أبو دجانة الأنصاري. أبو عقيل البلوي. أبو قيس بن الحارث بن قيس بن عدي السهمي. جنادة بن عبد الله المطلبي القرشي. زرارة بن قيس الأنصاري. السائب بن عثمان بن مظعون الجمحي. السائب بن العوام أخو الزبير لأبويه. سعد بن جماز الأنصاري. سلمة بن مسعود بن سنان الأنصاري. شجاع بن وهب الأسدي. صفوان بن عمرو. ضرار بن الأزور الأسدي. الطفيل بن عمرو الدوسي. عامر بن ثابت بن سلمة الأنصاري. عائذ بن ماعص الأنصاري. عباد بن بشر الأنصاري. عباد بن الحارث الأنصاري. عبد الله بن الحارث بن قيس بن عدي السهمي. عبد الله بن عبد الله بن أبي سلول. عبد الله بن عتيك الأنصاري. عبد الله بن مخرمة بن عبد العزى العامري. علي بن عبيد الله بن الحارث.

عمارة بن حزم الأنصاري. عمير بن أوس بن عتيك الأنصاري. فروة بن النعمان. قيس بن الحارث بن عدي الأنصاري. مالك بن أمية السلمي. مالك بن عمرو السلمي. مالك بن أوس بن عتيك الأنصاري. مسعود بن سنان الأسود. معن بن عدي بن الجد البلوي. النعمان بن عصر بن الربيع البلوي. هريم بن عبد الله المطلبي القرشي. ورقة بن إياس بن عمرو الأنصاري. الوليد بن عبد شمس بن المغيرة المخزومي ابن عم خالد. يزيد بن أوس. يزيد بن ثابت أخو زيد بن ثابت.

أسجاع1 مسيلمة

أسجاع1 مسيلمة2 كان مسيلمة يصانع قومه ويلاطفهم مع ادعائه النبوة ليلتفت قومه حوله وليكثر أتباعه وأنصاره، وقد ساعده على ذلك نهار الرحال بن عنفوة الذي كان قد هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ القرآن وفقه في الدين وبعثه معلما لأهل اليمامة وليشغب على مسيلمة، لكنه ما لبث أن انضم إلى مسيلمة وصدقه في الظاهر. لذلك قيل إنه كان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة وهو الذي شهد أن محمدا صلى الله عليه وسلم شهد لمسيلمة أنه رسول الله، وقد اتفق المؤرخون على أن مسيلمة ادعى النبوة قبل وفاة رسول الل، هـ غير أن الأستاذ مرجوليث يزعم أنه تنبأ قبل مبعث رسول الل، هـ وهذا من الغرابة بمكان وليس في التاريخ ما يؤيد زعمه، فما الذي ألجأه إلى ذلك؟ إن السبب الذي دعاه إلى ذلك هو نفس السبب الذي دفعه إلى الاعتراض والطعن في السيرة النبوية لتشويهها إنه يريد أن يفهم القارئ أن رسول الله هو الذي قلد مسيلمة وحذا حذوه فادعى النبوة وهو يعلم حق العلم أن مسيلمة كذاب وأنه مقلد طامع في الملك ولهذا قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في وفد بني حنيفة وسأله أن يشركه معه في النبوة فأبى وحاول أن يضاهي القرآن تغريرا بعقول السذج من قومه فجاء كلامه سخيفا. وإنا بعد ذلك نورد من أسجاعه ما عثرنا عليه ليتبين القارئ هذا المتنبئ ومبلغ علمه 1- والليل الدامس3 والذئب الهامس4 ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس5 2- والليل الأطحم6 والذئب الأدلم7 والجذع الأزلم8 مانتهكت أسيد من محرم. 3- إن بني تميم قوم طهر لقاح لا مكروه عليهم ولا إتاوة، نجاورهم ماحيينا بإحسان نمتعهم من كل انسان فإذا متنا فأمرهم إلى الرحمن. 4- والشاء والوانها وأعجبها السود وألبانها والشاه السوداء واللبن الابيض إنه لعجب محفص وقد حرم المذق فما لكم لا تمجعون. 5- ياضفدع ابنة ضفدعين مقي ماتنقين أعلاك في الماء واسفلك في الطين لا الشارب تمنعين

_ 1- أسجاع من السجع أي تكلم بكلام له فواصل كفواصل الشعر في غير وزن 2- تاريخ الطبري: 2/276 البداية والنهاية: 6/336 الطبقات الكبرى: 1/317 الإصابة: 2/539 البدء والتاريخ: 5/163. 3- الدامس: الشديد الظلمة 4- الهامس: الشديد وسمي بالهامس لأنه يمشي بخفية فلا يسمع صوت وطئة 5- سير أعلام النبلاء: 3/96 تاريخ الطبري: 2/276 البداية والنهاية 6/326 6- الأطحم: دفعته الأولى 7- الأدلم: الشديد السواد 8- الأزلم: المقطوع الطرف من الإبل

ولا الماء تكدرين1 6- والمبذرات زرعا والحاصدات حصدا والذاريات قمحا والطاحنات طحنا والخابزات خبزا والثاردات ثردا واللاقمات لقما وإهالة وسمنا، لقد فضلتم على أهل الوبر وماسبقكم أهل المدر ريفكم فامنعوه والباغي فنائوه23. أعمال مسيلمة المشؤمة لما ادعى مسيلمة النبوة لم يكتف قومه بسماع أسجاعه لتصديقه فيما يدعي ولا سيما أنه كان يبلغهم معجزات النبي التي بهرت ألباب العرب فكانوا يأتون إليه ملتمسين منه المعونة عند الحاجة وليروا قدرته على إتيان المعجزات كجميع الأنبياء فكان يرى نفسه مضطرا إلى إجابة مطالبهم وإلا كذبوه وسخروا منه وانصرفوا من حوله فحاول أن يظهر لهم بعض أعماله بيد أنه لم يوفق في واحد منها ويا ليته لم يوفق فقط بل كانت تأتي أعمال بعكس المقصود. وهذا خذلان وخزي من الله تعالى ليتجلى للخلق كذبه وشؤمه على أتباعه. أتته امرأة فقالت: إن نخلنا لسحق4 وإن آبارنا لجرز5 فادع الله لمائنا ونخلنا كما دعا محمد صلى الله عليه وسلم لأهل هزمان فسأل نهارا عن ذلك فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لهم وأخذ من ماء آبارهم فتمضمض منه ومجه في الآبار ففاضت ماء وأنجبت كل نخلة وأطلعت فسيلا قصيرا مكمما ففعل مسيلمة مثله فغار ماء الآبار ويبس النخل والعياذ بالله. وقال له نهار: أمرر يدك على أولاد بني حنيفة مثل محمد ففعل وأمر يده على رؤوسهم وحنكهم فقرع كل صبي مسح رأسه ولثغ6 كل صبي حنكه. وجاء أبو طلحة النمري فسأله عن حاله فأخبره أنه يأتيه رجل في ظلمة فقال: أشهد أنك الكاذب وأن محمدا صادق ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر7 فقتل معه يوم عقرباء كافرا. وقالوا لمسيلمة تتبع حيطانهم كما كان محمد يصنع فصل بها. فدخل حائطا من حوائط اليمامة فتوضأ فقال نهار لصاحب الحائط: ما يمنعك من وضوء الرحمن فتسقي به حائطك حتى يروى ويبتل كما صنع بنو المهرية - أهل بيت من بني حنيفة - وكان رجل من المهرية قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ وضوءه فنقله إلى اليمامة فأفرغه في بئره ثم نزع وسقى وكانت أرضه تهوما فرويت وجزأت فلم تلف

_ 1- الطبقات الكبرى: 5/550 تاريخ الطبري: 2/284. 2- المناوأه: المعاداة. 3- المنتظم: 4/21 4- تخل سحق: إذا طالت مع انجراد وبعد ثمرها على المجتني 5- آبار جزر: لا ماء فيها 6- لثغ: اللثغة: أن تعدل الحرف إلى حرف غيره ولا يبين الكلام 7- تاريخ الطبري: 2/277 البداية والنهاية 6/327

إلا خضراء مهتزة ففعل الرجل فعادت يبابا لا ينبت مرعاها. وأتاه رجل فقال: ادع الله لأرضي فإنها مسبخة كما دعا محمد لسلمى على أرضه فقال: ما يقول يا نهار فقال: قدم عليه سلمى وكانت أرضه سبخة1 فدعا له وأعطاه سجلا2 من ماء ومج له فيه فأفرغه في بئره ثم نزع فطابت وعذبت ففعل ذلك فانطلق الرجل ففعل بالسجل كما فعل سلمى فغرقت أرضه فما جف ثراها ولا أدرك ثمرها. وأتته امرأة فاستجلبته إلى نخل لها يدعو لها فيها فجذت كبائسها3 يوم عقرباء كلها. هذه بعض أعمال مسيلمة المشئومة التي أراد الله سبحانه وتعالى أن يفضحه بها وقد أشرنا إلى أن مستر مرجوليث زعم أن مسيلمة ادعى النبوة قبل النبي صلى الله عليه وسلم لكن هناك ما يثبت عكس زعمه فإنه حاول تقليد الإسلام فأخفق فمن ذلك أن عبد الله بن النواحة كان يؤذن له وكان الذي يقيم له حجير بن عمير فيزيد في صوته ويبالغ لتصديق نفسه وتصديق نهار وتضليل من كان قد أسلم4.

_ 1- تاريخ الطبري: 2/276 البداية والنهاية: 5/52 الإصابة 5/432 تاريخ بغداد: 8/23 المنتظم: 4/22 2- سبخة: مالحة 3- السجل: الدلو الضخمة 4- الكبائس: عناقيد النحل، والكبيس: نوع من التمور

ردة أهل البحرين1 سنة 11هـ "632 - 633 م"

ردة أهل البحرين1 سنة 11هـ "632 - 633 م" بينما كان خالد بن الوليد يواصل انتصاراته من شمال شبه الجزيرة العربية إلى وسطها كانت الجيوش التي أرسلها أبو بكر تحارب القبائل المرتدة والثائرة في الجهات الأخرى. وكان المنذر بن ساوى العبدي عاملا على البحرين في زمن رسول الله غير أنه مرض فمات بعد النبي صلى الله عليه وسلم بقليل فارتد بعده أهل البحرين وارتدت بكر. وكان الجارود بن المعلى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد عبد قيس سنة عشر فأسلم وكان نصرانيا ففرح النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه فأكرمه وقربه. وبعد أن تفقه في الدين رده إلى قومه عبد القيس "1 " فلما توفي رسول الله بلغه أنهم قالوا: لو كان محمد نبيا لم يمت فجمعهم وقال لهم: أتعلمون أنه كان لله أنبياء فيما مضى؟ قالوا: نعم. قال فما فعلوا؟ قالوا: ماتوا. قال فإن محمدا صلى الله عليه وسلم قد مات كما ماتوا وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ". فأسلموا وثبتوا على إسلامهم2. وكان أبو بكر بعث العلاء بن الحضرمي على قتال أهل الردة بالبحرين فلما كان بحيال اليمامة لحق به ثمامة بن أثال الحنفي في مسلمة بني حنيفة ولحق به أيضا قيس بن عاصم المنقري وانضم إليه عمرو والأبناء وسعد بن تميم والرباب لحقته في مثل عدته فسلك بهم الدهناء حتى كانوا في بحبوحتها نزل وأمر الناس بالنزول في الليل فنفرت إبلهم بأحمالها فما بقي عندهم بعير ولا زاد ولا ماء فلحقهم من الغم ما لا يعلمه إلا الله ووصى بعضهم بعضا فدعاهم العلاء فاجتمعوا إليه فقال: ما هذا الذي غلب عليكم من الغم؟. فقالوا: كيف نلام ونخن إن بلغنا غدا لم تحم الشمس حتى نهلك؟. فقال: لن تراعوا أنتم المسلمون وفي سبيل الله وأنصار الله فأبشروا فوالله لن تخذلوا.

_ 1- البداية والنهاية: 4/270 تاريخ الطبري: 2/199 2- تاريخ الطبري: 2/285 البداية والنهاية 2/232 الإصابة: 1/441

كرامة العلاء بن الحضرمي

كرامة العلاء بن الحضرمي1 كان العلاء بن الحضرمي مجاب الدعوة فلما صلى الجيش صلاة الصبح جثا العلاء لركبتيه وجثا الناس فنصب في الدعاء ونصبوا معه فلمع لهم سراب الشمس فالتفت إلى الصف. فقال رائد ينظر ما هذا ففعل ثم رجع فقال: سراب فأقبل على الدعاء ثم لمع لهم آخر فكذلك ثم لمع لهم آخر. فقال: ماء فقام وقام الناس فمشوا إليه حتى نزلوا إليه فشربوا واغتسلوا فما ارتفع النهار حتى أقبلت الإبل من كل وجه فأناخت وشربت ولم يكن بهذا المكان غدير ولا ماء قبل اليوم ثم ساروا فنزلوا بهجر وأرسل العلاء إلى الجارود يأمره أن ينزل بعبد القيس على الحطم مما يليه وسار هو فيمن معه حتى نزل عليه فيما بلى هجر. تجمع المشركون كلهم إلى الحطم بن ربيعة إلا أهل دارين وتجمع المسلمون كلهم إلى العلاء بن الحضرمي2. حرب الخنادق كان كل فريق متخوفا من الآخر فخندق المسلمون والمشركون ولبثوا يتراوحون القتال ويراجعون إلى خنادقهم شهرا. جيش العدو يلهو ويسكر - طال مكث الجيشين في الخندق ففي ذات ليلة سمع المسلمون في عسكر المشركين ضوضاء شديدة فأرسل العلاء عبد الله بن حذف ليأتيهم بخبر القوم فعاد وأخبرهم أن القوم سكارى فخرج المسلمون عليهم واقتحموا الخندق ووضعوا السيوف فيهم واستولى المسلمون على ما في العسكر وقتل الحطم قتله قيس ابن قيس بن عاصم بعد أن قطع عفيف بن المنذر التيمي ساقه وقسم العلاء الأنفال ونفل رجالا من أهل البلاء ثيابا. فأعطى ثمامة بن أثال الحنفي خميصة ذات أعلام كانت للحكم يباهي بها وهي التي كانت سببا في قتله3. المسير إلى دارين وكرامة أخرى للعلاء4 ثم قصد معظم الجيش إلى دارين وهي فرضة بالبحرين وإن ما بين الساحل ودارين مسيرة يوم وليلة لسفر البحر في بعض الحالات. فركبوا إليها السفن ولحق باقي الجيش ببلاد قومهم فكتب

_ 1- حلية الأولياء: 1/7 شذرات الذهب: 1/32 تاريخ الخلفاء: ص76 سير أعلام النبلاء: 1/262 تاريخ الطبري: 2/285. 2- سير أعلام النبلاء: 1/265 تاريخ الطبري: 2/288 الطبقات الكرى: 4/362 3- تاريخ الطبري: 2/290. 4- حلية الأولياء 1/8 تاريخ الطبري: 2/285 البداية والنهاية: 6/329

العلاء إلى من ثبت على إسلامه من بكر وائل يأمرهم بالقعود للمنهزمين والمرتدين بكل طريق ففعلوا وجاءت رسلهم إلى العلاء بذلك فأمر أن يؤتى من وراء ظهره فندب الناس إلى دارين وقال لهم: قد أراكم الله من آياته في البر لتعتبروا بها في البحر فانهضوا إلى عدوكم واستعرضوا البحر. وبعد ذلك ارتحلوا واقتحموا البحر على الخيل والإبل وغير ذلك وفيهم الماشي على قدميه ودعا ودعوا وهذا دعاؤهم: يا أرحم الراحمين يا كريم يا حليم يا أحد يا صمد يا حي يا محيي الموتى يا حي يا قيوم. لا إله إلا أنت يا ربنا. فاجتازوا ذلك الخليج بإذن الله يمشون على رمل فوقه ماء يغمر أخفاف الإبل1.

_ 1- تاريخ الطبري: 2/289

انتصار المسلمين وهزيمة المشركين

انتصار المسلمين وهزيمة المشركين التقى المسلمون والمشركون واقتتلوا قتالا شديدا فانتصر المشركون وانهزم المشركون. وأكثر المسلمون القتل فيهم وغنموا وسبوا فبلغ نفل الفارس ستة آلاف والراجل ألفين وقال في ذلك عفيف بن المنذر: ألم تر أن الله ذلل بحره ... وأنزل بالكفار إحدى الجلائل دعونا الذي شق البحار فجاءنا ... بأعجب من فلق البحار الأوائل1 وجاء في أسد الغابة أن العلاء بن الحضرمي هو من حضرموت حليف حرب بن أمية وقد خاض البحر بكلمات قالها ودعا بها. إسلام راهب كان مع المسلمين راهب من أهل هجر فأسلم فقيل له: ما حملك على الإسلام؟ قال: ثلاثة أشياء خشيت أن يمسخني الله بعدها: 1- فيض في الرمال. 2- تمهيد أثباج البحر2. 3- دعاء سمعته في عسكرهم في الهواء سحرا: اللهم أنت الرحمن الرحيم لا إله غيرك والبديع فليس قبلك شئ والدائم غير الغافل الحي الذي لا يموت وخالق ما يرى وما لا يرى وكل يوم أنت في شأن علمت كل شئ بغير تعلم. فعلمت أن القوم لم يعاونوا بالملائكة إلا وهم على حق فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسمعون هذا منه بعد3 ولم يرو لنا التاريخ اسم هذا الراهب الذي أسلم. كتاب العلاء لأبي بكر كتب العلاء إلى أبي بكر بهزيمة أهل الخندق وقتل الحطم وهذا نص الكتاب: أما بعد فإن الله تبارك اسمه سلب عدونا عقولهم وأذهب ريحهم بشراب أصابوه من النهار، فاقتحمنا عليهم خندقهم فوجدناهم سكارى فقتلناهم إلا الشريد وقد قتل الله الحطم4. فكتب إليه أبو بكر: أما بعد فإن بلغك عن بني شيبان بن ثعلبة تمام على ما بلغك وخاض فيه

_ 1- تاريخ الطبري: 2/290 البداية والنهاية: 6/329. 2- أثباج البحر: أي: أعاليه أو معظمه. 3- المنتظم: 4/84. 4- البداية والنهاية: 4/722 تاريخ الطبري: 2/291 البداية والنهاية: 6/329.

المرجفون فابعث إليهم جندا فأوطئهم وشرد بهم من خلفهم فلم يجتمعوا ولم يصر ذلك من إرجافهم إلى شيء. ردة أهل عمان ومهرة1 عمان اسم كورة عربية على ساحل بحر اليمن والهند تشتمل على بلدان كثيرة ذات نخل وزروع إلا أن حرها يضرب به المثل. قال الزجاجي سميت عمان بعمان بن إبراهيم الخليل وعمان أرض جبلية يكتنفها الجبل الأخضر وسلسلة جبال أخرى صغيرة بالقرب من ساحل البحر وعاصمتها الآن مسقط على الخليج الفارسي. ومهرة. قال صاحب معجم البلدان: بالفتح والسكون هكذا يرويه عامة الناس والصحيح مهرة بالتحريك وجدته بخطوط جماعة من أئمة العلم القدماء لا يختلفون فيه2 هذا ما أثبته ياقوت في معجمه غير أن دائرة المعارف الإسلامية كتبتها بالكون هكذا Mahra وكتاب القرون الوسطى لجامعة كامبردج الجزء الثاني وكان الواجب أن تصحح بالتحريك، Mahara كذلك وقع في نفس هذا الخطأ مستر موير في كتاب الخلافة. وتقع مهرة في الجنوب الشرقي من شبه جزيرة العرب على المحيط الهندي بين حضرموت وعمان. نبغ بعمان ذو التاج لقيط بن مالك الأزدي وكان يسامى في الجاهلية الجلندي وادعى النبوة وغلب على عمان مرتدا والتجأ جيفر بن الجلندي رئيس أهل عمان وعباد إلى الجبل والبحر ثم بعث جيفر إلى أبي بكر يطلب منه النجدة فأرسل إليه حذيفة بن محصن الغلفاني من حمير وأرسل عرفجة البارقي من الأزد إلى مهرة فإذا قربا من عمان كاتبا جيفرا فمضيا إلى ما أمرا به وكان أبو بكر بعث عكرمة إلى مسيلمة باليمامة واتبعه شرحبيل بن حسنة وأمرهما بما أمر به حذيفة وعرفجة فإذا فرغا منه سارا إلى اليمن فلحقهما عكرمة قبل عمان فلما وصلوا رجاما وهي قريب من عمان كاتبوا جيفرا وعبادا وبلغ لقيطا مجئ الجيش فجمع جموعه وعسكر بدبا وخرج جيفر وعباد من موضعهما الذي كانا فيه فعسكرا بصحار وأرسلا إلى حذيفة وعكرمة وعرفجة فقدموا عليهما وكاتبوا رؤساء مع لقيط وانفضوا عنه ثم التقوا على دبا فاقتتلوا قتالا شديدا كانت الغلبة فيه للقيط ورأى المسلمون الخلل والمشركون الظفر وبينما هم كذلك جاءت المسلمين النجدات من بني ناجية وعليهم الخريت بن راشد ومن عبد القيس وعليهم سيحان بن صوحان وغيرهم فقوى الله المسلمين فولى المشركون الأدبار وقتل منهم في المعركة نحو "10. 000 " وسبوا الذراري وقسموا الأموال وبعثوا بالخمس إلى أبي بكر مع عرفجة وكان الخمس 800 رأس، وبقي حذيفة يسكن الناس ويحفظ النظام3. أما مهرة فإن عكرمة بن أبي جهل سار إليهم بعد أن فرغ من عمان ومعه جيوش من ناجية وعبد

_ 1- تاريخ الطبري: 2/291 2 معجم البلدان: 5/234 3- تاريخ الطبري: 2/292، البداية والنهاية: 5/234 الإصابة:

القيس وراسب وسعد فاقتحم بلادهم فوجد جمعين من مهرة أحدهما مع رجل منهم يقال له شخريت والآخر مع مصبح أحد بني محارب ومعظم الناس معه غير أنهما كانا مختلفين فكاتب عكرمة شخريتا قبل أن يحاربه فأجابه وأسلم وانضم اليه ثم كاتب المصبح الذي كان معه معظم الناس فلم يجب اغترارا بكثرة جيشه فسار إليه مع شخريت وحاربه فانهزم المرتدون وقتل رئيسهم وأصاب المسلمون كثيرا من الغنائم ومما أصابوا "2000 " نجيبة وأرسل عكرمة خمس الغنائم إلى أبي بكر مع شخريت واشتدت شوكة عكرمة وأسلم المرتدون1. ردة اليمن2 اتد قيس بن عبد يغوث بن مكشوح باليمن ثانية لما بلغه وفاة رسول الله مع أنه كان اشترك هو وفيروز وداذويه في قتل الأسود العنسي كما تقدم ذكره فلما ارتد أراد التخلص من فيروز وداذويه فخدعهما ودعاهما إلى طعام صنعه لهما فدخل عليه داذويه فقتله وأما فيروز فلما هم بالدخول سمع امرأتين على سطحين تتحدثان فقالت إحداهما: هذا مقتول كما قتل داذويه ففر إلى جبل خولان وهم أخوال فيروز فامتنع بهم وكتب إلى أبي بكر يخبره وعمد قيس إلى تفريق الأنباء فلما علم فيروز جد في حربه وأرسل إلى بني عقيل بن ربيعة وإلى عك يستمدهم فمدوه بالرجال فخرج بهم وبمن اجتمع عنده فلقوا قيسا بالقرب من صنعاء فاقتتلوا قتالا شديدا انهزم قيس وأصحابه. وبينما هم كذلك قدم عكرمة بن أبي جهل من مهرة مع جيشه وقدم أيضا المهاجر بي أبي أمية في جمع من مكة والطائف وبجيلة مع جرير إلى نجران فانضم إليه فروة بن مسيك المرادي فأقبل عمرو بن معدي كرب الذي كان قد ارتد حتى دخل على المهاجر من غير أمان فأوثقه المهاجر وأخذ قيسا أيضا فأوثقه وسيرهما إلى أبي بكر فقال لقيس: يا قيس قتلت عباد الله واتخذت المرتدين وليجة3 من دون المؤمنين فانتفى قيس من أن يكون قارف من داذويه شيئا وكان قتله سرا فتجافى له عن دمه. وقال لعمرو بن معدي كرب: أما تستحي أنك كل يوم مهزوم أو مأسور. لو نصرت هذا الدين لرفعك الله 4. فقال: لا جرم لأقبلن ولا أعود فخلى أبو بكر سبيله. ورجعا إلى عشائرهما فسار المهاجر من نجران والتقت الخيول على أصحاب العنسي فاستأمنوا فلم يؤمنهم وقتلهم بكل سبيل ثم سار إلى صنعاء فدخلها وكتب إلى أبي بكر بذلك.

_ 1- تاريخ الطبري: 2/293 البداية والنهاية: 6/331. 2- المنتظم: 4/86. 3- الوليجة: البطانة والخاصة. 4- تاريخ الطبري: 2/299

ردة حضرموت وكندة1 حضرموت صقع ببلاد العرب قيل: سمي بحضرموت بن قحطان لأنه أول من نزله وكان اسم هذا الرجل عامرا فكان إذا حضر حربا أكثر من القتل فصاروا يقولون عند حضوره حضرموت ثم جرى ذلك عليه لقبا وسكنوا الضاد للتخفيف وجعلوا الاسم مركبا مزجيا على الأشهر ثم صاروا يقولون للأرض التي كانت بها هذه القبيلة حضرموت ثم أطلق على البلاد نفسها. تحد حضرموت غربا باليمن وشرقا بعمان وشمالا بالدهناء وقال ياقوت وهي ناحية واسعة في شرقي عدن بقرب البحر وحولها رمال كثيرة تعرف بالأحقاف2. كان الأشعث بن قيس قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد كندة من حضرموت فأسلموا وسألوا أن يبعث عليهم رجلا يعلمهم السنن ويجبي صدقاتهم فأنفذ معهم زياد بن لبيد البياضي عاملا للنبي صلى الله عليه وسلم يجبيهم فلما مات رسول الله نكص الأشعث عن بيعة أبي بكر رضي الله عنه ونهاه ابن امرئ القيس بن عابس فلم ينته فكتب زيا د إلى أبي بكر بذلك فكتب أبو بكر إلى المهاجر بن أبي أمية وكان على صنعاء بعد قتل العنسي أن يمد زيادا بنفسه ويعينه على المرتدين بمن عنده من المسلمين. فجمع زياد جموعه وأوقع بمخاليفه فنصره الله عليهم حتى تحصنوا بالنجير3 بعد أن رموه فحصرهم فيه ثم قدم إليه عكرمة بجيشه فأعيوا عن المقام في الحصن فاجتمعوا إلى الأشعث وسألوه أن يأخذ لهم الأمان فأرسل إلى زياد بن لبيد يسأله الأمان حتى يلقاه ويخاطبه فأمنه فلما اجتمع به سأله أن يؤمن أهل النجير ويصالحهم فامتنع عليه وراده حتى آمن سبعين رجلا منهم وفيهم أخو قيس وبنو عمه وأهله ونسى نفسه وأن يكون حكمه في الباقي نافذا فخرج سبعون فأراد قتل الأشعث وقال له: أخرجت نفسك من الأمان بتكملة عدد السبعين فسأله أن يحمله إلى أبي بكر ليرى فيه رأيه وفتحوا له حصن النجير وكان فيه كثير فعمد إلى أشرافهم نحو 700 رجل فضرب أعناقهم ولام القوم الأشعث وقالوا لزياد: إن الأشعث غدر بنا، أخذ الأمان لنفسه وأهله وماله ولم يأخذ لنا وإنما نزل على أن يأخذ لنا جميعا. وأبى زياد أن يوارى جثث من قتل وتركهم للسباع وكان هذا أشد على من بقي من القتل وبعث السبي مع نهيك بن أوس بن خزيمة وكتب إلى أبي بكر: إنا لم نؤمنه إلا على حكمك وبعث الأشعث في وثاق وماله معه ليرى فيه رأيه فأخذ أبو بكر يقرع الأشعث ويقول له: فعلت فعلت. فقال الأشعث: استبقني لحربك وسأله أن يرد عليه زوجته وقد كان خطب أم فروة بنت أبي قحافة أخت أبي بكر لما قدم على رسول الله فزوجه وأخرها إلى أن يقدم الثانية. فحقن أبو بكر دمه بعد أن أسلم أمامه ورد عليه أهله وقال له انطلق فليبلغني عنك خير 4. ولما تزوج الأشعث أم فروة اخترط5 سيفه ودخل سوق الإبل فجعل لا يرى جملا ولا ناقة إلا

_ 1- تاريخ اليعقوبي: 1/195 البداية والنهاية: 5/352. 2- معجم البلدان: 2/270. 3- الطبقات الكبرى: 6/22 الكامل: 4/220 4- تاريخ الطبري: 2/304. 5- اخترط السيف: سله من غمده.

عرقبه وصاح الناس كفر الأشعث فلما فرغ طرح سيفه وقال: إني والله ما كفرت ولكن زوجني هذا الرجل أخته ولو كان ببلادنا لكانت لنا وليمة غير هذه. يا أهل المدينة انحروا وكلوا. ويا أصحاب الإبل تعالوا خذوا أثمانها. فما رؤيت وليمة مثلها1.

_ 1- سير أعلام النبلاء: 2/39. الإصابة 1/88

مسير خالد إلى العراق وصلح الحيرة1 سنة 12هـ - 633 م

مسير خالد إلى العراق وصلح الحيرة1 سنة 12هـ - 633 م كان المثنى بن حارثة الشيباني ممن حارب وانتصر في البحرين فاستأذن أبا بكر أن يغزو العراق فأذن له فكان يغزوهم قبل قدوم خالد فتقدم نحو الخليج الفارسي وأخضع القطيف ثم قاد جيشه إلى دلتا الفرات وبلغ عد جيشه 8000 مقاتل لكنه وجد مقاومة من جيش العدو فأرسل أبو بكر إلى خالد بن الوليد وهو باليمامة يأمره بالمسير إلى العراق. وقد أخمدت الثورة في جميع العرب في أوائل السنة الثانية عشرة الهجرية فاهتم أبو بكر بتوجيه الجنود إلى جهات أخرى فأرسل جيشين إلى الشمال وأمر على أحدهما خالدا ومعه المثنى للزحف نحو الأبلة ثم الزحف نحو الحيرة وأمر على الجيش الثاني عياضا ووجهه إلى دومة بين الخليج الفارسي وخليج العقبة ثم بالمسير إلى الحيرة أيضا فإذا سبق أحدهما الآخر كان أميرا على صاحبه. أما عياض الذي كانت وجهته دومة فقد عوقه العدو مدة طويلة وأما خالد فإنه لم يلق مقاومة في طريقه إلى العراق كما لقي عياض وانضم إليه عدد كبير من البدو فتقوى بهم وكثر جيشه حتى صار عدده 10. 000مقاتل عدا جيش المثنى البالغ عدده 80. 000 وكان الجميع تحت قيادة خالد2، فكان أول من لاقاه هرمز وكان العرب يبغضونه لظلمه ويضربونه مثلا فيقولون: أكفر من هرمز فكتب إليه خالد قبل خروجه: أما بعد فأسلم تسلم أو أعقد لنفسك وقومك الذمة وأقرر بالجزية وإلا فلا تلومن إلا نفسك فقد جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة. وقد جعل هرمز على مقدمته قباذ وأنو شجان وكانا من أولاد أردشير الأكبر فسمع بهم خالد فمال بالناس إلى كاظمة فسبقه هرمز إليها فقدم خالد فنزل على غير ماء. فقال له أصحابه في ذلك: ما نفعل؟ فقال لهم: لعمري ليصيرن الماء لأصبر الفريقين وأكرم الجندين وتقدم خالد إلى الفرس وأرسل الله سحابة فأغدرت وراء صف المسلمين فقويت قلوبهم. موقعة ذات السلاسل3 خرج هرمز ودعا خالدا إلى البراز وأوطأ أصحابه على الغدر بخالد فبرز إليه خالد ومشى نحوه راجلا ونزل هرمز أيضا وتضاربا فاحتضنه خالد وحمل أصحاب هرمز فما شغله ذلك عن قتله وانهزم الفرس بعد أن قتل منهم عدد عظيم وسميت الموقعة ذات السلاسل لأن فريقا من جند الفرس قد قرنهم هرمز بالسلاسل خوفا من فرارهم. ونجا قباذ وأنوشجان وأخذ خالد سلب هرمز وكانت

_ 1- البداية والنهاية: 4/736 تاريخ الطبري: 1/332. 2- تاريخ الطبري: 2/309. 3- تاريخ الطبري: 2/310 البداية والنهاية: 6/344

قلنسوته بمئة ألف لأنه كان قد تم شرفه في الفرس وكانت هذه عاداتهم إذا تم شرف الإنسان تكون قلنسوته بمائة ألف وكانت القلنسوة مفصصة بالجواهر وبعث خالد بالفتح والأخماس إلى أبي بكر ومما غنمه المسلمون في ميدان القتال فيل فأرسل إلى المدينة مع الغنائم. فلما طيف به ليراه الناس جعل ضعيفات النساء يقلن أمن خلق الله هذا؟ فرده أبو بكر. حصن المرأة وحصن الرجل1 ثم صار خالد حتى نزل بموضع الجسر الأعظم بالبصرة وخرج المثنى بن حارثة حتى انتهى إلى حصن المرأة فخلف المثنى بن حارثة عليه أخاه فحاصرها ومضى المثنى إلى زوجها وهو في حصنه المسمى حصن الرجل فحاصره واستنزلهم عنوة2 فقتلهم وغنم أموالهم. ولما بلغ المرأة ذلك صالحت المثنى وأسلمت فتزوجها المثنى وكان هذا الحصن قصرا واسم المرأة كما جاء في البلاذري كامور زاد بنت نرسي لأن أبا موسى الأشعري قد نزل بها فزودته خبيصا فجعل يكثر أن يقول أطعمونا من خبيص المرأة فغلب على اسمها. وقد نال كل فارس في يوم ذات السلاسل 1000 درهم والراجل الثلث.

_ 1- تاريخ الطبري: 2/311 البداية والنهاية: 6/345 البدء والتاريخ: 5/166 تاريخ اليعقوبي: 2/133 2- عنوة: قهرا وقسرا

انهزام الفرس ثانيا موقعة الثنى1 صفر سنة 12هـ - سنة 633م

انهزام الفرس ثانيا موقعة الثنى1 صفر سنة 12هـ - سنة 633م لما وصل خبر انهزام هرمز إلى المدائن عاصمة الفرس أرسل ملكهم أردشير جيشا آخر وأمر عليه قارن بن قريانس. فلما انتهى إلى المذار انضم إلى الجيش المنهزم ورجعوا ومعهم قباذ وأنو شجان ونزلوا الثنى وهو نهر متفرع من الدجلة والتقوا بالمثنى الذي كان قد توقف عند الثنى فأحدق الخطر بالمثنى فوافاه خالد والتقوا في الوقت المناسب ودارت رحى القتال بينهم وانتهى الأمر بفرار الفرس وقتل مهم نحو 30. 000 سوى من غرق وفر من نجا منهم بالقوارب. وقد كان النهر عائقا في سبيا اقتفاء أثر العدو غير أن الغنائم كانت عظيمة وقتل كل رجل قادر على الحرب وأسر النساء وأخذ الجزية من الفلاحين وصاروا ذمة وصارت أرضهم لهم وكان في السبي أبو الحسن البصري وكان نصرانيا وأمر على الجند سعيد بن نعمان وعلى الجزية سويد بن مقرن المزني. أما قارن بن قريانس أمير جيش الفرس الذي أرسله أردشير لإمداد هرمز فقد قتله معقل بن الأعشى بن النباش وقتل عاصم أنو شجان وقتل عدي بن حاتم قباذ وكان قارن قد تم شرفه ولم يقاتل المسلمون بعده أحدا تم شرفه في الأعاجم. وزاد سهم الفارس يوم الثنى على سهمه في ذات السلاسل. موقعة الولجة2 شهر صفر سنة 12هـ - إبريل سنة 633 م اضطرب البلاط الملكي في فارس من جراء انتصارات العرب وتحدثوا فيما بينهم بأنه يجب محاربة العرب بعرب مثلهم يعرفون خططهم الحربية. فجند الملك جيشا عظيما من قبيلة بكر والقبائل الأخرى الموالية له تحت قيادة قائد مشهور منهم يدعى الأندرزغر وكان فارسيا من مولدي السواد. وأرسل بهمن جاذويه في أثره ليقود جيوش الملك وحشر الأندرزغر من بين الحيرة وكسكر ومن عرب الضاحية وتقدمت الجيوش المتحدة نحو الولجة بالقرب من ملتقى النهرين. أما خالد فقد ترك فرقة لحراسة الأراضي التي غزاها في الدلتا وسار للقاء العدو من الثنى فاشتبك الجيشان في الولجة في قتال طويل عنيف وقد انتصر المسلمون فيه بفضل تدابير قائدهم الذي باغت العدو وأجهده بكمين في ناحيتين وكمين من الخلف وكانت الهزيمة كاملة ففر الفرس وفر

_ 1- تاريخ الطبري: 2/312 البداية والنهاية: 344 2- تاريخ الطبري: 2/312 البداية والنهاية: 6/345 والمنتظم: 4/102

العرب الموالون لهم بعد أن قتل وأسر منهم عدد عظيم ومضى الأندرزغر منهزما فمات عطشا في الفلاة وبذل خالد الأمان للفلاحين فعادوا وصاروا ذمة وسبى الذراري المقاتلة ومن أعانهم. خطبة خالد1 قام خالد في الناس خطيبا يرغبهم في بلاد العجم. ويزهدهم في بلاد العرب وقال: ألا ترون إلى الطعام كرفغ التراب وبالله لم يلزمنا الجهاد في الله والدعاء إلى الله عز وجل ولم يكن إلا للمعاش لكان الرأي أن نقارع على هذا الريف حتى نكون أولى به ونولي الجوع والإقلال ممن تولاه ممن اثاقل عما أنتم عليه. موقعة أليس2 شهر ربيع الأول سنة 12هـ - أيار مايو سنة 633 م انقسمت قبيلة بني بكر في القتال إلى قسمين قسم مع خالد وقسم مع الفرس ولما أصاب خالد يوم الولجة من أصاب من بكر بن وائل من أنصارهم الذين أعانوا أهل الفرس غضب لهم نصارى قومهم فكاتبوا الأعاجم وكاتبهم الاعاجم فاجتمعوا إلى أليس وعليهم عبد الأسود العجلي وكان أشد الناس على أولئك النصارى مسلمو بني عجل. كتب أردشير ملك الفرس إلى بهمن جاذويه وهو بقسيانا: أن سر حتى تقدم أليس بجيشك إلى من اجتمع بها من فارس ونصارى العرب فقدم بهمن جاذويه وجابان وسار جابان نحو أليس وهي في منتصف الطريق بين الحيرة والأبلة. ثم انطلق بهمن إلى أردشير ليعرف رأيه ويتلقى أمره فوجده مريضا فبقي ملازما البلاط. أما جابان فإنه مضى حتى أتى أليس فنزل بها. وكان خالد قد بلغه تجمع عبد الأسود ومن معهم فسار إليهم وهو لا يشعر بدنو جابان وترك عند الحفير فرقة قوية لحماية ظهره وبرز أمام الصف ونادى رؤساءهم إلى البراز له فبرز له مالك بن قيس فقال له خالد يا بن الخبيثة ما جرأك علي من بينهم وليس فيك وفاء؟ فضربه وقتله، ونشبت الحرب بين الفريقين واقتتلوا قتالا شديدا. نهر الدم3 ولما وجد خالد شدة مقاومة العدو قال: اللهم إن لك علي إن منحتنا أكتافهم ألا أستبقي منهم أحدا قدرنا عليه حتى أجري نهرهم بدمائهم.

_ 1- تاريخ الطبر: 2/312. 2 تاريخ الطبري: 2/313. 3- تاريخ الطبري: 2/314 البداية والنهاية: 6/346

وأخيرا لم يستطع الفرس مقاومة المسلمين ففروا منهزمين فأمر خالد مناديه في الناس الأسر، الأسر. لا تقتلوا إلا من امتنع. فأقبلت الخيول بهم أفواجا مستأسرين يساقون سوقا وقد وكل بهم رجالا يضربون أعناقهم في النهر فجرت الدماء في النهر فسمى لذلك نهر الدم وبعث خالد بالخبر مع رجل يدعى جندلا من بني عجل إلى أبي بكر يخبره بفتح أليس وبقدر الفيء وبعدة السبي وبما حصل من الأخماس وبأهل البلاد من الناس وأمر أبو بكر لجندل بجارية من ذلك السبي. وبلغ قتلى العدو من أليس 70. 000 كما ذكر الطبري وكما جاء في شعر أبي مقرن الأسود بن قرطبة حيث قال: قتلنا منهم سبعين ألفا ... بقية حربهم نخب الأسار موقعة أمغيشيا وهدمها1 لما فرغ خالد من أليس سار إلى أمغيشيا وكانت مصرا كالحيرة فغزا أهلها وأعجلهم أن ينقلوا أموالهم فغنم جميع ما فيها وقد جلا أهلها وتفرقوا في السواد وبلغ سهم الفارس 1500 سوى الذي نفله أهل البلاء. أرسل إلى أبي بكر بالفتح ومبلغ الغنائم. فلما بلغ ذلك أبا بكر قال: أعجزت النساء أن يلدن مثل خالد وفي رواية عدا أسدكم على الأسد فغلبه على خراذيله أعجزت النساء أن ينسلن2 مثل خالد.

_ 1- تاريخ الطبري: 2/315 البداية والنهاية: 6/346 والمنتظم: 4/103. 2- ينسلن: يلدن.

حصار الحيرة وتسليمها1 ربيع الأول سنة 12هـ - أيلول سنة 633 م

حصار الحيرة وتسليمها1 ربيع الأول سنة 12هـ - أيلول سنة 633 م سار خالد من أمغيشيا إلى الحيرة وحمل الرجال والرحال والأثقال في السفن فخرج مرزبان الحيرة حاكمها الفارسي ويدعى الأزاذبة وأرسل ابنه فقطع الماء عن السفن وذلك بسد الفرات فبقيت السفن على الأرض فسار خالد في خيل نحو ابن الأزاذبة فلقيه على فم فرات بادقلى فقتله وقتل أصحابه غير أن المدينة كانت محصنة بأربعة حصون فأبت التسليم فحصرهم وقاتلهم المسلمون فاقتحموا الدور والديورة وأكثروا القتل فنادى القسيسون والرهبان يا أهل القصور ما يقتلنا غيركم فنادى أهل القصور المسلمين. قد قبلنا واحدة من ثلاث: إما الإسلام أو الجزية أو المحاربة. أما الأزاذبة فإنه هرب إذ بلغه موت أردشير. وهذه أسماء قصور الحيرة التي تحصنوا فيها: 1- القصر الأبيض وفيه إياس بن قبيصه الطائي وكان ضرار بن الأزور محاصرا له. 2- قصر الغريين وفيه عدي بن عدي وكان ضرار ابن الخطاب محاصرا له. 3- قصر ابن مازن وفيه ابن أكال وكان ضرار بن مقرن المزني محاصرا له. 4- قصر ابن بقيله وفيه عمرو بن عبد المسيح بن بقيله، وكان المثنى محاصرا له. خرج هؤلاء الرؤساء الأربعة من قصورهم فأرسلهم المسلمون إلى خالد فكان أول من طلب الصلح عمرو بن عبد المسيح فصالحوه على 190. 000 وأهدوا إليه الهدايا وبقوا على دينهم. وبعث خالد بالفتح والهدايا إلى أبي بكر مع الهذيل الكاهلي فقبلها أبو بكر من الجزاء وكتب إلى خالد: أن أحسب لهم هديتهم من الجزاء وخذ بقية ما عليهم فقو بها أصحابك.

_ 1- تاريخ الطبري: 2/316 المنتظم: 4/103

محاورة بين خالد بن الوليد وعمرو بن عبد المسيح

محاورة بين خالد بن الوليد وعمرو بن عبد المسيح1 لما مثل عمرو بن عبد المسيح أمام خالد قال له خالد: - كم أتى عليك؟ - مئون من السنين - فما أعجب ما رأيت؟ - رأيت القرى منظومة ما بين دمشق والحيرة تخرج المرأة من الحيرة فلا تزود إلا رغيفا فتبسم خالد وقال: - هل لك من شيخك إلا عمله. خرفت والله يا عمرو. ثم أقبل على أهل الحيرة وقال: ألم يبلغني أنكم خبثة خدعة مكرة فما لكم تتناولون حوائجكم بخرف لا يدري من أين جاء؟ فتجاهل له عمرو وأحب أن يريه من نفسه ما يعرف به عقله ويستدل به على صحة ما حدث به فقال: - وحقك أيها الأمير إني لأعرف من أين جئت - فقال: من أين جئت - فقال عمرو: أقرب أم أبعد؟ - ما شئت - من بطن أمي - فأين تريد؟ - أمامي - وما هو؟ - الآخرة - فمن أين أقصى أثرك - من صلب أبي - ففيم أنت؟ - في ثيابي

_ 1- البداية والنهاية: 6/343 تاريخ الطبري: 2/317

- أتعقل؟ - إي والله وأقيد - إنما أسألك - فأنا أجيبك - أسلم أنت أم حرب؟ - بل سلم - فما هذه الحصون؟ - بنيناها للسفيه نحسبه حتى ينهاه الحليم - قتلت أرض جاهلها. وقتل أرض عالمها والقوم أعلم بما فيهم - فقال عمرو: أيها الأمير النملة أعلم بما في بيتها من الجمل بما في بيت النمل

خالد يتناول السم1 الزعاف2 فلا يؤثر فيه

خالد يتناول السم1 الزعاف2 فلا يؤثر فيه ذكرنا كرامتين للعلاء بن الحضرمي، والآن نذكر كرامة لخالد بن الوليد ولم يكن أحدهما ساحرا ولا كاهنا. بل كان كل منهما بطلا مقداما فقد كان مع عمرو بن عبد المسيح بن بقيلة خادم معه كيس فيه سم فأخذه خالد ونثره في يده وقال: لم تستصحب هذا؟ قال: خشيت أن تكون على غير ما رأيت فكان أحب إلي من مكروه أدخله على قومي، فقال خالد: لن تموت نفسه حتى تأتي على أجلها، وقال: بسم الله خير الأسماء، رب الأرض ورب السماء الذي لا يضر مع اسمه داء الرحمن الرحيم فابتلع خالد السم، فقال عمرو: والله يا معشر العرب لتملكن ما أردتم، ما دام أحد منكم هكذا لم يكن لابتلاع السم أي تأثير في خالد فلم يمرض ولم يمت مع أن عمرو بن عبد المسيح كان قد أعده للانتحار. وصالح خالد أهل الحيرة ففرضت عليهم الجزية عدا رجال الدين واشتغل المسلمون بحماية المدينة من الهجوم عليها. وكان لعبد المسيح الذي مر ذكره ابنة تدعى كرامة فتمسك خالد بتسليمها إلى شويل لأنه كان رآها شابة فمال إليها فوعده النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فلما فتحت الحيرة طلبها وشهد له شهود بوعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يسلمها إليه وعلى ذلك سلمها له خالد فاشتد ذلك على أهل بيتها وقرابتها، فقالت لهم: اصبروا فإنما هذا رجل أحمق. رآني في شبيبتي فظن أن الشباب يدوم فافتدت منه بألف درهم ورجعت إلى أهلها. صلاة الفتح3 لما فتح خالد الحيرة صلى صلاة الفتح ثماني ركعات لا يسلم فيهن وقال: لقد قاتلت يوم مؤتة فانقطع في يدي تسعة أسياف وما لقيت قوما كقوم لقيتهم من أهل فارس وما لقيت من أهل فارس كأهل أليس. وبعد أن احتل خالد الحيرة مكث فيها عاما عين عمالا لجباية الخراج وأمراء للثغور وتم صلح الحيرة بدفع مبلغ 600. 000 درهم جزية وهو مبلغ قليل لكنه كان في نظر العرب مبلغا عظيما. الفرس وشرب الخمر ذكر خالد في كتبه إلى الفرس غير مرة الخمر، فمما جاء في أحد كتبه إليهم: ألا فقد جئتكم

_ 1- البداية والنهاية: 6/246. 2- الزعاف: القاتل سريع الفتك. 3- تاريخ الطبري: 2/319.

بقوم يحبون الموت كما تحبون شرب الخمر1 وهذا يدل على أن الخمور كانت منتشرة عندهم، وأنهم كانوا يقبلون على شربها حتى عني خالد بذكرها. متاعب الفرس الداخلية وفي هذه الأثناء كانت الفرس تعاني كثيرا من المتاعب الداخلية بعد ملكها أردشير وذلك أن شيري بن كسرى قتل كل من كان يناسبه إلى كسرى بن قباذ ولهذا اقتصر همهم على حماية المدائن عاصمة ملكهم وما جاورها إلى نهر شير الذي هو فرع من نهر الفرات وكان المثنى يهدد هذه الناحية لكنه توقف عن الزحف لأن أبي بكر نهى عن التقدم إلا أن تحمى ظهور المسلمين.

_ 1- تاريخ الطبري: 2/308، والبداية والنهاية: 6/343.

فتح الانبار1 موقعة ذات العيون أنبار هي فيروز سابور القديمة، مدينة شهيرة في العراق من ولاية بغداد بينها وبين بغداد عشرة فراسخ وهي إلى غربيها على الفرات قرب مخرج نهر عيسى وبابل في شماليها وتبعد عنها نحو ثمانين ميلا. قيل سميت بالأنبار لأنه كان يجمع فيها أنابير الحنطة والشعير والتبن وأنابير جمع أنبار. سار خالد على تعبئته إلى الأنبار وعلى مقدمته الأقرع بن حابس فحاصرها المسلمون وقد تحصن أهل الأنبار وخندقوا عليهم وأشرفوا من حصنهم وعلى جنودهم شيرزاد صاحب ساباط وطاف خالد بالخندق وأنشب القتال وأوصى رماته أن يقصدوا عيون جيش العدو فرموا رشقا واحدا ثم تابعوا فأصابوا ألف عين فسميت تلك الوقعة "ذات العيون" وتصايح القوم ذهبت عيون أهل الأنبار، فلما رأى ذلك شيرزاد أرسل يطلب الصلح على أمر لم يرضه خالد فرد رسله ونحره من إبل العسكر كل ضعيف وألقى الإبل في أضيق مكان في الخندق حتى ردمه بها وجاز هو وأصحابه فوقها فاجتمع المسلمون والمشركون في الخندق فأرسل شيرزاد إلى خالد يطلب منه الصلح على ما أراد فصالحه على أن يلحقه بمأمنه من غير أن يأخذ شيئا من المتاع. وخرج شيرزاد إلى بهمن جاذويه، ثم صالح خالد من حول الأنبار وأهل كلواذى. فتح عين التم ر2 لما فرغ خالد من الأنبار استخلف عليها الزبرقان بن بدر وسار إلى عين التمر وهي قلعة على حدود الصحراء على مسيرة ثلاثة أيام غربا وبها مهران بن بهرام جوبين في جمع عظيم من العجم وعقة بن أبي عقة في جمع عظيم من العرب وتغلب وإياد وغيرهم فلما سمعوا بخالد قال عقة لمهران: إن العرب أعلم بقتال العرب فدعنا وخالدا قال: صدقت فأنتم أعلم بقتال العرب وإنكم لمثلنا في قتال العجم فخدعه وارتقى به وقال: إن احتجتم إلينا أعناكم فلامه أصحابه من الفرس على هذا القول فقال لهم إنه قد جاءكم من قتل ملوككم وفل حدكم فاتقيته بهم. فإن كانت لهم على خالد فهي لكم. وإن كانت الأخرى لم يبلغوا منهم حتى يهنوا فنقاتلهم ونحن أقوياء وهم ضعفاء فاعترفوا بفضل الرأي، وسار عقة إلى خالد فعبأ خالد جنده وبينما كان عقة يقيم صفوفه حمل عليه خالد بنفسه فاحتضنه وأخذه أسيرا كما احتضن هرمز من قبل في موقعة ذات السلاسل. فانهزم الفرس من

_ 1- البداية والنهاية: 4/743، تاريخ الطبري: 2/322، 323، المنظم: 4/106. 2- البداية والنهاية: 6/349، والمنتظم: 4/107، وتاريخ الطبري: 2/324.

غير قتال وأكثر المسلمون فيهم الأسر فسألوه الأمان فأبى فنزلوا على حكمه فأخذهم أسرى وقتل عقة ثم قتلهم أجمعين وسبى كل من في الحصن وغنم ما فيه، ووجد في بيعتهم أربعين غلاما يتعلمون الإنجيل علة مذهب نسطور، وكان عليهم باب مغلق فكسره عنهم وقسمهم بين القواد، وكان منهم أبو زياد مولى ثقيف ونصير أبو موسى بن نصير وأرسل الوليد بن عقبة إلى أبي بكر بالخبر والأخماس.

موقعة دومة الجندل1 شهر رجب سنة 12هـ - أيلول/سبتمبر سنة 633 م

موقعة دومة الجندل1 شهر رجب سنة 12هـ - أيلول/سبتمبر سنة 633 م دومة الجندل مدينة بينها وبين دمشق خمس ليال وبعدها من المدينة خمس عشرة ليلة وهي أقرب بلاد الشام إلى المدينة وبقرب تبوك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج لغزوها في ربيع الأول سنة خمس "يولية سنة 262م " وكانت أول غزوات الشام. وكان أبو بكر قد أرسل جيشين إلى الشمال وأمر على أحدهما خالدا، ووجهته نحو الأبلة ثم الزحف على الحيرة وأمر على الثاني عياضا ووجهته إلىثم المسير إلى الحيرة، فإذا سبق أحدهما الآخر كان أميرا على الحيرة، إلا أن عياضا الذي كانت وجهته دومة عوقه العدو مدة طويلة ولم يستطع الإنضمام إلى خالد فلما أرسل خالد بن عقبة إلى أبي بكر بخبر، فتح عين التمر اهتم أبو بكر فأرسل الوليد لمساعدة عياض، وكان خالد لما فرغ من عين التمر أتاه كتاب عياض يستمده، فسار خالد إليه تاركا القعقاع على الحيرة وكان بدومة رئيسان أكيدر بن عبد الملك والجودي بم ربيعة يساعدهما بنو كلب وقبائل أخرى من صحراء الشام. ولما سمع أكيدر بقدوم خالد تخوف وبادر بالتسليم إلا أن خالدا أسره وضرب عنقه ثم أخذ ما كان معه. ثم هاجم عياض القبائل المعادية من جهة الشام وخالد من جهة فارس فانهزم العدو شر هزيمة وأخذ الجودي أسيرا فقتله وقتل الأسرى وأخذ حصونهم وسبى الذرية والسرح2 فباعهم واشترى خالد ابنة الجودي وكانت موصوفة بالجمال وتزوجها في ميدان القتال! ثم رجع إلى الحيرة وكان يريد محاربة أهل المدائن فمنعه من ذلك كراهية مخالفة أبي بكر.

_ 1- البداية والنهاية: 4/744، تاريخ الطبري: 2/324. 2- السرح: الحاشية.

البعوث إلى العراق1 شهر شعبان سنة 12هـ - تشرين الأول/أكتوبر سنة 633م

البعوث إلى العراق1 شهر شعبان سنة 12هـ - تشرين الأول/أكتوبر سنة 633م لقد شجع غياب خالد الفرس ومن والاهم من العرب ولا سيما بني تغلب على مناوشة2 المسلمين وطمع الأعاجم وكاتبهم عرب الجزيرة غضبا لعقة الذي قتله خالد بعين التمر إلا أن القعقاع استطاع الدفاع عن الأنبار ولما قدم خالد خرج وعلى مقدمته الأقرع بن حابس واستخلف على الحيرة عياض بن غنم وهاجم الفرس على الشاطئ الشرقي للفرات فهزمهم وقتل قوادهم وهاجم البدو على الشاطئ الغربي ليلا وهم نيام فقتلهم وسبى الذرية وأرسل الغنائم إلى المدينة.

_ 1- البداية والنهاية: 4/745، تاريخ الطبري: 2/325، المنتظم: 4/108. 2- المناوشة: المنازلة

موقعة الفراض

موقعة الفراض1 إنهزام الفرس والروم والبدو شهر ذي القعدة سنة 12هـ - كانون الثاني/يناير سنة 634م ثم قصد خالد إلى الفراض تخوم2 الشام والعراق والجزيرة فأفطر بها رمضان في تلك السفرة التي اتصلت فيها الغزوات فلما اجتمع المسلمون بالفراض حميت الروم واغتاظت واستعانوا بمن يليها من مسالح أهل فارس واستمدوا تغلب وإيادا والنمر فأمدوهم وناهضوا خالدا حتى إذا صار الفرات بينهم قالوا: إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم قال خالد: بل اعبروا إلينا قالوا: فتنحوا حتى نعبر فقال خالد: لا نفعل ولكن اعبروا أسفل منا فقالت الروم وفارس بعضهم لبعض احتسبوا ملككم، هذا رجل يقاتل على دين وله عقل وعلم والله لينصرن ولنخذلن، ثم لن ينتفعوا بذلك. فعبروا أسفل من خالد. فلما تتاموا قالت الروم: امتازوا حتى نعرف اليوم ما كان من حسن أو قبيح من أينا يجيء ففعلوا واقتتلوا قتالا شديدا طويلا، ثم إن الله عز وجل هزمهم وقتل يوم الفراض في المعركة وفي الطلب 100. 000 كما رواه الطبري، وأقام خالد على الفراض بعد الوقعة عشرا ثم أذن بالجوع إلى الحيرة لخمس بقين من ذي القعدة. قال مستر موير في كتابه الخلافة عند ذكر هذه الموقعة صفحة 61 طبعة سنة 1942: إن هذا العدد "100. 000 " خرافي ويريد بذلك أنه عدد عظيم غير معقول إلا أن المؤرخين لم يذكروا عدد جيش خالد ولا عدد جيش العدو والذي نعلمه أن جيش العدو كان عظيما لأنه كان جيش متحد مؤلف من ثلاثة جيوش: جيش الفرس والروم والعرب الذين انضموا إليهم فإذا كانت الموقعة انتهت بانهزام هذه الجيوش انهزاما تاما فلا بد أن يكون عدد القتلى كبيرا فإن لم يكن مئة ألف بالضبط كما رواه الطبري فهو يقرب من ذلك. قال القعقاع يصف موقعة الفراض: لقينا بالفراض جموع روم ... وفرس غمها طول السلام بدنا جمعهم لما التقينا ... وبيتنا بجمع بني رزام فما فتئت جنود السلم حتى ... رأينا القوم كالغنم السوام

_ 1- البداية والنهاية: 4/747، تاريخ الطبري: 2/328، المنتظم: 4/110. 2- تخوم: الفصل بين الأرضين والمعالم والحدود.

خالد يحج سرا1 شهر ذي الحجة سنة 12هـ - شباط/فبراير سنة 634م

خالد يحج سرا1 شهر ذي الحجة سنة 12هـ - شباط/فبراير سنة 634م لما أيقن خالد من انهزام العدو اشتاق إلى زيارة مكة وإلى تأدية فريضة الحج متخفيا من غير أن يستأذن أبا بكر فأمر جيشه بالعودة إلى الحيرة وتظاهر بأنه سائر في مؤخرة الجيش فبدأ رحلته إلى مكة ومعه عدة من أصحابه لخمس بقين من ذي القعدة ولم يكن معه دليل فاخترق الصحراء مسرعا رغما عن صعوبة الطريق. ولما أدى فريضة الحج عاد إلى الحيرة في أوائل فصل الربيع فكانت غيبته على الجند يسيرة فما وصلت إلى الحيرة مؤخرة الجيش حتى وافاهم خالد مع صاحب الساقة فقدما معا وخالد وأصحابه محلقون وقد كان تكتمه شديدا حتى إنهم ظنوا أنه كان في هذه المدة بالفراض ولم يعلم أبو بكر بحج خالد مع أنه كان في الحج أيضا غير أنه بعد قليل بلغه الخبر فاستاء جدا وعتب عليه وكانت عقوبته أن صرفه إلى الشام ليمد جموع المسلمين باليرموك فأرسل إليه كتابا هذا نصه: سر حتى تأتي جموع المسلمين باليرموك فإنهم قد شجوا2 وأشجوا3 وإياك أن تعود لمثل ما فعلت فإنه لم يشج الجموع من الناس بعون الله شجاك ولم ينزع الشجى من الناس نزعك فليهنئك أبا سليمان النية والخطوة فأتمم يتمم الله عليك ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل وإياك أن تدل بعمل فإن الله له المن وهو ولي الجزاء. وفي هذه السنة سنة 12 هـ تزوج عمر رضي الله عنه عاتكة بنت زيد وفيها مات أبو مرثد الغنوي وهو أبو مرثد كناز بن الحصين الذي حمل اللواء في بعث حمزة وكان أول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها مات أبو العاص بن الربيع في ذي الحجة وكان من الأسرى يوم بدر ثم أسلم وهو زوج زينب بنت رسول الله وهو ابن خالتها هالة بنت خويلد رضي الله عنها أخت خديجة أم المؤمنين وأوصى إلى الزبير وتزوج علي عليه السلام ابنته أمامة بنت زينب بنت رسول الله وفيها اشترى عمر أسلم مولاه بالناس في هذه السنة أبو بكر واستخلف على المدينة عثمان بن عفان كما ذكر ذلك الواقدي.

_ 1- المنتظم: 4/111، تاريخ الطبري: 2/329-341. 2- شجوا: جرحوا. 3- أشجوا: قهروا وغلبوا.

غزو الشام1 سنة 12 - 13هـ - 633- 634م

غزو الشام1 سنة 12 - 13هـ - 633- 634م بعد أن عاد أبو بكر من الحج وجه الجنود إلى الشام تحت قيادة خالد بن سعيد بن العاص، وكان أول لواء عقده إلى الشام، وهو من الذين أسلموا قديما وهاجر إلى الحبشة إلا أن أبا بكر عزله قبل أن يسير وكان سبب عزله أنه تأخر عن بيعة أبي بكر شهرين ولقي علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان فقال يا أبا الحسن: يا بني عبد مناف أغلبتم عليها؟ فقال علي: أمغالبة ترى أم خلافة؟. فأما أبو بكر فلم يحقدها عليه وأما عمر فاضطغنها2 عليه فلما ولاه أبو بكر لم يزل به عمر حتى عزله عن الإمارة وجعله رداء للمسلمين بتيماء3 وأمره أن لا يفارقها إلا بأمره وأن يدعو من حوله من العرب إلا من ارتد وأن لا يقاتل من قاتله فاجتمع إليه جموع كثيرة من الروم وعلى ذلك أمره أبو بكر بالإقدام بحيث لا يؤتى من خلفه فتقدم شمالا نحو البحر الميت فسار إليه بطريق الروم، ويدعى باهان ولما وجد أنه تقدم كثيرا كتب إلى أبي بكر يستمده. وكان قد قدم إلى أبي بكر بالمدينة جيوش المسلمين من اليمن بعد أن هزموا المرتدين وكانوا على استعداد للحرب في جهات أخرى فأرسل أبو بكر عكرمة بن أبي جهل والوليد بن عقبة لإمداد خالد في الشمال. أسرع خالد بن سعيد في أوائل فصل الربيع للغزو ناسيا ما أمره به أبو بكر من عدم الزحف فوقع في شرك4 باهان جهة دمشق وكان قد وصل إلى مرج الصفر5 شرقي بحيرة طبرية فأطبق عليه العدو من الخلف ومنعه من التقهقر وقتل ابنه سعيد في المعركة وفر خالد بفلول جيشه إلى المدينة وبقي عكرمة رداء6 للجيش بدل خالد فرد عنهم باهان وجنوده أن يطلبوه وأقام من الشام على قرب. ثم أمر أبو بكر يزيد بن أبي سفيان على جيش عظيم هو جمهور من انتدب إليه فيهم سهيل بن عمرو في أمثاله من أهل مكة وشيعه ماشيا وأوصاه وغيره من الأمراء. وصية أبي بكر ليزيد بن أبي سفيان7 كان مما قاله أبو بكر ليزيد: إني وليتك لأبلوك وأجربك وأخرجك فإن أحسنت رددتك إلى عملك وزدتك وإن أسأت

_ 1- تاريخ الطبري: 2/331، المنتظم: 4/116. 2- اضطغنها: حقدها 3- تيماء: جنوب شرقي تبوك. 4- شرك: كمين. 5- مرج الصغر: موضوع معروف ناحية فلسطين. 6- رداء: معينا. 7- تاريخ الطبري: 2/332.

عزلتك فعليك بتقوى الله فإنه يرى من باطنك مثل الذي من ظاهرك وإن أولى الناس بالله أشدهم توليا له وأقرب الناس من الله أشدهم تقربا إليه بعمله وقد وليتك عمل خالد فإياك وعبية الجاهلية فإن الله يبغضها ويبغض أهلها وإذا قدمت على جندك فأحسن صحبتهم وابدأهم بالخير وعدهم إياه وإذا وعظتهم فأوجز فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضا وأصلح نفسك يصلح لك الناس وصل الصلوات لأوقاتها بإتمام ركوعها وسجودها والتخشع فيها وإذا قدم عليك رسل عدوك فأكرمهم وأقلل لبثهم حتى يخرجوا من عسكرك وهم جاهلون به ولا ترينهم فيروا خيلك ويعلموا علمك وأنزلهم في ثروة عسكرك وامنع من قبلك من محادثتهم وكن أنت المتولي لكلامهم ولا تجعل سرك لعلانيتك فيختلط أمرك وإذا استشرت فاصدق الحديث تصدق المشورة ولا تخزن عن المشير خبرك فتؤتى من قبل نفسك واسمر بالليل في أصحابك تأتك الأخبار وتنكشف عنك الأستار وأكثر حرسك وبددهم في عسكرك وأكثر مفاجأتهم في محارسهم بغير علم منهم بك فمن وجدته غفل عن حرسه فأحسن أدبه وعاقبه في غير إفراط وأعقب بينهم بالليل واجعل النوبة الأولى أطول من الأخيرة فإنهما أيسرهما لقربهما من النهار ولا تخف من عقوبة المستحق ولا تلجن فيها ولا تسرع إليها ولا تخذلها مدفعا ولا تغفل عن أهل عسكرك فتفسدهم ولا تتجسس عليهم فتفضحهم ولا تكشف الناس عن أسرارهم واكتف بعلانيتهم، ولا تجالس العباثين وجالس أهل الصدق والوفاء وأصدق اللقاء ولا تجبن فيجبن الناس، واجتنب الغلول1 فإنه يقر بالفقر ويدفع النصر وستجدون أقواما حبسوا أنفسهم في الصوامع فدعهم وما حبسوا أنفسهم له. وهذه من أحسن الوصايا وأكثرها نفعا لولاة الأمر فإنه يذكر فيها واجبات القائد نحو جنده ونحو عدوه ومنع تعرض القائد للمتدينين الذين حبسوا أنفسهم في الصوامع احتراما لدينهم. وقد انقسم الجيش إلى ثلاثة أقسام كل قسم مؤلف من 5000 مقاتل وأمر على اثنين منهما شرحبيل بن حسنة الذي كان قد قدم من عند خالد بن الوليد إلى أبي بكر وعلى الثالث عمرو بن العاص وعين لكل جيش وجهته في الشام فوجه عمرا إلى أيلة على رأس خليج العقبة، ومن ثم لغزو جنوب الشام أو فلسطين ووجه يزيد وشرحبيل إلى تبوك ثم غزوا أوساط الشام، وحمل معاوية بن أبي سفيان لواء أخيه يزيد وانضم خالد بن سعيد متطوعا إلى جيش شرحبيل وكان تعيين الأمراء الثلاثة في شهر صفر سنة 13هـ - نيسان إبريل سنة 634 م، ثم لما وصلت الجيوش الأخرى إلى المدينة أرسلهم أبو بكر لإمداد جيوش الشام وأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح، وعلى ذلك كان عدد الجيوش التي أرسلت أربعة وكان أبو عبيدة أميرا عليهم جميعا وبلغ عدد الجيش الزاحف 24000 بما في ذلك جيش عكرمة، وخرج نحو ألف من الصحابة في جيش الشام ومن بينهم 100 ممن شهدوا موقعة بدر بخلاف جيش العراق فإن المهاجرين لم يقاتلوا فيه. سار أبو عبيدة على باب من البلقاء فقاتله أهله ثم صالحوه فكان أول صلح في الشام.

_ 1- الغلول: الخيانة في المغنم.

الظروف الملائمة لفتح الشام

الظروف الملائمة لفتح الشام كان امبراطور الروم يبعث إلى القبائل العربية في جنوبي فلسطين إعانة مالية سنوية غير أنه اضطر بسبب ما أنفقه على الجيش في محاربة الفرس إلى قطع الإعانة عنهم مراعيا في ذلك الاقتصاد في النفقات وعلى ذلك اعتبرت هذه القبائل أنفسها أحرارا غير مقيدين بمحالفتهم الروم فانضموا إلى المسلمين، ثم إن أهل الشام أيضا أرهقتهم زيادة الضرائب فضلا عما كانوا يلاقونه من الاضطهادات الدينية ولذلك لم يحركوا ساكنا وقد كانوا يفضلون حكم العرب لحسن معاملتهم وعدلهم في أحكامهم كل هذه كانت ظروفا ملائمة للمسلمين المهاجمين. استعداد هرقل1 وصل أمراء المسلمين إلى الشام فأخذ عمرو طريق المعرقة ونزل بالعربة وهي واد بين البحر الميت وخليج العقبة ونزل أبو عبيدة الجابية ونزل يزيد البلقاء ونزل شرحبيل الأردن وقيل بصرى. فبلغ الروم ذلك فكتبوا إلى هرقل وكان في القدس فقال: أرى أن تصالحوا المسلمين فوالله لأن تصالحوهم على نصف ما يحصل من الشام ويبقوا لكم نصفه مع بلاد الروم أحب إليكم من أن يغلبوكم على الشام ونصف بلاد الروم فتفرقوا عنه وعصوه فجمعهم وسار بهم إلى حمص فنزلها وأعد الجنود والعساكر وأراد إشغال كل طائفة من المسلمين بطائفة من جنوده لكثرة عسكره لتضعف كل فرقة من المسلمين عمن بإزائها فأرسل إلى عمرو أخاه تذارق لأبيه وأمه فخرج نحوهم في 90. 000 وبعث من يسوقهم حتى نزل صاحب الساقة ثنية جلق بأعلى فلسطين، وبعث جرجة بن توذار نحو يزيد بن أبي سفيان فعسكر بإزائه، وبعث الدراقص فاستقبل شرحبيل بن حسنة، وبعث الفبقار بن نسطوس في 60. 000 نحو أبي عبيدة فهابهم المسلمون وكاتبوا عمرا أن ما الرأي؟ فأجابهم: أن الرأي لمثلنا الاجتماع فإن مثلنا إذا اجتمعنا لا يغلب من قلة فإن تفرقنا لا تقوم كل فرقة بمن استقبلها لكثرة عدونا، وكتبوا إلى أبي بكر فأجابهم مثل جواب عمرو، وقال: إن مثلكم لا يؤتى من قلة إنما يؤتى العشرة آلاف إذا أتوا من تلقاء الذنوب فاحترسوا من الذنوب واجتمعوا باليرموك متساندين وليصل كل رجل منكم بأصحابه. وكان جميع فرق المسلمين 21. 000 سوى عكرمة في 6000، وبلغ ذلك هرقل فكتب إلى بطارقته أن اجتمعوا لهم، واجتمع المسلمون باليرموك كما أمرهم أبو بكر واجتمع الروم هناك أيضا وعليهم التذارق وعلى المقدمة جرجة وعلى مجنبتيه الدراقص وباهان ولم يكن قد وصل بعد إليهم وعلى الحرب الفيقار فنزلوا الواقوصة وهي على ضفة اليرموك وصار الوادي خندقا لهم، وإنما أراد باهان وأصحابه أن تستفيق الروم ويأنسوا بالمسلمين وانتقل المسلمون عن عسكرهم الذي اجتمعوا به فنزلوا عليهم بحذائهم2 على طريقهم وليس للروم طريق إلا عليهم، فقال عمرو: أيها الناس أبشروا

_ 1- تاريخ الطبري: 2/334، المنتظم: 4/117. 2- بحذائهم: بجانبهم

حصرت والله الروم وقل ما جاء محصور بخير1 وأقاموا صفرا وشهري ربيع لا يقدرون منهم على شيء من الوادي والخندق ولا يخرج عليهم الروم إلا ردهم المسلمون، وكان قتال المسلمين لهم على تساند أمير على أصحابه لا يجمعهم أحد حتى قدم خالد بن الوليد من العراق وكان القسيسون والرهبان يحرضون الروم.

_ 1- البداية والنهاية: 7/6.

مسير خالد بن الوليد من العراق إلى الشام

مسير خالد بن الوليد من العراق إلى الشام1 موقعة اليرموك كان اهتمام أبي بكر الصديق بغزو الشام أشد من اهتمامه بالعراق، لذلك عول على استدعاء خالد بن الوليد وأمره بالمسير وأن يأخذ نصف الناس ويستخلف على النصف الآخر المثنى بن حارثة الشيباني ووعده بأنه إذا انتصر في الشام أعاده إلى العراق، ثم بدأ خالد يختار جيشه فاستأثر خالد بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على المثنى وترك للمثنى عددهم من أهل القناعة ممن ليس له صحبة، ثم قسم الجند نصفين فقال المثنى: والله لا أقيم على إنفاذ أمر أبي بكر وبالله ما أرجو النصر إلا بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، خرج معه 9000 وصاحبه المثنى إلى حدود الصحراء ليودعه. سار خالد بجيشه فلما وصل إلى قراقر وهو ماء لكلب أغار على أهلها وأراد أن يسير عنهم مفوزا إلى سوى وهو ماء لبهراء، ثم أتى أراك فصالحوه، ثم أتى تدمر ففتحها صلحا وذلك أنه لما مر بها في طريقه تحصن أهلها منه فأحاط بهم من كل وجه فلم يقدر عليهم، ولما أعجزه الرحيل قال: يا أهل تدمر والله لو كنتم في السحاب لا ستنزلناكم ولأظهرنا الله عليكم ولئن أنتم لم تصالحوا لأرجعن إليكم إذا انصرفت من وجهي هذا ثم لأدخلن مدينتكم حتى أقت مقاتليكم وأسبي ذراريكم. فلما ارتحل عنهم بعثوا إليه وصالحوه على ما أدوه له ورضي به، ثم أتى خالد القريتين فقاتلهم فظفر بهم وغنم وأتى حوارين، فقاتل أهلها وهزمهم وقتل وسبى وأتى قصم - وهي موضع بالبادية قرب الشام من نواحي العراق - فصالحه مشجعة من قضاعة وسار فوصل ثنية العقاب - وهي ثنية مشرفة على غوطة دمشق يطؤها القاصد من دمشق إلى حمص - ناشرا رايته العقاب وهي راية سوداء، ثم سار فأتى مرج راهط فأغار على غسان في يوم فصحهم فقاتل وأرسل سرية إلى كنيسة بالغوطة فقتلوا الرجال وسبوا النساء وساقوا العيال إلى خالد ثن سار حتى وصل بصرى فقاتل من بها فظفر بهم وصالحهم فكانت بصرى أول مدينة فتحت بالشام على يد خالد وأهل العراق وبعث بالأخماس إلى أبي بكر ثم سار فطلع على المسلمين في ربيع الآخر باليرموك فوجدهم يقاتلون الروم متساندين كل أمير على جيش: أبو عبيدة على جيش ويزيد بن أبي سفيان على جيش وشرحبيل ابن حسنة على جيش وعمرو بن العاص على جيش، فقال خالد: إن هذا اليوم من أيام الله لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي فأخلصوا لله جهادكم وتوجهوا لله تعالى بعملكم فإن هذا يوم له ما بعده وإن من وراءكم لو يعلم عملكم حال بينكم وبين هذا، فاعلموا فيما لم تؤمروا به بالذي ترون أنه هو الرأي من واليكم.

_ 1- تاريخ الطبري: 2/445. البداية والنهاية: 7/53.

قالوا فما الرأي؟ قال إن الذي أنتم عليه أشد على المسلمين مما غشيهم، وأنفع للمشركين من أمدادهم، ولقد علمت أن الدنيا فرقت بينكم، والله فهلموا فلنتعاور1 الإمارة، فليكن علينا بعضنا اليوم وبعضنا غدا والآخر بعد غد حتى يتامر كلكم: ودعوني اليوم عليكم، قالوا: نعم، فأمروه فكان الفتح على يد خالد، وجاء البريد يومئذ بموت أبي بكر وخلافة عمر وتأمير أبي عبيدة على الشام كله وعزل خالد، فأخذ الكتاب منه وتركه في كنانته ووكل به من يمنعه أن يخبر الناس بالأمر لئلا يضعفوا إلى أن هزم الله العدو وقتل منهم نحو 100. 000 ثم دخل على أبي عبيدة وسلم عليه بالإمارة. التحام الجيشين وانتصار المسلمين2 كان عدد المسلمين كما يأتي: 21. 000 عدد جيش الأمراء الأربعة. 6. 000 جيش عكرمة بن أبي جهل. 9. 000 جيش خالد بن الوليد. 3. 000 فلول جيش خالد بن سعيد. 39. 000 مجموع جيوش المسلمين وقيل 40. 000. جيش الروم: 80. 000 مقيد. 40. 000 مسلسل للموت. 40. 000 مربوطين بالعمائم لئلا يفروا. 240. 000. ولم يعرف عدد الفرسان في الجيشين. عبأ خالد جيشه وقسمه إلى أربعين كردوسا وجعل على كل كردوس رجلا من الشجعان وجعله على ثلاث فرق قلب وميمنة وميسرة: 1- أبو عبيدة على كراديس القلب. 2- عمرو بن العاص وشرحبيل ابن حسنة على كراديس الميمنة. 3- يزيد بن أبي سفيان على كراديس الميسرة. وجعل على الطلائع قباث بن أشيم وعلى الأقباض عبد الله ببن مسعود، وكان أبو سفيان يسير فيقف على الكراديس فيقول: الله، الله، إنكم ذادة العرب وأنصار الإسلام، وإنهم ذادة الروم وأنصار الشرك اللهم إن هذا

_ 1- فلنتعارو: فلنتعاون. 2- تاريخ الطبري: 2/335، البداية والنهاية: 7/7.

يوم من أيامك، اللهم أنزل نصرك على عبادك. وقال رجل لخالد: ما أكثر الروم وأقل المسلمين. فقال خالد: ما أقل الروم وأكثر المسلمين، إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال، والله لوددت أن الأشقر "فرسه " براء من توجيه وأنهم أضعفوا في العدد وكان فرسه قد حفى في مسيره، ثم أمر خالد عكرمة والقعقاع وكانا على مجنبتي القلب فأنشبا القتال وارتجز القعقاع وقال: يا ليتني ألقاك في الطراد ... قبل اعترام1 الجحفل2 الوراد وأنت في حلبتك الوراد وقال عكرمة: قد علمت بهكنة3 الجواري ... أني على مكرمة أحامي فنشب القتال والتحم الناس وتطارد الفرسان ثم أتى البريد كما ذكرنا. إسلام جرجة4 ثم خرج "جرجة " حتى كان بين الصفين ونادى ليخرج إلي خالد فخرج إليه خالد وأقام أبا عبيدة مكانه فواقفه بين الصفين حتى اختلفت أعناق دابتيهما وقد أمن أحدهما صاحبه فقال جرجة: يا خالد أصدقني ولا تكذبني فإن الحر لا يكذب ولا تخادعني فإن الكريم لا يخادع أنشدك بالله هل أنزل الله على نبيكم سيفا من السماء فأعطاكه فلا تسله على قوم إلا هزمتهم؟ قال: لا. قال: فبم سميت سيف الله؟ قال: إن الله عز وجل بعث فينا نبيه صلى الله عليه وسلم فدعانا فنفرنا عنه ونأينا عنه جميعا ثم إن بعضنا صدقه وتابعه وبعضنا باعده وكذبه فكنت فيمن باعده وكذبه وقاتله ثم إن الله أخذ بقلوبنا ونواصينا وفهدانا به فتبعناه فقال: أنت سيف من سيوف الله سله الله على المشركين ودعا لي بالنصر فسميت سيف الله بذلك فأنا من أشد المسلمين على المشركين5 - صدقني. ثم أعاد عليه جرجة:

_ 1- اعتزام: اشتداد 2- الجحفل: الجيش الكبير. 3- بهكنة الجواري: هي الجارية الخفيفة الروح الطيبة الرائحة المليحة الحلوه. 4- تاريخ الطبري: 2/337، المنتظم: 4/120. 5- البداية والنهاية: 7/13.

- يا خالد، أخبرني إلام تدعوني؟ - إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله والإقرار بما جاء من عند الله. - فمن لم يجبكم؟ - فالجزية ونمنعه. - فإن لم يعطها؟ - نؤذنه بحرب ثم نقاتله. - فما منزلة الذي يدخل فيكم ويجيبكم إلى هذا الأمر اليوم؟ - منزلتنا واحدة فيما افترض الله علينا شريفنا ووضيعنا وأولنا وآخرنا. ثم أعاد عليه جرجة: - هل لمن دخل فيكم اليوم يا خالد مثل ما لكم من الأجر والذخر؟ - نعم وأفضل. - كيف يساويكم وقد سبقتموه؟ - إنا دخلنا في هذا الأمر وبايعنا نبينا صلى الله عليه وسلم وهو حي بين أظهرنا تأتيه أخبار السماء ويخبرنا بالكتب ويرينا الآيات وحق لمن رأى ما رأينا وسمع ما سمعنا أن يسلم ويبايع وإنكم أنتم لم تروا ما رأينا ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج فمن دخل في هذا الأمر منكم بحقيقة ونية كان أفضل منا بالله لقد صدقتني ولم تخادعني ولم تألفني؟ - بالله لقد صدقتك وما بي إليك ولا إلى أحد منكم وحشة وإني لو لي ما سألت عنه. - صدقتني. ثم قلب جرجة الترس ومال مع خالد، وقال: علمني الإسلام فمال به خالد إلى فسطاطه فشن عليه قربة من ماء ثم صلى جرجة ركعتين وحملت الروم مع انقلابه على خالد إذ كانوا يظنون أن جرجة يحمل على المسلمين فأزالوا المسلمين عن مواقفهم فركب خالد معه جرجة والروم خلال المسلمين فتنادى الناس فثابوا وتراجعت الروم على مواقفهم. استمرار القتال1 زحف خالد حتى تصافح الجيشان بالسيوف فضرب فيهم خالد وجرجة من ارتفاع النهار إلى الغروب ثم أصيب جرجة ولم يصل صلاة سجد فيها إلا الركعتين اللتين أسلم عليهما وصلى

_ 1- تاريخ الطبري: 2/337، المنتظم: 4/120.

الناس الأولى والعصر إيماء وتضعضع الروم ونهض خالد بالقلب حتى كان بين خيلهم ورجلهم ففر الفرسان إلى الصحراء وبقي المشاة فاقتحم المسلمون خندقهم فهوى فيها المقترنون بالسلاسل والعمائم وغيرهم وقتلوا وقتل الفيقار وأشراف الروم وكان عدد من تهافت في الخندق 120. 000 منهم 80. 000 مقرن 40. 000 مطلق سوى من قتل في المعركة من الفرسان والمشاة. ولما انهزمت الروم كان هرقل بحمص فنادى بالرحيل عنها قريبا وجعلها بينه وبين المسلمين وأمر عليها أميرا كما أمر على دمشق. قتلى المسلمين أصيب من المسلمين 3000 منهم: عكرمة وابنه عمرو، سلمة بن هشام، وعمرو بن سعيد، أبان بن سعيد وأثبت خالد بن سعيد فلا يدري أين مات بعد، جندب بن عمرو، الطفيل بن عمرو، طليب بن عمير، هشام بن العاص، عياش بن أبي ربيعة، سعيد بن الحارث بن قيس بن عدي السهمي، نعيم بن عبد الله النحام العدوي، النصير بن الحارث بن علقمة، أبو الروم بن عمير بن هاشم العبدري، وأصيبت عين أبي سفيان بن حرب في الموقعة فأخرج السهم من عينه أبو حثمة، وقد قاتل النساء ومنهن جويرية بنت أبي سفيان. وقال خالد يومئذ: الحمد لله الذي قضى على أبي بكر بالموت وكان أحب إلي من عمر والحمد لله الذي ولى عمر وكان أبغض إلي من أبي بكر ثم ألزمني حبه1. وكان عمر ساخطا على خالد في خلافة أبي بكر كلها لوقعته بابن نويرة وما كان يعمل في حربه ولذا كان أول عمله عزل خالد، وقال لا يلي لي عملا أبدا2، ثم إن عمر رضي الله عنه لما رأى انتصارات خالد الباهرة وانقياد المسلمين له في جميع الوقائع واستماتتهم بين يديه خشي أن يفتتن الناس به وربما تحدثه نفسه فيشق عصا المسلمين، وروى أن عمر استدعاه بعد عزله إلى المدينة فعاتبه خالد، فقال له عمر: ما عزلتك لريبة3 فيك ولكن افتتن بك الناس فخفت أن تفتتن بالناس.

_ 1- تاريخ الطبري: 2/339. 2- تاريخ الطبري: 2/356، البداية والنهاية: 7/18. 3- الريب: الشك.

المثنى بالعراق

المثنى بالعراق بعد رحيل خالد بن الوليد، النصف الأول من سنة 13هـ "آذار مارس - آب أغسطس سنة 634م"1 لم يكن خالد بن الوليد مطمئنا على حالة العراق بعد أن نقص عدد الجيش فأرسل المرضى والنساء والأطفال إلى بلادهم. وبذل المثنى ما في وسعه بعد رحيل خالد عنه لتقوية ما بينه وبين الفرس من جهة العاصمة وقد تولى أمر الفرس بعد مسير خالد بقليل شهر براز بن أردشير بن شهريار سابور ففكر في طرد المسلمين فجند جيشا قويا مؤلفا من 10. 000 مقاتل تحت قيادة هرمز جاذويه وخرج المثنى من الحيرة نحوه وكان عدد جيشه أقل كثيرا من جيش الفرس وعلى مجنبتيه المعنى ومسعود أخواه فأقام ببابل وأقبل هرمز نحوه. ولما كان ملك الفرس واثقا من النصر أرسل إلى المثنى كتابا قبيحا قال فيه: إني بعثت إليكم جندا من وحش أهل فارس إنما هم رعاة الدجاج والخنازير ولست أقاتلك إلا بهم. فكتب إليه المثنى: إنما أنت أحد رجلين إما باغ فذلك شر لك وخير لنا وإما كاذب فأعظم الكاذبين فضيحة عند الله وعند الناس الملوك، وأما الذي يدلنا عليه الرأي فإنكم إنما اضطررتم إليهم فالحمد لله الذي رد كيدكم إلى رعاة الدجاج والخنازير.

_ 1- تاريخ الطبري: 2/344، البداية والنهاية: 7/16، المنتظم: 4/124.

موقعة بابل1 صيف سنة 13هـ - سنة 634 م

موقعة بابل1 صيف سنة 13هـ - سنة 634 م وبعد أن أرسل المثنى هذا الرد إلى شهر براز زحف للقاء هرمز ببابل تاركا بالحيرة قوة صغيرة فاقتتلوا قتالا شديدا وكان على جيش الفرس فيل كبير يفرق جموع المسلمين فأحاط به المثنى ومعه ناس وتمكنوا من قتله، فانهزم الفرس وتبعهم جيش المثنى إلى أبواب المدائن عاصمة الفرس يقتلونهم، وفي ذلك يقول عبدة بن الطبيب السعدي وكان عبدة قد هاجر لمهاجرة حليلة له حتى شهد موقعة بابل فلما آيسته رجع إلى البادية فقال من قصيدة له: هل حبل خولة بعد البين موصول ... أم أنت عنها بعيد الدار مشغول للأحبة أيام تذكرها ... وللنوى قبل يوم البين تأويل حلت خويلة في حي عهدتهم ... دون المدائن فيها الديك والفيل يقارعون رؤوس العجم ضاحية ... منهم فوارس لا عزل ولا ميل وقال الفرزدق يعدد بيوتات بكر بن وائل وذكر المثنى وقتله الفيل: وبيت المثنى قاتل الفيل عنوة ... ببابل إذ في فارس ملك بابل المثنى يطلب النجدة من أبي بكر2 لما انهزم هرمز جاذويه قتل الجند ملكهم شهر براز واختلفت أهل فارس وبقي ما دون دجلة بيد المثنى فاضطر أن يحمي حدودا شاسعة لم تكن جنوده تكفي لحمايتها ثم اجتمعت الفرس على ابنة كسرى واسمها: دخت زنان لكنها ما لبثت أن خلعت وتولى الملك سابور بن شهر براز إلا أنه قتل وملكت آزرمي دخت وهذا الخلاف والغدر أديا إلى إضعاف السلطة الحاكمة في فارس ولم يكن هناك ما يخشاه المثنى كثيرا ولكنه على كل حال كان في حاجة إلى حماية الحدود كما قلنا، فكتب إلى أبي بكر يستمده ويستأذنه في الاستعانة بمن حسنت توبته من المرتدين لأنهم أنشط في القتال من غيرهم، فلما أبطأ خبر أبي بكر على المثنى استخلف على المسلمين بشير بن الخصاصية وسار إلى المدينة إلى أبي بكر فلما قدم المدينة وجد أبا بكر مريضا فاستدعى أبو بكر عمر وقال له: إني لأرجو أن أموت يومي هذا - وذلك يوم الاثنين - وإذا مت فلا تمسين حتى تندب الناس مع

_ 1- البداية والنهاية: 7/17. 2- الثقات: 3/14، تهذيب التهذيب: 7/82، تقريب التهذيب: 1/380، تهذيب الكمال: 19/283، الإكمال للحسنين: 1/91، الاستيعاب: 1/132، الإصابة: 1/44، الطبقات الكبرى: 3/275،

المثنى وإن تأخرت إلى الليل فلا تصبحن حتى تندب الناس مع المثنى ولا يشغلنكم مصيبة وإن عظمت عن أمر دينكم ووصية ربكم وقد رأيتني متوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما صنعت وما أصيب الخلق بمثله، وبالله لو أني أني عن أمر الله وأمر رسوله لخذلنا ولعقبنا فاضطرمت المدينة نارا وإذا فتح الله على أمراء الشام فاردد أصحاب خالد إلى العراق فإنهم أهله وولاة أمره وحده وأهل الدراوة بهم والجراءة عليهم. وقال عمر متأثرا برقة كلام أبي بكر وهو على فراش الموت: قد علم أبو بكر أنه يسوءني أن أؤمر خالدا فلهذا أمرني أن أرد أصحاب خالد وترك ذكره معهم. ومات أبو بكر ليلا فدفنه عمر ودعا الناس مع المثنى1.

_ 1- تاريخ الطبري: 2/345.

وفاة أبي بكر الصديق ضي الله عنه 22 جمادى الآخرة سنة 13هـ "23 آب أغسطس سنة 634م"

وفاة أبي بكر الصديق ضي الله عنه 22 جمادى الآخرة سنة 13هـ "23 آب أغسطس سنة 634م" ... وفاة أبي بكر الصديق1 رضي الله عنه 22 جمادى الآخرة سنة 13هـ "23 آب أغسطس سنة 634م" توفي أبو بكر رضي الله عنه لثمان بقين من جمادى الآخرة ليلة الثلاثاء بين المغرب والعشاء وهو ابن ثلاث وستين سنة وكان قد سمه اليهود في أرز وقيل في حريرة وهي الحساء فأكل هو والحارث بن كلدة وقال لأبي بكر: أكلنا طعاما مسموما سم سنة فماتا بعده بسنة وقيل: إنه اغتسل وكان يوما باردا فحم خمسة عشر يوما لا يخرج إلى الصلاة فأمر عمر أن يصلي بالناس. ولما مرض قال له الناس: ألا ندعو الطبيب؟ فقال: أتاني وقال لي: أنا فاعل ما أريد فعلموا مراده وسكتوا عنه ثم مات. وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليال وأوصى أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس وابنه عبد الرحمن وأن يكفن في ثوبيه ويشتري معهما ثوب ثالث، وقال: الحي أحوج إلى الجديد من الميت إنما هو للمهلة والصديد، غسلت أبا بكر زوجته أسماء ثم خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين فقالت إني صائمة وهذا يوم شديد البرد فهل علي غسل؟ قالوا: لا، وقد روي أنه اغتسل في يوم بارد فحم فمن ذلك يتبين: أن الجو كان باردا في هذه الأيام فإنه حم بسبب استحمامه في يوم بارد، كذلك غسل في يوم بارد لذلك نرجح أن سبب وفاته: كان تأثره بالبرد لا بسبب السم الذي قيل إن اليهود دسوه له في الحساء لأن حادثة السم المزعومة كانت قبل وفاته بسنة، ودفن ليلة وفاته وصلى عليه عمر بن الخطاب وكبر عليه أربعا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بين القبر والمنبر ودخل قبره ابنه عبد الرحمن وعمر وعثمان وطلحة وجعل رأسه عند كتفي النبي صلى الله عليه وسلم وألصقوا لحده بلحد النبي صلى الله عليه وسلم وجعل قبره مثل قبره مسطحا وناحت عليه عائشة والنساء فنهاهن عن البكاء عمر فأبين فقال لهشام بن الوليد: ادخل فأخرج علي ابنة أبي قحافة، فأخرج إليه أم فروة بنت أبي قحافة أخت أبي بكر فعلاها بالدرة2 ضربات فتفرق النوح حين سمعن ذلك، وكان آخر ما تكلم به: توفني مسلما وألحقني بالصالحين وكانت عائشة رضي الله عنها تمرضه. أبو بكر يستشير أصحابه في عمر3 عقد أبو بكر في مرضه الذي توفي فيه لعمر بن الخطاب عقد الخلافة من بعده ولما أراد العقد له دعا عبد الرحمن بن عوف، فقال: أخبرني عن عمر، فقال يا خليفة رسول الله: هو والله أفضل من رأيك فيه من رجل ولكن فيه غلظة، فقال أبو بكر: ذلك لأنه يراني رقيقا ولو أفضى الأمر إليه لترك

_ 1- تاريخ الطبري: 2/344، المنتظم: 4/124. 2- الدرة: السوط يضرب به السلطان. 3- تاريخ الطبري: 2/355، الرياض النضرة: 2/242، تاريخ الخلفاء: ص82، الطبقات الكبرى: 3/199، المنتظم: 4/125.

كثيرا مما هو عليه، ويا أبا محمد قد رمقته فرأيتني إذا غضبت على الرجل في الشيء أراني الرضا عنه وإذا لنت أراني الشدة عليه لا تذكر يا أبا محمد مما قلت لك شيئا، قال: نعم. ثم دعا عثمان بن عفان فقال: يا أبا عبد الله أخبرني عن عمر، قال: أنت أخبر به، فقال أبو بكر: علي ذلك يا أبا عبد الرحمن، قال: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته وأن ليس فينا مثله. قال أبو بكر: يا أبا عبد الله لا تذكر مما ذكرت لك شيئا، قال: أفعل، فقال أبو بكر: لو تركته ما عدوتك وما أدري لعله تاركه والخيرة له أن لا يلي من أموركم شيئا ولوددت أني كنت خلوا من أموركم وأني كنت فيمن مضى من سلفكم، يا أبا عبد الله لا تذكر مما قلت لك من أمر عمر ولا مما دعوتك له شيئا. ودخل على أبي بكر طلحة بن عبيد الله، فقال: استخلفت على الناس عمر وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه فكيف به إذا خلا بهم وأنت لاق ربك فسائلك عن رعيتك؟ فقال أبو بكر: وكان مضطجعا أجلسوني، فأجلسوه، فقال طلحة: أبالله تفرقني أو بالله تخوفني إذا لقيت الله ربي فساءلني قلت: استخلفت على أهلك خير أهلك؟ وأشرف أبو بكر على الناس من حظيرته وأسماء بنت عميس ممسكته موشومة اليدين وهو يقول: أترضون بمن أستخلف عليكم فإني والله ما ألوت1 من جهد الرأي ولا وليت ذا قرابة وإني قد استخلفت عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا فقالوا: سمعنا وأطعنا. قال الواقدي: دعا أبو بكر عثمان خاليا، فقال له أكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين، أما بعد ثم أغمي عليه فذهب عنه، فكتب عثمان: أما بعد فإني أستخلف عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيرا ثم أفاق أبو بكر فقال: اقرأ علي فقرأ عليه فكبر أبو بكر وقال: أراك خفت أن يختلف الناس إن مت في غشيتي2 قال: نعم، قال: جزاك الله خيرا عن الإسلام وأهله وأقرها أبو بكر رضي الله عنه من هذا الموضع3، فأبو بكر كان يرى ويعتقد أن عمر بن الخطاب خير من يتولى الخلافة بعده مع شدته، والحقيقة أنه كان كذلك.

_ 1- ألوت: قصرت. 2- غشيتي: أي: إغمائي. 3- تاريخ الطبري: 2/353، المنتظم: 4/126.

وصية أبي بكر لعمر بن الخطاب

وصية أبي بكر لعمر بن الخطاب 1 ثم أحضر أبو بكر عمر فقال له: إني قد استخلفتك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوصاه بتقوى الله ثم قال: يا عمر إن لله حقا بالليل ولا يقبله بالنهار وحقا بالنهار ولا يقبله بالليل وأنه لا يقبل نافلة حتى تؤدي الفريضة، ألم تر يا عمر أنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق وثقله عليهم وحق لميزان لا يوضع فيه غدا إلا حق أن يكون ثقيلا، ألم تر يا عمر إنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل وخفته عليهم. وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفا، ألم تر يا عمر إنما نزلت آية الرخاء مع الشدة وآية الشدة مع آية الرخاء، ليكون المؤمن راغبا راهبا لا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له ولا يرهب رهبة يلقى فيها بيديه، ألم تر يا عمر إنما ذكر الله أهل النار بأسوأ أعمالهم، فإذا ذكرتهم قلت: إني لأرجو ألا أكون منهم وإنه إنما ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم لأنه تجاوز لهم عما كان من سيئ فإذا ذكرتهم قلت: أين عملي من أعمالهم فإذا حفظت وصيتي فلا يكونن غائب أحب إليك من حاضر من الموت ولست بمعجزة2. خطبة علي في تأبين أبي بكر3 لما سمع علي رضي الله عنه خبر وفاة أبي بكر جاء باكيا مسرعا مسترجعا حتى وقف بالباب وهو يقول: رحمك الله يا أبا بكر كنت والله أول القوم إسلاما وأخلقهم إيمانا وأشدهم يقينا وأعظمهم غنى وأحفظهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحدبهم4 على الإسلام وأحماهم عن أهله وأنسبهم برسول الله خلقا وفضلا وهديا وصمتا فجزاك الله عن الإسلام وعن رسول الله وعن المسلمين خيرا صدقت رسول الله حين كذبه الناس وواسيته حين بخلوا وقمت معه حين قعدوا وسماك الله في كتابه صديقا، فقال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} يريد محمدا ويريدك، كنت والله للإسلام حصنا وللكافرين ناكبا لم تضلل حجتك ولم تضعف بصيرتك ولم تجبن نفسك كالجبل لا تحركه العواصف ولا تزيله القواصف كنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفا في بدنك قويا في دينك متواضعا في نفسك عظيما عند الله جليلا في الأرض كبيرا عند المؤمنين لم يكن لأحد عندك مطمع ولا هوى فالضعيف عندك قوي والقوي عندك ضعيف حتى تأخذ الحق من القوي وتعطيه للضعيف فلا حرمنا الله أجرك ولا أضلنا بعدك.

_ 1- الرياض النضرة: 2/244-245. 2- الثقات: 2/193. 3- الرياض النضرة: 2/249. 4- أحدبهم: أعطفهم وأشفقهم.

خطبة ابنته عائشة في تأبينه

خطبة ابنته عائشة في تأبينه12 نضر الله يا أبت وجهك وشكر لك صالح سعيك فلقد كنت للدنيا مذلا بإدبارك عنها وللآخرة معزا بإقبالك عليها ولئن كان أعظم المصائب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رزؤك3 وأكبر الأحداث بعده فقدك إن كتاب الله عز وجل ليعدنا بالصبر عنك حسن العوض وأنا منتجزة من الله موعده فيك بالصبر عنك ومستعينة كثرة الاستغفار لك فسلم الله عليك توديع غير قالية4 لحياتك ولا زارية5 على القضاء فيك. اعتراف أبي بكر6 قال أبو بكر: إني لا آسي على شيء من الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن وددت لو أني تركتهن، وثلاث تركتهن وددت لو أني فعلتهن وثلاث وددت أني سألت عنهن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأما الثلاث اللاتي وددت أني تركتهن فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شيء وإن كانوا قد غلقوه على الحرب ووددت أني لم أكن حرقت الفجاءة السلمى وأني كنت قتلته سريحا أو خليته نجيحا، ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قد قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين - يريد عمر وأبا عبيدة - فكان أحدهما أميرا وكنت وزيرا. أما اللاتي تركتهن فوددت أني يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيرا كنت ضربت عنقه؛ فإنه تخيل إلي أنه لا يرى شرا إلا أعان عليه، ووددت أني حين سيرت خالد بن الوليد إلى أهل الردة كنت أقمت بذي القصة فإن ظفر المسلمون ظفروا وإن هزموا كنت بصدد لقاء أو مدد أو وددت أني كنت إذ وجهت خالد بن الوليد إلى الشام كنت وجهت عمر بن الخطاب إلى العراق فكنت بسطت يدي كلتيهما في سبيل الله ومد يديه. ووددت أني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن هذا الأمر فلا ينازعه أحد ووددت أني كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر نصيب ووددت أني كنت سألته عن ميراث ابنة الأخ والعمة فإن في نفسي منهما شيئا. عمل أبي بكر ومنزله مدة خلافته7 كان أبو بكر قبل أن يشتغل بأمور المسلمين تاجرا وكان منزله بالسنح8 عند زوجته حبيبة ثم تحول إلى المدينة بعدما بويع له بستة أشهر وكان يغدو على رجليه إلى المدينة وربما ركب على فرس

_ 1- التأبين: الثناء على الرجل بعد موته. 2- الرياض النضرة: 2/253. 3- رزؤك: مصيبتك. 4- قالية: كارهة. 5- زارية: عاتبة، معيبة. 6- تاريخ الطبري: 2/353. 7- تاريخ الطبري: 2/354، الطبقات الكبرى: 3/186، المنتظم: 4/72. 8- السنح: من ضواحي المدينة.

وعليه إزار ورداء ممشق فيوافي المدينة فيصلي الصلوات بالناس فإذا صلى العشاء رجع إلى أهله بالسنح فكان إذا حضر صلى بالناس وإذا لم يحضر صلى بهم عمر بن الخطاب فكان يقيم يوم الجمعة صدر النهار بالسنح يصبغ رأسه ولحيته ثم يروح لقدر يوم الجمعة فيجمع الناس وكان رجلا تاجرا فكان يغدو كل يوم إلى السوق فيبيع ويبتاع وكانت له قطعة غنم تروح عليه وربما خرج هو بنفسه فيها وربما كفيها فرعيت له وكان يحلب للحي أغنامهم فلما بويع له بالخلافة قالت جارية من الحي الآن لا تحلب لنا منائح1 دارنا فسمعها أبو بكر فقال: بلى لعمري لأحلبنها لكم وإني لأرجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه من خلق كنت عليه فكان يحلب لهم. ثم نظر أبو بكر في أمره فقال: لا والله ما تصلح أمر الناس التجارة وما يصلحهم إلا التفرغ لهم والنظر في شأنهم ولا بد لعيالي مما يصلحهم فترك التجارة وأنفق من مال المسلمين ما يصلحه ويصلح عياله يوما بيوم ويحج ويعتمر وكان الذي فرضوا له في كل سنة 6000 درهم فلما حضرته الوفاة قال: ردوا ما عندنا من مال المسلمين فإني لا أصيب من هذا المال شيئا وإن أرضي التي بمكان كذا وكذا للمسلمين بما أصبت من أموالهم فدفع ذلك إلى عمر ودفع إليه بعيرا وعبدا وقطيفة ما تساوي خمسة دراهم، فقال عمر: لقد أتعب من بعده. وحسبوا ما أنفقه على أهله من بيت المال فوجدوه 8000 درهم في ولايته وكان يوزع الصدقات على الفقراء وعلى تجهيز الجيوش، كذلك كان يوزع غنائم الحرب على الناس حال وصولها أو في صباح اليوم التالي ولم يكن له حرس يحرسونه وكان يستشير عمر بن الخطاب. بيت مال المسلمين2 كان لأبي بكر الصديق بيت مال بالسنح معروف ليس يحرسه أحد فقيل له: يا خليفة رسول الله ألا تجعل على بيت المال من يحرسه؟ فقال: لا يخاف عليه، فقيل له: لم؟ قال: عليه قفل، وكان يعطي ما فيه حتى لا يبقى فيه شيء، فلما تحول أبو بكر إلى المدينة حوله فجعل بيت ماله في الدار التي كان فيها وكان يسوي بين الناس في القسم: الحر والعبد والذكر والأنثى والصغير والكبير فيه سواء. ولما توفي ودفن دعا عمر بن الخطاب الأمناء ودخل بهم بيت المال ومعه عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وغيرهما ففتحوا بيت المال فلم يجدوا فيه دينارا ولا درهما فترحموا على أبي بكر، وكان بالمدينة وزان على عهد رسول الله وكان يزن ما كان عند أبي بكر من مال فسئل الوزان: كم بلغ ذلك المال الذي ورد على أبي بكر؟ فقال: مائتي ألف.

_ 1- المنائح: وهي منحة اللبن كالناقة أو الشاة تعطيها غيرك يحتلبها ثم يردها عليك. 2- تاريخ الخلفاء: 1/79، الطبقات الكبرى: 3/213.

حج أبي بكر

حج أبي بكر1 استعمل أبو بكر على الحج سنة 11هـ عمر بن الخطاب ثم اعتمر أبو بكر في رجب سنة 12هـ ثم رجع إلى المدينة، فلما كان وقت الحج سنة 12هـ حج أبو بكر بالناس تلك السنة وأفرد الحج واستخلف على المدينة عثمان بن عفان. جمع القرآن2 كان أبو بكر الصديق أعلم الصحابة بالقرآن لأن رسول الله قدمه إماما للصلاة بالصحابة مع قوله: " يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله " 3 وقال: " لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره 4". ولما رأى كثرة من قتل من كبارالصحابة باليمامة أمر بجمع القرآن من أفواه الرجال وجريد النخل والجلود وترك ذلك المكتوب عند حفصة بنت عمر رضي الله عنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم. جاء في صحيح البخاري5 عن زيد بن ثابت قال: أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر، فقال: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس وإني لأخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن إلا أن يجمعوه وإني لأرى أن يجمع القرآن، قال أبو بكر: فقلت لعمر كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: هو والله خير، فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري فرأيت الذي رأى عمر، قال زيد: وعمر عنده جالس لا يتكلم، فقال أبو بكر: إنك شاب عاقل ولا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فأجمعه، فوالله لو كلفني نقل جبل ما كان أثقل علي مما كلفني به من جمع القرآن، فقلت: كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو بكر: هو والله خير، فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح صدر أبي بكر وعمر، فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة بن ثابت لم أجدهما مع غيره {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} إلى آخرها، فكانت الصحف التي فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حتى توفاه الله ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنها.

_ 1- تاريخ الخلفاء: 1/80، الطبقات الكبرى: 3/177. 2- الرياض النضرة: 2/174، تاريخ الخلفاء: 1/41، الكامل: 3/8، سير أعلام النبلاء: 2/431، البداية والنهاية: 6/353، المنتظم: 5/216. 3- أخرجه ابن حبان في كتاب"الصحيح" " الحديث: 2133"، وأخرجه ابن خزيمة في كتاب" الصحيح" " الحديث: 1507". 4- أخرجه الترمذي في كتاب" السنن" " الحديث: 3673. 5- الحديث: 4402.

قضاته وكتابه وعمال

قضاته وكتابه وعماله1 لما ولي أبو بكر قال أبو عبيدة: أنا أكفيك بيت المال، وقال له عمر: أنا أكفيك القضاء فمكث عمر سنة لا يأتيه رجلان. وكان يكتب له علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وعثمان بن عفان فإن غابوا كان يكتب له من حضر. وكان عامله على مكة: "عتاب بن أسيد"2 وقد أسلم عتاب يوم الفتح واستعمله رسول الله على مكة حين انصرف عنه بعد الفتح وسنه يومئذ عشرون سنة، قيل: إنه توفي في اليوم الذي توفي فيه أبو بكر، وكان رجلا صالحا فاضلا. وكان على الطائف: "عثمان بن أبي العاص "3 استعمله رسول الله على الطائف وأقره أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، روى له عن رسول الله تسعة أحاديث، روى مسلم ثلاثة منها واستعمله عمر على عمان والبحرين ثم نزل البصرة، توفي في خلافة معاوية وله عقب كثير أشراف. وكان على صنعاء: "المهاجر بن أمية "4 وهو أخو أم سلمة أم المؤمنين، وله في قتال المرتدين باليمن آثار كثيرة مر ذكرها. وكان على حضرموت: "زياد بن لبيد الأنصاري "5 أقام مع رسول الله بمكة حتى هاجر فكان يقال له: مهاجري أنصاري، شهد العقبة وبدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله واستعمله رسول الله على حضرموت. وعلى خولان: "يعلى بن أمية "6 ويقال له يعلى بن منية وهي أمه أسلم يوم فتح مكة وشهد حنينا والطائف وتبوك مع رسول الله روى له عن رسول الله 28 حديثا، اتفق البخاري ومسلم على ثلاث منها وقتل بصفين سنة 37 هـ. وعلى زبيد ورمع: "أبو موسى الأشعري "7: قدم على رسول الله بمكة قبل هجرته إلى المدينة فأسلم ثم هاجر إلى الحبشة ثم هاجر إلى رسول الله مع أصحاب السفينتين بعد فتح خيبر فأسهم له منها ولم يسهم منها لأحد غاب عن فتحها غيره. وكان حسن الصوت استعمله رسول الله على زبيد وعدن وساحل اليمن، روي له عن رسول الله 360 حديثا، اتفق البخاري ومسلم منها على 50 وانفرد البخاري بخمسة عشر، توفي بمكة وقيل: بالكوفة سنة 50هـ وهو ابن 63 سنة. وعلى الجند: "معاذ بن جبل "8 كان معاذا فقيها فاضلا صالحا، أسلم وهو ابن ثماني عشرة

_ 1- تاريخ الطبرى: 2/351- 352. 2- معجم الصحابة: 2/270. 3- معجم الصحابة: 2/256. 4- الإصابة: 6/228. 5- الاستيعاب: 2/533. 6- معجم الصحابة: 3/219. 7- الاستيعاب: 4/1762. 8- معجم الصحابة: 2/234.

سنة مع السبعين من الأنصار ثم شهد بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله روي له عن رسول الله 157حديثا اتفق البخاري ومسلم على حديثين منها وانفرد البخاري بثلاثة ومسلم بحديث، توفي في عمواس بالشام سنة 18هـ وهو ابن 33 سنة وهو من الأربعة الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله أرسله رسول الله إلى اليمن يدعوه إلى الإسلام وشرائعه، وهو أحد الذين كانوا يفتون على عهد رسول الله. وعلى البحرين: "العلاء بن الحضرمي "1 ولاه النبي صلى الله عليه وسلم البحرين وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو عليها فأقره أبو بكر ثم عمر، توفي سنة 14 واليا عليها وكان مجاب الدعوة وخاض البحر بكلمات قالهن، وكان له أثر عظيم في قتال أهل الردة في البحرين كما تقدم. وبعث "جرير بن عبد الله "2 إلى نجران، روي له عن رسول الله 100 حديث اتفق البخاري ومسلم منها على ثمانية وانفرد البخاري بحديث ومسلم بستة، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر من الهجرة في شهر رمضان فبايعه وأسلم. وكان عمر بن الخطاب يقول: جرير يوسف هذه الأمة لحسنه وكان طويلا يصل إلى سنام البعير يخضب لحيته بزعفران بالليل ويغسلها إذا أصبح واعتزل عليا ومعاوية وأقام بالجزيرة ونواحيها حتى توفي سنة 54هـ. وبعث "عبد الله بن ثوب " إلى جرش وهو عبد الله بن ثوب أبو مسلم الخولاني من كبار التابعين وكان فاضلا ناسكا له فضائل كثيرة أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. بعث الأسود بن قيس بن ذي الخمار الذي تنبأ باليمن إلى أبي مسلم فلما جاءه قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: ما أسمع، قال: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، فرد ذلك عليه وفي كل مرة يقول مثل قوله الأول فأمر به فألقي في نار عظيمة فلم تضره فقيل له: أنفيه عنك وإلا أفسد عليك من اتبعك، قال: فأمره بالرحيل فأتى المدينة وقد قبض النبي صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر فأناخ أبو مسلم راحلته بباب المسجد ودخل المسجد فقام يصلي إلى سارية وبصر به عمر بن الخطاب فقام إليه، فقال: ممن الرجل؟ قال: من أهل اليمن. قال: ما فعل الرجل الذي أحرقه الكذاب بالنار؟ قال: ذاك عبد الله بن ثوب، قال: أنشدك الله أنت هو؟ قال: اللهم نعم، فاعتنقه عمر وبكى ثم ذهب به حتى أجلسه فيما بينه وبين أبي بكر وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني من أمة محمد من فعل به ما فعل بإبراهيم خليل الله صلى الله عليه وسلم أسد الغابة. وبعث "عياض بن غنم "3 إلى دومة الجندل، أسلم عياض قبل الحديبية وشهدها وكان صالحا فاضلا جوادا، وكان يسمى: زاد الركاب يطعم الناس زاده فإذا نفد الزاد نحر لهم بعيره، توفي بالشام سنة 20هـ وهو ابن 60 سنة.

_ 1- الاستيعاب: 3/1066. 2- الاستيعاب: 3/1234. 3- الإصابة: 1/475.

وكان بالشام "أبو عبيدة بن الجراح1 وشرحبيل بن حسنة "2 أسلم شرحبيل قديما وأخواه لأمه جنادة وجابر، هاجروا إلى الحبشة ثم إلى المدينة، توفي في طاعون عمواس سنة 18هـ وله 67 سنة، أصيب هو وأبو عبيدة رضي الله عنهما في يوم واحد. وكان بالشام أيضا عمرو بن العاص ويزيد بن أبي سفيان، وكان يقال ليزيد يزيد الخير، أسلم يوم الفتح وشهد حنينا وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم 100 بعير وأربعين أوقية يومئذ، فلما استخلف عمر ولاه فلسطين وناحيتها، مات في طاعون عمواس سنة 18هـ. وكان على العراق المثنى بن حارثة الشيباني. خاتم أبي بكر3 كان نقش خاتمه: نعم القادر الله.

_ 1- الإصابة: 7/269. 2- معجم: الصحابة: 1/329. 3- تاريخ الخلفاء: ص107، تاريخ الطبري: 2/352، الطبقات الكبرى: 3/211، المنتظم: 4/55.

حكم أبي بكر وكلماته

حكم أبي بكر وكلماته 1- احرص على الموت توهب لك الحياة. 2- إذا استشرت فاصدق الحديث تصدق المشورة ولا تحزن عن المشير خبرك فتؤتى من قبل نفسك. 3- إذا فاتك خير فأدركه وإن أدركك فاسبقه. 4- أربع من كن فيه كان من خيار عباد الله: من فرح بالتائب واستغفر للمذنب ودعا المدبر، وأعان المحسن. 5- أصلح نفسك يصلح لك الناس. 6- أكيس الكيس التقوى وأحمق الحمق الفجور وأصدق الصدق الأمانة وأكذب الكذب الخيانة. 7- إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه وإن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق. 8- إن الله قرن وعده بوعيده ليكون العبد راغبا راهبا. 9- إن الله يرى من باطنك ما يرى من ظاهرك. 10- إن العبد إذا دخله العجب بشيء من زينة الدنيا مقته الله تعالى حتى يفارق تلك الزينة. 11- إن عليك من الله عيونا تراك. 12- إن كثير الكلام ينسى بعضه بعضا. 13- إن كل من لم يهده الله ضال، وكل من لم يعافه الله مبتلي، وكل من لم يعنه الله مخذول، فمن هدى الله كان مهتديا، ومن أضله الله كان ضالا. 14- ثلاث من كن فيه كن عليه: البغي والنكث والمكر. 15- حق لميزان يوضع فيه الحق أن يكون ثقيلا وحث لميزان يوضع فيه الباطل أن يكون خفيفا. 16- خير الخصلتين لك أبغضهما إليك. 17- ذل قوم أسندوا رأيهم إلى امرأة. 18- رحم الله أمرأ أعان أخاه بنفسه. 19- صنائع المعروف تقي مصارع السوء. 20- لا خير في خير بعده نار ولا شر في شر بعده الجنة.

21- لا دين لأحد لا إيمان له ولا أجر لمن لا حسبة له ولا عمل لمن نية له. 22- لا يكونن قولك لغوا في عفو ولا عقوبة. 23- ليتني كنت شجرة تعضد ثم تؤكل. 24- ليست مع العزاء مصيبة. 25- الموت أهون مما بعده وأشد مما قبله. وكان يأخذ بطرف لسانه ويقول: 26- هذا الذي أوردني الموارد. 27- قال رجل لأبي بكر رضي الله عنه: والله لأسبنك سبا يدخل القبر معك فقال: معك يدخل لا معي. هذه بعض كلمات أبي بكر الصديق التي عثرنا عليها، ومع ذلك فإنه كان قليل الكلام طويل الصمت كثير العبادة، كذلك لم يرو عنه من الأحاديث إلا 42 حديثا مع تقدم صحبته وملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندي أن ذلك لإيثاره الصمت وشدة الاحتياط فإنه كان يمسك لسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد فهل يعتبر بذلك الذين يؤثرون الكلام على الصمت والقول على العمل؟ ؟.

خاتمة في حياة خالد بن الوليد

خاتمة في حياة خالد بن الوليد1 "سيف الله" خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم أبو سليمان وقيل: أبو الوليد، أمه: لبابة الصغرى وهي بنت الحارث بن حزن الهلالية وهي أخت ميمونة بنت الحارث زوج رسول الله وأخت لبابة الكبرى زوج العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن خالة أولاد العباس بن عبد المطلب الذين من لبابة. هو البطل المشهور والفارس المأثور، صاحب الفتوحات العظيمة والغزوات الكثيرة وأشهر الفاتحين في الإسلام. كان أحد أشراف قريش في الجاهلية وكان إليه القبة وأعنة الخيل في الجاهلية، أما القبة فكانوا يضربونها يجمعون فيها ما يجهزون به الجيش وأما الأعنة فإنه كان المقدم على خيل قريش في الحرب أي أنه كان قائد فرسانهم. حارب المسلمين في غزوة أحد قبل إسلامه، ولما خالف الرماة أمر رسول الله وبرحوا مكانهم طمعا في الغنيمة ورأى خالد خلاء الجبل الذي كان فيه الرماة وقلة أهله أتى من خلف المسلمين وكر عليهم بالخيل وتبعه عكرمة بن أبي جهل فوقع الاختلاط فيهم إلا أن كفار قريش لم يجنوا ثمار انتصارهم فلم يحاولوا الهجوم على المدينة بل قفلوا راجعين إلى مكة. وكان خالد من الذين يناوشون2 المسلمين هو وعمرو بن العاص غي غزوة الخندق وكان قائدا لفرسان قريش في الحديبية. إسلامه3 كان خبر إسلام خالد أن عمرو بن العاص لما عاد من الحبشة بعد مقابلة النجاشي لقي خالد بن الوليد وهو مقبل من مكة، قال عمرو بن العاص: فقلت له أين يا أبا سليمان؟ قال والله لقد استقام الميسم - أي تبين الطريق وظهر الأمر - وأن الرجل لنبي، أذهب والله فأسلم فحتى متى؟ قلت: والله ما جئت إلا لأسلم فقدمنا المدينة على رسول الله فتقدم خالد بن الوليد. قدم خالد هو وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة العبدري على رسول الله فلما رآهم صلى الله عليه وسلم قال

_ 1- شذرات الذهب: 1/32، سير أعلام النبلاء: 1/209، تاريخ الطبري: 2/151، البداية والنهاية: 1/169، الطبقات الكبرى: 7/395، المنتظم: 4/314. 2- يناوشون: يقاتلون. 3- سير أعلام النبلاء: 3/60، البداية والنهاية: 4/142، المنتظم: 4/313.

لأصحابه: "رمتكم مكة بأفلاذ كبدها" 1 وذلك لرفعة شأنهم في قريش. قال خالد بن الوليد: لما أراد الله عز وجل بي ما أراد من الخير قذف في قلبي الإسلام وحضر لي رشدي وقلت قد شهدت هذه المواطن كلها على محمد فليس موطن أشهده إلا أنصرف وأنا أرى في نفسي أني موضع في غير شيء وأن محمدا يظهر. فلما جاء لعمرة القضية تغيبت ولم أشهد دخوله وكان أخي الوليد بن الوليد دخل معه فطلبني فلم يجدني فكتب إلي كتابا فإذا فيه: 2 بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام وعقلك عقلك أو مثل الإسلام يجهله أحد؟ قد سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عنك، فقال أين خالد؟ فقلت يأتي الله به، فقال: ما مثله يجهل الإسلام ولو كان يجعل نكايته مع المسلمين على المشركين كان خيرا له ولقدمناه على غيره، فاستدرك يا أخي قد فاتك من مواطن صالحة. فلما جاءني كتابه نشطت للخروج وزادني رغبة في الإسلام وسرتني مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيت في المنام كأني في بلاد ضيقة جدبة فخرجت إلى بلاد خضراء واسعة، فلما أجمعت على الخروج إلى المدينة لقيت صفوان بن أمية فقلت: يا أبا وهب أما ترى أن محمدا ظهر على العرب والعجم؟ فلو قدمنا عليه واتبعناه فإن شرفه شرف لنا؟ فقال: لو لم يبق غيري ما اتبعته أبدا، فقلت هذا رجل قتل أخوه وأبوه ببدر، فلقيت عكرمة بن أبي جهل فقلت له: مثل ما قلت لصفوان فقال مثل الذي قال صفوان، قلت: فاكتم ذكر ما قلت لك، قال لا أذكره، ثم لقيت عثمان بن طلحة الحجبي، قلت: هذا لي صديق فأردت أن أذكر له، ثم ذكرت قتل أبيه طلحة وعمه عثمان وإخوته الأربعة: مسافع والجلاس والحارث وكلاب فإنهم قتلوا كلهم يوم أحد فكرهت أن أذكر له، ثم قلت له: إنما نحن بمنزلة ثعلب في حجر لو صب فيه ذنوب من الماء لخرج، ثم قلت له: ما قلت لصفوان وعكرمة فأسرع الإجابة وواعدني إن سبقني أقام بمحل كذا وإن سبقته إليه انتظرته فلم يطلع الفجر حتى التقينا فعدونا حتى انتهينا إلى الهدة - اسم محل - فوجدنا عمرو بن العاص بها، فقال: مرحبا بالقوم فقلنا وبك قال أين مسيركم؟ قلنا: الدخول في الإسلام فقال: وذلك الذي أقدمني. فوصلوا المدينة وقال خالد: فلبست من صالح ثيابي ثم عمدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيت أخي فقال: أسرع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سر بقدومكم وهو ينتظركم فأسرعنا المشي فأطلعت عليه فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم حتى وقفت عليه، فسلمت عليه بالنبوة فرد علي السلام بوجه طلق فقلت: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله قال: "الحمد لله الذي هداك وقد كنت أرى لك عقلا رجوت أل يسلمك إلا إلى خير" 3 قلت: يا رسول الله ادع الله يغفر تلك المواطن التي كنت أشهدها عليك، فقال صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يجب ما كان قبله " 4 وتقدم عثمان بن طلحة وعمرو فأسلما وقد شهد

_ 1- الاستيعاب: 3/1185. 2 البداية والنهاية: 4/239. 3- الطبقات الكبرى: 4/252. 4- أخرجه أحمد في كتابه " المسند " " الحديث: 4/198"، وذكره القرطبي في تفسيره " الحديث: 1/200"

رسول الله لخالد بالعقل كما ترى. إن خالدا كما قلنا كان من رجال قريش المعدودين فكان أشجعهم قلبا عالما بفنون الحرب فارسا مغوارا لا يرهب الموت ولا تهوله كثرة الجيوش؛ لكنه مع ذلك أخفق في محاربة رسول الله ولم تنفعه شجاعته ولم تفده فروسيته لذلك كان يرى أنه في غير شيء إزاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كما اعترف بنفسه، فماذا يعمل خالد وغير خالد أمام النبوة ورسول الله يمده الله سبحانه وتعالى بالقوى الظاهرة والباطنة وتقع على يديه المعجزات الباهرة التي دونها بطولة الأبطال وشجاعة الشجعان وعلوم الخلق كافة ويبشره الله بالنصر والفتح المبين!؟ وماذا يفعل وهو يرى انتشار الإسلام ودخول الناس في دين الله أفواجا، وقد ألفى نفسه وحيدا كعمرو بن العاص لا يقدر على عمل شيء، هذا وقد كان رسول الله يعرف الرجال ويقدرهم ولذلك كان يرجو أن يهدي الله خالدا إلى الإسلام ويجعل نكايته مع المسلمين على المشركين فنصحه أخوه الوليد الذي سبقه إلى الإسلام أن يسلم فأثر فيه النصح بعد أن فكر في مواقفه الماضية وفكر في كرامته فبادر إلى الدخول في الإسلام تكفيرا عن سيئاته وإراحة لضميره وصونا لكرامته وقد صدقت فيه فراسة رسول الله كما صدقت فراسته في عمر بن الخطاب فإن خالدا بعد أن أسلم دافع عن الإسلام دفاعا مجيدا قل أن يحدث مثله في تاريخ العالم، وقد شهد له بذلك الصحابة والأمم التي حاربها من فرس وروم واعترف له علماء التاريخ بالكفاية الحربية النادرة وصدق فيه قول رسول الله: " إنه سيف من سيوف الله" 1. وقد كتب الأستاذ أوجست مولر في كتابه الإسلام يصفه فقال: لقد كان خالد من أولئك الذين كانت عبقريتهم الحربية هي مل حياتهم الفكرية مثل نابليون فإنه لم يعن بشيء غير الحرب ولم يرد أن يتعلم شيئا غير ذلك. وهذا ما قاله خالد عن نفسه: شغلني الجهاد عن تعلم كثير من القرآن. ومن ذا الذي يدري ماذا كان يصنعه خالد لو أنه تلقى الفنون الحربية واستعمال الأسلحة المختلفة وأساليب القيادة وخطط الهجوم والدفاع أو لو أنه عاش في زمن انتشرت فيه الطرق المنظمة وامتدت السكك الحديدية لنقل الجيوش وتموينها في ومن اختراع التلغراف والتليفون واللاسلكي والأسلاك الشائكة والغازات الخانقة والمدافع الكبيرة والأساطيل العجيبة والمفرقعات المخيفة والطيارات التي تلقي القنابل؟! ألا ترى أنه بمواهبه الحربية الفطرية وشجاعة قلبه وعقيدته الإسلامية قاد جيوش المسلمين على قلة عددهم وعددهم التي لم تتجاوز السيف والقوس والفرس فهزم امبراطوريتين ملكتا العالم بكثرة جيوشهما ووفرة الذخائر والمال - ألا وهما الفرس والرومان فكانت جيوشهما تقتل وتفر أمامه من الميدان مهزومة وكبار القادة يصرعون أو يسلمون والمدن الحصينة تفتح أبوابها وتسلم وتخضع أمام قوة العقيدة وصدق الإيمان والإخلاص وعدم الاكتراث بمواجهة الجيوش الجرارة طمعا في الشهادة!

_ 1- أخرجه الحاكم في مستدركه " الحديث: 3/338".

فهل تقاس هذه الشجاعة الخارقة وتلك المواهب النادرة التي اكتسحت الأمم بأي قائد من قواد الدنيا؟ اللهم لا. كان خالد بن الوليد موضع إعجاب أبي بكر الصديق رضي الله عنه وحسن تقديره فكان إذا هزم الفرس استدعاه لقتال الروم فيسير إلى الشام هو وجيشه الذي كان أطوع له من بنانه من غير أن يذوق للراحة طعما فلا يكاد يقود الجيش في الميدان الآخر حتى يفتح البلاد والحصون المنيعة ويوقع الرعب في قلوب الأعداء فيستولي المسلمون على بلادهم ويفر أمبراطور الروم من وجهه ويودع الشام الوداع الأخيرة كما فر وقتل قواد الفرس وعظماؤهم. أليس من المدهش أن خالدا لم يهزم في موقعة من المواقع بل كان رائده النصر على الدوام!؟ وكان العدو يخاف ويقع الرعب في قلبه بمجرد ذكر اسمه أو اقتراب جيشه، لذلك كانوا يبادرون إلى عقد الصلح معه لئلا يداهمهم بما لا قبل لهم به، وقد سأله عظيم من الروم: هل أنزل الله عليه سيفا من السماء يحارب به الأعداء؟. كان إسلام خالد في شهر صفر بعد الحديبية وكانت الحديبية في ذي القعدة من السنة السادسة الهجرية - فبراير سنة 628 م -. شهد خالد غزوة مؤتة وقد كان الأمير في غزوة زيد بن حارثة واستشهد فيها زيد ثم أخذ الراية بعده جعفر بن أبي طالب فاستشهد أيضا، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقتل أيضا، ثم اتفق المسلمون على دفع الراية إلى خالد بن الوليد فأخذها وقاتل قتالا شديدا، وما زال يدافع القوم حتى انحازوا عنه، ثم ارتد بانتظام وعاد بجيش المسلمين سالما إلى المدينة وفي هذه الغزوة سماه النبي صلى الله عليه وسلم سيفا من سيوف الله إذ لولا تدبره وإحكامه خطة التقهقر لقضي على الجيش لقلة عدده أمام ذلك الجيش العظيم. وشهد خالد فتح مكة وحنينا وفي غزوة حنين قتل امرأة فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والأولاد والأجراء. ثبت في صحيح البخاري1 عن خالد أنه قال: اندق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف فما ثبت في يدي إلا صفيحة يمانية. وولاه رسول الله أعنة2 الخيل فكان في مقدمتها وشهد فتح مكة فأبلى فيها وبعثه رسول الله إلى العزى – صنم - فهدمها وقال: يا عز كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك

_ 1- أخرجه البخاري في كتاب: المغازي، باب: غزوة مؤته كم أرض الشام " الحديث: 4266". 2- أعنة: واحدها عنان وهي تسير اللجام الذي تمسك به الدابة

وبعد أن هدم خالد العزى رجع إلى رسول الله فقال له: "هل هدمتها؟ " قال: نعم، فقال له: "هل رأيت شيئا؟ " فقال: لا، قال "فإنك لم تهدمها فارجع إليها فاهدمها"، فرجع وهو متغيظ فلما انتهى إليها جرد سيفه فخرجت إليه امرأة سوداء عريانة ناشرة الرأس فجعل السادان - خادم الصنم - يصيح بها قال خالد: وأخذني اقشعرار في ظهري فجعل السادان يصيح ويقول: أعز شدي شدة لا تكذبي ... أعز ألقي للقناع وشمري أعز إذا لم تقتلي اليوم خالدا ... فبوئي بذنب عاجل وتنصري فأقبل خالد إليها بالسيف فضربها فشقها نصفين ثم رجع إلى رسول الله فأخبره، فقال: "نعم تلك العزى قد أيست أن تعبد ببلادكم أبدا" 1 ثم قال خالد: أي رسول الله الحمد لله الذي أكرمنا بك وأنقذنا من التهلكة، ولقد كنت أرى أبي يأتي إلى العزى ومعه مائة من الإبل والغنم فيذبحها للقرى ويقيم عندها ثم ينصرف إلينا مسرورا فنظرت إلى ما مات عليه أبي وذلك الرأي الذي كان يعاش في فضله كيف خدع حتى صار يذبح لحجر لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع فقال رسول الله: "إن هذا الأمر إلى الله فمن ييسره للهدى ييسر ومن ييسره للضلالة كان فيها". ولا يصح لخالد مشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة وأرسله رسول الله إلى أكيدر صاحب دومة في رجب سنة تسع وأحضره عند رسول الله فصالحه على الجزية ورده إلى بلده. وأرسله رسول الله سنة عشر إلى بني الحارث بن كعب بن مذحج فقدم معه رجال منهم فأسلموا ورجعوا إلى قومهم. وأمره أبو بكر الصديق رضي الله عنه على قتال مسيلمة الكذاب والمرتدين باليمامة وكان له في قتالهم الأثر العظيم كما مر ذكره في كتابنا هذا وله الآثار المشهورة في قتال الروم بالشام والفرس بالعراق وهو أول من أخذ الجزية من الفرس في صلح الحيرة وافتتح دمشق وكان في قلنسوته شعر من شعر رسول الله يستنصر به ويتبرك فلا يزال منصورا. ولما حضرت خالد الوفاة قال: لقد شهدت مائة زحف أو نحوها وما في بدني موضع شبر إلا وبه ضربة أو طعنة أو رمية وها أنا أموت على فراشي كما يموت العير فلا نامت أعين الجبناء وما لي من عمل أرجى من لا إله إلا الله وأنا متترس بها. وكان يشبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلقه وصفته. وتوفي في خلافة عمر بن الخطاب سنة 21هـ "641 - 642 م ": - وعمره بضع وأربعون سنة وكانت وفاته بحمص وقبره مشهور يزار إلى الآن في ضمن مسجد واقع خارج السور إلى الجهة

_ 1- أخرجه المقدسي في الأحاديث المختارة " الحديث: 8/219"، وذكره ابن سعد في الطبقات الكبرى: 2/145.

الشمالية من حمص وقد اتصل به العمران وصار حوله لهذا العهد حي يسمى "حي سيدي خالد " كما يسمى المسجد أيضا مسجد سيدي خالد. قال رفيق بك العظم في كتابه "أشهر مشاهير الإسلام " وقد زرته مرة فوجدت عليه من المهابة والوقار ما يأخذ بمجامع القلوب التي يعرف أصحابها أقدار الرجال ويتأثرون بذكرى عصر أولئك الأبطال. وقد كان لخالد أولاد كثيرون انقرضوا جميعا في الطاعون فلم يبق منهم أحد وورث أيوب بن سلمة دورهم بالمدينة. وكان عمر يقول لما مات خالد: قد ثلم في الإسلام ثلمة لا ترتق ولقد ندمت على ما كان مني إليه. ورثته أمه فقالت: أنت خير من ألف ألف من الناس ... إذا ما كبت وجوه الرجال أشجاع فأنت أشجع من ليث ... عرين حميم إلى الأشبال أجواد فأنت أجود من سيل ... دياس يسيل بين الجبال1 ولخالد كرامات منها أنه ابتلع السم فلم يؤثر فيه كما مر ذكره ومنها ما رواه ابن أبي الدنيا بإسناد صحيح عن خيثمة قال: أتى خالد بن الوليد رجل معه زق خمر، فقال: اللهم اجعله عسلا فصار عسلا2، رحمه الله رحمة واسعة ونفعنا بذكرى حياته المملوءة عبرا وشهامة وبلاء حسنا في سبيل الله، وسنذكر إن شاء الله تعالى بقية حروب خالد في خلافة عمر بن الخطاب في كتابنا عمر بن الخطاب. وقد أردنا بهذه الكلمة الوجيزة تذكير المسلمين بحياة هذا البطل الطائر الصيت الذي سجل في تاريخ القيادة والبطولة صفحات ذهبية خالدة ولا شك أن حياة خالد خالدة في الأسفار والقلوب وأردنا كذلك أن نصور هذه الشخصية البارزة بصورة جلية واضحة حتى تكون ماثلة أمامنا باعثة للهمم وعبرة للمعتبرين وقدوة يقتدي بها الأبناء في حسن البلاء والإقدام والصبر والإخلاص ورفعة الشأن والتمسك بالمبدأ حتى النفس الأخير فإن بمثل هذا القائد العظيم فتح الله على المسلمين فنشروا التوحيد والعقيدة الصحيحة وقضوا على الوثنية والشرك ووضعوا دعائم العدل والفضل.

_ 1- البداية والنهاية: 7/116 - 117. 2- سير أعلام النبلاء: 1/376.

§1/1