أبناؤنا والصلاة

عبد الملك بن قاسم

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين .. وبعد: فإنَّ الأولاد هم زهرة الحياة الدنيا، وفي صلاحهم قرَّة عين للوالدين، وإنَّ من المؤسف خلوُّ مساجدنا من أبناء المسلمين، فقلَّ أن تجد بين المصلين من هم في ريعان الشباب! .. وهذا والله يُنذر بشرٍّ مستطير، وفسادٍ في التربية، وضعف لأمَّة الإسلام إذا شبَّ هؤلاء المتخلِّفون عن الطوق! .. فإذا لم يُصلُّوا اليوم فمتى إذًا يقيموا الصلاة مع جماعة المسلمين؟ ! ولما كان الإثم الأكبر والمسئولية العظمى على الوالدين فإني أُذكِّر نفسي وأرباب الأسر ممن حُمِّلوا الأمانة بحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «كلكم راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته ... » [متفق عليه]. والله عزَّ وجل يقول في محكم التنزيل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]. ويقول تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132]. وفي حديثٍ صريحٍ واضحٍ من نبي هذه الأمَّة للآباء والأمهات:

«مرُوا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين» [رواه أحمد]. وفي هذا التوجيه النبويِّ الكريم من حُسن التدرُّج واللطف بالصغير الشيء الكثير؛ فهو يُدعى إلى الصلاة وهو ابن سبع سنين، ولا يُضرب عليها إلاَّ عند العاشرة من عمره، ويكون خلال فترة الثلاث سنوات هذه قد نُودي إلى الصلاة وحُبِّبت إليه أكثر من خمسة آلاف مرة! .. فمن واظب عليها خلال ثلاث سنوات بشكلٍ متواصلٍ متتالٍ هل يحتاج بعد خمسة آلاف صلاة أن يُضرب؟ قلَّ أن تجد من الآباء من يُطبِّق هذا الحديث واحتاج إلى الضرب بعد العاشرة؛ فإنَّ مجموع الصلوات كبير، واعتياد الصغير للصلاة وللمسجد جرى في دمه وأصبح جزءًا من جدوله ومن أعظم أعماله! وكثيرون اليوم يضربون الأبناء لكن على أمورٍ تافهة وصغيرة لا ترقى إلى درجة وأهمية الصلاة .. ومن تأمَّل في حال صلاة الفجر ومن يحضرها من الأولاد حزن على أمَّة الإسلام! .. خاصةً وقد ندر أن تجد في المساجد هؤلاء الفتية الذين كان لأمثالهم شأن في صدر الأمة! فأين الآباء وأين الأمهات من إيقاظ أبنائهم وحرصهم على ذلك؟ ! عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: بتُّ عند خالتي ميمونة، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدما أمسى فقال: «أصلَّى الغلام؟ »

قالوا: نعم [رواه أبو داود]. وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "يُعلَّم الصبي الصلاة إذا عرف يمينه عن شماله". وكان السلف الصالح يُلاحظون أبناءهم في الصلاة ويسألونهم عنها .. عن مجاهد قال: سمعت رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا أعلمه إلا ممن شهد بدرًا -قال لابنه: أدركت الصلاة معنا؟ أدركت التكبيرة الأولى؟ قال: لا، قال: لما فاتك منها خيرٌ من مائة ناقة كلّها سود العين. وذكر الذهبي في السير: عن يعقوب عن أبيه، أنَّ عبد العزيز بن مروان بعث ابنه عمر إلى المدينة يتأدَّب بها، وكتب إلى صالح بن كيسان يتعاهده، وكان يلزمه الصلوات، فأبطأ يومًا عن الصلاة، فقال: ما حبسك؟ قال: كانت مُرجِّلتي تُسكن شعري. فقال: بلغ من تسكين شعرك أن تُؤثِره على الصلاة، وكتب بذلك إلى والده، فبعث عبد العزيز رسولاً إليه، فما كلَّمه حتى حلق شعره. ومن أعظم ما يسديه الأب الموفَّق لابنه اصطحابه للصلاة معه وجعله بجواره ليتعلَّم منه وليحافظ عليه من كثرة اللغط والعبث. أيها الأب وأيتها الأم .. لا يخرج من تحت أيديكم غدًا من لا يُصلِّي فتأثمان بإخراجه إلى

يقول ابن القيم -رحمه الله-

أمَّة الإسلام كافرًا من أبوين مسلمين، وذلك بالتفريط والرحمة المنكوسة، فتخافان عليه من البرد ولا توقظانه لصلاة الفجر، وتخافان عليه من شدَّة الحر فلا يذهب ليصلِّي العصر! {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 81]. يقول ابن القيم -رحمه الله-: فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى فقد أساء غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قِبل الآباء وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسُننه، فأضاعوهم صغارًا، فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كبارًا. أيها الأب ويا أيتها الأم .. إنَّ في الحرص على إقامة صلاة الأبناء في المسجد فوائد عظيمة منها: 1 - براءة ذممكم أمام الله عزَّ وجل والخروج من الإثم بتحبيبه للصلاة وأمره بها. قال ابن تيمية -رحمه الله-: ومن كان عنده صغير مملوك أو يتيم أو ولد فلم يأمره بالصلاة، فإنه يُعاقب الكبير إذا لم يأمر الصغير، ويُعزر الكبير على ذلك تعزيراً بليغاً لأنه عصى الله ورسوله. 2 - احتساب أجر تعويده على العبادة قال - صلى الله عليه وسلم -: «من دعا إلى هُذى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ... » [رواه مسلم].

ومن الأسباب المعينة على ذلك

3 - الاستشعار بأنَّ الابن في حفظ الله عزَّ وجل ورعايته طوال ذلك اليوم، قال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى الفجر في جماعة فهو في ذِمَّة الله» [رواه ابن ماجة]. 4 - خروج الابن إذا شبَّ وكبر عن دائرة الكفار والمنافقين كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر» [رواه أحمد]، وكما قال عليه الصلاة والسلام: «ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا» [رواه البخاري]. 5 - تنشئة الابن على الخير والصلاح ليكون لكما ذخرًا بعد موتكما، فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترط الصلاح في الابن كما في الحديث: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلى من ثلاث» وذكر منها: «أو ولد صالح يدعو له» [رواه مسلم]. ومن الأسباب المعينة على ذلك: 1 - أن تكون لهم أيها الأب قدوة صالحة في المحافظة على الصلاة والحرص عليها، فإذا بلغوا سبعًا وعقلوا شرع أمرهم بالصلاة والذهاب بهم إلى المسجد، فإنَّ الصغير ينشأ على ما كان عوَّده أبوه. 2 - تقديم أمر الآخرة على أمر الدنيا في كلِّ شيء، وتنشئة الصغار على ذلك وغرسه في نفوسهم، فلا تكن الامتحانات الدراسية أهم من الصلاة، ولا تكن المذاكرة أهم من الذهاب للمسجد .. وليس من الفخر أن يكون ابنك مسئولا كبيرًا وهو من

المنافقين الذين لا يشهدون الصلاة، أو من الكفار الذين لا يُصلون، ويكفيك عزًّا وفخرًا أن يأكل من كسب يده ويشهد جماعة المسلمين، وأن جمع الأمرين فبها ونعمت. 3 - الصبر والمصابرة {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] فالأمر فيه مشقَّة نصب، وأبشر فإنَّ الله عزَّ وجل قال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]. 4 - توفير الأسباب المعينة على القيام، ومن ذلك عدم السهر وجعل ساعة منبهة عند الأذان أو قبله، وليكونوا في مقدمة الصفوف. سُئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله السؤال التالي في الجزء 12 من فتاواه: بعض الأولاد يُبكِّرون يوم الجمعة، ويأتي أُناس أكبر منهم ويُقِيمونهم ويجلسون مكانهم ويحتجُّون بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ليلني منكم أولو الأحلام والنهى» فهل هذا جائز؟ فأجاب الشيخ ابن باز: هذا يقوله بعض أهل العلم، ويرى أنَّ الأولى بالصبيان أن يُصفُّوا وراء الرجال، ولكن هذا القول فيه نظر، والأصحُّ أنهم إذا تقدَّموا لا يجوز تأخيرهم، فإذا سبقوا إلى الصف الأول أو إلى الصف الثاني فلا يُقيمهم من جاء من بعدهم لأنهم سبقوا إلى حقٍّ لم يسبق إليه غيرهم فلم يَجز تأخيرهم لعموم الأحاديث في ذلك؛ لأنَّ في تأخيرهم تنفيرًا لهم من الصلاة ومن المبادرة إليها فلا يليق ذلك. لكن لو اجتمع الناس بأن جاءوا مجتمعين في سفر أو لسبب فإنه

يُصف الرجال أولاً، ثم الصبيان ثانيًا، ثم النساء بعدهم إذا صادف ذلك وهم مجتمعون، أمَّا أن يؤخذوا من الصفوف ويُزالوا ويُصف مكانهم الكبار الذي جاءوا بعدهم فلا يجوز ذلك لما ذكرنا، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ليلني منكم أولو الأحلام والنهى» فالمراد به التحريض على المسارعة إلى الصلاة من ذوي الأحلام والنهى، وأن يكونوا في مقدم الناس، وليس معناه تأخير من سبقهم من أجلهم؛ لأن ذلك مخالف للأدلَّة الشرعية التي ذكرنا. 5 - بِث في أبنائك أحاديث الصلاة وحكم تاركها وعقوبته في الدنيا والآخرة، ورغِّبهم في الأجر العظيم لمن حافظ عليها، ولا تقل إنهم صغار لا يعون؛ فهم يُدركون ويحفظون، ويحتاجون إلى ذلك لتقوية عزائمهم. 6 - اجعل لهم الحوافز والجوائز حتى يحافظوا على الصلاة، وأذكر أنَّ أحد الآباء كان يجعل لأبنائه الصغار ريالاً كلّ يوم عن صلاة الفجر، وكانت الثمرة المبكرة أن كان أحد هؤلاء الصغار من كبار الأئمَّة المعروفين .. وأذكر أيضًا امرأةً أرملةً وتحتها يتيم صغير، فكانت تخرج به لصلاة الفجر كلّ يوم، وأكرمها الله عزَّ وجل بهذا الابن فحفظ كتاب الله تعالى وصار أحد أئمة المساجد الآن ومن أبرِّ الناس بأمِّه. قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «حافظوا على أبنائكم في الصلاة، وعودهم الخير، فإن الخير عادة» [رواه الطبراني].

7 - الدعاء لهم في كلِّ وقت، واجعلهم أحيانًا يسمعون دعاءك لهم بالصلاة والهداية والتوفيق والسداد، ومن دعاء الأنبياء والصالحين {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم: 40]. 8 - اربطهم بصحبة طيِّبة ممن يحفظون القرآن ويحافظون على الصلاة مع الجماعة، وشجِّع أولئك الصغار بالهدايا والحوافز فهم أبناء المسلمين. 9 - ادعُ لهم عند إيقاظهم، واتلُ عليهم بعض الآيات والأحاديث {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ} [لقمان: 17]، ودعهم يسمعون الأجر العظيم على لسان نبيِّهم - صلى الله عليه وسلم -: «بشِّروا المشَّائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة» [رواه أبو داود]. 10 - لترى منك والدتهم أنك حريص على أمر صلاتهم وإيقاظهم؛ فإنَّ ذلك يعينها على الاستمرار والحرص والتأكيد عليهم، واشكر لها جهودها وشجِّعها على ذلك وهم يسمعون. 11 - كما أنك أيها الأب إذا أردت شراء منزلٍ تفكر في قرب الخدمات من سكنك، فكِّر قبل ذلك بالمسجد ومدى قربه إلى منزلك؛ لأنَّ في ذلك إعانة على الطاعة وتيسير لأمر الصلاة، خاصة على الصغار، مع مظنَّة حفظهم ومتابعتهم إذا كانت المسافة قصيرة. 12 - استشعر أنَّ ابنك الذي تحب قد يكون حطبًا لجهنم إذا لم يُصلِّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا

أيها الأب

النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]. 13 - ليكن بينك وبين إمام المسجد تعاون في تشجيع أطفالك من قِبله وتقديم الجوائز لهم لمحافظتهم على الصلاة - بما فيها صلاة الفجر - ولا يمنع أن يتحدَّث الإمام حاثًا الآباء على إحضار أبنائهم للصلاة، ثم يشكر الآباء الذين يُحضِرون أبناءهم، ويُسمِّي الصغار بأسمائهم. أيها الأب: يقول الله عزَّ وجل: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] وأبشر وأمل فأنت في خير طريق {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]. أصلح الله أزواجا وذرياتنا وجعلهم قرَّة أعين، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد على آله وصحبه أجمعين. * * *

§1/1