أبراج الزجاج في سيرة الحجاج

عبد الرحمن بن وهف القحطاني

مقدمة المحقق

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المحقق إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: فهذه رسالة مختصرة مفيدة في سيرة الحجاج بن يوسف أمير العراق، كتبها الابن الشاب، وقد سمّاها رحمه الله: ((أبراج الزجاج في سيرة الحجاج))، وهي رسالة نافعة جداً، بيَّن فيها رحمه الله تعالى: نسب الحجاج، ومولده، وأسرته، وعدد أولاده، وزوجاته، وأخباره معهنّ، وبداية إمارته، وحال الحجاج قبل الإمارة، وقصة قتله لعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، وكيف تولى إمارة العراق، وفتوحات الحجاج، وصفات الحجاج، وإصلاحاته، وما قيل فيه من مدح، وما قيل فيه من ذم وهجاء، وخطابة الحجاج، ورسائله، ونقد الحجاج، وأقوال العلماء فيه، وما ذكر فيه من أحلام ورُؤىً بعد موته، وذكر وقت وفاته، وأثر وفاته على بعض الناس، ثم ذكر الابن عبد الرحمن رحمه الله خاتمة البحث، ثم التوصيات، ثم قائمة المراجع التي رجع إليها في سيرة الحجاج، وعندما رأيت هذا الترتيب الجميل، والاختصار المفيد، أحببت أن أقوم بإخراج هذه الرسالة التي توضح الحقيقة في شأن الحجاج، والله أسأل أن ينفع

بها الابن عبد الرحمن، وأن يجعلها له من العمل الصالح، وأن ينفعه بها، وأن يبلغه أعلى منازل الشهداء؛ فإنه - سبحانه وتعالى - الكريم المنان، الرؤوف الرحيم، ذو الفضل والجود والإحسان. وأصل هذه الرسالة بحث أعده الابن عبد الرحمن رحمه الله تعالى في الصف الثاني الثانوي، الفصل الثاني في العام الدراسي 1420 - 1421هـ في ثانوية أبي عمرو البصري لتحفيظ القرآن الكريم بمدينة الرياض، أشرف عليه الأستاذ محمد السليم حفظه الله تعالى، وجزاه خيراً. وعندما توفي الابن عبد الرحمن رحمه الله تعالى ذهبت إلى المدرسة وطلبت هذا البحث، فدفعه إليّ وكيل المدرسة الشيخ محمد العوشن، جزاه الله خيراً. وعملي في هذه الرسالة على النحو الآتي: 1 - كتبت سيرة مختصرة للابن عبد الرحمن، والابن عبد الرحيم رحمهما الله تعالى. 2 - قمت بمطابقة الرسالة على أصلها المخطوط بخط الابن عبد الرحمن رحمه الله تعالى. 3 - أحلت إلى أماكن ومواضع فصول البحث ومباحثه في أصول كتب التأريخ والسير؛ لتوثيق معلومات البحث في مراجعه الأصلية. 4 - إذا أضفت كلمة أو جملة جعلتها بين معقوفين هكذا: [ ... ]. 5 - إذا أضفت شيئاً من الفوائد جعلتها في الحاشية؛ لرغبتي في بقاء الرسالة على أصلها، لعل الله أن ينفع بها كاتبها. 6 - أضفت مواقف أعلام التابعين مع الحجاج، ومواقفه معهم.

والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن يجعله من العمل المقبول للابن عبد الرحمن وشقيقه الابن عبد الرحيم رحمهما الله تعالى، وأن يجعلهما شهداءَ أحياءً عند ربهم يرزقون، وأن يجمعني بهما في أعلى منازل الشهداء في الفردوس الأعلى مع نبينا محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - ووالدينا، ومشايخنا، وذرياتنا، وأزواجنا، وأحبابنا في الله تعالى جميعاً؛ إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله، نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن سار على دربهم إلى يوم الدين. أبو عبد الرحمن حرر ضحى يوم الجمعة 7/ 8/ 1424هـ.

أولا: مولده.

* مولد الابن عبد الرحمن رحمه الله، ونشأته، وطلبه للعلم، وأخلاقه، وما قال عنه العلماء، وطلاب العلم، والأساتذة، ومعلموه، وزملاؤه، ووفاته رحمه الله تعالى: أولاً: مولده: ولد رحمه الله قبل صلاة الظهر في اليوم السابع والعشرين من ذي القعدة: 27/ 11/1403هـ في سكن جامع الفاروق بإسكان القوات المسلمة طريق الخرج في مدينة الرياض. ثانياً: نشأته: نشأ بتوفيق الله تعالى ورعايته وفضله وإحسانه على ما نشأ عليه أهل التوحيد، وكان يتّصف بالذكاء منذ الطفولة المبكرة، فلم يدخل المدرسة إلا وهو يحفظ جزء عمّ، ويقرأ الأحرف العربية، وفي السنة الثانية الابتدائية اختبر في الجماعة الخيرية في خمسة أجزاء، فاجتاز بتقدير ممتاز، وكان يدرس في الفترة الصباحية في المدرسة، وفي الفترة المسائية بعد العصر في الجامع في حلقات القرآن الكريم على الشيخ حافظ قاري غلام محمد بن فيض الله، جزاه الله خيراً. وكان الابن عبد الرحمن رحمه الله لا يحب اللعب في طفولته كما يحبه الأطفال، حتى في المدرسة، وقد أخبرني رحمه الله أنه يجلس والطلاب يعلبون في ملعب المدرسة، وقد كان رحمه الله يذهب من البيت في سيارة ويرجع إليه، ثم من البيت إلى المسجد، ولا يختلط مع أبناء الجيران، وكان ملازماً لي مدة حياته إلا إذا سافرت، وكان يحب أن يصلي دائماً خلف الإمام من صغره إلى أن مات رحمه الله تعالى.

المدرسة الابتدائية

* دخل المدرسة الابتدائية في أوائل عام 1410هـ‍ [مدرسة الإمام حمزة لتحفيظ القرآن الكريم] في حي الغبيراء بمدينة الرياض، وكان يثني على كثير من مدرسيها ويخصّ منهم الأستاذ سعيد بن سعد الطيشان، والأستاذ محمد بن سالم الهيشة، جزاهما الله خيراً، وتخرّج من هذه المدرسة عام 1415هـ‍. * ثم درس المتوسطة في المتوسطة الثانية لتحفيظ القرآن الكريم، وختم حفظ القرآن في الخامسة عشرة من عمره في هذه المدرسة [بتقدير ممتاز، وقد أخذ الدرجة كاملة 100%]، وذلك عام 1418هـ‍، وكان رحمه الله يثني على مديرها الشيخ حمّاد بن عبد الرحمن العمر حفظه الله، ويذكر من حسن خُلُقه وتربيته، وعنايته بالطلاب الشيء الكثير، كما يُثني كثيراً على مدرّس القرآن الكريم بهذه المدرسة: الشيخ إبراهيم التويم حفظه الله، ويذكر حرصه على نفع الطلاب واستقامتهم، ويثني على كثير من مدرّسي هذه المدرسة. * ثم اختبر بعد ذلك في الجماعة الخيرية لتحفيظ القرآن فاجتاز بتقدير ممتاز أيضاً ولله الحمد، وذلك عام 1419هـ‍. * ثم انتقل إلى المرحلة الثانوية عام 1419هـ‍فدرس في ثانوية أبي عمرو البصري لتحفيظ القرآن الكريم، وتعلّم فيها القراءات السبع مع مراجعة القرآن الكريم، وكان يثني كثيراً على الشيخ عادل بن عبد الله السنيد حفظه الله مدرّس القراءات، وقد أثّر على الابن عبد الرحمن في الإخلاص، وعلى الشيخ بدر بن ناصر العوَّاد حفظه الله مدرّس المواد الشرعية، وقد أثّر على

ثم تخرج من هذه الثانوية

الابن عبد الرحمن في البلاغة والشعر والأساليب الرائعة، ويشكرهما ويقول: ((هذان من العلماء))؛ لتأثره بتربيتهما؛ ولغزارة علمهما، وحرصهما على نفع الطلاب جزاهما الله خيراً، كما يُثني على وكيل هذه المدرسة: الشيخ محمد العوشن ويقول: ((هذا الرجل عليه سمت العلماء))، كما يُثني على كثير من مدرّسي هذه المدرسة جزاهم الله خيراً. * ثم تخرّج من هذه الثانوية عام 1422هـ‍، وكان من العشرة الأوائل على مدارس تحفيظ القرآن الكريم بمدينة الرياض، بتقدير ممتاز. وأخبرني وكيل هذه المدرسة الشيخ محمد العوشن حفظه الله أن الابن عبد الرحمن رحمه الله أوصى بكتابه تقريب المعاني في شرح حرز الأماني في القراءات السبع للصف الثالث ثانوي في مدرسة أبي عمرو، وكان الابن عبد الرحمن قد كتب على هذا الكتاب بخط يده: ((هذا التقريب أُوصي به لطلاب ثالث ثانوي بعد مغادرتي المدرسة على خير إن شاء الله تعالى، والسلام عليكم)) (¬1). * ثم انتقل إلى المرحلة الجامعية، فدخل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في كلية الشريعة، قسم الشريعة، وذلك في 13 من جمادى الثاني عام 1422هـ‍، فدرّس بها بقيّة جمادى، ورجب، وشعبان، وستة عشر يوماً من رمضان - رحمه الله -. ¬

(¬1) نقل من خطه رحمه الله على الغلاف الداخلي من الكتاب المذكور.

وكان من مشايخه في كلية الشريعة قسم الشريعة:

وكان من مشايخه في كلية الشريعة قسم الشريعة: 1 - الشيخ د. عبد الله بن مبارك البوصي يدرسه في الفقه. 2 - الشيخ د. عبد الحكيم العجلان، في الفقه أيضاً. 3 - الشيخ د. محمد المديميغ، في العقيدة ((الطحاوية)). 4 - الشيخ د. ناصر الجديع، في العقيدة ((الطحاوية)). 5 - الشيخ د. عبد العزيز العسكر في العقيدة ((الطحاوية)). 6 - الشيخ د. محمد الدريويش، في العقيدة ((الطحاوية)). 7 - الشيخ د. محمد بن عبد العزيز المبارك، في أصول الفقه. 8 - الشيخ د. إسماعيل بن خليل، في الحديث ((بلوغ المرام)). 9 - الشيخ د. محمد بن عبد الله الفهيد، في مصطلح الحديث. 10 - الشيخ د. فراج الحمد، في النحو ((أوضح المسالك)). 11 - الشيخ د. إبراهيم الفايز، في ((النظم)). 12 - الشيخ د. عبد الله العمرو، في ((النظم)). 13 - الشيخ د. شريف في ((علوم القرآن)). 14 - الشيخ د. جمعة، في ((التفسير)). 15 - الشيخ د. الزناتي، في ((التفسير)) أيضاً.

أما زملاؤه في كلية الشريعة

أما زملاؤه في كلية الشريعة قسم الشريعة فهم كثير جداً، لكن من أبرزهم وأحبهم إليه: 1 - عادل بن عبد الله المطرودي، وهو ممن يحفظ القرآن الكريم وصحيح البخاري ومسلم، وحفظ بعد ذلك السنن زاده الله علماً. 2 - عبد الرحمن بن عبد العزيز بن سليمان الشبيب. 3 - * ياسر بن محمد الحقيل، وهو قرين عبد الرحمن في البلاغة والشعر. 4 - تركي بن عبد الله الهويمل. 5 - عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن بجاد القحطاني. 6 - عبد الرحمن بن سعود الدحيم. 7 - عبد العزيز بن سعد بن محمد الحمدِّي. 8 - عبد الحليم بن فاروق الأفغاني. 9 - عبد الحميد بن عبد الله المشعل. 10 - سلمان بن محمد بن ظافر الشهري. 11 - * يزيد بن علي المحسن. 12 - * عبد السلام بن سليمان الربيش. 13 - * عبد الرحمن بن سعد المبارك. 14 - * تركي بن إبراهيم المهنا. 15 - * متعب بن خالد الجندل.

16 - * علي بن محمد المهوس. 17 - * عبد الله بن سليمان الرميان. 18 - * عبد الرحمن بن محمد الحمود. 19 - عبد الرحمن بن حمود البدراني. 20 - * عبد الله بن صالح الهزاني. 21 - * عبد الرحمن بن عبد العزيز الجلعود (¬1). ¬

(¬1) كل اسم أمامه نجمة فهو زميل لعبد الرحمن رحمه الله في ثانوية أبي عمرو لتحفيظ القرآن الكريم، ثم في كلية الشريعة، قسم الشريعة.

ثالثا: طلبه للعلم خارج المدارس النظامية:

ثالثاً: طلبه للعلم خارج المدارس النظامية: راجع القرآن مرات عديدة على شيخه في جامع الفاروق بإسكان أفراد القوات المسلحة، وعلى مجموعة من المدرسين، وكان يحضر معي الدروس الليلية، وفجر الخميس عند سماحة شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله تعالى، وذلك في السنوات الأخيرة في حياة شيخنا رحمه الله تعالى، ومن أهم طلبه للعلم ما يأتي: 1 - حفظ بعد حفظه القرآن الكريم: الأربعين النووية للإمام النووي رحمه الله. 2 - قرأ كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وذلك على فضيلة الشيخ عبد الله بن صالح القصير حفظه الله عام 1420هـ في مدينة الباحة، ولم يكمله؛ لطول نفس الشيخ في الشرح، ثم قرأ هذا الكتاب عليّ من أوله إلى آخره وذلك عام 1422هـ في مدينة الباحة قبل موته بأشهر، واستمع لشرحه كاملاً، وبدأ يحفظ هذا الكتاب، فحفظ قبل موته سبعة عشر باباً سمَّعها عليَّ واستمع لشرحها، وآخر هذه الأبواب {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (¬1). 3 - قرأ القواعد الحسان لتفسير القرآن للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله، على فضيلة الشيخ د. عبد الله بن عبد العزيز الخضير حفظه الله، وذلك عام 1420هـ‍في مدينة الباحة. ¬

(¬1) سورة القصصِ، الآية: 56.

4 - قرأ نخبة الفكر للحافظ ابن حجر على فضيلة الشيخ منصور السماري حفظه الله، وذلك عام 1420هـ‍في مدينة الباحة. 5 - قرأ عليَّ كتاب بلوغ المرام إلى نهاية كتاب الجنائز ثلاث مرات: المرة الأولى مستمعاً في الطائف عام 1420هـ‍، والمرة الثانية قرأه عليَّ بنفسه في الباحة عام 1420هـ‍، والمرة الثالثة في مدينة الرياض، وقد وصل إلى نهاية كتاب الزكاة، وبدأ في الصيام إلى الحديث رقم 676 [حديث حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من لم يُبَيِّت الصيام قبل الفجر فلا صيام له)) (¬1). 6 - قرأ عليَّ كتاب ((منهاج السالكين وتوضيح الفقه في الدين)) للعلامة السعدي رحمه الله، وصل فيه إلى نهاية كتاب الزكاة قبل موته رحمه الله. 7 - قرأ عليَّ كتاب ((كشف الشبهات)) كاملاً، للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، واستمع لشرحه. 8 - سَمِعَ ثلاثة الأصول للإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، خمس مرات، مع شرحها. 9 - قرأ عليَّ ((الدروس المهمة لعامة الأمة)) للإمام ابن باز رحمه الله مرتين، ولم يكمل الثانية؛ لموته رحمه الله. 10 - حفظ عليَّ الرحبية في الفرائض إلى باب الحساب عام 1420هـ‍، ¬

(¬1) رواه الخمسة.

بحوث مفيدة

وراجعها مرات. 11 - قرأ عليَّ ((الفوائد الجلية في المباحث الفرضية)) للعلامة ابن باز رحمه الله إلى باب الحساب. 12 - قرأ عليَّ ((الدرر البهية في المسائل الفقهية)) للإمام الشوكاني إلى نهاية كتاب الحج، وذلك عام 1422هـ‍في مدينة الباحة قبل وفاته رحمه الله بأشهر. 13 - سَمِعَ ((العقيدة الواسطية مع شرحها)) ثلاث مرات: الأولى سمعها من الشيخ الدكتور حمد الشتوي في الطائف عام 1420هـ‍، والثانية والثالثة سمعها في دروسي في الرياض. 14 - سَمِعَ ((القواعد الخمس الكبرى)) من الدكتور علي بن راشد الدبيان، وذلك في الطائف عام 1420هـ‍. 15 - سَمِعَ الفرائض إلى باب الحساب من الشيخ بدر الجويان، وذلك في الطائف عام 1420هـ‍. 16 - له ثلاثة بحوث مفيدة: الأول: الجنة والنار من الكتاب والسنة المطهرة، وقد طُبع ولله الحمد ثلاث طبعات: الطبعة الأولى سبعة آلاف نسخة، والطبعة الثانية عشرة آلاف نسخة، والطبعة الثالثة عشرون ألف نسخة، ولله الحمد. الثاني: غزوة فتح مكة في السنة المطهرة، وقد طبع والله الحمد.

الثالث: أبراج الزجاج في سيرة الحجاج

الثالث: أبراج الزجاج في سيرة الحجاج، وقد طبع ولله الحمد. 17 - وُجد له تعليقات مفيدة على بعض كتبه التي قرأها في الحلقات العلمية - رحمه الله - منها ما وُجد على كتاب منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين للعلامة السعدي رحمه الله، فقد كتب الابن عبد الرحمن - رحمه الله - على مقدمة هذا الكتاب الكلمة المفيدة الآتية: أ - فضل العلم: 1 - العلم إرث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. 2 - العلم يبقى والمال يفنى. 3 - العلم لا يتعب صاحبه في الحراسة. 4 - العلم يوصل إلى أن يكون صاحبه من الشهداء على الحق. 5 - أهل العلم أحد صنفي ولاة الأمر. 6 - لم يرغِّب النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن يغبط أحدٌ أحداً على شيء إلا على العلم [صاحب القرآن الذي يعمل به]،وصاحب المال [الذي ينفقه في الحق]. 7 - العلم طريق إلى الجنة. 8 - من وُفِّق للعلم فقد أراد الله به خيراً. 9 - إن الله يرفع صاحب العلم بعلمه. ب - آداب طالب العلم: 1 - الإخلاص لله سبحانه.

جـ - عقبات في طريق العلم:

2 - ينوي بطلب العلم رفع الجهل عن نفسه، وعن غيره. 3 - ينوي بذلك الدِّفاع عن الدين بالعلم. 4 - العمل بالعلم. 5 - العبادة مبنية على: الإخلاص، والمتابعة للنبي - صلى الله عليه وسلم -. 6 - الدعوة إلى العلم. 7 - الصبر على التعلم. جـ - عقبات في طريق العلم: 1 - فساد النية. 2 - حب الشهرة. 3 - التفريط في حلقات العلم. 4 - التذرّع بكثرة الأشغال. 5 - التفريط في طلب العلم في الصغر. 6 - العزوف عن طلب العلم. 7 - تزكية النفس. 8 - عدم العمل بالعلم. 9 - اليأس [واحتقار الذات].

10 - التسويف في طلب العلم (¬1). أسأل الله بوجهه الكريم أن يجعل العمل بهذه الآداب والفضائل في موازين حسنات الابن عبد الرحمن، فإنه جواد كريم. وهناك تعليقات أخرى على بعض كتبه رحمه الله تعالى. وكان رحمه الله تعالى يحضر جميع دروسي التي تُلقى في جامع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في إسكان طريق الخرج، وفي جامع الفاروق المذكور آنفاً، وكانت الدروس ولله الحمد في: العقيدة، والحديث، والفقه، والتفسير، وكان يستمع لإذاعة القرآن الكريم، وخاصة قبل أن ينام، وكان من الصغر يحب الاطلاع، وزيارة المكتبات، وشراء الأشرطة والكتيبات النافعة، وقد عُيّن مؤذناً لجامع الفاروق بإسكان أفراد القوات المسلحة في 14/ 6/1421هـ‍، وقد أعطاه الله جمال الصوت وحُسنه في القراءة والأذان، فارتاح الناس له وأحبوه في الله تعالى، وقد أخبرني الثقات من جماعة الجامع أنهم كانوا يخشعون عندما يصلي بهم عبد الرحمن في الصلوات الجهرية؛ لحسن صوته، وذلك عندما أسافر؛ لأني إمام الجامع المذكور. وكان يُدرِّس القرآن الكريم للطلاب في الجامع الذي يؤذّن فيه، حيث كلفه مدير مدرسة جامع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لتحفيظ القرآن الكريم ¬

(¬1) وهذه الفضائل والآداب ملخص لما في كتاب العلم للعلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى.

الشيخ خالد بن ضيف الله البلادي حفظه الله، فأسند إليه تدريس حلقة مستقلة [حلقة الإمام الذهبي رحمه الله]. وتلاميذه في هذه الحلقة هم: 1 - إبراهيم بن عبد الله بن حسين القحطاني. 2 - إبراهيم بن محمد بن سعيد القرني. 3 - إبراهيم بن حسن بن محمد عسيري. 4 - أحمد بن فايع بن محمد عسيري. 5 - أحمد بن محمد بن عوضة عسيري. 6 - أحمد بن محمد بن زين الدين. 7 - أحمد بن عبد الرحمن بن سالم السريحي. 8 - ثامر بن مصلح بن عطا الله العنزي. 9 - سلطان بن ناصر بن مسفر الغامدي. 10 - خالد بن علي بن مرعي القرني. 11 - سلطان بن محمد بن علي عسيري. 12 - سلمان بن عبد الله الأسمري. 13 - بدر بن سلمان الشهري. 14 - عبد الله بن علي بن عبد الله العمري.

15 - محمد بن أحمد بن محمد المجرشي. 16 - أنور بن حنتول بن يحيى سرحي. 17 - مجاهد بن صالح بن حمدان العمري. وكان الطلاب يحبونه في الله تعالى ويجلُّونه؛ لحُسن خُلُقه، وإحسانه إليهم. وقد أمَّ الناس في صلاة العشاء والتراويح في مسجد الزبير بن العوام - رضي الله عنه -، بإسكان طريق الخرج، ثلاث سنوات: 1420هـ‍، 1421هـ‍، وسبع عشرة ليلة من رمضان عام 1422هـ‍؛ حيث توفي رحمه الله بعد صلاة التراويح في هذه الليلة.

رابعا: الحكم التي كتبها رحمه الله قبل وفاته:

رابعاً: الحِكَمُ التي كتبها رحمه الله قبل وفاته: رسائل هاتفية أرسلها عبد الرحمن رحمه الله تعالى بهاتفه الجوال إلى جوال: زميله الشاب الصالح، أيمن بن عبد الله العاصمي قبل وفاته بيوم أو يومين 14 - 15 رمضان 1422هـ‍كما يقول: الأخ أيمن، وكانت وفاة عبد الرحمن وأخيه بعد صلاة العشاء والتراويح ليلة الأحد 17/ 9/1422هـ‍. الرسالة الأولى يقول فيها: ((المستأنس بالله: جنته في صدره، وبستانه في قلبه، ونزهته في رضى ربه)). الرسالة الثانية قال فيها: ((اللهمّ إنك أعطيتنا الإسلام من غير أن نسألك فلا تحرمنا الجنة ونحن نسألك)). الرسالة الثالثة: قال: ((فائدة: العزة في القناعة، والذلّ في المعصية، والهيبة في قيام الليل)) (¬1). كما سبق وأن أرسل رسالة مكتوبة بخطّ يده لأيمن العاصمي قبل وفاته بحوالي شهرين تقريباً قال: بسم الله الرحمن الرحيم، الأخ أيمن ... حفظه الله: حسبك خمسة: إذا ما مات ذو علم وتقوى ... فقد ثلمت من الإسلام ثلمة ¬

(¬1) نقلت جميع هذه الرسائل، من جوال الأخ الشاب الصالح أيمن بن عبد الله العاصمي وفقه الله.

وموت الحاكم العدل المولَّى ... بحكم الشرع منقصة ونقمة وموت العابد القوّام ليلاً ... يناجي ربه في كل ظلمة وموت فتى كثير الجود مَحْلٌ ... فإن بقاءه خصب ونعمة وموت الفارس الضرغام هدم ... فكم شهدت له بالنصر عزمة فحسبك خمسة يُبكى عليهم ... وباقي الناس تخفيف ورحمة وباقي الناس هم همج رعاع ... وفي إيجادهم لله حكمه (¬1) وقد وجد مكتوباً على الغلاف الداخلي من كتاب أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك للإمام ابن هشام رحمه الله تعالى، المقرر عليه في كلية الشريعة بخط يده رحمه الله يقول: عرفت أن الحياة رحلة وطريق ... فأحسنت اختيار الرفيق وتوليت القيادة وكان الابن عبد الرحمن يقول الشعر، وقد وجد من شعره بعض الأبيات في جوال زميله الشاب الصالح ياسر بن محمد الحقيل، أرسل إليَّ بها، وهي خمسة وأربعون بيتاً، وهذا نصّ بعضها في رسالة الأخ ياسر إليَّ، قال: بسم الله الرحمن الرحيم هذه الرسائل التي كانت بيني وبين عبد الرحمن - رحمه الله - وقد رمزت للتي كتبها عبد الرحمن بـ (ع)، والتي أرسلتها له بـ (ي). ¬

(¬1) وجدنا هذه الرسالة بخط يد الابن عبد الرحمن رحمه الله تعالى، وعليها توقيعه، وهي محفوظة عند الأخ أيمن العاصمي وفقه الله تعالى.

ي - ألا فَارْدُدْ سَرِيعاً دُونَ خوفٍ ... فخَيْرُ الرَّدِّ عَاجِلُهُ المُبِينا ع - أنا لا أرهب الرَّدَّ المُقَفَّى ... ولا أخشى سُبَابَ الشِّعْرِ فِينا ع - ألا فانْشُرْ سَلامي في رُبَاكُم ... وعَطِّر صحْبَنَا بالياسَمِينا ي - قد انتشَرَ السَّلامُ كَخَيْرِ غَيثٍ ... وعَمَّ العِطْرُ أرْجَاءَ المدينه ع - رأيتُ الوُدَّ يَتْبَعهُ انقِطَاعٌ ... وخَيْرُ الوُدِّ ما يُفشِي السَّكينه ي - ألا فاعمَلْ حِسَاناً ما استطعتَ ... فَخَيْرُ النَّاسِ مَنْ سَكَنَ المدينه ي - رسولُ الله يُرفلُ في رُبَاهَا ... ومَسْجِدُهُ نَحِنُّ له حَنِينَا ع - ولا تَنْسَ بِمَكَّةَ خَيْرَ بَيْتٍ ... يطُوفُ به صِحَابٌ تابعونا ي - ولا تنسَ بنجدٍ خيرَ قومٍ ... همُ للدِّينِ خيرُ الخَادِمِينا ع - تَمَنَّ الخيرَ تكسَبْ مُجْتَناهُ ... ولوْ طَالَتْ عواقِبُهُ سِنينا ع - رأيتُ العِلْمَ لا يأتي رِجالاً ... همُ في الصُّبْحِ شرُّ النَّائمينا (¬1) ي -ألا فَاغْضُضْ بِطَرْفِكَ عَنْ مَرِيضٍ ... بكُلِّ الَّليلِ إكثارُ الأنِينَا قال الأخ ياسر: من آخر الرسائل التي أرسلها إليَّ عبد الرحمن كانت تهنئة بشهر رمضان وهي (بنسيم الرحمة، وعبير التوبة، ورجاء المغفرة، وبعد الزحمة أقول كل عام وأنت بخير) وكانت بتاريخ يوم الجمعة 1/ 9/1422هـ‍الموافق 16/ 11/2001م. ¬

(¬1) قال الأخ ياسر أرسلها إلي عبد الرحمن رحمه الله عندما كنت غائباً يوماً عن الدراسة في الجامعة بسبب المرض.

كتبه ياسر بن محمد الحقيل بتاريخ 25/ 1/1423هـ‍ زميل عبد الرحمن رحمه الله في ثانوية أبي عمرو البصري لتحفيظ القرآن الكريم، ثم في كلية الشريعة، والمدرس في مدرسة تحفيظ القرآن الكريم في جامع القدس بحي القدس بالرياض.

خامسا: أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر:

خامساً: أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر: * وكان رحمه الله تعالى: يأمر أهل بيتنا بالمعروف وينهاهم عن المنكر إذا رأى شيئاً، وأخبرني بعض الأهل بعد موت عبد الرحمن رحمه الله أنه كان إذا لاحظ عليهم شيئاً أخذهم على انفراد، ونصحهم سراً. * وأخبرتني والدته جبر الله قلبها وربط عليه؛ {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬1) أن عبد الرحمن رحمه الله رأى بعض أهل البيت أخطأ فشرب بشماله، فقال: ((هذا لا يجوز، ألا تحبون الجنة، وتخافون من النار؟))، وقد أثر ذلك في نفوسهم بعد موته رحمه الله تعالى. * كما أخبرني الأخ زمراوي محمد خيري السوداني، وفقه الله، أنه كان سائراً مع الابن عبد الرحمن رحمه الله تعالى، فرأى الابن عبد الرحمن رجلاً يقرأ مجلة فيها صور غير مناسبة، فنصحه وقال له: ((ما وجدت شيئاً تقرأه غير هذا؟)). * وأخبرني الشاب سعيد بن أحمد بن سعيد الشهري قال: الله يرحم عبد الرحمن قد نصحني أن أحفظ القرآن عندما سألته عن تفسير آية قبل ثلاث سنوات، فأخبرني بتفسيرها، ثم قال: ((احفظ القرآن)). * وأخبرني زائد بن سعد الدوسري (¬2) بقوله: كنت مارّاً بسيارتي، فمررت بعبد الرحمن رحمه الله وهو أمام باب بيته، يريد أن يذهب إلى ¬

(¬1) سورة القصص، الآية: 10. (¬2) وقد توفي زائد رحمه الله في حادث مروري في أول شهر رجب عام 1423هـ‍.

الصلاة، فسلّمت عليه، وكنت أستمع إلى شريط أغنية في سيارتي، فرد عليَّ السلام ونصحني بقوله: ((الغناء حرام لا يجوز سماعه وأنت في شهر عظيم)). قال الأخ زائد: وكان ذلك في رمضان قبل وفاة عبد الرحمن - رحمه الله - بيومين، وقد تركت الغناء بسبب نصيحة عبد الرحمن، وإذا ملتُ إلى الغناء أخذت شريط أمراض القلوب واستمعت إليه. * كان الابن عبد الرحمن - رحمه الله - قد رأى رجلاً من المصلين ضرب ولده على وجهه، وكان رجلاً صالحاً، فقال له الابن عبد الرحمن: لا يجوز الضرب على الوجه، فما كان من هذا الرجل إلا أن قال لعبد الرحمن: جزاك الله خيراً، وقبَّل رأس عبد الرحمن، وكنت حاضراً شاهداً. * كان بعض المشايخ يشرح حديث التشهد، فقال الشيخ: ((والسلام علينا وعلى عباد الله الصالحين))، فردّ عليه الابن عبد الرحمن فقال: ((السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين)) ليس فيها واو، فقبَّل هذا الشيخ يد الابن عبد الرحمن ودعا له، ولم يخطئ الشيخ مرة أخرى في إضافة الواو. * كان الابن عبد الرحمن - رحمه الله - يدرِّس في الجامع في تحفيظ القرآن، فرأى كثيراً من طلاب التحفيظ يسبلون الثياب، فأفزعه ذلك، وطلب من مدير المدرسة الشيخ خالد البلادي - حفظه الله - أن ينصح الطلاب عن طريق المكبرات في الجامع، ويحذّرهم من الإسبال، وخاصة لأنهم يتعلمون القرآن الكريم، فأخذ الشيخ خالد المكبّر وحذّرهم من الإسبال، أخبرني بذلك الشيخ خالد البلادي، والأخ هانئ بن نايف الربيعي.

* أخبرني الأخ عبد الله بن علي بن عبد الله القرني أنه طلب من الابن عبد الرحمن رحمه الله أن يكتب له موعظة قصيرة يعظ فيها زملاء الأخ عبد الله غير المستقيمين في الثانوية وفي غيرها، قال الأخ عبد الله: ((فوافق عبد الرحمن رحمه الله إلا أنه كان مشغولاً، ثم ذكَّرته مرات))، فقال عبد الرحمن رحمه الله: ((سأكتبها إن شاء الله، ولكن لا أستطيع أن أطبعها على جهاز الكمبيوتر لأني مشغول، ولكني سأعطيها عبد الرحيم يطبعها لك)). قال الأخ عبد الله: ((فكتبها عبد الرحمن رحمه الله بخطّ يده ثم سلَّمها لشقيقه عبد الرحيم رحمه الله، فطبعها عبد الرحيم رحمه الله على الكمبيوتر ثم سلّمها لي، وهذا نصّها: ((بسم الله الرحمن الرحيم ** أخي الحبيب، حاول أن تجيب على هذه الأسئلة بكل صراحة؟ س/ كم مضى من عمرك؟ وهل الباقي من عمرك أكثر أم أقل؟ وحاول أن تحسب عمرك بالساعات والدقائق حسب المعادلة الآتية: العمر بالسنوات ×360= (العمر بالأيام) × 24 = (العمر بالساعات). س/ ماذا فعلت في هذه الساعات الماضية من عمرك؟ وهل أنت مستعد للقاء الله بهذه الأعمال؟؟)).

سادسا: أخلاقه العظيمة رحمه الله تعالى:

سادساً: أخلاقه العظيمة رحمه الله تعالى: * كان الابن عبد الرحمن - رحمه الله - لا يقهقه إذا ضحك، وإنما يبتسم ابتساماً بدون قهقهة مدة حياته - رحمه الله -. * كان رحمه الله بارّاً بوالديه لا يعصي لهما أمراً، وكان يخفض جناحه لأمه كثيراً، ويكرمها أكرمه الله بالفردوس الأعلى من الجنة في أعلى منازل الشهداء، وكان إذا نادته أمه أو ناداه أبوه أجاب بقوله: ((لبيك))، وإذا ذهب إلى المدرسة أو الكلية طلب من أمه الدعاء، فإذا دعت له قال أحياناً: هل هذا الدعاء من قلبك؟ ثم يُقبّل رأسها أحياناً إذا ذهب، وإذا رجع من الدراسة، وإذا كنت في مكتبتي الخاصة دخل عليّ وسلّم ثم مدّ يده للمصافحة، وربما قبل رأسي أحياناً. * كان الابن عبد الرحمن سليم الصدر، فلا يحمل الحسد، ولا البغضاء لأحد من الناس، ومن أبرز الأمثلة على ذلك أنه كان يرسل لزميله في الصف الثالث الثانوي محمد حسان بشور بعض الفوائد، ويرسل له محمد عن طريق الناسوخ بعض الفوائد كذلك، ومحمد حسان هذا هو الذي ينافسه على الترتيب الأول في الصف الثالث ثانوي، فشكرتهما على ذلك الخلق الكريم. * كان رحمه الله يبغض الغيبة، ولا ينقل النميمة، وقد قال في مقابلة أجرتها معه ثانوية أبي عمرو البصري لتحفيظ القرآن الكريم حينما وُجِّه له أسئلة منها: ((كلمة عتاب توجهها لصديق؟))، فقال: ((أولئك

الأصدقاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم، أنصحهم أن يبتعدوا عن ذلك)). * وكان رحمه الله يهتمّ بأمور المسلمين ويرحمهم، وكان يؤلمه ما يحصل للإخوة في فلسطين، والشيشان، وغيرهما من بلدان المسلمين، وقد كان يستمع الأخبار في المذياع من إذاعة القرآن الكريم، وقد قال في المقابلة التي أجرتها معه ثانوية أبي عمرو لتحفيظ القرآن الكريم حينما وُجِّه له أسئلة منها: ((موقف معبِّر أثَّر في حياتك؟))، فقال: ((الحملة الروسية اللعينة على جمهورية الشيشان!)). * كان الابن عبد الرحمن - رحمه الله تعالى - في المجالس الخاصة والعامّة التي يحضرها لا يتكلّم إلا بخير أو يصمت، ولا يثرثر، بل يلزم السكوت، وإذا أعجبه شيء تبسَّم، وإذا سُئل عن شيء أجاب بهدوءٍ وأدب. * كان إذا سار في طريقه إلى المسجد لا ينظر يمنة ولا يسرة، فلا ينظر في المارِّين ولا في السيارات العابرة، وإنما كان ينظر أمامهُ، ويمضي في سيره، وقد أخبرني الشيخ سالم بن عامر الشهري مؤذِّن مسجد عمر بن عبد العزيز بإسكان أفراد القوات المسلحة، أنه كان يمرُّ على سيارته في الطريق العام، ويرى عبد الرحمن - رحمه الله - يسير إلى الجامع فيحبّ أن يسلّم على عبد الرحمن - رحمه الله - مع الإشارة باليد، ولكن يقول: إن عبد الرحمن - رحمه الله - سائر في طريقه لا ينظر يمنةً ولا يسرةً، لا إلى سيارات ولا إلى غيرها، وهكذا أخبرني الشيخ سالم بن علي الخشرمي

الشهري إمام مسجد خالد بن الوليد بإسكان أفراد القوات المسلحة، يقول: ((إذا مررت مع الشارع العام على سيارتي ورأيت عبد الرحمن في طريقه إلى الجامع، فأريد السلام عليه مع الإشارة؛ لأنه لا يسمعني، ولكنه لا ينظر إليّ، ولا إلى أحد من المارّين، وإنما يمشي وينظر أمامه!)). * وكذلك إذا كان داخل المسجد لا ينظر يمنة ولا يسرة، ولا يكثر الالتفات، بل يؤذن، ثم يصلي تحية المسجد، ثم يقرأ القرآن يراجعه. * كان عبد الرحمن - رحمه الله - يصلي الرواتب كاملة: أربعاً قبل الظهر، وركعتين بعدها، ويصلي أربعاً قبل العصر نافلة، ويصلي ركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وكان يحافظ على صلاة الوتر، وركعتين قبل الفجر، وكنت أشاهده يخشع في صلاته ولله الحمد، وقد أخبرني الشيخ حسن بن شريف المشيخي أنه شاهد عبد الرحمن - رحمه الله - يبكي في دعاء القنوت في رمضان خلف الشيخ خلوفة بن محمد الشهري القاضي بمحكمة الطائف الآن، وقد كان الشيخ خلوفة يُؤذِّن في جامع الفاروق، ويُصلِّي بالناس التراويح في غيابي، وكان عُمْرُ عبد الرحمن اثني عشر عاماً آنذاك تقريباً، فقد كان صغير السن، ومع ذلك يحصل له هذا الخشوع رحمه الله تعالى. * وكان رحمه الله يصوم مع رمضان ستّاً من شوال، ويصوم يوم عاشوراء مع يوم قبله ويوم بعده أو يصوم يوماً قبله، ويصوم تسعة أيام من العشر الأول من ذي الحجة.

* كان الابن عبد الرحمن - رحمه الله - يراجع القرآن كثيراً ولله الحمد، وقد أخبرني أنه يراجع كل يوم جزأين بين الأذان والإقامة للصلوات الخمس؛ لأنه كان يُؤذِّن في جامع الفاروق كما تقدم، أما قبل ذلك فكان يراجع على المدرسين تسميعاً، ويُسمِّع القرآن كاملاً في إجازة الصيف مرات عديدة، وشارك في مسابقات كثيرة، وفاز فيها، جعل الله ذلك كله في موازين حسناته. * كان - رحمه الله - يحافظ على أذكار الصباح بعد صلاة الفجر، وأذكار المساء بعد صلاة المغرب، وخاصة: سيد الاستغفار، وآية الكرسي، والمعوذات الثلاث، ثلاث مرات، و ((بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم)) ثلاث مرات، وغير ذلك، كما يحافظ على أذكار أدبار الصلوات ولله الحمد والمنّة. * كان رحمه الله يحب الاطلاع والقراءة والاستماع لسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقد اشترى قصص الأنبياء من القرآن الكريم للشيخ حسن أيوب، وهو لا يزال في الصف السادس ابتدائي، وعمره تقريباً اثنا عشر عاماً، وقد كرّر استماع هذه الأشرطة أكثر من مرة، وكانت تشتمل على قصة عشرين نبيّاً في عشرين شريطاً، وقد طلب مني أن اشتري له كتاب الشجرة النبوية في سيرة خير البرية - صلى الله عليه وسلم -، لابن عبد الهادي المقدسي (ابن المبرّد)، 840 - 909هـ‍، فلم يدخل هذا الكتاب مكتبتي لولا الله ثم الابن عبد الرحمن رحمه الله تعالى، وقد اشترى قبل موته بشهر أو شهرين كتاب: استجلاب ارتقاء الغرف بحبِّ

أقرباء الرسول - صلى الله عليه وسلم - وذوي الشرف، للحافظ محمد بن عبد الرحمن السخاوي [831 - 902هـ‍] بتحقيق ودراسة خالد بن أحمد الصمِّي بابطين. * وقد أخبرني الأخ هانئ بن نايف الربيعي أنه استمع لعبد الرحمن رحمه الله وهو يشرح لطلاب حلقته التي يُدرِّسُ فيها القرآن الكريم سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأسلوب جميل مفيد. * كان الابن عبد الرحمن - رحمه الله - يتضرع إلى الله ويدعوه، ومن ذلك أني كنت أشاهده يدعو بين الأذان والإقامة أحياناً بعد أن يصلي السنة الراتبة ويرفع كفيه، وكان في كل ليلة من العشر الأواخر من رمضان من كل سنة، قبل الفجر بساعة أو ساعتين، يأخذ كتاب الدعاء من الكتاب والسنة ويرفع كفيه ويستقبل القبلة، ويدعو حتى ينهي هذا الكتاب من أوله إلى آخره، وقد أخبرني الابن عبد العزيز أن عبد الرحمن دعا بكل ما في هذا الكتاب مرتين يوم عرفة حينما حج - رحمه الله - سنة 1420هـ‍، وقد كان مرافقاً لي مع التوعية الإسلامية في الحج في ذلك العام المذكور، وكان قد تولَّى الأذان في مركز التوعية الإسلامية رقم 7 يوم التروية وأيام التشريق، وطلب مني ألا نتعجل بالسفر إلى الرياض، فتأخرنا إلى اليوم الرابع عشر، لرغبته - رحمه الله - وأخيه عبد العزيز. * كان الابن عبد الرحمن - رحمه الله - كريماً في غير إسراف ولا مخيلة، يظهر ذلك في إكرامه لإخوته، وأمه، وكذلك لزملائه، وقد كان بعض الأهل يقول له في ذلك، ويأمره بالاقتصاد، فكان يردُّ عليهم بقوله:

((الدنيا فانية)). * كان يساعدني رحمه الله، ومن ذلك أنه في صغره وهو يدرس في الصف الثالث المتوسط، وعمره خمسة عشر عاماً، ساعدني في كتابة كثير من مراجع رسالة الدكتوراه، وكان ذلك بالتعاون أيضاً مع الابن عبد العزيز، وذلك عام 1418هـ‍. * كان الابن عبد الرحمن - رحمه الله - فصيح اللسان، قد أعطاه الله - عز وجل - الفصاحة في الكلام والقراءة، حتى إن من سمعه يقرأ يعجب من فصاحته وسليقته العربية، وقد كان يُحضر لي أي حديث أطلب إحضاره من فهارس كتب السنة؛ لذكائه وفطنته - رحمه الله تعالى - وقد كان من أسباب ذلك - بعد توفيق الله تعالى - عنايته باللغة العربية التي يدرسها في المدرسة، ومن أمثلة ذلك أنه عندما حصل على شهادة الصف السادس الابتدائي احتفظ بقواعد اللغة العربية للصف الرابع، والخامس، والسادس، وجعلها في رفٍّ من أرفف مكتبتي الخاصة، فسألته عن ذلك؟ فأجاب: لكي أراجعها، ثم راجعها وأبقاها في موضعها رحمه الله تعالى. * وقد أجرت معه مدرسة ثانوية أبي عمرو البصري لتحفيظ القرآن الكريم مقابلة عام 1421هـ‍تقريباً هذا نصها: الاسم؟ عبد الرحمن بن سعيد بن علي القحطاني. الصف الدراسي: ثانوي ثانوي / أ.

جدولك اليومي؟ - الاستيقاظ لصلاة الفجر، ومن ثم أرجع للبيت، وأرتّب أمور المدرسة. - الذهاب للمدرسة. - الرجوع للمنزل، وتناول الغداء، ثم النوم قليلاً. - صلاة العصر، ثم مراجعة ما تيسّر من القرآن. - بعد المراجعة قراءة بعض الكتب. - صلاة المغرب، ثم المذاكرة، وحل الواجبات إن وجدت. - صلاة العِشاء، ثم العَشاء وسماع بعض البرامج [مثل برنامج نور على الدرب، والأخبار من إذاعة القرآن الكريم، واستماع قراءة القرآن من الإذاعة، وبعض الخطب]. موقف معبِّر أثَّر في حياتك؟: الحملة الروسية اللعينة على جمهورية الشيشان. رأيك في النشاط غير المنهجي؟: ممتاز بدرجة أولى، ولابد منه والاهتمام به مثل الاهتمام بالحصص الدراسية [يعني رحمه الله العناية بالقراءة في الكتب، والرسائل النافعة غير المواد الدراسية]. كلمة شكر تهديها لعزيز؟: أشكر وزارة المعارف؛ لما يبذلونه من جهد ومن ذلك تطوير الكتب الدراسية، حتى إن شكل الكتاب وتنسيقه وطباعته تفتح نفس الطالب للمذاكرة.

كلمة عتاب توجهها لصديق؟: ((أولئك الأصدقاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم، أنصحهم بأن يبتعدوا عن ذلك)). * لا أعرف أحداً من عباد الله المؤمنين عرف عبد الرحمن إلا أحبَّه في الله تعالى، وقد تأثّر جميع السكان الذين سمعوا أذانه في صلاة الجمعة والصلوات الأخرى وقراءته؛ حتى بعض العمال انصرفت نفسه عن الطعام أياماً لفراق عبد الرحمن وأذانه، وقراءته، وكان هؤلاء السكان يقول لي بعضهم: يا شيخ سعيد لا تظن أنك فقدت عبد الرحمن وحدك؟ بل كلنا فقدناه! كان ذكيّاً، ومن ذلك معرفته بمواقع الكتب في مكتبتي الخاصة، حيث لم تكن مرتبة، فإذا فقدت كتاباً ناديت عبد الرحمن، وطلبت إحضاره، فيبحث عنه فوراً ويخرجه جزاه الله عني خيراً وأسكنه الفردوس الأعلى في أعلى منازل الشهداء، ومن الأمثلة على ذكائه - رحمه الله - أنه عندما وُلد شقيقه عبد الرحيم - رحمه الله - قال عبد الرحمن - وعمره آنذاك ست سنوات - قال: {بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيم} ثم سكت وفكَّر، ثم قال: {الرَّحْمنِ} أنا عبد الرحمن، و {الرَّحِيمِ} هذا سمُّوه عبد الرحيم، فسميته عبد الرحيم لهذا السبب. ومما يدل على ذكائه - رحمه الله - أنه كان في صغره قبل أن يحفظ القرآن بعد أن سجّل في السنة الأولى ابتدائي يعدّ سور القرآن عدّاً وسرداً، فيقول: سورة الفاتحة، البقرة، آل عمران، النساء، المائدة .... إلى

أن يصل سورة الناس، فيعدّ مائة وأربع عشرة سورة بدون توقف! * وكان يحب أن تكون كتبه منفردة عن مكتبتي، فاختار لها مكاناً صغيراً في زاوية مكتبتي، وكان يجمع كتبه فيها. وكان قبل موته - رحمه الله - إذا رأى كتاباً جديداً ألفته ثم نشر قال: ((هذا ولد جديد)). * كان يستيقظ وقت الاختبارات في ثالث ثانوي وفي السنة الأولى في كلية الشريعة قبل الفجر بساعتين أو ساعة، ثم يتوضأ ويذهب إلى الجامع ويصلي ما تيسَّر، ثم يذاكر ويراجع، فإذا نادى بالأذان صلى ركعتي الفجر، ثم يقرأ القرآن. * وُجد عنده أشرطة محاضرات علمية في سيارته أثناء الحادث وفي أمتعته، وكان عددها مائة شريط، وكلها نافعة جداً، ووجد مجموعة من المصاحف المسجل عليها القرآن كاملاً لعدة قرّاء، كما وجد في سيارته أثناء الحادث شريط قرع أبواب السماء للشيخ بدر بن نادر المشاري، ونشرة عن التوبة قبل الممات، ونشرات مفيدة أخرى رحمه الله تعالى، وجعل هذا الحادث شهادة له ولشقيقه عبد الرحيم ينالان بها أعلى منازل الشهداء. كما أسأل الله تعالى أن يجزي كل من علَّمه خيراً، وأن يجمعنا وإياه وإياهم وشقيقه عبد الرحيم في الفردوس الأعلى في أعلى منازل الشهداء مع الأنبياء والصديقين والشهداء.

سابعا: وفاته مع شقيقه وسيرة عبد الرحيم رحمهما الله

سابعاً: وفاته مع شقيقه وسيرة عبد الرحيم رحمهما الله: توفي رحمه الله تعالى عن عمر يبلغ 18 ثماني عشرة سنة وتسعة أشهر، بعد إمامته للناس، في صلاة العشاء والتراويح، في مسجد الزبير بن العوام - رضي الله عنه -، بإسكان طريق الخرج ليلة الأحد السابع عشر من رمضان عام 1422هـ‍، مرّ على حيِّ العزيزية لقضاء بعض الأغراض، ثم رجع؛ لِيُدْرِكَ حلقته التي يُدَرِّسُ فيها القرآن الكريم للطلاب في مسجده الذي يؤذّن فيه [جامع الفاروق بإسكان أفراد القوات المسلحة بطريق الخرج]، وفي طريقه إلى طلابه الذين يعلّمهم القرآن قدَّر الله الرحيم، الحكيم، العليم، أن يحصل له حادث مروري، وكان بصحبته شقيقه عبد الرحيم الذي وُلد في اليوم السادس عشر من ربيع الأول عام 1410هـ‍، وكان قد صلَّى خلف شقيقه عبد الرحمن صلاة العشاء والتراويح في الليلة نفسها، وكان عبد الرحيم رحمه الله، قد نشأ على ما نشأ عليه أخوه عبد الرحمن - رحمه الله - من التوحيد، وطاعة الله ورسوله، والتأدّب بآداب الإسلام، ولله الحمد والمنّة، وقد درس الابن عبد الرحيم - رحمه الله - في السنة التمهيدية عام 1415هـ‍، وعمره خمس سنوات، ودخل حلقات تحفيظ القرآن الكريم في جامع أفراد القوات المسلحة، ثم دخل في المدرسة الابتدائية [مدرسة الإمام حمزة لتحفيظ القرآن الكريم] في حي الغبيراء بمدينة الرياض في بداية العام الدراسي 1416هـ‍، وتخرّج منها عام 1422هـ‍، وكان يدرس في الفترة الصباحية في المدرسة، وفي الفترة

المسائية بعد العصر في حلقات تحفيظ القرآن الكريم في جامع الفاروق المذكور، على الشيخ: حافظ قاري غلام محمد بن فيض الله - جزاه الله خيراً -. ثم دخل المتوسطة الثانية لتحفيظ القرآن الكريم بمدينة الرياض، وذلك في 13 من جمادى الثاني عام 1422هـ‍، فدرس بها بقية جمادى، ورجب، وشعبان، وستة عشر يوماً من رمضان رحمه الله رحمة واسعة. وكان الابن عبد الرحيم رحمه الله يحفظ من القرآن سبعة عشر جزءاً: من سورة الرعد إلى سورة الناس، ولله الحمد والمنة، وقد راجع هذه الأجزاء مرات كثيرة جداً على شيخه المذكور، وعلى الشيخ زمراوي محمد خيري، والشيخ سخاوة حسين، والشيخ مأمون الرشيد - جزاهم الله خيراً -. وكان الابن عبد الرحيم رحمه الله يحب أن يرافقني، وقد كان يحضر معي الدروس عند سماحة شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز - رحمه الله - ليلة الإثنين وفجر الخميس وليلة الجمعة في الجامع الكبير من كل أسبوع، وذلك في آخر حياة شيخنا - رحمه الله - عام 1418، 1419هـ‍. وكان الابن عبد الرحيم - رحمه الله - يحضر دروسي في جامع الفاروق حتى توفي رحمه الله. وكان الابن عبد الرحيم رحمه الله طائعاً لوالديه، ويرحم أمه كثيراً، ويُحسن إليها، أحسن الله إليه وأنزله الفردوس الأعلى في أعلى منازل الشهداء، وقد أخبرتني والدته - ربط الله على قلبها؛ {لِتَكُونَ مِنَ

الْمُؤْمِنِينَ} (¬1): أن عبد الرحيم إذا رجع إليها من المدرسة يعطيها أحياناً بعض الحلوى هديةً لها؛ لحبه لها جمعه الله وإيَّاها وشقيقه وإيَّايَ ووالدينا وجميع المؤمنين الصادقين المخلصين في الفردوس الأعلى في أعلى منازل الشهداء مع النبيين والصديقين والشهداء. وكان الابن عبد الرحيم كريماً يكرم أمه، وإخوانه، وأخواته من المال الذي أعطيه من أجل الانتفاع به أثناء المدرسة، وأخبرني الشيخ زمراوي محمد خيري أن عبد الرحيم كان يكرمهم بعد انتهاء الدراسة في التحفيظ ببعض العصيرات، ووصفه بالكرم فقال: ((كان عبد الرحيم كريماً رحمه الله)). وكان الابن عبد الرحيم لا يقهقه؛ بل كان يبتسم في وجه كل من قابله، وقد أخبرني بعض الأساتذة في مدرسة الإمام حمزة لتحفيظ القرآن الكريم أن عبد الرحيم وأخاه عبد السلام يبتسمان كثيراً، وقال: قد سمَّيناهما: ((المبتسمان))!. وكان الابن عبد الرحيم قد أخذ زاوية صغيرة من مكتبتي الخاصة، وكلما ألّفت كتاباً أخذ نسخة وجعلها في هذه الزاوية، ومات - رحمه الله - ومؤلفاتي في مكتبته الصغيرة التي تتكون من رفٍّ واحد؛ لحبه للاطلاع على كتبي خاصة، غفر الله له، وجمعنا وإياه في الفردوس الأعلى في أعلى منازل الشهداء مع النبيين والصديقين والشهداء. ¬

(¬1) سورة القصص، الآية: 10.

وكان الابن عبد الرحيم يصوم رمضان منذ السنة السادسة من عمره، ويتبعه ستّاً من شوال، ويصوم يوم عاشوراء ويوماً قبله وربما صام يوماً قبله ويوماً بعده، وكان يصوم مع شقيقه عبد الرحمن - رحمه الله - تسعة أيام من عشر ذي الحجة، وكان يحافظ على السنن الرواتب وصلاة الوتر. وكان الابن عبد الرحيم - رحمه الله - في العشر الأواخر من رمضان من كل عام يأخذ كتاب الدعاء من الكتاب والسنة قبل الفجر بساعة أو ساعتين من كل ليلة، ويستقبل القبلة، ويرفع كفيه، ويدعو حتى ينهي الكتاب من أوله إلى آخره، رحمه الله تعالى. وأخبرني الشيخ حافظ قاري غلام محمد فيض الله الذي كان يُحفِّظ الابن عبد الرحيم القرآن الكريم، وكان مع ذلك يذهب بالابن على سيارته إلى المدرسة أيضاً، قال: كنت واقفاً عند الإشارة المرورية يوماً وعبد الرحيم - رحمه الله - معي في السيارة، فرأى رجلاً يشرب الدخان ففتح عبد الرحيم - رحمه الله - زجاج السيارة وقال: ((الدخان حرام)) أي ينصح شارب الدخان. وأخبرني الأخ أيمن بن عبد الله العاصمي أنه كان يوم جمعةٍ في الجامع، وعبد الرحيم رحمه الله بجانبه، وكل منهما يقرأ سورة الكهف، وبعد أن أنهيا سورة الكهف تكلّم الأخ أيمن مع الابن عبد الرحيم، قال أيمن: فقال عبد الرحيم رحمه الله: ((لم يبق من خروج الخطيب إلا خمس دقائق، دعنا نستغلّها في التسبيح حتى يخرج علينا الخطيب))، قال الأخ

أيمن: ((فسبح عبد الرحيم، وسبّحت حتى خرج الخطيب)). وأخبرتني والدة عبد الرحيم - رحمه الله - وجمع بينها وبينه في الفردوس الأعلى في أعلى منازل الشهداء، فقالت: إن عبد الرحيم يوم الخميس الموافق ثلاثة عشر من رمضان قبل أن يُتوفَّى بثلاثة أيام آلمته أسنانه، فلم يستطع أن ينام، فجاءت إليه والدته بحبوب مهدئة للآلام وماءٍ، فطلبت منه أن يفطر؛ لأنها تعتقد أنه غير مُكلَّفٍ؛ حيث يبلغ من العمر اثنتي عشرة سنة ونصفاً فقط؛ ولرحمتها له؛ لأنه لم ينم من الألم الشديد في ضرسه، ولكنه امتنع ولم يفطر، فقال له شقيقه عبد الرحمن - رحمه الله -: لا تفطر يا عبد الرحيم، فقال عبد الرحيم - رحمه الله -: ((تُعلِّمني؟)) أي أنا لا أفطر. وقد سَمِعَ مني الابن عبد الرحيم رحمه الله ثلاثة الأصول للإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -، وحفظ أهم ما فيها، وسمع الدروس المهمة لعامة الأمة مرتين وحفظ أهم ما فيها؛ لكنه لم يكمل المرة الثانية؛ لموته رحمه الله. وكنت إذا سألته عن شروط لا إله إلا الله أجاب بالأبيات التي نظمها الشيخ حافظ الحكمي - رحمه الله - فإذا قلت: يا عبد الرحيم كم شروط لا إله إلا الله وما عددها؟ فيقول رحمه الله: ثمانية: العلم، واليقين، والقبول ... والانقياد فادرِ ما أقول والصدق، والإخلاص، والمحبة ... وفقك الله لِمَا أحبه

ثم يقول: والكفر بما يُعْبَد من دون الله. وقد أخبرني الابن عبد الله، وعبد السلام، وعبد الرزاق أن الابن عبد الرحيم - رحمه الله - كان يردّد هذه الأبيات قبل موته فيقول: إنما الدنيا فناء ... ليس للدنيا ثبوت إنما الدنيا كبحرٍ ... يحتوي سمكاً وحوت ولقد يكفيك منها ... أيها الطالب قوت فاغتنم وقتك فيها ... قبل ما فيها يموت إنما الدنيا كبيت ... نسجته العنكبوت رحمه الله ورفع منزلته وجمعنا وإياه وشقيقه في الفردوس الأعلى في أعلى منازل الشهداء؛ فإن هذا الاجتماع الذي لا فراق بعده. ولم يكن للابن عبد الرحيم رحمه الله ما لشقيقه عبد الرحمن من المواقف والمناقب؛ لأن الابن عبد الرحيم صغير السن، فقد كان عمره اثنتي عشرة سنة وستة أشهر تماماً بلا زيادة ولا نقص، بينما عمر عبد الرحمن رحمه الله ثمانية عشر عاماً وتسعة أشهر وتسعة عشر يوماً بلا زيادة ولا نقص. وكان عبد الرحيم رحمه الله يَدْرُسُ في التحفيظ في نفس الجامع الذي يُدَرِّسُ فيه شقيقه، ولكنه عند مُدَرِّسٍ آخر، وقد توفي عبد الرحمن وعبد الرحيم في ساعة الحادث المذكور، وهما في طريقهما إلى حلقات

القرآن الكريم: الابن عبد الرحمن؛ ليعلّم في حلقة الإمام الذهبي، وعبد الرحيم يتعلّم في حلقة الإمام ابن ماجه، رحمهما الله. وقد صلَّى عليهما جمع كبير من الناس بعد صلاة الظهر يوم الأحد السابع عشر من رمضان سنة 1422هـ‍، في جامع الراجحي بالربوة بمدينة الرياض، وكان دفنهما بمقبرة النسيم، رحمهما الله تعالى. أسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، الرؤوف، الرحيم، الكريم، المنّان، أن يُدخلهما الفردوس، ويجعل هذا الحادث شهادة لهما، وأن يبلّغهما أعلى منازل الشهداء؛ فإنه - سبحانه وتعالى - على كل شيء قدير، وهو ذو الجود والإحسان، والفضل والامتنان، لا يُسأل عما يفعل تبارك وتعالى. كما أسأله بوجهه الكريم أن يجمع بينهما وبين والديهما في ذاك المكان العظيم؛ فإن هذا هو الاجتماع الذي فراق بعده. والحمد لله على كل حال، وعلى قدره وقضائه، واختياره، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أبو عبد الرحمن سعيد بن علي بن وهف القحطاني حرر في يوم الخميس الموافق 26/ 10/1422هـ‍

ثامنا: ما قاله عنه: العلماء، ومعلموه، وزملاؤه:

ثامناً: ما قاله عنه: العلماء، ومعلموه، وزملاؤه: أ - ما قاله العلماء، وطلاب العلم وبعض الأساتذة: 1 - (1) الحمد لله على قدره وقضائه واختياره لعبده بقلم الشيخ العلامة: عبد الله بن صالح القصير. بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيم الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. أما بعد: فقد عرفت الأخ في الله عبد الرحمن بن سعيد بن علي بن وهف القحطاني - رحمه الله تعالى - من خلال حضوره لدروسي، وقراءته عليَّ في كتاب التوحيد، في دورة الدروس العلمية المقامة في مسجد جامع خادم الحرمين الشريفين في منطقة الباحة عام 1420هـ‍، وقد ظهر لي من الأخ عبد الرحمن رحمه الله تعالى: 1 - الحرص على طلب العلم الشرعي. 2 - التحلي بأخلاق طالب العلم. 3 - ينطبق عليه وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - لأحد الأصناف السبعة الذين يظلم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وشاب نشأ في عبادة الله)) (¬1). أحسبه كذلك ولا أزكي على الله أحداً. والحمد لله على قدره وقضائه واختياره لعبده، وأسأل الله تعالى أن ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 1423، ومسلم، برقم 1031.

يتغمده برحمته، وأن يجعله ذخراً لوالديه، وأن يعوضهما خيراً، والحمد لله أولاً وآخراً. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. وكتبه الفقير إلى عفو ربه القدير عبد الله بن صالح القصير

2 - (2) علو الهمة وصدق العزيمة

2 - (2) علوُّ الهمةِ وصِدقُ العزيمةِ بقلم الشيخ: عبد الله بن عبد العزيز بن إبراهيم الخضير الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد: فإن على كل مسلم أن يعلم - في ضوء الوحي - الغاية التي يريد بلوغها في هذه الحياة، وأن يسلك السبيل الموصلة إليها، ويأخذ بالأسباب المعينة على ذلك. ومن المعلوم أن الحكمة العظمى من خلق الثقلين هي عبادة الله - عز وجل - وحده على بصيرة، ولا سبيل إلى هذا إلا بالعلم النافع، فإنه الهدى الذي أرسل الله به نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم -: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (¬1)، فالهدى هو العلم النافع، ودين الحق هو العمل الصالح، وإدراك هذا يقتضي أن يعتني كل لبيب بتزكية نفسه تَزْكِيةً فِعْليَّة بتلقِّي العلم الموروث عن نبينا عليه الصلاة والسلام، والعمل بمقتضى هذا العلم، وأن يبادر ذلك في سن الشباب حيث تكون قدرته على الأمرين أقوى؛ ولأن الاشتغال بهما في هذا السن من أعظم أسباب الاستقامة والتثبيت، وأهم طرق الوقاية من الطيش والمزالق، وإن المسلم ليغتبط حين يرى عدداً من شباب المسلمين سلَّمهم الله من الوقوع فيما وقع فيه لداتهم، واشتغل به أترابهم من توافه الأمور، وأضاعوا فيه أفضل مراحل الأعمار، ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية 33.

فانصرفت تلك الثُّلة الموفقة إلى الاشتغال بالمعالي، والاجتهاد في تحصيل المكرمات مستعينة بالله تعالى، وناظرة إلى ما يؤول إليه هذا من حسن النتائج، ومحمود العواقب، غير ملتفتة إلى ما تدعو إليه النفس الأمّارة بالسوء، الحرُون عن الخير البطيئة عن فعله، وما تميل إليه من إيثار الراحة والركون إلى الدعة، واستثقال الجد والمثابرة، واستطالة طريق المجد المؤثَّل، ولا عابئة بما يعين النفس الضعيفة على صاحبها من الالتفات إلى اشتغال الناس بالمحقرات، وموافقة مشتهيات النفوس، ولا مكترثة بتخذيل المثبّطين، وثني المخذّلين، بل يحملها توفيق الله وعونه، ثم علوّ الهمة وصدق العزيمة على بذل الأوقات، واستسهال الصعاب، من أجل ما يرضاه الله ويحبه من الاشتغال بالعلم النافع والعمل الصالح، فهمّة هذه الثُّلة عمارة الوقت بمحبوبات الله - عز وجل - المتنوعة، مراعية في ذلك ترتيبها وفقاً لما جاء في الشرع من البداءة بالأهم قبل المهم، وتقديم الواجبات على المستحبات والمندوبات، والله المسؤول أن يأخذ بأيدي هذه الثلة، ويبلغهم مراداتهم الحسنة، ويصلح لنا ولهم المقاصد والنيات والأقوال والأعمال، وأن يوفق سائر شباب المسلمين ليحذوا حذوهم، ويسيروا في ركبهم ليجنوا ثمرات ذلك الحسنة حالاً ومآلاً عاجلاً وآجلاً. هذا وإن من نماذج تلك الثلة - فيما أحسب - الابن عبد الرحمن بن سعيد بن علي القحطاني - يرحمه الله - فقد كان له نصيب من علو الهمة وصدق العزيمة كانا له بعد توفيق الله - ذي الحول والطول، والإفضال والإنعام - عوناً على تحصيل عدد من محابّ الله ومراضيه، أولها بعد أداء

الفرائض حفظ القرآن الكريم وتعاهده ومراجعته، والالتحاق بمدارسه التي تعنى بتعليمه وعلومه، ثم تعليمه الآخرين، يلي ذلك العناية بالعلوم الشرعية الأخرى عن طريق القراءة على والده وعلى غيره، وحضور بعض حلق العلم، والانتظام بكلية الشريعة بالرياض إلى جانب الإسهام في نصح الآخرين وتوجيههم. اشتغل يرحمه الله بما حقَّه أن يكون شاغل كل شاب مسلم يقفو أثر السلف الصالح الذين تخرجوا في مدارس العلم الموروث عن رسول الله صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم، فأدرك طرفاً صالحاً حتى وافاه الأجل وهو في مضمار التنافس في محاب الله، وبقي له من الذكر والخبر ما يحفز نفوس الشباب على التشمير فيما نافس فيه، فإني أراه شاباً نشأ في طاعة الله - عز وجل -، وكان يقرأ عليَّ في القواعد الحسان لابن السعدي، ولئن كان آلمني خبر وفاته يرحمه الله، فقد سرّني ما عرفته عنه من أخبار في مجال الدعوة والمناصحة. وما المرء إلا حديث بعده ... فكن حديثاً حسناً لمن روى أسأل الله تعالى أن يتغمده برحمته، ويظله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وأن يبارك في إخوانه وفي سائر شباب المسلمين، وأن يجعلهم مفاتيح خير لأمة الإسلام، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. قاله الفقير إلى ربه عبد الله بن عبد العزيز بن إبراهيم الخضير

3 - (3) يا فتى الطهر طبت حيا وميتا

3 - (3) يا فتى الطُّهرِ طِبتَ حيّاً وميّتاً بقلم الشيخ: محمد بن أحمد الفراج أخي الكريم/ أبا عبد الرحمن: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، وبعد: سمعت كغيري نبأ وفاة ابنيك رحمهما ربهما، وآجرك فيهما، ولا أراك مكروهاً بقية عمرك المبارك، ولا فجعك في نفس وحبيب، وحضرت للعزاء كغيري، ولكن الشيء الذي بقي علمه مطويّاً عني هو هذا التميز الذي كان عليه فقيدك عبد الرحمن منذ صغره، قرأت الأسطر التي كتبتها في مقدمة كتابه، واستعرضت كتابه - رحمه الله - فأوجد لديّ شعوراً هائلاً ترجمت بعضه بهذه الأبيات: 1 - هل لِقَلبٍ مِنَ الهُمُومِ عميدِ ... يُسْعِف الفِكر في عَزاءِ سعيدِ 2 - في مُصَابِ الفتى الهُمام ويوفي ... حقَّ ذي العزم والبيانِ السَّديدِ 3 - يقفُ الشِّعرُ حائراً كلُّ بَحْرٍ ... يُعلِن العَجزَ عن رثاءِ الفقيدِ 4 - إنَّ عبدَ الرَّحمن بدرُ تمامٍ ... فجأةً غابَ عن سماءِ الوجودِ 5 - ودّع الصَّحبَ تاركاً كلَّ جَفنٍ ... يَتَلظَّى مِنْ حرقة التَّسهيدِ 6 - لوْعَةٌ في الُفؤادِ من وَحْشةِ البينِ ... وحُزنٌ ودمْعَةٌ في الخُدودِ 7 - ما دَرَى قَبْرهُ ولا دافِنُوهُ ... أيَّ شهمٍ قد غيَّبُوا في اللحودِ 8 - أيَّ نبلٍ قد ودَّعُوا وذَكاءٍ ... وكريمٍ مِنَ الخِصَال وَجُودِ 9 - وشبابٍ في الرَّوعِ حَامَتْ عليهِ ... حائِماتٌ أظفارُها من حديدِ 10 - ما لقلبي كقطعةٍ من جَليدٍ ... ولعَيني كصخرةِ الجلمودِ

11 - تقصِفُ الحادثاتُ شَرقاً وغَرباً ... وجَنُوباً وشَمالاً كالرُّعُودِ 12 - وأرَانا وكُلّنا في سُباتٍ ... وسُعارٍ على الدَّنايا شديدِ 13 - كلّ يومٍ نرى مُصاباً جديداً ... في حبيبٍ أو والدٍ أو وليدِ 14 - كم رسولٍ قد أرسلَ الموتَ فينا ... ونذيرٍ محذّرٍ وبريدِ 15 - والمنايا لنا بكلِّ طريقٍ ... راصِدات يرمقنَنَا من بعيدِ 16 - وأرانا على الرَّزايا مُكبِّين ... سُكارَى متاعِها المعبودِ 17 - يا فتىً فتَّ موته كلَّ قلبٍ ... إذ مُصاب التُّقاة قرحُ الكُبُودِ 18 - غيرُ مأسوفَة الزَّوالِ حياةٌ ... زلتَ عنها وعيشِها المَنْكُودِ 19 - ما رأينا من أهلها غيرَ لُؤم ... ونفاقِ مخادعٍ وكُنودِ 20 - يذهبُ الصَّالِحونَ عنها وتُبقي ... كلّ نذلٍ وفاجرٍ وبليدِ 21 - في قليلٍ من الصلاحِ عزيز ... في غريبٍ مِنَ الأنامِ شريدِ 22 - يا فتى الطّهر طِبتَ حيّاً ومَيْتاً ... وتسامَيْتَ في مَرَاقي الصُّعُودِ 23 - ناشئاً في عبادةِ الله ترجو ... مِنْحةَ الرّبّ في ظلالِ الوَدُودِ 24 - لكأنّي بالذِّكرِ صارَ أنيساً ... لك في القبرِ والكتابِ المجيدِ 25 - وكأنِّي أرى خيالَكَ طَيفاً ... مُشرقَ الوَجهِ في سَماءِ الخُلودِ 26 - وكأنّي بِكَ ازدَريتَ حياةَ ... الذُّلِّ والعيشَ في رباقِ العبيدِ 27 - فابتدَرتَ الهِلال لله تَعْدُو ... عَدْوَ صَبٍّ لم ينتظِرْ يومَ عِيدِ 28 - أيُّ عيدٍ يُسرُّ فيه ذليلٌ ... لصليبٍ وحفنةٍ من يهودِ 29 - شَرِبوا الذُّلَّ باليدين ونامُوا ... ملء جفنٍ وكلبُهم بالوَصِيدِ

30 - باسِطٌ فوقهم ذِراعيهِ قَهْراً ... غاصبٌ منهم ديارَ الجُدودِ 31 - عائِثٌ في البلادِ قتلاً وأسراً ... محكمٌ قبضةَ العدوّ اللدودِ 32 - فلِهَذا وغيرِهِ وكثير ... يا فتى قد مَلَلْتَ عيش الرّقودِ 33 - فإلى الله والجِنَان وحورٍ ... وقُصُور وظلّها الممدودِ 34 - في رياضٍ من النَّعيم فِساح ... وشُهودٍ من الإلهِ مزيدِ 35 - وجِوَار من النبيين طُوبَى ... لجوارِ الكليم مُوسى وهُودِ 36 - وجِوار النَّبيِّ والصَّحب سَعدٍ ... وعليّ وعامرٍ وسعيدِ أخوك الوادُّ محمد بن أحمد الفراج

4 - (4) أنتم شهداء الله في الأرض

4 - (4) أنتم شهداء الله في الأرض بقلم الشيخ سعيد بن فيصل بن شائع القحطاني الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير؛ محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام، أما بعد: فهذه كلمة مختصرة في بعض ما أعرفه عن الشاب الصالح: عبد الرحمن بن سعيد بن علي بن وهف - رحمه الله، ورفع درجته في عليين، وجعله وأخاه عبد الرحيم في جنات ونهر في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر -. وجعل والديه ممن قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} (¬1)، وممن قال الله فيهم: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا} (¬2). فإن عبد الرحمن عرفته منذ زمن، ورأيت فيه خصالاً عظيمة لم أرها في كثير من شباب هذا العصر. منها أنني كلما زرت والده وجدت عبد الرحمن - رحمه الله - إما في المسجد في حلقة القرآن الكريم، أو في المسجد يراجع حفظه، أو يُدرِّس في المسجد لكتاب الله تعالى، أو ذاهباً إلى المسجد؛ ليؤذن للصلاة، وما رأيته في السفر إلا حاجّاً أو معتمراً مع والده، وما سألت عنه إلا جاءني الخبر بأن عبد الرحمن في حلقة علم، أو دورة علمية مع والده في ¬

(¬1) سورة الطور، الآية: 21. (¬2) سورة الفرقان، الآية: 75

الإجازات الصيفية، يلازم والده في الدروس والمحاضرات، فكان يسرني ذلك كثيراً، وكان أملي في الله عظيماً أن يكون عبد الرحمن ممن قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة المتفق على صحته: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله))، وذكر منهم: ((شاب نشأ في عبادة الله تعالى)) (¬1). الحديث، وممن قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الطويل الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وفيه: ((ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنة)) (¬2) الحديث. وكأنه يتمثل قول القائل: دع التّكاسُل في الخيرات تطلبها ... فليس يسعدُ بالخيرات كسلانُ ومنها أنه كان ذا خُلقٍ حسن رحمه الله، وأملي في الله عظيمٌ أن يكون ممن قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن من أحبّكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً)) (¬3). وممن قال فيهم - صلى الله عليه وسلم -: ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)) (¬4). ومنها أنني لم أره يوماً من الأيام يميل إلى ما يميل إليه الصبيان من اللعب، فما رأيته يلعب مطلقاً رحمه الله. ¬

(¬1) متفق عليه، وتقدم تخريجه. (¬2) أخرجه مسلم، برقم 2699. (¬3) أخرجه الإمام أحمد، برقم 6735، الترمذي، برقم 2018، وابن حبان، برقم 485، وحسنه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 791. (¬4) أخرجه الترمذي، برقم 1162)، وقال: حسن صحيح، وابن حبان، برقم 4176)، والبيهقي فى شعب الإيمان، 1/ 61، وقال عنه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 284: ((حسن صحيح)).

5 - (5) صاحب الروح الطيبة والسيرة العطرة

ومنها أنني ما سمعت أحداً ذكره صغيراً أو كبيراً، ذكراً أو أنثى إلا أثنى عليه خيراً: حيّاً وميتاً - رحمه الله -. ومنها أنه كان من خلقه الحياء، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الحياء لا يأتي إلا بخير)) (¬1). ولمسلم: ((الحياء خير كله)) (¬2). فنصيحتي لإخواني الشباب الرجوع إلى الله، والاستفادة من كتاب عبد الرحمن، ومن أخلاقه وسيرته - رحمه الله - قبل أن يأتي أحدهم الموت وهو على غير طاعة الله تعالى. فبادر مادام في العمر فسحةٌ ... وعَدلك مقبول وصرفك قيم وجد وسارع واغتنم زمن الصِّبا ... ففي زمن الإمكان تسعى وتغنمُ أسأل الله أن يغفر لعبد الرحمن وأخيه، وأن يجعلهما من السعداء ويجمعنا وإياهما ووالديهما في أعلى عليين، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. قاله كاتبه: سعيد بن فيصل بن شايع القحطاني مدرسة الإمام مسلم الثانوية لتحفيظ القرآن الكريم بالحرس الوطني في26/ 1/1423هـ‍ 5 - (5) صاحب الروح الطيبة والسيرة العطرة بقلم د. سعد بن علي بن وهف القحطاني ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 6117، ومسلم، برقم 37. (¬2) صحيح مسلم، برقم 37.

الأستاذ بجامعة الملك سعود إلى أخي الودود أبي عبد الرحمن: وفقه الله، وربط على قلبه، وبرد حرارة مصيبته، وكسانا وإياه حلل الكرامة يوم القيامة. أخي ... حسبك مما فقدت من ثمرات الأفئدة ما أعده الله لك ولأمثالك في بيت الحمد في الجنة إن شاء الله تعالى. وحسبك أيضاً أنهما هجرا ضنك الدنيا إلى جنة عرضها السموات والأرض إن شاء الله تعالى. فإلى جنة الخلد يا عبد الرحمن إن شاء الله تعالى، صاحب الروح الطيبة، والسيرة العطرة، والمواهب المتعددة، التي كانت سرّاً كامناً لم يكتشفها الناس إلا بعد رحيلك، وهذا هو حال العظماء من الرجال، لا تعرف مكانتهم إلا بعد أن يشعر الناس بالفراغ الذي تركه رحيلهم، ولئن كنا اليوم نبكي موتك فسنظلّ نذكر الأثر الطيّب الذي تركته في نفوسنا، حتى يجمع الله بيننا وبينك في الجنة إن شاء الله تعالى، وعزاؤنا فيك أنك متّ عزيزاً، شهماً. أطاب النفس أنك مت موتاً ... تمنته البواقي والخوالي رحلت ولم تر يوماً كريهاً ... تسرُّ النفسُ فيه بالزوال وإلى عبد الرحيم تلك الزهرة التي لم تكد تتفتح، أقول فيك ما قاله المتنبي في ابن سيف الدولة:

فإن تك في قبر فإنك في الحشا ... وإن تك طفلاً ففعلك ليس بالطفل ومثلك لا يُبكى على قدر سنه ... ولكن على قدر العزيمة والأصل اللهم ألهم والديهما الصبر والاحتساب، واجعلهما لهما حجاباً من النار، واجمعنا وإياهم جميعاً في الفردوس الأعلى في أعلى علّيين في جنات ونَهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر. كتبه أخوك ومودّك أبو عبد العزيز

ب - ما قاله معلموه:

ب - ما قاله معلموه: 6 - (1) - دمعة على فراق أبي سعيد بقلم الشيخ عادل بن عبد الرحمن السنيد لست من أرباب البيان، ولا روّاد البلاغة حتى أُسطّر كلمات تليق بأبي سعيد، ولكنها نبضات قلب محب ومشاعر أبت إلا أن تخرج في أي قلب كانت. عبد الرحمن: اسم يتجلجل صداه في مسامعي، وتدوي معانيه في خاطري، فلا أملك إلا أن أسترجع بأدمعي، غابت شمسك يا أبا سعيد، وأفل نجمك، وإن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا. عبد الرحمن: عندما تتراءى صورته أمامي أذكر معاني: القناعة، الحرص على هداية الناس، لين الجانب، دماثة الأخلاق، صفاء النفس، نقاء السريرة، بذل النصيحة، حمل هم الآخرة، المسارعة إلى خدمة الآخرين. أبا سعيد: يتجاذبني شعوران متناقضان: شعور بالفرحة والسرور؛ لأن ذكرك حَسَنٌ، وسيرتُك عطرَة، ولله الحمد، وأنتم شهداء الله في أرضه. وشعور بالحزن والأسى إذا تذكرت أن عيني لن تكتحل برؤيتك في الدنيا بعد اليوم:

أأحبابنا إن الصحاب كثير ... وأنتم رأس وعين كاهل أسأل الله أن يجمعنا وإياك ووالدينا وجميع المسلمين في الفردوس الأعلى من الجنة، وأن ينزلنا منازل الشهداء آمين، آمين، آمين. أبا سعيد لا أقول وداعاً، ولكن إلى اللقاء في الجنة - إن شاء الله -. أبو عبد الإله: عادل السنيد مدرس القرآن الكريم والقراءات بثانوية أبي عمرو البصري لتحفيظ القرآن الكريم بالرياض فجر الأحد 10/ 1/1423هـ‍

7 - (2) ورحل ... عبد الرحمن!!!

7 - (2) ورحل ... عبد الرحمن!!! بقلم الشيخ بدر بن ناصر العواد ربما كانت هذه الكلمة هي الكلمة الأولى التي صكَّت أذني، فكنتُ على موعد مع الحزن الآسر، لم يَدُرْ في خَلَدِي يوماً ما أن أقفَ في لحظة صمتٍ خاشعةٍ لأستعيدَ شريطَ الذكريات الجميلةِ معه بعدما لحق بركب الموتى. كم عجيب هو الموت، لحظاتٌ فقط ويصبح الإنسان خَبَراً في ذمَّة كان، طرفة عين - لا أكثر - هي الخيط الرقيق الفاصل بين الحياة والموت!!! في مثل هذا الموقف الحزين يضجُّ في أروقة دماغك ألفُ سؤال حائر عن الموت وما بعده، ويتدفّقُ شلالٌ من الحزن في جنبات قلبك، ويلوح أمامَ ناظريكَ إعصارٌ من الأسى، يعصف بأحاسيسك، ويأخذك بعيداً إلى ما وراء الوراء!!! عبد الرحمن ... مَنْ عبدُ الرحمن؟؟؟ وجهٌ يهمي بالطُّهر كإشراقة الفجر النَّدي، وصدرٌ لا مكان فيه لغير المحبة والمصافاة، وثغرٌ سكَنَت فيه ابتسامةٌ عذبةٌ أبَتْ أن ترحلَ عنه! لم يكن عبد الرحمن بالنسبة لمعلميه مجرَّدَ طالب في مدرسة تعجُّ بالمتميزين كهذه، بل كان طالباً من الطراز الأول ... التزامٌ جادٌّ، واهتمامٌ بالتحصيل العلمي، وعزمٌ متوهِّجٌ لم يستطع الكَلَلُ أن يَفُتَّ في عَضُدِه. وليس غريباً أن يكون من تربَّى في محاضنِ القرآن الكريم، ونهل من

ينابيعِ السنة النبوية الشريفة؛ بارّاً بوالديه، مسكوناً بهموم أمته، متميزاً بين لدَاتِه. وإن أنسَ فلا أنسى ما كان يتحلَّى به من أدبٍ رفيعٍ، وروحٍ مرحةٍ داخلَ فصله، ونَهمٍ معرفيٍّ يحدوه في الفُسَحِ إلى إغراقي بوابلٍ من الأسئلة. لقد مضى إلى ربِّه بعدما نقش اسمه بحروفٍ من نورٍ في ذاكرة من عرفوه، وستبقى ذكراه العَبقَة أنشودةً حلوةً على كل الشِّفاه ... و ((الذِّكْرُ للإنسانِ عُمْرٌ ثاني)). بدر بن ناصر العواد مدرس العلوم الشرعية بثانوية أبي عمرو البصري لتحفيظ القرآن الكريم

8 - (3) ورحل عبد الرحمن

8 - (3) ورحل عبد الرحمن بقلم الشيخ محمد بن عبد العزيز الغامدي سطرت يراع عبد الرحمن - رحمه الله - هذه الكلمات قبل أن يغادر هذه المدرسة متخرجاً بتميز علمي وخُلقي. لقد مضى عبد الرحمن، وبقيت ذكرياته. وما هذه الكلمات إلا جزء من هذه الذكريات، كتبها ولم يكن يدر بخلده حينها أنها ستبقى ذكرى من بعده يقلبها معلموه وزملاؤه. غادرنا عبد الرحمن وهو يقول: (بعد مغادرتي للمدرسة على خير إن شاء الله)، وأقلّ من عام، وإذا به يغادر ليس المدرسة فحسب بل الدنيا كلها، وهو على خير إن شاء الله. مضى عبد الرحمن ... ونحن لم نمض بعد. وغادر عبد الرحمن ... ونحن لم نغادر بعد ... يا ترى ... كيف كانت أمانيه قبل أن يمضي؟ وما آماله وأحلامه قبل أن يغادر؟ لقد مضت تلك الأماني معه وغادرت تلك الآمال والأحلام إلى حيث غادر ... لكن ... قل لي بربك: ما مصير أمانينا وآمالنا؟ هل سندركها؟ أم ستخترمها المنون؟ اسأل نفسك ... والحر تكفيه الإشارة. اللهم حرِّم وجه عبد الرحمن على النار ... وارفع درجته في دار

القرار ... في جنة ونهر ... في مقعد صدق عند مليك مقتدر. محمد بن عبد العزيز الغامدي مدرس العلوم الشرعية في ثانوية أبي عمرو البصري لتحفيظ القرآن الكريم بالرياض

ج - قال عنه زملاؤه:

ج - قال عنه زملاؤه: 9 - (1) عاجل بشرى المؤمن بقلم زميله بكلية الشريعة: عادل بن عبد الله المطرودي الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: إلى فضيلة الشيخ د. سعيد بن علي القحطاني - حفظه الله ورعاه - فقد سرّني وأثلج صدري ذلك البحث القيِّم لحميد الشِّيَم ابنكم عبد الرحمن قدَّس الله روحه، ونوّر ضريحه، والذي أسأل الله أن يجعله من الباقيات الصالحات. ثم إني بحكم دراستي مع عبد الرحمن - رحمه الله- لعدّة أشهر في كلية الشريعة أحببت أن أكتب عنه هذه الكلمات، فأقول وبالله أستعين: كان رحمه الله حريصاً على طلب العلم، كثير السؤال لأهل العلم، وقد كنت أمازحه فقلت له ذات مرة: أسئلتُك أسئلةُ فقيه؟ فقال لي: ((الله يسمع منك)). وكان لا يستحيي في السؤال لسان حاله كما قال الشاعر: العلم حربٌ للفتى المتعالي ... كالسيل حربٌ للمكان العالي وكان رحمه الله ينفع إخوانه كثيراً، وكان كثيرٌ من الزملاء يأخذون ما يفوتهم من التعليقات منه رحمه الله.

وقد التقيت به يوماً في أحد ممرات الكلية فقال لي: انظر إلى هذه الرسالة - رسالة وصلت إليه خطأ عن طريق الجوال أُرسلت لشخصٍ، فأخطأ المرسل فوقعت في جوال عبد الرحمن - رحمه الله - فيها عبارات كفرية والعياذ بالله، فقال: ما رأيك فيها؟ فقلت له: إن صاحبها على خطر عظيم، فقال لي: ((إني قد اتصلت به ونصحته فشتمني وسبَّني هداه الله)). وكان رحمه الله على خلق عظيم، ولا أذكر أني شهدت منه خلقاً ذميماً - رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته -. وختاماً أُوصيكم بالصبر والاحتساب وأبشركم بأن عبد الرحمن كان ولا يزال محل ثناء زملائه، وإخوانه في الكلية، وهذا من عاجل بشرى المؤمن، أسأل الله أن يغفر لي، ولعبد الرحمن، ولأخيه، ولوالديه، ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، وإنا لله وإنا إليه راجعون. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. كتبه العبد الفقير إلى رحمة ربه عادل بن عبد الله المطرودي الرياض 15/ 1/1423هـ‍ كلية الشريعة قسم الشريعة

10 - (2) أعظم الأماني الشهادة في سبيل الله تعالى

10 - (2) أعظم الأماني الشهادة في سبيل الله تعالى بقلم: زميله بكلية الشريعة: عبد الرحمن بن عبد العزيز بن سليمان الشبيب الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد: فهذا بعض ما أعرفه عن أخي وصديقي الأخ الفاضل عبد الرحمن بن سعيد بن علي بن وهف القحطاني - رحمه الله - فأقول: كانت بداية معرفتي للأخ عبد الرحمن هي بداية دراستي في الجامعة، ومن العجيب أنه على الرغم من قصر المدة التي تعرَّفت فيها على الأخ عبد الرحمن - رحمه الله - إلا أنه كان بيننا من الألفة والمحبة حتى كأنني أعرفه قبل عدة سنوات، وذلك لما يتحلّى به من حسن الخلق، وبشاشة الوجه، وكان الأخ عبد الرحمن ذا علمية جيدة، وقد عرفت ذلك من مناقشاته الجيدة للمشايخ في قاعة الكلية، وتعليقاته المفيدة على بعض كتبه، وقد كنت يوماً من الأيام أتأمل في شباب القاعة، وأتخرص من هو الذي سيخدم الدين؟ فكنت أنظر إلى الأخ عبد الرحمن، وأتوسّم فيه سمات القضاة، فقد كان حكيماً ذا سمت حسن، وقد كان - رحمه الله - يهتم بأحوال المسلمين، خاصة إخواننا في أفغانستان، وقد كان يخبرني ببعض أخبارهم، ويأتي ببعض المجلات التي تهتم بقضاياهم، وكان يزرع في نفسي أن النصر للمسلمين مهما حصل من الضعف في بعض الأوقات، وكنا نناقش في يوم من الأيام بعض أحوال المسلمين، فقال: ((إن من أعظم الأماني عندي أن أذهب إلى ساحة الوغى ثم أقتل في سبيل الله تعالى)).

فرحم الله الأخ عبد الرحمن، وجعلني وإياه ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فقد كنا متحابين في الله تعالى، فرحمه الله رحمة واسعة، وجعل قبره روضة من رياض الجنة، إنه جواد كريم، وبالإجابة جدير. محبه: عبد الرحمن بن عبد العزيز بن سليمان الشبيب 12/ 1/1423هـ‍ جامعة الإمام - كلية الشريعة - قسم الشريعة - الرياض

11 - (3) الأمر بالمعروف مع سعة الصدر

11 - (3) الأمر بالمعروف مع سعة الصدر بقلم زميله: محمد بن حسان بن محمد بن بشُّور السوري الحمد لله الذي جعل لكل أمر علامة، ولكل شيء نهاية، {إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬1) فسبحانه مدبر الأمور، يصرفها كما يشاء وهو العليم الحكيم، والصلاة والسلام على خير الأنام محمد عليه الصلاة والسلام، أما بعد: فهذه النقاط فقط ذكريات صديق حبيب، أمارات النور برقت على جبينه، فكنَّا ندرس سويّاً في المدرسة، فكان - رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة نحن ووالديه ووالدينا وجميع المسلمين - آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، فإذا رأى صديقاً تبدو عليه أمارات السوء أمره بالمعروف ونهاه عن المنكر، وكان رحمه الله محبّاً للاطلاع يشغل فراغه بما يفيده، فإذا كان لدينا حصة فراغ، أو لم يحضر المعلم، أو شرح الدرس وبقي جزء من الحصة استغلها بما يفيده كمراجعة ما يحفظ من كتاب الله تعالى، أو قراءة كتاب مفيد، أو غير ذلك مما يفيده. وكان رحمه الله واسع الصدر لا يحمل الحقد على أي صديق، ومن أبرز الأمثلة على ذلك، أنه إذا قال له شخص: فلان قال كذا وكذا عنك، ¬

(¬1) سورة يس، الآية: 82.

قال له: لا تظن بأخيك ظنّاً سيئاً، وكنَّا في يوم من الأيام نذاكر مادةً علينا فيها اختبار في الصف الثالث ثانوي، وقبل الاختبار نتبادل المعلومات يُذَكِّرني وأُذَكِّره، وكان يقول لي: يا محمد توكل على الله، ولا تحمل همَّ الاختبار. وكما كان أيضاً طموحاً للأعلى، فقد كان رحمه الله يحب الخط العربي والشعر، فقد كان رحمه الله يسلينا أحياناً في الفصل ببعض أشعاره اللطيفة، وكان يحب الاطلاع في الكتب، فقد كان أيضاً مُثَقَّفاً حريصاً على سماع أخبار المسلمين في الراديو، فكنت أسأله عن بعض ما جرى فيجيبني، وأخيراً كما قال الشاعر: إذا لم نلتقِ في الأرض يوماً ... وفرَّق بيننا كأس المنونِ فموعدنا غداً في دارِ خُلدٍ ... بها يحيى الحنون مع الحنونِ وقد قلت هذه الكلمات في عبد الرحمن - رحمه الله - الآتي نصها: فقدتك والذكرى مُؤرّقة ... من صميم فؤادي فقدتك ومدامعي تلوح ... سيلاً على أجفاني فقدتك والخيال أذكرني ... جوهراً كالياقوت والمرجانِ االله من رجعة نلتقي ... بها في الجناني محبة في الله صادقة ... معلناً بها في صفحاتي اللهم ارحمه رحمةً واسعة، وأسكنه الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، ونحن ووالديه ووالدينا وجميع المسلمين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. محمد بن حسان بن محمد بن بشور حرر في يوم السبت 23/ 1/1423هـ‍ زميله ومحبه في الله تعالى في ثالث ثانوي لتحفيظ القرآن الكريم مدرسة أبي عمرو البصري (سابقاً)

12 - (4) عبد الرحمن لم تمت أخلاقه وبقيت معالمها

12 - (4) عبد الرحمن لم تمت أخلاقه وبقيت معالمها بقلم زميله: ياسر بن محمد بن سليمان الحقيل عندما مات عبد الرحمن تحركت المشاعر، وجاشت القرائح، مات إلا أن أخلاقه لم تمت، وبقيت معالمها واضحة جلية في نفوس زملائه، وأصحابه، وفي نفوس كل من تعامل معه، وكان مما جاشت به القريحة هذه الأبيات: الفاجعة 1 - هَزَّ الجميعَ رَنينُ ذا الجوالِ ... في هجعةِ الليلِِ البهيمِ الخالي 2 - فرَدَدتُ كي تبقى الفجيعة في الورى ... هل مات حقّاً ذا الصديق الغالي 3 - هل مات حقّاً ابن قحطانٍ وما ... عجبٌ هنا فالموتُ ليسَ بسالي 4 - فُجِعَ الجميعُ بموتِهِ ولعلَّهُ ... في موتهِ عظةٌ لغيرِ مبالي 5 - فُجِعَ الصَّحابةُ قبلَنا بمصيبةٍ ... موتِ الرَّسولِ فداهُ كلُّ المالِ 6 - قد ماتَ إلا أن ذكراهُ بقتْ ... رغمَ السنين وعبرَ ذي الأجيالِ 7 - فلَنعمَ ذي الذِّكرى وأيضاً أنْعِمَنْ ... بذوي العقولِ عقولِ خيرِ رجالِ 8 - يا أيُّها العبد لرحمن السَّما ... وسِعَتْكَ رحمةُ ربِّنا المتعالي 9 - فلعلَّ يجمعُنا الإلهُ معاً هناك ... بجنةِ الفردوسِ والإجلالِ 10 - فيها الذي لا شيءَ من عينٍ رأت ... والحورُ فيها ينتظرنَ الغالي 11 - يا من سمعتَ قصيدتي ووعيتَها ... هلاّ اتعظتَ بقاطعِ الآمالِ 12 - الموتُ قد يأتي عليك بغفلةٍ ... فتقول ربي أخِّرَنْ آجالي

13 - تمَّ الكلامُ وبعدهُ صلُّوا على ... خيرِ الخليقة سيدِ الأبطالِ 14 - والآلِ والصَّحْبِ الكرامِ ومن مضى ... في سُنَّةِ الهادي بغيرِ جِدالِ قاله وكتبه أبو عبد الرحمن ياسر بن محمد بن سليمان الحقيل كلية الشريعة بالرياض حرر في يوم الأربعاء 27/ 1/1423هـ‍

13 - (5) يا رب فارحمه ووسع قبره وانشر له نورا بكل مكان

بسم الله الرحمن الرحيم 13 - (5) يا رب فارحمه ووسِّع قبره وانشر له نوراً بكل مكان بقلم زميله بكلية الشريعة: عبد الرحمن بن حمود بن سعد البدراني: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فعندما توفي الزميل العزيز عبد الرحمن بن سعيد بن علي بن وهف القحطاني - رحمه الله تعالى - جاشت المشاعر، فكتبت قصيدة طويلة في رثائه رحمه الله تعالى، ولكن قدَّر الله - عز وجل - أن تُفقد هذه القصيدة كلها، وبحثت عنها كثيراً فلم أجدها، فالله المستعان، ولكن يحضرني منها بالمعنى الأبيات الآتية: 1 - ما للهداة قضوا ولاتَ مُخْبرٌ ... عن حالهم بعد المكان الثانِ 2 - كان (ابن وهفٍ) للأذان مرجِّعٌ ... والآن في قبرٍ وفي أكفانِ 3 - يا مرسل البَسَماتِ في القاعات يا ... ذا الهمة العليا من الإخوانِ 4 - نزل القضاءُ عليك بعد تراوُح ... وتروّحٍ هذا خِتامُ مُعانِ 5 - نزل القضاءُ وكان قصدُك حلقةً ... للذِّكرِ والتعليم للقرآنِ 6 - والله لن أبكيك بل أبكي على ... من مات في فِسْقٍ وفي طغيانِ 7 - يا صاحب الدين المتينِ يَزينُهُ ... خُلُقُ الذي قد سار للرحمنِ 8 - ولسانه في عفةٍ عن كل ما ... يأباه ذو تقوى وذو إيمان (¬1) ¬

(¬1) كان يدرسنا في الكلية بعض المدرسين الأجانب، وبعضهم كان قليل تدين، وفي عقيدته أشعرية، فكان الطلاب يبدون تضجرهم منهم، وكنت ألاحظ الأخ عبد الرحمن - رحمه الله - ممسكاً عن الكلام فيهم، ويذكر أن شرحهم حسن، ويدعو لهم، ويأمرنا أن نستفيد مما عندهم مما ينفع، ونترك بدعتهم وضلالاتهم.

9 - ما زلتُ أشهد نطقه ودُعابَه الـ ... الأشياخَ في أدبٍ وفي إحسانِ 10 - قد قلَّ في أقرانه مَنْ شِبْهَهُ ... فالحمد قبلُ وبعد للمنانِ 11 - أرثيه ثم أقول معتذراً له ... وُفِّقْتَ حين تركت دار هوانِ (¬1) 12 - إني أعزِّي والداً فيه وقد ... عزَّيتُ فيه يراعتي وبناني 13 - عزيتُ فيه الصحب ثم إليكمو ... أُهدي نصيحةَ مشفقٍ ولهانِ 14 - يا إخوتي هذي المنايا دأبُها ... فقد الحبيب ومُوْجِعُ الهُجرانِ 15 - هلاّ اعتبرنا في فناءٍ قد سَرَى ... في الناس منذُ الخلقِ للأكوانِ 16 - هذي الحياةُ متاعبٌ ومصاعبٌ ... شَمِّر هُديت إلى ادِّكارِ معانِ 17 - ثم السؤال من الإله بفضلهِ ... أن يرحم الأخَ (عابد الرحمنِ) 18 - فهو الكريمُ كذا الرحيمُ بِخَلْقه ... وهو القديرُ وواسع الغفرانِ 19 - يا ربِّ فارحَمْهُ ووسِّع قَبْرَهُ ... وانشر لَهُ نُوراً بِكُلِّ مكانِ 20 - وافسح له في لَحْدِهِ أُفُقَ المدى ... وافْرُجْ له فُرُجاً من الرضوانِ 21 - رَوْحٌ وريحانٌ عذوقُ ثِمَارِها ... والحورَ أوْلِ زميلنا القحطاني ثُمَّ الصلاةُ على النّبيِّ محمّدٍ ... ما صَوَّتَ القُمْري على الأغصانِ وكتبه: عبد الرحمن بن حمود بن سعد البدراني. ¬

(¬1) اقتبس هذا البيت من بيت لأبي الحسن التهامي.

14 - (6) الخشوع والإخبات لله تعالى

بسم الله الرحمن الرحيم 14 - (6) الخشوع والإخبات لله تعالى بقلم الشيخ المعبِّر حسن بن شريف المشيخي الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد: فلا شك بأنني آخر من كتب من الإخوة المشايخ، والدعاة، وطلبة العلم، وأظن ذلك لحكمة أرادها الله تعالى، فمنذ ساعة وفاة أبناء الشيخ سعيد، وأنا أريد أن أكتب ما أجده من خواطر تجاه عبد الرحمن وعبد الرحيم - رحمهما الله - لكنني لم أتمكن من ذلك للانشغال ببعض البحوث العلمية، فإذا تذكَّرتهما لُمْتُ نفسي على التقصير، ثم أعوضهما بالدعاء والإلحاح على الله - عز وجل - أن يغفر لهما، ويرفع درجاتهما، ولا شك أن ذلك أنفع لي ولهما، وسأكتفي بأحدهما إذ أن الآخر مازال دون التكليف أثناء وفاته، وإن كان قد حفظ ما يقارب سبعة عشر جزءاً، فأسال الله له رفعة الدرجات، وسأقتصر هنا على صاحب هذا المؤلف القيم/ عبد الرحمن بن سعيد بن علي بن وهف القحطاني، ففي ليلة الأحد السابع عشر من رمضان لعام ألف وأربعمائة واثنين وعشرين للهجرة ذهل الصغار لما رأوا الكبار جادوا بمدمع وبكاء، رحل ابنا الشيخ سعيد بن وهف في لحظة لا أحد يتوقع ذلك، لكن المولى - جل وعلا - أراد ذلك، فله الحمد على ما قضى وأحكم وأبرم. مضى ابن سعيد حيث لم يبق مشرق ... ولا مغرب إلا وله فيه مادح

وكنت أعلم عن جميل صفاته ... كما ولكن غيبتها الصفائح وأصبح في لحدٍ من الأرض ميتاً ... وكان به حيّاً تضيق الصحاصح وما نحن من رزءٍ وإن جلَّ نجزع ... ولا بسرورٍ بعد فقده نفرح لقد كان شابّاً صالحاً محبوباً، يعلوه وقار العلماء، وفي مُحيّاه ملامح العظماء، وكما أحبه الصغار والكبار في حياته، فلقد بكى عليه القوم بعد وفاته، ولكن يا ترى هل كان سبب تلك المحبة كتاب الله - عز وجل - الذي قد حواه في صدره حفظاً وإتقاناً وعملاً وتعليماً، فهو وإن كان صغيراً فهو يتمتع بهمَّة الكبار، وبراءة الصغار؛ مما جعله أنموذجاً غريباً يتحيَّر فيه المتأمِّل لتلك الأعمال، فقد بكت السارية التي كان يسند الصغير ظهره عليها، نعم، فقد بكت بحرقة وحسرة وألم ... نعم وما يدريك ... أم يا ترى كان سبب ذلك التحاقه بكلية الشريعة التي قد أجاد معظم مناهجها على يد والده من سنٍّ مبكرٍ، أم أن سبب ذلك تعيينه مُؤذِّناً في ذلك الجامع الذي يؤمُّه والده، والذي يتنافس على ذلك الجامع طلبة العلم، ولقد شاهدت ذلك الصغير يتنافس مع بعض طلبة العلم، وكم كانت دهشتي عندما علمت أنه هو الفائز، لكن كل ذلك وغيره لم يكن هو السبب الرئيس في انشراح صدر ذلك الشاب، وحبه للعلم، وانطلاق لسانه بالشعر، إضافة إلى ما عنده من القرآن والحكمة، ولم يكن سبب ذلك الأذان الذي يصدح في الوقت تماماً، والذي يدفع كل من يصل إليه صوته إلى فتح النوافذ، والاستماع إلى ذلك الأذان العجيب، وأنا من هؤلاء، وليس سبب حب الجميع له بسبب حضوره المبكر للجامع قبل

مواعيد الأذان عندما كان يسلك ذلك الرصيف الطويل من منزل والده إلى الجامع دون أن يلتفت يمنة أو يسرة أبداً، حتى إنني أضطر أحياناً لاستخدام منبه السيارة حتى يلتفت فألقي عليه السلام. ولكن السبب سأورده لكم، ليس إلا خوفاً من الإطالة عليكم، إن السبب هو خشوعه وإخباته لله والرغبة فيما عند الله - جل وعلا - من سن مبكر، وإليكم شاهد على ما أقول: عندما كان عمره اثني عشر عاماً تقريباً، وبالتحديد في شهر رمضان، وكان مؤذن الجامع في ذلك الوقت أحد القضاة، وكان الشيخ يُقدم ذلك القاضي أحياناً في بعض ركعات صلاة التراويح أو القيام، بناءً على طلب القاضي من أجل ترسيخ الحفظ لبعض الأجزاء، وكنت أَصُفُّ أنا وذلك الصغير عبد الرحمن - رحمه الله - ومن معنا من المصلين في صلاة التراويح أو القيام، وفي إحدى الليالي عندما كان يؤمّنا ذلك القاضي، وكنت شارد الذهن في تلك اللحظة، لم يردني إلى استحضار القلب في الصلاة إلا أزيز غريب من جانبي الأيسر، فشردت بالذهن مرة أخرى، ولكن داخل المسجد، وبالتحديد من جانبي الأيسر، وإذا بذلك الغلام الصغير قد أغرق وجهه وصدره ومكان سجوده بالدموع من بداية صلاته، ولكنه في النهاية لم يستطع أن يتمالك نفسه، فغلبه البكاء وارتفاع الصوت، فهل بكيت أخي في مثل هذا الموقف وقد شاب عارضاك؟ وماذا كنت تعمل في ذلك السن؟ رحم الله عبد الرحمن رحمة واسعة:

فلئن حسنت فيه المراثي بذكرها ... فلقد حسنت من قبل فيه المدائح ولهذا ليس بغريب أن يصلي عليه ذلك الجمع العظيم من الناس، ويشيعه إلى القبر أعداد هائلة من الناس، ومنهم العلماء، وأساتذة الجامعات، وطلبة العلم، وقد رأيتهم بعيني يتنافسون للإمساك بالنعش: وليس صرير النعش ما يسمعونه ... ولكنه أصلُب قوم تقصفُ وليس نسيم المسك ريا حنوطه ... ولكنه ذاك الثناء المخلفُ أما لسان حالهم فيقول: ... ... فلن أرتجي في الموت بعدك طائلاً ... ولا أتقي للدهر بعدك من خطب اللهم ما تلا من قرآن فارفع درجته، وزكِّه به، وما صلَّى من صلاة فتقبلها منه، وما تصدَّق أو تُصدِّق عنه بصدقة فنمِّها له، اللهم أقِلْ عثرته، واعفُُ عن زلته، وعده بحلمك، فإنه لا يرجو غيرك، ولا يثق إلا بك، وأنت واسع المغفرة، اللهم أجر والديه في مصيبتهما، وأعقب لهما خيراً منها في الدنيا والآخرة، إنك يا رب ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. قاله وكتبه/ حسن بن شريف المشيخي 11/ 7/1423هـ‍

15 - (7) حكم وفوائد عظيمة

بسم الله الرحمن الرحيم 15 - (7) حكم وفوائد عظيمة بقلم زميله عبد الحليم بن محمد فاروق الأفغاني الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده: أما بعد: فإن الأخ الزميل عبد الرحمن بن سعيد بن علي بن وهف القحطاني - رحمه الله رحمة واسعة - كان من زملائي الأخيار في كلية الشريعة، وكان خلوقاً قلَّ أمثاله، وكان متواضعاً متمسكاً بالقيم الدينية والمبادئ الإسلامية، وكان ملتزماً في أمور الشرع لا يخاف في الله لومة لائم، وكان هَمُّهُ الأكبر طلب العلم الصحيح النافع، وكان مخلصاً صادقاً وأميناً، وكثير الصمت إلا في موضع الحق، هكذا أحسبه والله حسيبه، وآخر ما قابلته في المسجد الجامع بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وذلك عند صلاته لسنة الراتبة بعد الظهر يوم السبت الموافق 16/ 9/1422هـ‍، وكان من آخر الكلمات التي قالها لي قوله - رحمه الله -: ((إني قد اشتقت إلى الجهاد في سبيل الله تعالى))، ثم استأذن مني وقال: سأحضر غداً إن شاء الله للدرس في الكلية؛ لأن هذا اليوم هو آخر أيام الدراسة للفصل الأول من العام الدراسي، ولكن الله - سبحانه وتعالى - قبضه في اليوم نفسه الذي قابلته فيه بعد إمامته للناس في صلاة العشاء والتراويح، فأسأل الله أن يحقق له أمنيته ويجعله شهيداً في سبيل الله تعالى.

وقد استفدت وسمعت منه الوصايا والفوائد الآتية: 1 - رافقته في سيارته - رحمه الله - مرة، وكان يقرأ عن ظهر قلب حفظاً أثناء قيادته للسيارة، وأظن أنه يقرأ من سورة الفرقان، وبعد القراءة سألني عن حزبي اليومي من القرآن الكريم؟ فأخبرته بأني أقرأ كذا وكذا (¬1)، فقال لي: أنت عندك فراغ كثير كان ينبغي أن تقرأ أكثر من هذا. ومن أقواله الحكيمة التي استفدتها منه - رحمه الله -: 2 - آفة العلم نسيانه. 3 - المرء يقيس على نفسه. 4 - اطلب الرفيق قبل الطريق، والجار قبل الدار. 5 - إن الذنوب تميت القلوب، وتكون سبباً للشقاء. 6 - راحة القلوب في قراءة القرآن، وقرة العيون في الصلاة. 7 - التوكل على الله يسهِّل ويزيل العقبات في طريق الوصول إلى الأمنية. 8 - عن المَرْءِ لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي 9 - ابتغِ فيما أعطاك الله الدار الآخرة. 10 - لا يسع المسلم الناس بماله، ولكن يسعهم ببسط الوجه، وحسن الخلق. ¬

(¬1) وقد سألت الأخ عبد الحليم فاروق عن حزبه الذي قاله للابن عبد الرحمن - رحمه الله - فقال: قلت له: أقرأ في اليوم جزءاً واحداً، وفي رمضان ثلاثة أجزاء في اليوم، ولله الحمد.

11 - احفظ مني ثلاثاً: ثم قال: أ - من سمات الكرام: العفو، والوفاء. ب - ومن سمات الأغنياء الأتقياء: الجود، والسخاء. ج - ومن سمات الأعزاء: احترام الآخرين. وكل هذه الحكم والفوائد استفدتها وكتبتها بالمعنى مما قاله الزميل عبد الرحمن رحمه الله تعالى. اللهم ارحمه، اللهم ارحمه، ونوِّر له في قبره، وافسح له فيه، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. كتبه: عبد الحليم بن محمد فاروق الأفغاني 25/ 3/1423هـ‍ زميله في كليّة الشريعة

أبراج الزجاج في سيرة الحجاج إعداد عبد الرحمن بن سعيد بن علي بن وهف القحطاني رحمه الله تعالى 1403هـ - 1422هـ تحقيق د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني

المقدمة

المقدمة الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد: فإن دراسة التاريخ أمر مهم في المجتمعات، حيث إن له تأثيراً في النواحي السياسية والاجتماعية وغير ذلك. وهذا البحث يدرس جانباً من جوانب الدولة الأموية، ذلكم هو أمير العراق: الحجاجُ بن يوسف الثقفي، ولقد اخترت هذا الموضوع؛ نظراً للحاجة الماسة للمعرفة التأريخية، وقلة مصادر المعلومات. وكانت طريقتي في البحث تقسيمه إلى أربعة أبواب، [وتحت] كل باب فصول ومباحث، وقد تكون المباحث اثنين أو أكثر حسب المعلومات التأريخية. وإليك سردها مرتبة: الباب الأول: من هو الحجاج؟ الفصل الأول: نسبه، ومولده، وأسرته. المبحث الأول: نسبه، ومولده. المبحث الثاني: أسرته. الفصل الثاني: أولاده وزوجاته. المبحث الأول: أولاده. المبحث الثاني: زوجاته. الباب الثاني: الحجاج وبداية الإمارة. الفصل الأول: ما قبل الإمارة، وقتل ابن الزبير - رضي الله عنه -. المبحث الأول: ما قبل الإمارة. المبحث الثاني: قتل ابن الزبير - رضي الله عنه -.

الفصل الثاني: الحجاج وإمارة العراق. المبحث الأول: إمارة العراق. المبحث الثاني: فتوحات الحجاج. المبحث الثالث: صفاته وإصلاحاته. الباب الثالث: الحجاج والأدب العربي. الفصل الأول: الشعر العربي. المبحث الأول: ما قيل فيه من مدح. المبحث الثاني: ما قيل فيه من هجاء. الفصل الثاني: الخطب والرسائل. المبحث الثالث: صفاته، وإصلاحاته. الفصل الثاني: الخطب، والرسائل. المبحث الأول: الحجاج والخطابة. المبحث الثاني: الرسائل. الباب الرابع: نقد الحجاج، ونهايته. الفصل الأول: نقد الحجاج. المبحث الأول: آراء العلماء وأهل الحديث فيه. المبحث الثاني: الرُّؤى والأحلام في الحجاج. الفصل الثاني: نهاية الحجاج. المبحث الأول: موته، ووقته. المبحث الثاني: آثار وفاته. وقد تعبت كثيراً في تحديد مصادر المعلومات، لكن الفائدة العلمية سهَّلت عليَّ كثيراً، وأحب أن أشكر والدي، والأستاذ خالد الحسن على ما بذلاه، والله أعلم.

الباب الأول: من هو الحجاج؟!

الباب الأول من هو الحجاج؟! الفصل الأول: نسبه، ومولده، وأسرته. المبحث الأول: نسبه، ومولده. المبحث الثاني: أسرته. الفصل الثاني: أولاده، وزوجاته. المبحث الأول: أولاده. المبحث الثاني: زوجاته.

الفصل الأول: نسبه ومولده، وأسرته

الفصل الأول نسبه ومولده، وأسرته المبحث الأول: نسبه، ومولده: هو: الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود بن عامر بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف (¬1). وأمه: الفارعة بنت همام بن عروة (¬2). ¬

(¬1) قال الذهبي في تاريخ الإسلام، 6/ 314 - 315: الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود الثقفي، أمير العراق، أبو محمد. ولد سنة أربعين أو إحدى وأربعين. وقال أيضاً رحمه الله في سير أعلام النبلاء، 4/ 343: الحجاج أهلكه الله في رمضان سنة خمس وتسعين كهلاً، وكان ظلوماً جباراً ناصبيّاً خبيثاً سفاكاً للدماء، وكان ذا شجاعة، وإقدام، ومكر، ودهاء، وفصاحة، وبلاغة، وتعظيم للقرآن، قد سقت من سوء سيرته في تاريخي الكبير، وحصاره لابن الزبير بالكعبة، ورميه إياها بالمنجنيق، وإذلاله لأهل الحرمين، ثم ولايته على العراق والمشرق طيلة عشرين سنة، وحروب ابن الأشعث له، وتأخيره للصلوات إلى أن استأصله الله، فنسبُّه ولا نحبُّه، بل نبغضه في الله، فإن ذلك من أوثق عرى الإيمان. وله حسنات مغمورة في بحر ذنوبه، وأمره إلى الله، وله توحيد في الجملة، ونظراء من ظلمة الجبابرة والأمراء. (¬2) وقال ابن كثير في البداية والنهاية (12/ 509): قال ابن خلكان: واسم أمه الفارعة بنت همام بن عروة بن مسعود الثقفي، وكان زوجها الحارث بن كَلَدَة الثقفي طبيب العرب، وذكر عنه هذه الحكاية في السواك. وذكر صاحب ((العقد)): أن الحجاج كان هو وأبوه يعلمان الغلمان بالطائف، ثم قدم دمشق فكان عند روح بن زنباع وزير عبد الملك، فشكا عبد الملك إلى روح أن الجيش لا ينزلون لنزوله، ولا يرحلون لرحيله، فقال روح: عندي رجل توليه ذلك. فولى عبد الملك الحجاج أمر الجيش، فكان لا يتأخر أحد في النزول والرحيل، حتى اجتاز إلى فسطاط روح بن زنباع وهم يأكلون، فضربهم وطوّف بهم، وأحرق الفسطاط، فشكا روح ذلك إلى عبد الملك فقال للحجاج: لم صنعت هذا؟ فقال: لم أفعله، إنما فعله أنت، فإن يدي يدك، وسوطي سوطك، وما ضرَّك إذا أعطيت روحاً فسطاطين بدل فسطاطه، وبدل الغلام غلامين، ولا تكسرني في الذي وليتني؟ ففعل ذلك وتقدم الحجاج عنده.

المبحث الثاني: أسرته:

ومعتب بن مالك: هو الجد الأعلى للحجاج. المبحث الثاني: أسرته: * وجدُّ الحجاج الأعلى وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * ووالد الحجاج: يوسف بن الحكم: كان من أشهر رجالات الطائف، ومن أشهر المعلمين بها، وقد كان ذا وجاهة عند الخليفة الأموي، قبل أن يتولى الحجاج الإمارة. * أما والدة الحجاج: الفارعة، فقد كانت عند المغيرة بن شعبة (¬1)، وقيل: كانت عند طبيب العرب: الحارث بن كلدة، وذلك قبل أبيه. الفصل الثاني أولاده وزوجاته المبحث الأول: أولاد الحجاج: تزوج الحجاج زوجات كثر، لكنه لم ينجب كثيراً، وخاصة من البنات، أما أولاده المشهورين فخمسة: ¬

(¬1) قال ابن كثير في البداية والنهاية، 12/ 508 - 509: قال الشافعي: سمعت من يذكر أن المغيرة بن شعبة دخل على امرأته وهي تتخلل - أي تخلل أسنانها ليخرج ما بينها من أذى - وكان ذلك في أول النهار، فقال: والله لئن كنت باكرت الغداء إنك لرغيبة دنيئة، وإن كان الذي تخللين من شيء بقي في فيك من البارحة، إنك لقذرة. فطلقها، فقالت: والله ما كان شيء مما ذكرت، ولكنني باكرت ما تباكره الحرة من السواك، فبقيت شظية في فمي منه، فحاولت لأخرجها. فقال المغيرة ليوسف أبي الحجاج: تزوجها، فإنها لخليقة أن تأتي برجل يسود. فتزوجها يوسف أبو الحجاج قال الشافعي: فأخبرت أن أبا الحجاج لما بنى بها واقعها فنام، فقيل له في النوم: ما أسرع ما ألقحت بالمبير. وانظر: تاريخ دمشق لابن عساكر، 12/ 115 - 116.

* وللحجاج ذرية في دمشق، منهم:

1 - محمد: وبه يكنى. توفي في زمن أبيه.2 - عبد الملك. 3 - أبان.4 - سليمان.5 - عبد الله: وهو الذي استخلفه أبوه على الصلاة حين وفاته. * وللحجاج ذرية في دمشق، منهم: 1 - عمر بن عبد الملك بن محمد بن الحجاج: ولي الولايات في عهد الوليد بن يزيد. 2 - عبد الصمد بن محمد بن الحجاج: ولي دمشق للوليد بن يزيد أيضاً. 3 - عبد الله بن عبد الملك بن الحجاج. 4 - عبد الله بن محمد بن الحجاج. * كما أن للحجاج في باجه بالأندلس ذرية: منهم بنو المنذر بن الحارث بن عيشون بن العلاء بن العجلان بن عبد الله بن محمد بن الحجاج. المبحث الثاني: زوجات الحجاج، وأخباره معهن: ومنهن: 1 - أم كلثوم بنت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب: يقال: إن عبد الملك بن مروان لما علم بزواجه منها، أمره أن يفارقها قبل أن يدخل بها، ولم يقطع عنها الحجاج رزقاً حتى ماتت (¬1). ¬

(¬1) قال ابن كثير في البداية والنهاية، 12/ 517: وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، ثنا حماد بن سلمة عن ابن أبي رافع، عن عبد الله بن جعفر أنه زوَّج ابنته من الحجاج بن يوسف، فقال لها: إذا دخل بك فقولي: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين. وزعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا حزبه أمر قال هذا. قال حماد: فظننت أنه قال: فلم يصل إليها. قال الشافعي: لما تزوج الحجاج بنت عبد الله بن جعفر قال خالد بن يزيد بن معاوية لعبد الملك بن مروان: أتمكنه من ذلك؟ فقال: وما بأسٌ بذلك؟ قال: أشد البأس والله. قال: وكيف؟ قال: والله يا أمير المؤمنين لقد ذهب ما في صدري على آل الزبير منذ تزوجت رملة بنت الزبير. قال: فكأنه كان نائماً فأيقظه، فكتب إلى الحجاج يعزم عليه في طلاقها فطلقها. وانظر: تاريخ دمشق لابن عساكر، 12/ 125.

2 – أم البنين بنت المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي. 3 – أم سلمة بنت عبد الرحمن بن سهل بن عمرو، وقد طلقها الحجاج تنازلاً للوليد بن عبد الملك، وخلفه عليها أخوه سليمان، ثم هشام. 4 – أم الجلاس بنت عبد الرحمن بن أسيد. 5 – هند بنت المهلب بن أبي صفرة. 6 – هند بنت أسماء بن خارجة. 7 – أمة الرحمن بنت جرير البجلي. * وقد كان الحجاج يفخر بأزواجه فيقول: عندي أربع نسوة: هند بنت المهلب، وهند بنت أسماء، وأم الجلاس بنت عبد الرحمن، وأمة الرحمن بنت جرير البجلي؛ فأما ليلتي عند هند بنت المهلب، فليلة فتى بين الفتيان، يلعب ويلعبون، وأما ليلتي عند هند بنت أسماء فليلة ملك بين الملوك. وأما ليلتي عند أم الجلاس، فليلة أعرابي مع الأعراب في حديثهم وأشعارهم. وأما ليلتي عند أمة الرحمن فليلة عالم بين العلماء والفقهاء. ا. هـ.

الباب الثاني: الحجاج وبداية الإمارة

الباب الثاني الحجاج وبداية الإمارة الفصل الأول: ما قبل الإمارة، وقتل ابن الزبير. المبحث الأول: ما قبل الإمارة. المبحث الثاني: قتل ابن الزبير. الفصل الثاني: الحجاج وإمارة العراق. المبحث الأول: إمارة العراق. المبحث الثاني: فتوحات الحجاج. المبحث الثالث: صفاته، وإصلاحاته.

الفصل الأول: ما قبل الإمارة، وقتل ابن الزبير

الفصل الأول ما قبل الإمارة، وقتل ابن الزبير المبحث الأول: ما قبل الإمارة: كان الحجاج بن يوسف قد لحق بروح بن زنباع الجذامي وزير عبد الملك بن مروان، فكان في عديد شرطته، إلى أن رأى عبد الملك انحلال عسكره، وأن الناس لا يرحلون برحيله، ولا ينزلون بنزوله، فشكا ذلك إلى روح بن زنباع، فقال له: إن في شرطتي رجلاً لو قلده أمير المؤمنين أمر عسكره، لأرحل الناس برحيله، وأنزلهم بنزوله، يقال له الحجاج بن يوسف، قال: فإنا قد قلدناه ذلك، فكان لا أحد يقدر على أن يتخلف عن الرحيل والنزول إلا أعوان روح بن زنباع ... (¬1). قال الزركلي: ومازال يظهر الحجاج حتى قلده عبد الملك أمر عسكره، وأمره بقتال ابن الزبير، فزحف بجيش كبير، وقتل عبد الله، وفرّق جموعه، فولاّه عبد الملك: مكة، والمدينة، والطائف (¬2). المبحث الثاني: قتل ابن الزبير: بعد قتل عبد الملك لمصعب بن الزبير، بعث الحجاج إلى أخيه عبد الله بمكة، فحاصره بها، وأقام للناس الحج عامئذٍ، ولم يتمكن [الحجاج ومن معه من الطواف بالبيت، ولا تمكّن] ابن الزبير ومن عنده من الوقوف [بعرفة]، ولم يزل مُحاصره حتى ظفر به ... ثم ¬

(¬1) ابن خلكان، وفيات الأعيان، 2/ 30، وانظر: البداية والنهاية، 12/ 509. (¬2) خير الدين الزركلي، الأعلام، 2/ 175.

استنابه عبد الملك على مكة والمدينة والطائف واليمن (¬1) (¬2). * وقصة قتل ابن الزبير هي (¬3): ¬

(¬1) ابن كثير، البداية والنهاية، 9/ 125. (¬2) قال ابن عساكر في تاريخه، 12/ 117: أخبرتنا أم البهاء فاطمة بنت محمد، قالت: أنبأنا أبو طاهر ابن محمود الثقفي، نبأنا أبو بكر ابن المقرئ، أنبأنا أبو الطيّب الزَّرَّاد، نبأنا عبيد الله بن سعد قال: قال أبي: ودخل عبد الملك الكوفة، وبعث الحجاج بن يوسف إلى عبد الله بن الزبير، ورجع عبد الملك إلى دمشق، فحج الحجاج على الموسم سنة اثنتين وسبعين فلم يطف بالبيت، وحصر ابن الزبير قريباً من سبعة أشهر، انتهى. (¬3) قال ابن كثير في البداية والنهاية، 12/ 177 - 184: ((فلما استهلت هذه السنة (أي سنة 73) استهلت وأهل الشام محاصرون أهل مكة، قد نصب الحجاج المنجنيق على مكة ليحصر أهلها، حتى يخرجوا إلى الأمان والطاعة لعبد الملك. وكان مع الحجاج خلق قد قدموا عليه من أرض الحبشة، فجعلوا يرمون بالمنجنيق فقتلوا خلقاً كثيراً، وكان معه خمسة مجانيق، فألحّ عليها بالرمي من كل مكان وحبس عنهم الميرة، فجاعوا، وكانوا يشربون من ماء زمزم، وجعلت الحجارة تقع في الكعبة، والحجاج يصيح بأصحابه: يا أهل الشام، الله، الله في الطاعة. فكانوا يحملون على ابن الزبير وليس معه أحد حتى يخرجهم من باب بني شيبة، ثم يكرّون عليه فيشدّ عليهم، فعل ذلك مراراً، وقتل يومئذ جماعة منهم، وهو يقول: خذها وأنا ابن الحواري. وقيل لابن الزبير: ألا تكلمهم في الصلح؟ فقال: والله لو وجدوكم في جوف الكعبة لذبحوكم جميعاً، والله لا أسألهم صلحاً أبداً. وذكر غير واحد: أنهم لما رموا بالمنجنيق، جاءت الصواعق والبروق والرعود، حتى جعلت تعلو أصواتها على صوت المنجنيق، ونزلت صاعقة فأصابت من الشاميين اثني عشر رجلاً، فضعفت عن ذلك قلوبهم عن المحاصرة، فلم يزل الحجاج يشجعهم، ويقول: إني خبير بهذه البلاد، هذه بروق تهامة ورعودها وصواعقها، وإن القوم يصيبهم مثل الذي يصيبكم، وجاءت صاعقة من الغد، فقتلت من أصحاب ابن الزبير جماعة كثيرة أيضاً، فجعل الحجاج يقول: ألم أقل لكم: إنهم يصابون مثلكم، وأنتم على الطاعة وهم على المخالفة؟ وكان أهل الشام يرتجزون وهم يرمون بالمنجنيق يقولون: خطَّارة مثل الفنيق المزبد ... نرمي بها عُوَّاد هذا المسجد فنزلت صاعقة على المنجنيق فأحرقته، فتوقف أهل الشام عن الرمي والمحاصرة، فخطبهم الحجاج فقال: ويحكم ألم تعلموا أن النار كانت تنزل على من قبلنا فتأكل قربانهم إذا تقبل منهم؟ فلولا أن عملكم مقبول ما نزلت النار فأكلته، فعادوا إلى المحاصرة. ومازال أهل مكة يخرجون إلى الحجاج بأمان، ويتركون ابن الزبير، حتى خرج إليه قريب من عشرة آلاف فأمّنهم، وقل أصحاب ابن الزبير جداً، حتى خرج إلى الحجاج حمزة وخبيب ابنا عبد الله بن الزبير، فأخذا لأنفسهما أماناً من الحجاج، فأمنهما، ودخل عبد الله بن الزبير على أمه، فشكا إليها خذلان الناس له، وخروجهم إلى الحجاج حتى أولاده وأهله، وأنه لم يبق معه إلا اليسير، ولم يبق لهم صبر ساعة، والقوم يعطونني ما شئت من الدنيا فما رأيك؟ فقالت: يا بني أنت أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق، وتدعو إلى حق، فاصبر عليه، فقد قتل أصحابك، ولا تُمكّن من رقبتك يلعب بها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا، فلبئس العبد أنت، أهلكت نفسك، وأهلكت من قتل معك، وإن كنت على حق، فما وهن الدين، وإلى كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن. فدنا منها فقبل رأسها، وقال: هذا والله رأيي. ثم قال: والله ما ركنت إلى الدنيا، ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمته، ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فزدتيني بصيرة على بصيرتي، فانظري يا أماه، فإني مقتول من يومي هذا، فلا يشتدّ حزنك، وسلّمي لأمر الله، فإن ابنك لم يتعمّد إتيان منكر، ولا عمل فاحشة قط، ولم يَجُرْ في حكم الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمّد ظلم مسلم ولا معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عامل فرضيته، بل أنكرته، ولم يكن عندي آثر من رضا ربي - عز وجل -، اللهم إني لا أقول هذا تزكية لنفسي، اللهم أنت أعلم بي مني ومن غيري، ولكني أقول ذلك تعزيةً لأمي؛ لتسلو عني، فقالت أمّه: إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسناً إن تقدمتني أو تقدمتك ففي نفسي، اخرج يا بني حتى أنظر إلى ما يصير إليه أمرك، فقال: جزاك الله يا أمه خيراً فلا تدعي الدعاء قبل وبعد لي. فقالت: لا أدعه أبداً، فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق. ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكة، وبرّه بأبيه وبي، اللهم إني قد سلمته لأمرك، ورضيت بما قضيت، فقابلني في عبد الله بن الزبير بثواب الصابرين الشاكرين. ثم قالت له: ادن مني أودعك. فدنا منها، فقبّلته ثم أخذته إليها فاحتضنته لتودعه، واعتنقها ليودعها، وكانت قد أضرت في آخر عمرها فوجدته لابساً درعاً من حديد، فقالت: يا بني ما هذا لباس من يريد ما تريد من الشهادة. فقال: يا أماه، إنما لبسته لأطيّب خاطرك وأسكّن قلبك به. قالت: لا يا بنيّ، ولكن انزعه، فنزعه، وجعل يلبس بقية ثيابه، ويتشدّد، وهي تقول: شمّر ثيابك. وجعل يتحفّظ من أسفل ثيابه لئلا تبدو عورته إذا قتل، وجعلت تذكره بأبيه الزبير، وجدّه أبي بكر الصديق، وجدّته صفيّة بنت عبد المطلب، وخالته عائشة زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وترجّيه القدوم عليهم إذا هو قتل شهيداً. ثم خرج من عندها فكان ذلك آخر عهده بها رَضْيَ اللَّهُ عنْهَا وعن أبيه وأبيها، ثم قالت: امضِ على بصيرتك، فودّعها وخرج وهو يقول: لست بمبتاع الحياة بسُبَّةٍ ... ولا مرتقٍ من خشية الموتِ سُلّماً قالوا: وكان يخرج من باب المسجد الحرام، وهناك خمسمائة فارس وراجل، فيحمل عليهم فيتفرقون عنه يمناً وشمالاً، ولا يثبت له أحد، وهو يقول: إني إذا أعرف يومي أصبره ... إذ بعضهم يعرف ثم ينكر ويقول أيضاً: الموت أكرم من إعطاء منقصةٍ ... من لم يمت غبطة فالغاية الهَرَمُ وكانت أبواب الحرم قد قلّ من يحرسها من أصحاب ابن الزبير، وكان لأهل حمص حصار الباب الذي يواجه الكعبة، ولأهل دمشق باب بني شيبة، ولأهل الأردن باب الصفا، ولأهل فلسطين باب بني جمح، ولأهل قنسرين باب بني سهم، وعلى كل باب قائد ومعه أهل تلك البلاد، وكان الحجاج، وطارق بن عمرو في ناحية الأبطح. لو كان قرني واحداً كفيته فيقول ابن صفوان وأهل الشام أيضاً: إي والله، وألف رجل. ولقد كان حجر المنجنيق يقع على طرف ثوبه فلا ينزعج بذلك، ثم يخرج إليهم فيقاتلهم كأنه أسد ضارٍ، حتى جعل الناس يتعجبون من إقدامه وشجاعته، فلما كان ليلة الثلاثاء السابع عشر من جمادى الأولى من هذه السنة، بات ابن الزبير يصلي طول ليلته، ثم جلس فاحتبى بحميلة سيفه فأغفى، ثم انتبه مع الفجر على عادته، ثم قال: أذِّن يا سعد. فأذن عند المقام، وتوضأ ابن الزبير ثم صلّى ركعتي الفجر ثم أقيمت الصلاة، فصلى الفجر فقرأ سورة ((ن)) حرفاً حرفاً، ثم سلّم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال لأصحابه: ما أراني اليوم إلا مقتولاً، فإني رأيت في منامي كأن السماء فرجت لي فدخلتها، وإني والله قد مللت الحياة، وجاوزت سني اثنتين وسبعين سنة، اللهم إني أحبّ لقاءك فأحب لقائي. ثم قال: اكشفوا عن وجوهكم حتى أنظر إليكم، فكشفوا عن وجوههم وعليهم المغافر، فحرّضهم وحثّهم على القتال والصبر، ثم نهض بهم فحمل وحملوا حتى كشفوهم إلى الحجون، فجاءته آجُرَّةٌ فأصابته في وجهه، فارتعش لها، فلما وجد سخونة الدم يسيل على وجهه تمثّل بقول بعضهم: فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدما ثم رجع فجاءه حجر منجنيق من ورائه فأصابه في قفاه فوقذه، ثم وقع إلى الأرض على وجهه، ثم انتهض فلم يقدر على القيام، وابتدره الناس، فشدّ عليه رجل من أهل الشام، فضرب الرجل فقطع رجليه وهو متكئ على مرفقه الأيسر، وجعل يضرب وما يقدر أن ينتهض، حتى كثروا عليه، فابتدروه بالسيوف، فقتلوه - رضي الله عنه -، وجاءوا إلى الحجاج فأخبروه، فخر ساجداً قبَّحه الله، ثم قام هو وطارق بن عمرو حتى وقفا عليه وهو صريع، فقال طارق: ما ولدت النساء أذْكَرَ من هذا. فقال الحجاج: تمدح من يخالف طاعة أمير المؤمنين؟ قال: نعم هو أعذر لنا، إنا محاصروه، وليس هو في حصن ولا خندق ولا منعة ينتصف منا، بل يفضل علينا في كل موقف، فلما بلغ ذلك عبد الملك صوّب طارقاً. وانظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير، 4/ 348 - 357، وتاريخ الطبري، 6/ 187 - 192، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزي، 6/ 124 - 127.

بعد أن استعاد عبد الملك بن مروان العراق، بعث الحجاج بن يوسف الثقفي في جيش كبير من أهل الشام لاستعادة الحجاز، ومقابلة عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما وكتب معه أماناً لأهل مكة إن هم أطاعوه، وكان ذلك في سنة 72هـ‍، وعندما وصل الحجاج إلى مدينة الطائف، نزل بها، ثم سار إلى مكة المكرمة، وحاصرها، ودافع ابن الزبير وأصحابه عن مكة دفاعاً جيداً، وضربوا مثلاً رائعاً في البطولة، إذ استطاعوا أن يصمدوا أمام هذا الجيش المحاصر لهم، ومنعوه من أن يستولي على مكة قرابة سبعة أشهر. لكن لطول الحصار من ناحية، وكثرة الجيش من ناحية أخرى، أضعف قوة المدافعين، فقلَّت المؤن، وأصابت أهلَ مكةَ مجاعةٌ شديدة اضطر معها المحاصرون إلى القتال، وقد صمد ابن الزبير في المعركة حتى قتل - رضي الله عنه - وعن والديه، وذلك سنة 73هـ‍ (¬1). ¬

(¬1) قال ابن عساكر في تاريخ دمشق، 12/ 120: ((عن معاذ بن العلاء أخي أبي عمرو بن العلاء قال: لما قتل الحجاجُ بن يوسف ابنَ الزبير ارتجت مكة بالبكاء، فأمر الناس فاجتمعوا في المسجد، ثم صعد المنبر، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال بعقب حمد ربه: يا أهل مكة بلغني إكباركم واستفظاعكم قتل ابن الزبير، ألا وإن ابن الزبير كان من خيار هذه الأمة، حتى رغب في الخلافة، ونازع فيها أهلها، فخلع طاعة الله، واستكنّ بحرم الله، ولو كان شيء مانع العصاة لمنعت آدم حرمة الجنة، لأن الله تعالى خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وأباحه كرامته، وأسكنه جنته، فلما أخطأ أخرجه من الجنة بخطيئته، وآدم على الله تعالى أكرم من ابن الزبير، والجنة أعظم حرمة من الكعبة، اذكروا الله يذكركم. وانظر البداية والنهاية لابن كثير))، 12/ 513 - 514. وقال ابن عساكر أيضاً، 12/ 121: ((عن عطاء بن زياد قال: كنت مع ابن الزبير في البيت فكان الحجاج إذا رمى ابن الزبير بحجر وقع الحجر على ابن الزبير على البيت، فسمعت للبيت أنيناً كأنين الإنسان: أوه)). وقال ابن كثير في البداية والنهاية، 12/ 514: ((وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن يوسف، ثنا عوف عن أبي الصديق الناجي أن الحجاج دخل على أسماء بنت أبي بكر بعدما قتل ابنها عبد الله، فقال: إن ابنك ألحد في هذا البيت، وإن الله أذاقه من عذاب أليم، وفعل به وفعل، فقالت: كذبت، كان بارّاً بوالديه، صوّاماً قوّاماً، والله لقد أخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يخرج من ثقيف كذابان: الآخر منهما شر من الأول. وهو مبير ... وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المثلة، وسمعته يقول: ((يخرج من ثقيف رجلان: كذاب ومبير، قالت: فقلت للحجاج: أما الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير فأنت هو يا حجاج)). وفي صحيح مسلم، رقم 2545/ 229 أن أسماء قالت: ((أما إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدثنا أن في ثقيف كذاباً ومبيراً، فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبير فلا أخالك إلا إياه، فقام عنها ولم يراجعها)). انظر: البداية والنهاية، 12/ 513 - 515، وتاريخ ابن عساكر، 12/ 121 - 122، وتاريخ الإسلام للذهبي، 6/ 316 - 317.

وعلى إثر ذلك دخل الحجاج مكة، فبايع أهلها لعبد الملك بن مروان، ثم سار إلى المدينة المنورة فدانت له، وبذلك يكون الحجاج قد أدخل الحجاز في طاعة الدولة الأموية (¬1). ¬

(¬1) وزارة المعارف، التاريخ الإسلامي، ص13.

الفصل الثاني: الحجاج وإمارته على العراق

الفصل الثاني الحجاج وإمارته على العراق المبحث الأول: إمارة العراق (¬1): اشتعلت الفتن في عهد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وذلك في العراق وازدادت الاضطرابات والثورات فيه بعد وفاة معاوية بن أبي سفيان ¬

(¬1) قال ابن جرير الطبري في تاريخه، 6/ 202: ((وفي هذه السنة (أي سنة 75هـ‍) ولّى عبد الملك الحجاج بن يوسف العراق دون خراسان وسجستان، وفيها قدم الحجاج الكوفة، فحدثني أبو زيد قال: حدثني محمد بن يحيى أبو غسان، عن عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: خرج الحجاج بن يوسف من المدينة حين أتاه كتاب عبد الملك بن مروان بولاية العراق بعد وفاة بشر بن مروان في اثني عشر راكباً على النجائب حتى دخل الكوفة حين انتشر النهار فجاءة، وقد كان بشر بعث المهلب إلى الحرورية، فبدأ بالمسجد فدخله، ثم صعد المنبر وهو متلثم بعمامة خز حمراء، فقال: عليّ بالناس، فحبسوه وأصحابه خارجه، فهمّوا به حتى إذا اجتمع إليه الناس قام فكشف عن وجهه، وقال: أنا ابن جلا وطلاّع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني أما والله إني أحمل الشر محمله، وأحذوه بنعله، وأجزيه بمثله، وإني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإني لأنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى. ثم قال: وإني والله يا أهل العراق ما أغمز كتغماز التين ولا يقعقع لي بالشنان، ولقد فررت من ذكاء، وجريت إلى الغاية القصوى. إن أمير المؤمنين عبد الملك نشر كنانته، ثم عجم عيدانها، فوجدني أمرّها عوداً، وأصلبها مكسراً، فوجّهني إليكم، فإنكم طالما أوضعتم في الفتن، وسننتم سنن الغي. أما والله لألحونّكم لحو العود، ولأعصبنّكم عصب السّلَمة، ولأضربنّكم ضرب غرائب الإبل، إني والله لا أعِد إلا وفيت، ولا أخلق إلا فريت، فإياي وهذه الجماعات وقيلاً وقالاً، وما يقول: وفيه أنت وذاك؟ والله لتستقيمُنّ على سبل الحق، أو لأدعنّ لكل رجل منكم شغلاً في جسده. من وجدت بعد ثالثة من بعث المهلب سفكت دمه، وأنهبت ماله. ثم دخل منزله، ولم يزد على ذلك. وانظر أيضاً: البداية والنهاية لابن كثير، 12/ 243 - 247، والكامل في التاريخ لابن الأثير، 4/ 374 - 376، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم، 6/ 149 - 152.

- رضي الله عنه -، ولكن قتل الحسين، وقوة عبيد الله بن زياد جعلت الهمم الثورية في العراق تصاب ببعض الإحباط والسكينة تجاه الأمويين في دمشق. وحينما استطاع عبد الملك بن مروان السيطرة على العراق بمقتل ابن الزبير (مصعب)،تمّ إخماد الفتن التي تلت هذا بوجود أخيه بشر بن مروان أميراً على العراق، ووجود كثير من القواد وكبار وجوه العرب من حوله، كما عزّزه بحامية عسكرية شامية كبيرة لحفظ الأمن والنظام، ولإرهاب الأقوام الذين يحاولون زعزعة ركن الدولة، ويبدو أن هذا الاستقرار المزعزع لم يدم طويلاً، إذ عاد الخوارج إلى الثورة من جديد، فهدّدوا أمن الدولة الأموية، وذلك حين توفي بشر بن مروان، ولولا الله، ثم مقارعة القائد الأموي المشهور، المهلَّب بن أبي صُفرة لهم، ومطاولته حروبهم؛ لسيطروا على البصرة، والكوفة، وحوّلوا وجه الحوادث إلى غير ما يريده الأمويون، وأضف إلى ذلك: أن العراق يقطنها أقليات عدة، كلها تتجمّع على كره الأمويين. وربما اجتمع كثير منها على كره المسلمين بصفة عامة، والعرب بصفة خاصة (¬1). فبعث عبد الملك بن مروان الوالي تلو الوالي إلى العراق، ولكن العراقيين كلما جاءهم والٍ استخفّوا به، وإذا صعد المنبر رموه بالحصا، وازدادت البلوى بأن فر كثيرٌ من الجند ولحقوا بأهلهم، الأمر الذي جعل حامي العراق من الخوارج المهلّب يغضب، ويكتب إلى عبد الملك أن يبعث إليه بشخصية قوية، تستطيع أن ترغم الجند على الصمود أمام الخوارج، عند ذلك نثر عبد الملك ¬

(¬1) هزاع الشمري، الحجاج، ص23.

المبحث الثاني: فتوحات الحجاج:

كنانته فيمن يوليه العراق، ويستطيع إخماد الشر الملتهب، ويصارع كل الأعداء في هذا الجزء المهم من الدولة، فلم يجد إلا أمير المدينة: الحجاج بن يوسف، فكتب إليه بخطه: أما بعد يا حجاج: فقد وليتك العراقين صدقة، فإذا قدمت الكوفة فطأها وطأة يتضاءل منها أهل البصرة، وإياك وهوينا الحجاز؛ فإن القائل هناك يقول ألفاً، ولا يقطع بهن حرفاً، وقد رميت العرض الأقصى، فارمه بنفسك، وأرد ما أردته بك، والسلام. فلما قرأ الحجاج الكتاب، ترك المدينة إلى العراق، فقدم الكوفة في اثني عشر راكباً على النجائب، فبدأ بالمسجد فدخله، ثم صعد المنبر وهو متلثم بعمامة حمراء، فقال: عَليَّ بالناس، فحسبه أصحابه خارجيّاً فهموا به، حتى إذا اجتمع عليه الناس، قام فكشف الغطاء عن وجهه وقال: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني أما والله إني لأحمل الشر محمله، وأحذوه بنعله، وأجزيه بمثله، إلى آخر الخطبة (¬1). وبهذه الخطبة حدّد الحجاج سياسته تجاه أهل العراق، ووضَّح لهم نهجه فأخافهم (¬2) (¬3). المبحث الثاني: فتوحات الحجاج: اختار الحجاج وجهتين لسير العمليات العسكرية: ¬

(¬1) الإمام الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 6/ 202. (¬2) هزاع الشمري، الحجاج، ص24. (¬3) البداية والنهاية، لابن كثير، 12/ 243 - 247، والكامل في التاريخ لابن الأثير، 4/ 374 - 376، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم، 6/ 149 - 152.

المبحث الثالث: صفات الحجاج وإصلاحاته:

أ - الوجهة الأولى: وجهة خراسان، وما وراء النهر. ب – الوجهة الثانية: وجهة مكران، وبلاد السند. والآن ندرس العمليات بالتفصيل: أ – خراسان، وما وراء النهر: وقد عقد الحجاج لواءها للقائد: قتيبة بن مسلم الباهلي، الذي نقله الحجاج من إمارة الري جنوب قزوين، وعيَّنه على خراسان. ب – مكران وبلاد السند (باكستان) كان عليها محمد بن القاسم الثقفي، فقد اختاره الحجاج رغم صغر سنه التي لا تتجاوز السابعة عشرة. ولم يزل محمد بن القاسم في فتح نصر حتى أكمل بلاد السند، وأتاه نعي الحجاج (¬1). المبحث الثالث: صفات الحجاج وإصلاحاته: أ - من صفات الحجاج: 1 - حفظه للقرآن وفقهه: قال بعض السلف: كان الحجاج يقرأ القرآن كل ليلة (¬2). 2 - الصدق: اشتهر الحجاج بالصدق وانعدم لديه الكذب والغدر، فكان حازم الرأي، لا يداجي ولا يماري (¬3). ¬

(¬1) هزاع الشمري، الحجاج، ص35، 37، 39. (¬2) ابن كثير، البداية والنهاية، 9/ 119. (¬3) هزاع الشمري، الحجاج، ص46.

3 - عقليته وسياسته: قال الدارقطني: ذكر سليمان بن أبي منيح، عن صالح بن سليمان قال: قال عقبة بن عمرو: ما رأيت عقول الناس إلا قريباً بعضها من بعض إلا الحجاج، وإياس بن معاوية، فإن عقولهما كانت ترجح على عقول الناس (¬1). 4 - قبوله للنصح: فقد كان الحجاج يقبل النصح، ويأخذ به، ويتقبل الآراء من الآخرين، وخاصة أولئك الناس القادرين على إسداء النصح (¬2). أما إصلاحات الحجاج فمنها: 1 - تعجيم القرآن، وتنقيط الحروف الهجائية. 2 - تحويل الدواوين من الفارسية إلى العربية. 3 - بناء القوة العسكرية في الخليج، وبحر الهند. 4 - إصلاح السفن. 5 - تنظيم الإصلاح الزراعي. 6 - العناية الفائقة في الكيان الاقتصادي (¬3). ¬

(¬1) ابن كثير، البداية والنهاية، ‍/ 119. (¬2) هزاع الشمري، الحجاج، ص51. (¬3) هزاع الشمري، الحجاج، ص57.

الباب الثالث: الحجاج والأدب العربي

الباب الثالث الحجاج والأدب العربي الفصل الأول: الشعر العربي. المبحث الأول: ما قيل فيه من مدح. المبحث الثاني: ما قيل فيه من هجاء. الفصل الثاني: الحجاج والخطابة. المبحث الأول: الخطب. المبحث الثاني: الرسائل.

الفصل الأول: الشعر العربي

الفصل الأول الشعر العربي المبحث الأول: ما قيل فيه من مدح: قالت ليلى الأخيلية تمدح الحجاج: أحجاج لا يفل سلاحك إنما الـ ... منايا بكفّ الله حيث براها أحجاج لا تعطِ العصاة مناهُم ... والله لا يعطي العصاة مناها إذا هبط الحجاج أرضاً مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها شفاها من الداء العُضال الذي بها ... غلام إذا هزّ القناة سقاها سقاها فروّاها بشرب سجالة ... دماء الرجال حيث قال خشاها إذا سمع الحجاج زفَّ كتيبةٍ ... أعدّ لها قبل النزول قِراها أعدّ لها مسمومة فارسية ... بأيدي رجال يحلبون صداها فما ولد الأبكار والعون مثله ... ببحر ولا أرض يجف ثراها (¬1) وقالت تمدحه أيضاً: حجاج أنت شهاب الحرب إن لقحت ... وأنتَ للناس نور في الدجى يقدُ (¬2) وقد قال الفرزدق يمدح الحجاج: أمير المؤمنين وقد بلونا ... أمورك كلها راشداً صواباً تعلم إنما الحجاج سيفٌ ... تجذبه الجماجم والرقابا ¬

(¬1) هزاع الشمري، الحجاج، ص85، 86. (¬2) هزاع الشمري، ص86.

المبحث الثاني: ما قيل فيه من هجاء:

هو السيف الذي نصر ابن أروى ... ويوم الدار أسهلت انسكاباً عشية يدخلون بغير إذن ... على متوكّل وفّى وطابا خليل محمد، وإمام حقّ ... ورابع خير من وطئ الترابا فليس بزايل للحرب منهم ... شهاب يطفئون به شهابا إلى أن قال: رأيتك حين تعترك المنايا ... إذا المرعوب للغمرات هابا وأذلقه النقاق وكاد منه ... وجيب القلب ينتزع الحجابا فمن يمننْ عليك النصر يكذب ... سوى الله الذي رفع السحابا ثم قال بعد عدة أبيات: فعفوك يا ابن يوسف خير عفوٍ ... وأنت أشد منتقم عقاباً رأيت الناس قد خافوك حتى ... خشوا بيديك أو فرقوا الحسابا (¬1) المبحث الثاني: ما قيل فيه من هجاء: قال الفرزدق يهجوه بعد موته: وما نصر الحجاج إلا بغيره ... على كل يوم مستحر الملاحم بقوم أبو العاصي أبوهم توارثوا ... خلافة مهدي وخير الخواتم ولا رد مذ حطَّ صحيفة ناكثاً ... كلاماً ولا باتت له عين نائم ولا رجعوا حتى رأوا في شماله ... كتاباً لمغرور لدى النار نادم (¬2) ¬

(¬1) هزاع الشمري، الحجاج، ص94، 95. (¬2) هزاع الشمري، الحجاج، ص98.

الفصل الثاني: الحجاج والخطابة

الفصل الثاني الحجاج والخطابة المبحث الأول: الخطب: منها خطبته يوم قتل ابن الزبير: قال بعد حمد الله والثناء عليه: ((يا أهل مكة، بلغني إكباركم قتل ابن الزبير، ألا وإن ابن الزبير كان من خيار هذه الأمة، حتى رغب في الخلافة، ونازع فيها أهلها، فنزع طاعة الله، واستكنّ بحرم الله، ولو كان شيءٌ مانع العصاة، لمنعت آدم حرمة الجنة، إن الله خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وأباح له كرامته، وأسكنه جنّته، فلما أخطأ أخرجه من الجنة بخطيئة، وآدم أكرم على الله من ابن الزبير، والجنة أعظم من حرمة الكعبة، اذكروا الله يذكركم)) (¬1). المبحث الثاني: الرسائل: من رسائل الحجاج: كان الخليفة في دمشق قد أرسل جيشاً شاميّاً عليه سفيان بن الأبرد الكلبي إلى العراق، للمساعدة في حرب الخوارج، فأرسل لهم الحجاج رسالة يحثّهم فيها على السرعة: ((أما بعد، فإذا حاذيتهم هيت، فدعوا طريق الفرات والأنبار، وخذوا على عين التمر، حتى تقدموا الكوفة، إن شاء الله، وعجّلوا السير، والسلام)) (¬2). ¬

(¬1) ابن كثير، البداية والنهاية، 12/ 513 - 514، وتاريخ دمشق، 12/ 120. (¬2) الإمام الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج‍، ص580.

الباب الرابع: نقد الحجاج ونهايته

الباب الرابع نقد الحجاج ونهايته الفصل الأول: نقد الحجاج. المبحث الأول: آراء العلماء وأهل الحديث فيه. المبحث الثاني: آراء المؤرخين وأصحاب الشأن. الفصل الثاني: نهاية الحجاج. المبحث الأول: موته، ووقته. المبحث الثاني: آثار وفاته.

الفصل الأول: نقد الحجاج

الفصل الأول نقد الحجاج المبحث الأول: آراء العلماء وأهل الحديث فيه: قال الإمام الذهبي: الحجاج بن يوسف الثقفي عن أنس، قال أحمد والحاكم: ((أهلٌ ألا يُروَى عنه. وقال النسائي: ليس بثقة ولا مأمون. قال الإمام الذهبي: يحكي عنه ثابت، وحميد، وغيرهما، فلولا ما ارتكبه من العظائم والفتك والشر لمشى حاله)) (¬1). وقال ابن حجر: ((حجاج بن يوسف ... (من الثالثة) وقع ذكره وكلامه في الصحيحين، وليس بأهل أن يُروى عنه، ولي أمر العراق 20 سنة، ومات سنة 95هـ‍)) (¬2). المبحث الثاني: الرُّؤى والأحلام في الحجاج: حكى عمر بن عبد العزيز: أنه رأى الحجاج بعد موته في المنام، قال: فرأيته على شكل رماد، فقلت له: أحجاج؟ قال: نعم، قلت: ما فعل الله بك؟ قال: قتلني بكل من قتلته مرة مرة، وبسعيد بن جبير سبعين مرة، وأنا أرجو ما يرجوه الموحِّد (¬3). ¬

(¬1) الإمام الذهبي، ميزان الاعتدال، ‍/ 26، 27. (¬2) ابن حجر، تقريب التهذيب، ص225. (¬3) زكريا القزويني، آثار البلاد، ص100.

الفصل الثاني: نهاية الحجاج

الفصل الثاني نهاية الحجاج المبحث الأول: موته، ووقته: توفي الحجاج سنة 95هـ‍يوم الجمعة، لتسع بقين من رمضان، وقيل: مات في شوال وهو ابن أربع وخمسين سنة، وقيل: ثلاث وخمسين سنة (¬1). المبحث الثاني: أثر وفاته: لما توفي قال خادم الوليد: إني لأوضئ الوليد يوماً للغداة، فمد يده فجعلت أصب عليه الماء وهو ساهٍ، والماء يسيل، فلا يستطيع أن يتكلم، ثم نضح الماء في وجهي وقال: ما تدري ما جاء الليلة؟ فقلت: لا، قال: ويحك مات الحجاج (¬2) (¬3). [مواقف الحجاج مع التابعين ومواقفهم معه (¬4): 1 - موقفه مع الحسن البصري: للحسن البصري مواقفه الشجاعة الباسلة في وجه الحجاج، تشهد له بعلوّ كعبه، وسبقه في هذا الأمر، فقد تصدّى لطغيانه، وجهر بين العامة بسوء أفعاله، وصدع في وجهه بكلمة الحق والصدق. ولا أدلّ على ذلك من موقفه القوي الشجاع حين بنى الحجاج بناءً في ¬

(¬1) ميزان الاعتدال للذهبي، 2/ 226 - 227، وتقريب التهذيب لابن حجر، ص225. وانظر: هزاع الشمري، الحجاج، ص22. (¬2) روى أبو حنيفة عن حماد قال: بشرت إبراهيم (النخعي) بموت الحجاج فسجد وبكى من الفرح. ذكره الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ، 1/ 73. (¬3) هزاع الشمري، الحجاج، ص22. (¬4) هذه المواقف أضفتها للفائدة [المحقق].

واسط – وهي مدينة متوسطة بين البصرة والكوفة –، ونادى الحجاج الناس أن يخرجوا لينظروا إلى روعة البناء، فسارع الحسن البصري وخرج في وسط الجموع الغفيرة وهم يطوفون بهذه البناية، فوقف فيهم خطيباً يعظ الناس ويقلل الدنيا في أعينهم، فقال: لقد نظرنا فيما ابتنى أخبث الأخبثين، فوجدنا أنّ فرعون شيّد أعظم مما شيَّد، وبنى أعلى مما بنى، ثم أهلك الله فرعون، وأتى على ما بنى وشيّد، ليت الحجاج يعلم أنّ أهل السماء قد مقتوه، وأن أهل الأرض قد غرّوه، فلما سمع الحجاج مقالة الحسن البصري امتقع لونه، وخرس لسانه، وغاص في جلده، ولم يتكلّم ببنت شفة، غير أنه اقتصر على قوله: حسبك يا أبا سعيد. . . حسبك. فرد عليه الحسن البصري بثبات جنان، ورباطة جأش: لقد أخذ الله الميثاق على أهل العلم ليبينّنه للناس، ولا يكتمونه. ولم يملك الحجاج أن يفعل للحسن شيئاً وانصرف، وفي اليوم التالي عاتب جنده وحراسه، ووبّخهم، وعنّفهم قائلاً لهم: تبّاً لكم وسحقاً! يقوم عبد من عبيد أهل البصرة، ويقول فينا ما شاء أن يقول، ثم لا يجد فيكم من يرده أو ينكر عليه، والله لأسقينّكم من دمه يا معشر الجبناء. واستدعي الحسن لينكّل به الحجاج في وسط حرسه وجنوده، وجاء الحسن، ولما رأى النّطع والسيف والسيّاف دعا ربه أن يكفيه شرّ الحجاج، وأن يجعل نقمته برداً وسلاماً، كما جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم الخليل - عليه السلام -، فدخل الحسن على الحجاج، ولم يعبأ بما رأى، ولم يهزهّ منظر السيف والنّطع والسيّاف، بل كان في عزّة المؤمن، ووقار الداعي إلى الله، فهابه الحجاج، وأقبل عليه

2 - موقفه مع سعيد بن المسيب:

يرحب به، ويدنيه من مجلسه، ويوسّع له، هذا ما حدث في وسط دهشة واستغراب الحرس والجنود. وطفق الحجاج يسأل الحسن عن بعض أمور الدين، والحسن يجيبه عن كل مسألة بثقة العالم الرباني، لا يتتعتع، ولا يهتزّ، حتى انفضّ المجلس، وأحسن الحجاج للحسن، وطيَّبه (¬1). 2 - موقفه مع سعيد بن المسيّب: وهذا الحجاج الحاكم الظالم الغشوم، لا يقف أمامه أحد لظلمه وجبروته، فقد قيل لسعيد بن المسيّب: ما شأن الحجاج لا يبعث إليك، ولا يهيجك، ولا يؤذيك؟! قال سعيد: لا أدري، غير أن صلّى ذات يوم مع أبيه صلاة، فجعل لا يتمّ ركوعها ولا سجودها، فأخذت كفّاً من حصباء، فحصبته بها. قال الحجاج: فما زلت بعد ذلك أحسن الصلاة. ولما عقد عبد الملك لابنيه الوليد وسليمان بالعهد، وكتب بالبيعة لهما إلى البلدان فبايع الناس إلا سعيد بن المسيّب، فضربه هشام [أمير المدينة وقتذاك] ستين سوطاً، وطاف به في تبان من شعر حتى بلغ به رأس الثنية، فلما كروا به قال سعيد: أين تكرّون بي؟ قالوا: إلى السجن. قال سعيد: والله لولا أنني ظننته الصلب ما لبست هذا التبان أبداً. (أي حتى لا تكشف عورته إذا قتل) فردوه إلى السجن فحبسه. وكتب إلى عبد الملك يخبره بخلافه، فكتب إليه عبد الملك يلومه فيما صنع بسعيد وقال: سعيد كان والله أحوج أن تصل رحمه ¬

(¬1) سير أعلام التابعين، ص13 - 15. وانظر: سير أعلام النبلاء، 4/ 563 - 588، والطبقات الكبرى، 7/ 157 - 177، وتهذيب الكمال، 6/ 102 - 125.

3 - خروج ابن الأشعث على الحجاج:

من أن تضربه، وإنا لنعلم ما عنده خلاف (¬1). 3 - خروج ابن الأشعث على الحجاج: قدر الله ـأن تمرّد على الحجاج أحد قوَّاده، وهو عبد الرحمن بن الأشعث، فقد سيّر الحجاج قائده ابن الأشعث بجيش ليغزو رتبيل ملك الترك في بلاده ما وراء سجستان، وكان ابن الأشعث معروفاً بشجاعته، وبسالته، وقوّته، وبالفعل تمّ له – بفضل الله – فتح هذه البلاد والنصر على رتبيل، فأرسل ابن الأشعث خُمس الغنائم إلى الحجاج، ليودعها في بيت مال المسلمين، واستأذنه في التوقف عن القتال ريثما يتبين له أمر تلك البلاد، ويقف على معالمها ومداخلها ومخارجها حتى لا يعرّض جيشه لصعوبات ومواقف حرجة، قد تؤدي به في النهاية إلى الهزيمة والهلَكة، فاستشاط الحجاج غيظاً، واعتبر ذلك منه تمرداً على أوامره، أو خنوعاً، وخوفاً وجبناً، وكتب الحجاج لابن الأشعث كتاباً يهدده، وينذره، ويلوح عليه باللائمة والنقمة، فغضب لذلك ابن الأشعث، وانتهزها فرصة، خاصة وأن الجيش ناقم على الحجاج، غير راض عنه وعن حكومته، ولا عن سياسته. فاستشارهم ابن الأشعث فيما يفعل بعد أن أطلعهم على الكتاب، فصادف ميلاً في قلوبهم، وحانت الفرصة التي يتخلّصون من حكمه، وبطشه، وجبروته، فدعوا ابن الأشعث إلى الخروج عليه، ولما استوثق ابن الأشعث من رغبتهم هذه، أخذ منهم البيعة على ذلك، فبايعه الجند على قتال الحجاج، ودارت بينهما معارك طاحنة، كان النصر فيها حليفاً لابن الأشعث، فاستولى على ¬

(¬1) سير أعلام التابعين، ص55، 56، وانظر: سير أعلام النبلاء، 4/ 217 - 246، برقم 88، والطبقات الكبرى، 5/ 89 - 109، برقم 683، وتهذيب الكمال، 11/ 66 - 75، برقم 2358.

4 - موقفه مع سعيد بن جبير:

سجستان، وأكثر بلاد فارس، مما شجع ابن الأشعث على مواصلة حربه وقتاله، وتخليص الكوفة والبصرة من بطش الحجاج وعتوّه، ولكن مالت كفّة النصر، وأصبحت من نصيب الحاكم الظالم الغشوم الحجاج بن يوسف الثقفي. وانهزم ابن الأشعث هزيمة منكرة، فر على إثرها لينجو بنفسه، واستسلم الجيش المتمرّد، وأمر الحجاج بتجديد البيعة له، والانطواء تحت عباءته، فاستجاب الكثير، وفرّ البعض، وكان من أمر الذين استجابوا له واستسلموا أن خيّرهم الحجاج بين أمرين: أحلاهما مرّ، وأخفّهما تأباه النفس الأبيّة، وتلفظه الفطرة السويّة، خيّرهم الحجاج بين أن يشهدوا على أنفسهم بالكفر بنقض البيعة لوالي أمير المؤمنين، وبين أن يُقتلوا، فاختار بعضهم القتل على أن يتكلم بكلمة الكفر، وبعضهم استعمل التَّقيَّة، وأخذ بالرخصة، وشهد على نفسه بالكفر كرهاً واضطراراً (¬1). 4 - موقفه مع سعيد بن جبير: ونجَّى الله سعيد بن جبير من هذه الورطة، فكان ممن فرّ واختفى عن أعين الحجاج عشر سنوات، ولكن قدر الله لابدّ نافذ، فعندما تولّى خالد بن عبد الله القسري ولاية مكة من قبل الحجاج، وكان سيّئ السيرة، فخاف أصحاب سعيد على سعيد، فألحّوا عليه بالفرار والخروج من مكة، ولكن سعيداً أبى الخروج، وقال لأصحابه: والله لقد استحييت من الله مما أفرّ، ولا مفرّ من قدر الله. ¬

(¬1) سير أعلام التابعين، ص68، 69، وانظر: سير أعلام النبلاء، 4/ 321 - 342، برقم 116، والطبقات الكبرى، 6/ 267 - 277، برقم 2317، وتهذيب الكمال، 10/ 358 - 376، برقم 2245.

وكان والي المدينة من قبل الحجاج عثمان بن حيان بدل عمر بن عبد العزيز، فجعل يبعث من بالمدينة من أصحاب ابن الأشعث من العراق إلى الحجاج في القيود، فتعلّم منه خالد بن عبد الله القسري، فعيّن من عنده من مكة: سعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد بن جبر، وعمرو بن دينار، وطلق بن حبيب، فبعث خالد بهؤلاء إلى الحجاج، ثم عفا عن عطاء، وعمرو بن دينار؛ لأنهما من أهل مكة، وبعث بأولئك الثلاثة، فأما طلق فمات في الطريق قبل أن يصل، وأما مجاهد فحبس، فمازال في السجن حتى مات الحجاج، وأما سعيد بن جبير ذلك العابد القانت التقي الورع الطاهر، وصل مدينة واسط وهو مقيّد في الأغلال، فأدخلوه على الحجاج، وهو ثابت القلب، هادئ النفس، رابط الجأش، قوي الحِجَاج، فصيح اللسان، لم يتزعزع، ولم يهن، راسخ رسوخ الجبال، ودار بينهما حوار طويل يكشف عن عظمة الرجل، وحسن توكله على ربه، وقوّة إيمانه، وصبره، ويقينه، رجل فريد لم تلن له قناة، ولم يفتّ في عضده تهديد أو وعيد، فأقبل على عدوّه بما يسوؤه وهو في قبضته، والسيف مصلت على رقبته، فلم يعبأ به، وهو يعلم أنه مقتول لا محالة. وعن الحسن قال: لما أُتي الحجاج بسعيد بن جبير، قال: أنت الشقي ابن كسير؟ قال: بل أنا سعيد بن جبير، قال: بل أنت الشقي ابن كسير، قال: كانت أمي أعرف باسمي منك، قال: ما تقول في محمدٍ؟ قال: تعني النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: نعم، قال: سيد ولد آدم؛ النبي المصطفى خير من بقي، وخير من مضى، قال: فما تقول في أبي بكر؟ قال: الصديق؛ خليفة الله، مضى حميداً، وعاش سعيداً، مضى على منهاج نبيه - صلى الله عليه وسلم - لم يغير، ولم يبدل، قال: فما تقول في عمر؟ قال:

عمر الفاروق خيرة الله وخيرة رسوله، مضى حميداً على منهاج صاحبيه، لم يغيّر، ولم يبدّل، قال: ما تقول في عثمان؟ قال: المقتول ظلماً، المجهّز جيش العسرة، الحافر بئر رومة، المشتري بيته في الجنة، صهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ابنتيه، زوَّجه النبي - صلى الله عليه وسلم - بوحي من السماء، قال: فما تقول في علي؟ قال: ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأول من أسلم؛ زوج فاطمة، وأبو الحسن والحسين، قال: فما تقول في معاوية؟ قال: أنت أعلم ونفسك، قال: بت بعلمك، قال: إذاً يسوؤك ولا يسرّك، قال: بت بعلمك، قال: اعفني، قال: لا عفا الله عني إن أعفيتك، قال: إني لأعلم أنك مخالف لكتاب الله – تعالى –، ترى من نفسك أموراً تريد بها الهيبة، وهي تقحمك الهلكة، وسترد غداً فتعلم، قال: أما والله لأقتلنك قتلة لم أقتلها أحداً قبلك، ولا أقتلها أحداً بعدك، قال: إذاً تفسد عليّ دنياي، وأفسد عليك آخرتك، قال: يا غلام، السيف والنطع، قال: فلما ولّى ضحك، قال: أليس قد بلغني أنك لم تضحك؟ قال: وقد كان ذلك، قال: فما أضحكك عند القتل؟ قال: من جرأتك على الله، ومن حلم الله عنك، قال: يا غلام اقتله، فاستقبل القبلة وقال: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، فصرف وجهه عن القبلة، قال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله}، قال: اضرب به الأرض، قال: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}، قال: اذبح عدو الله، فما أنزعه لآيات القرآن منذ اليوم. وقبل أن ينزل السيف على رقبة سعيد دعا ربه قائلاً: اللهم لا تسلط الحجاج على أحد بعدي. وسقط رأس سعيد على الأرض، الرأس التي كانت تحوي علوماً كثيرة، وتضم تفسير كلام رب العالمين، سقطت على الأرض، وذكر

5 - مواقفه مع الشعبي:

أهل التاريخ أن رأسه هلّلت ثلاث مرات: لا إله إلا الله، يفصح في الأوليين، ولم يفصح في الثالثة. ومات سعيد الإنسان والجسد، ولكن لم تمت ذكراه، ولم يمت اسمه وعلمه وفقهه، ومات أيضاً الحجاج بعده بقليل شرّ ميتة، فاشتدّت عليه آلام المرض، وغصص الموت، فكان يهبّ مذعوراً وهو يقول: ما لي ولسعيد بن جبير، ويكرّرها، حتى أهلكه الله، وخلّص العباد والبلاد من شرّه وطغيانه، ورؤي الحجاج في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: قتلني الله بكل امرئ قتلة واحدة وقتلني بسعيد بن جبير سبعين قتلة (¬1). 5 - مواقفه مع الشعبي: يقال إن الحجاج بن يوسف الثقفي قال للشعبي يوماً: كم عطاءك في السنة؟ فقال الشعبي: ألفين. فقال الحجاج: ويحك! كم عطاؤك؟ فقال الشعبي: ألفان. قال الحجاج: كيف لحنت أولاً؟! قال الشعبي: [لحن الأمير فلحنت. فلما أعرب أعربت، وما أمكن أن يلحن الأمير وأعرب أنا. فاستحسن ذلك منه وأجازه. وعن الشعبي قال: لما قدم الحجاج سألني عن أشياء من العلم، فوجدني بها عارفاً، فجعلني عريفاً على قومي الشعبيين، ومنكباً على جميع همدان، وفرض لي، فلم أزل عنده بأحسن منزلة، حتى كان شأن عبد الرحمن بن الأشعث، فأتاني قُرّاء أهل الكوفة، فقالوا: يا أبا عمرو، إنك زعيم القرّاء، فلم يزالوا حتى خرجت معهم، فقمت بين الصفين أذكر الحجاج، وأعيبه بأشياء، فبلغني أنه قال: ألا تعجبون من هذا الخبيث أما لئن أمكنني الله منه لأجعلن الدنيا عليه ¬

(¬1) سير أعلام التابعين، ص70 - 72. انظر: المراجع السابقة.

أضيق من مَسْكِ جمل. قال: فما لبثنا أن هُزمنا، فجئت إلى بيتي، وأغلقت عليّ، فمكثت تسعة أشهر، فندب الناس لخراسان، فقام قتيبة بن مسلم، فقال: أنا لها، فعقد له على خراسان، فنادى مناديه: من لحق بعسكر قتيبة فهو آمن، فاشترى مولى لي حماراً، وزوّدني، ثم خرجت، فكنت في العسكر، فلم أزل معه حتى أتينا فَرْغانة؛ فجلس ذات يوم وقد برق؛ فنظرت إليه فقلت: أيها الأمير، عندي علم (ما تريد) فقال: ومن أنت؟ قلتُ: أعيذك ألا تسأل عن ذلك، فعرف أني ممن يخفي نفسه؛ فدعا بكتاب فقال: اكتب نسخة. قلت: لا تحتاج إلى ذلك، فجعلت أملي عليه وهو ينظر، حتى فرغ من كتاب الفتح. قال: فحملني على بغلة، وأرسل إلي بسرق من حرير، وكنت عنده في أحسن منزلة، فإني ليلة أتعشى معه، إذا أنا برسول الحجاج بكتاب فيه: إذا نظرت في كتابي هذا، فإن صاحب كتابك عامر الشعبي، فإن فاتك، قطعت يدك على رجلك وعزلتك. قال: فالتفت إليّ، وقال: ما عرفتك قبل الساعة، فاذهب حيث شئت من الأرض، فوالله لأحلفن له بكل يمين؛ فقلت: أيها الأمير، إن مثلي لا يخفى، فقال: أنت أعلم. قال: فبعثني إليه وقال: إذا وصلتم إلى خضراء واسط فقيّدوه، ثم أدخلوه على الحجاج. فلما دنوت من واسط، استقبلني ابن أبي مسلم، فقال: يا أبا عمرو، إني لأضنُّ بك عن القتل، إذا دخلت على الأمير فقل كذا، وقل كذا، فلما أُدخلت عليه ورآني قال: لا مرحباً، ولا أهلاً، جئتني ولست في الشرف من قومك، ولا عريفاً ففعلت وفعلت، ثم خرجت عليَّ؟ وأنا ساكت فقال: تكلّم. فقلت: أصلح الله الأمير، كلّ ما قلته حقّ، ولكنّا قد اكتحلنا بعدك السهر، وتحلَّسنا الخوف، ولم نكن مع ذلك بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء، فهذا أوان حقنت لي

6 - ابن سيرين يذب عن الحجاج ويدفع غيبته:

دمي، واستقبلت بي التوبة. قال: قد فعلت ذلك (¬1). 6 - ابن سيرين يذب عن الحجاج ويدفع غيبته: سمع ابن سيرين رجلاً يسبّ الحجاج، فأقبل عليه فقال له: مهْ أيها الرجل، فإنك لو قد وافيت الآخرة، كان أصغر ذنب عملته قط أعظم عليك من أعظم ذنب عمله الحجاج، واعلم أن الله تعالى حَكَمٌ عَدْلٌ، إن أخذ من الحجاج لمن ظلمه، فسوف يأخذ للحجاج ممن ظلمه، فلا تشغلن نفسك بسب أحد (¬2). 7 - مواقفه مع محمد ابن الحنفية: عن الحسن بن علي بن محمد ابن الحنفية عن أبيه قال: لما صار محمد بن علي إلى الشعب سنة اثنتين وسبعين، وابن الزبير لم يقتل، والحجاج محاصره، أرسل إليه أن يبايع لعبد الملك، فقال ابن الحنفية: قد عرفت مقامي بمكة، وشخوصي إلى الطائف وإلى الشام، كل هذا إباءً مني أن أبايع ابن الزبير أو عبد الملك، حتى يجتمع الناس على أحدهما، وأنا رجل ليس عندي خلاف، لما رأيت الناس اختلفوا اعتزلتهم حتى يجتمعوا، فأويت إلى أعظم بلاد الله حرمة، يأمن فيه الطير، فأساء ابن الزبير جواري، فتحولت إلى الشام، فكره عبد الملك قربي، فتحوّلت إلى الحرم، فإن يقتل ابن الزبير، ويجتمع الناس على عبد الملك أبايعك، فأبى الحجاج أن يرضى بذلك منه حتى يبايع لعبد الملك، فأبى ذلك ابن الحنفية، ¬

(¬1) سير أعلام التابعين، ص101، 103، وانظر: سير أعلام النبلاء، 4/ 294 - 319، برقم 113، والطبقات الكبرى، 6/ 259 - 267، برقم 2316، وتهذيب الكمال، 14/ 18 - 40، برقم 3042. (¬2) سير أعلام التابعين، ص 114، وانظر: سير أعلام النبلاء، 4/ 606 - 622، برقم 246، وحلية الأولياء، 2/ 298 - 320، برقم 193.

وأبى الحجاج أن يقرّه على ذلك، فلم يزل محمد يدافعه حتى قتل ابن الزبير. فلما اجتمع الناس على عبد الملك، وبايع ابن عمر، قال ابن عمر لابن الحنفية: ما بقي شيء فبايع، فكتب ابن الحنفية إلى عبد الملك: بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين من محمد بن علي أما بعد، فإني لما رأيت الأمة قد اختلفت اعتزلتهم، فلما أفضى هذا الأمر إليك، وبايعك الناس كنت كرجل منهم، أدخل في صالح ما دخلوا فيه، فقد بايعتك، وبايعت الحجاج لك، وبعثت إليك ببيعتي، ورأيت الناس قد اجتمعوا عليك، ونحن نحب أن تؤمّننا، وتعطينا ميثاقاً على الوفاء، فإن الغدر لا خير فيه، فإن أبيت فإن أرض الله واسعة. فلما قرأ عبد الملك الكتاب قال قبيصة بن ذؤيب وروح بن زنباع: ما لك عليه سبيل، ولو أراد فتقاً لقدر عليه، ولقد سلّم وبايع، فنرى أن تكتب إليه بالعهد والميثاق بالأمان له، والعهد لأصحابه. ففعل فكتب إليه عبد الملك: إنك عندنا محمود، أنت أحب وأقرب بنا رحماً من ابن الزبير، فلك العهد والميثاق وذمة رسوله أن لا تهاج، ولا أحد من أصحابك بشيء تكرهه، ارجع إلى بلدك، واذهب حيث شئت، ولست أدع صلتك وعونك ما حييت، وكتب إلى الحجاج يأمره بحسن جواره وإكرامه، فرجع ابن الحنفية إلى المدينة. وعن زيد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قال: وفدت مع أبان بن عثمان على عبد الملك بن مروان وعنده ابن الحنفية، فدعا عبد الملك بسيف النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتي به، ودعا بصيقل فنظر إليه فقال: ما

8 - شقيق بن سلمة يدعو على الحجاج ثم يعتذر، ويدفع غيبته:

رأيت حديدة قط أجود منها. قال عبد الملك: ولا والله ما أرى الناس مثل صاحبها، يا محمد هبْ لي هذا السيف، فقال محمد: أينا رأيت أحقّ به فليأخذه. قال عبد الملك: إن كان لك قرابة، فلكلٍّ قرابة وحق، قال: فأعطاه محمدٌ عبدَ الملك، وقال: يا أمير المؤمنين إن هذا – يعني الحجاج وهو عنده – قد آذاني، واستخفّ بحقي، ولو كانت خمسة دراهم أرسل إليّ فيها، فقال عبد الملك: لا إمرة لك عليه. فلما ولّى محمد، قال عبد الملك للحجاج: أدركه فسُلّ سخيمته. فأدركه فقال: إن أمير المؤمنين أرسلني إليك لأسلّ سخيمتك، ولا مرحباً بشيء ساءك. فقال محمد. ويحك يا حجاج، اتقّ الله، واحذر الله، ما من صباح يصبحه العباد إلا لله في كل عبد من عباده ثلاثمائة وستون لحظة، إن أخذ أخذ بمقدرة، وإن عفا عفا بحلم، فاحذر الله. فقال له الحجاج: لا تسألني شيئاً إلا أعطيتكه، فقال له محمد: وتفعل؟ قال له الحجاج: نعم. قال: فإني أسألك صَرم الدهر. قال فذكر الحجاج ذلك لعبد الملك، فأرسل عبد الملك إلى رأس الجالوت، فذكر له الذي قال محمد، وقال: إن رجلاً منا ذكر حديثاً ما سمعناه إلا منه. وأخبره بقول محمد، فقال رأس الجالوت: ما خرجت هذه الكلمة إلا من بيت نبوة. وعن إبراهيم أن الحجاج أراد أن يضع رجله على المقام، فزجره ابن الحنفية ونهاه (¬1). 8 - شقيق بن سلمة يدعو على الحجاج ثم يعتذر، ويدفع غيبته: عن عاصم قال: ما رأيت أبا وائل ملتفتاً في صلاة، ولا في غيرها، ولا ¬

(¬1) سير أعلام التابعين، ص224، 227، وانظر: سير أعلام النبلاء، 4/ 110 - 128، برقم 36، والطبقات الكبرى، 5/ 67 - 87، برقم 680، وتهذيب الكمال، 26/ 147 - 152، برقم 5484، وحلية الأولياء، 3/ 204 - 210، برقم 234.

سمعته يسب دابة قط، إلا أنه ذكر الحجاج يوماً فقال: اللهم أطعم الحجاج من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع. ثم تداركها، فقال: إن كان ذاك أحبَّ إليك، فقلت: وتستثني في الحجاج؟ فقال: نعدها ذنباً. وعن الزبرقان قال: كنت عند أبي وائل، فجعلت أسبّ الحجاج وأذكر مساوئه، فقال: لا تسبه، وما يدريك لعله قال: اللهم اغفر لي، فغفر له. وعن ابن عون قال: ذهب بي رجل إلى أبي وائل فقال: يا أبا وائل أي شيء تشهد على الحجاج؟ قال: أتأمرني أن أحكم على الله؟ وعن عاصم عن أبي وائل قال: أرسل إليّ الحجاج فأتيته فقال: ما اسمك؟ قلت: ما أرسل إليَّ الأمير إلا وقد عرف اسمي. قال: متى هبطت هذا البلد؟ قلت: ليالي هبطه أهله. قال: كأين تقرأ من القرآن؟ قال: قلت: أقرأ منه ما إن اتبعته كفاني، قال: إنا نريد أن نستعملك على بعض عملنا. قال: قلت: على أي عمل الأمير؟ قال: السلسلة. قال: قلت: إن السلسلة لا يُصلحها إلا رجال يقومون عليها، ويعملون عليها، فإن تستعن بي تستعن بشيخ أخرق ضعيف يخاف أعوان السوء، وإن يعفني الأمير فهو أحبَ إلي، وإن يقحمني الأمير أقتحم، وايم الله، إني لأتعارَ من الليل فأذكر الأمير فما يأتيني النوم حتى أصبح، ولست للأمير على عمل، فكيف إذا كنت للأمير على عمل؟ وايم الله، ما أعلم الناس هابوا أميراً قط هيبتهم إياك أيها الأمير. قال: فأعجبه ما قلت. قال: أعد عليّ، فأعدت عليه فقال: أما قولك: إن يعفني الأمير فهو أحبّ إليَّ، وإن يُقحمني أقتحم، فإنا إن لا نجد غيرك نقحمك، وإن نجد غيرك لا نقحمك، وأما قولك: إن الناس لم يهابوا أميراً قط هيبتهم إياي، فإني والله ما أعلم اليوم رجلاً على ظهر الأرض هو أجرؤ على دم مني، ولقد ركبت أموراً كان هابها الناس، فأخرج لي بها. انطلق يرحمك الله. قال شقيق:

9 - مواقفه مع سالم بن عبد الله بن عمر:

فخرجت من عنده وعدلت من الطريق عمداً كأني لا أنظر. قال الحجاج: أرشدوا الشيخ، أرشدوا الشيخ. حتى جاء إنسان فأخذ بيدي، فأخرجني، فلم أعد إليه بعد (¬1). 9 - مواقفه مع سالم بن عبد الله بن عمر: عن عطاء بن السائب، قال: دفع الحجاج إلى سالم بن عبد الله سيفاً، وأمره بقتل رجل، فقال سالم للرجل: أمسلم أنت؟ قال: نعم، امض لما أمرت به. قال: فصليت اليوم صلاة الصبح؟ قال: نعم، قال: فرجع إلى الحجاج، فرمى إليه السيف، وقال: إنه ذكر أنه مسلم، وأنه قد صلَّى صلاة الصبح، فهو في ذمّة الله، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من صلّى صلاة الصبح فهو في ذمّة الله)) (¬2). قال الحجاج: لسنا نقتله على صلاة الصبح، ولكنه ممن أعان على قتل عثمان، فقال سالم: هاهنا من هو أولى بعثمان مني، فبلغ ذلك عبد الله بن عمر فقال: ما صنع سالم؟ قالوا: صنع كذا وكذا، فقال ابن عمر: مكيس (¬3) مكيس (¬4)] (¬5). ¬

(¬1) سير أعلام التابعين، ص317، 320، وانظر: سير أعلام النبلاء، 4/ 161 - 166، برقم 59، والطبقات الكبرى، 6/ 154 - 159، برقم 1984، وتهذيب الكمال، 12/ 548 - 554، برقم 2767، وحلية الأولياء، 4/ 106 - 120، برقم 253. (¬2) أخرجه الطبراني في معجمه الكبير، 8/ 381، برقم 8188، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم 6345. (¬3) الكَيْسُ: بوزن الكيل ضد الحمق، والرجل كَيِّسٌ مُكَيَّسٌ: أي ظريف. [مختار الصحاح، 586). (¬4) سير أعلام التابعين، ص 381. وانظر: سير أعلام النبلاء، 4/ 457 - 466، برقم 176، وتهذيب الكمال،10/ 145 - 154،برقم 2149،وحلية الأولياء،2/ 221 - 226، برقم 177. (¬5) هذه المواقف كلها أضفتها للفائدة [المحقق].

الخاتمة

الخاتمة نحمد الله أولاً وآخراً، حيث أنعم علينا بنعم [لا تُعدّ ولا تُحصى]، منها إكمال هذا البحث، ويحتوي البحث على سيرة ملخصة من سير الحجاج، فقد ذكرت: أسرته، وحروبه، ومعاملاته، وأدبه إلى غير ذلك من كلام العلماء والمؤرخين فيه، وذكر وفاته، وأثرها على الخليقة. ومن أهم نتائج البحث: تمييز الصادق من الكاذب، [والمظلوم من الظالم]، وذلك من أخباره، والتعرف على علاقة الحاكم بالمحكوم، والتعرف على بعض العقليات السياسية للحاكم. ومن أهم التوصيات والاقتراحات: أن يكتب البحاثون في سيرته، [والتحذير من الاقتداء به في الظلم والعدوان، وسفك الدماء بدون حق]، وأوصيهم أن يتجنبوا الكذب من أخبار الرواة عنه، والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

§1/1